كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

« ليبلغ الشاهد منكم الغائب » ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل.
وقال ابن جبير { عليكم أنفسكم } فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر { ولا يضركم من ضلّ } من أهل الكتاب { إذا اهتديتم } ، وقال ابن زيد المعنى { يا أيها الذين آمنوا } من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب { عليكم أنفسكم } في الاستقامة على الدين { لا يضركم } ضلال الأسلاف { إذا اهتديتم } ، قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار : سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك ، وقيل : نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي السرح وغيره ، وقال المهدوي قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عطية لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، وقال الزمخشري كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتوّ من الكفرة ويتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي في طرق الهدى ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال تعالى لنبيه : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ مع تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد.
وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وروى أبو صالح عن ابن عباس أن منافقي مكة قالوا : عجباً لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية فهلا أكلاههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت ، وقال مقاتل ما يقارب هذا القول ، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف ثم قيل { ما على الرسول إلا البلاغ } إلى قوله : { وإذا قيل لهم تعالوا } الآية.
كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدّم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرّين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ، و { عليكم } : من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً و { عليكم } : اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم ، وإذا كان المغرى به مخاطباً جاز أن يؤتى بالضمير منفصلاً فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسك كما في هذه الآية ، وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ { عليكم أنفسكم } بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين : أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء ، والوجه الثاني أن يكون توكيداً للضمير المستكن في { عليكم } ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلاً ويكون مفعول { عليكم } محذوفاً لدلالة المعنى عليه والتقدير { عليكم أنفسكم } هدايتكم { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، وقرأ الجمهور { لا يضركم } بضم الضاد والراء وتشديدها ، قال الزمخشري : وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وينصره قراءة أبي حيوة { لا يضركم } وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل { لا يضركم } ويجوز أن يكون نهياً انتهى.

وقرأ الحسن بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور ، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير وهي لغات.
{ إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون } أي مرجع المهتدين والضالين وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تقومان وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.
{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما ، وفي رواية فحلفهما بعد العصر النبي صلى الله عليه وسلم « ما كتمتما ولا اطلعتما » ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا قال : فأخذ الجام وفيهم نزلت الآية ، قيل والسهمي هو مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم وأن جام الفضة كان يريد به الملك وهو أعظم تجاراته وأن عدياً وتميماً باعاه بألف درهم واقتسماها ، وقيل اسمه بديل بن أبي مارية مولى العاصي بن وائل السهمي وأنه خرج مسافراً في البحر إلى أرض النجاشي.
وأن إناء الفضة كان وزنه ثلثمائة مثقال وكان مموّهاً بالذهب قال فقدموا الشام ، فمرض بديل وكان مسلماً الحديث.
وذكر أبو عبد الله بن الفضل أن ورثة بديل قالوا لهما ألستما زعمتما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه ، فما بال هذا الإناء معكما وهو مما خرج صاحبنا به وقد حلفتما عليه قالا إنا كنا ابتعناه منه ، ولم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقر لكم فتأخذوه منا وتسألوا عليه البينة ولا نقدر عليها فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت انتهى.

وفي رواية قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت لهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ما أمروا به فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه فحلف فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : { بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يد عدي بن زيد وزاد الواقدي في حديثه أن تميماً وعدي كانا أخوين ويعني والله أعلم أنهما أخوان لأم وأن بديلاً كتب وصيته بيده ودسها في متاعه ، وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤدّيا رحله وأن الرسول استحلفهما بعد العصر وأنه حلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، وذكر الزمخشري هذا السبب مختصراً مجرداً فذكر فيه أن بديل بن أبي مريم كان من المهاجرين وأنه كتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدوا فرفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، وقال ابن عطية ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه وقد عده بعض المتأخرين في الصحابة ، وقال مكي بن أبي طالب : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً ، قال ابن عطية وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها وذلك بين من كتابه انتهى.
وقال أبو الحسن السخاوي ما رأيت أحداً من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر { يا أيها الذين آمنوا } كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه ، وقال أبو نصر القشيري لما نزلت السورة بالوفاء بالعقود وترك الخيانات انجر الكلام إلى هذا ، وقرأ الجمهور { شهادة بينكم } بالرفع وإضافة { شهادة } إلى { بينكم } ، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج { شهادة بينكم } برفع شهادة وتنوينه ، وقرأ السلمي والحسن أيضاً { شهادة } بالنصب والتنوين وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و { بينكم } في هاتين القراءتين منصوب على الظرف فشهادة على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه كقوله

{ هذا فراق بيني وبينك } وخبره { اثنان } تقديره شهادة اثنين أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم إثنان واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأ الخبر وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج ، وأجاز الزمخشري أن يرتفع { اثنان } على الفاعلية بشهادة ويكون { شهادة } مبتدأ وخبره محذوف وقدره فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان ، وقيل { شهادة } مبتدأ خبره { إذا حضر أحدكم الموت } ، وقيل خبره { حين الوصية } ، ويرتفع { اثنان } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم ، أو على الفاعلية ، التقدير يشهد اثنان ، وقيل { شهادة } مبتدأ و { اثنان } مرتفع به على الفاعلية وأغنى الفاعل عن الخبر.
وعلى الإعراب الأول يكون { إذاً } معمولاً للشهادة وأما { حين } فذكروا أنه يكون معمولاً لحضر أو ظرفاً للموت أو بدلاً من إذا ولم يذكر الزمخشري غير البدل ، قال و { حين الوصية } بدل منه يعني من { إذا } وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها ، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل انتهى.
وقال الماتريدي واتبعه أبو عبد الله الرازي : التقدير ما بينكم فحذف ما ، قال أبو عبد الله الرازي : يعني شهادة ما بينكم ، { بينكم } كناية عن التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله ما بينكم جائز لظهوره ونظيره { هذا فراق بيني وبينكم } أي ما بيني وبينك وقوله { لقد تقطع بينكم } في قراءة من نصب انتهى ، وحذف ما الموصولة لا يجوز عند البصريين ومع الإضافة لا يصح تقدير ما البتة وليس قوله { هذا فراق بيني وبينك } نظيره { لقد تقطع بينكم } لأن ذلك مضاف إليه وهذا باق على طريقته فيمكن أن يتخيل فيه تقدير ما لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية وصيرته مفعولاً به على السعة وأما تخريج قراءة السلمي والحسن { شهادة } بالنصب والتنوين ونصب { بينكم } فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل { شهادة } مفعولاً بإضمار هذا الأمر و { اثنان } مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه ، قال ابن جني التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان انتهى ، وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال } على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذا خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كأن يقال لك ما قام أحد عندك فتقول بلى زيد أي قام زيد أو أجيب به استفهام كقول الشاعر :
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل . . .
بل خالد إن لم تعقه العوائق
التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين : أحدهما أن يكون { شهادة } منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر و { اثنان } مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك : ضرباً زيداً إلا أن الفاعل في ضرباً مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد ، والوجه الثاني أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبراً ناب مناب الفعل في الخبر ، وإن كان ذلك قليلاً كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرىء القيس :

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم . . .
فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكام أو الحضور أو اليمين ثلاثة أقوال آخرها للطبري والقفال كقوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات } وقيل تأتي الشهادة بمعنى الإقرار نحو قوله : { والملائكة يشهدون } وبمعنى العلم نحو قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } وبمعنى الوصية وخرجت هذه الآية عليه فيكون فيها أربعة أقوال.
{ ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } { ذوا عدل } صفة لقوله { اثنان } و { منكم } صفة أخرى و { من غيركم } صفة لآخران ، قال الزمخشري { منكم } من أقاربكم و { من غيركم } من الأجانب { إن أنتم ضربتم في الأرض } يعني أن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح ، وقيل { منكم } من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر ، وعن مكحول نسخها قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } انتهى.
وما اختاره الزمخشري وبدأ به أولاً هو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى ابن عطية قال لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن زياد كانا نصرانيين وساقا الحديث المذكور أولاً فهذا القول مخالف لسبب النزول وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشري هو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وابراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي ، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد واختاره أحمد قالوا : معنى قوله : { منكم } من المؤمنين ومعنى { من غيركم } من الكفار ، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا يؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما أن الآية محكمة ، قال أحمد : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال : قوله : { يا أيها الذين آمنوا } خطاب لجميع المؤمنين فلما قال : { أو آخران من غيركم } كان من غير المؤمنين لا محالة وبأنه لو كان الآخران مسلمين لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر وبأنه دلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب تحليفه فعلمنا أنهما ليسا من المسلمين وبسبب النزول وهو شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلماً وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل وليس فيها منسوخ ، وقال أبو جعفر النحاس ناصراً للقول الأول : هذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله { أو آخران من غيركم } أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً انتهى ، وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول.

وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف واندرج آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس وصف الأول تقول : جاءني رجل مسلم وآخر كافر ومررت برجل قائم وآخر قاعدٍ واشتريت فرساً سابقاً وآخر مبطئاً فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر ومررت برجل قائم وقاعد آخر واشتريت فرساً سابقاً ومبطئاً آخر لم يجز وليست الآية من هذا القبيل إلا أن التركيب فيها جاء { اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } فآخران من جنس قوله { اثنان } ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك رجلان اثنان ولا يعتبر وصف قوله { ذوا عدل منكم } وإن كان مغايراً لقوله { من غيركم } كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بعيد وصفه وهو على ما ذكرته هو لسان العرب قال الشاعر :

كانوا فريقين يصغون الزجاج على . . .
قعس الكواهل في أشداقها ضخم
وآخرين على الماذيّ فوقهم . . .
من نسج داود أو ما أورثت إرم
التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساً يصغون الزجاج ثم قال وآخرين ترى المأذى ، فآخرين من جنس قولك فريقاً ، ولم يعبره بوصفه وهو قوله يصغون الزجاج لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصفين متحدي الجنس ، وهذا الفرق قل من يفهمه فضلاً عمن يعرفه ، وأما القول الثالث الذي حكاه الزمخشري وهو أنه منسوخ ، وحكاه عن مكحول ، فهو قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لا على المسلمين ، والناسخ قوله : { ممن ترضون من الشهداء } وقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وزعموا أن آية الدين من آخر ما نزل ، والظاهر أن أو للتخيير وقال به ابن عباس فمن جعل قوله { من غيركم } أي من الكفار فاختلفوا.
فقيل { غيركم } يعني به أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل أهل الكتاب والمشركين وهو ظاهر قوله { من غيركم } ، وقيل { أو } للترتيب إذا كان قوله { من غيركم } يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.
{ إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ { إذا حضر أحدكم الموت } لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت وإنما جاء الالتفات جمعاً لأن قوله { أحدكم } معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت ، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعايشكم ، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.
{ تحبسونهما من بعد الصلاة } الخطاب للمؤمنين لا لما دلّ عليه الخطاب في قوله { إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم } لأن ضرب في الأرض وأصابه الموت ليس هو الحابس ، { تحبسونهما } صفة لآخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله { إن أنتم . . .
إلى الموت } وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة ، حسب اختلاف العلماء في ذلك ، إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه استغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله و { آخران من غيركم } انتهى.
وإلى أن { تحبسونهما } صفة ذهب الحوفي وأبو البقاء وهو ظاهر كلام ابن عطية إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدّمناه.
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : ما موضع { تحبسونهما }.
( قلت ) : هو استئناف كلام كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فقيل : { تحبسونهما } ، وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته.
وإنما قال الزمخشري بعد اشتراط العدالة فيهما لأنه اختار أن يكون قوله { أو آخران من غيركم } معناه أو عدلان آخران من غير القرابة وتقدم من كلام أبي على أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه إلى آخر كلامه ، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو { إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } فاستشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم ، والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنين ذوي عدل من المؤمنين أو آخرين من غير المؤمنين فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت أن يشهد اثنين ، ويكون تقدير الجواب : إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فاستشهدوا اثنين إما منكم وإما من غيركم ، ولا يكون الشرط إذ ذاك قيداً في آخرين من غيرنا فقط ، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض وشارف الموت فيشهد اثنان منا أو من غيرنا.

وقال ابن عباس في الكلام محذوف تقديره فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء ، وقال ابن جبير تقديره وقد أوصيتم.
قيل وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف والموصي يحلف.
ومعنى { تحبسونهما } تستوثقونهما لليمين والخطاب لمن يلي ذلك من ولاة الإسلام ، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين وظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء كانا وصيين أو شاهدين ، وظاهر قوله من بعد الصلاة أن الألف واللام للجنس أو من بعد أي صلاة ، وقد قيل بهذا الظاهر وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما وذلك تغليظ في اليمين ، وقال الحسن بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما ، وقال الجمهور هي صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف عدياً وتميماً بعد العصر عند المنبر ورجح هذا القول بفعله صلى الله عليه وسلم وبقوله في الصحيح : « من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان ».
وبأن التحليف كان معروفاً بعدهما فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه فتكون الألف واللام في هذا القول للعهد وكذا في قول الحسن.
{ فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذاً لمن الآثمين } ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف.
وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة وإن لم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم ، والفاء في قوله { فيقسمان } عاطفة هذه الجملة على قوله { تحبسونهما } هذا هو الظاهر.
وقال أبو علي وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة . . .
فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم إذا حسر بدا فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى.
ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف وإبقاء جوابه فتكون الفاء إذ ذاك فاء الجزاء وإلى تقدير مضمر بعد الفاء أي فهما يقسمان وفهو يبدو ، وخرّج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر وهو أن قوله : يحسر الماء تارة.
جملة في موضع الخبر وقد عريت عن الرابط فكان القياس أن لا تقع خبراً للمبتدأ لكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ فحصل الربط بذلك و { لا نشتري } هو جواب قوله فيقسمان بالله وفصل بين القسم وجوابه بالشرط.
والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما ، وقيل إن أريد بهما الشاهدان ، فقد نسخ تحليف الشاهدين وإن أريد الوصيّان فليس بمنسوخ تحليفهما وعن عليّ أنه كان يحلّف الشاهد والراوي إذا اتهمها ، والضمير في { به } عائد على الله أو على القسم أو على تحريف الشهادة ، أقوال ثالثها لأبي علي ، وقوله : { نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } كناية عن الاستبدال عرضاً من الدنيا وهو على حذف مضاف أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى ولا يصح أن يكون { لا نشتري } لا نبيع هنا وإن كان ذلك في اللغة.
قال الزمخشري أن لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم لأجله قريباً منا وذلك على عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً فإنهم داخلون تحت قوله : { كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } وإنما قال فإنهم داخلون إلى آخره لأن الاثنين والآخرين عنده مؤمنون فاندرجوا في قوله : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين } الآية.
قال ابن عطية وخص ذا القربى بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى أقربائهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل والجملة من قوله : { ولا نكتم شهادة الله } معطوفة على قوله : { لا نشتري به ثمناً } فيكون من جملة المقسم عليه وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ويحتمل أن يكون { ولا نكتم } خبراً منهما أخبرا عن أنفسهما أنهما لا يكتمان شهادة الله ولا يكون داخلاً تحت المقسم عليه.
وقرأ الحسن والشعبي { ولا نكتم } بجزم الميم نهيا أنفسهما عن كتمان الشهادة ودخول لا الناهية على المتكلم قليل نحو قوله :
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد . . .
بها أبداً ما دام فيها الجراضم
وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه { شهادة الله } بنصبهما وتنوين { شهادة } وانتصبا بنَكتم التقدير ولا نكتم الله شهادة ، قال الزهراوي ويحتمل أن يكون المعنى ولا نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب الفعل إيجازاً.
وروي عن عليّ والسلميّ والحسن البصري شهادة بالتنوين آلله بالمدّ في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم دخلت تقريراً وتوقيفاً لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه ، وروي عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على شهادة بالهاء الساكنة الله بقطع ألف الوصل دون مد الإستفهام.

قال ابن جني الوقف على شهادة بسكون الهاء واستئناف القسم حسن لأن استئنافه في أول الكلام أوقر له وأشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول.
وروي عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش { شهادة } بالتنوين { الله } بقطع الألف دون مد وخفض هاء الجلالة ورويت هذه عن الشعبي.
وقرأ الأعمش وابن محيصن لملاثمين بإدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام.
{ فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثماً أي ذنباً بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع و { عثر } استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد إن لم يرج ولم يقصد كما تقول على الخبير سقطت ووقعت على كذا.
قال أبو علي : الإثم هنا هو الشيء المأخوذ لأن أخذه إثم قسمي إثماً كما يسمى ما أخذ بغير الحق مظلمة ، قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى.
والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما { إنا إذاً لمن الآثمين } ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ما قيل فيه استحقا إثماً لأنهما ظلما وتعدّيا وذلك هو الموجب للإثم.
{ فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } قرأ الحرميان والعربيان والكسائي { استحق } مبنياً للفاعل { والأوليان } مثنى مرفوع تثنية الأولى ورويت هذه القراءة عن أبيّ وعليّ وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه ، وقرأ حمزة وأبو بكر { استُحق } مبنياً للمفعول { والأوليان } جمع الأول ، وقرأ الحسن { استحق } مبنياً للفاعل الأولان مرفوع تثنية أول ، وقرأ ابن سيرين الأوليين تثنية الأولى فأما القراءة الأولى فقال الزمخشري { فآخران } فشاهدان آخران { يقومان مقامهما من الذين استحق } عليهم أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه وهم الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعترته ، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادتهما ، و { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما لأوليان كأنه قيل ومن هما فقيل { الأوليان } ، وقيل هما بدل من الضمير في { يقومان } أو من آخران ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى.
وقد سبقه أبو عليّ إلى أن تخريج رفع { الأوليان } على تقديرهما الأوليان ، وعلى البدل من ضمير { يقومان } وزاد أبو عليّ وجهين آخرين ، أحدهما أن يكون { الأوليان } مبتدأ ومؤخراً ، والخبر آخران يقومان مقامهما.
كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا.

والوجه الآخر أن يكون { الأوليان } مسنداً إليه { استحق }.
قال أبو عليّ فيه شيء آخر وهو أن يكون { الأوليان } صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى.
وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ما جوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله : { فآخران } مبتدأ والخبر { يقومان } ويكون قد وصف بقوله من { الذين } أو يكون قد وصف بقوله { يقومان } والخبر { من الذين } ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله : { فآخران } ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل ، أي فليشهد آخران وأما مفعول { استحق } فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم ، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم لأن الإثم محذوف ، لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله وقد سبقه أبو عليّ والحوفي إلى هذا التقدير وأجازوا وجهين آخرين أحدهما : أن كون التقدير استحق عليهم الإيصاء ، والثاني : أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية.
وأما ما ذكره الزمخشري من ارتفاع قوله { الأوليان } باستحق فقد أجازه أبو علي كما تقدم ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها.
وأما { الأوليان } بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند { استحق } إليهما إلا أن الزمخشري إنما رفع قوله الأوليان باستحق على تقدير حذف مضاف ناب عنه { الأوليان } ، فقدره استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال فيسوغ توجيهه ، وأجاز ذلك ابن جرير على أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم إثم الأولين ، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يرتفع { الأوليان } باستحق وطول في تقرير ذلك وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقاً حقيقة لقوله { استحقا إثماً } وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه فجعل تسورهم عليه استحقاقاً مجازاً والمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقها أن تحضر وليها ، قال فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازاً ، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل بعلى لما كان باقتدار وحمل هنا على الحال ، ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى.
والضمير في { مقامهما } عائد على شاهدي الزور { ومن الذين } هم ولاة الميت.
وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء هذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لم يجعل حرف بدلاً من حرف يعني أنه لم يجعل على بمعنى في ولا بمعنى من ، وقد قيل بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله :

{ إذا اكتالوا على الناس } أي من الناس استحق عليهم الإثم أي من الناس وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء واختار أبو عبد الله الرازي وابن أبي الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال ، قال أبو عبد الله وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي بهذا الوصف ، وذكروا فيه قولاً والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى.
{ والأوليان } بمعنى الأقربين إلى الميت أو الأوليان بالحلف؛ وذلك أن الوصيين ادعيا أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء وهما أنكرا ذلك فاليمين حق لهما.
كإنسان أقر لآخر بدين وادعى أنه قضاه فترد اليمين على الذي ادعى أولاً لأنه صار مدعى عليه وتلخص في إعراب { الأوليان } على هذه القراءة وجوه الابتداء والخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير { يقومان } والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلف في تقديره.
وأما القراءة الثانية وهي بناء { استحق } للفاعل ورفع الأوليين فقال الزمخشري معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى.
وقال ابن عطية ما ملخصه { الأوليان } رفع باستحق وذلك على أن يكون المعنى { من الذين استحق عليهم } مالهم وتركهم شاهدا الزور فسميا أوليين أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت ، وتركته فجازا فيها ، أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم فاستحق بمعنى حق كاستعجب وعجب ، أو يكون { استحق } بمعنى سعى واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى.
وقال بعضهم المفعول محذوف أي { من الذين استحق عليهم الأوليان } وصيتهما.
وأما القراءة الثالثة وهي قراءة { استحق } مبنياً للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصف للذين ، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى ، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى؛ وهذا على تفسير أن قوله : { أو آخران من غيركم } أنهم الأجانب لا أنهم الكفار ، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله : { اثنان ذوا عدل منكم } انتهى.
وأما القراءة الرابعة وهي قراءة الحسن فالأولان مرفوع باستحق.
قال الزمخشري ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي وهو أبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكر الورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء.

وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح.
{ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا } أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولاً وحرفا فيه وما زدنا على الحد.
وقال ابن عباس ليميننا أحق من يمينهما ومن قال الشهادة في أول القصة ليست بمعنى اليمين قال هنا الشهادة يمين وسميت شهادة لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة.
قال ابن الجوزي { أحق } أصح لكفرهما وإيماننا انتهى.
{ إنا إذاً لمن الظالمين } ختما بهذه الجملة تبرياً من الظلم واستقباحاً له وناسب الظلم هنا لقولهما { وما اعتدينا } والاعتداء والظلم متقاربان وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور { بقوله لمن الآثمين } لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع وكتمهما الشهادة يجران إليهما الإثم.
{ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم } أي ذلك الحكم السابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان : حالة يرتاب فيها إذا شهدا ، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية قوبلت هذه الحالة بقوله : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ولا تحريف ولا كذب ، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف ، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله : { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنى ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم ولا تقبل.
قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى.
وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس.
وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط.
قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولك تحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان } وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى.

فتلخص أن { أو } تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو ، و { يخافوا } معطوف في هذين الوجهين على { يأتوا } أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه ، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين.
إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو يأتوا لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية ، وجمع الضمير في يأتوا وما بعده وإن كان السابق مثنى فقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع ، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي.
{ واتقوا الله واسمعوا } أي احذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماع إجابة وقبول.
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله فالله لا يهديه إلا إذا تاب ، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة.
{ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } مناسبة هذه لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة ، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة ولمن لم يتق الله ولم يسمع ، وذكروا في نصب { يوم } وجوهاً : أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكروا.
والثاني : بإضمار احذروا.
والثالث : باتقوا.
والرابع : باسمعوا قاله الحوفي.
والخامس : بلا يهدي ، قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء قالا : لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة ، قال أبو البقاء أولاً يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة.
والسادس : أجاز الزمخشري أن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله { واتقوا الله } ، وهو بدل الاشتمال ، كأنه قيل واتقوا الله يوم جمعه وفيه بعد لطول الفصل بالجملتين.
والسابع أن ينتصب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره { يوم يجمع الله الرسل } كان كيت وكيت قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية وصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً والعامل اذكروا واحذروا مما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة ، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً انتهى.
والذي نختاره غير ما ذكروا وهو أن يكون { يوم } معمولاً لقوله { قالوا لا علم لنا } أي قال الرسل وقت جمعهم وقول الله لهم { ماذا أجبتم } وصار نظير ما قلناه في قوله

{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل } وسؤاله تعالى إياهم بقوله ماذا { أجبتم } سؤال توبيخ لأممهم لتقوم الحجة عليهم ويبتدأ حسابهم كما سئلت الموءودة توبيخاً لوائدها وتوقيفاً له على سوء فعله وانتصاب { ماذا أجبتم } ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قاله الزمخشري ، وقيام ما الاستفهامية مقام المصدر جائز وكذلك ماذا إذا جعلتها كلها استفهاماً وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدراً قول الشاعر :
ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما . . .
لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا
وقال ابن عطية معناه ماذا أجابت به الأمم ، ولم يجعل ما مصدراً بل جعلها كناية عن الجواب ، وهو الشيء المجاب به لا للمصدر ، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم.
وقال الحوفي ما للاستفهام وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها وأجبتم صلته والتقدير ماذا أجبتم به انتهى ، وحذف هذا الضمير المجرور بالحرف يضعف لو قلت جاءني الذي مررت تريد به كان ضعيفاً إلا إن اعتقد أنه حذف حرف الجر أولاً فانتصب الضمير ثم حذف منصوباً ولا يبعد.
وقال أبو البقاء { ماذا } في موضع نصب بأجبتم وحرف الجر محذوف أي بماذا أجبتم وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا لأنه لا عائد هنا وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى ، وما ذكره أبو البقاء أضعف لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر إنما سمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ونصوا على أنه لا يجوز زيداً مررت به تريد بزيد مررت ولا سرت البيت تريد إلى البيت إلا في ضرورة شعر نحو قول الشاعر :
تحنُّ فتبدي ما بها من صبابة . . .
وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
يريد لقضي عليّ فحذف عليّ وعدى الفعل إلى الضمير فنصبه ونفيهم العلم عنهم بقوله { لا علم لنا } ، قال ابن عباس معناه لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم به منا كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية ، وقال ابن جريج معنى { ماذا أجبتم } ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا فلذلك قالوا { لا علم لنا } ويؤيده { إنك أنت علام الغيوب } ، إلا أن لفظة { ماذا أجبتم } تنبو عن أن تشرح بقوله ماذا عملوا وذكر المفسرون عن الحسن ومجاهد والسدي وسهل التستري أقوالاً في تفسير قولهم { لا علم لنا } لا تناسب الرسل أضربت عن ذكرها صفحاً.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا ما أجيبوا.
( قلت ) : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه ، وإحاطته بما منوا به منهم ، وذلك أعظم على الكفرة وأفتّ في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع عليهم توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائهم عليهم ، ومثاله أن ينكت بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكتة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها ، وعزم على الانتصار له منه فيجمع بينهما ويقول له ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول : أنت أعلم بما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالاً عليه وإظهاراً لشكايته وتعظيماً لما به انتهى ، وليست الآية كهذا المثال الذي ذكره لأن في الآية { لا علم لنا } وهذا نفي لسائر أفراد العلم عنهم بالنسبة إلى الإجابة.

