كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

انتهى.
وقيل : ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقاراً ، ويكون على هذا منهم كأنه يقول : تؤده منكم وتمكناً في النظر ، لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس. انتهى.
وفي التحرير قال سعيد بن جبير : ما لكم لا ترجون لله ثواباً ولا تخافون عقاباً ، وقاله ابن جبير عن ابن عباس.
وقال العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة؛ وعن مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة.
قال قطرب : هذه لغة حجازية ، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال. انتهى.
{ لا ترجون } : حال ، { وقد خلقكم أطواراً } : جملة حالية تحمل على الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، إذ في هذه الجملة الحالية التنبيه على تدريج الإنسان في أطوار لا يمكن أن تكون إلا من خلقه تعالى.
قال ابن عباس ومجاهد من : النطفة والعلقة والمضغة.
وقيل : في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم.
وقيل : صبياناً ثم شباباً ثم شيوخاً وضعفاء ثم أقوياء.
وقيل : معنى { أطواراً } : أنواعاً صحيحاً وسقيماً وبصيراً وضريراً وغنياً وفقيراً.

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود.
وتقدم شرح { طباقاً } في سورة الملك ، والضمير في فيهن عائد على السموات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر ، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف.
تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة.
ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته وباهر مصنوعاته.
{ سراجاً } يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ، ولذلك؛ جاء { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } والضياء أقوى من النور.
والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها.
وانتصاب نباتاً بأنبتكم مصدراً على حذف الزائد ، أي إنباتاً ، أو على إضمار فعل ، أي فنبتم نباتاً.
وقال الزمخشري : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم. انتهى.
ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره.
{ ثم يعيدكم فيها } : أي يصيركم فيها مقبورين ، { ويخرجكم إخراجاً } : أي يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي ذلك واقع لا محالة.
{ بساطاً } تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه.
وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة ، { سبلاً } : ظرفاً ، { فجاجاً } : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة الحج.
ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ، { قال نوح رب إنهم عصوني } : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم : { وأطيعون } ، وكان قد أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه { ألف سنة إلا خمسين عاماً } وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين.
{ واتبعوا } : أي عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام.
{ من لم يزده } : أي رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سبباً في خسارتهم في الآخرة ، وكان سبب هلاكهم في الدنيا.
وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافغ ، في رواية خارجة : وولده بضم الواو وسكون اللام؛ والسلميّ والحسن أيضاً وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ، كبخل وبخل؛ والحسن أيضاً والجحدري وقتادة وزر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام.

وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت :
يا بكر آمنة المبارك بكرها . . .
من ولد محصنة بسعد الأسعد
{ ومكروا } : يظهر أنه معطوف على صلة من ، وجمع الضمير في { ومكروا } ، { وقالوا } على المعنى؛ ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه السلام.
وقرأ الجمهور : { كباراً } بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير.
قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر :
والمرء يلحقه بقنان الندى . . .
خلق الكريم وليس بالوضاء
وقول الآخر :
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي . . .
بالحسن قلب المسلم القراء
ويقال : حسان وطوال وجمال.
وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة.
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روي عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : كباراً ، بكسر الكاف وفتح الباء.
وقال ابن الأنباري : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل.
انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع.
{ وقالوا } : أي كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي جميعهم بعضهم لبعض ، { لا تذرن } : لا تتركن ، { آلهتكم } : أي أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصبوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ودّ وما عطف عليه؛ وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان.
قال عروة بن الزبير : كانوا بني آدم ، وكان ودّاً أكبرهم وأبرهم به.
وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم ونوح عليهما السلام ، ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت.
قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها.
وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب.
فكان ودّ لكلب بدومة الجندل؛ وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان؛ ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج؛ ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد؛ ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث؛ وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا أصنامهم بها.
قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء. انتهى.
وقال الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني :
يريش الله في الدنيا ويبري . . .
ولا يبري يغوث ولا يريش
وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود.

سمي وداً لودهم له. انتهى.
وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين.
وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : وداً ، بضم الواو؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بفتحها ، قال الشاعر :
حياك ودّ فإنا لا يحل لنا . . .
لهو النساء وأن الدين قد عزما
وقال آخر :
فحياك ودّ من هداك لعسه . . .
وخوص باعلا ذي فضالة هجه
قيل : أراد ذلك الصنم.
وقرأ الجمهور : { ولا يغوث ويعوق } بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية.
وقرأ الأشهب : ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما.
قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولاً ، فلذلك صرفهما.
فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل.
انتهى ، وهذا تخبيط.
أما أولاً ، فلا يمكن أن يكونا فعولاً ، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق؛ وأما ثانياً ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ، لأن يفعلا لم يجىء اسماً ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه.
وقال ابن عطية : وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا بالصرف ، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل. انتهى.
وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره؛ والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله { وداً ولا سواعاً } ، وبعده { ونسراً } ، كما قالوا في صرف { سلاسلاً } و { قواريرا قواريرا } لمن صرف ذلك للمناسبة.
وقال الزمخشري : وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات { وداً ويعوق ونسراً } ، كما قرىء : { وضحاها } بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج. انتهى.
وكان الزمخشري لو يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها.
{ وقد أضلوا } : أي الرؤساء المتبوعون ، { كثيراً } : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال.
وقال الحسن : { وقد أضلوا } : أي الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن.
ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيراً ، دعا عليهم بالضلال ، فقال : { ولا تزد } : وهي معطوفة على { وقد أضلوا } ، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيراً ، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله : { وقد أضلوا } ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس ، خلافاً لمن يدعي التناسب.

وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف { ولا تزد } على { رب إنهم عصوني } ، أي قال هذين القولين.
{ إلا ضلالاً } ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه.
انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال.
قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال : { ولا تزد الظالمين إلا تباراً }.
وقال ابن بحر : { إلا ضلالاً } : إلا عذاباً ، قال كقوله : { إن المجرمين في ضلالٍ وسعرٍ }.
وقيل : إلا خسراناً.
وقيل : إلا ضلالاً في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم.
وقرأ الجمهور : { مما خطيئاتهم } جمعاً بالألف والتاء مهموزاً؛ وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد؛ والجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزاً؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم؛ وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه السلام قد أجيبت.
وما زائدة للتوكيد؛ ومن ، قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب.
وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم.
وقرأ الجمهور : { أغرقوا } بالهمزة؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ، { فأدخلوا ناراً } : أي جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّاً وعشياً ، كما قال : { النار يعرضون عليها } قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر. انتهى.
وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب.
{ فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ، ودعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } قاله قتادة.
وعنه أيضاً : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال : { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } الآية ، فقوله : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضاً محمد بن كعب والربيع وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعاً في إيمانهم عاطفاً عليهم.
وفي الحديث : « أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون » ودياراً : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد.

وعن السدّي : من سكن داراً.
وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار. انتهى.
والدار أيضاً من الدور ، وألفها منقلبة عن واو.
{ ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر.
ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه ، ثم للؤمنين ، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات.
وقرأ الجمهور : { ولوالديّ } ، والظاهر أنهما أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش.
وقيل : هما آدم وحوّاء.
وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال ، فأما أن يكون خص أباه الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام.
وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام.
وقرأ الحسن بن عليّ ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد ، يعني ساماً وحاماً.
{ ولمن دخل بيتي } ، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي؛ وعن ابن عباس أيضاً : شريعتي ، استعار لها بيتاً ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه.
وقيل : سفينته.
وقيل : داره.
{ وللمؤمنين والمؤمنات } : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة.
والتبار : الهلاك.

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)

وقرأ الجمهور : { قل أوحي } رباعياً؛ وابن أبي عبلة والعتكي ، عن أبي عمرو ، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي : وحى ثلاثياً ، يقال : وحى وأوحى بمعنى واحد.
قال العجاج : وحى إليها القرار فاستقرت.
وقرأ زيد بن عليّ وجوية ، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضاً : أحى بإبدال الواو همزة ، كما قالوا في وعد أعد.
وقال الزمخشري : وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. انتهى.
وليس كما ذكر ، بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً وحشواً وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو.
قال الزمخشري : وقد أطلقه المازني في المكسور أيضاً ، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه.
انتهى ، وهذا تكثير وتبجح.
وكان يذكر هذا في { وعاء أخيه } في سورة يوسف.
وعن المازني في ذلك قولان : أحدهما : القياس كما قال ، والآخر : قصر ذلك على السماع.
و { أنه استمع } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع { نفر من الجن } ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } وهي قصة واحدة.
وقيل : قصتان ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوي ، والسورة التي استمعوها ، قال عكرمة : { اقرأ باسم ربك } وقيل : سورة الرحمن.
ولم تتعرض الآية ، لا هنا ولا في سورة الأحقاف ، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام.
ويظهر من الحديث «أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن ، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام ، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه.
فلما أصبح ، إذا هو جاء من قبل حراء ، وفيه أتاني داعي الجن ، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم.
والمرة الآخرى : كان معه ابن مسعود ، وقد استندب صلى الله عليه وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن ، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود ، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب ، فخط عليه خطاً وقال : لا تجاوزه.
فانحدر عليه صلى الله عليه وسلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم».
الحديث.
ويدل على أنهما قصتان ، اختلافهم في العدد ، فقيل : سبعة ، وقيل : تسعة ، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق.

وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، وأين سبعة من اثني عشر ألفاً؟
{ فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً } : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، ووصفوا قرآناً بقولهم { عجباً } وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة ، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه ، وحسن مبانيه ، ودقة معانيه ، وغرابة أسلوبه ، وبلاغة مواعظه ، وكونه مبايناً لسائر الكتب.
والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره.
{ يهدي إلى الرشد } : أي يدعو إلى الصواب.
وقيل : إلى التوحيد والإيمان.
وقرأ الجمهور : { الرشد } بضم الراء وسكون الشين؛ وعيسى : بضمهما؛ وعنه أيضاً : فتحهما.
{ يهدي إلى } : أي بالقرآن.
ولما كان الإيمان به متضمناً الإيمان بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا : { ولن نشرك بربنا أحداً }.
وقرأ الحرميان والأبوان : بفتح الهمزة من قوله : { وأنه تعالى } وما بعده ، وهي اثنتا عشرة آية آخرها { وأنا منا المسلمون } ؛ وباقي السبعة : بالكسر.
فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله : { إنا سمعنا } ، فهي داخلة في معمول القول.
وأما الفتح ، فقال أبو حاتم : هو على { أوحى } ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى.
وهذا لا يصح ، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت { أوحى } ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم ، كقوله : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع }.
ألا ترى أنه لا يلائم { أوحى إليّ } ، { إنا كنا نقعد منها مقاعد } ، وكذلك باقيها؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله : { فآمنا به } : أي وبأنه ، وكذلك باقيها ، وهذا جائز على مذهب الكوفيين ، وهو الصحيح.
وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله : { وكفر به والمسجد الحرام } وقال مكي : هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن.
وقال الزجاج : وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به ، لأنه معناه : صدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : فآمنا به أنه تعالى جد ربنا؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال : فتحت أن لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض ، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو : صدقنا وشهدنا.
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه ، نحو قوله : { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } ، وتبعهما الزمخشري فقال : ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي. انتهى.
ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا.
وقرأ الجمهور : { جد ربنا } ، بفتح الجيم ورفع الدال ، مضافاً إلى ربنا : أي عظمته ، قاله الجمهور.
وقال أنس والحسن : غناه.

وقال مجاهد : ذكره.
وقال ابن عباس : قدره وأمره.
وقرأ عكرمة : جد منوباً ، ربنا مرفوع الباء ، كأنه قال : عظيم هو ربنا ، فربنا بدل ، والجد في اللغة العظيم.
وقرأ حميد بن قيس : جد بضم الجيم مضافاً ومعناه العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى : تعالى ربنا العظيم.
وقرأ عكرمة : جداً ربنا ، بفتح الجيم والدال منوناً ، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل ، أصله { تعالى جد ربنا }.
وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً : جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً ، ربنا رفع.
قال ابن عطية : نصب جداً على الحال ، ومعناه : تعالى حقيقة ومتمكناً.
وقال غيره : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : تعاليا جداً ، وربنا مرفوع بتعالى.
وقرأ ابن السميفع : جدي ربنا ، أي جدواه ونفعه.
وقرأ الجمهور : { يقول سفيهنا } : هو إبليس.
وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه ، وإبليس مقدم السفهاء.
والشطط : التعدي وتجاوز الجد.
قال الأعشى :
أينتهون ولن ينهى ذوو شطط . . .
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويقال : أشط في السوم إذا أبعد فيه ، أي قولا هو في نفسه شطط ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى.
{ وأنا ظننا } الآية : أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن ، واعتقدنا أن أحداً لا يجترىء على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد ، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم.
وقرأ الجمهور : { أن لن تقول } مضارع قال؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم : تقول مضارع تتقول ، حذفت إحدى التاءين وانتصب { كذباً } في قراءة الجمهور بتقول ، لأن الكذب نوع من القول ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي قولا كذباً ، أي مكذوباً فيه.
وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول ، لأنه هو الكذب ، فصار كقعدت جلوساً.
{ وأنه كان رجال }.
روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه.
فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك : لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئاً.
قال مقاتل : أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب.
والظاهر أن الضمير المرفوع في { فزادوهم } عائد على { رجال من الإنس } ، إذ هم المحدث عنهم ، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير.
{ فزادوهم } أي الإنس ، { رهقاً } : أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارم وإعجاباً بحيث قالوا : سدنا الإنس والجن ، وفسر قوم الرهق بالإثم.
وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها . . .
لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقاً
قال معناه : ما لم يغش محرماً ، والمعنى : زادت الإنس الجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم الله تعالى.

وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد : { فزادوهم } ، أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم ، فازدروهم واحتقروهم.
وقال ابن جبير : { رهقاً } : كفراً.
وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ، فالمعنى : وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي ، وهذا قول غريب.
{ وإنهم } : أي كفار الإنس ، { ظنوا كما ظننتم } أيها الجن ، يخاطب به بعضهم بعضاً.
وظنوا وظننتم ، كل منهما يطلب ، { أن لن يبعث } ، فالمسألة من باب الإعمال ، وإن هي المخففة من الثقيلة.
وقيل : الضمير في وأنهم يعود على الجن ، والخطاب في ظننتم لقريش ، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن : { أن لن يبعث الله أحداً } : الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق ، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر.
وقيل : بعث القيامة.
{ وأنا لمسنا السماء } : أصل اللمس المس ، ثم استعير للتطلب ، والمعنى : طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت.
الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد ، والجملة من { ملئت } في موضع الحال ، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين ، فملئت في موضع المفعول الثاني.
وقرأ الأعرج : مليت بالياء دون همز ، والجمهور : بالهمز ، وشديداً : صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع ، كما قال :
أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً . . .
ولو لحظ المعنى لقال : شداداً بالجمع.
والظاهر أن المراد بالحرس : الملائكة ، أي حافظين من أن تقربها الشياطين ، وشهباً جمع شهاب ، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا.
قيل : ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس ، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو :
وهند أتى من دونها النأي والبعد . . .
وقوله : { فوجدناها ملئت } يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت.
{ مقاعد } جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة.
{ فمن يستمع الأن } ، الآن ظرف زمان للحال ، ويستمع مستقبل ، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال ، كما قال :
سأسعى الآن إذ بلغت اناها . . .
فالمعنى : فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي ، { يجد له شهاباً رصداً } : أي يرصده فيحرقه ، هذا لمن استمع.
وأما السمع فقد انقطع ، كما قال تعالى : { إنهم عن السمع لمعزولون } والرجم كان في الجاهلية ، وذلك مذكور في أشعارهم ، ويدل عليه الحديث " حين رأى عليه الصلاة والسلام نجماً قد رمي به ، قال : «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم "

قال أوس بن حجر :
وانقض كالدري يتبعه . . .
نقع يثور بحالة طنبا
وقال عوف بن الجزع :
فرد علينا العير من دون إلفه . . .
أو الثور كالدري يتبعه الدم
وقال بشر بن أبي حازم :
والعير يرهقها الغبار وجحشها . . .
ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
قال التبريزي : وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم ، وقال معمر : قلت للزهري : أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت قوله : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } ؟ فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الجاحظ : القول بالرمي أصح لقوله : { فوجدناها ملئت } ، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت ، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق.
وقال الزمخشري : تابعاً للجاحظ ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة ، فلذلك { نقعد منها مقاعد } : أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها. انتهى.
وهذا كله يبطل قول من قال : إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو إحدى آياته.
والظاهر أن رصداً على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع.
ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض } ، وهو كفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، فينزل بهم الشر ، { أم أراد بهم ربهم رشداً } ، فيؤمنون به فيرشدون.
وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى ، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى.
{ وأنا منا الصالحون } : أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره.
{ ومنا دون ذلك } : أي دون الصالحين ، ويقع دون في مواضع موقع غير ، فكأنه قال : ومنا غير صالحين.
ويجوز أن يريدوا : ومنا دون ذلك في الصلاح ، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح ، ودون في موضع الصفة لمحذوف ، أي ومنا قوم دون ذلك.
ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن ، حتى في الجمل ، قالوا : منا ظعن ومنا أقام ، يريدون : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، والجملة من قوله : { كنا طرائق قدداً } تفسير للقسمة المتقدمة.
قال ابن عباس وعكرمة وقتادة : أهواء مختلفة ، وقيل : فرقاً مختلفة.
وقال الزمخشري : أي كنا ذوي مذاهب مختلفة ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة ، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله :
كما عسل الطريق الثعلب . . .
أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى.
وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه ، إذ حذف ذوي ومثل.
وأما التقدير الثالث ، وهو أن ينتصب على إسقاط في ، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة ، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ ، فلا يخرج القرآن عليه.

{ وأنا ظننا أن لن نعجز الله } : أي أيقنا ، { في الأرض } : أي كائنين في الأرض ، { ولن نعجزه هرباً } : أي من الأرض إلى السماء ، وفي الأرض وهرباً حالان ، أي فارين أو هاربين.
{ وأنا لما سمعنا الهدى } : وهو القرآن ، { آمنا به } : أي بالقرآن ، { فمن يؤمن بربه فلا يخاف } : أي فهو لا يخاف.
وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور : { فلا يخاف } ، وخرجت قراءتهما على النفي.
وقيل : الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء ، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء ، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ ، أي فهو لا يخاف.
والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة.
{ بخساً } ، قال ابن عباس : نقص الحسنات ، { ولا رهقاً } ، قال : زيادة في السيئات ، { ولا رهقاً } ، قيل : تحميل ما لا يطاق.
وقال الزمخشري : أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد ، فلا يخاف جزاءهما.
ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل : { ترهقهم ذلة } انتهى.
وقرأ الجمهور : { بخساً } بسكون الخاء؛ وابن وثاب : بفتحها.
{ ومنا القاسطون } : أي الكافرون الجائزون عن الحق.
قال مجاهد وقتادة : والبأس القاسط : الظالم ، ومنه قول الشاعر :
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة . . .
وهمو اقسطوا على النعمان
وجاء هذا التقسيم ، وإن كان قد تقدم { وأنا منا الصالحون } ، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام.
والظاهر أن { فمن أسلم } إلى آخر الشرطين من كلام الجن.
وقال ابن عطية : الوجه أن يكون { فمن أسلم } مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده ما بعد من الآيات.
وقرأ الأعرج : رشداً ، بضم الراء وسكون الشين؛ والجمهور : بفتحهما.
وقال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعيداً ، أي فأولئك تحروا رشداً ، فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه.

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

هذا من جملة الموحى المندرج تحت { أوحى إليّ } ، وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في { استقاموا } ، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز : هو عائد على قوله : { فمن أسلم } ، والطريقة : طريقة الكفر ، أي لو كفر من أسلم من الناس { لأسقيناهم } إملاء لهم واستدراجاً واستعارة ، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير : هو عائد على القاسطين ، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق ، لأنعمنا عليهم ، نحو قوله : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } وقيل : الضمير في استقاموا عائد على الخلق كلهم ، وأن هي المخففة من الثقيلة.
{ لأسقيناهم ماء غدقاً } : كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش.
وقال بعضهم : المال حيث الماء.
وقرأ الجمهور : { غدقاً } بفتح الدال؛ وعاصم في رواية الأعشى : بكسرها؛ ويقال : غدقت العين تغدق غدقاً فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها.
{ لنفتنهم } : أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به ، أو لنمتحنهم ونستدرجهم ، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في { استقاموا }.
وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو؛ والجمهور : بكسرها.
وقرأ الكوفيون : { يسلكه } بالياء؛ وباقي السبعة : بالنون؛ وابن جندب : بالنون من أسلك؛ وبعض التابعين : بالياء من أسلك أيضاً ، وهما لغتان : سلك وأسلك ، قال الشاعر :
حتى إذا أسلكوهم في قبائدة . . .
وقرأ الجمهور : { صعداً } بفتحتين ، وذو مصدر صعد وصف به العذاب ، أي يعلو المعذب ويغلبه ، وفسر بشاق.
يقال : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقة.
وقال عمر : ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح ، أي ما يشق عليّ.
وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد : جبل في النار.
وقال الخدري : كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت.
وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من عذاب على حذف مضاف ، أي عذاب صعد.
ويجوز أن يكون صعداً مفعول يسلكه ، وعذاباً مفعول من أجله.
وقرأ قوم : صعداً بضمتين؛ وابن عباس والحسن : بضم الصاد وفتح العين.
قال الحسن : معناه لا راحة فيه.
وقرأ الجمهور : { وأن المساجد } ، بفتح الهمزة عطفاً على { أنه استمع } ، فهو من جملة الموحى.
وقال الخليل : معنى الآية : { وأن المساجد لله فلا تدعوا } : أي لهذا السبب ، وكذلك عنده { لإيلاف قريش } { فليعبدوا } وكذلك { وأن هذه أمتكم } أي ولأن هذه.
وقرأ ابن هرمز وطلحة : وإن المساجد ، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل ، فالمعنى : فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته ، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة.
وقال الحسن : كل موضع سجد فيه فهو مسجد ، كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن ، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة.

وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها ، واحدها مسجد بفتح الجيم ، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان عد الجبهة والأنف واحداً وأبعد أيضاً من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ، وقال : إنه جمع مسجد وهو السجود.
وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المواضع كلها لله ، فاعبده حيث كنت.
وقال ابن جبير : نزلت لأن الجن قالت : يا رسول الله ، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك؟ فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد.
وقرأ الجمهور : { وأنه لما قام عبد الله } بفتح الهمزة ، عطفاً على قراءتهم { وأن المساجد } بالفتح.
وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر.
بكسرها على الاستئناف؛ وعبد الله هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { يدعوه } : أي يدعو الله { كادوا } : أي كاد الجن ، قال ابن عباس والضحاك : ينقضون عليه لاستماع القرآن.
وقال الحسن وقتادة : الضمير في { كادوا } لكفار قريش والعرب في اجتماعهم على رد أمره.
وقال ابن جبير : المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون ، والضمير في { كادوا } لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدون به في الصلاة.
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل رسول الله أو النبي؟ قلت : لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله ، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه ، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبداً.
ومعنى قام يدعوه : قام يعبده ، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته عليه السلام.
{ كادوا يكونون عليه لبداً } : أي يزدحمون عليه متراكمين ، تعجباً مما رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً ، وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره.
انتهى ، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته.
وقرأ الجمهور : { لبداً } بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة ، نحو : كسرة وكسر ، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ، ومنه قول عبد مناف بن ربيع :
صافوا بستة أبيات وأربعة . . .
حتى كأن عليهم جانباً لبداً
وقال ابن عباس : أعواناً.
وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر : بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة ، كزبرة وزبر؛ وعن ابن محيصن أيضاً : تسكين الباء وضم اللام لبداً.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو : بضمتين جمع لبد ، كرهن ورهن ، أو جمع لبود ، كصبور وصبر.
وقرأ الحسن والجحدري : بخلاف عنهما ، لبداً بضم اللام وشد الباء المفتوحة.
قال الحسن وقتادة وابن زيد : لما قام الرسول للدعوة ، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره.

انتهى.
وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام ، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله منهم ، قاله الحسن.
وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام.
وقرأ الجمهور : قال إنما أدعوا ربي : أي أعبده ، أي قال للمتظاهرين عليه : { إنما ادعوا ربي } : أي لم آتكم بأمر ينكر ، إنما أعبد ربي وحده ، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي.
أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يعبد غيره.
أو قال الجن لقومهم : ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في { كادوا }.
وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه : { قل } : أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك ، وهم إما الجن وإما المشركون ، على اختلاف القولين في ضمير { كادوا }.
ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم ، وجعل الضر مقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي ، إذ الغي ثمرته الضرر ، يمكن أن يكون المعنى : ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً ، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله.
قرأ الأعرج : رشداً بضمتين.
ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم ، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى ، يفعل فيه ربه ما يريد ، وأنه لا يمكن أن يجيره منه أحد ، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه ، قال قريباً منه قتادة.
وقال السدي : حرزاً.
وقال الكلبي : مدخلاً في الأرض ، وقيل : ناصراً ، وقيل : مذهباً ومسلكاً ، ومنه قول الشاعر :
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية . . .
عني وما من قضاء الله ملتحد
وقيل : في الكلام حذف وهو : قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك ، فقيل له : قل لن يجيرني.
وقيل : هو جواب لقول وردان سيد الجن ، وقد ازدحموا عليه ، قال وردان : أنا أرحلهم عنك ، فقال : إني لن يجبرني أحد ، ذكره الماوردي.
{ إلا بلاغاً } ، قال الحسن : هو استثناء منقطع ، أي لن يجيرني أحد ، لكن إن بلغت رحمني بذلك.
والإجارة للبلاغ مستعارة ، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته.
وقيل على هذا المعنى : هو استثناء متصل ، أي لن يجيرني في أحد ، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله ، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه ، لأن ما قبله نفياً ، وعلى البدل خرجه الزجاج.
وقال أبو عبد الله الرازي : هذا الاستثناء منقطع ، لأنه لم يقل : ولم أجد ملتحداً بل ، قال : { من دونه } ؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله : { من دونه ملتحداً } لأنه لا يكون من دون الله ، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه.

