كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ، لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه.
{ وما أنزل إلى إبراهيم } : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف.
قال : { إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى } وكرر الموصول ، لأن المنزل إلينا ، وهو القرآن ، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم.
فلو حذف الموصول ، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى ابراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله : { وما أنزل إلينا }.
والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطاً.
قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة : وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم : يوسف النبي صلى الله عليه وسلم ، صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء من سليمان عليه السلام النبي : مريم ابنة عمران ، أمّ المسيح عليهما السلام.
وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام.
انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب.
وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمّهم لياثم.
خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين.
وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر.
انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء.
وقيل : روبيل أكبر ولده.
وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة أليسع عليهما السلام.
{ وما أوتي موسى وعيسى } : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات.
وموسى هنا : هو موسى بن عمران ، كليم الله.
وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق : موسى بن ميشا بن يوسف.
وزعم أهل التوراة أن الله نبأه ، وأنه صاحب الخضر.
وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، والله أعلم بصحة ذلك.
انتهى كلامه ، ونص على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ، لأن عيسى إنما جاء مصدقاً لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزراً يسيراً.
فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير.
وجاء : { وما أنزل إلينا } ، وجاء : { وما أوتي موسى وعيسى } ، تنويعاً في الكلام وتصرفاً في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحداً ، إذ لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ.

ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب :
ونهب نفوس أهل النهب أولى . . .
بأهل النهب من نهب القماش
ولما ذكر في الإنزال أوّلاً خاصاً ، عطف عليه جمعاً.
كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصاً ، عطف عليه جمعاً.
ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال : { وما أوتي النبيون من ربهم } ، وهو تعميم بعد تخصيص.
وظاهر قوله : { وما أوتي } يقتضي التعميم في الكتب والشرائع.
وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله؟ قال : «مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان.
وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي.
وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولاً ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وأليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحاً ، وهوداً ، وشعيباً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمداً ، صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وابتدىء أولاً بالإيمان بالله ، لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم { ما أنزل إلينا } ، وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده ، لأنه أولى بالذكر ، لأن الناس ، بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً.
وقدم { ما أنزل إلى إبراهيم } على { ما أوتي موسى وعيسى } ، للتقدّم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته.
{ وما أوتي موسى } : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوّزوا أن يكون : { وما أوتي موسى وعيسى } في موضع رفع بالابتداء ، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي ، فيكون في موضع رفع.
والخبر في قوله { من ربهم } ، أو لا نفرق ، أو يكون : { وما أوتي موسى وعيسى } معطوفاً على المجرور قبله ، { وما أوتي النبيون } رفع على الابتداء ، { ومن ربهم } الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر.
والظاهر أن من ربهم في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق بما أوتي الثانية ، أو بما أوتي الأولى ، وتكون الثانية توكيداً.
ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله :

{ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم.
.
{ لا نفرق بين أحد منهم } : ظاهره الاستئناف.
والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى.
فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى ، صلوات الله على الجميع.
والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات.
وقيل : معناه لانشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين ، إذا فارق جماعتهم.
وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه ، إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول بين عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه.
وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالما . . .
أبو حجر إلا ليال قلائل
يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوف في قوله : { سرابيل تقيكم الحرّ } ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد ، فحذف والبرد لفهم المعنى.
ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه.
وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ، لأنه لا حذف فيه.
{ ونحن له مسلمون } : هذا كله مندرج تحت قوله : { قولوا }.
ولما ذكر أولاً الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكرالإسلام ، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح.
فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل.
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل عليه السلام.
وقد فسروا قوله : { مسلمون } بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلاً وفعلاً ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون.
وله متعلق بمسلمون ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله : { قولوا آمنا بالله } الآية ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال : «الله أمرني بهذا».
فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا.
وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن الله تعالى ، فأنزل الله : { فإن آمنوا } الآية.
والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى }.

ويجوز أن يكون الخطاب خاصاً ، والمراد به العموم ، ويجوز أن يكون عائداً على كل كافر ، فيفسره المعنى.
وقرأ الجمهور : { بمثل ما آمنتم به }.
وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس : بما آمنتم به.
وقرأ أُبيّ : بالذي آمنتم به ، وقال ابن عباس : ليس لله مثل.
وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله ، وإطلاق على ما على الله تعالى.
كما ذهب إليه بعضهم في قوله : { والسماء وما بناها } يريد ومن بناها على قوله.
وقراءة أبيّ ظاهرة ، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون.
وأما قراءة الجمهور ، فخرجت الباء على الزيادة ، والتقدير : إيماناً مثل إيمانكم ، كما زيدت في قوله : { وهزّي إليك بجذع النخلة }
وسود المحاجر لا يقرأن بالسور . . .
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وتكون ما مصدرية.
وقيل : ليست بزائدة ، وهي بمعنى على ، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به ، وكون الباء بمعنى على ، قد قيل به ، وممن قال به ابن مالك ، قال ذلك في قوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } أي على قنطار.
وقيل : هي للاستعانة ، كقولك : عملت بالقدوم ، وكتبت بالقلم ، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم ، وذلك فرار من زيادة الباء ، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً.
والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف ، التقدير : فإن آمنوا بالله ، ويكون الضمير في به عائداً على ما عاد عليه قوله : { ونحن له } ، وهو الله تعالى.
وقيل : يعود على ما ، وتكون إذ ذاك موصولة.
وأما مثل ، فقيل : زائدة ، والتقدير : فإن آمنوا بما آمنتم به ، قالوا : كهي في قوله : { ليس كمثله شيء } أي ليس كهو شيء ، وكقوله :
فصيروا مثل كعصف مأكول . . .
وكقوله :
يا عاذلي دعني من عذلكا . . .
مثلي لا يقبل من مثلكا
وقيل : ليست بزائدة.
والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد ، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به.
والمعنى : فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم ، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التأويل ، لا تكون الباء زائدة ، بل هي مثلها في قوله : آمنت بالكتاب.
وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، يقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي لا تفعله أنت.
والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل ، وزيادتها من حيث المعنى.
وقال الزمخشري : بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد ، لا مثل له ، وهو دين الإسلام.
{ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له ، كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك ، على سبيل العرض ، والتقدير : أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ، مساوياً له في الصحة والسداد.

{ فقد اهتدوا } : وفيه أن دينهم الذي هم عليه ، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى ، وما سواه باطل وضلال ، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه ، فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه.
انتهى كلامه ، وهو حسن.
وجواب الشرط قوله : { فقد اهتدوا } ، وليس الجواب محذوفاً ، كهو في قوله : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل } لمعنى تكذيب الرسل قطعاً ، واستقبال الهداية هنا ، لأنها معلقة على مستقبل ، ولم تكن واقعة قبل.
{ وإن تولوا } : أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان.
{ فإنما هم في شقاق } : أكد الجملة الواقعة شرطاً بأن ، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفاً لهم ، وهم مظروفون له.
فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم ، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه.
وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : { إنا لنراك في ضلال مبين } { إنا لنراك في سفاهة } هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه.
والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة.
وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى.
وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف.
قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم. انتهى.
{ فسيكفيكهم الله } : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم.
وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران.
وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفى به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه.
{ وهو السميع العليم } ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم.

ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضاً.
وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم.
{ صبغة الله } : أي دين الله ، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه ، كظهور أثر الصبغ على الثوب ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ في الثوب ، أو فطرة الله ، قاله مجاهد ومقاتل؛ أو خلقة الله ، قاله الزجاج وأبو عبيد؛ أو سنة الله ، قاله أبو عبيدة؛ أو الإسلام ، قاله مجاهد أيضاً؛ أو جهة الله يعني القبلة ، قاله ابن كيسان؛ أو حجة الله على عباده ، قاله الأصم : أو الختان ، لأنه يصبغ صاحبه بالدم.
والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانياً.
استغنوا به عن الختان ، فردّ الله عليهم بقوله : { صبغة الله } ، أو الاغتسال للدّخول في الإسلام عوضاً عن ماء المعمودية ، حكاه الماوردي؛ أو القربة إلى الله ، حكاه ابن فارس في المجمل؛ أو التلقين ، يقال : فلان يصبغ فلاناً في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه ، كما يجعل الصبغ لازماً للثوب.
وهذه أقوال متقاربة ، والأقرب منها هو الدين والملة ، لأن قبله : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية.
وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي ، فكنى بالصبغة عنه ، ومجازه ظهور الأثر ، أو ملازمته لمن ينتحله.
فهو كالصبغ في هذين الوصفين ، كما قال.
وكذلك الإيمان ، حين تخالط بشاشة القلوب.
والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء ، واتصافه به صبغة.
قال بعض شعراء ملوكهم :
وكل أناس لهم صبغة . . .
وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا . . .
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن.
فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيهاً بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانياً حقاً.
وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ.
ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية ، بالدال ، ويقال : المعمورية بالراء.
قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فردّ الله ذلك بقوله : { صبغة الله }.
وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة.
وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان ، إذا اعتبرت ، جرت مجرى الصبغة في المصبوغ ، ولما كانت النصارى ، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون : نصرناه ، فقال : إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله.

وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله الطبري.
وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة.
فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : { قولوا آمنا بالله }.
وقيل : عن قوله : { ونحن له مسلمون }.
وقيل : عن قوله : { فقد اهتدوا } وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله.
وقيل : بدل من قوله : { ملةم إبراهيم } ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : { ونحن له عابدون } ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار ، لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه.
وأما البدل ، فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز.
والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : { قولوا آمنا } ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم.
وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا.
ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } إذ قبله : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلاً يصطنع الكرم.
وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله.
{ ومن أحسن من الله صبغة } : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة.
وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسناً ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء.
وانتصاب صبغة هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ.
وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله.
فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين.
{ ونحن له عابدون } : متصل بقوله : { آمنا بالله } ، ومعطوف عليه.
قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه.
وانتصابها يعني : صبغة الله على أنها مصدر مؤكد ، هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام. انتهى.
وتقديره : في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد ، لأن الإغراء ، إذ كان بالظرف والمجرور ، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله.

وتقدم الكلام على العبادة في قوله : { إياك نعبد } وأما هنا فقيل : عابدون موحدون ، ومنه : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ليوحدون.
وقيل : مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله.
وقيل : خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم ، غير مستكبرين ، وهذه أقوال متقاربة.
{ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم } : سبب النزول ، قيل : إن اليهود والنصارى قالوا : يا محمد! إن الأنبياء كانوا منا ، وعلى ديننا ، ولم تكن من العرب ، ولو كنت نبياً ، لكنت منا وعلى ديننا.
وقيل : حاجوا المسلمين فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وأصحاب الكتاب الأول ، وقبلتنا أقدم ، فنحن أولى بالله منكم ، فأنزلت.
قرأ الجمهور : أتحاجوننا بنونين ، إحداهما نون الرفع ، والأخرى الضمير؟ وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، والأعمش ، وابن محيصن : بإدغام النون في النون ، وأجاز بعضهم حذف النون.
أما قراءة الجمهور فظاهرة ، وأما قراءة زيد ومن ذكر معه ، فوجهها أنه لما التقى مثلان ، وكان قبل الأول حرف مدّ ولين ، جاز الإدغام كقولك : هذه دار راشد ، لأن المد يقوم مقام الحركة في نحو : جعل لك.
وأما جواز حذف النون الأولى ، فوجهه من أجاز ذلك على قراءة من قرأ : فبم تبشرون ، بكسر النون ، وأنشدوا :
تراه كالثغام يعل مسكاً . . .
يسوء الفاليات إذا قليني
يريد : فلينني.
والخطاب بقوله : قل للرسول ، أو للسامع ، والهمزة للاستفهام مصحوباً بالإنكار عليهم ، والواو ضمير اليهود والنصارى.
وقيل : مشركو العرب ، إذ قالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.
وقيل : ضمير اليهود والنصارى والمشركين.
والمحاجة هنا : المجادلة.
والمعنى : أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوّة منا؟ { وهو ربنا وربكم } : جملة حالية ، يعني أنه مالكهم كلهم ، فهم مشتركون في العبودية ، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة.
والمعنى : أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد ، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله ، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى ، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك.
وقيل المعنى : أتجادلوننا في دين الله ، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان ، وكتابكم أفضل الكتب؟ والظاهر إنكار المجادلة في الله ، حيث زعمت النصارى أن الله هو المسيح ، وحيث زعم بعضهم أن الله ثالث ثلاثة ، وحيث زعمت اليهود أن الله له ولد ، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية ، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص ، تعالى الله عن ذلك ، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك ، والرب واحد لهم ، فوجب أن يكون الاعتقاد فيه واحداً ، وهو أن تثبت صفاته العلا ، وينزه عن الحدوث والنقص.
{ ولنا أعمالكم ولكم أعمالكم } ، المعنى : ولنا جزاء أعمالنا ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
والمعنى : أن الرب واحد ، وهو المجازي على الأعمال ، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة.

{ ونحن له مخلصون } : ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء ، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد ، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود ، لأن من عبد موصوفاً بصفات الحدوث والنقص ، فقد أشرك مع الله إلهاً آخر.
والمعنى : أنا لم نشب عقائدنا وأفعالنا بشيء من الشرك ، كما ادعت اليهود في العجل ، والنصارى في عيسى.
وهذه الجملة من باب التعريض بالذم ، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك ، ويناسب أن يكون استطراداً ، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحاً لفاعله وذماً لتاركه ، نحو قوله :
وأنا لقوم ما نرى القتل سبة . . .
إذا ما رأته عامر وسلول
وهي منبهة على أن من أخلص لله ، كان حقيقاً أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة ، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص.
فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي » وقال سعيد بن جبير : الإخلاص : أن لا يشرك في دينه ، ولا يرائي في عمله أحداً.
وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
وقال ابن معاذ : تمييز العمل من الذنوب ، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم.
وقال البوشنجي : هو معنى لا يكتبه الملكان ، ولا يفسده الشيطان ، ولا يطلع عليه الإنسان ، أي لا يطلع عليه إلا الله.
وقال رويم : هو ارتفاع عملك عن الرؤية.
وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن.
وقال أبو يعقوب المكفوف : أن يكتم العبد حسناته ، كما يكتم سيئاته.
وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل.
وقال أبو سليمان الداراني : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا أثني عليه.
وهذا القول الذي أمر به صلى الله عليه وسلم أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين ، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة ، ولا هي مما ينبغي أن تكون.
وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم ، وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك ، وأن تخلصوا كما أخلصنا ، فنكون سواء في ذلك.
{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى } : قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : أم تقولون بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء.
فأما قراءة التاء ، فيحتمل أم فيه وجهين.
أحدهما : أن تكون فيه أم متصلة ، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المحاجة في الله ، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه ، أنهم كانوا يهوداً ونصارى ، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ ، لأن كلاً من المستفهم عنه ليس بصحيح.