وفي المثال أنت أعلم بما فعل بي وهذا لا ينفي العلم عنه غير أنه أثبت لسلطانه أنه أعلم بالخارجي منه.
وقال ابن أبي الفضل في قول الزمخشري ليس بالقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى يريد الرسول توبيخهم ، وقيل معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به لأنك علام الغيوب ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم فكأنه لا علم لنا إلا جنب علمك حكاه الزمخشري بهذا اللفظ.
قال الزجاج معناه مختصراً.
وقال ابن عطية قول ابن عباس أصوب لأنه يترجح بالتسليم إلى الله تعالى ورد الأمر إليه إذ لا يعلمون إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه وما كان بعدهم من أممهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال فرأوا التسليم له والخشوع لعلمه المحيط انتهى.
وقيل لا علم لنا بما كان بعدنا وإنما الحكم للخاتمة.
قال الزمخشري وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين انتهى.
وقال ابن أبي الفضل الأصحّ ما اختاره ابن عباس أي تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن ما نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فبهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم انتهى ، فيكون مما نفيت فيه الحقيقة ظاهراً والمقصود نفي الكمال كأنه قال : لا علم لنا كامل ، تقول لا رجل في الدار أي كامل الرجولية في فوته ونفاذه.
وقال أبو عبد الله الرازي ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من الغير إنما هو الظن لا العلم ولذلك قال عليه السلام : « نحن نحكم بالظواهر والله متولي السرائر ».
وقال عليه السلام : « إنكم تختصمون إلى الحديث » والأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظنون أما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحْكام فيها مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا { لا علم } ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن ، لأن الظن لا عبرة به في القيامة انتهى كلامه.

وقال ابن عطية : لا علم لنا بسؤالك ولا جواب لنا عنه.
وقرأ ابن عباس وأبو حيوة { ماذا أجبتم } مبنيًّا للفاعل.
وقرأ علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى فيتم الكلام بالمقدر في قوله { إنك أنت } أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره.
وقال الزمخشري ثم نصب { علام الغيوب } على الاختصاص أو على النداء أو صفة لاسم إن انتهى.
وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذّ ، للكسائي.
وقرأ حمزة وأبو بكر { الغيوب } بكسر الغين حيث وقع كأنّ من قال ذلك من العرب قد استثقل توالي ضمتين مع الياء ففر إلى حركة مغايرة للضمة مناسبة لمجاورة الياء وهي للكسرة.
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } يحتمل أن يكون { إذ } بدلاً من قوله : { يوم يجمع الله الرسل } والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرة وجاوزوا حد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات { هذا سحر مبين } واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في { إذ } مضمراً تقديره اذكر يا محمد إذ ، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله : { أأنت قلت للناس } ويحتمل أن يكون { إذ } بدلاً من قوله : { يوم يجمع الله } انتهى.
وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله.
وإذا كان المنادى علماً مفرداً ظاهر الضمة موصوفاً بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعاً لفتحة ابن.
هذا مذهب الجمهور وأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل ابن مريم } صفة وجعلته بدلاً أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحو هنا ، فقال بعض المفسرين : يجوز أن يكون { عيسى } في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان نحو يا زيد بن عمرو وأنشد النحويون :
يا حكم بن المنذر بن الجارود . . .
أنت الجواد بن الجواد بن الجود
قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع { عيسى } نصب لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى.

والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى أنها حركة اتباع الحركة نون { ابن } ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين ، قالوا : ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الإقرار وأن يراد به الإعلام وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة وتأكيد حجته على جاحده ، وقيل أمر بالذكر تنبيهاً لغيره على معرفة حق النعمة ووجوب شكر المنعم ، قال الحسن ذكر النعمة شكرها والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عَدّده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمه عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمه براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن وما ذكر في سورة التحريم { ومريم ابنة عمران } إلى آخره وغير ذلك وأمر بذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه.
{ إذ أيدتك بروح القدس } قرأ الجمهور بتشديد الياء ، وقرأ مجاهد وابن محيصن { أيدتك } على أفعلتك ، وقال ابن عطية على وزن فاعلتك ، ثم قال ويظهر أن الأصل في القراءتين { أيدتك } على وزن أفعلتك ثم اختلف الإعلال والمعنى فيهما أيدتك من الأبد ، وقال عبد المطلب :
الحمد لله الأعز الأكرم . . .
أيدنا يوم زحوف الأشرم
انتهى والذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهور ليس وزنه أفعل لمجيء المضارع على يؤيد فالوزن فعل ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن وأما من قرأ آيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل.
وأما قول ابن عطية إنه في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد.
وتقدم تفسير نظير هذه الجملة في قوله { وأيدناه بروح القدس } { تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني }.
تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول جاء هناك { كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون }.
وقرأ ابن عباس فتنفخها فتكون.
وقرأ الجمهور { فتكون } بالتاء من فوق.
وقرأ عيسى بن عمر فيها فيكون بالياء من تحت والضمير في { فيها } قال ابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة ، قال ويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على { الطين }.
قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه ألبتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى.

وقال الزمخشري ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى.
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائداً على الطائر لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائراً صورة مثل صورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإذن الله.
ويكون قوله عائداً على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر ، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير ، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير ، { فتنفخ فيها } أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى ، وأما قول مكي ويصح عكس هذا ، وهو أن يكون الضمير المذكر عائداً على الهيئة والضمير المؤنث عائداً على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائداً على مؤنث لأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلاً كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائداً على مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة.
قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة ، أي صوراً أو أشكالاً أو أجساماً ، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه تخلق ثم قال ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل ، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيكون اسماً في غير الشعر ، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري ، إن الضمير في { فيها } للكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها وجاء في آل عمران { بإذن الله } مرتين وجاء هنا { بإذني } أربع مرّات عقيب أربع جمل لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها فناسب الإسهاب وهناك موضع إخبار لبني إسرائيل فناسب الإيجاز والتقدير في وإذ تخرج الموتى تحيي الموتى فعبر بالإخراج عن الإحياء كقوله تعالى { كذلك الخروج } بعد قوله { وأحيينا به بلدة ميتاً } أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء.
{ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات } أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه.
وقال عبيد بن عمير لما قال الله لعيسى { اذكر نعمتي عليك } كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يؤخر شيئاً لغدو يقول مع كل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت ، أين ما أمسى بات.
وهذا القول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم.

وقال الشاعر فيما يشبه هذا :
شهد العوالم أنها لنفيسة . . .
بدليل ما ولدت من النجباء
{ فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف هنا.
وفي هود والصف فهذا هنا إشارة إلى عيسى.
وقرأ باقي السبعة { سحر } فهذا إشارة إلى ما جا0ء به عيسى من البينات.
{ وإذا أوحيت إلى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي } أي أوحيت إليهم على ألسنة الرسل.
وقال ابن عطية إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر والرسول هنا هو عيسى وهذا الإيحاء إلى الحواريين هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعاً يصدقونه ويعملون بما جاء به ويحتمل أن تكون تفسيرية لأنه تقدّمها جملة في معنى القول وأن تكون مصدرية.
{ قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أن هناك { آمنا به } لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله : { من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } وهنا جاء { قالوا آمنا } فلم يتقيد بلفظ الجلالة إذ قد تقدم أن { آمنوا بي وبرسولي } وجاء هناك { واشهد بأنا } ، وهنا { واشهد بأننا }.
وهذا هو الأصل إذ أن محذوف منه النون لاجتماع الأمثال.
{ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قل اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } قال ابن عطية : { إذ قال الحواريون } اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة وتضمن الاعتراض إخبار محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى.
والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } إلى آخر قصة المائدة كان ذلك في الدّنيا ذكر عيسى بنعمه وبما أجراه على يديه من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون ثم استطرد إلى قصة المائدة ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى { أأنت قلت للناس } ، وإنما حمل بعضهم على أن ذلك في الآخرة كونه اعتقد أن { إذ } بدلاً من { يوم يجمع الله الرسل } وأن في آخر الآيات { هذا يوم ينفع الصادقين } ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه إن شاء الله تعالى في قوله : { هذا ينفع الناس } بل الظاهر ما ذكرناه.
وقرأ الجمهور { هل يستطيع ربك } بالياء وضم الباء.
وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزل مائدة من السماء ، وذلك هو الذي حمل الزمخشري على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين قال : ( فإن قلت ) : كيف قالوا { هل يستطيع ربك } بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ ( قلت ) : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ثم أتبعه قوله : { إذ قالوا } فآذن أن دعواهم كانت باطلة وأنهم كانوا شاكين وقوله : { هل يستطيع ربك } كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ولذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولا تقترحوا عليه ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها.

{ إن كنتم مؤمنين } إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة انتهى.
وأما غير الزمخشري من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وقال قوم : قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمة والأبرص ويحيي الموتى ، قال المفسرون والحواريون هم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك.
قال ابن الأنباري : لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع له ، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى.
وقال الفارسي : معناه هل يفعل ذلك بمسألتك إياه.
وقال الحسن لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزل أم لا فإن كان ينزل فاسأله لنا.
قال ابن عطية هل يفعل تعالى هذا وهل يقع منه إجابة إليه كما قال لعبد الله بن زيد : هل يستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فالمعنى هل يحب ذلك وهل يفعله انتهى.
وقيل المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز أم لا وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة فإن لم يحصل شيء من وجوه الحكمة كان الفعل ممتنعاً فإن المنافي من وجوه الحكمة كالمنافي من وجوه القدرة.
قال أبو عبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة ، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقص به ويعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور ، وقال أيضاً ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا ، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشك فيه ، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال : الرب هنا جبريل لأنه كان يربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية { إذ أيدتك بروح القدس } وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوماً لله تعالى ، ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا : يا معلم الخبر ، إن حق من عمل عملاً أن يطعم فهل يستطيع ربك.

فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم.
وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق { ربك } بنصب الباء وهي قراءة عليّ ومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير.
قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا { هل يستطيع ربك } نزهتهم عن بشاعة اللفظ وعن مرادهم ظاهره.
وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و { أَن ينزل } معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به.
وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى.
ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لا يكون مقدوراً لعيسى وأدغم الكسائي لام { هل } في ياء { يستطيع } وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله { إن كنتم مؤمنين } تقريراً للإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً.
وقال مقاتل وجماعة اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتم عذبتم.
وقال أبو عبيد وجماعة أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم.
وقيل إن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة.
وقيل اتقوا الله في الشك فيه وفي رسله وآياتهم.
وقيل اتقوا معاصي الله.
وقيل أمرهم بالتقوى ليكون سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وقال الزمخشري هنا عيسى في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك يا زيد بن عمرو والدليل عليه قوله : أجاز ابن عمر كأني خمر ، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى.
فقوله : عيسى في محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الأتباع فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله : ويجوز أن يكون مضموماً هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضم ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياساً على الصحيح ولم يبدأ أولاً بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط ، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنه في تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادي لأجل الاتباع مقدّر فيه الضمة لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة الله فقولك : يا حار هو مضموم تقديراً وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع ، وهي الفتحة فلا تنافي بين الترخيم وبين ما فتح اتباعاً وقدرت فيه الضمة ، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } حيت تكلم الناس عليها.

{ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } لما أمرهم عيسى بتقوى الله منكراً عليهم ما تقدم من كلامهم صرحوا بسبب طلب المائدة وأنهم يريدون الأكل منها ، وذلك للشرف لا للشبع واطمئنان قلوبهم بسكون الفكر ، إذا عاينوا هذا المعجز العظيم النازل من السماء وعلم الضرورة والمشاهدة بصدقه فلا تعترض الشبه اللاحقة في علم الاستدلال وكينونتهم من المشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرهم ، القائمين بهذا الشرع أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوّة ، وقد طول بعض المفسرين في تفسير متعلق إرادتهم بهذه الأشياء وملخصها أنهم أرادوا الأكل للحاجة وشدة الجوع.
قال ابن عباس وكان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر من صاحب له وذي علة يطلب البرء ومستهزىء فوقعوا يوماً في مفازة ولا زاد فجاعوا وسألوا من الحواريين أن يسألوا عيسى نزول مائدة من السماء فذكر شمعون لعيسى ذلك فقال : قل لهم اتقوا الله ، وأرادوا الأكل ليزدادوا إيماناً.
قال ابن الأنباري أو التشريف بالمائدة ذكره الماوردي والاطمئنان إما بأن الله قد بعثك إلينا أو اختارنا عواناً لك أو قد أجابك أو العلم بالصدق في أنا إذا صمنا الله تعالى ثلاثين يوماً.
لم نسأل الله شيئاً إلا أعطانا أو في أنك رسول حقاً إذ المعجز دليل الصدق وكانوا قبل ذلك لم يرو الآيات ، أو يراد بالعلم الضروري والمشاهدة انتهى.
وأنت هذه المعاطيف مرتبة ترتيباً لطيفاً وذلك أنهم لا يأكلون منها لا بعد معاينة نزولها فيجتمع على العلم بها حاسة الرؤية وحاسة الذوق فبذلك يزول عن القلب قلق الاضطراب ويسكن إلى ما عاينه الإنسان وذاقه ، وباطمئنان القلب يحصل العلم الضروري بصدق من كانت المعجزة على يديه إذ جاءت طبق ما سأل ، وسألوا هذا المعجز العظيم لأن تأثيره في العالم العلوي بدعاء من هو في العالم الأرضي أقوى وأغرب من تأثير من هو في العالم الأرضي في عالمه الأرضي ، ألا ترى أن من أعظم معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وانشقاق القمر وهما من العالم العلوي وإذا حصل عندهم العلم الضروري بصدق عيسى شهدوا شهادة يقين لا يحتلج بها ظن ولا شك ولا وهم وبذكرهم هذه الأسباب الحاملة على طلب المائدة يترجح قول من قال : كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإن وحي الله إليهم بالإيمان كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا.

وقرأ ابن جبير : { ونعلم } بضم النون مبنياً للمفعول وهكذا في كتاب التحرير والتحبير وفي كتاب ابن عطية.
وقرأ سعيد بن جبير ويعلم بالياء المضمومة والضمير عائد على القلوب ، وفي كتاب الزمخشري ويعلم بالياء على البناء للمفعول.
وقرأ الأعمش وتعلم بالتاء أي وتعلمه قلوبنا.
وقرأ الجمهور { ونكون } بالنون وفي كتاب التحرير والتحبير.
وقرأ سنان وعيسى وتكون عليها بالتاء وفي الزمخشري وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا انتهى ، وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء فإن كان ماضياً فصل بينهما بقد نحو قوله ونعلم أن قد صدقتنا وإن كان مضارعاً فصل بينهما بحرف تنفيس كقوله { علم أن سيكون منكم مرضي } ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلاً.
وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق به عليها التي تقدمت في نحو { إني لكما لمن الناصحين } وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال انتهى.
وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلاّ إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناً مقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهر التنافي بينهما.
{ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو وتقدّم الكلام على لفظة { اللهم } في آل عمران ونادى ربه أولاً بالعلم الذي لا شركة فيه ثم ثانياً بلفظ { ربنا } مطابقاً إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا.
وقرأ الجمهور { تكون لنا } على أن الجملة صفة لمائدة.
وقرأ عبد الله والأعمش { يكن } بالجزم على جواب الأمر والمعنى يكن يوم نزولها عيداً وهو يوم الأحد ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيداً.
وقيل العيد السرور والفرح ولذلك يقال يوم عيد فالمعنى يكون لنا سروراً وفرحاً والعيد المجتمع لليوم المشهود وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه.

وقيل العيد لغة ما عاد إليك من شيء في وقت معلوم سواء كان فرحاً أو ترحاً وغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية.
وقال الخليل العيد كل يوم يجمع الناس لأنهم عادوا إليه.
قال ابن عباس { لأولنا } لأهل زماننا { وآخرنا } من يجيء بعدنا.
وقيل { لأولنا } المتقدمين منا والرؤساء { وآخرنا } يعني الاتباع والأولية والآخرية فاحتملتا الأكل والزمان والرتبة والظاهر الزمان.
وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري لأولانا وأخرانا أنثوا على معنى الأمة والجماعة والمجرور بدل من قوله { لنا } وكرر العامل وهو حرف الجر كقوله { منها من غم } والبدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض أو بدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل إذ المعنى تكون لنا عيداً كلنا كقولك مررت بكم أكابركم وأصاغركم لأن معنى ذلك مررت بكم كلكم وإن لم تفد توكيداً فمسألة خلاف الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع ، ومعنى { وآية منك } علامة شاهدة على صدق عبدك.
وقيل حجة ودلالة على كمال قدرتك.
وقرأ اليماني { وأنه منك } والضمير في { وأنه } إما للعيد أو الإنزال.
{ وارزقنا } قيل المائدة ، وقيل الشكر لنعمتك { وأنت خير الرازقين } لأنك الغني الحميد تبتدىء بالرزق.
قال أبو عبد الله الرازي تأمل هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل وأخروا الأغراض الدينية الروحانية وعيسى طلب المائدة وذكر أغراضه فقدم الدينية وأخر أغراض الأكل حيث قال { وارزقنا } وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء وقته وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله { وارزقنا } لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال { وأنت خير الرازقين } فقوله { ربنا } ابتداء منه بنداء الحق سبحانه وتعالى وقوله { أنزل علينا مائدة } انتقال من الذات إلى الصفات وقوله { تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله { وآية منك } إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزل من حضرة الجلال فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون { وأنت خير الرازقين } وهو عروج مرة أخرى من الأخس إلى الأشرف وعند هذا يلوح همه من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله ، وهو كلام دائر بين لفظ فلسفي ولفظ صوفي وكلاهما بعيد عن كلام العرب ومناحيها.

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

{ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } الظاهر أن المائدة نزلت لأنه تعالى ذكر أنه منزلها وبإنزالها قال الجمهور.
قال ابن عطية شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب.
قال الحسن ومجاهد لما سمعوا الشرط أشفقوا فلم تنزل.
قال مجاهد فهو مثل ضربه الله للناس لئلا يسألوا هذا الآيات واختلف من قال إنها نزلت هل رفعت بإحداث أحدثوه أم لم ترفع.
وقال الأكثرون أكلوا منها أربعين يوما بكرة وعشية.
وقال إسحاق بن عبد الله يأكلون منها متى شاؤوا ، وقيل بطروا فكانت تنزل عليهم يوماً بعد يوم.
وقال المؤرخون كانت تنزل عند ارتفاع الضحى فيأكلون منها ثم ترتفع إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض واختلفوا في كيفية نزولها وفيما كان عليها وفي عدد من أكل منها وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافاً مضطرباً متعارضاً ذكره المفسرون ، ضربت عن ذكره صفحاً إذ ليس منه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنزلت المائدة من السماء خبراً ولحماً وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادّخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير ».
قال أبو عيسى هذا حديث رواه عاصم وغير واحد عن سعيد بن عروة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر مرفوعاً ولا نعلمه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قرعة حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن عروة نحوه ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قرعة ولا نعلم الحديث مرفوعاً أصلاً.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم { منزلها } مشدداً.
وقرأ باقي السبعة مخففاً والأعمش وطلحة بن مصرف إني سأنزلها بسين الاستقبال بعد أي بعد إنزالها والعذاب هنا بمعنى التعذيب فانتصابه انتصاب المصدر ، وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به على السعة وهو إعراب سائغ ولا يجوز أن يراد بالعذاب ما يعذب به إذ يلزم أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر فكان يكون التركيب فإني أعذبه بعذاب لا يقال حذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه فنصبه لأن حذف الحرف في مثل هذا مختص بالضرورة والظاهر أن الضمير في { لا أعذبه } يعود على العذاب بمعنى التعذيب والمعنى لا أعذب مثل التعذيب أحداً.
وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير لا أعذب به أحداً وأن يكون مفعولاً به على السعة وأن يكون ضمير المصدر المؤكد كقولك : ظننته زيداً منطلقاً فلا يعود على العذاب ، ورابط الجملة الواقعة صفة لعذاب هو العموم الذي في المصدر المؤكد كقولك هو جنس وعذاباً نكرة فانتظمه المصدر كما انتظم اسم الجنس زيداً في : زيد نعم الرجل ، وأجاز أيضاً أن يكون ضمير من على حذف أي لا أعذب مثل عذاب الكافر وهذه تقادير متكلفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها ، والعذاب قال ابن عباس مسخهم خنازير.

وقال غيره قردة وخنازير ووقع ذلك في الدنيا ، والكفر المشار إليه الموجب تعذبهم قيل ارتدادهم ، وقيل شكهم في عيسى وتشكيكهم الناس ، وقيل مخالفتهم الأمر بأن لا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا قاله قتادة ، وقال عمار بن ياسر لم يتم يومهم حتى خانوا فادّخروا ورفعوا وظاهر العالمين العموم وقيل عالمي زمانهم.
{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } قال أبو عبيدة { إذ } زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع ولا يؤول بيقول.
قال السدي وغيره كان هذا القول من الله تعالى حين رفع عيسى إليه وقالت النصارى ما قالت وادعت أن عيسى أمرهم بذلك واختاره الطبري.
وقال ابن عباس وقتادة والجمهور : هذا القول من الله تعالى إنما هو يوم القيامة يقول له على رؤوس الخلائق فيعلم الكفار أن ما كانوا عليه باطل ، فيقع التجوز في استعمال { إذ } بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم ، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عنه ، بيان ذلك أنك تقول : أضربت زيداً ، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا ، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيد قد وقع.
فإذا قلت أنت ضربت زيداً كان الضرب قد وقع بزيد ، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب ، وهذه مسألة بيانية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش.
وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بإلهية مريم ، فكيف قيل { إلهين } ، وأجابوا بأنهم لما قالوا لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً ، لزمهم أن يقولوا من حيث البغضية بإلهية من ولدته ، فصاروا بمثابة من قال : انتهى.
والظاهر صدور هذا القول في الوجود لا من عيسى ، ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.
{ قال سبحانك } أي تنزيهاً لك.
قال ابن عطية : عن أن يقال هذا وينطق به؛ وقال الزمخشري من أن يكون لك شريك ، والظاهر الأول لقوله بعد { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } قال أبو روق : لما سمع عيسى هذا المقال ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة عين من دم ، فقال عند ذلك مجيباً لله تعالى : { سبحانك } تنزيهاً وتعظيماً لك وبراءة لك من السوء.

{ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } هذا نفي يعضده دليل العقل فيمتنع عقلاً ادعاء بشر محدث الإلهية و { بحق } خبر ليس أي ليس مستحقاً وأجازوا في { لي } أن يكون تبييناً وأن يكون صلة صفة لقوله { بحق } لي تقدم فصار حالاً أي بحق لي ، ويظهر أنه يتعلق { بحق } لأن الباء زائدة ، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقاً ، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قد تم عند قوله { ما ليس لي } وجعل { بحق } متعلقاً بعلمته الذي هو جواب الشرط ، ورد ذلك بادعاء التقديم والتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك ، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك ، أو بتوقيف ، أو فيما لا يمكن فيه إلا ذلك؛ انتهى هذا القول ورده ، ويمتنع أن يتعلق بعلميته لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه ، ووقف نافع وغيره من القراء على قوله { بحق } وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{ إن كنت قلته فقد علمته } قال أبو عبد الله الرازي : هذا مقام خضوع وتواضع ، فقدم ناسخ نفي القول عنه ، ولم يقل ما قلته بل فوّض ذلك إلى علمه المحيط بالكلّ وهذه مبالغة في الأدب وفي إظهار الذلة والمسكنة في حضرة الجلال ، وتفويض الأمر بالكلية إلى الحق سبحانه ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } خصّ النفس لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات.
قيل : المعنى : تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي.
وقيل : تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك.
وقيل : تعلم ما كان في الدنيا ولا أعلم ما تقول وتفعل.
وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد.
وقيل : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك.
وقال الزمخشري : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وأتى بقوله : { ما في نفسك } على جهة المقابلة والتشاكل لقوله { ما في نفسي } فهو شبيه بقوله : { ومكروا ومكر الله } وقوله : { إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم } ومن زعم أن النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته ، كان المعنى عنده تعلم كنه ذاتي ولا أعلم كنه ذاتك ، وقد استدلت المجسمة بقوله { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } قالوا : النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسماً.
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
{ إنك أنت علام الغيوب } هذا تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلمه { علام الغيوب } لا ينتهي إليه أحد ، فإذا كنت أنت المختص بعلم الغيب فلا علم لي بالغيب فكيف تكون لي الألوهية وخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلقاه الله { سبحانك ما يكون لي ان أقول ما ليس لي بحق }

الآية كلها.
قال أبو عيسى : حديث حسن صحيح.
{ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } أخبر أنه لم يتعد أمر الله في أن أمر بعبادته وأقر بربوبيته.
وفي قوله : { ربي وربكم } راءة مما ادّعوه فيه ، وفي الإنجيل قال : يا معاشر بني المعمودية قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم.
وقال أبو عبد الله الرازي : كان الأصل أن يقال ما أمرتهم إلا ما أمرتني به ، إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب.
وقال الحسن : إنما عدل لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاً ودل على أن الأصل ما ذكر أن المفسرة؛ انتهى.
قال الحوفي وابن عطية : وإن في { أن اعبدوا } مفسرة ، لا موضع لها من الإعراب ويصح أن يكون بدلاً من من ما وصح أن يكون بدلاً من الضمير في به ، زاد ابن عطية أنه يصح أن يكون في محلّ خفض على تقدير ب { أن اعبدوا } ، وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء والرفع على إضمار هو والنصب على إضمار أعني أو بدلاً من موضع به.
قال : ولا يجوز أن تكون بمعنى أن المفسرة ، لأن القول قد صرّح به ، وأن لا تكون مع التصريح بالقول.
وقال الزمخشري أن في قوله { أن اعبدوا الله } إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ، والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر وكلاهما لا وجه له ، أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير لا تقول ما قلت لهم إلا { أن اعبدوا الله ربي وربكم } ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخلُ من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به أو من الهاء في به وكلاهما غير مستقيم ، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه ، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاء لأنك لو أقمت { أن اعبدوا الله } لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته.
( فإن قلت ) : فكيف تصنع؟ ( قلت ) : يحمل فعل القول على معناه لأن معنى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره ب { أن اعبدوا الله ربي وربكم } ويجوز أن تكون موصولة عطفاً على بيان الهاء لا بدلاً؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
أما قوله : وأما فعل الأمر إلى آخر المنع ، وقوله لأن الله تعالى لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم فإنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعل الأمر مفسراً بقوله { اعبدوا الله } ويكون { ربي وربكم } من كلام عيسى على إضمار أعني أي أعني ربي وربكم لا على الصفة التي فهمها الزمخشري ، فلم يستقم ذلك عنده.