وقال قتادة : التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، فأما الإيمان والكفر فلا أملك.
انتهى ، وفيه بعد لطول الفصل بينهما.
وقيل ، إلا في تقدير الانفصال : إن شرطية ولا نافية ، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه ، والتقدير : إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته ، وهذا كما تقول : إن لا قياماً قعوداً ، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً ، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله ، كما حذف في قوله :
فطلقها فلست لها بكفء . . .
وإلا يعل مفرقك الحسام
التقدير : وإن لا تطقها ، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه ، ومن لابتداء الغاية.
وقال الزمخشري : تابعاً لقتادة ، أي لا أملك إلا بلاغاً من الله ، و { قل إني لن يجيرني } : جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوءاً من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه. انتهى.
{ ورسالاته } ، قيل : عطف على { بلاغاً } ، أي إلا أن أبلغ عن الله ، أو أبلغ رسالاته.
الظاهر أن رسالاته عطف على الله ، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته.
{ ومن يعص الله ورسوله } : أي بالشرك والكفر ، ويدل عليه قوله : { خالدين فيها أبداً }.
وقرأ الجمهور : { فإن له } بكسر الهمزة.
وقرأ طلحة : بفتحها ، والتقدير : فجزاؤه أن له.
قال ابن خالويه : وسمعت ابن مجاهد يقول : ما قرأ به أحد وهو لحن ، لأنه بعد فاء الشرط.
وسمعت ابن الأنباري يقول : هو ضراب ، ومعناه : فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى.
وكان ابن مجاهد إماماً في القراءات ، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ ، وكان ضعيفاً في النحو.
وكيف يقول ما قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به.
وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر.
وجمع { خالدين } حملاً على معنى من ، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله : { يعص } ، { فإن له }.
{ حتى إذا رأوا } : حتى هنا حرف ابتداء ، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ، ومع ذلك فيها معنى الغاية.
قال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت : بقوله { يكونون عليه لبداً } ، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم { حتى إذا رأوا ما يوعدون } من يوم بدر ، وإظهار الله له عليهم ، أو من يوم القيامة ، { فسيعلمون } حينئذ أنهم { أضعف ناصراً وأقل عدداً }.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه لا يزالون على ما هم عليه { حتى إذا رأوا ما يوعدون }.

قال المشركون : متى يكون هذا الموعد إنكاراً له؟ فقيل : قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه ، فإن الله قد وعد ذلك ، وهو لا يخلف الميعاد.
وأما وقته فلا أدري متى يكون ، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. انتهى.
وقوله : بم تعلق إن؟ عنى تعلق حرف الجر ، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن درستوية ، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء ، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها ، وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح.
وأما تقديره أنها تتعلق بقوله : { يكونون عليه لبداً } ، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة.
وقال التبريزي : حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ، ولم يبين ما المحذوف.
وقيل : المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة ، { فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً } ، أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم ، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون.
فقوله : { فأن له نار جهنم } هو وعيد لهم بالنار ، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله ، وهو معلق عنه لأن من استفهام.
ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف.
والجملة صلة لمن ، وتقديره : هو أضعف ، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً.
قال مكحول : لم ينزل هذا إلا في الجن ، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس ، قال : وبلغ من تابع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن سبعين ألفاً ، وفزعوا عند انشقاق الفجر.
ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به ، أهو قريب أم بعيد؟.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : { أم يجعل له ربي أمداً } ، والأمد يكون قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً } ؟ قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : « ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية » ؟ أي هو عالم الغيب.
{ فلا يظهر } : فلا يطلع ، و { من رسول } تبيين لمن ارتضى ، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة ، لا كل مرتضي ، وفي هذه إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل.
وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط.

انتهى.
وقال ابن عباس : { عالم الغيب } ، قال الحسن : ما غاب عن خلقه ، وقيل : الساعة.
وقال ابن عباس : إلا بمعنى لكن ، فجعله استثناء منقطعاً.
وقيل : إلا بمعنى ولا أي ، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب ، أو بدل من ربي.
وقرىء : عالم بالنصب على المدح.
وقال السدّي : علم الغيب ، فعلاً ماضياً ناصباً ، والجمهور : عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً.
وقرأ الجمهور : { فلا يظهر } من أظهر؛ والحسن : يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر ، { إلا من ارتضى من رسول } : استثناء من أحداً ، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك ، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول ، { ومن خلفه رصداً } : أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب.
وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
وقال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، ثم ذكر استدلالاً على بطلان ما يقوله المنجم ، ثم قال باستحلال دم المنجم.
وقال الواحدي : في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
قال أبو عبد الله الرازي والواحدي : تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف ، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه ، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه ، لأن قوله : { على غيبه } ليس فيه صفة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه ، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد ، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله : { إن أدري أقريب ما توعدون } الآية : أي لا أدري وقت وقوع القيامة ، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد.
و { إلا من ارتضى } : استثناء منقطع ، كأنه قال : فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى من رسول ، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن.
قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والذي يدل عليه وجوه : أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم.

وثانيها : إطباق الأمم على صحة علم التعبير ، فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبل ويكون صادقاً.
وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها ، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك ، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال : فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة.
ورابعها : أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة ، ليس هذا مختصاً بالأولياء ، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق ، وإن كان الكذب يقع منهم كثيراً.
وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن ، وذلك بأطل.
فقلنا : إن التأويل الصحيح ما ذكرناه.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه.
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب ، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع ، كما جاء في الحديث : « إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة » وليس هذا من علم الغيب ، إذ تكلمت به الملائكة ، وتلقفها الجني ، وتلقفها منه الكاهن؛ فالكاهن لم يعلم الغيب.
وأما تعبير المنامات ، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع ، بل على سبيل الحزر والتخمين ، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع.
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا ، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق ، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف.
وأما حكايته عن صاحب المعتبر ، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة.
وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة ، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق.
وأما الكرامات ، فلا أشك في صدور شيء منها ، لكن ذلك على سبيل الندرة ، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات ، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق.
وقرأ الجمهور : { ليعلم } مبنياً للفاعل.
قال قتادة : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا.

وقال ابن جبير : ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم.
وقال مجاهد : ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت ، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة.
وقيل : ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود ، لأن علمه بكل شيء قد سبق.
واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال : { ليعلم الله أَن قد أبلغوا رسالات ربهم } : يعني الأنبياء.
وحد أولاً على اللفظ في قوله : { من بين يديه ومن خلفه } ، ثم جمع على المعنى كقوله : { فإن له نار جهنم خالدين } ، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان ، وذكر العلم كذكره في قوله { حتى نعلم المجاهدين } انتهى.
وقيل : { ليعلم } ، أي : أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا.
وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه.
وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم.
وقيل : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
وقيل : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع.
وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ : ليعلم ، بضم الياء مبنياً للمفعول؛ والزهري وابن أبي عبلة : بضم الياء وكسر اللام ، أي ليعلم الله ، أي من شاء أن يعلمه ، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته.
وقرأ الجمهور : { رسالات } على الجمع؛ وأبو حيوة : على الإفراد.
وقرأ الجمهور : { وأحاط بما لديهم } : وأحاط مبنياً للفاعل ، أي الله ، { وأحصى } : مبنياً للفاعل ، أي الله كل نصباً؛ وابن أبي عبلة : وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً.
ولما كان ليعلم مضمناً معنى علم ، صار المعنى : قد علم ذلك ، فعطف وأحاط على هذا الضمير ، والمعنى : وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء.
{ وأحصى كل شيء عدداً } : أي معدوداً محصوراً ، وانتصابه على الحال من كل شيء ، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم.
ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون تمييزاً.
انتهى ، فيكون منقولاً من المفعول ، إذا أصله : وأحصى عدد كل شيء ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف.

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)

{ يا أيها المزمل } قالت عائشة والنخعي وجماعة : ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملاً بكساء.
وقال قتادة : كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد.
فنودي على معنى : يا أيها المستعد للعبادة.
وقال عكرمة : معناه المزمل للنبوة وأعبائها ، أي المشمر المجد ، فعلى هذا يكون التزمل مجازاً ، وعلى ما سبق يكون حقيقة.
وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت : ما كان تزميله؟ قالت : كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً ، نصفه عليّ وأنا نائمة ، ونصفه عليه ، إلى آخر الرواية؛ كذب صراح ، لأن نزول { يا أيها المزمل } بمكة في أوائل مبعثة ، وتزويجه عائشة كان بالمدينة.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن في آخر ما قبلها { عالم الغيب } الآيات ، فأتبعه بقوله : { يا أيها المزمل } ، إعلاماً بأنه صلى الله عليه وسلم ممن ارتضاه من الرسل وخصه بخصائص وكفاه شر أعدائه.
وقرأ الجمهور : { المزمل } ، بشد الزاي وكسر الميم ، أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي.
وقرأ أبي : المتزمل على الأصل؛ وعكرمة : بتخفيف الزاي.
أي المزمل جسمه أو نفسه.
وقرأ بعض السلف : بتخفيف الزاي وفتح الميم ، أي الذي لف.
وللزمخشري في كيفية نداء الله له بهذا الوصف كلام ضربت عن ذكره صفحاً ، فلم أذكره في كتابي.
وقال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به ، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب ، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ كرم الله وجهه وقد نام ولصق بجنبه التراب : « قم أبا تراب » ، إشعاراً بأنه ملاطف له ، فقوله : { يا أيها المزمل } فيه تأنيس وملاطفة.
وقرأ الجمهور : { قم الليل } ، بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين؛ وأبو السمال : بضمها اتباعا للحركة من القاف.
وقرىء : بفتحها طلباً للتخفيف.
قال ابن جني : الغرض بالحركة الهروب من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض ، وقم طلب.
فقال الجمهور : هو على جهة الندب ، وقيل : كان فرضاً على الرسول خاصة ، وقيل : عليه وعلى الجميع.
قال قتادة : ودام عاماً أو عامين.
وقالت عائشة : ثمانية أشهر ، ثم رحمهم الله نزلت : { إن ربك يعلم } الآيات ، فخفف عنهم { قم الليل إلا قليلاً }.
بين الاستثناء أن القيام المأمور به يستغرق جميع الليل ، ولذلك صح الاستثناء منه ، إذ لو كان غير مستغرق ، لم يصح الاستثناء منه ، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن ، لذلك استثى منه لراحة الجسد؛ وهذا عند البصريين منصوب على الظرف ، وإن استغرقه الفعل؛ وهو عند الكوفيين مفعول به.
وفي قوله : { إلا قليلاً } دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار ، كقوله :

{ ما فعلوه إلا قليل منهم } في قراءة من نصب { ثم توليتم إلا قليلاً منكم } قال وهب بن منبه : القليل ما دون المعشار والسدس.
وقال الكلبي ومقاتل : الثلث.
وقيل : ما دون النصف ، وجوزوا في نصفه أن يكون بدلاً من الليل ومن قليلاً.
فإذا كان بدلاً من الليل ، كان الاستثناء منه ، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلاً منه.
والضمير في منه وعليه عائد على النصف ، فيصير المعنى : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص من نصف الليل قليلاً ، أو زد على نصف الليل ، فيكون قوله : أو انقص من نصف الليل قليلاً ، تكراراً لقوله : إلا قليلاً من نصف الليل ، وذلك تركيب غير فصيح ينزه القرآن عنه.
قال الزمخشري : نصفه بدل من الليل ، وإلا قليلاً استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل.
والضمير في منه وعليه للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. انتهى.
فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول ، لأنه على تقديره : قم أقل من نصف الليل كان قوله ، أو انقص من نصف الليل تكراراً.
وإذا كان { نصفه } بدلاً من قوله : { إلا قليلاً } ، فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه وهو الليل ، لا جائز أن يعود على المبدل منه ، لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى البتة.
وإن عاد الضمير على الليل ، فلا فائدة في الاستثناء من الليل ، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه.
وقد أبطلنا قول من قال : إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه ، وأن التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه ، أي من النصف.
وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليًلا ، والضمير في نصفه عائد على الليل ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، أو زد عليه النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصح ، وليس المراد من الآية قطعاً.
وقال الزمخشري : وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً ، وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل.
وإن شئت قلت : لما كان معنى { قم الليل إلا قليلاً نصفه } : إذا أبدلت النصف من الليل ، قم أقل من نصف الليل ، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه قليلاً ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ، ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه.

ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع. انتهى.
وما أوسع خيال هذا الرجل ، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد ، والقرآن لا ينبغي ، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب ، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب.
وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري ، كما ذكرنا عنه.
وابن عطية أورده مورد الاحتمال ، وأبو البقاء ، وقال : أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً ، أو زد عليه ، والهاء فيهما للنصف.
فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص منه قليلاً.
والقليل المستثنى غير مقدر ، فالنقصان منه لا يتحصل. انتهى.
وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل ، ولم يذكر غيره.
قال ابن عطية : وقد يحتمل عندي قوله : { إلا قليلاً } أنه استثناء من القيام ، فيجعل الليل اسم جنس.
ثم قال : { إلا قليلاً } ، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب.
انتهى ، وهذا خلاف الظاهر.
وقيل : المعنى أو نصفه ، كما تقول : أعطه درهماً درهمين ثلاثة ، تريد : أو درهمين ، أو ثلاثة.
انتهى ، وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه.
وقال التبريزي : الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاستثناء وارد على المأمور به ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً ، ثم جعل نصفه بدلاً من قليلاً ، فصار القليل مفسراً بالنصف من الثلثين ، وهو قليل من الكل.
فقوله : { أو نقص منه } : أي من المأمور به ، وهو قيام الثلث ، { قليلاً } : أي ما دون نصفه ، { أو زد عليه } ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعاً على الثلثين.
وقال أبو عبد الله الرازي : قد أكثر الناس في تفسيره هذه الآية ، وعندي فيه وجهان ملخصان ، وذكر كلاماً طويلاً ملفقاً يوقف عليه من كتابه.
وتقدّم تفسير الترتيل في آخر الإسراء.
{ قولاً ثقيلاً } : هو القرآن ، وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة ، كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة.
قال الحسن : إن الهذ خفيف ، ولكن العمل ثقيل.
وقال أبو العالية : والقرطبي : ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده.
وقيل : ثقله ما كان يحل بجسمه صلى الله عليه وسلم حالة تلقيه الوحي ، حتى كانت ناقته تبرك به ذلك الوقت ، وحتى كادت رأسه الكريمة أن ترض فخذ زيد بن ثابت.

وقيل : كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساني.
قال ابن عباس : كلاماً عظيماً.
وقيل : ثقيل في الميزان يوم القيامة ، وهو إشارة إلى العمل به.
وقيل : كناية عن بقائه على وجه الدهر ، لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه.
{ إن ناشئة الليل } ، قال ابن عمر وأنس ابن مالك وعليّ بن الحسين : هي ما بين المغرب والعشاء.
وقالت عائشة ومجاهد : هي القيام بعد اليوم ، ومن قام أول الليل قبل اليوم ، فلم يقم ناشئة الليل.
وقال ابن جبير وابن زيد : هي لفظة حبشية ، نشأ الرجل : قام من الليل ، فناشئة على هذا جمع ناشىء ، أي قائم.
وقال ابن جبير وابن زيد أيضاً وجماعة : ناشئة الليل : ساعاته ، لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء.
وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن وأبو مجلز : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة ، وما كان قبلها فليس بناشئة.
قال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل ، وقال هو وابن الزبير : الليل كله ناشئة.
وقال الكسائي : ناشئة الليل أوله.
وقال الزمخشري : ناشئة الليل : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض.
قال الشاعر :
نشأنا إلى خوص برى فيها السرى . . .
وألصق منها مشرفات القماحد
أو : قيام الليل ، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعله كالعاقبة. انتهى.
وقرأ الجمهور : وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدوداً.
وقرأ قتادة وشبل ، عن أهل مكة : بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة.
وقرأ ابن محيصن : بفتح الواو ممدوداً ، والمعنى أنها أشد مواطأة ، أي يواطىء القلب فيها اللسان ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص.
ومن قرأ { وطأ } : أي أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل ، أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ، كما جاء : «اللهم اشدد وطأتك على مضر».
وقال الأخفش : أشد قياماً.
وقال الفراء : أثبت قراءة وقياماً.
وقال الكلبي : أشد نشاطاً للمصلي لأنه في زمان راحته.
وقيل : أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت فراغ ، فالعبادة تدوم.
{ وأقوم قيلاً } : أي أشد استقامة على الصواب ، لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه.
قال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ، لأنه زمان التفهم.
وقال عكرمة : أتم نشاطاً وإخلاصاً وبركة.
وحكى ابن شجرة : أعجل إجابة للدعاء.
وقال زيد بن أسلم : أجدر أن يتفقه فيها القارىء.
وقرأ الجمهور : { سبحاً } : أي تصرّفاً وتقلباً في المهمات ، كما يتردّد السابح في الماء.
قال الشاعر :
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها . . .
ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقيل : سبحاً سبحة ، أي نافلة.
وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة : سبخاً بالخاء المنقوطة ومعناه : خفة من التكاليف ، والتسبيخ : التخفيف ، وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه ، فمعناه : انتشار الهمة وتفرّق الخاطر بالشواغل.

وقيل : فراغاً وسعة لنومك وتصرّفك في حوائجك.
وقيل : المعنى إن فات حزب الليل بنوم أو عذر.
فليخلف بالنهار ، فإن فيه سبحاً طويلاً.
قال صاحب اللوامح : وفسر ابن يعمر وعكرمة سبخاً بالخاء معجمة.
وقال : نوماً ، أي تنام بالنهار لتستعين به على قيام الليل.
وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها ، فلا يجاوز عنه. انتهى.
وفي الحديث : « لا تسبخي بدعائك » ، أي لا تخففي.
وقال الشاعر :
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه . . .
إذا قدّر الرحمن شيئاً فكائن
وقال الأصمعي : يقال سبح الله عنك الحمى ، أي خففها.
وقيل : السبخ : المد ، يقال : سبخي قطنك : أي مديه ، ويقال لقطع القطن سبائخ ، الواحدة سبيخة ، ومنه قول الأخطل :
فأرسلوهنّ يذرين التراب كما . . .
يذري سبائخ قطن ندف أوتار
{ واذكر اسم ربك } : أي دم على ذكره ، وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما ، وانتصب { تبتيلاً } على أنه مصدر على غير الصدر ، وحسن ذلك كونه فاصلة.
وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : رب بالخفض على البدل من ربك؛ وباقي السبعة : بالرفع؛ وزيد بن عليّ : بالنصب؛ والجمهور : المشرق والمغرب موحدين؛ وعبد الله وأصحابه وابن عباس : بجمعهما.
وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : على القسم ، يعني : خفض رب بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لا إله إلا هو ، كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد. انتهى.
ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، إذ فيه إضمار الجار في القسم ، ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الله ، ولا يقاس عليه.
ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فلا تنفيء إلا بما وحدها ، ولا تنفي بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً ، نحو قول الشاعر :
ردوا فوالله لا زرناكم أبدا . . .
ما دام في مائنا ورد لورّاد
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها بما نحو قوله :
لعمرك ما سعد بخلة آثم . . .
ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر
{ فاتخذه وكيلاً } ، لأن من انفرد بالألوهية لم يتخذ وكيلاً إلا هو.
{ واصبر } ، { واهجرهم } : قيل منسوخ بآية السيف.
{ وذرني والمكذبين } : قيل نزلت في صناديد قريش ، وقيل : في المطعمين يوم بدر ، وتقدّمت أسماؤهم في سورة الأنفال ، وتقدّم شرح مثل هذا في { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } { أولي النعمة } : أي غضارة العيش وكثرة المال والولد ، والنعمة بالفتح : التنعم ، وبالكسر : الأنعام وما ينعم به ، وبالضم : المسرّة ، يقال : نعم ونعمة عين.
{ ومهلهم قليلاً } : وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم ، والقليل : موافاة آجالهم.
وقيل : وقعة بدر.

{ إن لدينا } : أي ما يضاد نعمتهم ، { أنكالاً } : قيوداً في أرجلهم.
قال الشعبي : لم تجعل في أرجلهم خوفاً من هروبهم ، ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استقلت بهم.
وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأول أعرف في اللغة ، ومنه قول الخنساء :
دعاك فقطعت أنكاله . . .
وقد كن قبلك لا تقطع
{ وجحيماً } : ناراً شديدة الايقاد.
{ وطعاماً ذا غصة } ، قال ابن عباس : شوك من نار يعترض في حلوقهم ، لا يخرج ولا ينزل.
وقال مجاهد وغيره : شجرة الزقوم.
وقيل : الضريع وشجرة الزقوم.
{ يوم } منصوب بالعامل في الدنيا ، وقيل : بذرني ، { ترجف } : تضطرب.
وقرأ الجمهور : { ترجف } بفتح التاء مبنياً للفاعل؛ وزيد بن علي : بضمها مبنياً للمفعول ، { كثيباً } : أي رملاً مجتمعاً ، { مهيلاً } : أي رخواً ليناً.
قيل : ويقال : مهيل ومهيول ، وكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، الإتمام في ذوات الياء لغة تميم ، والحذف لأكثر العرب.
ولما هدد المكذبين بأهوال القيامة ، ذكرهم بحال فرعون وكيف أخذه الله تعالى ، إذ كذب موسى عليه السلام ، وأنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى فقال : { إنا أرسلنا إليكم } ، والخطاب عام للأسود والأحمر.
وقيل : لأهل مكة ، { رسولاً شاهداً عليكم } ، كما قال : { وجئنا بك شهيداً على هؤلآء } وشبه إرساله إلى أهل مكة بإرسال موسى إلى فرعون على التعيين ، لأن كلاً منهما ربا في قومه واستحقروا بهما ، وكان عندهم علم بما جرى من غرق فرعون ، فناسب أن يشبه الإرسال بالإرسال.
وقيل : الرسول بلام التعريف ، لأنه تقدم ذكره فأحيل عليه.
كما تقول : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، لأن المضروب هو الملقى ، والوبيل : الرديء العقبى ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم لا يستمرأ لثقله ، أي لا ينزل في المريء.

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

{ يوماً } منصوب بتتقون ، منصوب نصب المفعول به على المجاز ، أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا؟ والضمير في { يجعل } لليوم ، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل المجاز.
وقال الزمخشري : { يوماً } مفعول به ، أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً؟ انتهى.
وتتقون مضارع اتقى ، واتقى ليس بمعنى وقى حتى يفسره به ، واتقى يتعدى إلى واحد ، ووقى يتعدى إلى اثنين.
قال تعالى : { ووقاهم عذاب الجحيم } ، ولذلك قدره الزمخشري : تقون أنفسكم يوم القيامة ، لكنه ليس تتقون بمعنى تقون ، فلا يتعدى بعديته ، ودس في قوله : ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً الاعتزال.
قال : ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ قال : ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم ، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة؟ والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه. انتهى.
وقرأ الجمهور : { يوماً } منوناً ، { يجعل } بالياء؛ والجملة من قوله : { يجعل } صفة ليوم ، فإن كان الضمير في { يجعل } عائداً على اليوم فواضح وهو الظاهر؛ وإن عاد على الله ، كما قال بعضهم ، فلا بد من حذف ضمير يعود إلى اليوم ، أي يجعل فيه كقوله : { يوماً لا تجزي نفس }.
وقرأ زيد بن عليّ : بغير تنوين : نجعل بالنون ، فالظرف مضاف إلى الجملة ، والشيب مفعول ثان ليجعل ، أي يصير الصبيان شيوخاً ، وهو كناية عن شدة ذلك اليوم.
ويقال في اليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب.
قال المتنبي :
والهم يخترم الجسيم نحافة . . .
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقال قوم : ذلك حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول ، كما قد يرى الشيب في الدنيا من الهم المفرط ، كهول البحر ونحوه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الاطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة.
وقال السدي : الولدان : أولاد الزنا.
وقيل : أولاد المشركين ، والظاهر العموم ، أي يشيب الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدم قم فابعث بعث النار.
وقيل : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق.
{ السماء منفطر به } ، قال الفراء : يعني المظلة تذكر وتؤنث ، فجاء منفطر على التذكير ، ومنه قول الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوم . . .
لحقنا بالسماء وبالسحاب
وعلى القول بالتأنيث ، فقال أبو علي الفارسي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، وأعجاز نخل منقعر.
انتهى ، يعني أنها من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماء ، واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث ، فجاء منفطر على التذكير.

وقال أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيدة والكسائي ، وتبعهم القاضي منذر بن سعيد : مجازها السقف ، فجاء عليه منفطر ، ولم يقل منفطرة.
وقال أبو علي أيضاً : التقدير ذات انفطار كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات رضاع ، فجرى على طريق التسبب.
وقال الزمخشري : أو السماء شيء منفطر ، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر وهو شيء ، والانفطار : التصدع والانشقاق؛ والضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم ، والباء للسبب ، أي بسبب شدة ذلك اليوم ، أو ظرفية ، أي فيه.
وقال مجاهد : يعود على الله ، أي بأمره وسلطانه.
والظاهر أن الضمير في { وعده } عائد على اليوم ، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي أنه تعالى وعد عباده هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، فلا بد من إنجازه.
ويجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، فيكون من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وإن لم يجر له ذكر قريب ، لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى.
{ إن هذه } : أي السورة ، أو الأنكال وما عطف عليه ، والأخذ الوبيل ، أو آيات القرآن المتضمنة شدة القيامة ، { تذكرة } : أي موعظة ، { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } بالتقرب إليه بالطاعة ، ومفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط ، لأن من شرطية ، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلاً اتخذه إلى ربه ، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة ، بل تتضمن معنى الوعد والوعيد.
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } : تصلي ، كقوله : { قم الليل }.
لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها ، وهذه الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمرار استعماله من أمر قيام الليل ، إما على الوجوب ، وإما على الندب ، على الخلاف الذي سبق؛ { أدنى من ثلثي الليل } : أي زماناً هو أقل من ثلثي الليل ، واستعير الأدنى ، وهو الأقرب للأول ، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك.
وقرأ الجمهور : { من ثلثي } بضم اللام؛ والحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السميفع وهشام وابن مجاهد ، عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل : بإسكانها ، وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح.
وقرأ العربيان ونافع : ونصفه وثلثه ، بجرهما عطفاً على { ثلثي الليل } ؛ وباقي السبعة وزيد بن علي : بالنصب عطفاً على { أدنى } ، لأنه منصوب على الظرف ، أي وقتاً أدنى من ثلثي الليل.
فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أول السورة ، لأنه إذا قام الليل إلا قليلاً صدق عليه { أدنى من ثلثي الليل } ، لأن الزمان الذي لم يقم فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : { إلا قليلاً }.
وأما قوله : { ونصفه } فهو مطابق لقوله أولاً : { نصفه }.
وأما ثلثه فإن قوله : { أو انقص منه قليلاً } قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل.
وأما قوله : { أو زد عليه } ، فإنه إذا زاد على النصف قليلاً ، كان الوقت أقل من الثلثين ، فيكون قد طابق قوله : { أدنى من ثلثي الليل } ، ويكون قوله تعالى : { نصفه أو انقص منه قليلاً } شرحاً لمبهم ما دل عليه قوله : { قم الليل إلا قليلاً } ، وعلى قراءة النصب.