الوجه الثاني : أن تكون أم فيه منقطعة ، فتقدّر ببل والهمزة ، التقدير : بل أتقولون ، فأضرب عن الجملة السابقة ، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة ، على سبيل الإنكار أيضاً ، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، ليست بصحيحة ، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية ، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى ، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان ، فهو باطل.
وأما قراءة الياء ، فالظاهر أن أم فيها منقطعة.
وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، عن بعض النحاة : أنها ليست بمنقطعة ، لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى : أيكون هذا أم هذا؟ وقال ابن عطية : هذا المثال يعني : أتقوم أم يقوم عمرو؟ غير جيد ، لأن القائل فيه واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غير أن ، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي ، كان معنى قل أتحاجوننا ، أيحاجون يا محمد ، أم يقولون؟ انتهى.
ومعنى بقوله : لأن القائل فيه واحد ، يعني في المثال الذي هو : أيقوم أم يقوم عمرو؟ فالناطق بهاتين الجملتين هو واحد ، وقوله والمخاطب واحد ، يعني الذي خوطب بهذا الكلام ، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو وقوله.
والقول في الآية من اثنين ، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول ، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك ، وأتقولون بالتاء من قول الله تعالى.
وقوله والمخاطب اثنان غير أن ، أما الأول فقوله أتحاجوننا ، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله : أم يقولون.
وقال الزمخشري : وفيمن قرأ بالياء ، لا تكون إلا منقطعة. انتهى.
ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء ، ويكون ذلك من الالتفات ، إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين.
والأحسن أن تكون أم في القراءتين معاً منقطعة ، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } الآيات وإذا جعلناها متصلة ، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك ، إذ وقعا معاً.
والقول في أو في قول : { هوداً أو نصارى } ، قد تقدّم في قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى }.
وقوله : { كونوا هوداً أو نصارى } ، وأنها للتفضيل ، أي قالت اليهود : هم يهود ، وقالت النصارى : هم نصارى.
{ قل أأنتم أعلم أم الله } : القول في القراءات في أأنتم ، كهو في قوله :

{ أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وقد توسط هنا المسؤول عنه ، وهو أحسن من تقدمه وتأخره ، إذ يجوز في العربية أن يقول : أأعلم أنتم أم الله؟ ويجوز : أأنتم أم الله أعلم؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل : أهم أزيد علماً أم الله؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، وهذا نظير قول حسان :
فشركما لخيركما الفداء . . .
وقد علم أن الذي هو خير كله ، هو الرسول عليه السلام ، وأن الذي هو شر كله ، هو هاجيه.
وفي هذا ردّ على اليهود والنصارى ، لأن الله قد أخبر بقوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم ، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن اليهودية والنصرانية.
وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه ، لأن اتباع أحبارهم ربما توهموا ، أو ظنوا ، أن أولئك كانوا هوداً أو نصارى لسماعهم ذلك منه ، فيكون ذلك ردًّا من الله عليهم ، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا ، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء ، وردّ عليهم بقوله : أأنتم أعلم أم الله ، لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول : الله أعلم ، فكان ذلك أقطع للنزاع.
{ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } : وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية ، لكنهم كتموا ذلك.
وقد تقدّم الكلام على هذا الاستفهام ، وأنه يراد به النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن كتم.
وتقدّم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود ، وقيل : المنافقون تابعوا اليهود على الكتم.
والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والربيع ، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، والأمر بتصديقه ، قاله قتادة ، وابن زيد؛ أو الإسلام ، وهم يعلمون أنه الحق.
والقول الأول أشبه بسياق الآية.
من الله : يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم ، ويكون على حذف مضاف ، أي كتم من عباد الله شهادة عنده ، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله ، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق.
ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف ، إذ الظرف في موضع الصفة ، والتقدير : شهادة كائنة عنده من الله ، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة ، وحصلت عنده من قبل الله ، واستودعه إياها ، وهو قوله { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه } الآية.
وقال ابن عطية في هذا الوجه : فمن على هذا متعلقة بعنده ، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور ، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز.

وقال الزمخشري : أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها ، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية.
ومن في قوله : شهادة من الله ، مثلها في قولك : هذه شهادة مني لفلان ، إذا شهدت له ، ومثله : { براءة من الله ورسوله } انتهى.
فظاهر كلامه : أن من الله في موضع الصفة لشهادة ، أي كائنة من الله ، وهو وجه ثالث في العامل في من.
والفرق بينه وبين ما قبله : أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد ، وفي هذا الوجه اثنان ، وكان جعل من معمولاً للعامل في الظرف ، أو في موضع الصفة لشهادة ، أحسن من تعلق من بكتم ، لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها.
وعلى التعلق بكتم ، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم ، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية ، لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر ، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها ، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم ، قال الزمخشري : ويحتمل معنيين : أحدهما : أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ، لأنهم كتموا هذه الشهادة ، وهم عالمون بها.
والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة ، لم يكن أحد أظلم منا ، فلا نكتمها ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته.
انتهى كلامه ، والمعنى الأول هو الظاهر ، لأن الآية إنما تقدّمها الإنكار ، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه.
فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب ، لا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، لأنهم مقرون بما أخبر الله به ، وعالمون بذلك العلم اليقين ، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك.
وذكر في ( ريّ الظمآن ) : أي في الآية تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : ومن أظلم ممن كتم شهادة حصلت له؟ كقولك : ومن أظلم من زيد؟ من جملة الكاتمين للشهادة.
والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً ونصارى.
ثم إن الله كتم هذه الشهادة ، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب ، علمنا أن الأمر ليس كذلك. انتهى.
وهذا الوجه متكلف جدًّا من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول.
أما من حيث التركيب ، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير ، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر.
وأيضاً ، فيبقى قوله : ممن كتم ، متعلق : إما بأظلم ، فيكون ذلك على طريقة البدلية ، ويكون إذ ذاك بدل عام من خاص ، وليس هذا النوع بثابت من لسان العرب ، على قول الجمهور ، وإن كان بعضهم قد زعم أنه وجد في لسان العرب بدل كل من بعض.
وقد تأوّل الجمهور ما أدّى ظاهره إلى ثبوت ذلك ، وجعلوه من وضع العام موضع الخاص ، لندور ما ورد من ذلك ، أو يكون من متعلقه بمحذوف ، فيكون في موضع الحال ، أي كائناً من الكاتمين الشهادة.

وأما من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جرّ بمن يكون على تقدير : أي إن كتمها ، فلا أحد أظلم منه.
وهذا كله معنى لا يليق بالله تعالى ، وينزه كتاب الله عن ذلك.
{ وما الله بغافل عما تعملون } : تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة عند قوله : { وما الله بغافل عما تعملون ، أفتطمعون } ولا يأتي إلا عقب ارتكاب معصية ، فتجيء متضمنة وعيداً ، ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى ، بل هو محصل لأعمالهم ، مجاز عليها.
{ تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } : تقدّم الكلام على شرح هذه الجمل ، وتضمنت معنى التخويف والتهديد ، وليس ذلك بتكرار ، لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره.
وإذا كان كذلك ، فقد اختلف السياق ، فلا تكرار.
بيان ذلك أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء ، فتلك إشارة إليهم ، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى ، فالمشار إليه هم.
فقد اختلف المخبر عنه والسياق ، والمعنى : أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدّمهم ، يجازون بما كسبوا ، فأنتم أحق بذلك.
وقيل : الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن ذكر معه ، واستبعد أن يراد بذلك أسلاف اليهود والنصارى ، لأنه لم يجر لهم ذكر مصرّح بهم ، وإذا كانت الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن معه ، فالتكرار حسن لاختلاف الأقوال والسياق.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة من كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله تعالى ، حتى جعلوا ذلك وصية يوصون بها واحداً بعد واحد.
فأخبر تعالى عن إبراهيم أنه أوصى بملته الحنيفية بنيه ، وأن يعقوب أوصى بذلك ، وقدّم بين يدي وصيته اختيار الله لهم هذا الدين ، ليسهل عليهم اتباع ما اختاره الله لهم ، ويحضهم على ذلك ، وأمرهم أنهم لا يموتون إلا عليه ، لأن الأعمال بخواتيمها.
ثم ذكر سؤال يعقوب لبنيه عما يعبدون بعد موته ، فأجابوه بما قرّت به عينه من موافقته وموافقة آبائه الأنبياء من عبادة الله تعالى وحده ، والانقياد لأحكامه.
وحكمة هذا السؤال أنه لما وصاهم بالحنيفية ، استفسرهم عما تكن صدورهم ، وهل يقبلون الوصية؟ فأجابوه بقبولها وبموافقة ما أحبه منهم ، ليسكن بذلك جأشه ، ويعلم أنه قد خلف من يقوم مقامه في الدعاء إلى الله تعالى.
وصدر سؤال يعقوب بتقريع اليهود والنصارى بأنهم ما كانوا شهدوا وصية يعقوب ، إذ فاجأه مقدّمات الموت ، فدعواهم اليهودية والنصرانية على إبراهيم ويعقوب وبنيهم باطلة ، إذ لم يحضروا وقت الوصية ، ولم تنبئهم بذلك توراتهم ولا إنجيلهم ، فبطل قولهم ، إذ لم يتحصل لا عن عيان ولا عن نقل ، ولا ذلك من الأشياء التي يستدل عليها بالعقل.

ثم أخبر تعالى أن تلك الأمة قد مضت لسبيلها ، وأنها رهينة بما كسبت ، كما أنكم مرهونون بأعمالكم ، وأنكم لا تسألون عنهم.
ثم ذكر تعالى ما هم عليه من دعوى الباطل.
والدعاء إليه ، وزعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية.
ثم أضرب عن كلامهم ، وأخذ في اتباع ملة إبراهيم الحنيفية المباينة لليهودية والنصرانية والوثنية.
ثم أمرهم بأن يفصحوا بأنهم آمنوا بما أنزل إليهم وإلى إبراهيم ومن ذكر معه ، فإن الإيمان بذلك هو الدين الحنيف ، وأنهم منقادون لله اعتقاداً وأفعالاً.
ثم أخبر أن اليهود والنصارى ، إن وافقواكم على ذلك الإيمان ، فقد حصلت الهداية لهم ، ورتب الهداية على ذلك الإيمان ، فنبه بذلك على فساد ترتيب الهداية على اليهودية والنصرانية في قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا }.
ثم أخبر تعالى أنهم إن تولوا فهم الأعداء المشاقون لك ، وأنك لا تبالي بشقاقهم ، لأن الله تعالى هو كافيك أمرهم ، ومن كان الله كافيه فهو الغالب ، ففي ذلك إشارة إلى ظهوره عليهم.
ثم ذكر أن صبغة الملة الحنيفية هي صبغة الله ، وإذا كانت صبغة الله ، فلا صبغة أحسن منها ، وأن تأثير هذه الصبغة هو ظهورها عليهم بعبادة الله ، تعالى ، فقال : { ونحن له عابدون }.
ثم استفهمهم أيضاً على طريق التوبيخ والتقريع عن مجادلتهم في الله ولا يحسن النزاع فيه ، لأن الله هو ربنا كلنا ، فالذي يقتضيه العقل أنه لا يجادل فيه.
ثم ذكر أنه رب الجميع ، وأشار إلى أنه يجازى الجميع بقوله : { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم }.
ثم ذكر ما انفردوا به من الإخلاص له ، لأن اليهود والنصارى غير مخلصين له في العبادة.
ثم استفهمهم أيضاً على جهة التوبيخ والتقريع ، عن مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، من أنهم كانوا يهوداً ونصارى ، وأن دأبهم المجادلة بغير حق ، فتارة في الله وتارة في أنبياء الله.
ثم بين أنهم لا علم عندهم بل الله هو أعلم به.
ثم بين أن تلك المقالة لم تكن عن دليل ولا شبهة ، بل مجرد عناد ، وأنهم كاتمون للحق ، دافعون له ، فقال ما معناه : لا أحد أظلم من كاتم شهادة استودعه الله إياها ، والمعنى : لا أحد أظلم منكم في المجادلة في الله ، وفي نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، إذ عندهم الشهادة من الله بأحوالهم.
ثم هدّدهم بأن الله تعالى لا يغفل عما يعملون.
ثم ختم ذلك بأن تلك أمّة قد خلت منفردة بعملها ، كما أنتم كذلك ، وأنكم غير مسؤولين عما عملوه ، وجاءت هذه الجمل من ابتداء ذكر إبراهيم إلى انتهاء الكلام فيه ، على اختلاف معانيه وتعدّد مبانيه ، كأنها جملة واحدة ، في حسن مساقها ونظم اتساقها ، مرتقية في الفصاحة إلى ذروة الإحسان ، مفصحة أن بلاغتها خارجة عن طبع الإنسان ، مذكرة قوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } جعلنا الله ممن هدى إلى عمل به وفهم ، ووفى من تدبره أوفر سهم ، ووقى في تفكره من خطأ ووهم.

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

القبلة : الجهة التي يستقبلها الإنسان ، وهي من المقابلة.
وقال قطرب : يقولون في كلامهم ليس له قبلة ، أي جهة يأوي إليها.
وقال غيره : إذا تقابل رجلان ، فكل واحد منهما قبلة الآخر.
وجاءت القبلة ، وإن أريد بها الجهة ، على وزن الهيئات ، كالقعدة والجلسة.
الوسط : اسم لما بين الطرفين وصف به ، فأطلق على الخيار من الشيء ، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، ولكونه اسماً كان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد.
وقال حبيب : كانت هي الوسط المحميّ ، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً.
ووسط الوادي : خير موضع فيه ، وأكثره كلأً وماء.
ويقال : فلان من أوسط قومه ، وأنه لواسطة قومه ، ووسط قومه : أي من خيارهم ، وأهل الحسب فيهم.
وقال زهير :
وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم . . .
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وقد وسط سطة ووساطة ، وقال :
وكن من الناس جميعاً وسطاً . . .
وأما وسط ، بسكون السين ، فهو طرف المكان ، وله أحكام مذكورة في النحو.
أضاع الرجل الشيء : أهمله ولم يحفظه ، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً ، وضاع المسك يضوع : فاح.
الانقلاب : الانصراف والارتجاع ، وهو للمطاوعة ، قلبته فانقلب.
عقب الرجل : معروف ، والعقب : النسل ، ويقال : عقب ، بسكون القاف.
الرأفة والرحمة : متقاربان في المعنى.
وقيل : الرأفة أشد الرحمة ، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول ، كضروب ، وجاء على فعل ، كحذر ، وجاء على فعل ، كندس ، وجاء على فعل ، كصعب.
التقلب : التردّد ، وهو للمطاوعة ، قلبته فتقلب.
الشطر : النصف ، والجزء من الشيء والجهة ، قال الشاعر :
ألا من مبلغ عني رسولاً . . .
وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي نحوه ، وقال الشاعر :
أقول لأمّ زنباع أقيمي . . .
صدور العيس شطر بني تميم
وقال :
وقد أظلكم من شطر ثغركم . . .
هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال ابن أحمر :
تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة . . .
قد كارب العقد من إيقاده الحقبا
وقال آخر :
وأظعن بالقوم شطر الملوك . . .
أي نحوهم ، وقال :
إن العشير بها داء مخامرها . . .
وشطرها نظر العينين مسجور
ويقال : شطر عنه : بعد ، وشطر إليه : أقبل ، والشاطر من الشباب : البعيد من الجيران ، الغائب عن منزله.
يقال : شطر شطوراً ، والشطير : البعيد ، منزل شطير : أي بعيد.
الحرام والحرم والحرم : الممتنع ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } الامتراء : افتعال من المرية ، وهي الشك.
امترى في الشيء : شك فيه ، ومنه المراء.
ماريته أي جادلته وشاككته فيما يدعيه.
وافتعل : بمعنى تفاعل.
تقول : تمارينا وامترينا فيه ، كقولك : تحاورنا واحتورنا.
وجهة ، قال قوم ، منهم المازني والمبرد والفارسي : إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه ، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً ، إذ هو اسم غير مصدر.