وأما قوله : لأن العبادة لا تقال فصحيح لكن ذلك يصحّ على حذف مضاف ، أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله ، أي القول المتضمن عبادة الله.
وأما قوله لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته فلا يلزم في كل بدل أن يحلّ محل المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : زيد مررت به أبي عبد الله ، ولو قلت زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز ذلك عندهم إلا على رأي الأخفش.
وأما قوله عطفاً على بيان الهاء ، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام ، وما اختاره الزمخشري وجوّزه غيره من كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد إلا ، وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلا بدّ أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب ، وانظر إلى ما تضمنت محاورة عيسى وجوابه مع الله تعالى لما قرع سمعه ما لا يمكن أن يكون نزه الله تعالى وبرأه من السوء ، ومن أن يكون معه شريك ثم أخبر عن نفسه أنه لا يمكن أن يقول ما ليس له بحق ، فأتى بنفي لفظ عام ، وهو لفظ ما المندرج تحته كل قول ليس بحق حتى هذا القول المعين ، ثم تبرأ تبرؤاً ثالثاً وهو إحالة ذلك على علمه تعالى وتفويض ذلك إليه ، وعيسى يعلم أنه ما قاله ، ثم لما أحال على العلم أثبت علم الله به ونفى علمه بما هو لله وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يهجس ذلك في خاطري فضلاً عن أن أفوه به وأقوله ، فصار مجموع ذلك نفي هذا القول ، ونفي أن يهجس في النفس ، ثم علل ذلك بأنه تعالى مستأثر بعلم الغيب ، ثم لما نزه الله تعالى وانتفى عنه قول ذلك وأن يخطر ذلك في نفسه انتقل إلى ما قاله لهم فأتى به محصوراً بإلا معذوقاً بأنه هو الذي أمره الله به أن يبلغهم عنه.
{ وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم } أي رقيباً كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من قول ذلك وأن يتدينوا به ، وأتي بصيغة فعيل للمبالغة كثير الحفظ عليهم والملازمة لهم وما ظرفية ودام تامّة أي ما بقيت فيهم ، أي شهيداً في الدنيا.
{ فلما توفيتني } قيل : هذا يدل على أنه توفاه وفاة الموت قبل أن يرفعه ، وليس بشيء لأن الأخبار تظافرت برفعه حياً ، وأنه في السماء حيّ وأنه ينزل ويقتل الدجال ، ومعنى { توفيتني } قبضتني إليك بالرفع.

وقال الحسن : الوفاة وفاة الموت ووفاة النوم ووفاة الرفع.
وقال الزمخشري : { كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم من البينات وأرسلت إليهم الرسل؛ انتهى وفيه دسيسة الاعتزال.
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } قال الزمخشري : { فإنهم عبادك } والذين عذبتهم جاحدين لآياتك ، مكذبين لأنبيائك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.
( فإن قلت ) : المغفرة لا تكون للكفار ، فكيف قال : { وإن تغفر لهم } ؟ ( قلت ) : ما قال : إنك تغفر لهم ولكنه بنى الكلام على أن يقال : إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم ، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن.
وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلاً ، قالوا : لأن العقاب حق لله على الذنب وفي إسقاطه منفعة ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسناً ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام ، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة.
وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : { فإنك أنت العزيز الحكيم } أي : قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك.
وقيل لما قال لعيسى : { أأنت قلت للناس } الآية.
علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافراً بل ، مذنباً حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال : { وإن تغفر لهم }.
وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : { وإن تغفر لهم } ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول الله له { أأنت قلت للناس } كان وقت الرفع ، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه.
وقيل : الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافراً وفي { وإن تغفر لهم } عائد على من تاب منهم قبل الموت.
وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم ، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف ، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } قول قد صدر ، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى ، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه ، وإذا كان كذلك فقول عيسى { وإن تغفر لهم } فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة ، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة ، وظاهر قوله { فإنك أنت العزيز الحكيم } إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده ، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء ، وقرأت جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم على ما يقتضيه قوله { وإن تغفر لهم } قال عياض بن موسى : وليست من المصحف.

وقال أبو بكر بن الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال : إن قوله : { فإنك أنت العزيز الحكيم } لا يناسب قوله { وإن تغفر لهم } لأن المناسب فإنك أنت الغفور الرحيم.
والجواب : أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ومتى نقل إلى ما قال هذا الطاعن ضعف معناه ، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون معذوق بالشرطين كلاهما أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم في الأمرين كلاهما من التعذيب والغفران ، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه ، وأنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم؛ انتهى.
وأما قول من ذهب إلى أن في الكلام تقديماً وتأخير تقديره إن تعذبهم فإنك أنت العزيز وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، فليس بشيء وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم.
روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أصبح بهذه الآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }.
{ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } قرأ الجمهور هذا يوم بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وهي في موضع المفعول به ، لقال : أي هذا الوقت وقت نفع الصادقين وفيه إشارة إلى صدق عيسى عليه السلام.
وقرأ نافع { هذا يوم } بفتح الميم وخرّجه الكوفيون على أنه مبني خبر لهذا وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية ، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنياً في بناء الظرف المضاف إلى الجملة ، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى.
وقال البصريون : شرط هذا البناء إذا أضيف الظرف إلى الجملة الفعلية أن يكون مصدراً بفعل مبني ، لأنه لا يسري إليه البناء لا من المبني الذي أضيف إليه ، والمسألة مقررة في علم النحو فعلى قول البصريين : هو معرب لا مبني وخرج نصبه على وجهين ذكرهما الزمخشري وغيره أحدهما : أن يكون ظرفاً لقال وهذا إشارة إلى المصدر فيكون منصوباً على المصدرية ، أي : قال الله هذا القول أو إشارة إلى الخبر أو القصص ، كقولك : قال زيد شعراً أو قال زيد : خطبة فيكون إشارة إلى مضمون الجملة ، واختلف في نصبه أهو على المصدرية أو ينتصب مفعولاً به؟ فعلى هذا الخلاف ينتصب إذا كان إشارة إلى الخبر أو القصص نصب المصدر أو نصب المفعول به.

قال ابن عطية : وانتصابه على الظرف وتقدير { قال الله هذا } القصص أو الخبر { يوم ينفع } معنى يزيل وصف الآية وبهاء اللفظ والمعنى ، والوجه الثاني أن يكون ظرفاً خبر { هذا } و { هذا } مرفوع على الابتداء والتقدير ، هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى واقع يوم ينفع ويكون هذا يوم ينفع جملة محكية بقال.
قال الزمخشري : وقرأ الأعمش يوماً ينفع بالتنوين كقوله { واتقوا يوماً لا تجزى } وقال ابن عطية : وقرأ الحسن بن عياش الشامي { هذا يوم } بالرفع والتنوين.
وقرأ الجمهور { صدقهم } بالرفع فاعل ينفع وقرىء بالنصب ، وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم أو على إسقاط حرف الجر أي بصدقهم أو مصدر مؤكد ، أي الذين يصدقون صدقهم أو مفعول به أي يصدقون الصدق كما تقول : صدقته القتال والمعنى يحققون الصدق.
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : إن أريد { صدقهم } في الآخرة فليست بدار عمل ، وإن أريد في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه ، لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة.
( قلت ) : معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم انتهى ، وهذا بناء على قول من قال : إن هذا القول يكون من الله تعالى في الآخرة وقد اتبع الزمخشري الزجاج في قوله : هذا حقيقته الحكاية ومعنى { ينفع الصادقين صدقهم } الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة ، لأن الآخرة ليست بدار عمل ولا ينفع أحداً فيها ما قال وإن حسن ، ولو صدق الكافر وأقرّ بما عمل فقال : كفرت وأسأت ما نفعه ، وإنما الصادق الذي ينفعه صدقه الذي كان فيه في الدنيا والآخرة؛ انتهى.
والظاهر أنه ابتداء كلام من الله تعالى.
وقال السدي : هذا فصل من كلام عيسى عليه السلام أي : يقول عيسى يوم القيامة : قال الله تعالى : واختلف في هذا اليوم ، فقيل : يوم القيامة كما ذكرناه وخص بالذكر لأنه يوم الجزاء الذي فيه تجنى ثمرات الصدق الدائمة الكاملة ، وإلا فالصدق ينفع في كل يوم وكل وقت.
وقيل : هو يوم من أيام الدنيا فإن العمل لا ينفع إلا إذا كان في الدنيا والصادقون هنا النبيون وصدقهم تبليغهم ، أو المؤمنون وصدقهم إخلاصهم في إيمانهم أو صدق عهودهم أو صدقهم في العمل لله تعالى ، أو صدقهم تركهم الكذب على الله وعلى رسله أو صدقهم في الآخرة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ أو شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم أقوال ستة ، والظاهر العموم فكل صادق ينفعه صدقه.

{ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } هذا كأنه جواب سائل ما لهم جزاء على الصدق؟ فقيل : لهم جنات.
{ خالدين فيها أبداً } إشارة إلى تأييد الديمومية في الجنة.
{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } قيل : بقبول حسناتهم { ورضوا عنه } بما آتاهم من الكرامة.
وقيل : بطاعتهم ورضوا عنه في الآخرة بثوابه.
وقال الترمذي : بصدقهم { ورضوا عنه } بوفاء حقهم.
وقيل : في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة.
وقال أبو عبد الله الرازي : في قوله { رضي الله عنهم } هو إشارة إلى التعظيم هذا على ظاهر قول المتكلمين ، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها؛ انتهى.
وهو كلام عجيب شبيه بكلام أهل الفلسفة والتصوّف.
{ ذلك الفوز العظيم } ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم ، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يطلع الله على أهل الجنة فيقول : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول الله تعالى : ولكم عندي أفضل من ذلك فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عز وجل : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً ».
{ لله ملك السموات والأرض وما فيهنّ وهو على كل شيء قدير } لما ادّعت النصارى في عيسى وأمه الألوهية اقتضت الدعوى أن يكونا مالكين قادرين فردّ الله عليهم.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من ذلك مخاطباً به محمداً صلى الله عليه وسلم وأمّته؛ انتهى.
وقيل : هذا جواب سائل من يعطيهم { ذلك الفوز العظيم } فقيل الذي له ملك السموات والأرض.
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهل غلب العقلاء فقيل ومن فيهنّ ، ( قلت ) : ما تتناول الأجناس كلها تناولاً عامًّا ألا تراك تقول : إذا رأيت شبحاً من بعيد ما هو قبل أن تعرف أعاقل هو أم غير عاقل؟ فكان أولى بإرادة العموم؛ انتهى كلامه.
وقال أبو عبد الله الرازي : غلب غير العقلاء تنبيهاً على أن كل المخلوقات مسخرين في قبضة قهره وقدره وقضائه وقدرته وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها ، فعل الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة وقال أيضاً : مفتتح السورة ، كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية ، فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية ، فالأول هو الشريعة وهو البداية ، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر الله عز وجل وكبريائه تعالى وعزته وقهره وعلوه ، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم؛ انتهى كلامه ، وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما لا من كلام الصحابة رضي الله عنهم ولا من كلام التابعين ، وإنما ذلك من ألفاظ الصوفية واصطلاحاتهم ولهم في ذلك كلام طويل والله أعلم بالصواب.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

الطين : معروف ، يقال : منه طان الكتان يطينه وطنه يا هذا.
القرن الأمة المقترنة في مدّة من الزمان ، ومنه خير القرون قرني وأصله الارتفاع عن الشيء ومنه قرن الجبل ، فسموا بذلك لارتفاع السنّ.
وقيل : هو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهاً له ، فسموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض.
وقيل : سموا بذلك لأنهم جمعهم زمان له مقدار هو أكثر ما يقرن فيه أهل ذلك الزمان ، وهو اختيار الزجاج ومدة القرن مائة وعشرون سنة قاله : زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية ، أو مائة سنة قاله الجمهور ، وقد احتجوا لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن بشر : « تعيش قرناً فعاش مائة وقال : أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ».
قال ابن عمر : يؤيد أنها انخرام ذلك القرن أو ثمانون سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو سبعون سنة حكاه الفرّاء أو ستون سنة لقوله عليه السلام : معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين أو أربعون قاله ابن سيرين ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذا حكاه الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثلاثون.
روي عن أبي عبيدة أنه قال : يرون أن ما بين القرنين ثلاثون ، وحكاه النقاش أو عشرون حكاه الحسن البصري أو ثمانية عشر عاماً أو المقدار الوسط في أعمار أهل ذلك الزمان وهذا حسن ، لأن الأمم السالفة كان فيهم من يعيش أربعمائة عام وثلثمائة وما بقي عام وما فوق ذلك وما دونه ، وهكذا الاختلاف الإسلامي والله أعلم.
كأنه نظر إلى الطرف الأقصى والطرف الأدنى ، فمن نظر إلى الغاية قال : من الستين فما فوقها إلى مائة وعشرين ومن نظر إلى الأدنى قال : عشرون وثلاثون وأربعون.
وقال ابن عطية : القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله : { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } وهذه يشير ابن عطية إلى من حدد بأربعين فما دونها طبقات وليست بقرون.
وقيل : القرن القوم المجتمعون ، قلت : السنون أو كثرت لقوله : خير القرون قرني يعني أصحابه وقال قس :
في الذاهبين الأوّلين . . .
من القرن لنا بصائر
وقال آخر :
إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم . . .
وخلفت في قوم فأنت غريب
وقيل : القرن الزمان نفسه فيقدر قوله { من قرن } من أهل قرن.
التمكن ضد التعذر والتمكين من الشيء ما يصح به الفعل من الآيات والقوي وهو أتم من الأقدار ، لأن الأقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم الآلة.
وقيل : التمكين من الشيء إزالة الحائل بين المتمكن والممكن منه.

وقال الزمخشري : مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه أرض له ، وتمكينه في الأرض إثباته فيها.
المدرار المتتابع يقال : مطر مدرار وعطاء مدرار وهو في المطر أكثر ، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه.
الإنشاء : الخلق والإحداث من غير سبب ، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه ، والنشأ الاحداث واحدهم ناشىء كقولك : خادم وخدم.
القرطاس اسم لما يكتب عليه من رق وورق وغير ذلك ، قال الشاعر وهو زهير :
لها أخاديد من آثار ساكنها . . .
كما تردد في قرطاسه القلم
ولا يسمى قرطاساً إلا إذا كان مكتوباً وإن لم يكن مكتوباً فهو طرس وكاغد وورق ، وكسر القاف أكثر استعمالاً وأشهر من ضمها وهو أعجمي وجمعه قراطيس.
حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أي : أحاط ، قاله الضحاك : ولا يستعمل إلا في الشر.
قال الشاعر :
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم . . .
وحاق بهم من بأس ضبه حائق
وقال الفرّاء : حاق به عاد عليه وبال مكره.
وقال النضر : وجب عليه.
وقال مقاتل : دار.
وقيل : حلّ ونزل ومن جعله مشتقاً من الحوق وهو ما استدار بالشيء فليس قوله بصحيح ، لاختلاف المادتين وكذلك من قال : أصله حق فأبدلت القاف الواحدة ياء كما قالوا : في تظننت : تظنيت لأنها دعوى لا دليل على صحتها.
سخر منه : هزأ به والسخرى والاستهزاء والتهكم معناها متقارب.
عاقبة الشيء : منتهاه وما آل اليه.
{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } هذه السورة مكية كلها.
وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما { قل من أنزل الكتاب } وما يرتبط بها.
وقال ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح ، إلا ست آيات قل : { تعالوا أتلُ } { وما قدروا الله } { ومن أظلم ممن افترى }.
{ ولو ترى إذ الظالمون }.
{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون }.
{ والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } ، انتهى.
وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة { قل تعالوا أتلُ } إلى قوله { لعلكم تتقون } وقال قتادة : إلا { وما قدروا الله حق قدره } { وهو الذي أنشأ } ، وذكر ابن العربي أن قوله { قل لا أجد } نزل بمكة يوم عرفة.
ومناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله ، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب ما للصادقين ، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وأنه قادر على كل شيء ، ذكر بأن الحمد له المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد ، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية ، كون ملك السموات والأرض وما فيهنّ له بوصف { خلق السموات والأرض } لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه ، ولما تقدّم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب { خلق السموات والأرض } { يجعل الظلمات والنور } فكان ذلك مناسباً للكافر والصادق ، وتقدّم تفسير { الحمد لله } في أول الفاتحة وتفسير { خلق السموات والأرض } في قوله :

{ إن في خلق السموات والأرض } في البقرة وجعل هنا.
قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض في البقرة وجعل هنا.
قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل.
وقال الزمخشري { جعل } يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : { جعل الظلمات والنور } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً } والفرق بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وجعل منها زوجها } { وجعل الظلمات والنور } لأن الظلمات من الأجرام المتكافئة والنور من النار { وجعلناكم أزواجاً } أجعل الآلهة إلهاً واحداً؛ انتهى.
وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله : { وجعلوا الملائكة } لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري { جعل } هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب { الظلمات والنور } فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار.
وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين.
وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة.
وقال قتادة أيضاً : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا.
وقيل : الأجساد والأرواح.
وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب.
وقيل : الجهل والعلم.
وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : الله يخلق الضوء وكل شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم.
وقال أبو عبد الله الرازي : فيه قولان أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة.
والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز.
وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة والمجاز معاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً.
وقال أبو عبد الله الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريب لا يرى البعيد.

ويرى ذلك الهواء مظلماً ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل ». انتهى.
وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية.
مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله : { وجعل الظلمات والنور } والعدم لا يقال فيه جعل { ثم } كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان.
وقال ابن عطية : { ثم } دالة على قبح فعل { الذين كفروا } لأن المعنى : أن خلقه { السموات والأرض } وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني أي : بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثم } انتهى.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى ثم؟ ( قلت ) : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك { ثم أنتم تمترون } استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم؛ انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن { ثم } للتوبيخ ، والزمخشري من أن { ثم } للاستبعاد ليس بصحيح لأن { ثم } لم توضع لذلك ، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل { ثم } هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية ، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به { يعدلون } فلا يحمدونه.
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : علامَ عطف قوله : { ثم الذين كفروا }.
( قلت ) : إما على قوله : { الحمد لله } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فيكفرون نعمه وإما على قوله { خلق السموات والأرض } على معنى أنه خلق ما خلق ، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه؛ انتهى.

وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز ، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة ، فلو جعلت الجملة من قوله : { ثم الذين كفروا } صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول ، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر ، فكأنه قيل : { ثم الذين كفروا به يعدلون } وهذا من الندور ، بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، { والذين كفروا } الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب ، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيراً واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور ، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا : الموت من أهرمن والحياة من الله ، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في { بربهم } يحتمل أن تتعلق ب { يعدلون } وتكون الباء بمعنى عن أي : يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر ، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي : يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به ، وفي الآية رد على القدرية في قولهم : الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد.
{ هو الذي خلقكم من طين } ظاهره أنا مخلوقون من طين ، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها { من طين } ثم يقلبها الله نطفة.
قال ابن عطية : وهذا يترتب على قول من يقول : يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين؛ انتهى.
وقال النحاس : يجوز أن تكون النطفة خلقها الله { من طين } على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها؛ انتهى.
وقد روى أبو نعيم الحافظ عن بريد بن مسعود حديثاً في الخلق آخره : »ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته« ، فذلك قوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } الآية.
وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا وقد در عليه من تراب حفرته ".
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث المتولدين من الأغذية ، والأغذية حيوانية والقول في كيفية تولدها ، كالقول في الإنسان أو نباتية فثبت تولد الإنسان من النباتية وهي متولدة { من الطين } فكل إنسان متولد.
{ من الطين } وهذا الوجه أقرب إلى الصواب؛ انتهى.
وهذا الذي ذكر أنه عنده وجه آخر وهو أقرب إلى الصواب ، هو بسط ما حكاه المفسرون عن فرقة.

وقال فيه ابن عطية : هو مردود عند الأصوليين يعني القول : بالتوالد والاستحالات والذي هو مشهور عند المفسرين ، أن المخلوق { من الطين } هنا هو آدم.
قال قتادة ومجاهد والسدي وغيرهم : المعنى خلق آدم { من طين } والبشر من آدم فلذلك قال : { خلقكم من طين } وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الناس ولد آدم وآدم من تراب ».
وقال بعض شعراء الجاهلية :
إلى عرق الثرى وشجت عروقي . . .
وهذا الموت يسلبني شبابي
وفسره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم ، فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف إما في { خلقكم } أي خلق أصلكم ، وإما في { من طين } أي من عرق طين وفرعه.
{ ثم قضى أجلاً وأجلّ مسمى عنده ثم أنتم تمترون } { قضى } إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب ، كانت { ثم } هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا ، إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر ، كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها ، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما.
وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة : الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت ، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها ، ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى ، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت.
وقال أيضاً : الأول أجل الدنيا والثاني الآخرة.
وقال مجاهد أيضاً : الأول الآخرة.
والثاني الدنيا.
وقال ابن زيد : الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، والمسمى في هذه الحياة الدنيا.
وقال أبو مسلم : الأول أجل الماضين ، والثاني أجل الباقين ، ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين ، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم.
وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ.
وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان ، والثاني مقدار ما بقي.
وقيل : الأول أجل الأمم السالفة ، والثاني أجل هذه الأمة.
وقيل : الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني من الآخرة ، وقيل : الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، والثاني قيام الساعة.
وقيل : الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها ، والثاني موت الإنسان.
وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً { قضى أجلاً } بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة.
وروي عن ابن عباس أنه قال : لكل أحد أجلان ، فإن كان تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث.

وقال أبو عبد الله الرازي : لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي.
فالطبيعي : هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصوناً عن العوارض الخارجة لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية.
والاخترامي : هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات ، وغيرها من الأمور المنفصلة ، انتهى.
وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال : هذا قول حكماء الإسلام ، انتهى ومعنى { مسمى عنده } معلوم عنده أو مذكور في اللوح المحفوظ ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله : { وأجل مسمى عنده }.
( قلت ) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله : { ولعبد مؤمن خير من مشرك } انتهى.
وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة ، أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له . . .
بشق وشق عندنا لم يحول
وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة ، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك.
( قلت ) : أوجبه أن المعنى وأي { أجل مسمى عنده } تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم؛ انتهى.
وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي { أجل مسمى عنده } كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي { أجل مسمى عنده } ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها ، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز ، { وتمترون } معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك قاله بعض المفسرين.
والكلام في { ثم } هنا كالكلام فيها في قوله { ثم الذين كفروا } والذي يظهر لي أن قوله تعالى : { هو الذي خلقكم } على جهة الخطاب ، هو التفات من الغائب الذي هو قوله { ثم الذين كفروا } وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصاً بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر ، لكنه قصد به الكافر تنبيهاً له على أصل خلقه وقضاء الله تعالى عليه وقدرته ، وإنما قلت إنه من باب الالتفات لأن قوله { ثم أنتم تمترون } لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان.
{ وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ، ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادراً مختاراً عالماً بالكليات والجزئيات وإبطالاً لشبه منكر المعاد ، والظاهر أن { هو } ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله ، { وهو الله } وهذا قول الجمهور قاله الكرماني.

وقال أبو علي : { هو } ضمير الشأن و { الله } مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذا لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن ، كان عائداً على الله تعالى فيصير التقدير الله و { الله } فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظاً ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية ، وذلك لا يجوز فلذلك والله أعلم تأول.
أبو علي الآية على أن الضمير ضمير الأمر و { الله } خبره يعلم { في السموات وفي الأرض } متعلق بيعلم والتقدير الله يعلم { في السموات وفي الأرض } { سركم وجهركم }
ذهب الزجاج إلى أن قوله : { في السموات } متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال ابن عطية : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله { وهو الله } أي الذي له هذه كلها { في السموات وفي الأرض } كأنه قال : وهو الخالق الرازق والمحيي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالاً وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان الآمر الناهي الناقض المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق ، فأقمت السلطان مقام هذه كلها كان فصيحاً صحيحاً فكذلك في الآية أقام لفظة { الله } مقام تلك الصفات المذكورة؛ انتهى.
وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن { في السموات } متعلق بلفظ { الله } لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان { في السموات } متعلقاً بها جميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يعمل في المجرور ما تضمنه لفظ { الله } من معنى الألوهية وإن كان لفظ { الله } علماً لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كما قال : أنا أبو المنهال بعض الأحيان.
فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان.
وقال الزمخشري نحواً من هذا قال : { في السموات } متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ومنه قوله { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي : وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها لا يشرك في هذا الاسم؛ انتهى ، فانظر تقاديره كلها كيف قدر العامل واحداً من المعاني لا جميعها ، وقالت فرقة { هو } على تقدير صفة حذفت وهي مرادة في المعنى ، كأنه قيل : هو الله المعبود { في السموات وفي الأرض } وقدرها بعضهم وهو الله المدبر { في السموات وفي الأرض } ، وقالت فرقة : { وهو الله } تم الكلام هنا.

ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور ب { يعلم } وقالت فرقة : { وهو الله } تام و { في السموات وفي الأرض } متعلق بمفعول { يعلم } وهو { سركم وجهركم } والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، وهذا يضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النحاس حيث قال : هذا من أحسن ما قيل فيه ، وقالت فرقة : هو ضمير الأمر والله مرفوع على الابتداء وخبره { في السموات } والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام.
ثم استأنف فقال : { وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } أي : ويعلم في الأرض.
وقال ابن جرير نحواً من هذا إلا أن { هو } عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر.
وقيل : يتعلق { في السموات } بقوله : { تكسبون } هذا خطأ ، لأن { ما } موصولة ب { تكسبون } وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى الذي ، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول.
وقيل { في السموات } حال من المصدر الذي هو { سركم وجهركم } تقدم على ذي الحال وعلى العامل.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون { الله في السموات } خبراً بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما ، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف ، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية ، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر { في السموات وفي الأرض } لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ومماسة الإجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة ، قال معناه وبعض لفظه ابن عطية وفي قوله : { يعلم سركم } إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر.
قال أبو عبد الله الرازي : المراد بالسرّ صفات القلوب وهو الدواعي والصوارف وبالجهر أعمال الجوارح وقدم السرّ لأن ذكر المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السرّ هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول والعلة متقدّمة على المعلول والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ ، انتهى.
وقال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم وما تظهرون من أعمالكم وما تكسبون ، عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرّ ولهذا لا يوصف به الله تعالى.
وقال أبو عبد الله الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام الزمخشري يجب حمل قوله : { ما تكسبون } على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب ، فهو محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة؛ انتهى.