قال الحسن وابن جبير : معنى تحصوه : تطيقوه ، أي قدر تعالى أنهم يقدرون الزمان على ما مر في أول السورة ، فلم يطيقوا قيامه لكثرته وشدته ، فخفف تعالى عنهم فضلاً منه ، لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات.
وأما قراءة الجر ، فالمعنى أنه قيام مختلف؛ مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من النصف ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لتعذر معرته البشر مقادير الزمان مع عذر النوم.
وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، والبشر لا يحصون ذلك ، أي لا يطيقون مقادير ذلك ، فتاب عليهم ، أي رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقيام ما تيسر.
وعلى القراءتين يكون علمه تعالى بذلك على حسب الوقوع منهم ، لأنهم قاموا تلك المقادير في أوقات مختلفة قاموا أدنى من الثلثين ونصفاً وثلثاً ، وقاموا أدنى من النصف وأدنى من الثلث ، فلا تنافي بين القراءتين.
وقرأ الجمهور : { وثلثه } بضم اللام؛ وابن كثير في رواية شبل : بإسكانها؛ وطائفة : معطوف على الضمير المستكن في { تقوم } ، وحسنة الفصل بينهما.
وقوله : { وطائفة من الذين معك } دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع ، إذ لو كان فرضاً ، لكان التركيب : والذين معك ، إلا إن اعتقد أنهم كان منهم من يقوم في بيته ، ومنهم من يقوم معه ، فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع.
{ والله يقدر الليل والنهار } : أي هو وحده تعالى العالم بمقادير الساعات.
قال الزمخشري : وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير. انتهى.
وهذا مذهبه ، وإنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ.
لو قلت : زيد يحفظ القرآن أو يتفقه في كتاب سيبويه ، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص.
وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في { نحصوه } ، الظاهر أنه عائد على المصدر المفهوم من يقدر ، أي أن لن تحصوا تقدير ساعات الليل والنهار ، لا تحيطوا بها على الحقيقة.
وقيل : الضمير يعود على القيام المفهوم من قوله : { فتاب عليكم }.
قيل : فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به.
وقيل : رجع بكم من ثقل إلى خف ، ومن عسر إلى عسر ، ورخص لكم في ترك القيام المقدر.
{ فاقرؤا ما تيسر من القرآن } : عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها ، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود ، أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل.
وقيل : وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس.
وهذا الأمر بقوله : { فاقرؤا } ، قال الجمهور : أمر إباحة ، وقال ابن جبير وجماعة : هو فرض لا بد منه ، ولو خمسين آية.

وقال الحسن وابن سيرين : قيام الليل فرض ، ولو قدر حلب شاة.
وقيل : هو أمر بقراءة القرآن بعينها ، لا كناية عن الصلاة.
وإذا كان المراد : فاقرؤا في الصلاة ما تيسر ، فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ ، بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره ، وأبو حنيفة بآية ، حكاه عنه الماوردي؛ وبثلاث.
حكاه ابن العربي؛ وعين مالك والشافعي ما تيسر ، قالا : هو فاتحة الكتاب ، لا يعدل عنها ولا يقتصر على بعضها.
{ علم أن سيكون منكم مرضى } : بيان لحكمة النسخ ، وهي تعذر القيام على المرضى ، والضاربين في الأرض للتجارة ، والمجاهدين في سبيل الله ، { فاقرؤا ما تيسر منه } ، كرر ذلك على سبيل التوكيد.
ثم أمر بعمودي الإسلام البدني والمالي ، ثم قال : { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } : العطف يشعر بالتغاير ، فقوله : { وآتوا الزكاة } أمر بأداء الواجب ، { وأقرضوا الله } : أمر بأداء الصدقات التي يتطوع بها.
وقرأ الجمهور : { هو خيراً وأعظم أجراً } بنصبهما ، واحتمل هو أن يكون فصلاً ، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في { تجدوه }.
ولم يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية في إعراب هو إلا الفصل.
وقال أبو البقاء : هو فصل ، أو بدل ، أو تأكيد.
فقوله : أو بدل ، وهم لو كان بدلاً لطابق في النصب فكان يكون إياه.
وقرأ أبو السمال وابن السميفع : هو خير وأعظم ، برفعهما على الابتداء أو الخبر.
قال أبو زيد : هو لغة بني تميم ، يرفعون ما بعد الفاصلة ، يقولون : كان زيد هو العاقل بالرفع ، وهذا البيت لقيس بن ذريح وهو :
نحن إلى ليلى وأنت تركتها . . .
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال أبو عمرو الجرمي : أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة.
ويروى : أقدر.
وقال الزمخشري : وهو فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. انتهى.
وليس ما ذكر متفقاً عليه.
ومنهم من أجازه ، وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله ، والخلاف الوارد فيها كثير جداً ، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل في أحكام الفصل ، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا.

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه ، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني ، نزلت { يا أيها المدثر }.
قال النخعي وقتادة وعائشة : نودي وهو في حال تدثره ، فدعى بحال من أحواله.
وروي أنه كان تدثر في قطيفة.
قيل : وكان يسمع من قريش ما كرهه ، فاغتم وتغطى بثوبه مفكراً ، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه.
وقال عكرمة معناه : يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها ، كما قال في المزمل.
وقرأ الجمهور : { المدثر } بشد الدال.
وأصله المتدثر فأدغم ، وكذا هو في حرف أبي على الأصل.
وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل ، أي دثر نفسه.
وعن عكرمة أيضاً : فتح التاء اسم مفعول ، وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك.
{ قم فأنذر } : أي قم من مضجعك ، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء ، كما تقول : قام زيد يضرب عمراً ، أي أخذ ، وكما قال :
علام قام يشتمني لئيم . . .
أي أخذ ، والمعنى قم قيام تصميم وجد ، { فأنذر } : أي حذر عذاب الله ووقائعه ، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق.
{ وربك فكبر } : أي فعظم كبرياءه.
وقال الزمخشري : واختص ربك بالتكبير ، وهو الوصف بالكبرياء ، وأن يقال : الله أكبر. انتهى.
وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص ، قال : ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره. انتهى.
وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : زيداً فاضرب ، قالوا تقديره : تنبه فاضرب زيداً ، فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة.
{ وثيابك فطهر } : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات ، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة ، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي ، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي.
وقيل : تطهيرها : تقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر ، قال الشاعر :
ثم راحوا عبق المسك بهم . . .
يلحفون الأرض هداب الأزر
ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث : « أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار » وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز.
فقال ابن عباس والضحاك : تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر.
وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً : كنى بالثياب عن القلب ، كما قال امرؤ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي . . .
أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر ، وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي :

إني بحمد الله لا ثوب غادر . . .
لبست ولا من خزية أتقنع
وقيل : كناية عن طهارة العمل ، المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد.
وقال ابن زيد : إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا : فلان خبيث الثياب؛ وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب ، ونحو هذا عن السدي ، ومنه قول الشاعر :
لا هم إن عامر بن جهم . . .
أو ذم حجا في ثياب دسم
أي : دنسة بالمعاصي ، وقيل : كنى عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس.
قال الشاعر :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه . . .
وقال آخر :
ثياب بني عوف طهارى نقية . . .
وأوجههم بيض سافر غران
أي : أنفسهم.
وقيل : كنى بها عن الجسم.
قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً :
رموها بأثواب خفاف فلا نرى . . .
لها شبهاً إلا النعام المنفرا
أي : ركبوها فرموها بأنفسهم.
وقيل : كناية عن الأهل ، قال تعالى : { هن لباس لكم } والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف.
وقيل : وطئهن في القبل لا في الدبر ، في الطهر لا في الحيض ، حكاه ابن بحر.
وقيل : كناية عن الخلق ، أي وخلقك فحسن ، قاله الحسن والقرطبي ، ومنه قوله :
ويحيى ما يلائم سوء خلق . . .
ويحيى طاهر الأثواب حر
أي : حسن الأخلاق.
وقرأ الجمهور : والرجز بكسر الراء ، وهي لغة قريش؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يراد بهما الأصنام والأوثان.
وقيل : الكسر للبين والنقائص والفجور ، والضم لصنمين أساف ونائلة.
وقال عكرمة ومجاهد والزهري : للأصنام عموماً.
وقال ابن عباس : الرجز : السخط ، أي اهجر ما يؤدي إليه.
وقال الحسن : كل معصية ، والمعنى في الأمر : اثبت ودم على هجره ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان بريئاً منه.
وقال النخعي : الرجز : الإثم.
وقال القتبي : العذاب ، أي اهجر ما يؤدي إليه.
وقرأ الجمهور : { ولا تمنن } ، بفك التضعيف؛ والحسن وأبو السمال : بشد النون.
قال ابن عباس وغيره : لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه ، كأنه من قولهم : منّ إذا أعطى.
قال الضحاك : هذا خاص به صلى الله عليه وسلم ، ومباح ذلك لأمته ، لكنه لا أجر لهم.
وعن ابن عباس أيضاً : لا تقل دعوت فلم أجب.
وعن قتادة : لا تدل بعملك.
وعن ابن زيد : لا تمنن بنبوتك ، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم.
وقال الحسن : تمنن على الله بجدك ، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها.
وقال مجاهد : { ولا تمنن تستكثر } ما حملناك من أعباء الرسالة ، أو تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين : أي ضعيف.
وقيل : ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه.
وقرأ الجمهور : تستكثر برفع الراء ، والجملة حالية ، أي مستكثراً.
قال الزمخشري : ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع.

انتهى ، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال ، أي مستكثراً.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : بجزم الراء ، ووجهه أنه بدل من تمنن ، أي لا تستكثر ، كقوله : { يضاعف له العذاب } في قراءة من جزم ، بدلاً من قوله : { يلق } وكقوله :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا . . .
تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا
ويكون من المن الذي في قوله تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى } لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيراً ويعتد به؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين ، أحدهما : أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً؛ والثاني : أن يعتبر حال الوقف ، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف ، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما ، وهو المبدل.
وقرأ الحسن أيضاً والأعمش : تستكثر بنصب الراء ، أي لن تحقرها.
وقرأ ابن مسعود : أن تستكثر ، بإظهار أن.
{ ولربك فاصبر } : أي لوجه ربك أمره بالصبر ، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة ، وعلى أداء طاعة الله ، وعلى أذى الكفار.
قال ابن زيد : على حرب الأحمر والأسود ، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر.
وقال الزمخشري : والفاء في قوله : { فإذا نقر } للتسبب ، كأنه قيل : فاصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه.
وقال الزمخشري : والفاء في { فذلك } للجزاء.
فإن قلت : بم انتصب إذا ، وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء ، لأن المعنى : { فإذا نقر في الناقور } ، عسر الأمر على الكافرين؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور.
ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك ، ويوم عسير خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير.
فإن قلت : فما فائدة قوله : { غير يسير } ، وعسير مغن عنه؟ قلت : لما قال { على الكافرين } فقصر العسر عليهم ، قال { غير يسير } ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم.
ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا. انتهى.
وقال الحوفي : { فإذا } ، إذا متعلقة بأنذر ، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة ، قال أبو البقاء : يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة.
فأما يومئذ فظرف لذلك ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير ، أي غير يسير ، أي غير سهل على الكافرين؛ وينبغي أن لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل ، وهو ممنوع على الصحيح؛ وقد أجازه بعضهم فيقول : أنا بزيد غير راض.

{ ذرني ومن خلقت وحيداً } : لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب بالوحيد ، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته.
والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من ، أي خلقته منفرداً ذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله تعالى المال والولد ، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه.
وقيل : حال من ضمير النصب في ذرني ، قاله مجاهد ، أي ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه؛ أو حال من التاء في خلقت ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد ، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه.
وقيل : وحيداً لا يتبين أبوه.
وكان الوليد معروفاً بأنه دعي ، كما تقدم في قوله تعالى : { عتل بعد ذلك زنيم } وإذا كان يدعى وحيداً ، فلا يجوز أن ينتصب على الذم ، لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيداً لا نظير له.
ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً ، والعلم لا يفيد في المسمى صفة ، وأيضاً فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة.
{ وجعلت له مالاً ممدوداً } ، قال ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار.
وقيل : كان صاحب زرع وضرع وتجارة.
وقال النعمان بن بشير : المال المدود هو الأرض لأنها مدت.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو الريع المستغل مشاهرة ، فهو مد في الزمان لا ينقطع.
وقيل : هو مقدار معين واضطربوا في تعيينه.
فما قيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ألف دينار ، وكل هذا تحكم.
{ وبنين شهوداً } : أي حضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم ، أو شهوداً : أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل ، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه؛ واختلف في عددهم ، فذكر منهم : خالد وهشام وعمارة ، وقد أسلموا؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس.
قال مقاتل : فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك.
{ ومهدت له تمهيداً } : أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه.
وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام.
وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض ، كما يمهد الفراش.
{ ثم يطمع أن أزيد } : أي على ما أعطيته من المال والولد.
{ كلا } : أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم.
وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، لأنه كان يقول : إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي.
{ ثم يطمع } ، قال الزمخشري : استبعاد لطمعه واستنكار ، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة ، { كلا } : قطع لرجائه وردع.

انتهى.
وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا.
{ إنه كان لآياتنا عنيداً } : تعليل للرّدع على وجه الاستئناف ، كأن قائلاً قال : لم لا يزاد؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك ، والكافر لا يستحق المزيد؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله : { وجعلت له مالاً ممدوداً } إلى آخر ما آتاه الله ، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه سحر.
{ سأرهقه } : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر ، { صعوداً } : عقبة في جهنم ، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة ، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام.
{ إنه فكر وقدر } : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا : هو شعر ، فقال : والله ما هو بشعر ، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه ، قالوا : فهو كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه.
وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر.
أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه.
وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام.
ودخل إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل.
{ إنه فكر } : تعليل للوعيد في قوله : { سأرهقه صعوداً }.
قيل : ويجوز أن يكون { إنه فكر } بدلاً من قوله : { إنه كان لآياتنا عنيداً } ، بياناً لكنه عناده وفكر ، أي في القرآن ومن أتى به ، { وقدر } : أي في نفسه ما يقول فيه.
{ فقتل كيف قدر } ، قتل : لعن ، وقيل : غلب وقهر ، وذلك من قوله :
لسهميك في أعسار قلب مقتل . . .
أي مذلل مقهور بالحب ، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب ، وذلك إخبار بقهره وذلته ، و { كيف قدر } معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب.

فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً ، كأنه رآنا حين قال كذا.
وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه.
وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء.
وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر ، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ، وهذا فيه بعد.
وقولهم : قاتلهم الله ، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده ، والاستفهام في { كيف قدر } في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه ، كقولهم : أي رجل زيد؟ أي ما أعظمه.
وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما ، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل ، فدعى عليه ثانياً ، { ثم نظر } : أي فكر ثانياً.
وقيل : نظر إلى وجوه الناس ، { ثم عبس وبسر } : أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول.
وقيل : قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ ثم أدبر } : رجع مدبراً ، وقيل : أدبر عن الحق ، { واستكبر } ، قيل : تشارس مستكبراً ، وقيل : استكبر عن الحق ، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأن ما يقوله كذب وافتراء ، إذ لو كان ممكناً ، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه ، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل.
ألا ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول صلى الله عليه وسلم ، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وأسلم من فوره.
وقيل : ثم نظر فيما يحتج به للقرآن ، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودام نظره في ذلك.
{ ثم عبس وبسر } ، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله ، إذ بين ذلك تراخ وتباعد.
وكان العطف في { وبسر } وفي { واستكبر } ، لأن البسور قريب من العبوس ، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار ، إذ الاستكبار معنى في القلب ، والإدبار حقيقة من فعل الجسم ، فهما سبب ومسبب ، فلا يعطف بثم؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين ، وناسب العطف بالواو؛ وكان العطف في فقال بالفاء دلالة على التعقيب ، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه ، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل.
ومعنى { يؤثر } : يروي وينقل ، قال الشاعر :
لقلت من القول ما لا يزا . . .
ل يؤثر عني به المسند

وقيل : { يؤثر } أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار ، ومعنى { إلا سحر } : أي شبيه بالسحر.
{ إن هذا إلا قول البشر } : تأكيد لما قبله ، أي يلتقط من أقوال الناس ، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد.
ألا ترى ثناءه على القرآن ، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون ، وقصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } وكيف ناشده الله بالرحم أن يسكت؟ { سأصليه سقر } ، قال الزمخشري : بدل من { سأرهقه صعوداً }. انتهى.
ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة ، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما ، فتوعد على كونه عنيداً لآيات الله بإرهاق صعود ، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر ، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر.
{ وما أدراك ما سقر } : تعظيم لهولها وشدتها ، { لا تبقي ولا تذر } : أي لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه.
{ لوّاحة للبشر } ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور : معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها ، والبشر جمع بشرة ، وتقول العرب : لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته.
وقال الحسن وابن كيسان : لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر ، والمعنى أنها تظهر للناس ، وهم البشر ، من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزجرها ، كقوله تعالى : { لترون الجحيم } وقوله : { وبرزت الجحيم لمن يرى } وقرأ الجمهور : { لواحة } بالرفع ، أي هي لوّاحة.
وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة : لواحة بالنصب على الحال المؤكدة ، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للأبشار.
وقال الزمخشري : نصباً على الاختصاص للتهويل.
{ عليها تسعة عشر } : التمييز محذوف ، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك.
ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، فأنزل الله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ، وأنزل الله تعالى في أبي جهل { أولى لك فأولى } وقيل : التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة ، وقيل : نقيباً ، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها ، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ، وقوله عليه الصلاة والسلام :

« يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها » ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم ، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته ، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره.
وقرأ الجمهور : { تسعة عشر } مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد.
وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين ، كراهة توالي الحركات.
وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء ، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ، ولا يتوهم أنها حركة إعراب ، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر.
وقرأ أنس أيضاً : تسعة بالضم ، أعشر بالفتح.
وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر ، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم ، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً ، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة ، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة.
وعن سليمان بن قنة ، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر ، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب.
قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
قال الزمخشري : وقرىء تسعة أعشر جمع عشير ، مثل يمين وأيمن. انتهى.
وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو القائل :
مررت على أبيات آل محمد . . .
فلم أر أمثالاً لها يوم حلت
وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية . . .
لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
{ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } : أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم ، { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } : أي سبب فتنة ، وفتنة مفعول ثان لجعلنا ، أي جعلنا تلك العدّة ، وهي تسعة عشر ، سبباً لفتنة الكفار ، فليس فتنة مفعولاً من أجله ، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء.
فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
{ ليستيقن } : هذا مفعول من أجله ، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة.
فليست الفتنة معلولة للاستيقان ، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة { الذين أوتوا الكتاب } ، وهم اليهود والنصارى.
إنّ هذا القرآن هو من عند الله ، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة ، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء ، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى.
قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد ، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً ، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين.

وقيل : إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود؟ ويقولون هذا العدد القليل ، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك؟ قلت : ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك ، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن المراد بقوله : { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } : وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر؛ فوضع { فتنة للذين كفروا } موضع { تسعة عشر } ، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين.
انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى ، إذ زعم أن معنى { إلا فتنة للذين كفروا } : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى.
وقيل : { ليستيقن } متعلق بفعل مضمر ، أي فعلنا ذلك ليستيقن.
{ ولا يرتاب } : توكيد لقوله { ليستيقن } ، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام.
و { الذين في قلوبهم مرض } ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان.
وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً }.
لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضاً عن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند الله ، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله ، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة.
الكاف في محل نصب ، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى ، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً ، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً.
{ وما يعلم جنود ربك إلا هو } : إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم ، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء عامرة بأنواع من الملائكة.
وفي الحديث : « أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً » { وما هي } : أي النار ، قاله مجاهد ، أو المخاطبة والنذارة ، أو نار الدنيا ، أو الآيات التي ذكرت ، أو العدّة التسعة عشر ، أو الجنود ، أقوال راجحها الأول وهي سقر ، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا.
وقد جرى ذكر النار أيضاً في قوله : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة }.
{ إلا ذكرى للبشر } : أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار.

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

{ كلا } ، قال الزمخشري : كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون. انتهى.
ولا يسوغ هذا في حق الله تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى ، وإنما قوله : { للبشر } عام مخصوص.
وقال الزمخشري : أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير.
وقيل : ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم.
وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.
وقال الفراء : هي صلة للقسم ، وقدرها بعضهم بحقاً ، وبعضهم بألا الاستفتاحية ، وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام.
{ والقمر والليل إذ أدبر } : أي ولى ، ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد.
أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته ، وقوام الوجود بإيجادها.
وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر : إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال؛ وابن جبير والسلمي والحسن : بخلاف عنهم؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص : إذ ظرف زمان ماض ، أدبر رباعياً؛ والحسن أيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر : إذا بالألف ، أدبر بالهمز ، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ ، وهو مناسب لقوله : { إذا أسفر } ، ويقال : كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنى واحد.
وقال يونس بن حبيب : دبر : انقضى ، وأدبر : تولى.
وقال قتادة : دبر الليل : ولى.
وقال الزمخشري : ودبر بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل.
وقيل : هو من دبر الليل النهار : أخلفه.
وقرأ الجمهور : أسفر رباعياً؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل : سفر ثلاثياً ، والمعنى : طرح الظلمة عن وجهه.
{ إنها لإحدى الكبر } : الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار.
قيل : ويحتمل أن يكون للنذارة ، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة.
وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، فعاد الضمير إلى غير مذكور ، ومعنى إحدى الكبر : الدواهي الكبر ، أي لا نظير لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، والكبر : العظائم من العقوبات.
وقال الراجز :
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر . . .
داهية الدهر وصماء الغير
والكبر جمع الكبرى ، طرحت ألف التأنيث في الجمع ، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع.
وفي كتاب ابن عطية : والكبر جمع كبيرة ، ولعله من وهم الناسخ.
وقرأ الجمهور : لإحدى بالهمز ، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى ، وهو بدل لازم.
وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير : بحذف الهمزة ، وهو حذف لا ينقاس ، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين.

والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم.
وقال الزمخشري : أو تعليل لكلا ، والقسم معترض للتوكيد. انتهى.
وقرأ الجمهور : { نذيراً } ، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار ، فيكون تمييزاً : أي لإحدى الكبر إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً.
كما ضمن إحدى معنى أعظم ، جاء عنه التمييز.
وقال الفراء : هو مصدر نصب بإضمار فعل ، أي أنذر إنذاراً.
واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر.
فقال الزجاج : حال من الضمير في إنها.
وقيل : حال من الضمير في إحدى ، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة ، أو بفأنذر في أول السورة ، أو حالاً من الكبر ، أو حالاً من ضمير الكبر ، فهو بمعزل عن الصواب.
قال أبو البقاء : والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره : عظمت نذيراً.
انتهى ، وهو قول لا بأس به.
قال النحاس : وحذفت الهاء من نذيراً ، وإن كان للنار على معنى النسب ، يعني ذات الإنذار.
وقال علي بن سليمان : أعني نذيراً.
وقال الحسن : لأنذر ، إذ هي من النار.
قال ابن عطية : وهذا القول يقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها ، أو من قوله : { لإحدى }.
قال أبو رزين : نذير هنا هو الله تعالى ، فهو منصوب بإضمار فعل ، أي ادعوا نذيراً.
وقال ابن زيد : نذير هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو منصوب بفعل مضمر ، أي ناد ، أو بلغ ، أو أعلن.
وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة : نذير بالرفع.
فإن كان من وصف النار ، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف ، أي هي نذير.
وإن كان من وصف الله أو الرسول ، فهو على إضمار هو.
والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار ، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من.
وقيل : الفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أي لمن شاء هو ، أي الله تعالى.
وقال الحسن : هو وعيد ، نحو قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } قال ابن عطية : هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر ، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره.
ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة }.
وقال الزمخشري : { أن يتقدم } في موضع الرفع بالابتداء ، و { لمن شاء } خبر مقدم عليه ، كقولك لمن توضأ : أن يصلي ، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر.
والمراد بالتقدم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه ، وهو كقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }.
انتهى ، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف.
قيل : والتقدم : الإيمان ، والتأخر : الكفر.
وقال السدي : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة.

وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات ، أو يتأخر عن المنهيات ، والظاهر العموم في كل نفس.
وقال الضحاك : كل نفس حقيق عليها العذاب ، ولا يرتهن الله تعالى أحداً من أهل الجنة ، ورهينة بمعنى رهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث ، نحو : رجل قتيل وامرأة قتيل ، فالمعنى : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه قول الشاعر :
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب . . .
رهينة رمس ذي تراب وجندل
أي : رمس رهن ، والمعنى : أن كل نفس رهن عند الله غير مفكوك.
وقيل : الهاء في رهينة للمبالغة.
وقيل : على تأنيث اللفظ لا على الإنسان ، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء ، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة ، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء ، قال تعالى : { كل امرىء بما كسب رهين } فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء ، كما في هذه الآية.
فأما الذي في البيت فأنث على معنى النفس.
{ إلا أصحاب اليمين } ، قال ابن عباس : هم الملائكة.
وقال عليّ : هم أطفال المسلمين.
فعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن أصحاب اليمين في جنات.
وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم ، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم.
وقال الزمخشري : { إلا أصحاب اليمين } ، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. انتهى.
وظاهر هذا أنه استثناء متصل في جنات ، أي هم { في جنات يتساءلون } : أي يسأل بعضهم بعضاً ، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل ، أي يسألون عنهم غيرهم ، كما يقال : دعوته وتداعوته بمعناه.
وعلى هذين التقديرين كيف جاء { ما سلككم في سقر } بالخطاب للمجرمين ، وفي الكلام حذف ، المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً ، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم ، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم ، أو قالت لهم الملائكة : هكذا قدره بعضهم ، والأقرب أن يكون التقدير : يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل : { ما سلككم في سقر }.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق قوله : { ما سلككم } ؟ وهو سؤال للمجرمين ، قوله : { يتساءلون عن المجرمين } ؟ وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم؟ قلت : { ما سلككم } ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم { ما سلككم في سقر } ، { قالوا لم نك من المصلين } ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه.
انتهى ، وفيه تعسف.
والأظهر أن السائلين هم المتسائلون ، وما سلككم على إضمار القول كما ذكرنا ، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير ، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار.

والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء ، كقولهم : { فلا اقتحم العقبة } ثم قال : { ثم كان من الذين آمنوا } واليقين : أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء ، أي وقت الموت.
وقال ابن عطية : واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخر.
وقال المفسرون : اليقين : الموت ، وذلك عندي هنا متعقب ، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي.
وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت ، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } : ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم ، وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع ، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب :
على لاحب لا يهتدي بمناره . . .
أي : لا منار له فيهتدي به.
وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها ، ووردت أحاديث في صحة ذلك.
{ فما لهم عن التذكرة } : وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة ، { معرضين } : أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة.
ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى.
وقرأ الجمهور : { حمر } بضم الميم؛ والأعمش : بإسكانها.
قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم.
وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : { مستنفرة } بفتح الفاء ، والمعنى : استنفرها : فزعها من القسورة؛ وباقي السبعة : بكسرها ، أي نافرة نفر ، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر ، ومنه قول الشاعر :
أمسك حمارك إنه مستنفر . . .
في إصر أحمرة عهدن لعرّب
ويناسب الكسر قوله : { فرّت }.
وقال محمد بن سلام : سألت أبا سرار العتوي ، وكان أعرابياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة؟ فقلت : إنما هو { فرّت من قسورة } ، قال : أفرّت؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذن.
قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : القسورة : الرماة.
وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : الأسد.
وقال ابن جبير : رجال القنص ، وهو قريب من القول الأول ، وقاله ابن عباس أيضاً.
وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل ، والمعنى : فرّت من ظلمة الليل ، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش ، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها.
{ بل يريد كل امرىء منهم } : أي من المعرضين عن عظات الله وآياته ، { أن يؤتى صحفاً منشرةً } : أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها ، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى يؤتى كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، ونحوه

{ لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } وروي أن بعضهم قال : إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان ، فلتعرض تلك الصحف علينا ، فنزلت هذه الآية.
وقرأ الجمهور : { صحفاً } بضم الصاد والحاء ، { منشرةً } مشدّداً؛ وابن جبير : بإسكانها منشرة مخففاً ، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل.
شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى ، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت ، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً ، ويقال في الميت : أنشره الله فنشر هو ، أي أحياه فحيي.
{ كلا } : ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات ، { بل لا يخافون الآخرة } ، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف.
وقرأ الجمهور : { يخافون } بياء الغيبة؛ وأبو حيوة : بتاء الخطاب التفاتاً.
{ كلا } : ردع عن إعراضهم عن التذكرة ، { إنه تذكرة فمن شاء ذكره } : ذكر في إنه وفي ذكره ، لأن التذكرة ذكر.
وقرأ نافع وسلام ويعقوب : تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج : بالياء.
وروي عن أبي حيوة : يذكرون بياء الغيبة وشد الذال.
وروي عن أبي جعفر : تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال.
{ هو أهل التقوى } : أي أهل أن يتقي ويخاف ، وأهل أن يغفر.
وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال : « يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل يتقى إله غيري ، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له » وقال الزمخشري : في قوله تعالى { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } ، يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه ، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً.