قال سيبويه : ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة ، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة.
وذهب قوم ، منهم المازني ، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر ، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه.
قال ، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر ، وقد أثبتوا فقالوا : وجهة في الجهة ، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً ، منبهة على الأصل المتروك في المصادر.
والذي سوّغ عندي إقرار الواو ، وإن كان مصدراً ، أنه مصدر ليس بجار على فعله ، إذ لا يحفظ وجه يجه ، فيكون المصدر جهة.
قالوا : وعد يعد عدة ، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع ، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر.
ولما فقد يجه ، ولم يسمع ، لم يحذف من وجهة ، وإن كان مصدراً ، لأنه ليس مصدراً ليجه ، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد ، لأن الفعل منه : توجه واتجه.
فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه ، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.
الاستباق : افتعال من السبق ، وهو الوصول إلى الشيء أولاً ، ويكون افتعل منه ، إما لموافقة المجرد ، فيكون معناه ومعنى سبق واحداً ، أو لموافقة تفاعل ، فيكون استبق وتسابق بمعنى واحد.
الخيرات : جمع خيرة ، ويحتمل أن يكون بناء على فعلة ، أو بناء على فيعلة ، فحذف منه ، كالميتة واللينة.
وقد تقدّم القول في هذا الحذف ، قالوا : رجل خير ، وامرأة خيرة ، كما قالوا : رجل شر ، وامرأة شرّة ، ولا يكونان إذ ذاك أفعل التفضيل.
الجوع : القحط ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها : الغرث.
يقال : غرث يغرث غرثاً ، فهو غرث وغرثان ، قال :
مغرّثة زرقاً كأن عيونها . . .
من الذمر والإيحاء نوّار عضرس
وقد استعمل المحدثون في الغرث : الجوع اتساعاً.
{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } : سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن البراء بن عازب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الآية.
فقال : السفهاء من الناس ، وهم اليهود ، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فقال الله تعالى : { قل لله المشرق والمغرب } الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أن اليهود والنصارى قالوا : إن إبراهيم ، ومن ذكر معه ، كانوا يهوداً ونصارى.
ذكروا ذلك طعناً في الإسلام ، لأن النسخ عند اليهود باطل ، فقالوا : الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه ، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله : { قل لله المشرق والمغرب } الآية ، فبين ما كان هداية ، وما كان سفهاً.
وسيقول ، ظاهر في الاستقبال ، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل ، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة ، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة ، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، ليكون ذلك معجزاً ، إذ هو إخبار بالغيب.

ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء ، وتستعد له ، فيكون أقل تأثيراً منه إذا فاجأ ، ولم يتقدم به علم ، وليكون الجواب مستعداً لمنكر ذلك ، وهو قوله : { قل لله المشرق والمغرب }.
وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره.
وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة ، متأخرة في النزول ، وأنه نزل قوله : { قد نرى تقلب وجهك } الآية ، ثم نزل : { سيقول السفهاء من الناس }.
نص على ذلك ابن عباس وغيره.
ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم ، الذي خرجه البخاري.
وإذا كان كذلك ، فمعنى قوله : سيقول ، أنهم مستمرون على هذا القول ، وإن كانوا قد قالوه ، فحكمة الاستقبال أنهم ، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي ، فهم أيضاً يقولونه في المستقبل.
وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي.
وإن معنى سيقول : قال ، كما زعم بعضهم ، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه.
ولو كان عارياً من السين ، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية.
والسفهاء : اليهود ، قاله البراء بن عازب ، ومجاهد ، وابن جبير.
وأهل مكة قالوا : اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، واختاره الزجاج.
أو المنافقون قالوا : ذلك استهزاء بالمسلمين ، ذكره السدي ، عن ابن مسعود.
وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله : { ألا إنهم هم السفهاء } أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس.
قال ابن عطية وغيره : وخص بقوله من الناس ، لأن السفه أصله الخفة ، يوصف به الجماد.
قالوا : ثوب سفيه ، أي خفيف النسج والهلهلة ، ورمح سفيه : أي خفيف سريع النفوذ.
ويوصف به الحيوانات غير الناس ، فلو اقتصر ، لاحتمل الناس وغيرهم ، لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة ، وإلى غيرهم مجازاً ، فارتفع المجاز بقوله : { من الناس ما ولاهم } ، أي ما صرفهم ، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين عن قبلتهم.
أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمناً طويلاً ، فصحت الإضافة.
وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة.
هكذا ذكر بعض المفسرين ، وليس ذلك إجماعاً ، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة ، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة ، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم.
فلما توجه إلى بيت المقدس ، قال أهل مكة ، زارّين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، هذا على حذف مضاف ، أي على استقبالها.
والاستعلاء هنا مجاز ، وحكمته الهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات.

صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه ، الملازم دائماً.
وفي وصف القبلة بقوله : { التي كانوا عليها } ، ما يدل على تمكن استقبالها ، وديمومتهم على ذلك.
والضمير في قوله : قبلتهم وكانوا ، ضمير المؤمنين.
وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائداً على السفهاء ، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود ، وهي إلى المغرب ، وقبلة النصارى ، وهي إلى المشرق ، والعرب لم يكن لهم صلاة ، فيتوجهون إلى شيء من الجهات.
فلما توجه نحو الكعبة ، استنكروا ذلك فقالوا : كيف يتوجه إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس ، أكان بوحي متلوّ؟ أو بأمر من الله غير متلو؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي؟ فاختار بيت المقدس ، قاله الربيع؛ أو باجتهاده بغير وحي ، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية.
أقوال : الأول : عن ابن عباس ، روي عنه أنه قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة : وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إلى بيت المقدس ، فقيل : ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً.
وقيل : تسعة ، أو عشرة أشهر.
وقيل : ثلاثة عشر شهراً.
وقيل : من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل ، إثر الإسراء ، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ثم هاجر في ربيع الأول ، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس ، إلى رجب من سنة اثنتين.
وقيل : إلى جمادى.
وقيل : إلى نصف شعبان.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الظهر ، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة ، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن ، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن ، واستدل بها أيضاً على بطلان قول من يزعم أنه النسخ بداء.
{ قل لله المشرق والمغرب } : الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه تعليم له صلى الله عليه وسلم كيف يبطل مقالتهم ، ورد عليهم إنكارهم.
والمعنى : أن الجهات كلها لله تعالى ، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها ، وأن تجعل قبلة.
وقد تقدم الكلام على قوله : { لله المشرق والمغرب } ، فأغنى عن الإعادة هنا.
وقد شرح المشرق ببيت المقدس ، والمغرب بالكعبة ، لأن الكعبة غربي بيت المقدس ، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها.
{ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } : أي من يشاء هدايته.
وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } فأغنى عن إعادته : وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه ، وهنا عدى بإلى.
وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها ، فقيل : الصبح ، وقيل : الظهر ، وقيل : العصر.
وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة ، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل ، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع ، ولا قاد نحوها العقل ، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا ، على عادتنا في ذلك.

ومن طلب للوضعيات تعاليل ، فأحرى بأن يقلّ صوابه ويكثر خطؤه.
وأما ما نص الشرع على حكمته ، أو أشار ، أو قاد إليه النظر الصحيح ، فهو الذي لا معدل عنه ، ولا استفادة إلا منه.
وقد فسر قوله : { صراط مستقيم } بأنه القبلة التي هي الكعبة.
والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه ، فالكعبة من بعض مشروعاته.
{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } : الكاف : للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة ، والكاف في موضع نصب ، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف ، وإما لكونه حالاً.
والمعنى : وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم ، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك ، لكن تقدم لفظ يهدي ، وهو دال على المصدر ، وهو الهدى ، وتبين أن معنى { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } : يجعله على صراط مستقيم ، كما قال تعالى : { من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم ، إذ ذلك الجعل هو الهداية ، فكذلك معنى الهدى هنا هو ذلك الجعل.
وتبين أيضاً من قوله : { قل لله المشرق والمغرب } إلى آخره ، أن الله جعل قبلتهم خيراً من قبلة اليهود والنصارى ، أو وسطاً.
فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك.
فقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً ، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي ، أي جعلناكم أمة خياراً مثل ما هديناكم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من الحق.
وقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بجعلهم على الصراط المستقيم ، أي جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية ، لأنه قال : { يهدي من يشاء } ، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى.
وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل ، جعلناكم خير الأمم.
وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب ، جعلناكم أمة وسطاً.
وقيل : المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض ، كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، دون الأنبياء ، وفوق الأمم ، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى : { ولقد اصطفيناه في الدنيا } أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً.
ومعنى وسطاً : عدولاً ، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين.
وإذا صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب المصير في تفسير الوسط إليه.
وقيل : خيار ، أو قيل : متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر ، لم يتخذوا واحداً من الأنبياء إلهاً ، كما فعلت النصارى ، ولا قتلوه ، كما فعلت اليهود.
واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا : أخبر الله عن عدالة هذه الأمة وعن خيرتهم ، فلو أقدموا على شيء ، وجب أن يكون قولهم حجة.

{ لتكونوا شهداء على الناس } : تقدم شرح الشهادة في قوله : { وادعوا شهداءكم } وفي شهادتهم هنا أقوال : أحدها : ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة ، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم ، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره.
وقال في المنتخب : وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه ، وذكروا وجوهاً ضعيفة ، وأظنه عنى بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي ، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة.
وقيل : الشهادة تكون في الدنيا.
واختلف قائلوا ذلك ، فقيل : المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات ، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً ، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا ، فقال الرسول : « وجبت » ، يعني الجنة والنار ، « أنتم شهداء الله في الأرض » ثبت ذلك في مسلم.
وقيل : الشهادة الاحتجاج ، أي لتكونوا محتجين على الناس ، حكاه الزّجاج.
وقيل : معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتكون على بمعنى اللام ، كقوله : { وما ذبح على النصب } أي للنصب.
وقيل : معناه ليكون إجماعكم حجة ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، أي محتجاً بالتبليغ.
وقيل : لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس ، قاله مجاهد.
وقيل : شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار.
وأسباب هذه الشهادة ، أي شهادة هذه العدول أربعة : بمعاينة ، كالشهادة على الزنا ، وبخبر الصادق ، كالشهادة على الشهادة؛ وبالاستفاضة ، كالشهادة على الأنساب؛ وبالدلالة ، كالشهادة على الأملاك ، وكتعديل الشاهد وجرحه.
وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد ، والأنبياء ، وأمة محمد ، والجوارح. انتهى.
ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة ، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهوداً ، وسمي العارف : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً.
وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات.
قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واستدل بقوله : { أمة وسطاً } ، أي عدولاً خياراً.
وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة ، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور ، لتغير أحوال الناس ، ولما غلب عليهم في هذا الوقت ، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص.
{ ويكون الرسول عليكم شهيداً } : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي شهادته أقوال : أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه.
الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم.
الثالث : يكون حجة عليهم.

الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم ، قاله عطاء ، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ، والرسول شهيد معدل مزك لهم.
وروي في ذلك حديث.
وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك.
واللام في قوله : لتكونوا هي ، لام كي ، أو لام الصيروة عن من يرى ذلك ، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً ، أو عدولاً ظاهراً.
وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً ، فظاهر أيضاً ، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية ، أو بأي معنى فسرت شهادته ، ففي ذلك الشرف التامّ لهم ، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه.
ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له ، جيء بكلمة على ، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس ، عما يتعلق به.
جاء ذلك على الأصل ، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول.
وأما في قوله : { عليكم شهيداً } فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة ، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم ، فكان قوله : شهيداً ، تمام الجملة ، ومقطعها دون عليكم.
وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً ، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص.
وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم ، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان.
وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء ، وتأخر التعليل بشهادة الرسول ، لأنه كذلك يقع.
ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم ، ثم يشهد الرسول عليهم ، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمّته ، فيزكيهم ويشهد بصدقهم؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان ، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي ، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس.
وأتى بلفظ الرسول ، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته.
وأتى بجمع فعلاء ، الذي هو جمع فعيل وبشهيد ، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين ، أو إشهاداً ، أو شاهداً.
وقد استدل بقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيداً } على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة ، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيداً : مزكياً لكم ، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم.
{ وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر { التي كنت عليها }.
والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً ، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم صار يصلي إلى الكعبة.

وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال.
فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني.
ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم.
ووهم الزمخشري في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل.
تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفاً لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً ، انتهى ما ذكره.
وقد أوضحنا أن التي كنت عليها : هو المفعول الأول.
وقيل : هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة.
والمعنى : وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم ، فيكون ذلك على معنى : أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض ، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ.
وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله : التي كنت عليها ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين.
وقيل : التي كنت عليها صفة للقبلة ، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني ، فقيل : تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم.
وقيل : التقدير : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم.
وقيل : ذلك على حذف مضاف ، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله : لنعلم ، كما تقول : ضرب زيد للتأديب ، أي كائن وموجود للتأديب ، أي بسبب التأديب.
وعلى كون التي صفة ، يحتمل أن يراد بالقبلة : الكعبة ، ويحتمل أن يراد بيت المقدس ، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه.
وقال ابن عباس : القبلة في الآية : الكعبة ، وكنت بمعنى : أنت ، كقوله تعالى : { كنتم خير أمة } بمعنى : أنتم. انتهى.
وهذا من ابن عباس ، إن صح تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر ، وهذا لم يذهب إليه أحد.
وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ، ما نقله النحويون ، أن كان تكون بمعنى صار ، ومن صار إلى شيء واتصف به ، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه.
فإذا قلت : صرت عالماً ، صح أن تقول : أنت عالم ، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه.
فتفسير ابن عباس : كنت بأنت ، هو من هذا القبيل ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب.

ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله.
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق.
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد.
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف.
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين.
وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان.
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي.
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية.
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح.
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري.
أو : الأصنام ، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.