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف موقع قوله { يعلم سركم وجهركم } ( قلت ) : إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريراً له ، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية ، هو الله وحده وكذلك إذا جعلت { في السموات } خبراً بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث ، انتهى ، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخباراً متعددة.
{ وما تأتيهم من آية من ربهم إلا كانوا عنها معرضين } { من } الأولى زائدة لاستغراق الجنس ، ومعنى الزيادة فيها أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله { تأتيهم } فإذا كانت النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام ، كانت { من } لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار من أحد ، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت { من } دالة على الاستغراق نحو ما قام من رجل ، و { من } الثانية للتبعيض.
قال الزمخشري : يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه { معرضين } تاركين للنظر ، لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب؛ انتهى.
واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله : وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد ، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا إن كان أراد بقوله : وما يظهر وما ظهر ولا حاجة إلى استعمال ذلك.
وقيل : الآية هنا العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية.
وقيل : الرسالة.
وقيل : المعجز الخارق.
وقيل : القرآن ومعنى { عنها } أي : عن قبولها أو سماعها ، والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام ، والجملة من قوله : { كانوا } ومتعلقها في موضع الحال فيكون { تأتيهم } ماضي المعنى لقوله : { كانوا } أو يكون { كانوا } مضارع المعنى لقوله : { تأتيهم } وذو الحال هو الضمير في { تأتيهم } ، ولا يأتي ماضياً إلا بأحد شرطين أحدهما : أن يسبقه فعل كما في هذه الآية ، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمراً ، وهذا التفات وخروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير عائد على { الذين كفروا }.
وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء { الذين كفروا } بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، ولما تقدّم الكلام أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً في تقرير هذين المطلوبين ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل ، ويدل ذلك على أن التقليد باطل وأن التأمل في الدلائل واجب ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل.
{ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم } { الحق } القرآن أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد ، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم وكأنه قيل : { فقد كذبوا } بالآية التي تأتيهم وهي { الحق } فأقام الظاهر مقام المضمر ، لما في ذلك من وصفه بالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى ، وظاهر قوله { فقد كذبوا } أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبة التكذيب.

وقال الزمخشري : { فقد كذبوا } مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات.
{ فقد كذبوا } بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق ، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه؛ انتهى.
ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير.
{ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء ، فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به ، { فسوف يأتيهم } وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار ، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب ، وهو أزيد من الإعراض إذ المُعْرِض قد يكون غافلاً عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء ، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حدّ الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار ، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضاف أي : { فسوف يأتيهم } مضمن { أنباء } فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء وغير ذلك ، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر.
وقيل : هو عذاب الآخرة ، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول : اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر ، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما ، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق.
وقال الزمخشري : وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته؛ انتهى.
وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه ، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس ب { سوف } وفي الشعراء { فقد كذبوا فسيأتيهم } لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراداً حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله : { ما كانوا } موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في { به } عائد عليها.
وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية التقدير { أنباء } كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في { به } عائداً على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن { ما } المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية.
{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و { يروا } هنا بمعنى يعلموا ، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و { كم } في موضع المفعول ب { أَهْلَكْنَا } و { يروا } معلقة والجملة في موضع مفعولها ، و { من } الأولى لابتداء الغاية و { من } الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله { من } الثانية بدلاً من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعاداً وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنوياً بالمسخ قردة وخنازير ، والضمير في { يروا } عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و { لكم } خطاب لهم فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم ، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك ، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم.

وقال ابن عطية : والمخاطبة في { لكم } هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة ، كأنه قال : { ما لم نمكن } يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال { يا محمد قل لهم ألم يروا كم أهلكنا } الآية.
وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة ، انتهى.
فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه ، والضمير في { مكناهم } عائد على { كم } مراعاة لمعناها ، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على { قرن } وذلك ضعيف لأن { من قرن } تمييز { لكم } فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين ، فما بعده إذ { من قرن } جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه ، وأجاز أبو البقاء أن يكون { كم } هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً ، أي : كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا؟ ومفعول { أهلكنا من قرن } على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال ، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل ، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة { من } لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي والظاهر أن قوله { مكناهم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : { مكناهم في الأرض }.

وقال أبو البقاء : { مكناهم } في موضع خبر صفة { قرن } وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن ، { وما } في قوله : { ما لم نمكن لكم } جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين ، الذي { لم نمكن لكم } فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه ، ويكون الضمير العائد على { ما } محذوفاً أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز ، لأن { ما } بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي ، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز ، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم ، وهذا أيضاً لا يجوز لأن { ما } النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز ، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون { ما } مفعولاً به بنمكن على المعنى ، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم ، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس ، وأجاز أيضاً أن تكون { ما } مصدرية والزمان محذوف أي مدة { ما لم نمكن لكم } ويعني مدة انتفاء التمكين لكم ، وأجاز أيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم ، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثر تعديته باللام { مكنا ليوسف في الأرض } { إنا مكنا له في الأرض } أو لم نمكن لهم.
وقال أبو عبيد مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان ، كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن ، وهو ما ينزل من الضرع متتابعاً و { السماء } السماء المظلة قالوا : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويكون على حذف مضاف أي مطر { السماء } ويكون { مدراراً } حالاً من ذلك المضاف المحذوف.
وقيل : { السماء } المطر وفي الحديث : « في أثر سماء كانت من الليل » ، وتقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، يريدون المطر وقال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم . . .
رغيناه وإن كانوا غضبانا
{ ومدراراً } على هذا حال من نفس { السماء }.
وقيل : { السماء } هنا السحاب ويوصف بالمدرار ، فمدراراً حال منه { ومدراراً } يوصف به المذكر والمؤنث وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامة وقت الحاجة ، لا إنها ترفع ليلاً ونهاراً فتفسد قاله ابن الأنباري.
ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان ، { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } تقدّم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة.

وقد أعرب من فسر { الأنهار } هنا بالخيل كما قيل في قوله : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو وصف بالبحر وبالنهر ، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ووسع عليهم الرزق فذكر سببه وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم وإمساك الأرض ذلك الماء ، حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم فكثر الخصب فأذنبوا فأهلكوا بذنوبهم ، والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته ، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة بل المراد الإهلاك الناشىء عن الذنوب والأخذ به كقوله تعالى : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح ، وفائدة ذكر إنشاء قرن { آخرين } بعدهم ، إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك { قرناً } ويخرب بلاده وينشىء مكانه آخر يعمر بلاده وفيه تعريض للمخاطبين ، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ووصف قرناً بِ { آخرين } وهو جمع حملاً على معنى قرن ، وكان الحمل على المعنى أفصح لأنها فاصلة رأس آية.
{ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ، ثم تنزل بكتاب فيه من ربّ العزة إلى عبد الله بن أمية يأمرني بتصديقك.
وما أراني مع هذا كنت أصدقك.
ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيداً بالطائف ولما ذكر تعالى تكذيبهم الحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ذكرهم مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاماً مكتوباً { في قرطاس } ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم ، لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيباً وادعوا أن ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عناداً وتعنتاً وإن كان من له أدنى مسكة من عقل لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ولا بما لمسته يده ، وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرّؤية لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ، ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواع كلها حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن ، وذكر اليد هنا فقيل مبالغة في التأكيد ولأن اليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء.
وقيل : الناس منقسمون إلى بصراء وأضراء ، فذكر الطريق الذي يحصل به العلم للفريقين.
وقيل : علقه باللمس باليد لأنه أبعد عن السحر.
وقيل : اللمس باليد مقدمة الإبصار ولا يقع مع التزوير.
وقيل : اللمس يطلق ويراد به الفحص عن الشيء والكشف عنه ، كما قال :

{ وإنا لمسنا السماء } فذكرت اليد حتى يعلم أنه ليس المراد به ذلك اللمس ، وجاء { لقال الذين كفروا } لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر ، فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر ، ووصف السحر ب { مبين } إما لكونه بيناً في نفسه ، وإما لكونه أظهر غيره.
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك } قال ابن عباس قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنه من عند الله وإنك رسوله؛ انتهى.
والظاهر أن قوله { وقالوا } استئناف إخبار من الله ، حكى عنهم أنهم قالوا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على جواب لو أي : { لقال الذين كفروا } ولقالوا { لولا أنزل عليه ملك } فلا يكون إذ ذاك هذان القولان المرتبان على تقدير إنزال الكتاب { في قرطاس } واقعين ، لأن التنزيل لم يقع وكان يكون القول الثاني غاية في التعنت ، وقد أشار إلى هذا الاحتمال أبو عبد الله بن أبي الفضل قال : في الكلام حذف تقديره ولو أجبناهم إلى ما سألوا لم يؤمنوا { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } وظاهر الآية يقتضي أنها في كفار العرب ، وذكر بعض الناس أنها في أهل الكتاب والضمير في { عليه } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى { ملك } نشاهده ويخبرنا عن الله تعالى بنبوته وبصدقه ، و { لولا } بمعنى هلا للتحضيض وهذا قول من تعنت وأنكر النبوات.
{ ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } أي { ولو أنزلنا } عليه { ملكاً } يشاهدونه لقامت القيامة قاله مجاهد.
وقال ابن عباس وقتادة والسدّي : في الكلام حذف تقديره { ولو أنزلنا ملكاً } فكذبوه { لقضي الأمر } بعذابهم ولم يؤخروا حسب ما سلف في كل أمة.
وقالت فرقة : معنى { لقضي الأمر } لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ، ويؤيد هذا التأويل ولو جعلناه ملكاً إلى آخره فإن أهل التأويل مجمعون على أنهم لم يكونوا ليطيقوا رؤية الملك في صورته.
وقال ابن عطية : فالأولى في { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤيته.
وقال الزمخشري : لقضي أمر إهلاكهم.
{ ثم لا ينظرون } بعد نزوله طرفة عين إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته ، وهي أنه لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال ولو إننا نزلنا إليهم الملائكة لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة ، وأما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون؛ انتهى.
والترديد الأول بإما قول ابن عباس ، والثالث قول تلك الفرقة ، وقوله : كما أهلك أصحاب المائدة ، لأنهم عنده كفار وقد تقدّم الكلام فيهم في أواخر سورة العقود ، وذكر أبو عبد الله الرازي الأوجه الثلاثة التي ذكرها الزمخشري ببسط فيها.

وقال التبريزي في معنى { لقضي الأمر } قولان : أحدهما : لقامت القيامة لأن الغيب يصير عندها شهادة عياناً.
الثاني : الفزع من إهلاكهم لأن السنة الإلهية جارية في إنزال الملائكة بأحد أمرين : الوحي أو الإهلاك ، وقد امتنع الأول فيتعين الثاني؛ انتهى.
فعلى هذا القول يكون معنى قوله { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } أي بإهلاكنا.
قال الزمخشري : ومعنى ثم بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدّة أشد من نفس الشدّة؛ انتهى.
{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } أي ولجعلنا الرسول ملكاً ، كما اقترحوا ، لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، ومعنى { لجعلناه رجلاً } أي لصيرناه في صورة رجل ، كما كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غالب الأحوال في صورة دحية ، وتارة ظهر له وللصحابة في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة ، وفي الحديث : « وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً » ، وكما تصوّر جبريل لمريم بشراً سوياً والملائكة أضياف إبراهيم وأضياف لوط ومتسوّر والمحراب ، فإنهم ظهروا بصورة البشر وإنما كان يكون بصورة رجل ، لأن الناس لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد ، ويؤيده هلاك الذي سمع صوت ملك في السحاب يقول : أقدم حيزوم فمات لسماع صوته فكيف لو رآه في خلقته.
قال ابن عطية : ولا يعارض هذا برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل وغيره في صورهم ، لأنه عليه السلام أعطى قوة يعني غير قوى البشر وجاء بلفظ رجل ردًّا على المخاطبين بهذا ، إذ كانوا يزعمون أن الملائكة إناث.
وقال القرطبي : لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكاً لفروا من مقاربته وما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه ما يلكنهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم لقالوا : لست ملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم؛ انتهى.
وهو جمع كلام من قبله من المفسرين ، وفي هذه الآية دليل على من أنكر نزول الملائكة إلى الأرض وقالوا : هي أجسام لطيفة ليس فيها ما يقتضي انحطاطها ونزولها إلى الأرض ، ورد ذلك عليهم بأنه تعالى قادر أن يودع أجسامها ثقلاً يكون سبباً لنزولها إلى الأرض ثم يزيل ذلك ، فتعود إلى ما كانت عليه من اللطافة والخفة فيكون ذلك سبباً لارتفاعها؛ انتهى.

هذا الردّ والذي نقول إن القدرة الإلهية تنزل الخفيف وتصعد الكثيف من غير أن يجعل في الخفيف ثقلاً وفي الكثيف خفة وليس هذا بالمستحيل ، فيتكلف أن يودع في الخفيف ثقلاً وفي الكثيف خفة ، وفي الآية دليل على إمكان تمثيل الملائكة بصورة البشر وهو صحيح واقع بالنقل المتواتر.
{ وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإني أستدل بأني جئت بالقرآن المعجز وفيه أني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا الرسل فخذلوا كما هم مخذولون ، ويجوز أن يكون المعنى { وللبسنا عليهم } حينئذ مثل { ما يلبسون } على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص.
وقال ابن عطية : ولخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وضعفتهم ، أي : لفعلنا لهم في ذلك تلبساً يطرّق لهم إلى أن يلبسوا به وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصداً آخر أي { للبسنا } نحن { عليهم } كما يلبسون هم على ضعفتهم ، فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله نحن؛ انتهى.
وقال قوم : كان يحصل التلبيس لاعتقادهم أن الملائكة إناث فلو رأوه في صورة رجل حصل التلبيس عليهم كما حصل منهم التلبيس على غيرهم.
وقال قوم منهم الضحاك : الآية نزلت في اليهود والنصارى في دينهم وكتبهم حرفوها وكذبوا رسلهم ، فالمعنى في اللبس زدناهم ضلالاً على ضلالهم.
وقال ابن عباس : لبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم بتحريف الكلام عن مواضعه ، و { ما } مصدرية وأضاف اللبس إليه تعالى على جهة الخلق ، وإليهم على جهة الاكتساب.
وقرأ ابن محيصن : ولبسنا بلام واحدة والزهري { وللبسنا } بتشديد الباء.
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون }.
هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يلقى من قومه وتأسّ بمن سبق من الرسل وهو نظير وإن يكذبوك فقد كذب رسل من قبلك لأن ما كان مشتركاً من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى.
وقالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي . . .
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن . . .
أسلي النفس عنه بالتأسي
وقال بعض المولدين :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة . . .
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ولا يتسلون بذلك ، نفى ذلك تعالى عنهم فقال : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } قيل : كان قوم يقولون : يجب أن يكون ملكاً من الملائكة على سبيل الاستهزاء ، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهم ليكون سبباً للتخفيف عن القلب ، وفي قوله تعالى : { فحاق } إلى آخره ، إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ووعيد متيقن لمن استهزأ بالرسول عليه السلام وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم ، لأن مآلهم إلى التلف والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء ، وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم كما قال تعالى :

{ إنا كفيناك المستهزئين } ومعنى { سخروا } استهزؤوا إلا أن استهزأ تعدّى بالباء وسخر بمن كما قال : { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } وبالباء تقول : سخرت به وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ولم يتكرر في { ولقد استهزئ } فكان يكون التركيب ، { فحاق بالذين } استهزؤوا بهم لثقل استفعل ، والظاهر في { ما } أن تكون بمعنى الذي وجوّزوا أن تكون { ما } مصدرية ، والظاهر أن الضمير في { منهم } عائد على الرسل ، أي { فحاق بالذين سخروا } من الرسل وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائداً على غير الرسل.
قال الحوفي : في أمم الرسل.
وقال أبو البقاء : على المستهزئين ، ويكون { منهم } حالاً من ضمير الفاعل في { سخروا } وما قالاه وجوزاه ليس بجيد ، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل ، وأما قول أبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى : { فحاق بالذين سخروا } كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومة من قوله { سخروا } وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال { ولقد استهزئ } على أصل التقاء الساكنين.
وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعاً ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن ، وهو حاجز غير حصين.
{ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمّة أمّية ، لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض ، والنظر فيما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك وتتظافر مع الأخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون كما قال بعض العصريين :
لطائف معنى في العيان ولم تكن . . .
لتدرك إلا بالتزاور واللقا
والظاهر أن السير المأمور به ، هو الانتقال من مكان إلى مكان وإن النظر المأمور به ، هو نظر العين وإن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود.
وقال قوم : السير والنظر هنا ليسا حسيين بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها ، ولذلك قال الحسن : سيروا في الأرض لقراءة القرآن أي : اقرؤوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين ، واستعارة السير { في الأرض } لقراءة القرآن فيه بعد ، وقال قوم : { الأرض } هنا عام ، لأن في كل قطر منها آثاراً لهالكين وعبراً للناظرين وجاء هنا خاصة { ثم انظروا } بحرف المهلة وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب.

وقال الزمخشري : في الفرق جعل النظر متسبباً عن السير فكان السير سبباً للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : { سيروا } لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين ، وهنا معناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك ب { ثم } لتباعد ما بين الواجب والمباح ، انتهى.
وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر متسبباً عن السير ، فكان السير سبباً للنظر ثم قال : فكأنما قيل : { سيروا } لأجل النظر فجعل السير معلولاً بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ، ودعوى أن الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل ضربت زيداً فبكى وزنى ماعز فرجم ، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة لأن الفاء موضوعة له وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط ، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وبين تلك المواضع.

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

{ قل لمن ما في السموات والأرض قل الله } لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم ، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك.
وقيل : في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا { قل لله } وقال قوم : المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم { قل لله } ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله.
{ كتب على نفسه الرحمة } لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهم بما يريد ، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط ، وقال به قوم هنا وأنه أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ.
وقيل : { كتب } هنا بمعنى وعد بها فضلاً وكرماً.
وقيل : بمعنى أخبر.
وقيل : أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم.
وقيل : قضاها وأنفذها.
وقال الزمخشري : أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض ، انتهى.
و { الرحمة } هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا ، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكر متعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا.
وقيل : الألف واللام للعهد ، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى من المائة { الرحمة } التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة.
وقال الزجاج : { الرحمة } إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، فلم يعاجلهم على كفرهم.
وقيل : { الرحمة } لمن آمن وصدق الرسل.
وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي.
{ ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } لما ذكر أنه تعالى رحم عباده ذكر الحشر وأن فيه المجازاة على الخير والشر ، وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرناه.
وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا : إنها تفسير للرحمة تقديره : أن يجمعكم ، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من { الرحمة } وهو مثل قوله { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه } المعنى أن يسجنوه ، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال : وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب في القسم ، انتهى.
وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد ، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحداً مما ذكر نحو قوله تعالى :

{ وإما ينزغنك } وكذلك قوله : وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه ، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل ما ذكروه ، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب ، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً ، فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه ، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع والجمع هنا قيل حقيقة أي { ليجمعنكم } في القبور إلى يوم القيامة ، والظاهر أن { إلى } للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين { إلى يوم القيامة } وقيل : المعنى { ليجمعنكم } في الدنيا يخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة وقد تكون { إلى } هنا بمعنى اللام أي ليوم القيامة ، كقوله تعالى : { إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } وأبعد من زعم أن { إلى } بمعنى في أي في يوم القيامة وأبعد منه من ذهب إلى أنها صلة والتقدير { ليجمعنكم } يوم القيامة ، والظاهر أن الضمير في { فيه } عائد إلى يوم القيامة وفيه ردّ على من ارتاب في الحشر ويحتمل أن يعود على الجمع ، وهو المصدر المفهوم من قولهم { ليجمعنكم }.
{ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } اختلف في إعراب { الذين } فقال الأخفش : هو بدل من ضمير الخطاب في { ليجمعنكم } وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية.
فقال : ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني ، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : { ليجمعنكم } يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال { الذين } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا بدل البعض من الكل ، انتهى.
وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد ، لأنه إذا جعلنا { ليجمعنكم } يصلح لمخاطبة الناس كافة كان { الذين } بدل بعض من كل ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر { الذين خسروا أنفسهم } منهم وقوله فيفيدنا إبدال { الذين } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب ، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية ، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل ، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش ، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز ، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز ، وهذا كله مقرر في علم النحو.
وقال الزجاج : { الذين } مرفوع على الابتداء والخبر قوله : { فهم لا يؤمنون } ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل : من يخسر نفسه فهو لا يؤمن ، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون { الذين } منصوباً على الذمّ أي : أريد { الذين خسروا أنفسهم } ؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع { الذين } جر نعتاً للمكذبين أو بدلاً منهم.

وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرهم والأمر بالعكس؟ ( قلت ) : معناه { الذين خسروا أنفسهم } في علم الله لاختيارهم الكفر { فهم لا يؤمنون } ؛ انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : لاختيارهم الكفر.
{ وله ما سكن في الليل والنهار } لما ذكر تعالى أنه له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض ، ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر ، لكن النص عليهما أبلغ في الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان وله قال الزمخشري وغيره ، هو معطوف على قوله { لِلَّهِ } والظاهر أنه استئناف إخبار وليس مندرجاً تحت قوله : قل ، و { سكن } هنا قال السدّي وغيره : من السكنى أي ما ثبت وتقرر ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
قال : وتعديه ب { في } كما في قوله : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } وقالت فرقة : هو من السكون المقابل للحركة واختلف هؤلاء.
فقيل : ثم معطوف محذوف أي وما تحرّك ، وحذف كما حذف في قوله : { تقيكم الحر } والبرد وقيل : لا محذوف هنا واقتصر على الساكن لأن كل متحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك.
وقيل : لأن السكون أكثر وجوداً من الحركة ، وقال في قوله : { والنهار } لأن من المخلوقات ما يسكن بالنهار وينتشر بالليل ، قاله مقاتل ، ورجح ابن عطية القول الأول.
قال : والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت ، وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن ، ألا ترى أن الفلك والشمس والقمر والنجوم السائحة والملائكة وأنواع الحيوان متحركة ، والليل والنهار حاصران للزمان؛ انتهى.
وليس بجيد لأنه قال لا يترتب العموم إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت ، ولا ينحصر فيما ذكر ، ألا ترى أنه يترتب العموم على قول من جعله من السكون وجعل في الكلام معطوفاً محذوفاً أي وما تحرك ، وعلى قول من ادعى أن كل ما يتحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك ، فكل واحد من هذين القولين يترتب معه العموم فلم ينحصر العموم فيما ذكر ابن عطية.
{ وهو السميع العليم } لما تقدم ذكر محاورات الكفار المكذبين وذكر الحشر الذي فيه الجزاء ، ناسب ذكر صفة السمع لما وقعت فيه المحاورة وصفة العلم لتضمنها معنى الجزاء ، إذ ذلك يدل على الوعيد والتهديد.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

فطر خلق وابتدأ من غير مثال ، وعن ابن عباس ما كنت أعرف معنى فطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها ، وفطر أيضاً شق يقال فطر ناب البعير ومنه هل ترى من فطور؟ وقوله : ينفطرن منه.
كشف الضر : أزاله ، وكشفت عن ساقيها أزالت ما يسترهما.
القهر : الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار.
الوقر : الثقل في السمع يقال وقرت أذنه بفتح القاف وكسرها ، وسمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت والوقر بفتح الواو وكسرها.
أساطير : جمع أسطارة وهي الترهات قاله أبو عبيدة.
وقيل : أسطورة كأضحوكة.
وقيل : واحد أسطور.
وقيل : إسطير وإسطيرة.
وقيل : جمع لا واحد له مثل عباديد.
وقيل : جمع الجمع يقال سطر وسطر ، فمن قال : سطر جمعه في القليل على أسطر وفي الكثير على سطور ومن قال : سطر جمعه على أسطار ثم جمع أسطاراً على أساطير قاله يعقوب.
وقيل : هو جمع جمع الجمع ، يقال : سطر وأسطر ثم أسطار ثم أساطير ذكر ذلك عن الزجاج ، وليس أسطار جمع أسطر بل هما جمعا قلة لسطر.
قال ابن عطية : وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط؛ انتهى.
وهذا لا تسميه النحاة اسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعاً وإن لم يلفظ له بواحد.
نأى نأياً بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة لا بالتضعيف ، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة.
وقف على كذا : حبس ومصدر المتعدي وقف ومصدر اللازم وقوف فرق بينهما بالمصدر.
البغت والبغته : الفجأة يقال بغته يبغته أي فجأه يفجأه وهي مجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير علمك بوقت مجيئه.
فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير.
وقال أبو عبيد : فرّط ضيّع.
وقال ابن بحر : فرّط سبق والفارط السابق ، وفرط خلى السبق لغيره.
الأوزار : الآثام والخطايا وأصله الثقل من الحمل ، وزرته جملته وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ، ومنه الوزير لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه من تدبير ملكه.
اللهو : صرف النفس عن الجد إلى الهزل يقال منه لها يلهو ولهي عن كذا صرف نفسه عنه ، والمادة واحدة انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها نحو شقي ورضي.
قال المهدوي : الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم لهيان ولام الأول واو ، انتهى.
وهذا ليس بشيء لأن الواو في التثنية انقلبت ياء وليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شج شجيان وهو من ذوات الواو من الشجو.
{ قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض } لما تقدّم أنه تعالى اخترع السموات والأرض ، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ ولياً وناصراً ومعيناً لا الآلهة التي لكم ، إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور ، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيداً وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيداً ضربت ، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو ،

{ أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { والله أذن لكم } وقال الطبري وغيره : أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جواباً لكلامهم ، انتهى.
وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكره وانتصاب غير على أنها مفعول أول لاتخذ.
وقرأ الجمهور { فاطر } فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله ، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت ، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو.
قال ابن عطية : أو على الابتداء؛ انتهى.
ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرىء شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال ، والمعنى على هذا أأجعل { فاطر السموات والأرض } غير الله ، انتهى.
والأحسن نصبه على المدح.
وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً.
{ وهو يطعم ولا يطعم } أي يرزق ولا يرزق كقوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } والمعنى أن المنافع كلها من عند الله ، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا.
وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه { ولا يطعم } بفتح الياء والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين.
وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة { ولا يطعم } بضم الياء وكسر العين مثل الأول فالضمير في { وهو يطعم } عائد على الله وفي { ولا يطعم } عائد على الولي.
وروى ابن المأمون عن يعقوب { وهو يطعم ولا يطعم } على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله ، وقرأ الأشهب : { وهو يطعم ولا يطعم } على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم ، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر ، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذ في بديعته تجنيس التحريف ، وهو بتجنيس التشكيل أولى.

{ قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم } قال الزمخشري : لأن النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله { وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } وكقول موسى { سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين } قال ابن عطية : المعنى أوّل من أسلم من هذه الأمّة وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية هو قول الحسن.
قال الحسن : معناه أول من أسلم من أمتي.
قيل : وفي هذا القول نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه ، وإنما هذا على طريق التعريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعل ذلك.
وقيل : أراد الأوّلية في الرتبة والفضيلة كما جاء نحن الآخرون الأوّلون وفي رواية السابقون.
وقيل : { أسلم } أخلص ولم يعدل بالله شيئاً.
وقيل : استسلم.
وقيل : أراد دخوله في دين إبراهيم عليه السلام كقوله : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } وقيل : أول من أسلم يوم الميثاق فيكون سابقاً على الخلق كلهم ، كما قال : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } ولا تكوننّ من المشركين } أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك ، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار.
وقيل لي : لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ { إني أمرت أن أكون أول من أسلم } فيكون مندرجاً تحت لفظ { قل } إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين.
وقيل : هو معطوف على معمول { قل } حملاً على المعنى ، والمعنى قل إني قيل لي كن أول من أسلم ، { ولا تكوننّ من المشركين } فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول ، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على { قل } أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا.
وقيل : هو نهى عن موالاة المشركين.
وقيل : الخطاب له لفظاً والمراد أمته وهذا هو الظاهر لقوله { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } والعصمة تنافي إمكان الشرك.
{ قل إني أخاف إن عصيب ربي عذاب يوم عظيم } الظاهر أن الخوف هنا على بابه وهو توقع المكروه.
وقال ابن عباس معنى { أخاف } أعلم و { عصيت } عامّة في أنواع المعاصي ، ولكنها هنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهى عنه قاله ابن عطية.
والخوف ليس بحاصل لعصمته بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي.
فقيل : هو شرط معترض لا موضع له من الإعراب كالاعتراض بالقسم.
وقيل : هو في موضع نصب على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصياً ربي.
وقال أبو عبد الله الرازي : مثال الآية إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة متساويتين يعني أنه تعليق على مستحيل واليوم العظيم هو يوم القيامة.

{ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه } قرأ حمزة وأبو بكر والكسائي { من يصرف } مبنياً للفاعل فمن مفعول مقدم والضمير في { يصرف } عائد على الله ويؤيده قراءة أبي { من يصرف } الله وفي { عنه } عائد على العذاب والضمير المستكن في { رحمه } عائد على الرب أي أيّ شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه الرحمة العظمى وهي النجاة من العذاب ، وإذا نجّى من العذاب دخل الجنة ويجوز أن يعرب { من } مبتدأ والضمير في { عنه } عائد عليه ، ومفعول { يصرف } محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية قبل التقدير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه ، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون { من } منصوباً بإضمار فعل يفسره معنى { يصرف } ويجوز على إعراب { من } مبتدأ أن يكون المفعول مذكوراً ، وهو { يومئذ } على حذف أي هول يومئذ فينتصب { يومئذ } انتصاب المفعول به.
وقرأ باقي السبعة { من يصرف } مبنياً للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى ، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في { يصرف } عائداً على { من } وفي { عنه } عائداً على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب ، ويجوز أن يكون الضمير في { عنه } عائداً على { من } والضمير في { يصرف } عائداً على العذاب أيّ أيّ شخص يصرف العذاب عنه ، ويجوز أن يكون الضميران عائدين على { من } ومفعول { يصرف } { يومئذ } وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في { يومئذ } تنوين عوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم ، إذ يكون الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها ، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة { يصرف } مبنياً للفاعل لتناسب { فقد رحمه } ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي { من يصرف } الله ورجح الطبري قراءة { يصرف } مبنياً للمفعول قال : لأنها أقل إضماراً.
قال ابن عطية : وأما مكي بن أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة.
قال ابن عطية : وهذا توجيه لفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف ، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛ انتهى.
وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين.
وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى الترجيح بين القراءات السبع.
وقال : قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة ، لم أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا ، أحمد بن يحيى كان عالماً بالنحو واللغة متديناً ثقة.

{ وذلك الفوز المبين } الإشارة إلى المصدر المفهوم { من يصرف } أي وذلك الصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة و { المبين } البين في نفسه أو المبين غيره.
{ وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } أي إن يصبك وينلك بضرّ وحقيقة المس تلاقي جسمين ، ويظهر أن الباء في { بضر } وفي { بخير } للتعدية وإن كان الفعل متعدياً كأنه قيل : { وإن يمسسك الله } الضر فقد مسك ، والتعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة ومنها قوله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } وقول العرب : صككت أحد الحجرين بالآخر والضر بالصم سوء الحال في الجسم وغيره ، وبالفتح ضد النفع وفسر السدّي الضر هنا بالسقم والخير بالعافية.
وقيل : الضر الفقر والخير الغنى والأحسن العموم في الضر من المرض والفقر وغير ذلك ، وفي الخير من الغنى والصحة وغير ذلك ، وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : « فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ».
أخرجه الترمذي.
والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن الشر ، لأن الشر أعم من الضر فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليباً لجهة الرحمة.
قال ابن عطية : ناب الضرّ هنا مناب الشر وإن كان الشر أعم منه ، فقابل الخير وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والضعة فإن باب التكلف في ترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة ، فمن ذلك { ألا تجوع فيها ولا تعرّى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فجاء بالجوع مع العريّ وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس :
كأني لم أركب جواد اللذة . . .
ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبا الزق الروى ولم . . .
أقل لخيلي كرى كرة بعد إجفال
انتهى.
والجامع في الآية بين الجوع والعريّ هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعريّ خلو الظاهر وبين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق ، فالظما احتراق الباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهي الصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز :
إن لها لركباً ارزباً . . .
كأنه جبهة ذرى حبا
وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل؟ فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن بعقل امرئ القيس في بيتيه ، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس ، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال ، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصاله بما قبله وهو الترهيب الدال عليه { قل إني أخاف } وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله : { فلا كاشف له إلا هو } مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله : { فهو على كل شيء قدير } دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخير أو غيره ، ولو قيل : إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناً وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره ، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخير فلا راد لفضله ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر ، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله : { فلا كاشف له إلا هو } حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو.

{ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته ، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم بل يفسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى و { فوق } حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنا زائدة ، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا حقيقة في المكان ، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز.
فقال بعضهم : هو فوقهم بالإيجاد والإعدام.
وقال بعضهم : هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم.
وقال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله : { وإنا فوقهم قاهرون } انتهى.
والعرب تستعمل { فوق } إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله : { يد الله فوق أيديهم } وقوله : { وفوق كل ذي علم عليم } وقال النابغة الجعدي :
بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤددا . . .
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
يريد علو الرتبة والمنزلة.
وقال أبو عبد الله الرازي : صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله : { وهو القاهر فوق عباده } إشارة إلى كمال القدرة { وهو الحكيم الخبير } إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهراً فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده ، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود ، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله : { قل اللهم مالك الملك } الآية.
والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم ، لأن { الخبير } إشارة إلى العلم فيلزم التكرار؛ انتهى ، وفيه بعض اختصار وتلخيص.

وقيل : { الحكيم } العالم والخبير } أيضاً العالم ذكره تأكيداً و { فوق } منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده ، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة ، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان ، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال : وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء ، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر.
قال ابن عطية : ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم ، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطاً مطولاً ورددنا عليه.
{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } قال المفسرون : سألت قريش شاهداً على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : أي دليل يشهد بأن الله يشهد لك؟ فقال : هذا القرآن تحديتكم به فعجزتم عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه ، وقال الكلبي : قال رؤساء مكة : يا محمد ما نرى أحداً يصدقك فيما تقول في أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله هذه الآية.
وقيل : سأل المشركون لما نزل { وإن يمسسك الله بضر } الآية فقالوا : من يشهد لك على أن هذا القرآن منزل من عند الله عليك وأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله؟ فقال الله وهذا القرآن المعجز و { أي } استفهام والكلام على أقسام أي وعلة إعرابها مذكور في علم النحو و { شيء } تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة وذكر الخلاف في مدلوله الحقيقي.
وقال الزمخشري : الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم ، ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل شيء لا كالأشياء كأنك قلت معلوم لا كسائر المعلومات ولا يصح جسم لا كالأجسام وأراد { أي شيء أكبر شهادة } فوضع شيئاً مكان { شهيد } ليبالغ في التعميم؛ انتهى.
وقال ابن عطية : وتتضمن هذه الآية أن الله عز وجل يقال عليه شيء كما يقال عليه موجود ولكن ليس كمثله شيء ، وقال غيرهما هنا شيء يقع على القديم والمحدث والجوهر والعرض والمعدوم والموجود ولما كان هذا مقتضاه ، جاز إطلاقه على الله عز وجل واتفق الجمهور على ذلك وخالف الجهم وقال : لا يطلق على الله شيء ويجوز أن يسمى ذاتاً وموجوداً وإنما لم يطلق عليه شيء لقوله

{ خالق كل شيء } فيلزم من إطلاق شيء عليه أن يكون خالقاً لنفسه وهو محال ولقوله : { ولله الأسماء الحسنى } والإسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة كمال ونعت جلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون حاصلاً في أخس الأشياء وأرذلها ، فلا يدل على صفة كمال ولا نعت جلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله به لما لم يكن من الأسماء الحسنى ، ولتناوله المعدوم لقوله { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً } فلا يفيد إطلاق شيء عليه امتياز ذاته على سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة مميزة ، ولا يفيد كونه مطلقاً فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى ولقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } وذات كل شيء مثل نفسه فهذا تصريح بأنه تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثاً باطلاً لا يليق ولا يصار إليه إلا عند الضرورة الشديدة.
وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونه ذاتاً حقيقة وجب أن يصدق كونه شيئاً واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة ، ثم جاء في الجواب { قل الله } وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناس أفضل؟ فقيل : جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس ، وبقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } والمراد بوجهه ذاته والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فدل على أنه يطلق عليه شيء ولجهم أن يقول : هذا استثناء منقطع ، والدليل الأول لم يصرح فيه بالجواب المطابق إذ قوله : { قل الله شهيد بيني وبينكم } مبتدأ وخبر ذي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها من جهة الصناعة الإعرابية بل قوله : { أي شيء أكبر شهادة } هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف ، ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم وانتظم الكلام من حيث المعنى فالجملة ليست جواباً صناعياً وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على { قل الله } ، وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة ثم أضمر مبتدأ يكون { شهيد } خبراً له تقديره هو { شهيد بيني وبينكم } ولا يتعين حمله على هذا ، بل هو مرجوح لكونه أضمر فيه آخراً وأولاً والوجه الذي قبله لا إضمار فيه مع صحة معناه فوجب حمل القرآن على الراجح لا على المرجوح.
وقال ابن عباس : قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا فقل لهم : { الله شهيد بيني وبينكم }.
وقال مجاهد : المعنى أن الله قال لنبيه : قل لهم : { أي شيء أكبر شهادة } وقل لهم الله شهيد بيني وبينكم } أي في تبليغي وكذبكم وكفركم.

وقال ابن عطية : هذه الآية مثل قوله : { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } في أن استفهم على جهة التوقيف والتقرير ، ثم بادر إلى الجواب إذ لا يتصوّر فيه مدافعة كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر في البلد؟ ثم تبادر وتقول : السلطان فهو يحول بيننا ، فتقدير الآية : قل لهم أيّ شيء أكبر شهادة هو شهيد بيني وبينكم ، انتهى.
وليست هذه الآية نظير قوله : { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } لأن لله يتعين أن يكون جواباً وهنا لا يتعين إذ ينعقد من قوله : { قل الله شهيد بيني وبينكم } مبتدأ وخبر وهو الظاهر ، وأيضاً ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقه على الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلق على الله تعالى.
قيل : معنى { أكبر } أعظم وأصح ، لأنه لا يجري فيها الخطأ ولا السهو ولا الكذب.
وقيل : معناها أفضل لأن مراتب الشهادات في التفضيل تتفاوت بمراتب الشاهدين وانتصب { شهادة } على التمييز.
قال ابن عطية : ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل؛ انتهى.
وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يتشبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل ، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع ، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل { أكبر } مشبهاً بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولاً وهذا تخليط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف ، ومعنى { بيني وبينكم } بيننا ولكنه لما أضيف إلى ياء المتكلم لم يكن بد من إعادة بين وهو نظير قوله فأيي ما وأيك كان شرًّا.
وكلاي وكلاك ذهب أن معناه فأينا وكلانا.
{ وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } قرأ الجمهور { وأوحي } مبنياً للمفعول و { القرآن } مرفوع به.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري { وأوحى } مبنياً للفاعل و { القرآن } منصوب به ، والمعنى لأنذركم ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه أو اقتصر على الإنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهاً ، والظاهر وهو قول الجمهور إن { من } في موضع نصب عطفاً على مفعول { لأنذركم } والعائد على { من } ضمير منصوب محذوف وفاعل { بلغ } ضمير يعود على { القرآن } ومن بلغه هو أي { القرآن } والخطاب في { لأنذركم به } لأهل مكة.
وقال مقاتل : ومن بلغه من العرب والعجم.
وقيل : من الثقلين.
وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة ، وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث : « من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره »

وقالت فرقة : الفاعل ب { بلغ } عائد على { من } لا على { القرآن } والمفعول محذوف والتقدير ومن بلغ الحلم ، ويحتمل أن يكون { من } في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في { لأنذركم به } وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن.
{ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } قرئ { إنكم لتشهدون } بصورة الإيجاب فاحتمل أن يكون خبراً محضاً واحتمل الاستفهام على تقدير حذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام ، فقرئ بهمزتين محققتين وبإدخال ألف بينهما وبتسهيل الثانية وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المسهلة ، روى هذه القراءة الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو ونافع ، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإنكار عليهم فإن كان الخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإنهم أصحاب أوثان ، وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة ، كقوله : { مآرب أخرى والأسماء الحسنى } ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى.
{ قل لا أشهد إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } أمره تعالى أن يخبرهم أنه لا يشهد شهادتهم وأمره ثانياً أن يفرد الله تعالى بالإلهية ، وأن يتبرأ من إشراكهم وما أبدع هذا الترتيب أمر أولاً بأن يخبرهم بأنه لا يوافقهم في الشهادة ولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانياً ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى ، ثم أخبر ثالثاً بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتوكيد لما قبله ، ويحتمل أن لا يكون ذلك داخلاً تحت القول ويحتمل وهو الظاهر أن يكون داخلاً تحته فأمر بأن يقول الجملتين ، فظاهر الآية يقتضي أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنها نزلت في قوم من اليهود وأسند إلى ابن عباس قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب ومجزئ بن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره فقال : لا إله إلا الله بذلك أمرت فنزلت الآية فيهم.
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية في هذه السورة من قريب ، وقالوا هنا الضمير في { يعرفونه } عائد على الرسول قاله قتادة والسدي وابن جريج والجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب ، أو على التوحيد وذلك لقرب قوله : { قل إنما هو إله واحد } وفيه استشهاد على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب أو على القرآن قاله فرقة لقوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن }.
وقيل يعود على جميع هذه الأشياء من التوحيد والرسول والقرآن ، كأنه ذكر أشياء ثم قال أهل الكتاب { يعرفونه } أي يعرفون ما قلنا وما قصصنا.
وقيل : يعود على كتابهم أي : يعرفون كتابهم وفيه ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل : يعود على الدين والرسول فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله وأن محمد رسول الله و { الذين آتيناهم الكتاب } هنا لفظه علم ويراد به الخاص ، فإن هذا لا يعرفه ولا يقربه إلا من آمن منهم أو من أنصف و { الكتاب } التوراة والإنجيل ووحد رداً إلى الجنس.
وقيل : { الكتاب } هنا القرآن والضمير في { يعرفونه } عائد عليه ذكره الماوردي.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إن كان المكتوب في التوراة والإنجيل خروج نبي في آخر الزمان فقط ، فلا يتعين أن يكون هو محمداً صلى الله عليه وسلم أو معيناً زمانه ومكانه ونسبه وحليته وشكله ، فيكونون إذ ذاك عالمين به بالضرورة ولا يجوز الكذب على الجمع العظيم ولأنا نعلم بالضرورة أن كتابهم لم يشتمل على هذه التفاصيل التامة وعلى هذين التقديرين ، فكيف يصح أن يقال : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } ، وأجاب بأنهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا شاهدوا ظهور المعجزات على يد الرسول فعرفوا بالمعجزات كونه رسولاً من عند الله ، فالمقصود تشبيه معرفته بمعرفة أبنائهم بهذا القدر الذي ذكرناه؛ انتهى.
ولا يلزم ذلك التقسيم الذي ذكره لأنه لم يقل يعرفونه بالتوراة والإنجيل إنما ذكر { يعرفونه } فجاز أن تكون هذه المعرفة مسندة إلى التوراة والإنجيل من أخبار أنبيائهم ونصوصهم ، فالتفاصيل عندهم من ذلك لا من التوراة والإنجيل فيكون معرفتهم إياه مفصلة واضحة بالأخبار لا بالنظر في المعجزات { كما يعرفون أبناءهم } وأيضاً فلا نسلم له حصر التقسيم فيما ذكره لأنه يحتمل قسماً آخر وهو أن يكون التوراة والإنجيل يدلان على خروج نبي في آخر الزمان ، وعلى بعض أوصافه لا على جميع الأوصاف التي ذكرت من تعيين زمان ومكان ونسب وحلية وشكل ، ويدل على هذا القسم حديث عمر مع عبد الله بن سلام وقوله له : إن الله أنزل على نبيه بمكة إنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام : نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله بها في التوراة؟ فلا أشك فيه وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه ، ومما يدل أيضاً على أن معرفتهم إياه لا يتعين أن يكون مستندها التوراة والإنجيل فقط ، أسئلة عبد الله بن سلام حين اجتمع أول اجتماعه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ فحين أخبره بجواب تلك الأسئلة أسلم للوقت وعرف أنه الرسول الذي نبه عليه في التوراة ، وحديث زيد بن سعنة حين ذكر أنه عرف جميع أوصافه صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يعرف أن حلمه يسبق غضبه فجرب ذلك منه ، فوجد هذه الصفة فأسلم وأعرب { الذين خسروا } مبتدأ والخبر { فهم لا يؤمنون } والذين خسروا } على هذا أعم من أهل الكتاب الجاحدين ومن المشركين ، والخسران الغبن وروي أن لكل عبد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار ، فالخسارة والربح هنا وجوزوا أن يكون { الذين خسروا } نعتاً لقوله : { الذين آتيناهم الكتاب } و { فهم لا يؤمنون } جملة معطوفة على جملة فيكون مساق الذين آتيناهم الكتاب } مساق الذم لا مقام الاستشهاد بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب ، قالوا : لأنه لا يصح أن يستشهد بهم ويذموا في آية واحدة.

وقال ابن عطية : يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه وأن الذم والاستشهاد من جهة واحدة؛ انتهى.
ويكون { الذين خسروا } إذ ذاك ليس عاماً إذ التقدير الذين خسروا أنفسهم منهم أي من أهل الكتاب.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون } تقدم الكلام على { ومن أظلم } والافتراء الاختلاف ، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله.
قال الزمخشري : جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، وقالوا : والله أمرنا بها ، وقالوا : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ونسبوا إليه تحريم السوائب والبحائر وكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول؛ انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا.
وقال ابن عطية : { ممن افترى } اختلق والمكذب بالآيات مفتري كذب ولكنهما من الكفر فلذلك نصا مفسرين؛ انتهى.
ومعنى { لا يفلح الظالمون } لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة ، بل يبقون في الحرمان والخذلان ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم والظالم غير الأظلم وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم؟.
{ ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } قيل : { يوم } معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به قاله ابن عطية وأبو البقاء.
وقيل : لمحذوف متأخر تقديره { ويوم نحشرهم } كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف قاله الزمخشري.
وقيل : العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم.
وقيل : هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم.
وقيل : هو معطوف على ظرف محذوف ، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف والتقدير أنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم قاله الطبري.
وقرأ الجمهور { نحشرهم } { ثم نقول } بالنون فيهما.
وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء.
وقرأ أبو هريرة { نحشرهم } عائد على الذين افتروا على الله الكذب ، أو كذبوا بآياته وجاء { ثم نقول للذين أشركوا } بمعنى ثم نقول لهم ولكنه نبه على الوصف المترتب عليه توبيخهم ويحتمل أن يعود على الناس كلهم وهم مندرجون في هذا العموم ثم تفرد بالتوبيخ المشركون.

وقيل : الضمير عائد على المشركين وأصنامهم ألا ترى إلى قولهم { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله } وعطف ب { بثم } للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف ، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم ، و { أين شركاؤكم } سؤال توبيخ وتقريع وظاهر مدلول { أين شركاؤكم } غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة فكأنهم غيب عنهم وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فيروا مكان خزيهم وحسرتهم ، انتهى.
والمعنى أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء ، وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام ، ولذلك قال ابن عباس : كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وإنما خص القرآن لأنه ينطلق على مجرد الذكر والقول ومنه قول الشاعر :
تقول هلكنا وإن هلكت وإنما . . .
على الله أرزاق العباد كما زعم
وقال ابن عطية : وعلى هذا الحد يقول سيبوية : زعم الخليل ولكن ذلك يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله؛ انتهى.
وحذف مفعولاً { يزعمون } اختصاراً إذ دل ما قبله على حذفهما والتقدير تزعمونهم شركاء ، ويحسن أن يكون التقدير كما قال بعضهم : { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } أنها تشفع لكم عند الله عز وجل.
{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب به كما تقول : فتنت بزيد فعلى هذا يكون المعنى ، ثم لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها ، وفي هذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدّعي مودّة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودّتك لفلان إلا أن عاديته وباينته والمعنى على { ثم لم تكن } بمعنى مودّتهم وإعجابهم بالأصنام إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم ، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا وشرحت أيضاً بالاختبار والمعنى : ثم لم يكن اختبارنا إياهم إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم اختبار لإنكارهم الإشراك وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة ، أي : ثم لم يكن جواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك؛ انتهى ، ملخصاً من كلام ابن عطية مع بعض زيادة.
وقال الزمخشري : { فتنتهم } كفرهم والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا : دين آبائنا إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، ويجوز أن يراد ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمى فتنة لأنه كذب؛ انتهى.

والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج والأول من تفسير الزمخشري لفظه للحسن ، ومعناه لابن عباس والثاني لمحمد بن كعب وغيره.
قال : التقدير ثم لم يكن جوابهم { إلا أن قالوا } وسمي هذا القول فتنة لكونه افتراءً وكذباً.
وقال الضحاك : الفتنة هنا الإنكار أي ثم لم يكن إنكارهم.
وقال قتادة : عذرهم.
وقال أبو العالية : قولهم.
وقال عطاء وأبو عبيدة : بينتهم وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة.
وقيل : حجتهم ، والظاهر أن الضمير عائد على المشركين وأنه عام فيمن أشرك.
وقال الحسن : هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا ، وقيل : هم قوم كانوا مشركين ولم يعلموا أنهم مشركون فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا.
وقرأ الجمهور { ثم لم تكن } وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم ، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص { فتنتهم } بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء ، و { فتنتهم } بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن { فتنتهم } بالياء بالنصب ، لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر ، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا } { وما كان حجتهم إلا أن قالوا } ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر ، والفتنة اسم يكن والخبر { إلا أن قالوا } جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ { ثم لم تكن } بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله ، ومن قرأ { ثم لم تكن } بالتاء { فتنتهم } بالنصب فالأحسن أن يقدر { إلا أن قالوا } مؤنثاً أي { ثم لم تكن فتنتهم } إلا مقالتهم.
وقيل : ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى.
قال أبو علي : وهذا كقوله تعالى : { فله عشر أمثالها } فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى.
وقال الزمخشري : وقرىء { تكن } بالتاء و { فتننتهم } بالنصب وإنما أنث { أن قالوا } لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله : من كانت أمك؛ انتهى.
وتقدم لنا أن الأولى أن يقدر { أن قالوا } بمؤنث أي إلا مقالتهم.
وكذا قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم ، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من ، لأن من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر نحو

{ ومنهم من يستمعون إليك } ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان.
ومن تقنت في قراءة التاء فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة كانت أمك.
وقرأ الأخوان { والله ربنا } بنصب الباء على النداء أي يا ربنا ، وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت ، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان.
وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين والله ربنا برفع الاسمين.
قال ابن عطية : وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا : { ما كنا مشركين } { والله ربنا } ومعنى { ما كنا مشركين } جحدوا إشراكهم في الدنيا ، روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان وهذا الذي روي مخالف لظاهر الآية ، وهو { ويوم نحشرهم جميعاً } ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذا التراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار وإقامتهم فيها ما شاء الله وإخراجهم منها ، ثم بعد ذلك كله يقال لهم أين شركاؤكم؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : { والله ربنا ما كنا مشركين } وفي أخرى { ولا يكتمون الله حديثاً } فقال ابن عباس : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا : تعالوا فلنجحد وقالوا : { ما كنا مشركين } فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً.
{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم } الخطاب للرسول عليه السلام والنظر قلبي و { كيف } منصوب ب { كذبوا } والجملة في موضع نصب بالنظر لأن { انظر } معلقة و { كذبوا } ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد.
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته.
( قلت ) : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً ، ألا تراهم يقولون { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم ، وأما قول من يقول معناه و { ما كنا مشركين } عند أنفسنا أو ما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : انظر كيف كذبوا على أنفسهم } يعني في الدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا بمنطبقٍ عليه ، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله : { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ، ألا إنهم هم الكاذبون }

بعد قوله : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا؛ انتهى.
وقول الزمخشري.
وأما قول من يقول فهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوا بأشياء تؤول إلى مسألة القبح والحسن ، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسيره فتطالع هناك ، إذ مسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين ، يقولون : إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلك وقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة.
{ وضل عنهم ما كانوا يفترون } يحتمل أن تكون { ما } مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال : معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء.
وقيل : من اليمين الفاجرة في الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم ، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري.
قال : وغاب { عنهم ما كانوا يفترون } ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا : لم يغن عنهم شيئاً ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا.
وقيل : هو قولهم ما كنا { نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فذهب عنهم حيث علموا أن لا تقريب منهم ، ويحتمل أن يكون { وضل } عطف على كذبوا فيدخل في خبر { انظر } ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه.
{ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً }.
روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبياً استمعوا للرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال : ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدث قريشاً فيستمعون له فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقاً.
فقال أبو جهل : كلا لا تقر بشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا ، فنزلت والضمير في { ومنهم } عائد على الذين أشركوا ، ووحد الضمير في { يستمع } حملاً على لفظ { من } وجمعه في { على قلوبهم } حملاً على معناها والجملة من قوله : { وجعلنا } معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا.
وقيل : الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة ، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى ، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق ، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت ، فلما تقدّمت صارت حالاً والأكنة جمع كنان كعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع.