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

تقدّم الكلام في { لا أقسم }.
والخلاف في لا ، والخلاف في قراآتها في أواخر الواقعة.
أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهو له.
و { لا أقسم } ، قيل : لا نافية ، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة ، نص على هذا الحسن؛ والجمهور : على أن الله أقسم بالأمرين.
واللوّامة ، قال الحسن : هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله بها.
وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد ، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه.
وقيل : النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى.
وقال ابن عباس وقتادة : هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها ، فهي على هذا ذميمة ، ويحسن نفي القسم بها.
والنفس اللوّامة : اسم جنس بهذا الوصف.
وقيل : هي نفس معينة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة.
قال ابن عطية : وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين ، مرّة تلوم على ترك الطاعة ، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت. انتهى.
والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة ، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله : { أيحسب } الآية ، وتقديره لتبعثن.
وقال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون } والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، وكان قد أنشد قول امرىء القيس :
لا وأبيك ابنة العامري . . .
لا يدعي القوم إني أفرّ
وقول غوية بن سلمى :
ألا نادت أمامة باحتمالي . . .
لتحزنني فلا بك ما أبالي
قال : فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، نحو قولك : { لا أقسم بيوم القيامة } ، لا تتركون سدى؟ قلت : لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقسم.
ألا ترى كيف لقي { لا أقسم بهذا البلد } بقوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } وكذلك { فلا أقسم بمواقع النجوم } { إنه لقرآن كريم } ثم قال الزمخشري : وجواب القسم ما دل عليه قوله : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } ، وهو لتبعثن.
انتهى ، وهو تقدير النحاس.
وقول من قال جواب القسم هو : { أيحسب الإنسان }.
وما روي عن الحسن أن الجواب : { بلى قادرين } ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما ، أي لا أقسم على شيء ، وأن التقدير : أسألك أيحسب الإنسان؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها ، بل تطرح ولا يسود بها الورق ، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها.

والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث.
روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به ، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها ، فنزلت.
وقيل : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أيزعم محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقاً جديداً؟
وقرأ الجمهور : { نجمع } بنون ، { عظامه } نصباً؛ وقتادة : بالتاء مبنياً للمفعول ، عظامه رفعاً ، والمعنى : بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض.
وقوله : { أيحسب } استفهام تقرير وتوبيخ ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم.
{ بلى } : جواب للاستفهام المنسخب على النفي ، أي بلى نجمهعا.
وذكر العظام ، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة ، لأن العظام هي قالب الخلق.
وقرأ الجمهور : { قادرين } بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع : قادرون ، أي نحن قادرون.
{ على أن نسوي بنانه } : وهي الأصابع ، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها ، وهذا عند البعث.
وقال ابن عباس والجمهور : المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة ، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه ، أي في الدنيا فتقل منفعته بها ، وهذا القول فيه توعد ، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام.
وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين.
وقيل : { قادرين } منصوب على خبر كان ، أي بلى كنا قادرين في الابتداء.
{ بل يريد الإنسان بل } : إضراب ، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال.
والظاهر أن { يريد } إخبار عن ما يريده الإنسان.
وقال الزمخشري : { بل يريد } عطف على { أيحسب } ، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب. انتهى.
وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر ، وهي متكلفة ، بل المعنى : الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة ، وهي نجمعها قادرين ، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته؛ ومفعول { يريد } محذوف يدل عليه التعليل في { ليفجر }.
قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي : معنى الآية : أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته.
قال السدي أيضاً : ليظلم على قدر طاقته ، وعلى هذا فالضمير في { أمامه } عائد على الإنسان ، وهو الظاهر.
وقال ابن عباس : ما يقضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة ، وبين يديه يوم القيامة خلفه ، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة ، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان ، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته.

{ يسأل أيان يوم القيامة } : أي متى يوم القيامة؟ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت.
وقرأ الجمهور : { برق } بكسر الراء؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو ، والحسن والجحدري : بخلاف عنهما بفتحها.
قال أبو عبيدة : برق بالفتح : شق.
وقال ابن إسحاق : خفت عند الموت.
قال مجاهد : هذا عند الموت.
وقال الحسن : هو يوم القيامة.
وقرأ أبو السمال : بلق باللام عوض الراء ، أي انفتح وانفرج ، يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته ، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول : بلقه وأبلقه إذا أغلفه.
وقال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك ، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه. انتهى.
ويمكن أن تكون اللام بدلاً من الراء ، فهما يتعاقبان في بعض الكلام ، نحو قولهم : نثرة ونثلة ، ووجر ووجل.
وقرأ الجمهور : { وخسف } مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي : مبنياً للمفعول.
يقال : خسف القمر وخسفه الله ، وكذلك الشمس.
قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة : الخسوف والكسوف بمعنى واحد.
وقال ابن أبي أويس : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف جميعه.
{ وجمع الشمس والقمر } : لم تلحق علامة التأنيث ، لأن تأنيث الشمس مجان ، أو لتغليب التذكير على التأنيث.
وقال الكسائي : حمل على المعنى ، والتقدير : جمع النوران أو الضياءآن ، ومعنى الجمع بينهما ، قال عطاء بن يسار : يجمعان فيلقيان في النار ، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى.
وقيل : يجمع بينهما في الطلوع من المغرب ، فيطلعان أسودين مكورين.
وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب ، وقيل : يجتمعان ولا يتفرقان ، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر ، فكأن المعنى : يجمع حرهما.
وقيل : يجمع بينهما في ذهابه الضوء ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار.
وقرأ الجمهور : { المفر } بفتح الميم والفاء ، أي أين الفرار؟ وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن زيد ، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري : بكسر الفاء ، وهو موضع الفرار.
وقرأ الحسن : بكسر الميم وفتح الفاء ، ونسبها ابن عطية للزهري ، أي الجيد الفرار ، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ، نحو قوله :

مكر مفر مقبل مدبر معاً . . .
والظاهر أن قوله : { كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر } من تمام قول الإنسان.
وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية عن الإنسان.
{ كلا } : ردع عن طلب المفر ، { لا وزر } : لا ملجأ ، وعبر المفسرون عنه بالجبل.
قال مطرف بن الشخير : هو كان وزر فرار العرب في بلادهم ، فلذلك استعمل؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غيره.
{ إلى ربك يومئذ } : أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر ، { المستقر } : أي الاستقرار ، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى ، يدخل من شاء الجنة ، ويدخل من شاء النار.
{ بما قدم وأخر } ، قال عبد الله وابن عباس : بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده.
وقال ابن عباس أيضاً : بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات.
وقال زيد بن أسلم : بما قدم من ماله لنفسه ، وبما أخر منه للوارث.
وقال النخعي ومجاهد : بأول عمله وآخره.
وقال الضحاك : بما قدم من فرض وأخر من فرض؛ والظاهر حمله على العموم ، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه.
{ بصيرة } : خبر عن الإنسان ، أي شاهد ، قاله قتادة ، والهاء للمبالغة.
وقال الأخفش : هو كقولك : فلان عبرة وحجة.
وقيل : أنث لأنه أراد جوارحه ، أي جوارحه على نفسه بصيرة.
وقيل : بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف ، أي عين بصيرة ، وعلى نفسه الخبر.
والجملة في موضع خبر عن الإنسان ، والتقدير عين بصيرة ، وإليه ذهب الفراء وأنشد :
كأن على ذي العقل عيناً بصيرة . . .
بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم . . .
من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور ، وهو الخبر عن الإنسان.
ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً عن الإنسان؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث.
وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة.
والمعاذير عند الجمهور الأعذار ، فالمعنى : لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها.
وقيل : المعاذير جمع معذرة.
وقال الزمخشري : قياس معذرة معاذر ، فالمعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحو المناكير في المنكر. انتهى.
وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جمع التكسير ، فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع ، بل قيل : هما جمع للمحة وذكر على قياس ، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به ، وهو مذكار وملمحة.
وقال السدي والضحاك : المعاذير : الستور بلغة اليمن ، واحدها معذار ، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب.
وقاله الزجاج أيضاً ، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه.

وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر :
ولكنها ضنت بمنزل ساعة . . .
علينا وأطت فوقها بالمعاذر
وقيل : البصيرة : الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر ، أي وإن تستر بالستور؛ وإذا كانت من العذر ، فمعنى { ولو ألقى } : أي نطق بمعاذيره وقالها.
وقيل : ولو رمى بأعذاره واستسلم.
وقال السدي : ولو أدلى بحجة وعذر.
وقيل : ولو أحال بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : { لولا أنتم لكنا مؤمنين } والعذرة والعذرى : المعذرة ، قال الشاعر :
ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت . . .
وقال فيها : ولا عذر لمجحود.
{ لا تحرك به لسانك } : الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
وقال القفال : هو خطاب للإنسان المذكور في قوله : { ينبأ الإنسان } وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله ، يعرض عليه كتابه فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة ، فقيل له : { لا تحرك به لسانك لتعجل به } ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك.
{ فإذا قرأناه } عليك ، { فاتبع قرآنه } بأنك فعلت تلك الأفعال.
{ ثم إن علينا بيانه } : أي بيان أمره وشرح عقوبته.
وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل ، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة ، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت.
وقال الضحاك : السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت.
وقال الشعبي : كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى.
والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية.
{ إن علينا جمعه } : أي في صدرك ، { وقرآنه } : أي قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به . . .
يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقيل : وقرآنه : وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت : أي جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر :
ذراعي بكرة أدماء بكر . . .
هجان اللون لم تقرأ جنينا
{ فإذا قرأناه } : أي الملك المبلغ عنا ، { فاتبع } : أي بذهنك وفكرك ، أي فاستمع قراءته ، قاله ابن عباس.
وقال أيضاً هو قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي.
وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى.

وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي أردت قراءته؛ فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة.
وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل.
{ ثم إن علينا بيانه } ، قال قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه.
وقيل : أن تبنيه أنت.
وقال قتادة أيضاً : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره.
وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس : { إن علينا جمعه } : أي حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك.
وقال الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك.
وقيل : جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك.
{ فإذا قرأناه } ، قال ابن عباس : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضاً : فإذا يتلى عليك فاتبع ما فيه.
وقال قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه.
وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه.
والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ.
{ لتعجل به } : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله : { إن علينا جمعه } في صدرك وإثبات قراءته في لسانك.
{ فإذا قرأناه } : جعل قراءة جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفياً له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه.
{ ثم إن علينا بيانه } : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه. انتهى.
وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك.
ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها.

وبضدها تتميز الأشياء . . .
ولما كان عليه الصلاة والسلام ، لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه.
كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة.
لما فرغ من خطابه عليه الصلاة والسلام ، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك.
وقرأ الجمهور : { بل تحبون العاجلة وتذرون } بتاء الخطاب ، لكفار قريش المنكرين البعث ، و { كلا } : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها.
وقال الزمخشري : { كلا } ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه.
وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما.
ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال : { وجوه يومئذ ناضرة } ، وعبر بالوجه عن الجملة.
وقرأ الجمهور : { ناضرة } بألف ، وزيد بن علي : نضرة بغير ألف.
وقرأ ابن عطية : { وجوه } رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله : { يومئذ } و { ناضرة } خبر { وجوه }.
وقوله : { إلى ربها ناظرة } جملة هي في موضع خبر بعد خبر. انتهى.
وليس { يومئذ } تخصيصاً للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون { يومئذ } معمول لناضرة.
وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و { ناضرة } الخبر ، و { ناضرة } صفة.
وقيل : { ناضرة } نعت لوجوه ، و { إلى ربها ناظرة } الخبر ، وهو قول سائغ.
ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا.
ولما كان الزمخشري من المعتزلة ، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل :
وإذا نظرت إليك من ملك . . .
والبحر دونك زدتني نعماء
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.

انتهى.
وقال ابن عطية : ذهبوا ، يعني المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية.
كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا : أي إلى صنعك في كذا. انتهى.
والظاهر أن إلى في قوله : { إلى ربها } حرف جر يتعلق بناظرة.
وقال بعض المعتزلة : إلى هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة.
{ ووجوه يومئذ باسرة } : يجوز أن يكون { وجوه } مبتدأ خبره { باسرة } وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر.
والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر ، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع { أن يفعل بها فاقرة } : فعل هو في شدة داهية تقصم.
وقال أبو عبيدة : فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.
{ كلا } : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في { بلغت } عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول حاتم :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى . . .
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء.
وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها.
وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضروا المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام حقيقة.
وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة وابن زيد.
واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي من يرقي بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ قاله ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي.
وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : { فلا صدق ولا صلى } الآية.
ووقف حفص على { من } ، وابتدأ { راق } ، وأدغم الجمهور.
قال أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته.
وكذلك قرأ : { بل ران } انتهى.
وكان حفصاً قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكت لطيفاً ليشعر أنهما كلمتان.
وقال سيبويه : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد؛ والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان.
ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالماً بالنحو.
وأمّا { بل ران } فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في { بل ران } ، صار كالوقف القليل.
{ وظن } ، أي المريض ، { أنه } : أي ما نزل به ، { الفراق } : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه.

وقيل : فراق الروح الجسد.
{ والتفت الساق بالساق } ، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد : استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها ، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها ، لأنه بين الحالين قد اختلطا به ، كما يقول : شمرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها.
وقال ابن المسيب والحسن : هي حقيقة ، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن.
وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك : التفافهما لشدّة المرض ، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه.
وقال الضحاك : أسوق حاضريه من الإنس والملائكة؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر ، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء.
وقيل : التفافهما : موتهما أولاً ، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء.
وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر.
{ إلى ربك يومئذ المساق } : المرجع والمصير ، والمساق مفعل من السوق ، فهو اسم مصدر ، إمّا إلى جنة ، وإمّا إلى نار.
{ فلا صدق ولا صلى } ، الجمهور : إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله : { يتمطى }.
فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها.
وتقدم أيضاً أنه قيل في قوله : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } أنها نزلت في أبي جهل.
وقال الزمخشري : يعني الإنسان في قوله : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه }.
ألا ترى إلى قوله : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } ، وهو معطوف على قوله : { يسأل أيان يوم القيامة } : أي لا يؤمن بالبعث؟ { فلا صدق } بالرسول والقرآن ، { ولا صلى }.
ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، يعني فلا زكاة. انتهى.
وكون { فلا صدق } معطوفاً على قوله : { يسأل } فيه بعد ، ولا هنا نفت الماضي ، أي لم يصدق ولم يصل؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه ، ومثله قوله :
وأي جميس لا أتانا نهابه . . .
وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
وقال الراجز :
إن تغفر اللهم تغفر جماً . . .
وأيّ عبد لك لا ألما
وصدق : معناه برسالة الله.
وقال يوم : هو من الصدقة ، وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب ، كقوله : { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين } وحمل { فلا صدق } على نفي التصديق بالرسالة ، فيقتضي أن يكون { ولكن كذب } تكراراً.
ولزم أن يكون لكن استدراكاً بعد { ولا صلى } لا بعده { فلا صدق } ، لأنه كان يتساوى الحكم في { فلا صدق } وفي { كذب } ، ولا يجوز ذلك ، إذ لا يقع لكن بعد متوافقين.
{ وتولى } : أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب بما جاء به.
{ وتولى ثم ذهب إلى أهله } : أي قومه ، { يتمطى } : يبختر في مشيته.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له :

« إن الله يقول لك أولى فأولى لك » فنزل القرآن على نحوها ، وقالت الخنساء :
هممت بنفسي كل الهمو . . .
م فأولى لنفسي أولى لها
وتقدم الكلام على { أولى } شرحاً وإعراباً في قوله تعالى : { فأولى لهم طاعة وقول معروف } في سورة القتال ، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد.
ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا ، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها ، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور.
وقرأ الجمهور : { ألم يك } بياء الغيبة؛ والحسن : بتاء الخطاب على سبيل الالتفات.
وقرأ الجمهور : تمنى ، أي النطفة يمنيها الرجل؛ وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر : بخلاف عنه بالياء ، أي يمنى هو ، أي المني ، فخلق الله منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة.
{ فسوى } : أي سواه شخصاً مستقلاً.
{ فجعل منه الزوجين } : أي النوعين أو المزدوجين من البشر ، وفي قراءة زيد بن عليّ : الزّوجان بالألف ، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله.
وقرأ أيضاً : يقدر مضارعاً ، والجمهور : { بقادر } اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة.
{ أليس ذلك } : أي الخالق المسوي ، { بقادر } ، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث.
وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان : بسكون الياء من قوله : { أن يحيِي } ، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف ، وقد جاء في الشعر حذفها.
وقرأ الجمهور : بفتحها.
وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء.
قال ابن خالويه : لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي ، قالوا لسكون الياء الثانية ، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة.
وأما الفراء فاحتج بهذا البيت :
تمشي بسده بينها فتعيى . . .
يريد : فتعيي ، والله تعالى أعلم.

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)

{ هل } حرف استفهام ، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد ، لأن قد من خواص الفعل ، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض.
وقال ابن عباس وقتادة : هي هنا بمعنى قد.
قيل : لأن الأصل أهل ، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام ، ويدل على ذلك قوله :
سائل فوارس يربوع لحلتها . . .
أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم
فالمعنى : أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا ، فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور.
وما تليت عند أبي بكر ، وقيل : عند عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ليتها تمت ، أي ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.
والإنسان هنا جنس بني آدم ، والحين الذي مرّ عليه ، إما حين عدمه ، وإما حين كونه نطفة.
وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه ، فإنه في تلك المدة لا ذكر له ، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه.
وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام ، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح.
وعن ابن عباس : بقي طيناً أربعين سنة ، ثم صلصالاً أربعين ، ثم حمأ مسنوناً أربعين ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، وسمي إنساناً باعتبار ما آل إليه.
والجملة من { لم يكن } في موضع الحال من الإنسان ، كأنه قيل : غير مذكور ، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين ، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً ، أي لم يكن فيه.
{ إنا خلقنا الإنسان } : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق { من نطفة أمشاج } : أخلاط ، وهو وصف للنطفة.
فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة.
وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما.
وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض.
وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً.
وقال ابن عباس أيضاً والكلبي : هي ألوان النطفة.
وقيل : أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : { على رفرف خضر } أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة.
وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد.
ويقال أيضاً : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى.
وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً.

قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه.
{ نبتليه } : نختبره بالتكليف في الدنيا؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى.
وهذا معنى قول ابن عباس.
وقيل : نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل.
{ فجعلناه سميعاً بصيراً } نبتليه ، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات.
ولما جعله بهذه المثابة ، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل ، أي أرشده إلى الطريق ، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك ، إذ أرشدناه طريق الهدى.
وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة.
وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم.
وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً ، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة.
انتهى ، وهو على طريق الإلتزام.
وقرأ الجمهور : { أما } بكسر الهمزة فيهما؛ وأبو السمال وأبو العاج ، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما ، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب ، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا :
يلحقها إما شمال عرية . . .
وإما صبا جنح العشي هبوب
وقال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً بتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره. انتهى.
فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط ، ولذلك تلقاها بفاء الجواب ، فصار كقول العرب : إما صديقاً فصديق؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في { هديناه }.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله : { وهديناه النجدين } فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً. انتهى.
ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً : ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة.
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد.
وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة : { سلاسل } ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً.
وقيل عن حمزة وأبي عمر : الوقف بالألف.
وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف ، واختلف عنهم في الوقف ، وكذا عن البزي.
وقرأ باقي السبعة : بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً ، وهي قراءة الأعمش ، قيل : وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء ، ثم كثر حتى جرى في كلامهم ، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا : صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف ، وقال بعض الرجاز :

والصرف في الجمع أتى كثيراً . . .
حتى ادعى قوم به التخييرا
والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة ، وفي مصحف أبي وعبد الله ، وكذا قوارير.
وروى هشام عن ابن عامر : سلاسل في الوصل ، وسلاسلاً بألف دون تنوين في الوقف.
وروي أن من العرب من يقول : رأيت عمراً بالألف في الوقف.
{ من كأس } : من لابتداء الغاية ، { كان مزاجها كافوراً } ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك.
وقيل : هو على التشبيه ، أي طيب رائحة وبرد كالكافور.
وقال الكلبي : كافوراً اسم عين في الجنة ، وصرفت لتوافق الآي.
وقرأ عبد الله : قافوراً بالقاف بدل الكاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة ، كقولهم : عربي قح وكح ، و { عيناً } بدل من { كافوراً } مفعولاً بيشربون ، أي ماء عين ، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف ، أي يشربون خمراً خمر عين ، أو نصب على الاختصاص.
ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن؛ وفي { يشرب بها } : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق ، والمعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل ، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء.
وقيل : الباء زائدة والمعنى يشرب بها ، وقال الهذلي :
شربن بماء البحر ثم ترفعت . . .
متى لجج خضر لهن نئيج
قيل : أي شربن ماء البحر.
وقرأ ابن أبي عبلة : بشربها؛ وعباد الله هنا هم المؤمنون ، { يفجرونها } : يثقبونها بعود قصب ونحوه حيث شاءوا ، فهي تجري عند كل واحد منهم ، هكذا ورد في الأثر.
وقيل : هي عين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.
{ يوفون بالنذر } في الدنيا ، وكانوا يخافون.
وقال الزمخشري : { يوفون } جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك. انتهى.
فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن ، وهو قليل أو في شعر.
والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر.
قال الأصم وتبعه الزمخشري : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالى عليه أوفى.
وقيل : النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى ، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات.
{ على حبه } : أي على حب الطعام ، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة ، قاله ابن عباس ومجاهد؛ أو على حب الله : أي لوجهه وابتغاء مرضاته ، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني.

والأول أمدح ، لأن فيه الإيثار على النفس؛ وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر.
وقال الحسن بن الفضل : على حب الطعام ، أي محبين في فعلهم ذلك ، لا رياء فيه ولا تكلف.
{ مسكيناً } : وهو الطواف المنكسر في السؤال ، { ويتيماً } : هو الصبي الذي لا أب له ، { وأسيراً } : والأسير معروف ، وهو من الكفار ، قاله قتادة.
وقيل : من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء.
وقال ابن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة.
وقيل : { وأسيراً } استعارة وتشبيه.
وقال مجاهد وابن جبير وعطاء : هو المسجون.
وقال أبو حمزة اليماني : هي الزوجة؛ وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون.
وفي الحديث : « غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ».
{ إنما نطعمكم لوجه الله } : هو على إضمار القول ، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين ، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله تعالى ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وهذا هو الظاهر.
وقال مجاهد : أما أنهم ما تكلموا به ، ولكن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به.
{ لا نريد منكم جزاء } : أي بالأفعال ، { ولا شكوراً } : أي ثناء بالأقوال؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جداً ظاهرة الاختلاف ، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير ، يخاطبون بها ببيت النبوة ، وإشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم ، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها.
{ يوماً عبوساً } : نسبة العبوس إلى اليوم مجاز.
قال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران.
وقرأ الجمهور : { فوقاهم } بخفة القاف؛ وأبو جعفر : بشدها؛ { ولقاهم نضرة } : بدل عبوس الكافر ، { وسروراً } : فرحاً بدل حزنه ، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين.
وقرأ الجمهور : { وجزاهم } ؛ وعليّ : وجازاهم على وزن فاعل ، { جنة وحريراً } : بستاناً فيه كل مأكل هنيء ، { وحريراً } فيه ملبس بهي ، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء.
{ لا يرون فيها } : أي في الجنة ، { شمساً } : أي حر شمس ولا شدة برد ، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها ، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته ، أي هي معتدلة الهواء.
وفي الحديث : « هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر » وقيل : لا يرون فيها شمساً ولا قمراً ، والزمهرير في لغة طيء القمر.
وقرأ الجمهور : { ودانية } ، قال الزجاج : هو حال عطفاً على { متكئين }.
وقال أيضاً : ويجوز أن يكون صفة للجنة ، فالمعنى : وجزاهم جنة دانية.
وقال الزمخشري : ما معناه أنها حال معطوفة على حال وهي لا يرون ، أي غير رائين ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم.

وقرأ أبو حيوة : ودانية بالرفع ، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد ، نحو قولك : قائم الزيدون ، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون { ظلالها } مبتدأ { ودانية } خبر له.
وقرأ الأعمش : ودانياً عليهم ، وهو كقوله : { خاشعةً أبصارهم } وقرأ أبيّ : ودان مرفوع ، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش.
{ وذللت قطوفها } ، قال قتادة ومجاهد وسفيان : إن كان الإنسان قائماً ، تناول الثمر دون كلفة؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك ، فهذا تذليلها ، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك.
فأما على قراءة الجمهور : { ودانية } بالنصب ، كان { وذللت } معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد ، أي ومذللة ، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
ويجوز أن تكون في موضع الحال ، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت.

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ، ذكر شرابهم ، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها ، والآنية جمع إناء ، وتقدم شرح الأكواب.
وقرأ نافع والكسائي : قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص : بمنع صرفهما؛ وابن كثير : بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني.
وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول. انتهى.
وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين : إنه بدل من حرف الإطلاق ، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر ، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم ، كما قال الراجز :
يا صاح ما هاج الدموع الذرّفن . . .
فهذه النون بدل من الألف ، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق.
{ من فضة } : أي مخلوقة من فضة ، ومعنى { كانت } : أنه أوجدها تعالى من قوله : { كن فيكون } تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها ، ومن ذلك قوله : { كان مزاجها كافوراً }.
وقرأ الأعمش : قوارير من فضة بالرفع ، أي هو قرارير.
وقرأ الجمهور : { قدروها } مبنياً للفاعل ، والضمير للملائكة ، أو للطواف عليهم ، أو المنعمين ، والتقدير : على قدر الأكف ، قاله الربيع؛ أو على قدر الري ، قاله مجاهد.
وقال الزمخشري : { قدروها } صفة لقرارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروها.
وقيل : الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله : { ويطاف عليهم } ، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز.
وعن مجاهد : لا يفيض ولا يغيض. انتهى.
وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وابن عبد الخالق عن يعقوب : قدروها مبنياً للمفعول.
قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله : { ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة } ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء.
وقال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر ، تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا. انتهى.
وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا ، قال : فيه حذف على حذف ، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها ، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله ، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه ، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل.