وقرأ الزهري : ليعلم ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى ، فحذف وبنى الفعل للمفعول ، وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون.
وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : { كنت عليها } ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة.
وجاء الخطاب مكتنفاً بذكر الرسول مرّتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة.
ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض.
ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : { التي كنت عليها } ، فهذه ، والله أعلم ، حكمة الالتفات هنا.
وقوله : { ينقلب على عقبيه } كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل.
والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به.
والمعنى : أنه كان متلبساً بالإيمان ، فلما حوّلت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه.
وقوله : { على عقبيه } في موضع الحال ، أي ناكصاً على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدّمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً.
قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها.
فقيل : بالأول ، لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث أنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم.
وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره ، لما تغير رأيه.
وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها الله بالكبر في قوله : { وإن كانت لكبيرة }.
وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه ، بسكون القاف وتسكين عين فعل ، اسماً كان أو فعلاً ، لغة تميمية ، وقد تقدّم ذكر ذلك.
{ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : { وما جعلنا القبلة } ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها ، وهي بيت المقدس ، قبل التحويل ، قاله أبو العالية والأخفش.

وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس.
ومعنى كبيرة : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف للعادة ، لأن من ألف شيئاً ، ثم انتقل عنه ، صعب عليه الانتقال ، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه.
وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، دخلت على الجملة الناسخة.
واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق ، أم هي لام اجتلبت للفرق؟ في ذلك خلاف ، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة ، خلاف مذكور في النحو.
وقراءة الجمهور : لكبيرة بالنصب ، على أن تكون خبر كانت.
وقرأ اليزيدي : لكبيرة بالرفع ، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت ، التقدير : وإن هي لكبيرة ، وهذا ضعيف ، لأن كان الزائدة لا عمل لها ، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه ، ولذلك استكن فيها.
وقد خالف أبو سعيد ، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها ، أي كان هو ، أي الكون.
وقد ردّ ذلك في علم النحو.
وكذلك أيضاً نوزع من زعم أن كان زائدة في قوله :
وجيران لنا كانوا كرام . . .
لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه ، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : لهي كبيرة.
ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير ، تلك الجملة خبر لكانت ، وهذا التوجيه ضعيف أيضاً ، وهو توجيه شذوذ.
{ إلا على الذين هدى الله } ، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف ، إذ التقدير : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله ، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهه ، إنما سبقه إيجاب.
ومعنى هدى الله ، أي هداهم لاتباع الرسول ، أو عصمهم واهتدوا بهدايته ، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان.
وهذه أقوال متقاربة ، وفيه إسناد الهداية إلى الله ، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من الله ، لا من ذوات أنفسهم ، فهو الذي وفقهم لهدايته.
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } : قيل : سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، فنزلت.
وقيل : السائل أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور مع جماعة ، وهذا مشكل ، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة.

وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس ، وكذلك ذكره البخاري والترمذي ، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم ، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه ، وهي من شعبه العظيمة.
ويحتمل أن يقرّ الإيمان على مدلوله ، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي وقت التحويل.
وذكر الإيمان ، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس ، لأنه هو العمدة ، والذي تصح به الأعمال.
وقد كان لهم ثابتاً في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره ، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم ، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به.
وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة ، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس ، وأتى بلفظ الخطاب ، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب ، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا.
وقرأ الضحاك : ليضيع ، بفتح الضاد وتشديد الياء ، وأضاع وضيع الهمزة ، والتضعيف ، كلاهما للنقل ، إذ أصل الكلمة ضاع.
وقال في المنتخب : لولا ذكر سبب نزول هذه الآية : لما اتصل الكلام بعضه ببعض.
ووجه تقرير الإشكال ، أن الذين لا يجوّزون النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم ، وجب أن يكون الحكم مفسدة ، أو باطلاً ، فوقع في قلوبهم ، بناء على هذا السؤال ، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة.
فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال ، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم. انتهى.
وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوّز البداء على الله ، فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ والجواب : أنه لا يقع إلا من منافق ، فأخبر عن جواب سؤال المنافق ، أو جوِوب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر ، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل.
وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية ، لما اتصل الكلام بعضه ببعض ، ليس بصحيح ، بل هو كلام متصل ، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح ، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى : { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } ، كان ذلك تقسيماً للناس حالة الجعل إلى قسمين : متبع للرسول ، وناكص.
فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع ، بل عمله وتصديقه ، قبل أن تحول القبلة ، وبعد أن تحوّل لا يضيعه الله ، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف ، فمن امتثلها ، فهو لا يضيع أجره.
ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين ، أخبر تعال أنه لا يضيعه ، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود ، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود.

فقولك : ما كان زيد ليقوم ، أبلغ مما : كان زيد يقوم ، لأن في المثال الأول : هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام ، وفي الثاني : هو نفي للقيام.
ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته ، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل ، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ.
وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن وكلام العرب.
وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين ، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف ، وأن اللام بعدها إن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر ، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف ، وقد صرّح بذلك الخبر في قول بعضهم :
سموت ولم تكن أهلاً لتسمو . . .
ومذهب الكوفيين : أن اللام هي الناصبة ، وليست أن مضمرة بعده ، وأن اللام بعدها للتأكيد ، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان ، فلا فرق بين : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام.
والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو.
{ إن الله بالناس لرءوف رحيم } : ختم هذه الآية بهذه الجملة ظاهر ، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته ، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا الأخير أظهر.
والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس ، كما قال : { الله لطيف بعباده } { ورحمتي وسعت كل شيء } { وسعت كل شيء رحمة وعلماً } ويحتمل العهد ، فيكون المراد بالناس المؤمنين.
وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص : لرؤوف ، مهموزاً على وزن فعول حيث وقع ، قال الشاعر :
نطيع رسولنا ونطيع رباً . . .
هو الرحمن كان بنا رؤوفاً
وقرأ باقي السبعة : لرؤوف ، مهموزاً على وزن ندس ، قال الشاعر :
يرى للمسلمين عليه حقاً . . .
كحق الوالد الرؤوف الرحيم
وقال الوليد بن عقبة :
وشر الظالمين فلا تكنه . . .
يقابل عمه الرؤوفُ الرحيمُ
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : لروف ، بغير همزٍ ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله ، ساكنة كانت أو متحركة.
ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغاً فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغاً فيها ، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة.
وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم.
وقال القشيري : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل؛ ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب.
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } : أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرّر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حوّل ، فهم به له في جميع الأحوال.

قال قائلهم :
حيثما دارت الزجاجة درنا . . .
يحسب الجاهلون أنا جننا
{ قد نرى تقلب وجهك في السماء } : تقدّم حديث البراء ، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية.
وقوله : { سيقول السفهاء } : أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي ، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد ، في بعض المواضع ، ومنه : { قد يعلم ما أنتم عليه } { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك } { قد يعلم الله المعوقين منكم } وقال الشاعر :
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم . . .
مرابط للأمهار والعكر الدثر
قال الزمخشري : قد نرى : ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله :
قد أترك القرن مصفراً أنامله . . .
انتهى.
وشرحه هذا على التحقيق متضادّ ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى.
ورب ، على مذهب المحققين من النحويين ، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه ، أو لتقليل نظيره.
ثم قال : ومعناه كثرة الرؤية ، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور.
ثم هذا المعنى الذي ادّعاه ، وهو كثرة الرؤية ، لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة.
هذا التركيب ، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي ، ولا غير المضي ، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية ، وهو التقلب ، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة ، لا يقال فيه : قلب بصره في السماء ، وإنما يقال : قلب إذا ردّد.
فالتكثير ، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب ، نحو : قطعته فتقطع ، وكسرته فتكسر ، وما طاوع التكثير ففيه التكثير.
والوجه هنا قيل : أريد به مدلول ظاهره.
قال قتادة والسدّي وغيرهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة.
وقيل : كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء.
وقال الزمخشري : كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان ، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود ، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل.
انتهى كلامه ، وهو كلام الناس قبله.
فالأول : قول ابن عباس ، وهو ليصيب قبلة إبراهيم.
والثاني : قول السدّي والربيع ، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة.
والثالث : قول مجاهد ، وهو قول اليهود : ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، فأراد مخالفتهم.
وقيل : كنى بالوجه عن البصر ، لأنه أشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب.
تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان.
وقال :
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه . . .
وهو من الكناية بالكل عن الجزء ، ولا يحسن أن يقال : إنه على حذف مضاف ، ويكون التقدير بصر وجهك ، لأن هذا لا يكاد يستعمل ، إنما يقال : بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال : أنف وجهك ، ولا خد وجهك.

في السماء : متعلق بالمصدر ، وهو تقلب ، وهو يتعدى بفي ، فهي على ظاهرها.
قال تعالى : { لا يغرّّنك تقلب الذين كفروا في البلاد } أي في نواحي السماء ، في هذه الجهة ، وفي هذه الجهة.
وقيل : في بمعنى إلى.
وقيل : في السماء متعلق بنرى ، وفي : بمعنى من ، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك ، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان ، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان.
وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه ، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ، ويكون كما جاء : بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة ، والظاهر الأول ، وهو تعلق المجرور بالمصدر ، وأن في على حقيقتها.
واختص التقلب بالسماء ، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة ، كالمطر والأنوار والوحي ، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، ولأن السماء قبلة الدعاء ، ولأنه كان ينتظر جبريل ، وكان ينزل من السماء.
{ فلنولينك قبلة ترضاها } : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها.
وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها.
وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب.
ونكر القبلة ، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام.
وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ، لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرّح بذلك.
قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين.
والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك.
{ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة.
وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس.
قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها.
ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة.
وأقول : في قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة.
وأراد بالوجه : جملة البدن ، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن.
وكنى بالوجه عن الجملة ، لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض.
وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : { قد نرى تقلب وجهك } بقوله : { فولّ وجهك }.
وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو.

وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار الشافعي.
وقال الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ، لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد.
والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي كانت في نصف المسجد ، فحسن أن يقال : { فولّ وجهك شطر المسجد } ، يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة.
ويدل على صحة ما ذكرناه.
أن المصلي خارج المسجد متوجهاً إلى المسجد ، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة ، لم تصح صلاته.
وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب ، لم يكن لذكره فائدة ، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة.
قال ابن عباس وغيره : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت كله.
وقال ابن عمر : إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة ، والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وفي حرف عبد الله ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام.
والقائلون بأن معنى الشطر : النحو ، اختلفوا ، فقال ابن عباس : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك.
وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والظاهر أن المقصود بالشطر : النحو والجهة ، لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً على من خرج لبعده عن مسامتتها.
وفي ذكر المسجد الحرام ، دون ذكر الكعبة ، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة ، لا مراعاة عينها.
واستدل مالك من قوله : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } ، على أن المصلي ينظر أمامه ، لا إلى موضع سجوده ، خلافاً للثوري والشافعي والحسن بن حيّ ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده ، وخلافاً لشريك القاضي ، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى موضع حجره.
قال الحافظ أبو بكر بن العربي : إنما قلنا ينظر أمامه ، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، { وما جعل عليكم في الدين من حرج } { وحيثما كنتم } : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان ، أي في أيّ موضع كنتم ، وهو شرط وجزاء ، والفاء جواب الشرط ، وكنتم في موضع جزم.
وحيث : هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية ، الخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط ، لأن الشرط مبهم.
فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط ، وجوزي بها ، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال.

وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها ، وخلاف الفراء في ذلك.
{ فولوا وجوهكم شطره } : وهذا أمر لأمّة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما تقدّم أمره بذلك ، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد ، مع مزيد عموم في الأماكن ، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض ، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد.
ولما كان صلى الله عليه وسلم هو المتشوف لأمر التحويل ، بدأ بأمره أولاً ثم أتبع أمر أمته ثانياً لأنهم تبع له في ذلك ، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم.
وفي حرف عبد الله : فولوا وجوهكم قبله.
وقرأ ابن أبي عبلة : فولوا وجوهكم تلقاءه ، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر : النحو.
.
{ وإن الذين أوتوا الكتاب } : أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم.
وقال السدّي : هم اليهود.
{ ليعلمون أنه } : أي التوجه إلى المسجد الحرام ، { الحق } : الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته.
وقال قتادة والضحاك : إن القبلة هي الكعبة.
وقال الكسائي : الضمير يعود على الشطر ، وهو قريب من القول الثاني ، لأن الشطر هو الجهة.
وقيل : يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، أي يعرفون صدقه ونبوّته ، قاله قتادة أيضاً ومجاهد.
ومفسر هذه الضمائر متقدم.
فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله : { فولّ وجهك } ، فيعود على المصدر المفهوم من قوله : { فولوا } ، ومفسر ضمير القبلة قوله : { قبلة ترضاها } ، ومفسر ضمير الشطر قوله : { شطر المسجد الحرام } ، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا الوجه يكون التفاتان.
والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين ، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد ، لأن معموله هو أن وصلتها ، فيحتمل الوجهين ، وعلمهم بذلك ، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وإما لأن في كتابهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي صادق ، فلا يأمر إلا بالحق ، وإما لجواز النسخ ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين.
{ من ربهم } : جار ومجرور في موضع الحال ، أي ثابتاً من ربهم.
وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد ، إنما هو بأمر من الله تعالى.
وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك ، كما قال تعالى : { الحق من ربك }.
{ وما الله بغافل عما يعملون } : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب.
فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله : { فولوا وجوهكم شطره } ، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب ، فتكون من باب الالتفات.
ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم ، تحريكاً لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق ، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر.

ومن قرأ بالياء ، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة.
وعلى كلتا القراءتين ، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ، ولا يغفل عنها ، وهو متضمن الوعيد.
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له.
أعلمه أولاً أنهم يعلمون أنه الحق ، وهم يكتمونه ، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه.
ثم سلاه عن قبولهم الحق ، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة ، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق ، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك.
وإذا كانوا لا يتبعونك ، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات ، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة.
والمعنى : بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق.
واللام في : ولئن ، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم.
فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف ، والشرط متأخر عنه ، فالجواب للقسم وهو قوله : { ما تبعوا } ، ولذلك لم تدخله الفاء.
وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل.
المعنى : أي ما يتبعون قبلتك ، لأن الشرط قيد في الجملة ، والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي.
ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى : { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون } التقدير : ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف ، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل ، فهو ماضٍ من حيث اللفظ ، مستقبل من حيث المعنى ، لأن الشرط قيد فيه ، كما ذكرنا.
وجواب الشرط في الآيتين محذوف ، سد مسده جواب القسم ، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً ، وجب مضي فعل الشرط لفظاً ، إلا في ضرورة الشعر ، فقد يأتي مضارعاً.
وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو ، ولذلك كانت ما في الجواب ، فجعل ما تبعوا جواباً لإن ، لأن إن بمعنى لو ، فكما أن لو تجاب بما ، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو ، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو ، لم يكن جوابها مصدراً بما ، بل لا بد من الفاء.
تقول : إن تزرني فما أزورك ، ولا يجوز : ما أزورك.
وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه.
وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط ، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم.
وليس هذا مذهب البصريين ، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو.