قال الشاعر :
إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة . . .
حسبت بروق الغيث هاجت غيومها
و { أن يفقهوه } في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه.
وقيل : المعنى أن { لا يفقهوه } وتقدّم نظير هذين التقديرين.
وقرأ طلحة بن مصرّف { وقرأ } بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن { آذانهم } وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل ، والظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس ، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله ، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعه ألا تراهم قالوا : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } فلما لم يتدبروا ولم يصغوا كانوا بمنزلة من على قلبه غطاء وفي أذنه وقر.
وقال قوم : ذلك حقيقة وهو لا يشعر به كمداخلة الشيطان باطن الإنسان وهو لا يشعر به ، ونحا الجبائي في فهم هذه الأية منحى آخر غير هذا فقال : كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله : { وفي آذانهم وقراً }.
وقيل : إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون ، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان.
وقيل : لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى.
وقيل : لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه ، فيقول : { وجعلنا على قلوبهم أكنة }.
وقيل : يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا : قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة ، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال : الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله : { وجعلنا } للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه ، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم { وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } انتهى.
وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة ، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين.
قال ابن عطية : وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.

{ وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن { في آذانهم وقراً } انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع ، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفاً والماء الملح عذباً وتصيير الطعام القليل كثيراً وما أشبه ذلك.
وقال ابن عباس : { كل آية } كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة؛ انتهى.
ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه ، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه.
{ حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأوّلين } { يجادلونك } أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة ، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من { أساطير الأولين } قدح في أنه كلام الله.
قيل : كان النضر يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم.
وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؛ انتهى.
وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن ، والمعنى أنهم في الاحتجاج؛ انتهى.
أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل ، ومجيء الجملة الشرطية ب { إذا } بعد { حتى } كثير جدًّا في القرآن ، وأوّل ما وقعت فيه قوله : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة لإذا ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط { حتى } التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيداً ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوباً و { حتى } إذا وقعت بعدها { إذا } يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا { جاؤوك يجادلونك } يقول أو يكون التقدير { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن يقولوا : { إن هذا إلا أساطير الأولين } في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط ، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى { حتى إذا } وتركيب { حتى إذا } لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال : أقتلت ، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام ، نحو قوله :

{ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً } التقدير فأتوه بها ووضعها بين الصدقين { حتى إذا } ساوى بينهما قال : انفخوا فنفخه { حتى إذا جعله ناراً } بأمره وإذنه قال آتوني أفرغ ولهذا قال الفراء { حتى إذا } لا بد أن يتقدمها كلام لفظاً أو تقديراً ، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتى مستوفاة ودخولها على الشرط ، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب غيرهما.
وقال الزمخشري : هنا هي { حتى } التي تقع بعدها الجمل والجملة قوله : { إذا جاؤوك } { يقول الذين كفروا } و { يجادلونك } في موضع الحال؛ انتهى.
وهذا موافق لما ذكرناه ، ثم قال : ويجوز أن تكون الجارة ويكون { إذا جاؤوك } في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و { يجادلونك } حال وقوله : { يقول الذين كفروا } تفسير والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات ، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : { إن هذا إلا أساطير الأولين } فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب وهي الغاية في التكذيب؛ انتهى.
وما جوّزه الزمخشري في { إذا } بعد { حتى } من كونها مجرورة أوجبه ابن مالك في التسهيل ، فزعم أن { إذا } تجر ب { بحتى }.
قال في التسهيل : وقد تفارقها ، يعني { إذا } الظرفية مفعولاً بها ومجرورة ب { بحتى } أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجويزه أن تكون { إذا } مجرورة ب { بحتى } ، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر قولاً غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل ، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك فقال هنا أبو البقاء { حتى إذا } في موضع نصب لجوابها وهو { يقول } وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية ، كما لا تعمل في الجمل و { يجادلونك } حال من ضمير الفاعل في { جاؤوك } وهو العامل في الحال ، يقول جواب { إذا } وهو العامل في إذا؛ انتهى.
{ وهم ينهون عنه وينأون عنه } روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب ، كان ينهى المشركين أن يؤذوا الرسول وأتباعه وكانوا يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم . . .
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة . . .
وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح . . .
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً لا محالة أنه . . .
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة . . .
لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك : نزلت في كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول ويتباعدون بأنفسهم عنه ، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي ، والظاهر أن الضمير في قوله : { وهم } يعود على الكفار وهو قول الجمهور ، واختاره الطبري وفي قوله : { عنه } يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في { يفقهوه } وهو المشار إليه بقولهم { إن هذا } وهو قول قتادة ومجاهد ، والمعنى أنهم { ينهون } غيرهم عن اتباع القرآن وتدبر و { ينأون } بأنفسهم عن ذلك.

وقيل : الضمير في { عنه } عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله : { ومنهم من يستمع إليك وحتى إذا جاؤوك يجادلونك } فيكون ذلك التفاتاً وهو خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير في { وهم } عائد على الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا ، وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول.
وقيل : الضمير في { وهم } عائد على أبي طالب ومن وافقه على حماية الرسول والضمير في { عنه } عائد على الرسول ، والمعنى { وهم ينهون عنه } من يريد إذايته ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه ، وهو قول ابن عباس وأيضاً والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ { وهم } الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عن بعضهم ، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايته ويتباعدون عن اتباعه وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم سراق ومنهم زناة ومنهم شربة خمر ، هؤلاء سراق وزناة وشربة خمر وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا وبعضهم ذا وكان المعنى ومنهم من يستمع ومنهم من ينهى عن إذايته ويبعد عن هدايته وفي قوله : { ينهون وينأون } تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالها { وينأون } انفردت بالهمزة ومنه { وهم يحسبون أنهم يحسنون } ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير ، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحريف وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين.
وأنشد عليه :
إن لم أشن على ابن هند غارة . . .
لنهاب مال أو ذهاب نفوس
وذكر غيره أن تجنيس التحريف ، هو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين كقول بعض العرب : وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم.
وقال بعض العرب : اللهي تفتح اللهى.
وقرأ الحسن وينون بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون وهو تسهيل قياسي.
{ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } قبل هذا محذوف تقديره { وهم ينهون عنه وينأون عنه } أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم ، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار { وإن } نافية بمعنى ما ونفي الشعور عنهم بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة لأنه أبلغ في نفي العلم إذ البهائم تشعر وتحس فوبال ما راموا حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم.

{ ولو ترى إذ وقفوا على النار } لما ذكر تعالى حديث البعث في قوله { ويوم نحشرهم } واستطرد من ذلك إلى شيء من أوصافهم الذميمة في الدنيا ، عاد إلى الأول وجواب { لو } محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً شنيعاً وهولاً عظيماً وحذف جواب { لو } لدلالة الكلام عليه جائز فصيح ومنه { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } الآية.
وقول الشاعر :
وجدّك لو شيء أتانا رسوله . . .
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه و { ترى } مضارع معناه الماضي أي : ولو رأيت فإذ باقية على كونها ظرفاً ماضياً معمولاً لترى وأبرز هذا في صورة المضي وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي ، والظاهر أن الرؤية هنا بصرية وجوزوا أن تكون من رؤية القلب والمعنى ولو صرفت فكرك الصحيح إلى تدبر حالهم لازددت يقيناً أنهم يكونون يوم القيامة على أسوإ حال ، فيجتمع للمخاطب في هذه الحالة الخبر الصدق الصريح والنظر الصحيح وهما مدركان من مدارك العلم اليقين والمخاطب ب { ترى } الرسول أو السامع ، ومعمول { ترى } محذوف تقديره { ولو ترى } حالهم { إذ } وقفوا.
وقيل : { ترى } باقية على الاستقبال و { إذ } معناه إذا فهو ظرف مستقبل فتكون { لو } هنا استعملت استعمال أن الشرطية ، وألجأ من ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد.
وقرأ الجمهور وقفوا مبنياً للمفعول ومعناه عند الجمهور حبسوا على النار.
وقال ابن السائب : معناه أجلسوا عليها و { على } بمعنى في أو تكون على بابها ومعنى جلوسهم ، أن جهنم طبقات فإذا كانوا في طبقة كانت النار تحتهم في الطبقة الأخرى.
وقال مقاتل : عرضوا عليها ومن عرض على شيء فقد وقف عليه.
وقيل : عاينوها ومن عاين شيئاً وقف عليه.
وقيل : عرفوا مقدار عذابها كقولهم : وقفت على ما عند فلان أي فهمته وتبينته واختاره الزجاج.
وقيل : جعلوا وقفاً عليها كالوقوف المؤبدة على سبلها ذكره الماوردي.
وقيل : وقفوا بقربها وفي الحديث : « أن الناس يوقفون على متن جهنم ».
وقال الطبري : أدخلوها ووقف في هذه القراءة متعدية.
وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي { وقفوا } مبنياً للفاعل من وقف اللازمة ومصدر هذه الوقوف ومصدر تلك الوقف ، وقد سمع في المتعدية أوقف وهي لغة قليلة ولم يحفظها أبو عمرو بن العلاء قال : لم سمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له : ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً؛ انتهى.
وإنما ذهب أبو عمرو إلى حسن هذا لأنه مقيس في كل فعل لازم أن يعدى بالهمزة ، نحو ضحك زيد وأضحكته.
{ فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } قرأ ابن عامر وحمزة وحفص { ولا نكذب } { ونكون } بالنصب فيهما وهذا النصب عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة ، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير { يا ليتنا } يكون لنا رد وانتفاء تكذيب وكون { من المؤمنين } وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري { ولا نكذب ونكون } بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن { من المؤمنين } انتهى ، وليس كما ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب ، لأن الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية ، ويميزها من الفاء ، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب.

وقال سيبويه : والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله.
لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان وتقول : لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصاً.
وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط ، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها لا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون من المؤمنين.
قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر { ولا نكذب } بالرفع { ونكون } بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم؛ انتهى.
وكان قد قدم أن رفع { ولا نكذب ونكون } في قراءة باقي السبعة على وجهين أحدهما : العطف على { نرد } فيكونان داخلين في التمني.
والثاني الاستئناف والقطع ، فهذان الوجهان يسوغان في رفع { ولا نكذب } على هذه القراءة وفي مصحف عبد الله فلا نكذب بالفاء وفي قراءة أبي فلا { نكذب بآيات ربنا أبداً ونكون }.
وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن { نكون من المؤمنين } وجوزوا في رفع { ولا نكذب ونكون } أن يكون في موضع نصب على الحال فتلخص في الرّفع ثلاثة أوجه.
أحدها : أن يكون معطوفاً على { نرد } فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلين في التمني أي وليتنا لا نكذب ، وليتنا نكون من المؤمنين ، ويكون هذا الرفع مساوياً في هذا الوجه للنصب لأن في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه ، ففي النصب على مصدر من الرد متوهم وفي الرّفع على نفس الفعل.

( فإن قلت ) : التمني إنشاء والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب فكيف جاء قوله { وإنهم لكاذبون } وظاهره أن الله أكذبهم في تمنيهم فالجواب من وجهين : أحدهما أن يكون قوله { وإنهم لكاذبون } إخباراً من الله أن سجية هؤلاء الكفار هي الكذب ، فيكون ذلك حكاية وإخباراً عن حالهم في الدّنيا لا تعلق به بمتعلق التمني.
والوجه الثاني : أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة فإذا كانت سجية الإنسان شيئاً ثم تمنى ما يخالف السجية وما هو بعيد أن يقع منها ، صح أن يكذب على تجوز نحو ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر فإذا رزقه الله مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب وكان تمنيه في حكم من قال : إن رزقني الله مالاً كافأتك على إحسانك ، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات : ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل ، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لفعل الخير ولا يصلح لك.
والثاني من وجوه الرّفع أن يكون رفع { ولا نكذب ونكون } على الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجاً تحت القول أي قالوا : يا ليتنا نرد وقالوا : نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال.
فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله : دعني ولا أعود ، بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني.
والثالث من وجوه الرّفع : أن يكون { ولا نكذب ونكون } في موضع نصب على الحال ، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيكون داخلاً قيداً في الرد المتمني وصاحب الحال هو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله { وإنهم لكاذبون } بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب { ولا نكذب ونكون } إذا كانا معطوفين على نرد.
وحكي أن بعض القراء قرأ { ولا نكذب } بالنصب { ونكون } بالرفع فالنصب عطف على مصدر متوهم والرفع في { ونكون } عطف على { نرد } أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف فيه الحال لأنه مضارع مثبت فلا يكون حالاً بالواو إلا على تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت ، وأرهنهم مالكاً وأنا أرهنهم مالكاً والظاهر أنهم تمنوا الرّد من الآخرة إلى الدنيا.
وحكى الطبري تأويلاً في الرّد وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النار إلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها فالمعنى : يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين ، قال : ويضعف هذا التأويل من غير وجه ويبطله ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولا يصح أيضاً التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى ، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات؛ انتهى.

وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال : فإن قيل كيف يتمنون الرّد مع علمهم بتعذر حصوله ، وأجاب بقوله : قلنا لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل ، والثاني : أن العلم بعدم الرد لا يمنع من الإرادة كقوله : { يريدون أن يخرجوا من النار } { وأن أفيضوا علينا من الماء } انتهى.
ولا يرد هذا السؤال لأن التمني يكون في الممكن والممتنع بخلاف الترجّي فإنه لا يكون إلا في الممكن ، فورد التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب ، والأصح أن { يا } في قوله { يا ليت } حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذف متعلقة رأساً وذلك إجحاف كثير.
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } { بل } هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق ، وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان ما بعدها من إخبار الله تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم ، تكون { بل } فيه للإضراب كقوله { بل افتراه بل هو شاعر } ومعنى { بدا } ظهر.
وقال الزجاج : { بل } هنا استدراك وإيجاب نفي كقولهم : ما قام زيد بل قام عمرو؛ انتهى.
ولا أدري ما النفي الذي سبق حتى توجبه { بل }.
وقال غيره : { بل } رد لما تمنوه أي ليس الأمر على ما قالوه؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة في الإيمان بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة؛ انتهى.
ولا أدري ما هذا الكلام ، والظاهر أن الضمير في { لهم } عائد على من عاد عليه في وقفوا.
قال أبو روق : وهم جميع الكافرين يجمعهم الله ويقول { أين شركاؤكم } الآية فيقولون { والله ربنا } الآية ، فتنطق جوارحهم وتشهد بأنهم كانوا يشركون في الدنيا وبما كتموا ، فذلك قوله { بل بدا لهم } فعلى هذا يكون من قبل راجعاً إلى الآخرة أي من قبل بدوه في الآخرة.
وقال قتادة : يظهر { ما كانوا يخفون } من شركهم.
وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى ، وذلك أنهم لو سئلوا في الدّنيا هل تعاقبون على ما أنتم عليه؟ قالوا : لا ثم ظهر لهم عقوبة شركهم في الآخرة فذلك قوله { بل بدا لهم }.
وقيل : كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمر البعث بقولهم : { ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما نحن بمبعوثين بعد الموت } وقيل : المنافقون كانوا يخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة.
وقيل : الكفار الذين كانوا إذا وعظهم الرسول خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بهم أتباعهم فيظهر ذلك لهم يوم القيامة.
وقيل : اليهود والنصارى وسائر الكفار ويكون الذي يخفونه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحواله والمعنى بدا لهم صدقك في النبوّة وتحذيرك من عقاب الله ، وهذه الأقوال على أن الضمير في { لهم } و { يخفون } عائد على جنس واحد.

وقيل : الضمير مختلف أي بدا للاتباع ما كان الرؤساء يخفونه عنهم من الفساد ، وروي عن الحسن نحو هذا.
وقيل : بدا لمشركي العرب ما كان أهل الكتاب يخفونه عنهم من البعث ، وأمر النار لأنه سبق ذكر أهل الكتاب في قوله { الذين آتيناهم الكتاب } يعرفونه.
وقيل : { بل بدا لهم } أي لبعضهم ما كان يخفيه عنه بعضهم ، فأطلق كلاًّ على بعض مجازاً.
وقال الزهراوي : ويصح أن يكون مقصود الآية الإخبار عن هول يوم القيامة فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها ، فكيف الظنّ على هذا بما كانوا يعلنون به من كفر ونحوه ، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة { يوم تبلى السرائر } وقال الزمخشري : { ما كانوا يخفون } من الناس من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وشهادة جوارحهم عليهم ، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا؛ انتهى.
{ ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه } أي { ولو ردّوا } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد ، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر.
قال الزمخشري : والمعاصي؛ انتهى.
فأدرج الفساق الذين لم يتوبوا في الموقوفين على النار المتمنين الردّ على مذهبه الاعتزالي وهذه الجملة إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يؤخذ وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه ، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه.
قال ابن القشيري : { لعادوا لما نهوا عنه } من الشرك لعلم الله فيهم وأرادته أن لا يؤمنوا في الدنيا ، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند.
وقال الواحدي : هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم ، وذلك أنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألوا الرجعة وردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك وذلك للقضاء السابق فيهم ، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد؛ انتهى.
وأورد هنا سؤال وأظنه للمعتزلة وهو كيف يمكن أن يقال ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر بالله وإلى معصيته وقد عرفوا الله بالضرورة وشاهدوا أنواع العقاب؟ وأجاب القاضي : بأن التقدير ولو ردّوا إلى حالة التكليف وإنما يحصل الردّ إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ومشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمراً في الآية لا محالة ، وضعف جواب القاضي بأن المقصود من الآية غلوهم في الإصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ، ولو قدرنا عدم معرفة الله في القيامة وعدم مشاهدة الأهوال يوم القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم مزيد تعجب ، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا ، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة؛ انتهى.

وإنما المعنى { ولو ردّوا } وقد عرفوا الله بالضرورة وعاينوا العذاب وهم مستحضرون ، ذلك ذاكرون له { لعادوا لما نهوا عنه } من الكفر.
وقرأ ابراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش { ولو ردوا } بكسر الراء على نقل حركة الدال من ردد إلى الراء.
{ وإنهم لكاذبون } تقدم الكلام على هذه الجملة وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني من الوعد بالإيمان أو ذلك إخبار من الله تعالى عن عادتهم وديدنهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك منقطعاً عما قبله من الكلام.
{ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } قال الزمخشري : { وقالوا } عطف على { لعادوا } أي لو ردوا لكفروا ولقالوا { إن هي إلا حياتنا الدنيا } كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، ويجوز أن يعطف على قوله { وإنهم لكاذبون } على معنى وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء ، وهم الذين { قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } وكفى به دليلاً على كذبهم؛ انتهى.
والقول الأول الذي قدّمه من كونه داخلاً في جواب لو هو قول ابن زيد.
وقال ابن عطية : وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله { أليس هذا بالحق } رد على هذا التأويل؛ انتهى.
ولا يرده ما ذكره ابن عطية لاختلاف الموطنين لأن إقرارهم بحقية البعث هو في الآخرة ، وإنكارهم ذلك هو في الدنيا على تقدير عودهم وهو إنكار عناد فإقرارهم به في الآخرة لا ينافي إنكارهم له في الدنيا على تقدير العود ، ألا ترى إلى قوله { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } وقول أبي جهل.
وقد علم أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ما معناه أنه لا يؤمن به أبداً هذا وذلك في موطن واحد وهي الدنيا ، والقول الثاني الذي ذكره الزمخشري هو قول الجمهور وهو أن يكون قوله { وإنهم لكاذبون } كلاماً منقطعاً عما قبله ، وقالوا : إخبار عن ما صدر منهم في حالة الدنيا.
قال مقاتل : لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث قالوا : هذا ومعنى الآية إنكار الحشر والمعاد وبين في هذه الآية أن الذي كانوا يخفونه هو الحشر ، والمعاد على بعض أقوال المفسرين المتقدمة وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر ، أي لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، هكذا قال بعض أصحابنا إنه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمير المجرور برب نحو ربه رجلاً أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين ، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال : أو جعل خبره ومثله بقوله : { إن هي إلا حياتنا الدنيا } التقدير إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلافا لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله : { حياتنا } ولم يؤت بها على أنها صفة تزيل اشتراكاً عارضاً في معرفة لأنهم لا يقرون بأن ثم حياة غير دنيا ، بل ذلك وصف على سبيل التوكيد إذ لا حياة عندهم إلا هذه الحياة.

{ وما نحن بمبعوثين } لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق ، وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث.
{ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا } جواب { لو } محذوف كما حذف في قوله { ولو ترى } أولاً وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما توقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه وقد تعلق بعض المشبهة بهذه الآية ، وقال : ظاهرها يدل على أن الله في حيز ومكان لأن أهل القيامة يقفون عنده وبالقرب منه ، وذلك يدل على كونه بحيث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه أخرى.
قال أبو عبد الله الرازي : وهذا خطأ لأن ظاهر الآية يدل على كونهم واقفين على الله كما يقف أحدنا على الأرض ، وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وأنه باطل بالاتفاق فوجب المصير إلى التأويل ، فيكون المراد وقفوا على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبر به من أمر الآخرة ، أو يكون المراد وقوف المعرفة؛ انتهى.
وهذان التأويلان ذكرهما الزمخشري.
وقال ابن عطية : على حكمه وأمره؛ انتهى.
وقيل : على مسألة ربهم إياهم عن أعمالهم.
وقيل : المسألة ملائكة ربهم.
وقيل : على حساب ربهم قال : { أليس هذا بالحق } الظاهر أن الفاعل بقال هو الله فيكون السؤال منه تعالى لهم.
وقيل : السؤال من الملائكة ، فكأنه عائد على من وقفهم على الله من الملائكة أي قال : ومن وقفهم من الملائكة.
وقال الزمخشري قال : مردود على من قول قائل قال ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : { أليس هذا بالحق } وهذا تعيير من الله لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء ما هو بحق وما هو إلا باطل؛ انتهى.

ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير { إذ وقفوا على ربهم } قائلاً لهم { أليس هذا بالحق } والإشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته.
وقال أبو الفرج بن الجوزي : أليس هذا العذاب بالحق وكأنه لاحظ قوله قال : { فذوقوا العذاب } { قالوا بلى وربنا } تقدم الكلام على { بلى } وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم { وربنا } وهو إقرار بالإيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم { وربنا } صدر الآية في { وقفوا على ربهم } وفي ذكر الرب تذكار لهم في أنه كان يربيهم ويصلح حالهم ، إذا كان سيدهم وهم عبيده ، لكنهم عصوه وخالفوا أمره.
{ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث.
وقيل : متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب والذوق في العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي أشد المباشرات.
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري لبعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيهاً بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سبباً لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سبباً لنجاته ، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله ، ومعنى { بلقاء الله } بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها و { حتى } غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم ، لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم { يا حسرتنا } وقت مجيء الساعة ، وتقدم الكلام على { حتى إذا } في قوله : { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } ومعنى { بلقاء الله } بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير « لقي الله وهو عليه غضبان » ، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا ، وقال : اللقاء حقيقة و { الساعة } يوم القيامة سمّى ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله : { أسرع الحاسبين } قال ابن عطية : وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرك لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها ، وأيضاً فقد تضمنها قوله { بلقاء الله } انتهى.
ثم غلب استعمال { الساعة } على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا.
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : إنما يتحسرون عند موتهم ( قلت ) : لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها ، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من مات فقد قامت قيامته ».
وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فتره؛ انتهى.
وإطلاق { الساعة } على وقت الموت مجاز ، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة ، بل الظاهر ذلك لقوله : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } إذ هذا حال من قولهم : { قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } وهي حال مقارنة ، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالاً مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل ، فيكون التكذيب متصلاً بهم مغياً بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم طريقة يوم واحد ، كما قال تعالى :

{ إن لبثتم إلا يوماً } فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عياناً فقالوا { يا حسرتنا }
وجوزوا في انتصاب { بغتة } أن يكون مصدراً في موضع الحال من { الساعة } أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة ، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم.
قال سيبويه : وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم : يا جمل ، و { فرطنا } قصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه ، والضمير في { فيها } عائد على { الساعة } أي في التقدمة لها قاله الحسن ، أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري.
وقال الزمخشري : الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول : فرطت في فلان ومنه { فرطت في جنب الله } انتهى.
وكونه عائداً على الدنيا وهو قول ابن عباس ، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالاً فقال : يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا ، إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار؛ انتهى ، وعوده على { الساعة } قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها.
وقيل : يعود الضمير على { ما } وهي موصول وعاد على لمعنى أي { يا حسرتنا } على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها ، وما في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم ، والظاهر عوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا.
{ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس ، والظاهر أن هذا الحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانئ وعمرو بن قيس الملائي والسدي واختاره الطبري ، وما ذكره محصوله أن عمله يمثل في صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول : أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبه ويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى واللفظ مختلف.