انتهى.
والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف وهو الذي ، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير : قدروا منها؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور.
والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل ، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء ، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات.
وقال الزمخشري : تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها. انتهى.
وقال قتادة : الزنجبيل اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفاً ، ويمزج لسائر أهل الجنة.
وقال الكلبي : يسقى بجامين ، الأول مزاجه الكافور ، والثاني مزاجه الزنجبيل.
وعيناً بدل من كأس على حذف ، أي كأس عين ، أو من زنجبيل على قول قتادة.
وقيل : منصوب على الاختصاص.
والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق ، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة ، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية.
وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف ، جعله علماً لها ، فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل ، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً؛ ويحسن ذلك أنه لغة بعض العرب ، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب.
وقال الزمخشري : وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. انتهى.
وكان قد ذكر فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسيل ، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد ، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال ، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة.
وقال بعض المعربينّ : سلسبيلاً أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها ، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه ، ويجب طرحه من كتب التفسير.
وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته ، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه.
وقال قتادة : هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان.
وقال عكرمة : عين سلس ماؤها.
وقال مجاهد : عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ.
وقال مقاتل : عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا وتقدّم شرح { مخلدون } وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون.
وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه ، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس.

وجواب { إذا رأيتهم } : { نعيماً } ، ومفعول فعل الشرط محذوف ، حذف اقتصاراً ، والمعنى : وإذا رميت ببصرك هناك ، وثم ظرف العامل فيه رأيت.
وقيل : التقدير : وإذا رأيت ما ثم ، فحذف ما كما حذف في قوله : { لقد تقطع بينكم } أي ما بينكم.
وقال الزجاج ، وتبعه الزمخشري فقال : ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ ، لأن ثم صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة. انتهى.
وليس بخطأ مجمع عليه ، بل قد أجاز ذلك الكوفيون ، وثم شواهد من لسان العرب كقوله :
فمن يهجو رسول الله منكم . . .
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، فحذف الموصول وأبقى صلته.
وقال ابن عطية : وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه ، التقدير : رأيت ما ثم حذفت ما. انتهى.
وهذا فاسد ، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما ، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف ، أي ما استقر ثم.
وقرأ الجمهور : ثم بفتح الثاء؛ وحميد الأعرج : ثم بضم التاء حرف عطف ، وجواب إذا على هذا محذوف ، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً؛ والملك الكبير قيل : النظر إلى الله تعالى.
وقال السدّي : استئذان الملائكة عليهم.
وقال أكثر المفسرين : الملك الكبير : اتساع مواضعهم.
وقال الكلبي : كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقاله عبد الله بن عمر ، وقال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام ، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه.
وقال الترمذي ، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع : هو ملك التكوين والمشيئة ، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى : { لهم ما يشاءون فيها } وقيل غير هذه الأقوال.
وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : { عاليهم } بفتح الياء؛ وابن عباس : بخلاف عنه؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم.
وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ : بالياء مضمومة؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم : بفتح الياء.
وقرأ : عليهم حرف جر ، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً ، فثياب فاعل.
ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في { ويطوف عليهم } ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف.
وقال الزمخشري : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في { يطوف عليهم } ، أو في { حسبتهم } ، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب.
ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. انتهى.
إما أن يكون حالاً من الضمير في { حسبتهم } ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على { ولدان } ، ولذلك قدر عاليهم بقوله : عالياً لهم ، أي للولدان ، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله : { وحلوا وسقاهم } ، وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز.

وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال.
وقال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم. انتهى.
وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب.
وقرأ الجمهور : ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس.
وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة : عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، تريد من حرير؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها؛ ورفع استبرق بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره : وثياب استبرق ، أي من استبرق.
وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : خضر برفعهما.
وقرأ العربيان ونافع في رواية : خضر بالرفع صفة لثياب ، وإستبرق جر عطفاً على سندس.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب.
وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما؛ وحمزة والكسائي : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى : { وينشىء السحاب الثقال } وقال : { والنخل باسقات } فجعل الحال جمعاً ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح.
وقرأ ابن محيصن : { وإستبرق } ، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف.
وقال الزمخشري : هنا وقرىء واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب.
وقرىء : واستبرق ، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبره. انتهى.
ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله : بعد وقرىء واستبرق بوصل الألف والفتح ، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف؛ والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف.
وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة.

انتهى.
ونقول : إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق.
وتقول : برق واستبرق ، كعجب واستعجب.
ولما كان قوله : { خضر } يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته.
فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله : { خضر }.
وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة { أساور من فضة } ، وفي موضع آخر { من ذهب } أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا.
قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة. انتهى.
فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ، وإما أن يكون بدلاً منه ، وإمّا أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور.
فإن كان الأول ، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيداً ، وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف.
والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف.
{ وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } ، طهور صفة مبالغة في الطهارة ، وهي من فعل لازم؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها ، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة ، ولم تمس بيد وضرة ، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه.
ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال : أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك. انتهى.
وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي ، قالوا : لا تنقلب إلى البول ، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك.
{ إن هذا } : أي النعيم السرمدي ، { كان لكم جزاء } : أي لأعمالكم الصالحة ، { وكان سعيكم مشكوراً } : أي مقبولاً مثاباً.
قال قتادة : لقد شكر الله سعياً قليلاً ، وهذا على إضمار يقال لهم.
وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب : إن هذا بعملك الرديء ، فيزداد غماً وحزناً.
ولما ذكر أولاً حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع ، ذكر ما شرف به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن } ، وأمره بالصبر بحكمه ، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه ، وأكد الفعل بالمصدر.
{ ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } ، قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، قال : إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل الله تعالى : { ولا تطع } الآية.

والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما ، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما ، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما.
ولو قال : لا تضرب زيداً وعمراً ، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً ، لا عن ضرب أحدهما.
وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، والكفور ، وإن كان إثماً ، فإن فيه مبالغة في الكفر.
ولما كان وصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم ، صلح التغاير فحسن العطف.
وقيل : الآثم عتبة ، والكفور الوليد ، لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر ، شديد الشكيمة في العتوّ.
{ واذكر اسم ربك بكرة } : يعني صلاة الصبح ، { وأصيلاً } : الظهر والعصر.
{ ومن الليل } : المغرب والعشاء.
وقال ابن زيد وغيره : كان ذلك فرضاً ونسخ ، فلا فرض إلا الخمس.
وقال قوم : هو محكم على وجه الندب.
{ إن هؤلآء } : إشارة إلى الكفرة.
{ يحبون العاجلة } : يؤثرونها على الدنيا.
{ ويذرون وراءهم } : أي أمامهم ، وهو ما يستقبلون من الزمان.
{ يوماً ثقيلاً } : استعير الثقل لليوم لشدته ، وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب حامله.
وتقدم شرح الأسر في سورة القتال.
{ وإذا شئنا } : أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ، { بدلنا أمثالهم } ممن يطيع.
وقال الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا ، كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم } { إن يشأ يذهبكم } انتهى.
يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن ، وهو تعالى لم يشأ ، لكنه قد توضع إذا موضع إن ، وإن موضع إذا ، كقوله : { أفإن مت فهم الخالدون }
{ إن هذه } : أي السورة ، أو آيات القرآن ، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير ، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله.
وقال الزمخشري : لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة ، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة.
{ وما تشاءون } : الطاعة ، { إلا أن يشاء الله } ، يقسرهم عليها.
{ إن الله كان عليماً } بأحوالهم وما يكون منهم ، { حكيماً } حيث خلقهم مع علمه بهم.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقرأ العربيان وابن كثير : وما يشاءون بياء الغيبة؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم ، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل { أن يشاء الله } ؟ قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله ، لأن ما مع الفعل كان معه. انتهى.
ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به ، كقولك : أجيئك صياح الديك ، ولا يجيزون : أجيئك أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري.
{ يدخل من يشاء في رحمته } : وهم المؤمنون.
وقرأ الجمهور : { والظالمين } نصباً بإضمار فعل يفسره قوله : { أعد لهم } ، وتقديره : ويعذب الظالمين ، وهو من باب الاشتغال ، جملة عطف فعلية على جملة فعلية.
وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة : والظالمون ، عطف جملة اسمية على فعلية ، وهو جائز حسن.
وقرأ عبد الله : وللظالمين بلام الجر ، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً ، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال ، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده ، فيكون التقدير : وأعد للظالمين أعدّ لهم ، وهذا مذهب الجمهور ، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو ، فتقول : بزيد مررت به ، ويكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، ويكون من باب الاشتغال.
والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر ، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً.

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

قال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء : { والمرسلات } : الملائكة ، أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي ، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار.
وقال ابن عباس وجماعة : الأنبياء ، ومعنى عرفاً : إفضالاً من الله تعالى على عباده ، ومنه قول الشاعر :
لا يذهب العرف بين الله والناس . . .
وانتصابه على أنه مفعول له ، أي أرسلن للإحسان والمعروف ، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل.
وتقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين ، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه ، وانتصابه على الحال.
وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرّياح.
وقال الحسن : السحاب.
وقرأ الجمهور : { عرفاً } بسكون الراء ، وعيسى : بضمها.
{ فالعاصفات } ، قال ابن مسعود : الشديدات الهبوب.
وقيل : الملائكة تعصف بأرواح الكفار ، أي تزعجها بشدّة ، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققاً في امتثال أمره.
وقيل : هي الآيات المهلكة ، كالزلازل والصواعق والخسوف.
{ والناشرات } ، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل : الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال.
وقال الربيع : الملائكة تنشر الناس من قبورهم.
وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : الرّياح تنشر رحمة الله ومطره.
وقال أبو صالح : الأمطار تحيي الأرض بالنبات.
وقال الضحاك : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب ، أي ذات النشر.
{ فالفارقات } ، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك : الملائكة تفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام.
وقال قتادة والحسن وابن كيسان : آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام.
وقال مجاهد أيضاً : الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده.
وقيل : الرسل ، حكاه الزجاج.
وقيل : السحاب الماطر تشبيهاً بالناقة الفاروق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع.
وقيل : العقول تفرق بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد.
{ فالملقيات ذكراً } ، قال ابن عباس وقتادة والجمهور : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال قطرب : الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم.
وقال الرّبيع : آيات القرآن ألقيت على النبي صلى الله عليه وسلم.
واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون { والمرسلات } إلى آخر الأوصاف : إما للملائكة ، وإما للرّياح.
فللملائكة تكون عذراً للمحققين ، أو نذراً للمبطلين؛ وللرّياح يكون المعنى : فألقين ذكراً ، إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذاراً للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن ، أو كفرت ، قاله الزمخشري.
والذي أراه أن المقسم به شيئان ، ولذلك جاء العطف بالواو في { والناشرات } ، والعطف بالواو يشعر بالتغاير ، بل هو موضوعه في لسان العرب.
وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات ، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات ، وهي الخيل؛ وكقوله :

يا لهف زيابة للحارث فالصا . . .
بح فالغانم فالآيب
فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث.
فإذا تقرر هذا ، فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح ، فهي مرسلاته تعالى ، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء ، كما قلنا ، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن.
والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ، ويكون { فالفارقات } ، { فالملقيات } من صفاتهم ، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر ، وهو ما أنزل الله ، يصح إسناده إليهم.
وقرأ الجمهور : { فالملقيات } اسم فاعل خفيف ، أي نطرقه إليهم؛ وابن عباس : مشدد من التلقية ، وهي أيضاً إيصال الكلام إلى المخاطب.
يقال : لقيته الذكر فتلقاه.
وقرأ أيضاً ابن عباس ، فيما ذكره المهدوي : بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول ، أي تلقته من قبل الله تعالى.
وقرأ إبراهيم التيمي والنحويان وحفص : { عذراً أو نذراً } بسكون الذالين؛ وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن : بخلاف؛ والأعشى ، عن أبي بكر : بضمهما؛ وأبو جعفر أيضاً وشيبة وزيد بن علي والحرميان وابن عامر وأبو بكر : بسكونها في عذراً وضمها في نذراً ، فالسكون على أنهما مصدران مفردان ، أو مصدران جمعان.
فعذراً جمع عذير بمعنى المعذرة ، ونذراً جمع نذير بمعنى الإنذار.
وانتصابهما على البدل من { ذكراً } ، كأنه قيل : فالملقيات عذراً أو نذراً ، أو على المفعول من أجله ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي عاذرين أو منذرين.
ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه.
وقيل : يصح انتصاب { عذراً أو نذراً } على المفعول به بالمصدر الذي هو { ذكراً } ، أي فالملقيات ، أي فذكروا عذراً ، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل ، إنما يراد به الحقيقة لقوله : { أألقي عليه الذكر }.
والإعذار هي بقيام الحجة على الخلق ، والإنذار هو بالعذاب والنقمة.
{ إنما توعدون } : أي من الجزاء بالثواب والعقاب ، { لواقع } : وما موصولة ، وإن كانت قد كتبت موصولة بأن.
وهذه الجملة هي المقسم عليها.
وقرأ الجمهور : { أو نذراً } بواو التفصيل؛ وإبراهيم التيمي : ونذراً بواو العطف.
{ فإذا النجوم طمست } : أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء ، أو عبر عن إلحاق ذواتها بالطمس ، وهو انتثارها وانكدارها ، أو أذهب نورها ثم انتثرت ممحوقة النور.
{ وإذا السماء فرجت } : أي صار فيها فروج بانفطار.
وقرأ عمرو بن ميمون : طمست ، فرجت ، بشد الميم والراء؛ والجمهور : بخفهما.
{ وإذا الجبال نسفت } : أي فرقتها الرياح ، وذلك بعد التسيير وقبل كونها هباء.
وقرأ الجمهور : { أقتت } بالهمز وشد القاف؛ وبتخفيف القاف والهمز النخعي والحسن وعيسى وخالد.
وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى أيضاً وأبو عمرو : بالواو وشد القاف.
قال عيسى : وهي لغة سفلى مضر.
وعبد الله والحسن وأبو جعفر : بواو واحدة وخف القاف؛ والحسن أيضاً : ووقتت بواوين على وزن فوعلت ، والمعنى : جعل لها وقت منتظر فحان وجاء ، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة ، والواو في هذا كله أصل والهمزة بدل.

قال الزمخشري : ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره : إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون.
{ لأي يوم أجلت } : تعظيم لذلك اليوم ، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة.
والتأجيل من الأجل ، أي ليوم عظيم أخرت ، { ليوم الفصل } : أي بين الخلائق.
{ ويل } : تقدم الكلام فيه في أول ثاني حزب من سورة البقرة ، يومئذ : يوم إذ طمست النجوم وكان ما بعدها.
وقرأ الجمهور : { نهلك الأولين } بضم النون ، وقتادة : بفتحها.
قال الزمخشري : من هلكه بمعنى أهلكه.
قال العجاج :
ومهمه هالك من تعرجا . . .
انتهى.
وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هو من اللازم ، ومن موصول ، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً.
وقرأ الجمهور : { نتبعهم } بضم العين على الاستئناف ، وهو وعد لأهل مكة.
ويقوي الاستئناف قراءة عبد الله : ثم سنتبعهم ، بسين الاستقبال؛ والأعرج والعباس عن أبي عمرو : بإسكانها؛ فاحتمل أن يكون معطوفاً على { نهلك } ، واحتمل أن يكون سكن تخفيفاً ، كما سكن { وما يشعركم } ، فهو استئناف.
فعلى الاستئناف يكون الأولين الأمم التي تقدمت قريشاً أجمعاً ، ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم.
وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم ، والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال ، ولذلك جاء { كذلك نفعل بالمجرمين } ، فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب وهي الإجرام.
ولما ذكر إفناء الأولين والآخرين ، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث ، { من ماء مهين } : أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة ، { في قرار مكين } : وهو الرحم ، { إلى قدر معلوم } : أي عند الله تعالى ، وهو وقت الولادة.
وقرأ عليّ بن أبي طالب : فقدرنا بشد الدال من التقدير ، كما قال : { من نطفة خلقه فقدره } ؛ وباقي السبعة : بخفها من القدرة؟ وانتصب { أحياء وأمواتاً } بفعل يدل عليه ما قبله ، أي يكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها.
واستدل بهذا من قال : إن النباش يقطع ، لأن بطن الأرض حرز للكفن ، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : نكفتكم أحياء وأمواتاً ، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس. انتهى.
و { رواسي } : جبالاً ثابتات ، { شامخات } : مرتفعات ، ومنه شمخ بأنفه : ارتفع ، شبه المعنى بالجرم.
{ وأسقيناكم } : جعلناه سقياً لمزراعكم ومنافعكم.

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

يقال للمكذبين : { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } : أي من العذاب.
{ انطلقوا إلى ظل } : أمر ، قراءة الجمهور تكراراً أو بيان للمنطلق إليه.
وقرأ رويس عن يعقوب : بفتح اللام على معنى الخبر ، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا ، إذ لا يمكنهم التأخير ، إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق؛ { ذي ثلاث شعب } ، قال عطاء : هو دخان جهنم.
وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع ، يظن الكفار أنه مغن من النار ، فيهرعون إليه فيجدونه على أسوإ وصف.
وقال ابن عباس : يقال ذلك لعبدة الصليب.
فالمؤمنون في ظل الله عز وجل ، وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب ، والشعب : ما تفرق من جسم واحد.
{ لا ظليل } : نفي لمحاسن الظل ، { ولا يغني } : أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئاً.
{ إنها ترمي بشرر } : الضمير في إنها لجهنم.
وقرأ الجمهور : { بشرر } ، وعيسى : بشرار بألف بين الراءين ، وابن عباس وابن مقسم كذلك ، إلا أنه كسر الشين ، فاحتمل أن يكون جمع شرر ، أي بشرار من العذاب ، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها ، أي بشرار من الناس ، كما تقول : قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل ، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيرة بخلافهما ، إذا كانا للتفضيل ، فلهما أحكام مذكورة في النحو.
وقرأ الجمهور : { كالقصر } ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم : بفتح القاف والصاد؛ وابن جبير أيضاً والحسن أيضاً : كالقصر ، بكسر القاف وفتح الصاد؛ وبعض القراء : بفتح القاف وكسر الصاد؛ وابن مسعود : بضمهما ، كأنه مقصور من القصور ، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور ، قال الراجز :
فيها عنابيل أسود ونمر . . .
وتقدم شرح أكثر هذه القراءات في المفردات.
وقرأ الجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : { جمالات } بكسر الجيم وبالألف والتاء ، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل ، كقولهم : رجالات قريش؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء : بخلاف عنهم كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، وهي جمال السفن ، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى ، ثم جمع على جمل وجمال ، ثم جمع جمال ثانياً جمع صحة فقالوا : جمالات.
وقيل : الجمالات : قلوص الجسور.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، وهارون عنه : جمالة بكسر الجيم ، لحقت جمالاً التاء لتأنيث الجمع ، كحجر وحجارة.
وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحرية وابن أبي عبلة ورويس : كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم.
قال ابن عباس وابن جبير : الجمالات : قلوص السفن ، وهي حباله العظام ، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام.
وقال ابن عباس أيضاً : الجمالات : قطع النحاس الكبار ، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة.

وقرأ الحسن : صفر ، بضم الفاء؛ والجمهور : بإسكانها ، شبه الشرر أولاً بالقصر ، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء؛ وثانياً بالجمال لبيان التشبيه.
ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان ، وهي القصور؟ قال الشاعر :
فوقفت فيها ناقتي فكأنها . . .
فدن لأقصى حاجة المتلوم
ومن قرأ بضم الجيم ، فالتشبيه من جهة العظم والطول.
والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر ، قاله الجمهور : وقيل : صفر سود ، وقيل : سود تضرب إلى الصفرة.
وقال عمران بن حطان الرقاشي :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم . . .
بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية : { هذا يوم لا ينطقون } ، بفتح الميم؛ والجمهور : برفعها.
قال ابن عطية : لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء ، وهي في موضع رفع.
وقال صاحب اللوامح : قال عيسى : هي لغة سفلى مضر ، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح ، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد ، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى.
والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه ، وإنما هذا مذهب كوفي.
قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف ، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم ، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم ، ورميها بالشرر في يوم لا ينطقون ، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول ، كما كانت { فبأي آلاء ربكما تكذبان . . .
ذواتا أفنان } انتهى.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ظرفاً ، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر.
وقال الزمخشري : ونصبه الأعمش ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وهنا نفي نطقهم.
وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم ، وذلك باعتبار طول اليوم ، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت ، أو نفي نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق.
وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : { ولا يؤذن } مبنياً للمفعول.
وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن ، مبنياً للفاعل ، أي الله تعالى ، { فيعتذرون } : عطف على { ولا يؤذن } داخل في حيز نفي الإذن ، أي فلا إذن فاعتذار ، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب.
وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي ، والوجهان جائزان. انتهى.
فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان ، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد ، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف ، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا.
وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل ، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب ، وجعل دليله ذلك ، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية ، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره.

{ هذا يوم الفصل جمعناكم } للكفار ، { والأولين } : قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين ، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء.
{ فإن كان لكم كيد } : أي في هذا اليوم ، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه ، { فكيدون } اليوم ، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ.
ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزراً من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين.
وقرأ الجمهور : { في ظلال } جمع ظل؛ والأعمش : في ظلل جمع ظلة.
{ كلوا واشربوا } : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول ، ويدل عليه { بما كنتم تعملون }.
{ كلوا وتمتعوا } : خطاب للكفار في الدنيا ، { قليلاً } : أي زماناً قليلاً ، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت ، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.
{ وإذا قيل لهم اركعوا } : من قال إنها مكية ، قال هي في قريش؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية ، قال هي في المنافقين.
وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة ، فأبى وقال : « لا خير في دين لا صلاة فيه » ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه.
وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة؛ وخص من أفعالها الركوع ، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود.
وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله : { ويل يومئذ للمكذبين } ، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا ، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة.
والضمير في { بعده } عائد على القرآن ، والمعنى أنه قد تضمن من الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي ، فإذا كانوا مكذبين به ، فبأي حديث بعده يصدقون به؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن.
وقرأ الجمهور : { يؤمنون } بياء الغيبة؛ ويعقوب وابن عامر في رواية : بتاء الخطاب.

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)

قال : { عم يتساءلون }.
وقرأ الجمهور : { عم } ؛ وعبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى : عما بالألف ، وهو أصل عم ، والأكثر حذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر وأضيف إليها.
ومن إثبات الألف قوله :
على ما قام يشتمني لئيم . . .
كخنزير تمرغ في رماد
وقرأ الضحاك وابن كثير في رواية : عمه بهاء السكت ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، لأن الأكثر في الوقف على ما الاستفهامية هو بإلحاق هاء السكت ، إلا إذا أضيفت إليها فلا بد من الهاء في الوقف ، نحو : بحى مه.
والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب ، كما تقول : أي رجل زيد؟ وزيد ما زيد ، كأنه لما كان عديم النظير أو قليله خفيّ عليك جنسه فأخذت تستفهم عنه.
ثم جرد العبارة عن تفخيم الشيء ، فجاء في القرآن ، والضمير في { يتساءلون } لأهل مكة.
ثم أخبر تعالى أنهم { يتساءلون عن النبإ العظيم } ، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من القرآن.
وقيل : الضمير لجميع العالم ، فيكون الاختلاف تصديق المؤمن وتكذيب الكافر.
وقيل : المتساءل فيه البعث ، والاختلاف فيه عم متعلق بيتساءلون.
ومن قرأ عمه بالهاء في الوصل فقد ذكرنا أنه يكون أجرى الوصل مجرى الوقف ، وعن النبأ متعلق بمحذوف ، أي يتساءلون عن النبأ.
وأجاز الزمخشري أن يكون وقف على عمه ، ثم ابتدأ بيتسألون عن النبأ العظيم على أن يضمر لعمه يتساءلون ، وحذفت لدلالة ما بعدها عليه ، كشيء مبهم ثم يفسر.
وقال ابن عطية : قال أكثر النحاة قوله { عن النبإ العظيم } متعلق بيتساءلون ، الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم؟ وقال الزجاج : الكلام تام في قوله { عم يتساءلون } ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون عن النبأ ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي يقتضيه الحال ، والمجاورة اقتضاء بالحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم.
وقرأ عبد الله وابن جبير : يسألون بغير تاء وشد السين ، وأصله يتساءلون بتاء الخطاب ، فأدغم التاء الثانية في السين.
{ كلا } : ردع للمتسائلين.
وقرأ الجمهور : بياء الغيبة فيهما.
وعن الضحاك : الأول بالتاء على الخطاب ، والثاني بالياء على الغيبة.
وهذا التكرار توكيد في الوعيد وحذف ما يتعلق به العلم على سبيل التهويل ، أي سيعلمون ما يحل بهم.
ثم قررهم تعالى على النظر في آياته الباهرة وغرائب مخلوقاته التي ابتدعها من العدم الصرف ، وأن النظر في ذلك يفضي إلى الإيمان بما جاءت به الرسل من البعث والجزاء ، فقال : { ألم نجعل الأرض مهاداً } ، فبدأ بما هم دائماً يباشرونه ، والمهاد : الفراش الموطأ.
وقرأ الجمهور : { مهاداً } ؛ ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين : مهداً ، بفتح الميم وسكون الهاء ، ولم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة.