واستعمال إن بمعنى لو قليل ، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك ، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها.
وقال ابن عطية : وجاء جواب لئن كجواب لو ، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع ، وإن تطلب الاستقبال ، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم.
فالجواب إنما هو للقسم ، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، هذا قول سيبويه.
انتهى كلامه.
وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد ، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن ، وقوله بعد : فالجواب إنما هو للقسم ، يدل على أن الجواب ليس لإن ، والتعليل بعد بقوله ، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، لا يصلح أن يعلل به قوله : فالجواب إنما هو للقسم ، بل يصلح أن يكون تعليلاً ، لأن الجواب لإن ، وأجريت في ذلك مجرى لو.
وأما قوله : هذا قول سيبويه ، فليس في كتاب سيبويه ، إلا أن ما تبعوا جواب القسم ، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل.
قال سيبويه : وقالوا لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل.
وقال أيضاً.
وقال تعالى : { ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد بعده } أي ما يمسكهما.
وقال بعض الناس : كل واحدة من : لئن ولو ، تقوم مقام الأخرى ، ويجاب بما يجاب به ، ومنه : { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا } لأن معناه : ولو أرسلنا ريحاً.
وكذلك لو يجاب جواب لئن ، كقولك : لو أحسنت إليّ أحسن إليك ، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج.
وقال سيبويه : لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى ، لأن معناهما مختلف ، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال ، تقدير : لا يتبعون ، وليظلن.
انتهى كلامه.
وتلخص من هذا كله أن في قوله : { ما تبعوا } قولين : أحدهما : أنها جواب قسم محذوف ، وهو قول سيبويه.
والثاني : أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو ، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج.
وظاهر قوله : { أوتوا الكتاب } : العموم ، وقد قال به هنا قوم.
وقال الأصم : المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب ، وفي الآية المتأخرة.
ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم ، وخصوص ما تأخر ، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم ، وهو شأن المعاند ، وأنه قد آمن به كثير من أهل الكتاب وتبعوا قبلته.
واختلفوا في قوله : { ما تبعوا قبلتك }.
قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم ، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك ، على نحو : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } ويكون إذ ذاك إخباراً عن المجموع ، من حيث هو مجموع ، لا حكم على الأفراد.
وقال الأصم : بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن.
وقد تقدم أن من قول الأصم : أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص ، فكأنه قال : كل فرد فرد من أولئك المختصين بالعناد ، المستمرّين على جحود الحق ، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك.
وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية ، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه ، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون ، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه.

قيل : واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق ، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته ، فلو اتبعوا قبلته ، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وعلمه جهلاً ، وهو محال ، وما استلزم المحال فهو محال.
وأضاف تعالى القبلة إليه ، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها.
أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته ، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح ، ولا عن شبهة عرضت ، وإنما ذلك على سبيل العناد ، ومن نازع عناداً فلا يرجى منه انتزاع.
{ وما أنت بتابع قبلتهم } : هذه جملة خبرية.
قيل : ومعناها النهي ، أي لا تتبع قبلتهم ، ومعناها : الدوام على ما أنت عليه ، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر.
وقيل : هي باقية على معنى الخبر ، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة ، فجاءت هذه الجملة رفعاً لتجويز النسخ ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب ، فإنهم قالوا : يا محمد ، عد إلى قبلتنا ، ونؤمن بك ونتبعك ، مخادعة منهم ، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم ، أو بين بذلك حصول عصمته ، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم ، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة ، أي ما هم بتاركي باطلهم ، وما أنت بتارك حقك.
وأفرد القبلة في قوله : قبلتهم ، وإن كانت مثناة ، إذ لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة ، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين ، فصار الإثنان واحداً من جهة البطلان ، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ ، لأن قبله { ما تبعوا قبلتك }.
وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين ، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله : { بتابع } ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها ، لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم.
وقرأ بعض القراء : بتابع قبلتهم على الإضافة ، وكلاهما فصيح ، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته ، وقد تقدم في أيهما أقيس.
{ وما بعضهم بتابع قبله بعض } : الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب.
والمعنى : أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى ، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تنتصّر ، وإلى أن النصارى لا تتهود ، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض.
وقد رأينا اليهود والنصارى كثيراً ما يدخلون في ملة الإسلام ، ولم يشاهد يهودياً تنصر ، ولا نصرانياً تهوّد.
والمراد بالبعضين : من هو باق على دينه من أهل الكتاب ، هذا قول السدي وابن زيد ، وهو الظاهر.
وقيل : أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب ، والبعض الثاني من كان على دينه منهم ، لأن كلاً منهما يسفه حلم الآخر ويكفره ، إذ تباينت طريقتهما.

ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك؟ وتضمنت هذه الجمل : أن أهل الكتاب ، وإن اتفقوا على خلافك ، فهم مختلفون في القبلة ، وقبلة اليهود بيت المقدس ، وقبلة النصارى مطلع الشمس.
{ ولئن اتبعت أهواءهم } ، اللام أيضاً مؤذنة بقسم محذوف ، ولذلك جاء الجواب بقوله : إنك ، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط.
يقول الرجل لامرأته : إن صعدت إلى السماء فأنت طالق ، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء.
وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم : أنهم { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } قال : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع.
وفهم من ذلك الاستحالة ، لأن المعلق على المستحيل مستحيل.
ويصير معنى هذه الجملة ، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع ، ويصير المعنى : لا يعد ظالماً ، ولا تكونه ، لأنك لا تتبع أهواءهم ، وكذلك لا يحبط عملك ، لأن إشراكك ممتنع ، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم ، لأنه لا يدعي أنه إله.
وقالوا : ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه ، فهو محمول على إرادة أمته ، ومن يمكن وقوع ذلك منه ، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر ، والتفخيم لشأنه ، حتى يحصل التباعد منه.
ونظير ذلك قولهم : إياك أعني : واسمعي يا جارة.
قال الزمخشري : قوله : { ولئن اتبعت أهواءهم } ، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : { وما أنت بتابع قبلتهم } ، كلام وارد على سبيل الفرض ، والتقدير بمعنى : ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر ، إنك إذاً لمن المرتكبين الظلم الفاحش.
وفي ذلك لطف للسامعين ، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وإلهاب للثبات على الحق.
انتهى كلامه.
وقال في المنتخب : اختلفوا في هذا الخطاب.
قال بعضهم : هو للرسول ، وقال بعضهم : هو للرسول وغيره.
وقال بعضهم : هو لغير الرسول ، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب.
أهواءهم : تقدّم أنه جمع هوى ، ولا يجمع على أهوية ، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل في الخير ، وأصله الميل والمحبة ، وجمع ، وإن كان أصله المصدر ، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها.
{ من بعد ما جاءك من العلم } : أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله ، فأطلق اسم الأثر على المؤثر.
سمى تلك الدلائل علماً ، مبالغة وتعظيماً وتنبيهاً على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة.
ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم.

وقد فسر العلم هنا بالحق ، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق.
وقال مقاتل : العلم هنا : البيان ، وجاء في هذا المكان : { من بعد ما جاءك } ، وقال قبل هذا : { بعد الذي جاءك } وجاء في الرعد : { بعد ما جاءك } فاختص موضعاً بالذي ، وموضعين بما ، وهذا الموضع بمن.
والذي نقوله في هذا : أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف ، لأن ما والذي موصولان ، فأياً منهما ذكرت ، كان فصيحاً حسناً.
وأما المجيء بمن ، فهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء ، وأما قوله : بعد ، فهو على معنى من ، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى ، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها.
وقال بعضهم : في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي ، لأن الذي أخص ، وما أشد إبهاماً ، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين ، الذي هو الإسلام ، المانع من ملتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ، لأنه علم بكل أصول الدين ، وخص بلفظ ما ، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين ، أحدهما القبلة ، والآخر الكتاب ، لأنه أشار إلى قوله : { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } قال : وأما دخول من ، ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة ، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة ، إن اتبعت أهواءهم ، كنت ظالماً واضعاً الباطل في موضع الحق.
انتهى كلامه.
{ إنك إذاً لمن الظالمين } : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أدنت بتقديره اللام في لئن ، ودل على جواب الشرط ، لا يقال : إنه يكون جواباً لهما ، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى.
أما المعنى ، فلأن الاقتضاء مختلف.
فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه ، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً ، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة طلبه له.
وأما اللفظ ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم ، لم يحتج إلى مزيد رابط ، وإذا كانت جواب شرط ، احتاجت لمزيد رابط ، وهو الفاء.
ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء ، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً.
ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما ، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر.
فلم تتقدّم ، لأنه سبق قسم وشرط ، والجواب هو للقسم.
فلو تقدمت ، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم يتأخر ، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي : فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة.
وتحرير معنى إذن صعب ، وقد اضطرب الناس في معناها ، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء.

واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه ، وقد أمعنا الكلام في ذلك في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان مسبباً عما قبلها ، فهي في ذلك على وجهين : أحدهما : أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها.
مثال ذلك أزورك فتقول : إذاً أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك.
وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ، ولعملها مذكورة في النحو.
الوجه الثاني : أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم ، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة ، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها ، والعامل يعتمد عليه ، وذلك نحو : إن تأتني إذن آتك ، ووالله إذن لأفعلن.
فلو أسقطت إذن ، لفهم الارتباط.
ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها ، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : أزورك فتقول : إذن أنا أكرمك ، وجاز توسطها نحو : أنا إذاً أكرمك ، وتأخرها.
وإذا تقرر هذا ، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه.
{ الذين آتيناهم الكتاب } : هم علماء اليهود والنصارى ، أو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود ، كابن سلام وغيره ، أو من آمن به مطلقاً ، أقوال.
والكتاب : التوراة ، أو الإنجيل ، أو مجموعهما ، أو القرآن.
أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم ، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا ، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى ، معبراً عنه بنون العظمة ، وكذا ما يجيء من نحو هذا ، مراداً به الإكرام نحو : هدينا ، واجتبينا ، واصطفينا.
قيل : ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول ، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو : { الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد ، فوحد ، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر.
{ يعرفونه } : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم ، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين ، أو على أنه بدل من الظالمين ، أو على أنه بدل من { الذين أوتوا الكتاب } في الآية التي قبلها ، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، ومنصوباً على إضمار ، أعني : وعلى هذه الأعاريب يكون قوله : { يعرفونه } ، جملة في موضع الحال ، إما من المفعول الأول في آتيناهم ، أو من الثاني الذي هو الكتاب ، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما.
والظاهر هو الإعراب الأول ، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر ، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله : { إنك إذاً لمن الظالمين }.

والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
وروي عن ابن عباس ، واختاره الزجاج ، ورجحه التبريزي ، وبدأ به الزمخشري فقال : يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص.
قال الزمخشري وغيره : واللفظ للزمخشري ، وجاز الإضمار ، وإن لم يسبق له ذكر ، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوم بغير إعلام. انتهى.
وأقول : ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر : بل هذا من باب الالتفات ، لأنه قال تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك } ثم قال : { ولئن أتيت الذين } إلى آخر الآية ، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.
وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب ، أقبل على الناس فقال : { الذين آتيناهم الكتاب } واخترناهم لتحمل العلم والوحي ، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه ، لا يشكون في معرفته ، ولا في صدق أخباره ، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة ، لما في كتابهم من ذكره ونعته ، والنص عليه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر ، وأنه من باب الالتفات ، وتبينت حكمة الالتفات.
ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام ، رضي الله عنهما ، وقال : إن الله قد أنزل على نبيه : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } الآية ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني.
فقال عمر : وكيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقاً ، وقد نعته الله في كتابنا ، ولا أدري ما يصنع النساء.
فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت ، وقد روي هذا الأثر مختصراً بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها ، وفيه : فقبل عمر رأسه.
وإذا كان الضمير للرسول ، فقيل : المراد معرفة الوجه وتميزه ، لا معرفة حقيقة النسب.
وقيل : المعنى يعرفون صدقه ونبوّته.
وقيل : الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة أيضاً ، وابن جريج والربيع.
وقيل : عائد على القرآن.
وقيل : على العلم.
وقيل : على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء ، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء ، لأنه قال : { الذين آتيناهم الكتاب } ، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون حصولها بالرؤية والوصف ، أو بالقرآن ، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن ، وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ، أو بالقبلة ، أو التحويل ، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق.

{ كما يعرفون أبناءهم } ، الكاف : في موضع نصب ، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم.
أبناءهم : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف ، كان التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم.
وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة ، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك ، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد ، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى ، ومعرفة متعلقها المحسوس.
وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور ، فيكونون قد خصوا بذلك ، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوب الآباء.
ويحتمل أن يراد بالأبناء : الأولاد ، فيكون ذلك من باب التغليب.
وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس ، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه ، بخلاف الأبناء ، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه.
{ وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق } : أي من الذين آتيناهم الكتاب ، وهم المصرّون على الكفر والعناد ، من علماء اليهود النصارى ، على أحسن التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب ، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى ، الذين قيل فيهم : { ومنهم أمّيون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ } للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ.
والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة ومجاهد ، والتوجه إلى الكعبة ، أو أن الكعبة هي القبلة ، أو أعم من ذلك ، فيندرج فيه كل حق.
{ وهم يعلمون } : جملة حالية ، أي عالمين بأنه حق.
ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة ، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به ، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم.
وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة.
{ الحق من ربك } : قرأ الجمهور : برفع الحق على أنه مبتدأ ، والخبر هو من ربك ، فيكون المجرور في موضع رفع.
أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق من ربك ، والضمير عائد على الحق المكتوم ، أي ما كتموه هو الحق من ربك ، ويكون المجرور في موضع الحال ، أو خبراً بعد خبر.
وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه.
والألف واللام في الحق للعهد ، وهو الحق الذي عليه الرسول ، أو الحق الذي كتموه ، أو للجنس على معنى : أن الحق هو من الله ، لا من غيره ، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله ، كالذي عليه الرسول ، وما لم تثبت حقيقته ، فليس من الله ، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب.

وقرأ علي بن أبي طالب : الحق بالنصب ، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم ، فيكون التقدير : يكتمون الحق من ربك ، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . .
أي يسبقه شيء.
وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : { فلا تكونن من الممترين }.
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة.
ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل.
فقولك : لا تكن ظالماً ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم.
وقولك : لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة.
والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة.
والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة.
وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموماً ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون.
قال تعالى : { فلا تكوننّ من الجاهلين } { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } { فلا تكن في مرية منه } والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي.
والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان.
وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة.
والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.
{ ولكل وجهة هو موليها } ، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلاً من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته.
ففي ذلك تنبيه على شكر الله ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك.
وقرأ الجمهور : ولكل : منوناً ، وجهة : مرفوعاً ، هو موليها : بكسر اللام اسم فاعل.
وقرأ ابن عامر : هو مولاها ، بفتح اللام اسم مفعول وهي ، قراءة ابن عباس.