وقيل : هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه ، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله : { فبما كسبت أيديكم } لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في { وهم } واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالباً موضع اعتياد الحمل ولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل ، كما قال { فلمسوه بأيديهم } لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك.
{ ألا ساء ما يزرون } { ساء } هنا تحتمل وجوهاً ثلاثة.
أحدها : أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون ، وتحتمل { ما } على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي ، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم.
والوجه الثاني : أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما.
والثالث : أنها أيضاً حوّلت إلى فعل بضم العين ، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام ، ويكون إطلاق الذي سبق في { ما } في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } جارياً فيها هنا ، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ وخبر ، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر ، وإن الكلام فيه خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب بئس فقط فقال : { ساء ما يزرون } بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله : { ساء مثلاً القوم } وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن { ساء } متعدية و { ما } فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد.
قال كقول الشاعر :
رضيت خطة خسف غير طائلة . . .
فساء هذا رضا يا قيس عيلانا
ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد؛ بل يحتمل قوله : فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة وافتتحت هذه الجملة ب { إِلا } تنبيهاً وإشارة لسوء مرتكبهم فألا تدل على الإشارة بما يأتي بعدها كقوله : ألا فليبلغ الشاهد الغائب

{ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } ألا لا يجهلن أحد علينا.
{ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } لما ذكر قولهم وقالوا : { إن هي إلا حياتنا الدنيا } ذكر مصيرها وإن منتهى أمرها أنها فانية منقضية عن قريب ، فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما كما أنها لا طائل لها ، فاللهو واللعب اشتغال بما لا غنى به ولا منفعة كذلك هي الدنيا بخلاف الاشتغال بأعمال الآخرة فإنها التي تعقب المنافع والخيرات.
وقال الحسن : في الكلام حذف التقدير وما أهل الحياة إلا أهل لعب ولهو.
وقيل : التقدير وما أعمال الحياة.
وقال ابن عباس : هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل ، وأما حياة المؤمن فتطوى على أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً وفي الحديث : « ما أنا من الدد ولا الدد مني » والدد اللعب واللعب واللهو قيل : هما بمعنى واحد وكرر تأكيداً لذم الدنيا.
وقال الرماني : اللعب عمل يشغل عما ينتفع به إلى ما لا ينتفع به ، واللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل يقال : لهيت عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي ، فقال هذا : فيه ضعف وبعد لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم : لهيان ولام الأول واو؛ انتهى.
وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات الواو تنقلب فيه الواو ياء كما تقول : شقي فلان وهو من الشقوة فكذلك لهي ، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها فقالوا : لهي كما قالوا : حلى بعيني وهو من الحلو وأما استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأن التثنية هي كالفعل تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في المفرد في قولهم : له اسم فاعل من لهي كما قالوا : شج وهو من الشجو ، وقالوا في تثنيته : شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من هذا في المفردات.
وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على الإضافة ، وقالوا : هو كقولهم : مسجد الجامع فقيل هو من إضافة الموصوف إلى صفته.
وقال الفراء : هي إضافة الشيء إلى نفسه كقولك : بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين ، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين؛ انتهى.
وقيل : من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي ولدار الحياة الآخرة ، ويدل عليه وما الحياة الدنيا وهذا قول البصريين ، وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل كقوله { وإن لنا للآخرة والأولى } وقوله { وللآخرة خير لك من الأولى } وقرأ باقي السبعة { وللدار الآخرة } بتعريف الدار بأل ورفع { الآخرة } نعتاً لها و { خير } هنا أفعل التفضيل وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبراً والتقدير من الحياة الدنيا ، وقيل : { خير } هنا ليست للتفضيل وإنما هي كقوله :

{ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } إذ لا اشتراك بين المؤمن والكافر في أصل الخير ، فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن.
والدار الآخرة قال ابن عباس : هي الجنة.
وقيل ذلك مجاز عبر به عن الإقامة في النعيم كما قال الشاعر :
لله أيام نجد والنعيم بها . . .
قد كان داراً لنا أكرم به دارا
ومعنى الذين يتقون يتقون الشرك لأن المؤمن الفاسق ولو قدرنا دخوله النار فإنه بعد يدخل الجنة فتصير الدار الآخرة خيراً له من دار الدنيا ، وذكر عن ابن عباس خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال في المنتخب نحوه قال : بين الله تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين المعاصي والكبائر ، فأما الكافرون والفاسقون فلا لأن الدنيا بالنسبة إليهم خير من الآخرة؛ انتهى ، وهو أشبه بكلام المعتزلة.
وقال الزمخشري : وقوله : { للذين يتقون } دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لهو ولعب ، انتهى.
وقد أبدى الفخر الرازي الخيرية هنا فقال : خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة ، وبيانه أن خيرات لدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة ، بدليل مشاركة الحيوانات الخسيسة في ذلك وزيادة بعضها على الإنسان في ذلك كالجمل في كثرة الأكل والديك في كثرة الوقاع والذئب في القوة على الفساد ، والتمزيق والعقرب في قوّة الإيلام وبدليل أن الإكثار من ذلك لا يوجب شرفاً بل المكثر من ذلك ممقوت مستقذر مستحقر يوصف بأنه بهيمة ، وبدليل عدم الافتخار بهذه الأحوال بل العقلاء يخفونها ويختفون عند فعالها ويكنون عنها ولا يصرّحون بها إلا عند الشتم بها ، وبأن حقيقة اللذات دفع آلام وبسرعة انقضائها فثبت بهذه الوجوه خساسة هذه اللذات ، وأما السعادات الروحانية فسعادات عالية شريفة باقية مقدسة وذلك أن جميع الخلق إذا تخيلوا في إنسان كثرة العلم وشدّة الانقباض عن اللذات الجسمانية ، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدّون أنفسهم عبيداً له وأشقياء بالنسبة إليه ، ولو فرضنا تشارك خيرات الدنيا وخيرات الآخرة في التفضيل لكانت خيرات الآخرة أفضل ، لأن الوصول إليها معلوم قطعاً وخيرات الدنيا ليست معلومة بل ولا مظنونة ، فكم من سلطان قاهر بكرة يوم أمسى تحت التراب آخره؛ وكم مصبح أميراً عظيماً أمسى أسيراً حقيراً؟ ولو فرضنا أنه وجد بعد سرور يوم يوماً آخر ، فإنه لا يدري هل ينتفع في ذلك اليوم بما جمع من الأموال والطيبات واللذات؟ بخلاف موجب السعادات الأخروية فإنه يقطع أنه ينتفع بها في الآخرة وهب أنه انتفع بها ، فليس ذلك الانتفاع خالياً من شوائب المكروهات والمحزنات وهب أنه انتفع في الغد فإنها تنقضي ويحزم عند انقضائها ، كما قال الشاعر :
أشدّ الغم عندي في سرور . . .
تيقن عنه صاحبه انتقالا
فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب ، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة ، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية ، وأيضاً ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص { أفلا تعقلون } بالتاء خطاب مواجهة لمن كان بحضرة الرسول من منكري البعث.
وقرأ الباقون بالياء عوداً على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا.
وقيل : أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

{ قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } وقال النقاش : نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السرّ ويقول : نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس ، وقال غيره : روي أن الأخنس بن شريف قال لأبي جهل.
يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له : والله أن محمداً لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت.
{ قد } حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم كقولك : قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضي فالتوقع كان عند السامع ، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذ المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان؛ كقولهم : هو يعطي ويمنع.
وقال الزمخشري والتبريزي : قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله : ولكنه قد يهلك المال نائله؛ انتهى.
وما ذكره من أن قد تأتي للتكثير في الفعل والزيادة قول غير مشهور للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلاً بقول الشاعر :
قد أترك القرن مصفرًّا أنامله . . .
كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصاد
وبقوله :
أخي ثقةٍ لا يتلف الخمر ماله . . .
ولكنه قد يهلك المال نائله
والذي نقوله : إن التكثير لم يفهم من { قَد } وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرم مرّة واحدة ، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك ، في قوله : { قد نعلم } لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير ، وقوله : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته ، والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها ، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي.
قال بعض أصحابنا : فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال : هذا ظاهر قول سيبويه ، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله { قد نعلم إنه ليحزنك } وقوله { لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } وقول الشاعر :
وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّه . . .
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قول :

{ قد نرى تقلب وجهك } انتهى.
وقال مكي : { قد } هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه و { نعلم } بمعنى علمنا.
وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن : كلمة { قَد } تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل؛ انتهى ، نحو قولهم : إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في { إنه } ضمير الشأن ، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبر إن ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفرداً وذلك لا يجوز عند البصريين ، وتقدم الكلام على قراءة من قرأ يحزنك رباعياً وثلاثياً في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فاغني عن إعادته هنا و { الذي يقولون } معناه مما ينافي ما أنت عليه.
قال الحسن : كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون.
وقيل : كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه.
وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال.
وقيل : كان بعض كفار قريش يقول له : رئي من الجن يخبره بما يخبر به.
وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف { يكذبونك }.
وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد.
فقيل : هما بمعنى واحد نحو كثر وأكثر.
وقيل : بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول : كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضاً : أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذباً أو لا ينسبون الكذب إليك ، وعلى معنى التشديد يكون إما خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمراد به بعضهم لأنه معلوم قطعاً أن بعضهم كان يكذبه ، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار فكأنه قيل { لا يكذبونك } تكذيباً يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب.
وقال في المنتخب : لا يراد بقوله : { لا يكذبونك } خصوصية تكذيبه هو ، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً فالمعنى { لا يكذبونك } على التعيين بل يكذبون جميع الأنبياء والرسل.
وقال قتادة والسدي : { لا يكذبونك } بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت.
وقال ناجية بن كعب : لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به.
وقال ابن السائب ومقاتل : { لا يكذبونك } في السر ، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة.
وقال : لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة على بالتخفيف بعضهم ، ولا ترجيح بين المتواترين.
قال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانته عن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى :

{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون ، فكان أبو جهل يقول : ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به؛ انتهى.
وفي الكلام حذف تقديره : فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك ، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على أنّ علة الجحود هي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء ، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون.
وآياته قال السدّي : محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن السائب : محمد والقرآن.
وقال مقاتل : القرآن.
وقال ابن عطية : آيات الله علاماته وشواهد نبيه صلى الله عليه وسلم والجحود إنكار الشيء بعد معرفته وهو ضد الإقرار ، فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقاً فيكون في الجحود تجوز إذ كلهم ليس كفره بعد معرفة ولكنهم لما أنكروا نبوّته وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يقربها ويعلمها وإن كانت نزلت في المعاندين ترتب الجحود حقيقة وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن وهو واقع أيضاً كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق وقصة أمية بن أبي الصلت ، وقوله : ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف ، ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد ، لأن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر ، فامتنع اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا : في قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } أنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم ونحوها.
قال ابن عطية : وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد؛ انتهى.
والتأويلات في نفي التكذيب إنما هو عن اعتقاداتهم إما بالنسبة إلى أقوالهم فأقوالهم مكذبة إما له وإما لما جاء به.
{ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } قال الضحاك وابن جريج : عزى الله تعالى نبيه بهذه الآية فعلى قولهما يكون هو صلى الله عليه وسلم قد كذب وهو مناف لقوله : فإنهم لا يكذبونك وزوال المنافاة بما تقدم من التأويلات كقول الزمخشري وغيره أن قوله : { لا يكذبونك } ليس هو من نفي تكذيبه حقيقة.
قال : وإنما هو من باب قولك لغلامك : ما أهانوك ولكن أهانوني وجاء قوله : { ولقد كذبت رسل من قبلك } تسلية له صلى الله عليه وسلم ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم ، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر ، وما في قوله : { ما كذبوا } مصدرية أي فصبروا على تكذيبهم والمعنى فتأسّ بهم في الصبر على التكذيب والأذى حتى يأتيك النصر والظفر كما أتاهم.

قال ابن عباس : { فصبروا على ما كذبوا } رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار ، حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من يكذبهم؛ انتهى.
ويحتمل { وأوذوا } أن يكون معطوفاً على قوله : { كذبت } ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله { فصبروا } ويبعد أن يكون معطوفاً على { كذبوا } ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم ، وروي عن ابن عامر أنه قرأ وأذوا بغير واو بعد الهمزة جعله ثلاثياً لا رباعياً من أذيت فلاناً لا من آذيت ، وفي قوله : { نصرنا } التفات إذ قبله بآيات الله وبلاغة هذا الالتفات أنه أضاف النصر إلى الضمير المشعر بالعظمة المتنزل فيه الواحد منزلة الجمع والنصر مصدر أضيف إلى الفاعل والمفعول محذوف أي نصرنا إياهم على مكذبيهم ومؤذيهم ، والظاهر أن الغاية هنا الصبر والإيذاء لظاهر عطف { وأوذوا } على { فصبروا } وإن كان معطوفاً على { كذبوا } فتكون الغاية للصبر أو معطوفاً على { كذبت } فغاية له وللتكذيب أو للإيذاء فقط.
{ ولا مبدل لكلمات الله } قال ابن عباس : أي لمواعيد الله ولم يذكر الزمخشري غيره قال : لمواعيده من قوله { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون } وقال الزجاج لما أخبر به وما أمر به والإخبار والأوامر من كلمات الله ، واقتصر ابن عطية على بعض ما قال الزجاج فقال : ولا رادَّ لأوامره.
وقيل : المعنى لحكوماته وأقضيته ، كقوله { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } أي وجب ما قضاه عليهم.
وقيل : المعنى لا يقدر أحد على تبديل كلمات الله وإن زخرف واجتهد ، لأنه تعالى صانه برصين اللفظ وقويم المعنى أن يخلط بكلام أهل الزيغ.
وقيل : اللفظ خبر والمعنى على النهي أي لا يبدل أحد كلمات الله ، فهو كقوله { لا ريب فيه } أي لا يرتابون فيه على أحد الأقوال.
{ ولقد جاءك من نبأ المرسلين } هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجاء.
قال الفارسي : هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين ، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب.
وقيل : معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش ، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبأهم لا أنباؤهم ، لقوله { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } وقال الرماني : فاعل جاءك مضمر تقديره : ولقد جاءك نبأ.
وقال ابن عطية : الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان ، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير : ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي نبأ أو بيان ، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمر تقديره هو ، ويدلّ على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا ، وأن هذا الإخبار هو بعض نبإ المرسلين الذين يتأسى بهم و { من نبإ } في موضع الحال ، وذو الحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه { جاءك } فلا يكون المعنى على هذا ولقد جاءك نبأ أو بيان إلا أن يراد بالنبإ والبيان هذا النبأ السابق أو البيان السابق ، وأما الزمخشري فلم يتعرض لفاعل جاء بل قال : { لقد جاءك من نبأ المرسلين } بعض أنبائهم وقصصهم ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن من لا تكون فاعلة.

{ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية } { كبر } أي عظم وشق إعراضهم عن الإيمان والتصديق بما جئت به ، وهو صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه إعراضهم لكن جاء الشرط معتبراً فيه التبيين والظهور ، وهو مستقبل ، وعطف عليه الشرط الذي لم يقع ، وهو قوله : { فإن استطعت } وليس مقصوداً وحده بالجواب فمجموع الشرطين بتأويل الأول لم يقع بل المجموع مستقبل ، وإن كان ظاهر أحدهما بانفراده واقع ونظيره { إن كان قميصه قد من قبل } { وإن كان قميصه قد من دبر } ومعلوم أنه قد وقع أحدهما ، لكن المعنى أن يتبين ويظهر كونه قدّ من كذا وكذا يتأول ما يجيء من دخول أن الشرطية على صيغة كان على مذهب جمهور النحاة خلافاً لأبي العباس المبرد فإنه زعم إن أن إذا دخلت على كان بقيت على مضيها بلا تأويل والنفق السرب في داخل الأرض الذي يتوارى فيه.
وقرأ نبيج الغنوي أن تبتغي نافقاً في الأرض والنافقاء ممدود وهو أحد مخارج جحر اليربوع وذلك أن اليربوع يخرج من باطن الأرض إلى وجهها ويرق ما واجه الأرض ويجعل للحجر بابين أحدهما النافقاء والآخر القاصعاء ، فإذا رابه أمر من أحدهما دفع ذلك الوجه الذي أرقه من أحدهما وخرج منه.
وقيل : لجحره ثلاثة أبواب ، قال السدي : السلم المصعد.
وقال قتادة : الدرج.
وقال أبو عبيدة : السبب والمرقاة ، تقول العرب : اتخذني سلماً لحاجتك أي سبباً.
ومنه قول كعب بن زهير :
ولا لكما منجى من الأرض فابغيا . . .
به نفقاً أو في السموات سلّما
وقال الزجاج : السلم من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك ، والسلم الذي يصعد عليه ويرتقى وهو مذكر.
وحكى الفراء فيه التأنيث ، قال بعضهم : تأنيثه على معنى المرقاة لا بالوضع كما أنث ، الصوت بمعنى الصيحة والاستغاثة في قوله : سائل بني أسد ما هذه الصوت.
ومعنى الآية قال الزمخشري يعني أنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتي بها رجاء إيمانهم.

وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يود أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم ، فقيل له : إن استطعت كذا فافعل دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا لعلهم يؤمنون؛ انتهى.
والظاهر من قوله { فتأتيهم بآية } أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء ، وأن المعنى : أن تبتغي نفقاً في الأرض فتدخل فيه أو سلّماً في السماء فتصعد عليه إليها { فتأتيهم بآية } غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم ، وتلك الآية من إحدى الجهتين.
وقال ابن عطية : وقوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } إلزام الحجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليهم حتى يتبين أن لا وجه إلا الصبر والمضيّ لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء ، فدونك وشأنك به أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله للناظرين المتأملين إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدى بالنظر فيه قوم بحق ملكه { فلا تكونن من الجاهلين } أي في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه؛ انتهى.
وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون الآية التي يأتي بها هي نفس الفعل.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآية كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الترقي في السماء لعلّ ذلك يكون آية لك يؤمنون بها.
وقال ابن عطية : { فتأتيهم بآية } بعلامة ويريد : إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض وارتقائك في السماء وإما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين؛ انتهى.
وما جوزاه من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض ، وأما الرقي في السماء فيكون آية.
وقيل قوله { أن تبتغي نفقاً في الأرض } إشارة إلى قولهم { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } وقوله : { أو سلّماً في السماء } إشارة إلى قولهم : { أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك } وكان فيها ضمير الشأن ، والجملة المصدرة بكبر عليك إعراضهم في موضع خبر كان وفي ذلك دليل على أن خبر كان وأخواتها يكون ماضياً ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد ، لكثرة ما ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب خلافاً لمن زعم أنه لا بدّ فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافاً لمن حصر ذلك بكان دون أخواتها ، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعاً بكبر كما في القول الأول وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض وهو في موضع الخبر وهي مسألة خلاف ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره فافعل كما تقول : إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره ، أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو المضارع المنفيّ بلم لأنه ماض ، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر.

{ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أي إما يخلق ذلك في قلوبهم أولاً فلا يضل أحد وإما يخلقه فيهم بعد ضلالهم ، ودلّ هذا التعليق على أنه تعالى ما شاء منهم جميعهم الهدى ، بل أراد إبقاء الكافر على كفره.
قال أبو عبد الله الرازي : ويقرر هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان ، فالقدرة على الكفر مستلزمة له غير صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون قد أراد الكفر لا محالة ، وإن كانت صالحة له كما صلحت للكفر استوت نسبة القدرة إليهما فامتنع الترجيح إلا الداعية مرجحة ، وليست من العبد وإلا وقع التسلسل ، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله وثبت أن مجموع الداعية الصالحة توجب الفعل وثبت أن خالق مجموع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر غير مريد لذلك الإيمان ، فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر هذه الآية ، ولا بيان أقوى من تطابق البرهان مع ظاهر القرآن.
وقال ابن عطية : وهذه الآية تردّ على القدرية المفوّضة الذين يقولون : إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وأن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق فيه تعالى الله عن قولهم.
وقال الزمخشري : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } بآية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة؛ انتهى ، وهذا قول المعتزلة.
وقال القاضي : والإلجاء أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه ، وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ، وهو تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم ، فيكون ما وقع منهم كأن لم يقع ، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة به إلى الثواب ، وذلك لا يكون إلا اختياراً ، وأجاب أبو عبد الله الرازي بأنه تعالى أراد منهم الإقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر بالسوية ، أو حال حصول هذا الرجحان ، والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال ، وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع ، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع ، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيارات ، فسقط قولهم بالكلية.

{ فلا تكونن من الجاهلين } تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله تعالى ، وأمضاه ، وعلم المصلحة فيه.
وقال أيضاً : و { من الجاهلين } يحتمل في أن لا تعلم أن الله { لو شاء لجمعهم على الهدى } ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده ، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله ، انتهى.
وضعف الاحتمال الأول بأنّه صلى الله عليه وسلم مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطّلاعه على ما يليق بقدرة الحقّ جلّ جلاله ، واستيلائه على جميع مقدوراته ، لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل بأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى ، لأن هذا من قبيل الدين والعقائد ، فلا يجوز أن يكون جاهلاً بها ، وكأن الزمخشري قد فسر قوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } بأن تأتيهم آية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فقال في قوله : { فلا تكونن من الجاهلين } من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه.
وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان وتقدم الكلام في الإلجاء.
وقيل : لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم ، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله صلى الله عليه وسلم.
وقيل لا تكوننّ ممن لا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين ، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمر الله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر.
وقيل : لا يشتد حزنك لأجل كفرهم فتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره ، وقد صرح بهذا في قوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وقال قوم : جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملاً عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق ما يحمله على الأجانب ، خشية عليه من تخصيص الإذلال.
وقال مكي والمهدوي : الخطاب له والمراد به أمته ، وتمم هذا القول بأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ؛ انتهى.
وقيل : الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف ، ولكن العصمة لا تمنع الامتحان بالأمر والنهي ، أو لأن ضيق صدره وكثرة حزنه من الجبلات البشرية ، وهي لا ترفعها العصمة بدليل : « اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر » الحديث.
وقوله : « إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني » انتهى.
والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول ، وذلك أنه تعالى قال : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } فهذا إخبار وعقد كلّي أنه لا يقع في الوجود إلا ما شاء وقوعه ، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار ، فإنما ذلك للسامع فالخطاب والنهي في { فلا تكونن } للسامع دون الرسول فكأنه قيل : ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود بمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء الله إيقاعه وقع ، وأن الكائنات معذوقة بإرادته.

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

التضرّع : تَفَعُّل من الضراعة وهي الذلة ، يقال : ضرع يضرع ضراعة ، قال الشاعر :
ليبك يزيدَ ضارع لخصومة . . .
ومختبطٌ مما تطيح الطوائح
أي ذليل ضعيف.
صدف عن الشيء أعرض عنه صدفاً وصدوفاً ، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع :
إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه . . .
وهنَّ عن كل سوء يتقى صدف
صدف جمع صدوف ، كصبور وصبر.
وقيل : صدف مال مأخوذ من الصدف في البعير ، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ ، والصدفة واحدة الصدف وهي المحارة التي يكون فيها الدر.
قال الشاعر :
وزادها عجباً أن رحت في سمك . . .
وما درت دورانَ الدرِّ في الصَّدف
الخزانة ما يحفظ فيه الشيء مخافة أن ينال ، ومنه « فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته » وهي بفتح الخاء.
وقال الشاعر :
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه . . .
فليس على شيء سواه بخزّان
الطرد الإبعاد بإهانة والطريد المطرود ، وبنو مطرود وبنو طراد فخذان من إياد.
{ إنما يستجيب الذين يسمعون } إنما يستجيب للإيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء كما قال : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } ويستجيب بمعنى يجيب.
وفرّق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي إليه.
قال : { فاستجاب لهم ربهم } { فاستجبنا له ونجيناه من الغم } وليس كذلك أجاب لأنه قد يجيب بالمخالفة.
قال الزمخشري يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنما يستجيب من يسمع كقوله { إنك لا تسمع الموتى } وقال ابن عطية هذا من النمط المتقدم في التسلية ، أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون.
إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة.
وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا استمع { والموتى يبعثهم الله } الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار من الله تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب ، يبعثهم الله فيجازيهم على أعمالهم وجاء لفظ الموتى عاماً لإشعار ما قبله بالعموم في قوله { إنما يستجيب الذين يسمعون } إذ الحصر يشعر بالقسم الآخر وهو أن من لا يسمع سماع قبول ، لا يستجيب للإيمان وهم الكفار.
وصار في الإخبار عن الجميع بالبعث والرجوع إلى جزاء الله تعالى ، تهديد ووعيد شديد لمن لم يستحب وتظافرت أقوال المفسرين أن قوله والموتى يراد به الكفار.
سموا بالموتى كما سموا بالصمِّ والبكم والعمي وتشبيه الكافر بالميت من حيث إنّ الميت جسده خالٍ عن الروح ، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات.

وأصلح أحواله دفنه تحت التراب.
والكافر روحه خالية عن العقل فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل ، وإذا كانت روحه خالية من العقل كان مجنوناً فأحسن أحواله أن يقيَّد ويحبس.
فالعقل بالنسبة إلى الرّوح كالروح بالنسبة إلى الجسد.
وإذا كان المراد بالموتى هنا الكفار فقيل البعث يراد به حقيقته من الحشر يوم القيامة والرجوع هو رجوعهم إلى سطوته وعقابه ، قاله مجاهد وقتادة.
وعلى هذا تكون هذه الجملة متضمنة الوعيد للكفار.
وقيل الموت والبعث حقيقة والجملة مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة { ثم إليه يرجعون } للجزاء ، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك قاله الزمخشري.
وقيل الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والبعث للإيمان.
فقيل الجملة من قوله { والموتى يبعثهم الله } مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان.
وقيل ليس جملة بل { الموتى } معطوف على { الذين يسمعون } ، و { يبعثهم } الله جملة حالية.
والمعنى إنما يستجيب الذين يسمعون سماع قبول ، فيؤمنون بأول وهلة والكفار حتى يرشدهم الله تعالى ويوفقهم للإيمان ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر.
وقرىء ثم إليه يرجعون بفتح الياء من رجع اللازم.
{ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } قال ابن عباس نزلت في رؤساء قريش سألوا الرسول آية تعنتاً منهم ، وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع انتهى.
والضمير في { وقالوا } عائد على الكفار ، ولولا تحضيض بمعنى هلا.
{ قل إن الله قادر على أن ينزل آية } أي مهما سألتموه من إنزال آية الله قادر على ذلك.
كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التي لم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم تجد عليكم ولا أثرت فيكم ، وقلتم هذا سحر مستمر ولم تعتدوا بما أنزل مع كثرته حتى كأنه لم ينزل شيء من الآيات ، لأن دأبكم العناد في آيات الله.
وقال الزمخشري على أن ينزل آية يضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل على بني إسرائيل أو آية أن يجحدوها جاءهم العذاب.
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وإن صارفاً من الحكمة صرفه عن إنزالها.
وقال ابن عطية { لا يعلمون } أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب ، ويحتمل لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون انتهى.
والذي يظهر { لا يعلمون } نفى عنهم العلم حيث فرقوا بين تعلق القدرة بالآيات التي نزلت وبين تعلقها بالآيات المقترحة وتعلق القدرة بهما سواء لاجتماع المقترح وغير المقترح في الإمكان ، فمن فرق بين المتماثلات ولم يقنع بما ورد منها فهو لا شك جاهل.