وقال ابن خالويه : مهداً على التوحيد ، مجاهداً وعيسى الهمداني وهو الحوفي ، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية وبعض الكوفيين كناية عن عيسى الهمداني.
وإذا أطلقوا عيسى ، أو قالوا عيسى البصرة ، فهو عيسى بن عمر الثقفي.
وتقدم الكلام في المهاد في البقرة في أول حزب ، { واذكروا الله } { والجبال أوتاداً } : أي ثبتنا الأرض بالجبال ، كما ثبت البيت بالأوتاد.
قال الأفوه :
والبيت لا ينبني إلا له عمد . . .
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
{ أزواجاً } : أي أنواعاً من اللون والصورة واللسان.
وقال الزجاج وغيره : مزدوجين ، ذكراً وأنثى.
{ سباتاً } : سكوناً وراحة.
سبت الرجل : استراح وترك الشغل ، والسبات علة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلاً ، والنوم شبيه به إلا في الضرر.
وقال قتادة : النائم مسبوت لا يعقل ، كأنه ميت.
{ لباساً } : أي يستترون به عن العيون فيما لا يحبون أن يظهر عليه.
{ وجعلنا النهار } : قابل النوم بالنهار ، إذ فيه اليقظة.
{ معاشاً } : وقت عيش ، وهو الحياة تتصرفون فيه في حوائجكم.
{ سبعاً } : أي سموات ، { شداداً } : محكمة الخلق قوية لا تتأثر بمرور الأعصار إلا إذا أراد الله عز وجل.
وقال الشاعر :
فلما جئته أعلى محلي . . .
وأجلسني على السبع الشداد
{ سراجاً } : هو الشمس ، { وهاجاً } : حاراً مضطرم الاتقاد.
وقال عبد الله بن عمرو.
الشمس في السماء الرابعة ، إلينا ظهرها ، ولهيبها يضطرم علواً.
{ من المعصرات } ، قال أبي والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وقتادة ومقاتل : هي السموات.
وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : السحاب القاطرة ، مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء.
وقيل : السحاب التي فيها الماء ولم تمطر.
وقال ابن كيسان : سميت بذلك من حيث تغيث ، فهي من العصرة ، ومنه قوله : { وفيه يعصرون }.
والعاصر : المغيث ، فهو ثلاثي؛ وجاء هنا من أعصر : أي دخلت في حين العصر ، فحان لها أن تعصر ، وأفعل للدخول في الشيء.
وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرياح لأنها تعصر السحاب ، جعل الإنزال منها لما كانت سبباً فيه.
وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس أخوه وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة : بالمعصرات ، بالياء بدل من.
قال ابن عطية : فهذا يقوي أنه أراد الرياح.
وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يراد بالرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن يراد السحاب ، لأنه إذا كان الأنزال منها فهو بها ، كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده درهماً.
{ ثجاجاً } : منصباً بكثرة ، ومنه أفضل الحج العج والثج : أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى.
وقرأ الأعرج : ثجاحاً بالحاء : آخراً ، ومساجح الماء : مصابه ، والماء ينثجح في الوادي.
{ حباً ونباتاً } : بدأ بالحب لأنه الذي يتقوت به ، كالحنطة والشعير ، وثنى بالنبات فشمل كل ما ينبت من شجر وحشيش ودخل فيه الحب.

{ ألفافاً } : ملتفة ، قال الزمخشري : ولا واحد له ، كالأوزاع والأخياف.
وقيل : الواحد لف : قال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن علي الطوسي :
جنة لف وعيش مغدق . . .
وندامى كلهم بيض زهر
ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً. انتهى.
ولا حاجة إلى هذا القول ولا إلى وجاهته ، فقد ذكر في المفردات أن مفرده لف بكسر اللام ، وأنه قول جمهور أهل اللغة.
{ إن يوم الفصل } : هو يوم القيامة يفصل فيه بين الحق والباطل ، { كان ميقاتاً } : أي في تقدير الله وحكمه تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده أو حداً للخلائق ينتهون إليه.
{ يوم ينفخ في الصور } : بدل من يوم الفصل.
قال الزمخشري : أو عطف بيان ، وتقدم الكلام في الصور.
وقرأ أبو عياض : في الصور بفتح الواو جمع صورة ، أي يرد الله الأرواح إلى الأبدان؛ والجمهور : بسكون الواو.
و { فتأتون } من القبور إلى الموقف أمماً ، كل أمة بإمامها.
وقيل : جماعات مختلفة.
وذكر الزمخشري حديثاً في كيفيات قبيحة لعشرة أصناف يخلقون عليها ، وسبب خلقه من خلق على تلك الكيفية الله أعلم بصحته.
وقرأ الكوفيون : { وفتحت } : خف؛ والجمهور : بالتشديد ، { فكانت أبواباً } تنشق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدران.
وقيل : ينقطع قطعاً صغاراً حتى تكون كالألواح ، الأبواب المعهودة.
وقال الزمخشري : { فتحت . . .
فكانت أبواباً } : أي كثرت أبوابها لنزول الملائكة ، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة ، كقوله : { وفجرنا الأرض عيوناً } كأن كلها عيون تنفجر.
وقيل : الأبواب : الطرق والمسالك ، أي تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء.
{ فكانت سراباً } : أي تصير شيئاً كلا شيء لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها. انتهى.
وقال ابن عطية : عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منبثاً ، ولم يرد أن الجبال تشبه الماء على بعد من الناظر إليها.
وقال الواحدي : على حذف مضاف ، أي ذات أبواب.

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

{ مرصاداً } : مفعال من الرصد ، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب.
وقال مقاتل : مجلساً للأعداء وممراً للأولياء ، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب ، أي ذات رصد ، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم.
وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه العدو.
وقال الحسن : إلا أن على النار المرصاد.
فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجىء بجواز احتبس.
وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر : أن جهنم ، يفتح الهمزة؛ والجمهور : بكسرها { مآباً } : مرجعاً.
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح : لبثين ، بغير ألف بعد اللام؛ والجمهور : بألف بعدها ، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل ، وفعل على من شأنه ذلك ، كحاذر وحذر.
{ أحقاباً } : تقدم الكلام عليه في الكهف عند : { أو أمضي حقباً } والمعنى هنا : حقباً بعد حقب ، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة ، كقول أبي تمام :
لقد أخذت من دار ماوية الحقب . . .
أنحل المغاني لليلى أم هي نهب
ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصاداً ، ويجوز أن يتعلق بمآبا.
ولبثين حال من الطاغين ، وأحقاباً نصب على الظرف.
وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب ، وجمعة أحقاب ، فينتصب حالاً عنهم ، يعني لبثين فيها حقبين جحدين.
وقوله : { لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً } تفسير له ، والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها برداً ورَوحاً ينفس عنهم حر النار ، ولا شراب يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها { حميماً وغساقاً }. انتهى.
وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه : ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم ، والغساق من جنس آخر من العذاب. انتهى.
وهذا الذي قاله هو قول للمتقدمين ، حكاه ابن عطية.
قال : وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً ، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم.
والذي يظهر أن قوله : { لا يذوقون } كلام مستأنف وليس في موضع الحال ، و { إلا حميماً } استثناء متصل من قوله : { ولا شراباً } ، وإن { أحقاباً } منصوب على الظرف حملاً على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة.
وقول من قال : إن الموصوفين باللبث أحقاباً هم عصاة المؤمنين ، أواخر الآي يدفعه؛ وقول مقاتل : إن ذلك منسوخ بقوله : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } ، فاسد.

والظاهر ، وهو قول الجمهور ، أن البرد هو مس الهواء القرّ ، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر.
وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي : البرد هنا النوم ، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ، ومن كلامهم : منع البرد البرد ، وقال الشاعر :
فلو شئت حرمت النساء سواكم . . .
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
النقاخ : الماء ، والبرد : النوم.
وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل ، والذوق على هذين القولين مجاز.
وقال ابن عباس : البرد : الشراب البارد المستلذ ، ومنه قول حسان بن ثابت :
يسقون من ورد البريض عليهم . . .
برداً يصفق بالرحيق السلسل
ومنه قول الآخر :
أماني من سعدى حسان كأنما . . .
سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
والذوق على هذا حقيقة ، والنحويون ينشدون على هذا بيت حسان.
بردى ، بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث : وهو نهر في دمشق.
وتقدم شرح الحميم والغساق ، وخلف القرّاء في شدة الشين وخفتها.
{ وفاقاً } : أي لأعمالهم وكفرهم ، وصف الجزاء بالمصدر لوافق ، أو على حذف مضاف ، أي ذا وفاق.
وقال الفراء : هو جمع وفق.
وقرأ الجمهور : بخف الفاء؛ وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بشدها من وفقه كذا.
{ لا يرجون } : لا يخافون أو لا يؤمنون ، والرجاء والأمل مفترقان ، والمعنى هنا : لا يصدقون بالحساب ، فهم لا يؤمنون ولا يخافون.
وقرأ الجمهور : { كذاباً } بشد الذال مصدر كذب ، وهي لغة لبعض العرب يمانية.
يقولون في مصدر فعل فعالاً ، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل ، نحو تكذيب.
ومن تلك اللغة قول الشاعر :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي . . .
وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
ومن كلام أحدهم وهو يستفتي الحلق أحب إليك أم القصار ، يريد التقصير ، يعني في الحج.
وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله.
وقرأ علي وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه بخف الذال.
قال صاحب اللوامح علي وعيسى : البصرة ، وعوف الأعرابي : كذاباً ، كلاهما بالتخفيف ، وذلك لغة اليمن بأن يجعلوا مصدر كذب مخففاً ، كذاباً بالتخفيف مثل كتب كتاباً ، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه ، مثل أعطيته عطاء. انتهى.
وقال الأعشى :
فصدقتها وكذبتها . . .
والمرء ينفعه كذابه
وقال الزمخشري : هو مثل قوله : { أنبتكم من الأرض نباتاً } يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا ، لأن كل مكذب بالحق كاذب؛ وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده.

انتهى.
والأظهر الإعراب الأول وما سواه تكلف ، وفي كتاب ابن عطية وكتاب اللوامح.
وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز : وفي كتاب ابن خالويه عمر بن عبد العزيز والماجشون ، ثم اتفقوا كذاباً بضم الكاف وشد الذال ، فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة ، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر ، أي تكذيباً كذاباً مفرطاً في التكذيب.
وقرأ الجمهور : { وكل شيء } بالنصب : وأبو السمال : بالرفع ، وانتصب { كتاباً } على أنه مصدر من معنى { أحصيناه } أي إحصاء ، أو يكون { أحصيناه } في معنى كتبناه.
والتجوز إما في المصدر وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مكتوباً في اللوح وفي مصحف الحفظة.
{ وكل شيء } عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة اعتراض معترضة ، وفذوقوا مسبب عن كفرهم بالحساب ، فتكذيبهم بالآيات.
وقال عبد الله بن عمر : وما نزلت في أهل النار آية أشد من هذه ، ورواه أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر شيئاً من حال أهل النار ، ذكر ما لأهل الجنة فقال : { إن للمتقين مفازاً } : أي موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة.
و { حدائق } بدل من { مفازاً } وفوزاً ، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف ، أي فوز حدائق ، أي بها.
{ دهاقاً } ، قال الجمهور : مترعة.
وقال مجاهد وابن جبير : متتابعة.
وقرأ الجمهور : { ولا كذاباً } بالتشديد ، أي لا يكذب بعضهم بعضاً.
وقرأ الكسائي بالتخفيف ، كاللفظ الأول في قوله تعالى : { وكذبوا بآياتنا كذاباً } ، مصدر كذب ومصدر كاذب.
قال الزمخشري : { جزاء } : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : { إن للمتقين مفازاً } ، كأنه قال : جازى المتقين بمفاز وعطاء نصب بجزاء نصب المفعول به ، أي جزاءهم عطاء. انتهى.
وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي { إن للمتقين مفازاً } ، والمصدر المؤكد لا يعمل ، لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافاً.
وقرأ الجمهور : { حساباً } ، وهو صفة لعطاء ، أي كافياً من قولهم : أحسبني الشيء : أي كفاني.
وقال مجاهد : معنى حساباً هنا بتقسيط على الأعمال ، أو دخول الجنة برحمة الله والدرجات فيها على قدر الأعمال ، فالحساب هنا بموازنة الأعمال.
وقرأ ابن قطيب : حساباً ، بفتح الحاء وشد السين.
قال ابن جني : بني فعالاً من أفعل ، كدراك من أدرك.
انتهى ، فمعناه محسباً ، أي كافياً.
وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهشيم : بكسر الحاء وشد السين ، وهو مصدر مثل كذاب أقيم مقام الصفة ، أي إعطاء محسباً ، أي كافياً.
وقرأ ابن عباس وسراح : حسناً بالنون من الحسن ، وحكى عنه المهدوي حسباً بفتح الحاء وسكون السين والباء ، نحو قولك : حسبك كذا ، أي كافيك.

وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم : رب والرحمن بالجر؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفعهما؛ والأخوان : رب بالجر ، والرحمن بالرفع ، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك ، والرحمن صفة أو بدل من رب أو عطف بيان ، وهل يكون بدلاً من ربك فيه نظر ، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات ، والرفع على إضمار هو رب ، أو على الابتداء ، وخبره { لا يملكون } ، والضمير في { لا يملكون } عائد على المشركين ، قاله عطاء عن ابن عباس ، أي لا يخاطب المشركون الله.
أما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم.
وقيل : عائد على المؤمنين ، أي لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه.
وقيل : عائد على أهل السموات والأرض.
والضمير في منه عائد عليه تعالى ، والمعنى أنهم لا يملكون من الله أن يخاطبوه في شيء من الثواب.
والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه.
والعامل في { يوم } إما { لا يملكون }.
وإما { لا يتكلمون }.
وقد تقدم الخلاف في { الروح } ، أهو جبريل أم ملك أكبر الملائكة خلقة؟ أو خلق على صورة بني آدم ، أو خلق حفظة على الملائكة ، أو أرواح بني آدم ، أو القرآن وقيامه ، مجاز يعني به ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه.
والظاهر عود الضمير في { لا يتكلمون } على { الروح والملائكة }.
وقال ابن عباس : عائد على الناس ، فلا يتكلم أحد إلا بإذن منه تعالى.
ونطق بالصواب.
وقال عكرمة : الصواب : لا إله إلا الله ، أي قالها في الدنيا.
وقال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذوناً لهم في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } انتهى.
{ ذلك اليوم الحق } : أي كيانه ووجوده ، { فمن شاء } : وعيد وتهديد ، والخطاب في { أنذرناكم } لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم ، واندرج فيه من يأتي بعدهم ، { عذاباً } : هو عذاب الآخرة لتحقق وقوعه ، وكل آت قريب.
{ يوم ينظر المرء } : عام في المؤمن والكافر.
{ ما قدمت يداه } من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه.
وقال الزمخشري ، وقاله قبله عطاء : المرء هو الكافر لقوله : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } ، والكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم.
ومعنى { ما قدمت يداه } من الشر لقوله : { وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم } وقال ابن عباس وقتادة والحسن : المرء هنا المؤمن ، كأنه نظر إلى مقابله في قوله : { ويقول الكافر }.
وقرأ الجمهور : { المرء } بفتح الميم؛ وابن أبي إسحاق بضمها؛ وضعفها أبو حاتم ، ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة فيقولون : مرؤ ومرأ ومرء على حسب الإعراب ، وما منصوب بينظر ومعناه : ينتظر ما قدّمت يداه ، فما موصولة.

ويجوز أن يكون ينظر من النظر ، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض ، وما استفهامية منصوبة تقدّمت ، وتمنيه ذلك ، أي تراباً في الدنيا ، ولم يخلق أو في ذلك اليوم.
وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني تراباً ، فتعود جميعها تراباً ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله.
وقيل : الكافر هنا إبليس ، إذا رأى ما حصل للمؤمنين من الثواب قال : { يا ليتني كنت تراباً } كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أوّلاً.
وقيل : { تراباً } : أي متواضعاً لطاعة الله تعالى ، لا جباراً ولا متكبراً.

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

قال عبد الله وابن عباس؛ { النازعات } : الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، و { غرقاً } : إغراقاً ، وهي المبالغة في الفعل ، أو غرق في جهنم ، يعني نفوس الكفار ، قاله عليّ وابن عباس.
وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق.
وقال السدّي وجماعة : تنزع بالموت إلى ربها ، وغرقاً : أي إغراقاً في الصدر.
وقال السدي أيضاً : النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ، ولها نزع عند الموت.
وقال عطاء وعكرمة : القسي أنفسها تنزع بالسهام.
وقال عطاء أيضاً : الجماعات النازعات بالقسي وغيرها إغراقاً.
وقال مجاهد : المنايا تنزع النفوس.
وقيل : النازعات : الوحش تنزع إلى الكلأ ، حكاه يحيى بن سلام.
وقيل : جعل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، قاله في الكشاف.
{ والناشطات } ، قال ابن عباس ومجاهد : الملائكة تنشط النفوس عند الموت ، أي تخلها وتنشط بأمر الله إلى حيث كان.
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والحسن والأخفش : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، تذهب وتسير بسرعة.
وقال مجاهد أيضاً : المنايا.
وقال عطاء : البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر.
وقال ابن عباس أيضاً : النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج.
وقيل : التي تنشط للإزهاق.
{ والسابحات } ، قال عليّ ومجاهد : الملائكة تتصرّف في الآفاق بأمر الله ، تجيء وتذهب.
وقال قتادة والحسن : النجوم تسبح في الأفلاك.
وقال أبو روق : الشمس والقمر والليل والنهار.
وقال عطاء وجماعة : الخيل ، يقال للفرس سابح.
وقيل : السحاب لأنها كالعائمة في الهواء.
وقيل : الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظم المخلوقات ، فيبدي أنه تعالى أمدّ في الدنيا نوعاً من الحيوان ، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر.
وقال عطاء أيضاً : السفن.
وقال مجاهد أيضاً : المنايا تسبح في نفوس الحيوان.
{ فالسابقات } ، قال مجاهد : الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح ، وقاله أبو روق.
وقال ابن مسعود : أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاء الله تعالى.
وقال عطاء : الخيل ، وقيل : النجوم ، وقيل : المنايا تسبق الآمال.
{ فالمدبرات } ، قال ابن عطية لا أحفظ خلافاً أنها الملائكة ، ومعناه أنها التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها ، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات. انتهى.
وقيل : الملائكة الموكلون بالأحوال : جبريل للوحي ، وميكائيل للمطر ، وإسرافيل للنفخ في الصور ، وعزرائيل لقبض الأرواح.
وقيل : تدبيرها : نزولها بالحلال والحرام.
وقال معاذ : هي الكواكب السبعة ، وإضافة التدبير إليها مجاز ، أي يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك.
ولفق الزمخشري من هذه الأقوال أقوالاً اختارها وأدارها أولاً على ثلاثة : الملائكة أو الخيل أو النجوم.

ورتب جميع الأوصاف على كل واحد من الثلاثة ، فقال : أقسم سحابة بطوائف الملائكة التي هي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها ، أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم؛ كما رسم لهم غرقاً ، أي إغراقاً في النزع ، أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظافرها.
أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها إلى آخر ما نقلناه؛ ثم قال : من قولك : ثور ناشط ، إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريتها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه.
أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط من أقصى المغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً في علم الحساب.
وقيل : النازعات : أيدي الغزاة أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام والتي تنشط الإرهاق. انتهى.
والذي يظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء ، وأن المعطوف بالواو وهو مغاير لما قبله ، كما قرّرناه في المرسلات ، على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو ومن عطف الصفات بعضها على بعض.
والمختار في جواب القسم أن يكون محذوفاً وتقديره : لتبعثن لدلالة ما بعده عليه ، قاله الفراء.
وقال محمد بن عليّ الحكيم الترمذي : الجواب : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } ، والمعنى فيما اقتصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى عليه السلام وفرعون.
قال ابن الانباري : وهذا قبيح لأن الكلام قد طال.
وقيل : اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله : { يوم ترجف الراجفة } ، أي ليوم كذا ، { تتبعها الرادفة } ، ولم تدخل نون التوكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل؛ وقول أبي حاتم هو علي التقديم والتأخير ، كأنه قال : { فإذا هم بالساهرة }.
{ والنازعات } ، قال ابن الأنباري : خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.
وقيل : التقدير : { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة } ، { والنازعات } على التقديم والتأخير أيضاً وليس بشيء.
وقيل : الجواب : { هل أتاك حديث موسى } ، لأنه في تقدير قد أتاك وليس بشيء ، وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية ، وحذف الجواب هو الوجه ، ويقرب القول بحذف اللام من { يوم ترجف }.
قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد : هما الصيحتان ، أي النفختان ، الأولى تميت كل شيء ، وفي الثانية تحيي.
وقال مجاهد أيضاً : الواجفة : الزلزلة ، والرادفة : الصيحة.
وقال ابن زيد : الواجفة : الأرض ، والرادفة : الساعة ، والعامل في يوم اذكر مضمرة ، أو لتبعثن المحذوف؛ واليوم متسع تقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك اليوم المتسع ، وتتبعها حال.

قيل : أو مستأنف.
واجفة : مضطربة ، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
إن بني حجباً وأسرتهم . . .
أكبادنا من ورائهم تجف
{ قلوب } : مبتدأ ، { واجفة } : صفة تعمل في { يومئذ } ، { أبصارها } : أي أبصار أصحاب القلوب ، { خاشعة } : مبتدأ وخبر في موضع خبر { قلوب }.
وقال ابن عطية : رفع قلوب بالابتداء ، وجاز ذلك ، وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله : { يومئذ }. انتهى.
ولا تتخصص الأجرام بظروف الزمان ، وإنما تخصصت بقوله : { واجفة }.
{ يقولون } : حكاية حالهم في الدنيا ، والمعنى : هم الذين يقولون.
و { الحافرة } ، قال مجاهد : فاعلة بمعنى مفعولة.
وقيل : على النسب ، أي ذات حفر ، والمراد القبور ، أي لمردودون أحياء في قبورنا.
وقال زيد بن أسلم : الحافرة : النار.
وقيل : جمع حافرة بمعنى القدم ، أي أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض.
وقال ابن عباس : الحياة الثانية هي أول الأمر ، وتقول التجار : النقد في الحافرة ، أي في ابتداء السوم.
وقال الشاعر :
آليت لا أنساكم فاعلموا . . .
حتى ترد الناس في الحافرة
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : في الحفرة بغير ألف؛ والجمهور : بالألف.
وقيل : هما بمعنى واحد.
وقيل : هي الأرض المنبتة المتغيرة بأجساد موتاها ، من قولهم : حفرت أسنانه إذا تآكلت وتغيرت.
وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر : ناخرة بألف؛ وأبو رجاء والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة والسلمي وابن جبير والنخعي وقتادة وابن وثاب وأيوب وأهل مكة وشبل وباقي السبعة : بغير ألف.
{ قالوا تلك إذاً } : أي الردة إلى الحافرة إن رددنا ، { كرة خاسرة } : أي قالوا ذلك لتكذيبهم بالغيب ، أي لو كان هذا حقاً ، لكانت ردتنا خاسرة ، إذ هي إلى النار.
وقال الحسن : خاسرة : كاذبة ، أي ليست بكافية ، وهذا القول منهم استهزاء.
وروي أن بعض صناديد قريش قال ذلك.
{ فإنما هي زجرة واحدة } لما تقدم.
{ يقولون أئنا لمردودون } : تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستضعاف أمرها ، فجاء قوله : { فإنما } مراعاة لما دل عليه استبعادهم ، فكأنه قيل : ليس بصعب ما تقولون ، فإنما هي نفخة واحدة ، فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض.
قال ابن عباس : الساهرة أرض من فضة يخلقها الله تعالى.
وقال وهب بن منبه : جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس.
وقال أبو العالية وسفيان : أرض قريبة من بيت المقدس.
وقال ابن عباس : أرض مكة.
وقال قتادة : جهنم ، لأنه لا نوم لمن فيها.
رأى أن الضمائر قبلها إنما هي للكفار ففسرها بجهنم.
وقيل : الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق.
ولما أنكروا البعث وتمردوا ، شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقص تعالى عليه قصة موسى عليه السلام ، وتمرد فرعون على الله عز وجل حتى ادعى الربوبية ، وما آل إليه حال موسى من النجاة ، وحال فرعون من الهلاك ، فكان ذلك مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبشيراً بهلاك من يكذبه ، ونجاته هو من أذاهم.

فقال تعالى : { هل أتاك } ، توقيفاً له على جمع النفس لما يلقيه إليه ، وتقدم الكلام في الوادي المقدس ، والخلاف في القراآت في { طوى }.
{ اذهب إلى فرعون } : تفسير للنداء ، أو على إضمار القول ، { فقل هل لك إلى أن تزكى } : لطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم ، وتزكى : تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل ، والزكاة هنا يندرج فيها الإسلام وتوحيد الله تعالى.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بخلاف تزكى وتصدى ، بشد الزاي والصاد؛ وباقي السبعة : بخفها.
وتقول العرب : هل لك في كذا ، أو هل إلى كذا؟ فيحذفون القيد الذي تتعلق به إلى ، أي هل لك رغبة أو حاجة إلى كذا؟ أو سبيل إلى كذا؟ قال الشاعر :
فهل لكم فيها إليّ فإنني . . .
بصير بما أعيا النطاسي خديما
{ وأهديك إلى ربك فتخشى } : هذا تفسير للتزكية ، وهي الهداية إلى توحيد الله تعالى ومعرفته ، { فتخشى } : أي تخافه ، لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة ، { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر ، وفي الكلام حذف ، أي فذهب وقال له ما أمره به ربه ، وأتبع ذلك بالمعجزة الدالة على صدقه.
{ فأراه الآية الكبرى } : وهي العصا واليد ، جعلهما واحدة ، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها ، أو العصا وحدها لأنها كانت المقدمة ، والأصل واليد تبع لها ، لأنه كان يتقيها بيده.
وقيل له { أدخل يدك في جيبك } { فكذب } : أي فرعون موسى عليه السلام وما أتى به من المعجز ، وجعل ذلك من باب السحر ، { وعصى } الله تعالى بعدما علم صحة ما أتى به موسى ، وإنما أوهم أنه سحر.
{ ثم أدبر يسعى } ، قيل : أدبر حقيقة ، أي قام من مكانه فاراً بنفسه.
وقال الجمهور : هو كناية عن إعراضه عن الإيمان.
{ يسعى } : يجتهد في مكايدة موسى عليه السلام.
{ فحشر } : أي جمع السحرة وأرباب دولته ، { فنادى } : أي قام فيهم خطيباً ، أو فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه.
{ فقال أنا ربكم الأعلى } ، قال ابن عطية : قول فرعون ذلك نهاية في المخرقة ، ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم. انتهى.
وإنما قال ذلك لأن ملك مصر في زمانه كان اسماعيلياً ، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم ، وكأن أول من ملكها منهم المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله ، ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب الملعون بظهورالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن سادي ، رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً.
{ فأخذه الله نكال الآخرة و الأولى } ، قال ابن عباس : الآخرة قوله : { ما علمت لكم من إله غيري }

والأولى قوله : { أنا ربكم الأعلى }.
وقيل العكس ، وكان بين قولتيه أربعون سنة.
وقال الحسن وابن زيد : نكال الآخرة بالحرق ، والأولى يعني الدنيا بالغرق.
وقال مجاهد : عذاب آخرة حياته وأولادها.
وقال أبو زرين : الأولى كفره وعصيانه ، والآخرة قوله : { أنا ربكم الأعلى }.
وقال مجاهد عبارة عن أول معاصيه ، وآخرها : أي نكل بالجميع ، وانتصب نكال على المصدر والعامل فيه { فأخذه } لأنه في معناه وعلى رأي المبرد : بإضمار فعل من لفظه ، أي نكل نكال ، والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم.
وقال الزمخشري : { نكال الآخرة } هو مصدر مؤكد ، ك { وعد الله } و { صبغة الله } كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى. انتهى.
والمصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة.
{ إن في ذلك } : فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذ ، { لعبرة } : لعظة ، { لمن يخشى } : أي لمن يخاف عقوبة الله يوم القيامة وفي الدنيا.