وقرأ قوم شاذاً : ولكل وجهة ، بخفض اللام من كل من غير تنوين ، وجهة : بالخفض منوناً على الإضافة ، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة ، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره.
فقيل : المعنى : ولكل طائفة من أهل الأديان.
وقيل : المعنى : ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق ، إلى جهة الكعبة ، وراءها وقدّامها ، ويمينها وشمالها ، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها.
وقيل : المعنى : ولكل نبي قبلة ، قاله ابن عباس.
وقيل : المعنى : ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة ، فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة ، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه : قبلة ، وهو قول ابن عباس ، وهي قراءة أبيّ ، قرأ : ولكل قبلة.
وقرأ عبد الله : ولكل جعلنا قبلة.
وقال الحسن : وجهة : طريقة ، كما قال : { لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } أي لكل نبي طريقة.
وقال قتادة : وجهة : أي صلاة يصلونها ، وهو من قوله : هو موليها عائد على كل على لفظه ، لا على معناه ، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها ، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى ، أي هو موليها وجهه أو نفسه ، قاله ابن عباس وعطاء والربيع ، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ : هو مولاها.
وقيل : هو عائد على الله تعالى ، قاله الأخفش والزجاج ، أي الله موليها إياه ، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها.
فمعنى هو موليها على هذا التقدير : شارعها ومكلفهم بها.
والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة.
وأما قراءة من قرأ : ولكل وجهة على الإضافة ، فقال محمد بن جرير : هي خطأ ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر ، أحد القراء السبعة ، وقد وجهت هذه القراءة.
قال الزمخشري : المعنى : ولكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام لتقدمّ المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه.
انتهى كلامه ، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام.
لا يجوز أن يقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه.
وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة.
كان قوياً ، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً ، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة ، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين ، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا :
سراقة للقرآن يدرسه . . .
وليس نظير ما مثل به من قوله : لزيد ضربت ، أي زيداً ضربت ، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد ، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه ، أي اضرب زيداً أنا ضاربه ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر.

تقول : زيداً مررت به ، أي لابست زيداً ، ولا يجوز : بزيد مررت به ، فيكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر ، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال ، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر ، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر ، بل إذا أردت الاشتغال نصبته ، هكذا جرى كلام العرب.
قال تعالى : { والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً } وقال الشاعر :
أثعلبة الفوارس أم رباحا . . .
عدلت به طهية والخشابا
وأما تمثيله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي.
فإن قلت : لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ ، وهو الهاء ، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف ، وأنث على معنى الطوائف ، وقد تقدم ذكرهم ، ويكون التقدير : وكل وجهة الله مولّي الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب : أنه منع مع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله ، إذا تقدّم.
أما ما يتعدى إلى اثنين ، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم ، ولا إذا تأخر.
وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة.
ومولّ هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين ، فلذلك لا يجوز هذا التقدير.
وقال ابن عطية ، في توجيه هذه القراءة : أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع.
وقدم قوله : لكل وجهة على الأمر في قوله : فاستبقوا الخيرات ، للاهتمام بالوجهة ، كما تقدم المفعول.
انتهى كلام ابن عطية ، وهو توجيه لا بأس به.
{ فاستبقوا الخيرات } : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح.
وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة ، أو قبلة ، أو صلاة ، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها.
قال قتادة : الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة.
وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة ، وإن اختلفت.
وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق ، فهو يدل على الاشتراك.
{ إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق ، كما تقول.
تضاربوا.
واستبق لا يتعدى ، لأن تسابق لا يتعدى ، وذلك أن الفعل المتعدي ، إذا بنيت من لفظ ، معناه : تفاعل للاشتراك ، صار لازماً ، تقول : ضربت زيداً ، ثم تقول : تضاربنا ، فلذلك قيل : إن إلى هنا محذوفة ، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات.
قال الراعي :
ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل . . .
سواكم فإني مهتد غير مائل

يريد ومن يمل إلى سواكم { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } : هذه جملة تتضمن وعظاً وتحذيراً وإظهاراً لقدرته ، ومعنى : { يأت بكم الله جميعاً } : أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب ، فأنتم لا تعجزونه ، وافقتم أم خالفتم ، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة.
وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام ، قاله الزمخشري.
{ إن الله على كل شيء قدير } تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات ، وهذا منها.
وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان الله بكم جميعاً لقدرته على ذلك.
{ ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها ، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج ، لأن قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك } ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة.
فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفراً في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ، ثم عطف عليه : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ، ليبين مساواتهم له في ذلك ، أي في حالة السفر ، والأولى في حالة الإقامة.
وقرأ عبد الله بن عمير : ومن حيث بالفتح ، فتح تخفيفاً.
وقد تقدم القول في حيث في قوله : { حيث شئتما }.
{ وإنه للحق من ربك } : هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق ، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل.
وفي الأول قال : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } ، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة ، فردّ عليهم بأشياء منها : أن علماءهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله : { وما الله بغافل عما تعملون } في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة ، وذلك مهو محض التعبد.
فالجهات كلها بالنسبة إلى البارىء تعالى مستوية ، فكونه خص باستقبال هذه زماناً ، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة ، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض.
فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به ، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ، بل هو المطلع عليها ، المجازي بالثواب من امتثل أمره ، وبالعقاب من خالفه.
وجاء في قوله : { الحق من ربك } في المكانين ، وفي قوله : { وما الله } في المكانين ، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ، ذكر الرب المقتضي للنعم ، لننظر منها إلى المنعم ، ونستدل بها عليه ، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب.

{ ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } : ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيداً لما قبلها في الآية التي تليها فقط ، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى ، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة ، والثانية في السفر ، وأما الثالثة فهي في السفر ، فهي تأكيد للثانية.
وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم ، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس ، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبلة ، إذ كان ذلك صعباً عليهم ، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت.
وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين ، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب ، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة.
وقال المهدوي : كررت هذه الأوامر ، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد ، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر.
وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق ، ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص.
وقيل : لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا ، كررت للتأكيد والتقرير وإزالة الشبهة ، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد.
فقيل : الأولى من قوله : { فول وجهك } ، نسخ للقبلة الأولى ، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة ، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان.
وقيل : الأولى في المسجد الحرام ، والثانية خارج المسجد ، والثالثة خارج البلد.
وقيل : الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة ، والثاني إلى مكان لا ترى فيه ، فسوى بين الحالتين.
وقيل : الخروج الأول متصل بذكر السبب ، وهو : { وإنه للحق من ربك } ، والثاني متصل بانتفاء الحجة ، وهو : { لئلا يكون للناس عليكم حجة }.
وقيل : الأول لجميع الأحوال ، والثاني لجميع الأمكنة ، والثالث لجميع الأزمنة.
وقيل : الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام ، والثاني : أن يكون خارجاً عنه وهو في البلد ، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فسوى بين هذه الأحوال ، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد.
وقيل : التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر ، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة ، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق ، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ، فقطع بذلك قول المعاندين.
وقيل : الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، بقوله : { ولكل وجهة هو موليها } ، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق ، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود.

وقيل : ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } ، فأزال هذا الوهم بقوله : { وإنه للحق من ربك } ، أي ما حولناك لمجرد الرضا ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق ، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى ، ثم أعاد ثالثاً ، والمراد : دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة.
وقيل : كرر { وحيث ما كنتم } ، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن ، في أي مكان كان الإنسان ، نائياً كان عنها ، أو دانياً منها ، وذلك في حال التمكن والاختيار ، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة ، وفي النافلة في حالة السفر ، وعلى الراحلة في السفر.
{ لئلا يكون } : هذه لام كي ، وأن بعدها لا النافية ، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون ، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أن لا تفعل أفعل.
وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء ، بعدها لام ألف ، فجعلوا صورة للهمزة الياء ، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء.
وقرأ الجمهور بالتحقيق : وهذه أن واجبة الإظهار هنا ، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية ، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع ، فإذا أثبتوها ، فهو الأصل ، وهو الأقل في كلامهم ، وإذا حذفوها ، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة ، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.
{ للناس عليكم حجة } : أي احتجاج.
والناس : قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم.
وقيل : اليهود ، وحجتهم قولهم : يخالفنا محمد في قبلتنا ، وقد كان يتبعها ، أو لم ينصرف عن بيت المقدس ، مع علمه بأنه حق إلا برأيه ، ويزعم أنه أمر به ، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم.
وقيل : مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : قد رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة.
وقيل : الناس عام ، والمعنى : أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة ، وهي قولهم : يوافق اليهود مع قوله : إني حنيف أتبع ملة إبراهيم ، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين ، أو قالوا : ما لك تركت بيت المقدس؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه ، أو قولهم : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ، أو قولهم في التوراة : إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم ، فحوله الله ، لئلا يقولوا : نجده في التوراة يتحول فما تحول ، فيكون لهم ذلك حجة ، فأذهب الله حجتهم بذلك.

واللام في لئلا لام الجر ، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر ، أي لانتفاء الحجة عليكم.
وتتعلق هذه اللام ، قيل : بمحذوف ، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة في ذلك لئلا يكون.
وقيل : تتعلق بولوا ، والقراءة بالياء ، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي ، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين ، فسهل التذكير جداً ، وخبر كان قوله : للناس ، وعليكم : في موضع نصب على الحال ، وهو في الأصل صفة للحجة ، فلما تقدم عليها انتصب على الحال ، والعامل فيها محذوف ، ولا جائز أن يتعلق بحجة ، لأنه في معنى الاحتجاج ، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل لا يتقدم على عامله.
وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة ، هكذا نقلوا ، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر ، وللناس متعلق بلفظ يكون ، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.
{ إلا الذين ظلموا منهم } ، قرأ الجمهور : إلا جعلوها أداة استثناء ، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد : ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا ، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح.
فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب الذين ظلموا مبتدأ ، والجملة من قوله : { فلا تخشوهم واخشوني } في موضع الخبر ، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط ، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل.
المعنى : كأنه قيل : من يظلم من الناس ، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم.
واخشوني : فلا تخالفوا أمري ، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا ، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، أي لا تخشوا الذين ظلموا ، لا تخشوهم ، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء.
ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين ، جعلها حرف جر ، وتأوّلها بمعنى مع.
وأما على قراءة الجمهور ، فالاستثناء متصل ، قاله ابن عباس وغيره ، واختاره الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً ، كان أولى من غيره.
قال الزمخشري : ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من اليهود ، إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء.
فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت : كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم ، كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن ، أو من يهودي ، أو من منافق.

وسماها تعالى : حجة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة.
انتهى كلامه.
وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء.
وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة ، يضعونها موضع الحجة ، وليست بحجة.
ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول ، فهو استثناء منقطع ، وإن كان الثاني ، فهو استثناء متصل.
قال الزجاج : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى : { ولكل وجهة هو موليها لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم } ، باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك عليّ حجة إلا الظلم ، أو إلا أن تظلمني ، أي ما لك حجة ألبتة ، ولكنك تظلمني.
وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم ، ويكون التقدير : لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون ، بتولية وجوهكم إلى القبلة.
ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ : إلا على الذين ظلموا ، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر ، كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } وهذا ضعيف ، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، ولا يجوز ذلك إلا على مذهب الأخفش.
وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو ، وجعل من ذلك قوله :
ما بالمدينة دار غير واحدة . . .
دار الخليفة إلا دار مروانا
وقوله :
وكل أخ مفارقه أخوه . . .
لعمر أبيك إلا الفرقدان
التقدير : عنده والذين ظلموا ، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو ، لا يقوم عليه دليل ، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو.
وقال الزجاج : هذا خطأ عند حذاق النحويين ، وأضعف من هذا زعم أن إلا بمعنى بعد ، أي بعد الذين ظلموا ، وجعل من ذلك { إلا ما قد سلف } أي بعد ما قد سلف ، { إلا الموتة الأولى } أي بعد الموتة الأولى ، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين ، ما ذكرتهما لضعفهما.
{ فلا تخشوهم واخشوني } : هذا فيه تحقير لشأنهم ، وأمر باطراحهم ، ومراعاة لأمره تعالى.
وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس ، أي فلا تخشوا الناس ، وأن يعود على الذين ظلموا ، أي فلا تخشوا الظالمين.
ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل ، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر.
وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام.

وقيل : المعنى فلا تخشوهم في المباينة ، واخشوني في المخالفة ، ومعناه قريب من الأول.
وقد ذكرنا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة ابن عباس بقريب من هذا.
وقال السدي : معناه لا تخشوا أن أردّكم في دينكم واخشوني ، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله : فلا تخشوهم.
قال بعضهم : ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف ، لأن الخشية حذر من أمر قد وقع ، والخوف حذر من أمر لم يقع.
والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان ، وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون } كما قال هنا : { فلا تخشوهم واخشوني }.
{ ولأتمّ نعمتي عليكم } : الظاهر أنه معطوف على قوله : { لئلا يكون } ، وكان المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معللاً بهاتين العلتين ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل ، إذ هو من متعلق العلة الأولى.
وقيل : هو معطوف على علة محذوفة ، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة ، كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم.
وقيل : تتعلق اللام بفعل مؤخر ، التقدير : ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، ومن زعم أن الواو زائدة ، فقوله ضعيف.
وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة ، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة ، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة ، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم ، أو بإدخالهم الجنة ، أو بالموت على الإسلام ، أو النعمة سنة الإسلام ، والقرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والستر ، والعافية ، والغنى عن الناس؛ أو بشرائع الملة الحنيفية ، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال ، لا مصدر التعيين ، وكل فيها نعمة.
{ ولعلكم تهتدون } : تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله : { والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في أول البقرة ، وهو أول مواقعها فيه.
والمعنى : لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة ، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم ، والظاهر رجاء الهداية مطلقاً.
{ كما أرسلنا فيكم } : الكاف هنا للتشبيه ، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف.
واختلف في تقديره ، فقيل التقدير : ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول فيكم.
ومتعلق الإتمامين مختلف ، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة ، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا.
أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله : { ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك } والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } وقيل : التقدير : ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتاً متحققاً ، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتاً متحققاً ، كتحقق إرسالنا وثبوته.
وقيل : متعلق بقوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } ، أي جعلاً مثل ما أرسلنا ، وهو قول أبي مسلم ، وهذا بعيد جدًّا ، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع.

وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي ، أي : { ولأتمّ نعمتي عليكم } مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً ، أي مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف.
وقيل : الكاف منقطعة من الكلام قبلها ، ومتعلقة بالكلام بعدها ، والتقدير : قال الزمخشري : كما ذكرتكم بإرسال الرسول ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى.
فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف ، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فائته بكرمك ، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم ، والمعنى : أنكم كنتم على حالة لا تقرأون كتاباً ، ولا تعرفون رسولاً ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رجل منكم ، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال : « كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً ، فاذكروني بالشكر ، أذكركم برحمتي » ويؤكده : { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } ويحتمل على هذا الوجه ، بل يظهر ، وهو إذا علقت بما بعدها أن ، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل ، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } ، وقول الشاعر :
لا تشتم الناس كما لا تشتم . . .
أي : واذكروه لهدايته إياكم ، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم ، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك.
وما : في كما ، مصدرية ، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، ورسولاً بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولاً ، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله ، ومع الكلام الذي بعده ، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل.
وكذلك جعل ما كافة ، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر ، لولايتها الجمل الإسمية ، نحو قول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميد . . .
كما النشوان والرجل الحليم
وقول من قال إن : كما أرسلنا ، متعلق بما بعده ، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب ، قال : لأن الأمر إذا كان له جواب ، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، قال : لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك ، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني ، لأن له جواباً ، ولكن تتعلق بشيء آخر ، أو بمضمر ، وكذلك : فاذكروني أذكركم ، هو أمر له جواب ، فلا تتعلق كما به ، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين ، وهو قولك : إذا أتاك فلان فائته ترضه ، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر.
وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني ، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني ، إذ لا جواب له.

انتهى كلامه.
ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها ، وهو : { ولأتم نعمتي عليكم } ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو.
وما ذهب إليه مكي من إبطال أن ، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء ، لأن الكاف ، إما أن تكون للتشبيه ، أو للتعليل.
فإن كانت للتشبيه ، فتكون نعتاً لمصدر محذوف ، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك ، فيجوز تقديم هذا المصدر.
وإن كانت للتعليل ، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني لإكرامي لك أكرمك ، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما ، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته ، كما وفاذكروني جوابين للأمر ، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب ، ولأن ذلك التشبيه فاسد ، لأن المصدر لا يشبه الجواب ، وكذلك التعليل.
أما المصدر التشبيهي ، فهو وصف في الفعل المأمور به ، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل ، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف.
وعلى هذا لا يشبه الجواب ، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل.
وأما التعليل ، فكذلك أيضاً ليس مترتباً على وقوع الفعل ، بل الفعل مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب ، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب عليها وجود الفعل ، فلا تشبيه بينهما ، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : فاذكروني ، هو الفاء ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها ، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً ، وتبعد زيادة الفاء.
فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها ، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها ، وجعل ذلك إتماماً للنعمة في الحالين ، لأن استقبال الكعبة ثانياً أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة.
كما أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين.
فشبه إتمام تلك النعمة ، التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل.
وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الذي يحجونه قديماً وحديثاً ويعظمونه.
{ رسولاً منكم يدعو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة } : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة.

وكذلك جاء { هو الذي بعث في الأمّيين } ويشعر هذا الامتنان بإنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أفرده فقال : { رسولاً منهم } ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتالياً عليهم آيات الله ، ومزكياً لهم ، ومعلماً لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون.
وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصاً ونسباً ومولداً ومنشأً ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله.
وأتى ثانياً بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد.
وأضاف الآيات إليه تعالى ، لأنها كلامه سبحانه وتعالى ، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم.
وأتى ثالثاً بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق.
وأتى رابعاً بصفة تعليم الكتاب والحكمة ، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية.
وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد ، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً.
وأما الصفة الأولى ، وهي كونه منهم ، فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له.
وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } بأشبع من هذا ، فلينظر هناك.
وختم هذا بقوله : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } ، وهو ذكر عام بعد خاص ، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة.
وفسر بعضهم ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون : قصص من سلف ، وقصص ما يأتي من الغيوب.
وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية ، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية.
فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر ، كما شرحناه ، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها.
{ فاذكروني أذكركم } : أي اذكروني بالطاعة ، أذكركم بالثواب والمغفرة ، قاله ابن جبير ، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه ، قاله الربيع والسدي.
وقال عكرمة : يقول الله يا ابن آدم أذكرني بعد صلاة الصبح ساعة ، وبعد صلاة العصر ساعة ، وأنا أكفيك ما بينهما ، أو اثنوا عليّ ، أثن عليكم.
وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ».
وفيه : ما يقول عبادي؟ قالوا : « يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك ".
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة.
وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله : { اذكروا نعمتي }.
وقيل : الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي.
وقيل : اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي.
وقيل : بما فرضت عليكم ، أو ندبتكم إليه ، أذكركم ، أي أجازكم على ذلك.

وقد تقدم معنى هذا ، وهو قول سعيد ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب.
وقيل : فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء ، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء ، قاله ابن بحر.
وقيل : اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال ، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة ، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي ، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات ، أو اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم ، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق ، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته ، قال : ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، أو اذكروني أذكركم ، أحبوني أحبكم ، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل ، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم ، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة ، أو اذكروني بتصفية السر أذكركم بتوفية البر ، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم ، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة ، أو اذكروني بالرهبة أذكركم بالرغبة.
وقال القشيري : فاذكروني أذكركم ، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر ، فيقال : قد كان فلان.
قال تعالى : { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثاً حسناً لمن وعى ، قال الشاعر :
إنما الدنيا محاسنها . . .
طيب ما يبقى من الخبر
وفي المنتخب ما ملخصه : الذكر يكون باللسان ، وهو : الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتب الله؛ وبالقلب ، وهو : الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف ، والأحكام ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والفكر في الصفات الإلهية ، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس ، فإذا نظر العبد إليها ، انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وبالجوارح ، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها ، خالية عن الأعمال المنهي عنها.
وعلى هذا الوجه ، سمى الله الصلاة ذكراً بقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } انتهى.
وقالوا : الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له ، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك.
ولما كثر إطلاقه عليه ، صار هو السابق إلى الفهم.
فالذكر باللسان سريّ وجهريّ ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل ، وبهما أيضاً دائم ومتحلل.
فباللسان ذكر عامّة المؤمنين ، وهو أدنى مراتب الذكر ، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذكراً» خرج ابن ماجة " أن أعرابياً قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله " وخرج أيضاً قال : " يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه ".

وسئل أبو عثمان ، فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته ، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً ، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور : قال الشاعر :
سواك ببالي لا يخطر . . .
إذا ما نسيتك من أذكر
وبهما : هو ذكر خواص المؤمنين ، وهذه ثلاث المقامات ، أدومها أفضلها. انتهى.
وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة ، وتركنا أشياء مما ذكره الناس ، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران ، لا يدل اللفظ على شيء منها ، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد.
وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر ، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني.
والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفرداً من غير إسناد ، بل لا بدّ من إسناد ، وأولاها الأذكار المروية في الآثار ، والمشار إليها في القرآن.
وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها ، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل.
وتلك الأذكار تتضمن : الثناء على الله ، والحمد له ، والمدح لجلاله ، والتماس الخير من عنده.
فعبر عن ذلك بالذكر ، وأمر العبد به ، فكأنه قيل : عظموا الله ، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك.
وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكراً ، فقال : فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة ، لما كان نتيجة الذكر وناشئاً عنه سماه ذكراً.
{ واشكروا لي } تقدّم تفسير الشكر ، وعداه هنا باللام ، وكذلك { أن اشكر لي ولوالديك } وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر ، وتارة تتعدّى بنفسها ، كما قال عمرو بن لجاء التميمي :
هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم . . .
فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل
وفي إثبات هذا النوع من الفعل ، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر ، بحق الوضع فيهما خلاف.
وقالوا : إذا قلت : شكرت لزيد ، فالتقدير : شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه.
ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : واشكروا لي ما أنعمت به عليكم.
وقال ابن عطية : واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد ، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه : نعمتي وأيادي ، وكذلك إذا قلت : شكرتك ، فالمعنى : شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر : ذكر اليد وذكر مسديها معاً ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، انتهى كلامه ، ويحتاج ، كونه يتعدى لواحد بنفسه ، وللآخر بحرف جر ، فتقول : شكرت لزيد صنيعه ، لسماع من العرب ، وحينئذ يصار إليه.
{ ولا تكفرون } : وهو من كفر النعمة ، وهو على حذف مضاف ، أي ولا تكفروا نعمتي.
ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان ، لكان : ولا تكفروا ، أو ولا تكفروا بي.

وهذه النون نون الوقاية ، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل.
قيل : المعنى واشكروا لي بالطاعة ، ولا تكفرون بالمعصية.
وقيل : معنى الشكر هنا : الاعتراف بحق المنعم ، والثناء عليه ، ولذلك قابله بقوله : { ولا تكفرون }.
وهنا ثلاث جمل : جملة الأمر بالذكر ، وجملة الأمر بالشكر ، وجملة النهي عن الكفران.
فبدىء أولاً بجملة الذكر ، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى ، وذكر له جواب مترتب عليه.
وثنى بجملة الشكر ، لأنه ثناء على شيء خاص ، وقد اندرج تحت الأول ، فهو بمنزلة التوكيد ، فلم يحتج إلى جواب.
وختم بجملة النهي ، لأنه لما أمر بالشكر ، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان ، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان ، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات.
ونهى عن الكفران ، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان ، وذلك ممكن لأنه من باب التروك.
وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي ، بدىء بالأمر.
وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به } فأغنى عن إعادته هنا.
.
{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة } ، قيل : سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا ، كما رجع إلى قبلتنا.
هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف ، وهو الإيمان مجعولاً فعلاً ماضياً في صلة الذين ، دالاً على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم ، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق ، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام.
فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة ، وهو أمر قلبي؛ والصلاة ثمرته ، وهي من أشق التكاليف لتكررها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيراً ، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة.
وقد قيد بعضهم الصبر هنا : بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة ، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض.
وروي عن ابن عباس وبعضهم قال : هو كناية عن الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، وبعضهم قال : هو كناية عن الجهاد لقوله : بعد : { ولا تقولوا لمن يقتل } ، وهو قول أبي مسلم.
والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ ، فتندرج هذه الأفراد تحته.
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس له.
وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله : { استعينوا بالصبر والصلاة }.
{ إن الله مع الصابرين } : أي بالمعونة والتأييد ، كما قال : اهجهم ، وروح القدس معك.
وقال تعالى : { لا تحزن إن الله معنا } ، ومن كان الله معه فهو الغالب ، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر ، وصار الصبر أصلاً لجميع التكاليف الشاقة قال : { إن الله مع الصابرين } ، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل.

وأما قوله هناك : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام ، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر.
.
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } ، قيل : سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله : مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها ، فأنزلت.
نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات ، وأخبر تعالى أنهم أحياء ، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم أموات ، بل هم أحياء.
ويحتمل أن يكون بل أحياء ، مندرجاً تحت قول مضمر ، أي بل قولوا هم أحياء.
لكن يرجح الوجه الأول ، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله : { ولكن لا تشعرون } ، لأن معناه : أن حياتهم لا شعور لكم بها ، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة.
وقيل : ذلك مجاز.
واختلفوا فقيل : أموات بانقطاع الذكر ، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر.
وكانت العرب تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد ، وغيره ميتاً.
وقيل : أموات بالضلال ، بل أحياء بالطاعة والهدى ، كما قال : { أو من كان ميتاً فأحييناه } وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا ، فقال قوم : معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون ، فالمعنى : أنهم سيحيون بالبعث ، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله.
وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت.
ومعنى هذه الحياة : بقاء أرواحهم دون أجسادهم ، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفناءها.
واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر ، وبقوله : { ولكن لا تشعرون } معناه : لا تشعرون بكيفية حياتهم.
ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة ، أو أنهم على هدى ونور ، لم يظهر لنفي الشعور معنى ، إذ هو خطاب للمؤمنين ، وهم قد علموا بالبعث ، وبأنهم كانوا على هدى.
فلا يقال فيه : ولكن لا تشعرون ، لأنهم قد شعروا به وبقوله : { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح ، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره.
فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء ، كما قال تعالى : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرمر السحاب } وكما ترى النائم على هيئته ، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به.
ونقل السهيلي في كتاب ( دلائل النبوّة ) من تأليفه ، حكاية عن بعض الصحابة ، أنه حفر في مكان ، فانفتحت طاقة ، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامه روضة خضراء ، وذلك بأحد ، وعلم أنه من الشهداء ، لأنه رأى في صفحة وجهه جرحاً.
وإذا ثبت أن الشهداء أحياء ، إما أرواحهم ، وإما أجسادهم وأرواحهم ، فاختلف في مستقرها.
فقيل : قبورهم يرزقون فيها.
وقيل : في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها ، قاله أبو بشار السلمي.

وقيل : في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى ، قاله قتادة.
وقيل : يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها ، وليسوا فيها ، قاله مجاهد.
وروي عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء ».
وروي : في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم : « أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة ، وأنهم في قناديل من ذهب ، وأنهم في قبة خضراء ».
وإذا صح ذلك ، فهي أحوال لطوائف من الشهداء ، أو في أوقات مختلفة.
والجمهور : على أنهم في الجنة ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لأم حارثة : « إنهم في الفردوس ».
ومذهب أهل السنة : أن الأرواح لا تفنى ، وأنها باقية بعد خروجها من البدن.
فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين ، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدّين.
والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرّزق ، فضلهم الله بذلك ، وقال تعالى في حق الكفار : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } وقال الحسن : الشهداء أحياء عند الله ، تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشياً ، فيصل إليهم الوجع.
وقالوا : يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم ، وإن كانت في حجم الذرة.
ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرّها ، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد ، اتباعاً للمفسرين ، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية ، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } حيث ذكر العندية والرزق ، وظاهر قوله : { لمن يقتل في سبيل الله } ، العموم.
وقيل : نزلت في شهداء بدر ، كانوا أربعة عشر ، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب ، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء ، فهم مغبوطون لا محزونون عليهم.
{ ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب.
قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء.
خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطميناً لقلوبهم ، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجىء ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخباراً بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزاً لمن أسلم مريداً وجه الله ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملاً لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، مع ما ابتلوا به.

وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات.
وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، يكون هذا الإخبار تحذيراً وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخباراً بالمغيبات.
وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم.
وهذه الآية لها تعلق بقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } الآية ، وقبلها : { واشكروا لي } ، والشكر يوجب زيادة النعم والإبتلاء بما ذكر ، ينافيه ظاهراً ، وتوجيهه : أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ، ولذلك يوجب الشكر.
والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولاً فشكر ، وابتلي ثانياً فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه.
كما روي عنه عليه السلام : « الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ».
بشيء : متعلق بقوله : { ولنبلونكم } ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده.
وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون من في موضع الصفة ، بخلاف قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص.
والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا.
والخوف : خوف العدو ، قاله ابن عباس ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب.
وقال الشافعي : هو خوف الله تعالى.
والجوع : القحط ، قاله ابن عباس ، عبر بالمسبب عن السبب.
وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضاً.
وقال الشافعي : هو صيام شهر رمضان.
ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك.
وقال الشافعي : بالصدقات.
والأنفس : بالقتل والموت.
وقال الشافعي : بالأمراض ، وقيل : بالشيب.
والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات.
وقال القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : بظهور العدوّ عليهم.
وقال الشافعي : والثمرات : موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه.
وفي حديث أبي موسى ، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : أقبضتم ثمرة فؤاده؟.
وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدوّ ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدوّ لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد.
انتهى كلامه.