{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } قال ابن الأنباري وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله ركب في المشركين عقولاً وجعل لهم أفهاماً ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما جعل للدّواب والطير أفهاماً يعرف بها بعضها إشارة بعض ، وهدى الذَّكر منها لإتيان الأنثى ، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.
وقال ابن عطية : المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف ، وهو لما لها وما عليها مهيمنٌ على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان انتهى.
والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم { لولا نزل عليه آية من ربه } ولم يعتبروا ما نزل من الآيات وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية وهي التي اقترحتموها ونبهوا على جهلهم حيث فرقوا بين آية وآية أخبروا أنهم أنفسهم وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع ، فلا فرق بين خلق من كُلِّف وما لم يكلَّف في تعلق القدرة بهما وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود ، فكأنه قيل القدرة تعلقت بالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها كما تعلقت بخلقكم وخلق سائر الحيوان ، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك؛ ولذلك قال تعالى : { إلا أمم أمثالكم } يعني في تعلق القدرة بإيجادها كتعلقها بإيجادكم.
وكذلك الآيات.
وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردة على أيدي الأنبياء عليهم السلام قد تكون باختراع أعيان ، كالماء الذي نبع من بين الأصابع والطعام الذي تكثر من قليل ، كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى ، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قسوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد ، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات ودابة تقدّم شرحها ، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس ، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّ فيندرج فيها الطائر ، فذِكْرُ الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكْرُ بعضٍ من كلٍّ وصار من باب التجريد كقوله : { وجبريل وميكال } بعد ذكر الملائكة.
وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض ، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها ، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية ، ولذلك قال تعالى :

{ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهنّ إلا الله } وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ { من دابة } وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاماً وهو الأرض ، ويشمل الأرض البر والبحر ، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله { ولا طائر } لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه ، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله { ولا طائر } لو اقتصر عليه ، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } وقولهم : «طار لفلان كذا في القسمة» أي سهمه ، و«طائر السعد والنحس» وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب.
وجاء الوصف بلفظ «يطير» لأنه مشعر بالديمومة والغلبة ، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير ، وقلَّ ما يسكن ، حتى إن المحبوس منها يكثر وُلُوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره.
وقرأ ابن أبي عبلة { ولا طائر } بالرفع ، عطفاً على موضع { دابة }.
وجوزوا أن يكون { في الأرض } في موضع رفع صفة على موضع { دابة } ، وكذلك يقتضي أن يكون { يطير } ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة ، والباء في { بجناحيه } للاستعانة كقوله : { كتبت بالقلم } و { إلا أممٍ } هو خبر المبتدأ الذي هو { من دابة } { ولا طائر } وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق والمثلية هنا.
قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى.
وقال ابن عطية مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر.
وقال الطبري وغيره وهو مرويٌّ عن أبي هريرة واختيار الزجاج المماثلة في أنها تجازى بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ، على ما روي في الأحاديث.
وقال مكيّ في أنها تعرف الله تعالى وتعبده.
وهذا قول أبي عبيدة ، قال معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه.
ونقله الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة حصلت من حيث إنهم يعرفون الله ويوحدونه ويحمدونه ويسبحونه.
وإليه ذهبت طائفة من المفسرين محتجين بقوله : { وإن من شيء لا يسبح بحمده } وبقوله في صفة الحيوان { كل قد علم صلاته وتسبيحه } وبما به خاطب النمل وخاطب الهدهد.
قال ابن عطية في قول مكي وهذا قول خلف انتهى.
وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون المماثلة في كونها أمماً لا غير.
كما تريد بقولك : مررت برجل مثلك أي أي انه رجل.
ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً.
وقال مجاهد إلا أصناف مصنفة.
وقال أبو صالح عن ابن عباس : المماثلة وقعت بينها وبين بني آدم من قبل أن بعضهم يفقه عن بعض.
وقال ابن عيسى أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم وإلى لباس يسترهم ، وإلى كنٍّ يواريهم.

وروي عن أبي الدرداء أنه قال : أبهمت عقول البهم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : الإله سبحانه وتعالى وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه.
وقيل المماثلة في كونها جماعات مخلوقة يشبه بعضها بعضاً ، ويأنس بعضها ببعض وتتوالد كالإنس.
وروى أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قرأ هذه الآية وقال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عَدْوَ الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلاب ، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ، ومنهم من يشره شره الخنزير.
وفي رواية منهم من يشبه الخنزير إذا ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل من رجيعه ولغ فيه.
وكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ منها واحدة.
فإن أخطأت واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً رواها عنك { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أي ما تركنا وما أغفلنا والكتاب اللوح المحفوظ.
والمعنى وما أغفلنا فيه من شيء لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، قاله الزمخشري ولم يذكر غيره ، أو القرآن وهو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى.
وبدأ به عن ابن عطية وذكر اللوح المحفوظ ، فعلي هذا يكون قوله : من شيء على عمومه ، وعلى القول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص فالمعنى من شيء يدعو إلى معرفة الله وتكاليفه ، وكثيراً ما يستدل بعض الظاهرية بقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها ، والتفريط التقصير فحقه أن يتعدى بفي كقوله { على ما فرطت في جنب الله } وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون { من شيء } في موضع المفعول به و { من } زائدة ، والمعنى : ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف ، ويبعد جعل { من } هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف ، وإن قاله بعضهم.
وجعل أبو البقاء هنا { من شيء } واقعاً موقع المصدر ، أي تفريطاً.
قال : وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أنّ الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء تصريحاً ونظير ذلك لا يضركم كيدهم شيئاً أي ضرراً انتهى.
وما ذكره من أنه لا يبقى على هذا التأويل حجة لمن ذكر ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر منفياً على جهة العموم ، ويلزم من نفي هذا العموم نفي أنواع المصدر ونوع مشخصاته ، ونظير ذلك لا قيام فهذا نفي عام فينتفي منه جميع أنواع القيام ومشخصاته كقيام زيد وقيام عمرو وما أشبه ذلك فإذا نفى التفريط على طريقة العموم كان ذلك نفياً لجميع أنواع التفريط ومشخصاته ومتعلقاته ، فيلزم من ذلك أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء.

وقرأ الأعرج وعلقمة { ما فرطنا } بتحفيف الراء والمعنى واحد.
وقال النقاش : معنى { فرطنا } مخففة ، أخرنا كما قالوا : فرط الله عنك المرض أي أزاله.
{ ثم إلى ربهم يحشرون } الظاهر في الضمير أنه عائد على ما تقدم وهو الأمم كلها من الطير والدواب.
وقال قوم : هو عائد على الكفار لا على أمم وما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ويرجح هذا القول كونه جاء بهم وبالواو التي هي للعقلاء ، ولو كان عائداً على أمم الطير والدواب لكان التركيب ثم إلى ربها تحشر ويجاب عن هذا بأنها لما كانت ممتثلة ما أراد الله منها ، أجريت مجرى العقلاء وأصل الحشر الجمع ومنه فحشر فنادى والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور ، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حدّيث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً فذلك قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } وقال ابن عباس والحسن في آخرين : حشر الدواب موتها لأن الدواب لا تكليف عليها ولا ترجو ثواباً ولا تخاف عقاباً ولا تفهم خطاباً؛ انتهى.
ومن ذهب هذا المذهب تأول حديث أبي هريرة على معنى التمثيل في الحساب والقصاص حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منه ولا محيص وأنه العدل المحض.
قال ابن عطية : والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء ، أنها كناية عن العدل وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها؛ انتهى.
وقال ابن فورك : القول بحشرها مع بني آدم أظهر؛ انتهى.
وعلى القول بحشر البهائم مع الناس اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله ، فذهب أهل السنة أنها لإظهار القدرة على الإعادة وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك فقال : { من يحيي العظام وهي رميم } وقالت المعتزلة : يحشر الله البهائم والطير لإيصال الإعواض إليها وكذلك قال الزمخشري ، فيعوضها وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء؛ انتهى.
وطول المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها وأن ذلك واجب على الله تعالى.
وفرعوا فروعاً واختلفوا في العوض أهو منقطع أم دائم؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع فبعد توفية العوض يجعلها تراباً ، وقال أبو القاسم البلخي : يجب كون العوض دائماً.
وقيل : تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام وكل ما قالته المعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الاعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدّنيا ، ومذهب أهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال.

{ والذين كذبوا بآياتنا صمّ وبكم في الظلمات } قال النقاش : نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم؛ انتهى.
ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله : { إنما يستجيب الذين يسمعون } أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم ، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله : { وما من دابة } الآية منبهاً على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه ، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عن سماع الحق أبكم عن النطق به ، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحجج ثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله : { صم وبكم في الظلمات } الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لا أنهم { صم وبكم في الظلمات } حقيقة وجاء قوله : { في الظلمات } كناية عن عمي البصيرة ، فهو ينظر كقوله : { صم بكم عمي } لكن قوله : { في الظلمات } أبلغ من قوله : { عمي } إذ جعلت ظرفاً لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر ، كما قيل في قوله : { وجعل الظلمات والنور } على أحد الأقوال وفي قوله : { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وقال الجبائي : الإخبار عنهم بأنهم { صم وبكم في الظلمات } حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صماً وبكماً في الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار ، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم } الآية.
وقال الكعبيّ : { صم وبكم } محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة؛ انتهى.
{ والظلمات } ظلمات الكفر أو حجب تضرب على القلب فيظلم وتحول بينه وبين نور الإيمان ، أو ظلمات يوم القيامة ومنه قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً أو الشدائد لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون يوم مظلمة إذا لقوا فيه شدة ومنه قوله :
بني أسد هل تعلمون بلاءنا . . .
إذا كان يوم ذو كواكب مظلم
أربعة أقوال : رابعها قاله الليث.
{ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } مفعول { يشأ } محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله { يضلله } ومن يشأ هدايته { يجعله } ولا يجوز في { من } فيهما أن يكون مفعولاً بيشأ للتعاند الحاصل بين المشيئتين ، ( فإن قلت ) : يكون مفعولاً بيشأ على حذف مضاف تقديره إضلال من يشاء الله وهداية من يشاء الله ، فحذف وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول.
فالجواب : أن ذلك لا يجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه ، والضمير في { يضلله } إما أن يكون عائداً على إضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على إضلال فيكون كقوله { يغشاه موج من فوقه } إذ الهاء تعود على ذي المحذوفة من قوله : أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه يصير التقدير إضلال { من يشأ الله يضلله } أي يضلل الإضلال وهذا لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلوا الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط وذلك لا يجوز.

( فإن قلت ) : يكون التقدير من يشأ الله بالإضلال فيكون على هذا مفعولاً مقدماً لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا.
قال الشاعر :
أرادت عرار بالهوان ومن يرد . . .
عرار العمرى بالهوان فقد ظلم
فالجواب : أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في معنى الشيء أن يعدى تعديته ، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول : دخلت الدار ودخلت في غمار الناس ، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا وارداً في الفعل الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى ، وإذا تقرّر هذا فإعراب من يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره والثاني أن يكون مفعولاً بفعل محذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط من حيث المعنى ، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق الله يشأ إضلاله ومن يسعد يشأ هدايته { يجعله على صراط مستقيم } وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهاديّ وهو المضل ، وأن ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل وقد تأولت المعتزلة هذه الآية كما تأولوا غيرها فقالوا : معنى { يضلله } يخذله ويخبله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف ، ومعنى { يجعله على صراط مستقيم } يلطف به لأن اللطف يجري عليه وهذا على قول الزمخشري.
وقال غيره : يضلله عن طريق الجنة و { يجعله على صراط مستقيم } هو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة ، قالوا : وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الضلال إلا لمن يستحق العقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين.
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين } هذا ابتداء احتجاج على الكفار الذين يجعلون لله شركاء.
قال الكرماني : { أرأيتكم } كلمة استفهام وتعجب وليس لها نظير.
وقال ابن عطية : والمعنى : أرأيتكم إن خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكاً أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجؤون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم إنها آلهة بل تدعون الله الخالق الرازق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم؟ فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال ، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد؟ و { أتاكم عذاب الله } أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك كالقولنج ويدعو إلى هذا التأويل إنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك : فيكشف ما تدعون لأن ما قد صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ، ويحتمل أن يريد بالساعة في هذه الآية ساعة موت الإنسان؛ انتهى.

ولا يضطر إلى هذا التأويل الذي ذكره بل إذا حل بالإنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلا الله وقوله : لأن ما صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ليس كما ذكر ، لأن العذاب الذي يحل بالإنسان هو جنس منه ما مرّ وانقضى فذلك لا يصح كشفه ومنه ما هو ملتبس بالإنسان في الحال فيصح كشفه وإزالته بقطع الله ذلك عن الإنسان ، وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى : { وإذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه } لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه فما انقضى من الضر الذي مسه لا يصح كشفه ، وما هو ملتبس به كشفه الله تعالى فالضر جنس كما أن العذاب هنا جنس.
وقال مقاتل : عذاب الله هو العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية.
وقال ابن عباس : هو الموت ويعني والله أعلم مقدّماته من الشدائد والجمهور على أن { الساعة } هي القيامة وأرأيت الهمزة فيها للاستفهام فإن كانت البصرية أو التي لإصابة الرئة أو العلمية الباقية على بابها لم يجز فيها إلا تحقيق الهمزة أو تسهيلها بين بين ولا يجوز حذفها ، وتختلف التاء باختلاف المخاطب ولا يجوز إلحاق الكاف بها وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني جاز أن تحقق الهمزة ، وبه قرأ الجمهور في { أرأيتكم } وأرأيتم وأرأيت وجاز أن تسهل بين بين وبه قرأ نافع وروي عنه إبدالها ألفاً محضة ويطول مدّها لسكونها وسكون ما بعدها ، وهذا البدل ضعيف عند النحويين إلا أنه قد سمع من كلام العرب حكاه قطرب وغيره وجاز حذفها وبه قرأ الكسائي وقد جاء ذلك في كلام العرب.
قال الراجز :
أريت إن جاءت به أملودا . . .
بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب ، قال الفراء : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل أرأيت زيداً أي بعينك فهذه مهموزة ، وثانيهما أن تقول : أرأيت وأنت تقول أخبرني فيها هنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام العرب تومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ انتهى.
وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب ، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول ، ومذهب الفراء أن التاء هي حرف خطاب كهي في أنت وإن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل ، استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبدالاً وتصحيحاً مذكور في علم النحو ، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم.

وذلك تفسير معنى لا تفسير إعراب قالوا : فتقول العرب أرأيت زيداً ما صنع فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب ، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت وهو جائز في علمت ورأيت الباقية على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني لأن أخبرني لا تعلق ، فكذلك ما كان بمعناها والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني.
قال سيبويه : وتقول أرأيتك زيداً أبو من هو وأرأيتك عمراً أعندك هو أم عند فلان لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ألا ترى أنك لو قلت أرأيت أبو من أنت وأرأيت أزيد ثم أم فلان ، لم يحسن لأن فيه معنى أخبرني عن زيد.
ثم قال سيبويه : وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني وقد اعترض كثير من النحاة على سيبويه وخالفوه ، وقالوا : كثيراً ما تعلق أرأيت وفي القرآن من ذلك كثير منه { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون } { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } { أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم } وقال الشاعر :
أرأيت إن جاءت به أملودا . . .
مرجّلاً ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا . . .
وذهب ابن كيسان إلى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيداً ما صنع بدل من أرأيت ، وزعم أبو الحسن أن { أرأيتك } إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعده الاستفهام ، لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها بالكلية وتضمن معنى أما أو تنبه وجعل من ذلك قوله تعالى : قال { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت } وقد أمعنا الكلام على أرأيت ومسائلها في كتابنا المسمى بالتذييل في شرح التسهيل وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعاً في كتاب فيوقف عليه فيه ، ونحن نتكلم على كل مكان تقع فيه أرأيت في القرآن بخصوصيته.
فنقول الذي نختاره أنها باقية على حكمها من التعدّي إلى اثنين فالأول منصوب والذي لم نجده بالاستقراء إلا جملة استفهامية أو قسمية ، فإذا تقرر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف والمسألة من باب التنازع تنازع { أرأيتكم } والشرط على عذاب الله فأعمل الثاني وهو { أتاكم } فارتفع عذاب به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب عذاب بالنصب ونظيره اضرب إن جاءك زيد على أعمال جاءك ، ولو نصب لجاز وكان من إعمال الأول وأما المفعول الثاني فهي الجملة الاستفهامية من { أغير الله تدعون } والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره { أغير الله تدعون } لكشفه والمعنى : قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله تدعون لكشفه أو كشف نوازلها ، وزعم أبو الحسن أن { أرأيتكم } في هذه الآية بمعنى أما.

قال وتكون أبداً بعد الشرط وظروف الزمان والتقدير أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت لا جواب الشرط وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية ، وقد ذكرنا تخريجها على ما استقر فيها فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد ، وعلى ما زعم أبو الحسن لا يكون لأرأيت مفعولان ولا مفعول واحد ، وذهب بعضهم إلى أن مفعول { أرأيتكم } محذوف دل عليه الكلام تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله : { أغير الله تدعون }.
وقال آخرون لا تحتاج هنا إلى جواب مفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وهذان القولان ضعيفان ، وأما جواب الشرط فذهب الحوفي إلى أن جوابه { أرأيتكم } قدّم لدخول ألف الاستفهام عليه وهذا لا يجوز عندنا ، وإنما يجوز تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد وذهب غيره إلى أنه محذوف فقدره الزمخشري فقال : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ وإصلاحه بدخول الفاء أي فمن تدعون؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جواباً للشرط فلا بد فيها من الفاء؟ وقدره غيره إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة دعوتم الله ودل عليه الاستفهام في قوله : { أغير الله تدعون }.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق الشرط بقوله : { أغير الله تدعون } كأنه قيل أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله؛ انتهى.
فلا يجوز أن يتعلق الشرط بقوله : { أغير الله } لأنه لو تعلق به لكان جواباً للشرط ، فلا يجوز أن يكون جواباً للشرط لأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يكون إلا بهل مقدماً عليها الفاء نحو إن قام زيد فهل تكرمه؟ ولا يجوز ذلك في الهمزة لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها ، فلا يجوز إن قام زيد فأتكرمه ولا أفتكرمه ولا أتكرمه ، بل إذا جاء الاستفهام جواباً للشرط لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها هكذا نقله الأخفش عن العرب ، ولا يجوز أيضاً من وجه آخر لأنا قد قرّرنا إن أرأيتك متعد إلى اثنين أحدهما في هذه الآية محذوف وأنه من باب التنازع والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعة فلو جعلتها جواباً للشرط لبقيت { أرأيتكم } متعدّية إلى واحد ، وذلك لا يجوز وأيضاً التزام العرب في الشرط الجائي بعد أرأيت مضى الفعل دليل على أن جواب الشرط محذوف ، لأنه لا يحذف جواب الشرط إلا عند مضيّ فعله قال تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله } { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً }

إلى غير ذلك من الآيات ، وقال الشاعر :
أرأيت إن جاءت به أملودا . . .
وأيضاً فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جواب الشرط ، إذ لا يصح وقوعها جواباً للشرط.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إن علقت الشرطية يعني بقوله : { غير الله } فما تصنع بقوله : { فيكشف ما تدعون إليه } مع قوله : { أو أتتكم الساعة } وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين.
( قلت ) : قد اشترط في الكشف المشيئة وهو قوله : إن شاء إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه؛ انتهى.
وهذا مبني على أنه يجوز أن يتعلق الشرط بقوله { أغير الله } وقد استدل للفاعل أن ذلك لا يجوز وتلخص في جواب الشرط أقوال :
أحدها : أنه مذكور وهو { أرأيتكم } المتقدّم والآخر أنه مذكور وهو { أغير الله تدعون }.
والثالث : أنه محذوف تقديره من تدعون.
والرابع : أنه محذوف تقديره دعوتم الله ، هذا ما وجدناه منقولاً والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال وهو أن يكون محذوفاً لدلالة { أرأيتكم } عليه وتقديره { إن أتاكم عذاب الله } فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه ، كما تقول : أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به؟ التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه ، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت التقدير فأنت ظالم فحذف فأنت ظالم وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه ، وهذا التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية و { غير الله } عنى به الأصنام التي كانوا يعبدونها ، وتقديم المفعول هنا بعد الهمزة يدل على الإنكار عليهم دعاء الأصنام إذ لا ينكر الدعاء إنما ينكر أن الأصنام تدعي كما تقول : أزيداً تضرب لا تنكر الضرب ولكن تنكر أن يكون محله زيداً.
قال الزمخشري : بكتهم بقوله : { أغير الله تدعون } بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ أم تدعون الله دونها؟ انتهى.
وقدره بمعنى أتخصون لأن عنده تقديم المفعول مؤذن بالتخصيص والحصر ، وقد تكلمنا فيما سبق في ذلك وأنه لا يدل على الحصر والتخصيص ، وهذه الآية عند علماء البيان من باب استدراج المخاطب وهو أن يلين الخطاب ويمزجه بنوع من التلطف والتعطف حتى يوقع المخاطب في أمر يعترف به فتقوم الحجة عليه ، والله تعالى خاطب هؤلاء الكفار بلين من القول وذكر لهم أمراً لا ينازعون فيه وهو أنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله لا غيره وجواب { إن كنتم صادقين } محذوف تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم إن غير الله إله فهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب؟.
{ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } { إياه } ضمير نصب منفصل وتقدم الكلام عليه في قوله :

{ إياك نعبد } مستوفى.
وقال ابن عطية : هنا { إياه } اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبداً؛ انتهى ، وهذا مخالف لمذهب سيبويه ، لأن مذهب سيبويه إن ما اتصل بأياً من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة وهو حرف لا اسم أضيف إليه أياً لأن المضمر عنده لا يضاف لأنه أعرف المعارف ، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة لا يكون مضمراً وهذا فاسد ، ومجيئه هنا مقدماً على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول وعند الزمخشري إن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص ، ولذلك قال : بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة ، والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام لا من تقديم المفعول على العامل و { بل } هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما تضمنه الكلام السابق من معنى النفي لأن معنى الجملة السابقة النفي وتقديرها ما تدّعون أصنامكم لكشف العذاب وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب يعني الإبطال ، و { ما } من قوله { ما تدعون } الأظهر أنها موصولة أي فيكشف الذي تدعون.
قال ابن عطية : ويصح أن تكون ظرفية؛ انتهى.
ويكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعيه وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة ، ويضعفه وصل { ما } الظرفية بالمضارع وهو قليل جدًّا إنما بابها إن توصل بالماضي تقول ألا أكلمك ما طلعت الشمس ولذلك علة ، أما ذكرت في علم النحو ، قال ابن عطية : ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام.
وقال الزجاج : وهو مثل { واسأل القرية } انتهى.
ويكون تقدير المحذوف فيكشف موجب دعائكم وهو العذاب ، وهذه دعوى محذوف غير متعين وهو خلاف الظاهر والضمير في { إليه } عائد على { ما } الموصولة أي إلى كشفه ودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء يتعدى بإلى قال الله تعالى : { وإذا دعوا إلى الله } الآية.
وقال الشاعر :
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة . . .
يوماً سراة كرام الناس فادعينا
وتتعدى باللام أيضاً قال الشاعر :
وإن أدع للجلى أكن من حماتها . . .
وقال آخر :
دعوت لما نابني مسوراً . . .
وقال ابن عطية : والضمير في { إليه } يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله؛ انتهى.
وهذا ليس بجيد لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر قال تعالى : { ادعوني أستجب لكم } { أجيب دعوة الدّاع إذا دعان } ومن كلام العرب دعوت الله سميعاً ولا تقول بهذا المعنى دعوت إلى الله بمعنى دعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجؤون ، كأنه قيل فيكشف ما يلجؤون فيه بالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعذق تعالى الكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا يجب عليه شيء.

قال الزمخشري : إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم تكن مفسدة؛ انتهى.
وفي قوله : ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال ، وظاهر قوله : { وتنسون ما تشركون } النسيان حقيقة والذهول والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه تجرد خاطره من كل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم ، فيكاد يصير كالملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكر غير الله القادر على كشف ما دهم.
وقال الزمخشري : { وتنسون ما تشركون } وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد.
وقال ابن عطية : تتركونهم وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال : تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون.
وقال النحاس : هو مثل قوله { لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } وقيل : يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله ، و { ما } موصولة أي وتنسون الذي تشركون.
وقيل : { ما } مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجمل بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن عطية.
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها ، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل أبلغ انحرافاً وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خاطبهم تعالى بقوله { قل أرأيتكم } الآية.
وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون لكشفها إلا الله تعالى ، وفي الكلام حذف التقدير ولقد أرسلنا الرسل إلى أمم من قبلك فكذبوا فأخذناهم وتقدم تفسير البأساء والضراء والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه ، والأخذ الإمساك بقوة وبطش وقهر وهو هنا مجاز عن متابعة العقوبة والملازمة والمعنى لعاقبناهم في الدنيا.
{ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } { لولا } هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهراً أو مضمراً ويفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية ، فصل بين { لولا } و { تضرعوا } بإذ وهي معمولة لتضرعوا ، والتضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس فمعناه إظهار معاتبة مذنب غائب وإظهار سوء فعله ليتحسر عليه المخاطب وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم والمراد أوائل البأس وعلاماته.
{ ولكن قست قلوبهم } أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم ، ووقوع { لكن } هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت { لكن } بين ضدين وهما اللين والقسوة ، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإيمان فعبر بالسبب عن المسبب كانت أيضاً واقعة بين ضدين تقول : قسا قلبه فكفر وآمن فتضرع.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46