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

الخطاب الظاهر أنه عام ، والمقصود الكفار منكر والبعث ، وقفهم على قدرته تعالى.
{ أشد خلقاً } : أي أصعب إنشاء ، { أم السماء } ، فالمسؤول عن هذا يجيب ولا بد السماء ، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثيرها.
ثم بين تعالى كيفية خلقها.
{ رفع سمكها } : أي جعل مقدارها بها في العلوّ مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام ، والسمك : الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلى ما فوقها ، { فسواها } : أي جعلها ملساء مستوية ، ليس فيها مرتفع ولا منخفض ، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة.
{ وأغطش } : أي أظلم ، { ليلها }.
{ وأخرج } : أبرز ضوء شمسها ، كقوله تعالى : { والشمس وضحاها } وقولهم : وقت الضحى : الوقت الذي تشرق فيه الشمس.
وأضيف الليل والضحى إلى السماء ، لأن الليل ظلها ، والضحى هو نور سراجها.
{ والأرض بعد ذلك } : أي بعد خلق السماء وما فعل فيها ، { دحاها } : أي بسطها ، فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض.
وقرأ الجمهور : { والأرض } ، { والجبال } بنصبهما؛ والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال : برفعهما؛ وعيسى : برفع الأرض.
وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض لأنهما يظهران منها.
والجمهور : { متاعاً } بالنصب ، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم؛ وابن أبي عبلة : بالرفع ، أي ذلك متاع.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا أدخل حرف العطف على أخرج؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى { دحاها } : بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها.
والثاني : أن يكون أخرج حالاً بإضمار قد ، كقوله : { أو جاءوكم حصرت صدورهم } انتهى.
وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين.
والأخفش : أن الماضي يقع حالاً ، ولا يحتاج إلى إضمار قد ، وهو الصحيح.
ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً. انتهى.
{ ومرعاها } : مفعل من الرعي ، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً ، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول ، كأنه قيل : ومرعيها : أي النبات الذي يرعى.
وقدم الماء على المرعى لأنه سبب في وجود المرعى ، وشمل { ومرعاها } ما يتقوت به الآدمي والحيوان غيره ، فهو في حق الآدمي استعارة ، ولهذا قيل : دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء.
{ فإذا جاءت الطامة } ، قال ابن عباس والضحاك : القيامة.
وقال ابن عباس أيضاً والحسن : النفخة الثانية.
وقال القاسم : وقت سوق أهل الجنة إليها ، وأهل النار إليها ، وهو معنى قول مجاهد.
{ يوم يتذكر الإنسان ما سعى } : أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا.
وقرأ الجمهور : { وبُرِّزت } مبني للمفعول مشدد الراء ، { لمن يرى } بياء الغيبة : أي لكل أحد ، فيشكر المؤمن نعمة الله.
وقيل : { لمن يرى } هو الكافر؛ وعائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار : مبنياً للفاعل مخففاً وبتاء ، يجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي لمن ترى من أهلها ، وأن يكون إخبار عن الجحيم ، فهي تاء التأنيث.

قال تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد } وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو : وبرزت مبنياً ومخففاً ، و { يوم يتذكر } : بدل من { فإذا } ؛ وجواب إذا ، قال الزمخشري : فإن الأمر كذلك.
وقيل : عاينوا وعلموا.
ويحتمل أن يكون التقدير : انقسم الراؤون قسمين ، والأولى أن يكون الجواب : فأما وما بعده ، كما تقول : إذا جاءك بنو تميم ، فأما العاصي فأهنه ، وأما الطائع فأكرمه.
{ طغى } : تجاوز الحد في عصيانه ، { وآثر الحياة الدنيا } على الآخرة ، وهي مبتدأ أو فصل.
والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين ، أي المأوى له ، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة.
وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير.
وقال الزمخشري : والمعنى فإن الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد طرفك؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره ، تركت الإضافة.
ودخول حرف التعريف في المأوى ، والطرف للتحريف لأنهما معرفان. انتهى.
وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدر ضميراً محذوفاً ، كما قدره البصريون ، فرام حصول الربط بلا رابط.
{ وأما من خاف مقام ربه } : أي مقاماً بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً.
قال ابن عباس : خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها.
{ ونهى النفس عن الهوى } : أي عن شهوات النفس ، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود.
قال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين.
وقال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه.
وقال عمران الميرتليّ :
فخالف هواها واعصها إن من يطع . . .
هوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده . . .
وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الفضيل : أفضل الأعمال خلاف الهوى ، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار.
وعن ابن عباس : نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري ، رضي الله تعالى عنه.
وعنه أيضاً : { فأما من طغى } ، فهو أخ لمصعب بن عمير ، أسر فلم يشدوا وثاقه ، وأكرموه وبيتوه عندهم؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعباً ، فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه.
{ وأما من خاف مقام ربه } فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السهام.

فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال : « عند الله أحتسبك » ، وقال لأصحابه : « لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما ، وإن شراك نعله من ذهب » قيل : واسم أخيه عامر.
وفي الكشاف ، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أُحد ، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه. انتهى.
{ يسألونك } : أي قريش ، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة ، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك ، فنزلت هذه الآية.
{ أيان مرساها } : متى إقامتها؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها؟ وقيل : أيان منتهاها ومستقرها؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه.
{ فيم أنت من ذكراها } ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً ، فلما نزلت هذه الآية. انتهى.
والمعنى : في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها؟ أي لست من ذلك في شيء ، { إنما أنت منذر }.
{ إلى ربك منتهاها } : أي انتهاء علم وقتها ، لم يؤت علم ذلك أحداً من خلقه.
وقيل : { فيم } إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال؟ ثم قال : { أنت من ذكراها } ، وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها.
{ إنما أنت منذر من يخشاها } : أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفاً به في الخشية منها. انتهى.
وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه ، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم ، ولم يخله من دسيسة الاعتزال.
وقرأ الجمهور : { منذر من } بالإضافة.
وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم : منذر بالتنوين.
وقال الزمخشري : وقرىء منذر بالتنوين ، وهو الأصل والإضافة تخفيف ، كلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذر زيد أمس. انتهى.
أما قوله : وهو الأصل ، يعني التنوين ، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم.
وقد قررنا في هذا الكتاب ، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة ، لأن العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة هي أصل في الأسماء.
وأما قوله : فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو.
وخص { من يخشاها } لأنه هو المنتفع بالإنذار.
{ كأنهم يوم يرونها } : تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا.
{ لم يلبثوا } : لم يقيموا في الدنيا ، { إلا عشية } : يوم أو بكرته ، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار.
بدأ بذكر أحدهما ، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً ، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

وقرأ الجمهور؛ { عبس } مخففاً ، { أن } بهمزة واحدة؛ وزيد بن علي : بشد الباء؛ وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى : أآن بهمزة ومدة بعدها؛ وبعض القراء : بهمزتين محققتين ، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام ، وفيهما يقف على تولى.
والمعنى : ألأن جاءه كاد كذا.
وجاء بضمير الغائب في { عبس وتولى } إجلالاً له عليه الصلاة والسلام ، ولطفاً به أن يخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى.
وجاء لفظ { الأعمى } إشعاراً بما يناسب من الرفق به والصغو لما يقصده ، ولابن عطية هنا كلام أضربت عنه صفحاً.
والضمير في { لعله } عائد على { الأعمى } ، أي يتطهر بما يتلقن من العلم ، أو { يذكر } : أي يتعظ ، { فتنفعه } ذكراك ، أي موعظتك.
والظاهر مصب { يدريك } على جملة الترجي ، فالمعنى : لا تدري ما هو مترجى منه من تزك أو تذكر.
وقيل : المعنى وما يطلعك على أمره وعقبى حاله.
ثم ابتدأ القول : { لعله يزكى } : أي تنمو بركته ويتطهر لله.
وقال الزمخشري : وقيل : الضمير في { لعله } للكافر ، يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق ، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. انتهى.
وهذا قول ينزه عنه حمل القرآن عليه.
وقرأ الجمهور : { أو يذكر } بشد الذال والكاف ، وأصله يتذكر فأدغم؛ والأعرج وعاصم في رواية : أو يذكر ، بسكون الذال وضم الكاف.
وقرأ الجمهور : { فتنفعه } ، برفع العين عطفاً على { أو يذكر } ؛ وعاصم في المشهور ، والأعرج وأبو حيوة أبي عبلة والزعفراني : بنصبهما.
قال ابن عطية : في جواب التمني ، لأن قوله : { أو يذكر } في حكم قوله { لعله يزكى }. انتهى.
وهذا ليس تمنياً ، إنما هو ترج وفرق بين الترجي والتمني.
وقال الزمخشري : وبالنصب جواباً للعل ، كقوله : { فأطلع إلى إله موسى } انتهى.
والترجي عند البصريين لا جواب له ، فينصب بإضمار أن بعد الفاء.
وأما الكوفيون فيقولون : ينصب في جواب الترجي ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله : { فأطلع إلى إله موسى } في قراءة حفص ، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع.
{ أما من استغنى } : ظاهره من كان ذا ثروة وغنى.
وقال الكلبي : عن الله.
وقيل : عن الإيمان بالله.
قيل : وكونه بمعنى الثروة لا يليق بمنصب النبوة ، ويدل على ذلك أنه لو كان من الثروة لكان المقابل : وأما من جاءك فقيراً حقيراً.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسى والأعمش وجمهور السبعة : { تصدى } بخف الصاد ، وأصله يتصدى فحذف؛ والحرميان : بشدها ، أدغم التاء في الصاد؛ وأبو جعفر : تصدى ، بضم التاء وتخفيف الصاد ، أي يصدك حرصك على إسلامه.
يقال : تصدى الرجل وصديته ، وهذا المستغنى هو الوليد ، أو أمية ، أو عتبة وشيبة ، أو أمية وجميع المذكورين في سبب النزول ، أقوال.

قال القرطبي : وهذا كله غلط من المفسرين ، لأنه أمية والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ، وماتا كافرين ، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر معه مفرداً ولا مع أحد. انتهى.
والغلط من القرطبي ، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما؟ وهو وهم منه ، وكلهم من قريش ، وكان ابن أم مكتوم بها : والسورة كلها مكية بالإجماع.
وكيف يقول : وابن أم مكتوم بالمدينة؟ كان أولاً بمكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية.
وابن أم مكتوم هو عبد الله بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهري ، من بني عامر بن لؤي ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة ، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها.
{ وما عليك ألا يزكى } : تحقير لأمر الكافر وحض على الإعراض عنه وترك الاهتمام به ، أي : وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر؟ { وأما من جاءك يسعى } : أي يمشي بسرعة في أمر دينه ، { وهو يخشى } : أي يخاف الله ، أو يخاف الكفار وأذاهم ، أو يخاف العثار والسقوط لكونه أعمى ، وقد جاء بلا قائد يقوده.
{ تلهى } : تشتغل ، يقال : لها عن الشيء يلهى ، إذا اشتغل عنه.
قيل : وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو. انتهى.
ويمكن أن يكون منه ، لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو وتنقلب واوه ياء لكسرة ما قبلها ، نحو : شقي يشقى ، فإن كان مصدره جاء بالياء ، فيكون من مادة غير مادة اللهو.
وقرأ الجمهور : { تلهى } ؛ والبزي عن ابن كثير : عنه وتلهى ، بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل؛ وأبو جعفر : بضمها مبنياً للمفعول ، أي يشغلك دعاء الكافر للإسلام؛ وطلحة : بتاءين؛ وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.
{ كلا إنها } : أي سورة القرآن والآيات ، { تذكرة } : عظة ينتفع بها.
{ فمن شاء ذكره } : أي فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره ، أتى بالضمير مذكراً لأن التذكرة هي الذكر ، وهي جملة معترضة تتضمن الوعد والوعيد ، { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } واعترضت بين تذكرة وبين صفته ، أي تذكرة : كائنة.
{ في صحف } ، قيل : اللوح المحفوظ ، وقيل : صحف الأولياء المنزلة ، وقيل : صحف المسلمين ، فيكون إخباراً بمغيب ، إذ لم يكتب القرآن في صحف زمان ، كونه عليه السلام بمكة ينزل عليه القرآن ، مكرمة عند الله ، ومرفوعة في السماء السابعة ، قاله يحيى بن سلام ، أو مرفوعة عن الشبه والتناقض ، أو مرفوعة المقدار.
{ مطهرة } : أي منزهة عن كل دنس ، قاله الحسن.
وقال أيضاً : مطهرة من أن تنزل على المشركين.
وقال الزمخشري : منزهة عن أيدي الشياطين ، لا تمسها إلا أيدي ملائكة مطهرة.
{ سفرة } : كتبة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ. انتهى.
{ بأيدي سفرة } ، قال ابن عباس : هم الملائكة لأنهم كتبة.
وقال أيضاً : لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه.

وقال قتادة : هم القراء ، وواحد السفرة سافر.
وقال وهب : هم الصحابة ، لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والعلم.
{ قتل الإنسان ما أكفره } ، قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، غاضب أباه فأسلم ، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام ، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم ابعث عليه كلبك يأكله » فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء ، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً ، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله.
فأقبل الأسد إلى الرجال ووثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ، وقال : ما قال محمد شيئاً قط إلا كان ، والآية ، وإن نزلت في مخصوص ، فالإنسان يراد به الكافر.
وقتل دعاء عليه ، والقتل أعظم شدائد الدنيا.
{ ما أكفره } ، الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، إذ هو مستحيل في حق الله تعالى ، أي هو ممن يقال فيه ما أكفره.
وقيل : ما استفهام توقيف ، أي : أي شيء أكفره؟ أي جعله كافراً ، بمعنى لأي شيء يسوغ له أن يكفر.
{ من أي شيء خلقه } : استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه.
ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال : { من نطفة خلقه فقدره } : أي فهيأه لما يصلح له.
وقال ابن عباس : أي في بطن أمه ، وعنه قدر أعضاءه ، وحسناً ودميماً وقصيراً وطويلاً وشقياً وسعيداً.
وقيل : من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه.
{ ثم السبيل يسره } : أي ثم يسر السبيل ، أي سهل.
قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان ، وتيسيره له هو هبة العقل.
وقال مجاهد والحسن وعطاء وابن عباس في رواية أبي صالح عنه : السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال ، أي يسر قوماً لهذا ، كقوله : { إنا هديناه السبيل } الآية ، وقوله تعالى : { وهديناه النجدين } وعن ابن عباس : يسره للخروج من بطن أمه.
{ ثم أماته فأقبره } : أي جعل له قبراً صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع.
قبره : ذفنه ، وأقبره : صيره بحيث يقبر وجعل له قبراً ، والقابر : الدافن بيده.
قال الأعشى :
لو أسندت ميتاً إلى قبرها . . .
عاش ولم ينقل إلى قابر
{ ثم إذا شاء أنشره } : أي إذا أراد إنشاره أنشره ، والمعنى : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله ، وهو يوم القيامة.
وفي كتاب اللوامح شعيب بن الحبحاب : شاء نشره ، بغير همز قبل النون ، وهما لغتان في الأحياء؛ وفي كتاب ابن عطية : وقرأ شعيب بن أبي حمزة : شاء نشره.
{ كلا } : ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان.
{ لما يقض } : يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ، { ما أمره } به الله تعالى ، فالضمير في يقض للإنسان.

وقال ابن فورك : لله تعالى ، أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له.
ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان ، ذكر النعم فيما به قوام حياته ، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم.
والظاهر أن الطعام هو المطعوم ، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض والإنبات ، وهذا قول الجمهور.
وقال أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : { إلى طعامه } : أي إذا صار رجيعاً ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها.
وقرأ الجمهور : إنا بكسر الهمزة؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس : { أنا } بفتح الهمزة؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما : أني بفتح الهمزة مما لا؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام ، والفتح قالوا على البدل ، ورده قوم ، لأن الثاني ليس الأول.
قيل : وليس كما ردوا لأن المعنى : فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه ، فترتب البدل وصح. انتهى.
كأنهم جعلوه بدل كل من كل ، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال.
وقراءة أبي ممالا على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا.
وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب ، وصب الماء هو المطر.
والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به.
وقيل : شق الأرض هو بالنبات.
{ حباً } : يشمل ما يسمى حباً من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك.
{ وقضباً } ، قال الحسن : العلف ، وأهل مكة يسمون القت القضب.
وقيل : الفصفصة ، وضعف لأنه داخل في الأب.
وقيل : ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاً من النبات ، كالبقول والهليون.
وقال ابن عباس : هو الرطب ، لأنه يقضب من النخل ، ولأنه ذكر العنب قبله.
{ غلباً } ، قال ابن عباس : غلاظاً ، وعنه : طوالاً؛ وعن قتادة وابن زيد : كراماً؛ { وفاكهة } : ما يأكله الناس من ثمر الشجر ، كالخوخ والتين؛ { وأباً } : ما تأكله البهائم من العشب.
وقال الضحاك : التبن خاصة.
وقال الكلبي : كل نبات سوى الفاكهة رطبها ، والأب : يابسها.
{ الصاخة } : اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان ، تقول العرب : صختهم الصاخة ونابتهم النائبة ، أي الداهية.
وقال أبو بكر بن العربي : الصاخة هي التي تورث الصمم ، وأنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، كقوله :
أصمهم سرّهم أيام فرقتهم . . .
فهل سمعتم بسرّ يورث الصمما
وقول الآخر :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا . . .
ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. انتهى.
{ يوم يفر } : بدل من إذا ، وجواب إذا محذوف تقديره : اشتغل كل إنسان بنفسه ، يدل عليه : { لكل امرِىء منهم يومئذ شأن يغنيه } ، وفراره من شدّة الهول يوم القيامة ، كما جاء من قول الرسل : «نفسي نفسي».

وقيل : خوف التبعات ، لأن الملابسة تقتضي المطالبة.
يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان قصرت في برنا ، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون لم تعلمنا وترشدنا.
وقرأ الجمهور : { يغنيه } : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء؛ والزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميقع : يعنيه بفتح الياء والعين المهملة ، من قولهم : عناني الأمر : قصدني.
{ مسفرة } : مضيئة ، من أسفر الصبح : أضاء ، و { ترهقها } : تغشاها ، { قترة } : أي غبار.
والأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم ، والثانية من غبار الأرض.
وقيل : { غبرة } : أي من تراب الأرض ، وقترة : سواد كالدخان.
وقال زيد بن أسلم : الغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والقترة : ما ارتفعت إلى السماء.
وقرأ الجمهور : قترة ، بفتح التاء؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

قال الزمخشري : فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت : بل على الفاعلية ، رافعها فعل مضمر يفسره { كورت } ، لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط. انتهى.
ومن طريقته أنه يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً ، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وليس ما ذكر من الإعراب مجمعاً على تحتمه عند النحاة ، بل يجوز رفع الشمس على الابتداء عند الأخفش والكوفيين ، لأنهم يجيزون أن تجيء الجملة الاسمية بعد إذا ، نحو : إذا زيد يكرمك فأكرمه.
{ انكدرت } ، عن ابن عباس : تساقطت؛ وعنه أيضاً : تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها ، من قولهم : ماء كدر : أي متغير.
وتسيير الجبال : أي عن وجه الأرض ، أو سيرت في الجو تسيير السحاب ، كقوله : { وهي تمر مر السحاب } وهذا قبل نسفها ، وذلك في أول هول يوم القيامة.
والعشار : أنفس ما عند العرب من المال ، وتعطيلها : تركها مسيبة مهملة ، أو عن الحلب لاشتغالهم بأنفسهم ، أو عن أن يحمل عنها الفحول؛ وأطلق عليها عشاراً باعتبار ما سبق لها ذلك.
قال القرطبي : وهذا على وجه المثل ، لأنه في القيامة لا يكون عشراء ، فالمعنى : أنه لو كان عشراء لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم.
وقيل : إذا قاموا من القبور شاهدوا الوحوش والدواب محشورة وعشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم ، لم يعبؤا بها لشغلهم بأنفسهم.
وقيل : العشار : السحاب ، وتعطيلها من الماء فلا تمطر.
والعرب تسمي السحاب بالحامل.
وقيل : العشار : الديار تعطل فلا تسكن.
وقيل : العشار : الأرض التي يعشر زرعها ، تعطل فلا تزرع.
وقرأ الجمهور : { عطلت } بتشديد الطاء؛ ومضر عن اليزيدي : بتخفيفها ، كذا في كتاب ابن خالويه ، وفي كتاب اللوامح عن ابن كثير ، قال في اللوامح ، وقيل : هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت ، لأن التشديد فيه التعدي ، يقال : منه عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه ، وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها الحلى ، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت وأفعلت ، والله أعلم. انتهى.
وقال امرؤ القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش . . .
إذا هي نصته ولا بمعطل
{ حشرت } : أي جمعت من كل ناحية.
فقال ابن عباس : جمعت بالموت ، فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين.
وعنه وعن قتادة وجماعة : يحشر كل شيء حتى الذباب.
وعنه : تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض ، ثم يقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها موتي فتموت.
وقيل : إذا قضى بينها ردت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته ، كالطاووس ونحوه.
وقال أبيّ : في الدنيا في أول الهول تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تآنساً بهم.
وقرأ الجمهور : { حشرت } بخف الشين؛ والحسن وعمرو بن ميمون : بشدها.

{ وإذا البحار سجرت } : تقدم أقوال العلماء في سجر البحر في الطور ، والبحر المسجور ، وفي كتاب لغات القراءآت ، سجرت : جمعت ، بلغة خثعم.
وقال هنا ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : ملكت وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض من الهول ، فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بخف الجيم؛ وباقي السبعة : بشدها.
قال ابن عطية : وذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند الموت.
فالشمس نفسه ، والنجوم عيناه وحواسه ، وهذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى. انتهى.
وهذا مذهب الباطنية ، ومذاهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية ، وقد أشرنا إليهم في خطبة هذا الكتاب؛ وإنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام.
وكتاب الله جاء بلسان عربي مبين ، لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن ، ولا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة ولا أهل الطبائع.
ولقد ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة ، وذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب الله عز وجل.
وكذلك ما ذكره صاحب التحرير والتحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى الصوف ويسميها الحقائق ، وفيها ما لا يحل كتابته ، فضلاً عن أن يعتقد ، نسأل الله تعالى السلامة في ديننا وعقائدنا وما به قوام ديننا ودنيانا.
{ وإذا النفوس زوجت } : أي المؤمن مع المؤمن والكافر مع الكافر ، كقوله : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } قاله عمر وابن عباس؛ أو نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور العين وغيرهن ، قاله مقاتل بن سليمان؛ أو الأزواج الأجساد ، قاله عكرمة والضحاك والشعبي.
وقرأ عاصم في رواية : زووجت على فوعلت ، والمفاعلة تكون بين اثنين.
والجمهور : بواو مشددة.
وقال الزمخشري : وأد يئد ، مقلوب من آد يؤد إذا أثقل.
قال الله تعالى : { ولا يؤده حفظهما } لأنه إثقال بالتراب. انتهى.
ولا يدعي في وأد أنه مقلوب من آد ، لأن كلاً منهما كامل التصرف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات ادعاء القلب.
والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك ، أو كونه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً وكونه أكثر تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالاً من الآخر ، وهذا على ما قرروا أحكم في علم التصريف.
فالأول كيئس وأيس ، والثاني كطأمن واطمأن ، والثالث كشوايع وشواع ، والرابع كلعمري ورعملي.
وقرأ الجمهور : { الموءودة } ، بهمزة بين الواوين ، اسم مفعول.
وقرأ البزي في رواية : الموؤدة ، بهمزة مضمومة على الواو ، فاحتمل أن يكون الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الواو بعد حذف الهمزة ، ثم الواو المنقول إليها الحركة.

واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد؛ فالاصل مأوودة ، فحذف إحدى الواوين على الخلاف الذي فيه المحذوف واو المد أو الواو التي هي عين ، نحو : مقوول ، حيث قالوا : مقول.
وقرىء الموودة ، بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة ، أعني التسهيل بالحذف ، ونقل حركتها إلى الواو.
وقرأ الأعمش : المودة ، بكسون الواو على وزن الفعلة ، وكذا وقف لحمزة بن مجاهد.
ونقل القراء أن حمزة يقف عليها كالموودة لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سنة متبعة.
وقرأ الجمهور : { سئلت } مبنياً للمفعول ، { بأي ذنب قتلت } : كذلك وخف الياء وبتاء التأنيث فيهما ، وهذا السؤال هو لتوبيخ الفاعلين للوأد ، لأن سؤالها يؤول إلى سؤال الفاعلين.
وجاء قتلت بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل : قتلت.
وقرأ الحسن والأعرج : سئلت ، بكسر السين ، وذلك على لغة من قال : سأل بغير همز.
وقرأ أبو جعفر : بشد الياء ، لأن الموؤدة اسم جنس ، فناسب التكثير باعتبار الأشخاص.
وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد : سألت مبنياً للفاعل ، قتلت بسكون اللام وضم التاء ، حكاية لكلامها حين سئلت.
وعن أبيّ وابن مسعود أيضاً والربيع بن خيثم وابن يعمر : سألت مبنيا للفاعل.
{ بأي ذنب قتلت } : مبنياً للمفعول بتاء التأنيث فيهما إخباراً عنهما ، ولو حكي كلامها لكان قتلت بضم التاء.
وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ، ألبسها جبة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها : طيبيها ولينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر حفرة أو بئراً في الصحراء ، فيذهب بها إليها ويقول لها انظري فيها؛ ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي بالأرض.
وقيل : كانت الحامل إذا قرب وضعها حفرت حفرة فتمخضت على رأسها ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته.
وقد افتخر الفرزدق ، وهو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية ، بجده صعصعة ، إذ كان منع وأد البنات فقال :
ومنا الذي منع الوائدات . . .
فأحيا الوئيد ولم يوئد
{ وإذا الصحف نشرت } : صحف الأعمال كانت مطوية على الأعمال ، فنشرت يوم القيامة ليقرأ كل إنسان كتابه.
وقيل : الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء ، وهي صحف غير صحف الأعمال.
وقرأ أبو رجاء وقتادة والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم : نشرت بخف الشين؛ وباقي السبعة : بشدّها.
وكشط السماء : طيها كطي السجل.
وقيل : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة.
وقرأ عبد الله : قشطت بالقاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان ، كقولهم : عربي قح وكح ، وتقدّمت قراءته قافوراً ، أي كافوراً.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص : { سعرت } بشد العين؛ وباقي السبعة : بخفها ، وهي قراءة عليّ.

قال قتادة : سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم ، وجواب إذا وما عطفت عليه { علمت نفس ما أحضرت } : ونفس تعم في الإثبات من حيث المعنى ، ما أحضرت من خير تدخل به الجنة ، أو من شر تدخل به النار.
وقال ابن عطية : ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه. انتهى.
وقرئت هذه السورة عند عبد الله ، فلما بلغ القارىء { علمت نفس ما أحضرت } ، قال عبد الله : «وا انقطاع ظهراه».
{ بالخنس } ، قال الجمهور : الدراري السبعة : الشمس والقمر ، وزحل ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والمشتري.
وقال : على الخمسة دون الشمس والقمر ، تجري الخمسة مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس ، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : تخنس في جريها التي يتعهد فيها ترى العين ، وهي جوار في السماء ، وهي تكنس في أبراجها ، أي تستتر.
وقال علي أيضاً والحسن وقتادة : هي النجوم كلها لأنها تخنس وتكنس بالنهار حين تختفي.
وقال الزمخشري : أي تخنس بالنهار وتكنس بالليل ، أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. انتهى.
وقال عبد الله والنخعي وجابر بن زيد وجماعة : المراد { بالخنس الجوار الكنس } : بقر الوحش ، لأنها تفعل هذه الأفعال في كنائسها.
وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : هي الظباء ، والخنس من صفة الأنوق لأنها يلزمها الخنس ، وكذا بقر الوحش.
{ عسعس } بلغة قريش ، وقال الحسن : أقبل ظلامه ، ويرجحه مقابلته بقوله : { والصبح إذا تنفس } ، فهما حالتان.
وقال المبرد : أفسم بإقباله وإدباره وتنفسه كونه يجيء معه روح ونسيم ، فكأنه نفس له على المجاز.
{ أنه } : أي إن هذا المقسم عليه ، أي إن القرآن { لقول رسول كريم } ؛ الجمهور : على أنه جبريل عليه السلام.
وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم ، وكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفات المدح اللائقة به.
{ ذي قوة } : كقوله : { شديد القوى } { عند ذي } : الكينونة اللائقة من شرف المنزلة وعظم المكانة.
وقيل : العرش متعلق بمكين مطاع.
ثم إشارة إلى { عند ذي العرش } : أي إنه مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره.
وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهشيم وابن مقسم : ثم ، بضم الثاء : حرف عطف ، والجمهور : { ثم } بفتحها ، ظرف مكان للبعيد.
وقال الزمخشري : وقرىء ثم تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة. انتهى.
وقال صاحب اللوامح : بمعنى مطاع وأمين ، وإنما صارت ثم بمعنى الواو بعد أن مواضعتها للمهلة والتراخي عطفاً ، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معاً في حال واحدة ، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى ، { ثم أمين } عند انفصاله عنهم ، حال وحيه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لجاز أن لو ورد به أثر انتهى.
{ أمين } : مقبول القول يصدق فيما يقوله ، مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر.

{ وما صاحبكم بمجنون } : نفى عنه ما كانوا ينسبونه إليه ويبهتونه به من الجنون.
{ ولقد رآه } : أي رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ، وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته له ستمائة جناح.
وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمى ذلك الموضع أفقاً مجازاً.
وقد كانت له عليه السلام ، رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه.
ووصف الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، قاله قتادة وسفيان.
وأيضاً فكل أفق في غاية البيان.
وقيل : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة.
وقال مجاهد : رآه نحو جياد ، وهو مشرق مكة.
وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ، ومن السبعة النحويان وابن كثير : بظنين بالظاء ، أي بمتهم ، وهذا نظير الوصف السابق بأمين.
وقيل : معناه بضعيف القوة على التبليغ من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء ، وكذا هو بالظاء في مصحف عبد الله.
وقرأ عثمان وابن عباس أيضاً والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وباقي السبعة : بالضاد ، أي ببخيل يشح به لا يبلغ ما قيل له ويبخل ، كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه.
قال الطبري : وبالضاد خطوط المصاحف كلها.
{ وما هو بقول شيطان رجيم } : أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان.
{ فأين تذهبون } : استضلال لهم ، حيث نسبوه مرة إلى الجنون ، ومرة إلى الكهانة ، ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه.
وقال الزمخشري : كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق : أي تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل. انتهى.
{ ذكر } : تذكرة وعظة ، { لمن شاء } : بدل من { للعالمين } ، ثم عذق مشيئة العبيد بمشيئة الله تعالى.
قال ابن عطية : ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتلبسهم بأفعال الاستقامة.
ثم بين تعالى أن تكسب العبد على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء. انتهى.
وقال الزمخشري : وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعاً.
{ وما تشاءون } الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله تعالى ولطفه ، ما تشاءونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه. انتهى.
ففسر كل من ابن عطية والزمخشري المشيئة على مذهبه.
وقال الحسن : ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها.

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

انفطارها تقدم الكلام فيه ، وانتثار الكواكب : سقوطها من مواضعها كالنظام.
وقرأ الجمهور : { فجرت } بتشديد الجيم؛ ومجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري : بخفها ، وتفجيرها من امتلائها ، فتفجر من أعلاها وتفيض على ما يليها ، أو من أسفلها فيذهب الله ماءها حيث أراد.
وعن مجاهد : فجرت مبنياً للفاعل مخففاً بمعنى : بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى : { لا يبغيان } لأن البغي والفجر متقابلان.
{ بعثرت } ، قال ابن عباس : بحثت.
وقال السدي : أثيرت لبعث الأموات.
وقال الفراء : أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة.
وقال الزمخشري : بعثر وبحثر بمعنى واحد ، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما ، والمعنى : بحثت وأخرج موتاها.
وقيل : لبراءة المبعثرة ، لأنها بعثرت أسرار المنافقين. انتهى.
فظاهر قوله أنهما مركبان أن مادتهما ما ذكر ، وأن الراء ضمت إلى هذه المادة ، والأمر ليس كما يقتضيه كلامه ، لأن الراء ليست من حروف الزيادة ، بل هما مادتان مختلفتان وإن اتفقا من حيث المعنى.
وأما أن إحداهما مركبة من كذا فلا ، ونظيره قولهم : دمث ودمثر وسب وسبطر.
{ ما قدمت وأخرت } : تقدم الكلام على شبهه في سورة القيامة.
وقرأ الجمهور : { ما غرك } ، فما استفهامية.
وقرأ ابن جبير والأعمش : ما أغرك بهمز ، فاحتمل أن يكون تعجباً ، واحتمل أن تكون ما استفهامية ، وأغرك بمعنى أدخلك في الغر.
وقال الزمخشري : من قولك غر الرجل فهو غار ، إذا غفل من قولك بينهم العدو وهم غارون ، وأغرة غيره : جعله غاراً. انتهى.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قرأ : { ما غرك بربك الكريم } ، فقال : جهله وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ أنه كان ظلوماً جهولاً ، وهذا يترتب في الكافر والعاصي.
وقال قتادة : عدوه المسلط عليه ، وقيل : ستر الله عليه.
وقيل : كرم الله ولطفه يلقن هذا الجواب ، فهذا لطف بالعاصي المؤمن.
وقيل : عفوه عنه إن لم يعاقبه أول مرة.
وقال الفضيل رضي الله عنه : ستره المرخى.
وقال ابن السماك :
يا كاتم الذنب أما تستحي . . .
والله في الخلوة رائيكا
غرك من ربك إمهاله . . .
وستره طول مساويكا
وقال الزمخشري : في جواب الفضيل ، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ.
بالاغترار : بالستر ، وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويظن به قصاص الحشوية ، ويروون عن أئمتهم إنما قال : { بربك الكريم } دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرني كونه الكريم. انتهى.
وهو عادته في الطعن على أهل السنة.
{ فسواك } : جعلك سوياً في أعضائك ، { فعدلك } : صيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وطلحة والأعمش وعيسى وأبو جعفر والكوفيون : بخف الدال؛ وباقي السبعة : بشدها.
وقراءة التخفيف إما أن تكون كقراءة التشديد ، أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت ، وإما أن يكون معناه فصرفك.

يقال : عدله عن الطريق : أي عدلك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق ، أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات.
والظاهر أن قوله :.
{ في أي صورة } يتعلق بربك ، أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئة من حسن وطول وذكورة ، وشبه ببعض الأقارب أو مقابل ذلك.
وما زائدة ، وشاء في موضع الصفة لصورة ، ولم يعطف { ركبك } بالفاء كالذي قبله ، لأنه بيان لعدلك ، وكون في أي صورة متعلقاً بربك هو قول الجمهور.
وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي ركبك حاصلاً في بعض الصور.
وقال بعض المتأولين : إنه يتعلق بقوله : { فعدلك } ، أي : لك في صورة ، أي صورة؛ وأي تقتضي التعجيب والتعظيم ، فلم يجعلك في صورة خنزير أو حمار؛ وعلى هذا تكون ما منصوبة بشاء ، كأنه قال : أي تركيب حسن شاء ركبك ، والتركيب : التأليف وجمع شيء إلى شيء.
وأدغم خارجة عن نافع ركبك كلا ، كأبي عمرو في إدغامه الكبير.
وكلا : ردع وزجر لما دل عليه ما قبله من اغترارهم بالله تعالى ، أو لما دل عليه ما بعد كلا من تكذيبهم بيوم الجزاء والدين أو شريعة الإسلام.
وقرأ الجمهور : { بل تكذبون } بالتاء ، خطاباً للكفار؛ والحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر : بياء الغيبة.
{ وإن عليكم لحافظين } : استئناف إخبار ، أي عليهم من يحفظ أعمالهم ويضبطها.
ويظهر أنها جملة حالية ، والواو واو الحال ، أي تكذبون بيوم الجزاء.
والكاتبون : الحفظة يضبطون أعمالكم لأن تجازوا عليها ، وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء.
وقرأ الجمهور : { يصلونها } ، مضارع صلى مخففاً؛ وابن مقسم : مشدّداً مبنياً للمفعول.
{ يعلمون ما تفعلون } ، فيكتبون ما تعلق به الجزاء.
قال الحسن : يعلمون ما ظهر دون حديث النفس.
وقال سفيان : إذا هم العبد بالحسنة أو السيئة ، وجد الكاتبان ريحها.
وقال الحسين بن الفضل : حيث قال يعلمون ولم يقل يكتبون دل على أنه لا يكتب الجميع فيخرج عنه السهو والخطأ وما لا تبعة فيه.
{ وما هم عنها بغائبين } : أي عن الجحيم ، أي لا يمكنهم الغيبة ، كقوله : { وما هم بخارجين من النار } وقيل : إنهم مشاهدوها في البرزخ.
لما أخبر عن صلبهم يوم القيامة ، أخبر بانتفاء غيبتهم عنها قبل الصلي ، أي يرون مقاعدهم من النار.
{ وما أدراك } : تعظيم لهول ذلك اليوم.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو : { يوم لا تملك } برفع الميم ، أي هو يوم ، وأجاز الزمخشري فيه أن يكون بدلاً مما قبله.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو : يوم لا تملك على التنكير منوناً مرفوعاً فكه عن الإضافة وارتفاعه على هو يوم ، ولا تملك جملة في موضع الصفة ، والعائد محذوف ، أي لا تملك فيه.
وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقي السبعة : يوم بالفتح على الظرف ، فعند البصريين هي حركة إعراب ، وعند الكوفيين يجوز أن تكون حركة بناء ، وهو على التقديرين في موضع رفع خبر المحذوف تقديره : الجزاء يوم لا تملك ، أو في موضع نصب على الظرف ، أي يدانون يوم لا تملك ، أو على أنه مفعول به ، أي اذكر يوم لا تملك.

ويجوز على رأي من يجيز بناءه أن يكون في موضع رفع خبر المبتدأ محذوف تقديره : هو.
{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } : عام كقوله : { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً } وقال مقاتل : لنفس كافرة شيئاً من المنفعة.
{ والأمر يومئذ لله } ، قال قتادة : وكذلك هو اليوم ، لكنه هناك لا يدعي أحد منازعة ، ولا يمكن هو أحداً مما كان ملكه في الدنيا.

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته.
{ إذا اكتالوا على الناس } : قبضوا لهم ، { وإذا كالوهم أو وزنوهم } ، أقبضوهم.
وقال الفراء : من وعلى يعتقبان هنا ، اكتلت على الناس ، واكتلت من الناس.
فإذا قال : اكتلت منك ، فكأنه قال : استوفيت منك؛ وإذا قال : اكتلت عليك؛ فكأنه قال : أخذت ما عليك ، والظاهر أن على متعلق باكتالوا كما قررنا.
وقال الزمخشري : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم ، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون ، أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها. انتهى.
وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر ، فتقول : كلت لك ووزنت لك ، ويجوز حذف اللام ، كقولك : نصحت لك ونصحتك ، وشكرت لك وشكرتك؛ والضمير ضمير نصب ، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه ، والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون.
وعن عيسى وحمزة : المكيل له والموزون له محذوف ، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو.
وقال الزمخشري : ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا.
وإن جعلت الضمير للمطففين ، انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. انتهى.
ولا تنافر فيه بوجه ، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد ، والحديث واقع في الفعل.
غاية ما في هذا أن متعلق الاستيفاء ، وهو على الناس ، مذكور وهو في { كالوهم أو وزنوهم } ، محذوف للعلم به لأنه معلوم أنهم لا يخسرون الكيل والميزان إذا كان لأنفسهم ، إنما يخسرون ذلك لغيرهم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هل لا.
قيل أو اتزنوا ، كما قيل أو وزنوهم؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً.
{ يخسرون } : ينقصون. انتهى.
ويخسرون معدّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسره غيره.
{ ألا يظن } : توقيف على أمر القيامة وإنكار عليهم في فعلهم ذلك ، أي { ليوم عظيم } ، وهو يوم القيامة ، ويوم ظرف ، العامل فيه مقدر ، أي يبعثون يوم يقوم الناس.
ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون ، ويكون معنى { ليوم } : أي لحساب يوم.
وقال الفراء : هو بدل من يوم عظيم ، لكنه بني وقرىء { يوم يقوم } بالجر ، وهو بدل من { ليوم } ، حكاه أبو معاد.

وقرأ زيد بن عليّ : يوم بالرفع ، أي ذلك يوم ، ويظن بمعنى يوقن ، أو هو على وضعه من الترجيح.
وفي هذا الإنكار والتعجب ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس لله خاضعين ، ووصفه برب العالمين ، دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف.
{ كلا } : ردع لما كانوا عليه من التطفيف ، وهذا القيام تختلف الناس فيه بحسب أحوالهم ، وفي هذا القيام إلجام العرق للناس ، وأحوالهم فيه مختلفة ، كما ورد في الحديث.
والفجار : الكفار ، وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم.
{ وسجين } ، قال الجمهور : فعيل من السجن ، كسكير ، أو في موضع ساجن ، فجاء بناء مبالغة ، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف.
قال ابن مقبل :
ورفقة يضربون البيض ضاحية . . .
ضرباً تواصت به الأبطال سجينا
وقال الزمخشري : فإن قلت : { ما سجين } ، أصفة هو أم اسم؟ قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف. انتهى.
وكان قد قدم أنه كتاب جامع ، وهو ديوان الشر ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو : { كتاب مرقوم } : مسطور بين الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، والمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. انتهى.
واختلفوا في سجين إذا كان مكاناً اختلافاً مضطرباً حذفنا ذكره.
والظاهر أن سجيناً هو كتاب ، ولذلك أبدل منه { كتاب مرقوم }.
وقال عكرمة : سجين عبارة عن الخسار والهوان ، كما تقول : بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود.
وقال بعض اللغويين : سجين ، نونه بدل من لام ، وهو من السجيل ، فتلخص من أقوالهم أن سجين نونه أصلية ، أو بدل من لام.
وإذا كانت أصلية ، فاشتقاقه من السجن.
وقيل : هو مكان ، فيكون { كتاب مرقوم } خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كتاب.
وعني بالضمير عوده على { كتاب الفجار } ، أو على { سجين } على حذف ، أي هو محل { كتاب مرقوم } ، و { كتاب مرقوم } تفسير له على جهة البدل أو خبر مبتدأ.
والضمير المقدر الذي هو عائد على { سجين } ، أو كناية عن الخسار والهوان ، هل هو صفة أو علم؟ { وما أدراك ما سجين } : أي ليس ذلك مما كنت تعلم.
مرقوم : أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى.
قال قتادة : رقم لهم : بشر ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد.
وقال ابن عباس والضحاك : مرقوم : مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة ، ومنه قول الشاعر :
سأرقم في الماء القراح إليكم . . .
على بعدكم إن كان للماء راقم
وتبين من الإعراب السابق أن { كتاب مرقوم } بدل أو خبر مبتدأ محذوف.
وكان ابن عطية قد قال : إن سجيناً موضع ساجن على قول الجمهور ، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة ، من قال : { كتاب مرقوم }.

من قال بالقول الأول في سجين ، فكتاب مرتفع عنده على خبر إن ، والظرف الذي هو { لفي سجين } ملغى.
ومن قال في سجين بالقول الثاني ، فكتاب مرقوم على خبر ابتداء مضمر التقدير هو { كتاب مرقوم } ، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو. انتهى.
فقوله : والظرف الذي هو { لفي سجين } ملغى قول لا يصح ، لأن اللام التي في { لَفِى سِجّينٍ } داخلة على الخبر ، وإذا كانت داخلة على الخبر ، فلا إلغاء في الجار والمجرور ، بل هو الخبر.
ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في { لفي سجين } على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر ، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً ، لأن كتاب موصوف بمرقوم فلا يعمل ، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ، ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف ، فتعين بهذا أن قوله : { لفي سجين } هو خبر إن.
{ الذين يكذبون } : صفة ذم ، { كل معتد } : متجاوز الحد ، { أثيم } : صفة مبالغة.
وقرأ الجمهور : { إذا } ؛ والحسن : أئذا بهمزة الاستفهام.
والجمهور : { تتلى } بتاء التأنيث؛ وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء.
قيل : ونزلت في النضر بن الحرث.
{ بل ران } ، قرىء بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار وقف حمزة على بل وقفاً خفيفاً يسير التبيين الإظهار.
وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا ، يعني القراء ، على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من سكت حفص على بل ، ثم يقول : { ران } ، وهذا الذي ذكره ليس كما ذكر من الإجماع.
ففي كتاب اللوامح عن قالون : من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء ، نحو قوله : { بل رفعه الله إليه } { بل ربكم } وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ نافع : { بل ران } غير مدغم ، وفيه أيضاً : وقرأ نافع أيضاً بالإدغام والإمالة.
وقال سيبويه : اللام مع الراء نحو : أسفل رحمه البيان والإدغام حسنان.
وقال الزمخشري : وقرى بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت. انتهى.
وقال سيبويه : فإذا كانت ، يعني اللام ، غير لام المعرفة ، نحو لام هل وبل ، فإن الإدغام في بعضها أحسن ، وذلك نحو : هل رأيت؟ فإن لم تدغم فقلت : هل رأيت؟ فهي لغة لأهل الحجاز ، وهي غريبة جائزة. انتهى.
وقال الحسن والسدي : هو الذنب على الذنب.
وقال الحسن : حتى يموت قلبه.
وقال السدي : حتى يسود القلب.
وفي الحديث نحو من هذا.
فقال الكلبي : طبع على قلوبهم.
وقال ابن سلام : غطى.
{ ما كانوا يكسبون } ، قال ابن عطية : وعلق اللوم بهم فيما كسبوه ، وإن كان ذلك بخلق منه تعالى واختراع ، لأن الثواب والعقاب متعلقان بكسب العبد.
والضمير في قوله : { أنهم } ، فمن قال بالرؤية ، وهو قول أهل السنة ، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم ، فهم محجوبون عنه.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

لما ذكر تعالى أمر كتاب الفجار ، عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق.
عليون : جمع واحده عليّ ، مشتق من العلو ، وهو المبالغة ، قاله يونس وابن جني.
قال أبو الفتح : وسبيله أن يقال علية ، كما قالوا للغرفة علية ، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواو والنون.
وقيل : هو وصف للملائكة ، فلذلك جمع بالواو والنون.
وقال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع ، ولا واحد له من لفظه ، كقوله : عشرين وثلاثين؛ والعرب إذا جمعت جمعاً ، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية ، قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون.
وقال الزجاج : أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع ، هذه قنسرون ، ورأيت قنسرين.
وعليون : الملائكة ، أو المواضع العلية ، أو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء الثقلين ، أو علو في علو مضاعف ، أقوال ثلاثة للزمخشري.
وقال أبو مسلم : { كتاب الأبرار } : كتابة أعمالهم ، { لفي عليين }.
ثم وصف عليين بأنه { كتاب مرقوم } فيه جميع أعمال الأبرار.
وإذا كان مكاناً فاختلفوا في تعيينه اختلافاً مضطرباً رغبنا عن ذكره.
وإعراب { لفي عليين } ، و { كتاب مرقوم } كإعراب { لفي سجين } ، و { كتاب مرقوم }.
وقال ابن عطية : و { كتاب مرقوم } في هذه الآية خبر إن والظرف ملغى. انتهى.
هذا كما قال في { لفي سجين } ، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله.
والمقربون هنا ، قال ابن عباس وغيره : هم الملائكة أهل كل سماء ، { ينظرون } ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : إلى ما أعد لهم من الكرامات.
وقال مقاتل : إلى أهل النار.
وقيل : ينظر بعضهم إلى بعض.
وقرأ الجمهور : { تعرِف } بتاء الخطاب ، للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو للناظر.
{ نضرة النعيم } ، نصباً.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب والزعفراني : تعرف مبنياً للمفعول ، نضرة رفعاً؛ وزيد بن عليّ : كذلك ، إلا أنه قرأ : يعرف بالياء ، إذ تأنيث نضرة مجازي؛ والنضرة تقدّم شرحها في قوله : { نضرة وسروراً } { مختوم } ، الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمماً وتنظفاً بالرائحة المسكية ، كما فسره ما بعده.
وقيل : تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة.
وقرأ الجمهور : { ختامه } : أي خلطه ومزاجه ، قاله عبد الله وعلقمة.
وقال ابن عباس وابن جبير والحسن : معناه خاتمته ، أي يجد الرائحة عند خاتمة الشراب ، رائحة المسك.
وقال أبو عليّ : أي إبزاره المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم.
وقيل : يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك.
وفي الصحاح : الختام : الطين الذي يختم به ، وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه بالمسك بدل الطين ، وقال الشاعر :
كأن مشعشعاً من خمر بصرى . . .
نمته البحث مشدود الختام
وقرأ عليّ والنخعي والضحاك وزيد بن عليّ : وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي : خاتمه ، بعد الخاء ألف وفتح التاء ، وهذه بينة المعنى ، إنه يراد بها الطبع على الرحيق.

وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي : كسر التاء ، أي آخره مثل قوله : { وخاتم النبيين } وفيه حذف ، أي خاتم رائحته المسك؛ أو خاتمه الذي يختم به ويقطع.
{ من تسنيم } ، قال عبد الله وابن عباس : هو أشرف شراب الجنة ، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة.
وقال الزمخشري : { تسنيم } : علم لعين بعينها ، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه.
و { عيناً } نصب على المدح.
وقال الزجاج : على الحال. انتهى.
وقال الأخفش : يسقون عيناً ، { يشرب بها } : أي يشربها أو منها ، أو ضمن يشرب معنى يروى بها أقوال.
{ المقرّبون } ، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح : يشربها المقربون صرفاً ويمزج للأبرار.
ومذهب الجمهور : الأبرار هم أصحاب اليمين ، وأن المقرّبين هم السابقون.
وقال قوم : الأبرار والمقرّبون في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكل من نعم في الجنة.
وروي أن علياً وجمعاً معه من المؤمنين مروا بجمع من كفار قريش ، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً ، فنزلت : { إن الذين أجرموا } ، قبل أن يصل عليّ رضي الله تعالى عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكفار مكة هؤلاء قيل هم : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل؛ والمؤمنون : عمار ، وصهيب ، وخباب ، وبلال ، وغيرهم من فقراء المؤمنين.
والظاهر أن الضمير في { مروا } عائد على { الذين أجرموا } ، إذ في ذلك تناسق الضمائر لواحد.
وقيل : للمؤمنين ، أي وإذا مرّ المؤمنون بالكافرين يتغامز الكافرون ، أي يشيرون بأعينهم.
و { فكهين } : أي متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم.
وقرأ الجمهور : فاكهين بالألف ، أي أصحاب فاكهة ومزح وسرور باستخفافهم بأهل الإيمان؛ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص : بغير ألف ، والضمير المرفوع في { رأوهم } عائد على المجرمين ، أي إذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال ، وهم محقون في نسبتهم إليه.
{ وما أرسلوا } على الكفار ، { حافظين }.
وفي الإشارة إليهم بأنهم ضالون إثارة للكلام بينهم.
وكان في الآية بعض موادعة ، أي إن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار ، وهذا على القول بأن هذا منسوخ بآية السيف.
وقال الزمخشري : وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين ، إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ، ودعائهم إلى الإسلام ، وجدهم في ذلك.
ولما تقدّم ذكر يوم القيامة قيل : { فاليوم الذين آمنوا } ، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة ، وينظرون حال من الضمير في يضحكون ، أي يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم.
وقال كعب لأهل الجنة : كوى ينظرون منها إلى أهل النار.
وقيل : ستر شفاف بينهم يرون منه حالهم.
{ هل ثوب } : أي هل جوزي؟ يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه ، ومنه قول الشاعر :
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب . . .
وحسبك أن يثني عليك وتحمد
وهو استفهام بمعنى التقرير للمؤمنين ، أي هل جوزوا بها؟ وقيل : { هل ثوب } متعلق بينظرون ، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى.
وقرأ الجمهور : { هل ثوب } بإظهار لام هل؛ والنحويان وحمزة وابن محيصن : بإدغامها في الثاء؛ وفي قوله : { ما كانوا } حذف تقديره جزاء أو عقاب : { ما كانوا يفعلون }.

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

قال ابن خالويه : { إذا السماء انشقت } بكسر التاء ، عبيد عن أبي عمرو.
وقال ابن عطية ، وقرأ أبو عمرو : { انشقت } ، يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها.
قال أبو حاتم : سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات ، وهي لغة. انتهى.
وذلك أن الفواصل قد تجري مجرى القوافي.
فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي ، تكسر في الفواصل؛ ومثال كسرها في القوافي قول كثير عزة :
وما أنا بالداعي لعزة بالردى . . .
ولا شامت أن نعل عزة زلت
وكذلك باقي القصيدة.
وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف ، كقوله تعالى : { الظنونا } و { الرسولا } في سورة الأحزاب.
وحمل الوصف على حالة الوقف أيضاً موجود في الفواصل.
{ وأذنت } : أي استمعت وسمعت أمره ونهيه ، وفي الحديث : « ما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن » وقال الشاعر :
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به . . .
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقال قعنب :
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحاً . . .
وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الحجاف بن حكيم :
أذنت لكم لما سمعت هريركم . . .
وأذنها : انقيادها الله تعالى حين أراد انشقاقها ، فعل المطيع إذا ورد عليه أمر المطاع أنصت وانقاد ، كقوله تعالى : { قالتا أتينا طائعين } { وحقت } ، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير : وحق لها أن تسمع.
وقال الضحاك : أطاعت وحق لها أن تطيع.
وقال قتادة : وحق لها أن تفعل ذلك ، وهذا الفعل مبني للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، أي وحق الله تعالى عليها الاستماع.
ويقال : فلان محقوق بكذا وحقيق بكذا ، والمعنى : أنه لم يكن في جرم السماء ما يمنع من تأثير القدرة في انشقاقه وتفريق أجزائه وإعدامه.
قيل : ويحتمل أن يريد : وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى.
وقال الزمخشري : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، ومعناه : الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك ، انتهى.
وفي قوله القادر الذات دسيسة الاعتزال ، وما أولع هذا الرجل بمذهب الاعتزال ، يدسه متى أمكنه في كل ما يتكلم به.
{ وإذا الأرض مدت } ، قال مجاهد : سويت.
وقال الضحاك : بسطت باندكاك جبالها ، ومنه الحديث : « تمد الأرض مد الأديم العكاظي حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه » ، وذلك أن الأديم إذا مَّد زال ما فيه ما تئن وانبسط ، فتصير الأرض إذ ذاك كما قال تعالى : { فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } { وألقت ما فيها وتخلت } ، قال ابن جبير والجمهور : ألقت ما في بطنها من الأموات ، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء.
وقيل : تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46