وعطف ونقص على قوله : بشيء ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص.
ومن الأموال : متعلق بنقص ، لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء.
ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص.
وتكون من لابتداء الغاية.
ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض.
وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات.
وأتى بالجملة الخبرية مقسماً عليها ، تأكيداً لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه.
وأن هذه المحن من الله تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين.
وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولاً بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه.
ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير الشافعي ، وهو صوم رمضان.
ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعدو نقص ، فبدأ أولاً بالأموال ، ثم ترقى إلى الأنفس.
وأما والثمرات ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ، لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها.
{ وبشر الصابرين } : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً ، فهو مندرج في الصابرين.
قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني.
وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع.
فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة.
وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أسامية باختلاف المكروه.
ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع.
وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر.
وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن.
وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر.
وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتماناً ، ويضاده الإعلان.
وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهداً ، ويضاده الحرص.
وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره.
وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً ، فقال : { والصابرين في البأساء } أي المصيبة والضرّاء ، أي الفقر وحين البأس ، أي المحاربة.
قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلواناً.

{ الذين إذا أصابتهم مصيبة } : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين ، وهو ظاهر الإعراب ، أو منصوباً على المدح ، فيكون مقطوعاً ، أو مرفوعاً على إضمارهم على وجهين : إما على القطع ، وإما على الاستئناف ، كأنه جواب لسؤال مقدر ، أي : من الصابرون؟ قيل : هم الذين الذين إذا.
وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ ، وأولئك عليهم خبره ، وهو محتمل.
مصيبة : اسم فاعل من أصابت ، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه ، وصارت كناية عن الداهية ، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل.
وأصابتهم مصيبة : من التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً ، ومنه : { أزفت الآزفة } { إذا وقعت الواقعة } والمصيبة : كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل ، صغرت أو كبرت ، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى : مصيبة.
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه.
والمعنى في إذا هنا : على التكرار والعموم.
وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا ، أتدل على التكرار ، أم وضعت للمرّة الواحدة؟ قولان للنحويين.
{ قالوا إنا لله } : قالوا : جواب إذا ، والشرط وجوابه صلة للذين.
وإنا : أصله إننا ، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل ، فحذفت نون من إن.
وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية ، لأنها ظرف ، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت ، فقالوا : إن زيد لقائم ، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال ، فلذلك عملت ، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة ، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل ، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير.
ولله : معناه الإقرار بالملك والعبودية لله ، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور.
{ وإنا إليه راجعون } : إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب ، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له.
وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال : أحدها : أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا.
الثاني : أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه ، { وإنا إليه راجعون } يعني : للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء.
الثالث : راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب.
الرابع : أن معناه إقرار بالمملكة في قوله : { إنا لله } ، وإقرار بالهلكة في قوله : { وإنا إليه راجعون }.
وفي المنتخب ما ملخصه : إن إسناد الإصابة إلى المصيبة ، لا إلى الله تعالى ، ليعم ما كان من الله ، وما كان من غيره.
فما كان من الله فهو داخل تحت قوله : { إنا لله } ، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضاً للأمور إليه ، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه ، ولا يتعدى ، كأنه في الأول { إنا لله } ، يدبر كيف يشاء ، وفي الثاني : { إنا إليه } ، ينصف لنا كيف يشاء.

وقيل : { إنا لله } ، دليل على الرضا بما نزل به في الحال ، { وإنا إليه راجعون } ، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك.
واشتملت الآية على فرض ونفل.
فالفرض : التسليم لأمر الله ، والرضا بقدره ، والصبر على أداء فرائضه.
والنفل : إظهاراً لقول { إنا لله وإنا إليه راجعون } ، وفي إظهاره فوائد منها : غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله.
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } ، أولئك مبتدأ ، وصلوات : ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور ، أي : أولئك مستقرة عليهم صلوات ، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد ، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ ، والجار والمجرور في موضع خبره.
والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول ، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة.
والصلاة : من الله المغفرة ، قاله ابن عباس؛ أو الثناء ، قاله ابن كيسان ، أو الغفران والثناء الحسن ، قاله الزجاج.
والرحمة : قيل هي الصلوات ، كررت تأكيداً لما اختلف اللفظ ، كقوله { رأفة ورحمة } وقيل : الرحمة : كشف الكربة وقضاء الحاجة.
وقال عمر : نعم العدلان ونعم العلاوة ، وتلا : { الذين إذا أصابتهم } الآية ، يعني بالعدلين : الصلوات والرحمة ، وبالعلاوة : الاهتداء.
وفي قوله : أولئك ، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة ، كما جاء : { أولئك على هدى من ربهم } والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله : { عليهم صلوات } بحرف على ، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك ، قد غشيتهم وتجللتهم ، وهو أبلغ من قوله لهم.
وجمع صلوات ، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة ، بل صلاة بعد صلاة ، ونكرت لأنه لا يراد العموم.
ووصفها بكونها من ربهم ، ليدل بمن على ابتدائها من الله ، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى.
ويحتمل أن تكون من تبعيضية ، فيكون ثم حذف مضاف ، أي صلوات من صلوات ربهم.
وأتى بلفظ الرب ، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به.
وإن كان أريد بالرحمة الصلوات ، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة ، لأنها قد تقيدت.
وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات ، فيقدر : ورحمة منه ، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم.
ويحتمل أن يكون : { من ربهم } ، متعلقاً بقوله : { عليهم } ، فلا يكون صفة ، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات ، وترتب على مقام الصبر.
ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى ، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل.
وقد جاء في السنة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه ».
وفي حديث آخر : « من تذكر مصيبته ، فأحدث استرجاعاً ، وإن تقادم عهدها ، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب ».

وحديث أم سلمة مشهور ، حيث أخلفها الله عن أبي سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جبير : ما أعطيَ أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة ، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب.
ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف؟ { يا أسفي على يوسف } { وأولئك هم المهتدون } : إخبار من الله عنهم بالهداية ، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبداً.
وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه ، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة.
وبدىء بالجملة الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله ، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة ، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته.
وأكد بقوله : هم.
وبالألف واللام ، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل ، ليدل على الثبوت ، لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتاً بعد وقت فيخبر عنها بالفعل ، بل هي وصف ثابت.
وقيل : المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر.
وقيل : إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن.
وقيل : إلى الاسترجاع.
وقيل : إلى الحق والصواب ، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان ، ونظير هاتين الجملتين قوله { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } والكلام في إعراب : هم المهتدون ، كالكلام على : المفلحون ، وقد تقدم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج صلى الله عليه وسلم شطر المسجد ، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة ، حيث كان النسخ صعباً على النفوس ، حيث ألفوا أمراً ، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره ، وخصوصاً عند من لا يرى النسخ.
فلذلك كرر وأنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس ، لأن ذلك ، إذا كان بأمر منه تعالى ، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله ، لأن أمر الله ثانياً ، كأمره أولاً.
وهو قد أمر أولاً باستقبال بيت المقدس ، وأمر آخراً باستقبال الكعبة.
فلا فرق بين الأمرين ، ولا حجة لمن خالف.
واستثنى من الناس من ظلم ، لأنه لا تنقطع حججه ، وإن كانت باطلة ، ولا تشغيباته وتمويهاته ، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به ، ثم أمرهم تعالى بخشيته ، ونهاهم عن خشية الناس ، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه.
وعطف على تلك العلة علة أخرى ، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم ، والرجوع إلى المألوف ، ولتحصيل الهداية.
وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم ، إذ هذه النعمة هي الأصل ، وهي منبع النعم والهداية ، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل ، وهي تلاوة الكتاب عليهم : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }

فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس؟
أخو العلم حيّ خالد بعد موته . . .
وأوصاله تحت التراب رميم
وقال آخر :
محل العلم لا يأوي تراباً . . .
ولا يبلى على الزمن القديم
ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها ، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم.
ثم نهاهم عن كفرانها ، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه.
ثم نادى من اتصف بالإيمان ، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة ، ليقبلوا على ما يأمرهم به.
فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة ، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة.
ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات ، وأخبر أنهم أحياء ، فوجب تصديق ما أخبر به ، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم.
ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر ، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى.
ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقاداً وقولاً صريحاً أنهم عبيد الله ومماليكه ، وإليه مآبهم ومرجعهم ، يتصرف فيهم كما أراد.
ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف ، فعليه من الله الصلاة والرحمة ، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

الصفا : ألفه منقلبة عن واو لقولهم : صفوان ، ولاشتقاقه من الصفو ، وهو الخالص.
وقيل : هو اسم جنس بينه وبين مفرد تاءه التأنيث ، ومفرده صفاة.
وقيل : هو اسم مفرد يجمع على فعول وأفعال ، قالوا : صفيّ وأصفاء.
مثل : قفيّ وأقفاء.
وتضم الصاد في فعول وتكسر ، كعصي ، وهو الحجر الأملس.
وقيل : الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين ، أو تراب يتصل به ، وهو الذي يدل عليه الاشتقاق.
وقيل : هو الصخرة العظيمة.
المروة : واحدة المرو ، وهو اسم جنس ، قال :
فترى المرو إذا ما هجرت . . .
عن يديها كالفراش المشفتر
وقالوا : مروان في جمع مروة ، وهو القياس في جمع تصحيح مروة ، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين.
وقيل : الحجارة الصلبة.
وقيل : الصغار المرهفة الأطراف.
وقيل : الحجارة السود.
وقيل : البيض.
وقيل : البيض الصلبة.
والصفا والمروة في الآية : علمان لجبلين معروفين ، والألف واللام لزمتا فيهما للغلبة ، كهما في البيت : للكعبة ، والنجم : للثريا ، الشعائر : جمع شعيرة أو شعارة.
قال الهروي : سمعت الأزهري يقول : هي العلائم التي ندب الله إليها ، وأمر بالقيام بها.
وقال الزجاج : كل ما كان من موقف ومشهد ومسعى ومذبح.
وقد تقدّمت لنا هذه المادة ، أعني مادة شعر ، أي أدرك وعلم.
وتقول العرب : بيتنا شعار : أي علامة ، ومنه أشعار الهدى.
الحج : القصد مرة بعد أخرى.
قال الراجز :
لراهب يحج بيت المقدس . . .
في منقل وبرجد وبرنس
والاعتمار : الزيارة.
وقيل : القصد ، ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين ، وهما في المعاني : كالبيت والنجم في الأعيان.
وقد تقدّمت هاتان المادّتان في يحاجوكم وفي يعمر.
الجناح : الميل إلى المأثم ، ثم أطلق على الإثم.
يقال : جنح إلى كذا جنوحاً : مال ، ومنه جنح الليل : ميله بظلمته ، وجناح الطائر.
تطوّع : تفعل من الطوع ، وهو الانقياد.
الليل : قيل هو اسم جنس ، مثل : تمرة وتمر ، والصحيح أنه مفرد ، ولا يحفظ جمعاً لليل ، وأخطأ من ظنّ أن الليالي جمع الليل ، بل الليالي جمع ليلة ، وهو جمع غريب ، ونظيره : كيكه والكياكي ، والكيكة : البيضة ، كأنهم توهموا أنهما ليلاه وكيكاه ، ويدل على هذا التوهم قولهم في تصغير ليلة : لييلية ، وقد صرحوا بليلاه في الشعر ، قال الشاعر :
في كل يوم وبكل ليلاة . . .
على أنه يحتمل أن تكون هذه الألف إشباعاً نحو :
أعوذ باللَّه من العقراب . . .
وقال ابن فارس : بعض الطير يسمى ليلاً ، ويقال : إنه ولد الحبارى.
وأما النهار : فجمعه نهر وأنهرة ، كقذل وأقذلة ، وهما جمعان مقيسان فيه.
وقيل : النهار مفرد لا يجمع لأنه بمنزلة المصدر ، كقولك : الضياء يقع على القليل والكثير ، وليس بصحيح.
قال الشاعر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر . . .
ثريد ليل وثريد بالنهر
ويقال : رجل نهر ، إذا كان يعمل في النهار ، وفيه معنى النسب.

قالوا : والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعدي : « إنما هو بياض النهار وسواد الليل » ، يعني في قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } وظاهر اللغة أنه من وقت الأسفار.
وقال النضر بن شميل : ويغلب أول النهار طلوع الشمس.
زاد النضر : ولا يعد ما قبل ذلك من النهار.
وقال الزجاج ، في ( كتب الأنواء ) : أول النهار ذرور الشمس ، واستدل بقول أمية بن أبي الصلت :
والشمس تطلع كل آخر ليلة . . .
حمراء يصبح لونها يتورد
وقال عدي بن زيد :
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به . . .
بين النهار وبين الليل قد فصلا
والمصر : القطع.
وأنشد الكسائي :
إذا طلعت شمس النهار فإنها . . .
أمارة تسليمي عليك فودّعي
وقال ابن الأنباري : من طلوع الشمس إلى غروبها نهار ، ومن الفجر إلى طلوعها مشترك بين الليل والنهار.
وقد تقدمت مادّة نهر في قوله : { تجري من تحتها الأنهار } الفلك : السفن ، ويكون مفرداً وجمعاً.
وزعموا أن حركاته في الجمع ليست حركاته في المفرد ، وإذا استعمل مفرد أثنى ، قالوا : فلكان.
وقيل : إذا أريد به الجمع ، فهو اسم جمع ، والذي نذهب إليه أنه لفظ مشترك بين المفرد والجمع ، وأن حركاته في الجمع حركاته في المفرد ، ولا تقدر بغيرها.
وإذا كان مفرداً فهو مذكر ، كما قال : { في الفلك المشحون } وقالوا : ويؤنث تأنيث المفرد ، قال : { والفلك التي تجري } ، ولا حجة في هذا ، إذ يكون هنا استعمل جمعاً ، فهو من تأنيث الجمع ، والجمع يوصف بالتي ، كما توصف به المؤنثة.
وقيل : واحد الفُلك ، فَلَك ، كأُسُد وأَسَد ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء الذي تدور فيه النجوم ، وفلكة المغزل ، وفلكة الجارية : استدرار نهدها.
بث : نشر وفرق وأظهر.
قال الشاعر :
وفي الأرض مبثوثاً شجاع وعقرب . . .
ومضارعه : يبث ، على القياس في كل ثلاثي مضعف متعد أنه يفعل إلاّ ما شذ.
الدابة : اسم لكل حيوان ، ورد قول من أخرج منه الطير بقول علقمة :
كأنهم صابت عليهم سحابة . . .
صواعقها لطيرهنّ دبيب
ويقول الأعشى :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل . . .
وفعله : دب يدب ، وهذا قياسه لأنه لازم ، وسمع فيه يدب بضم عين الكلمة ، والهاء في الدابة للتأنيث ، إما على معنى نفس دابة ، وإما للمبالغة ، لكثرة وقوع هذا الفعل ، وتطلق على الذكر والأنثى.
التصريف : مصدر صرف ، ومعناه : راجع للصرف ، وهو الرد.
صرفت زيداً عن كذا : رددته.
الرياح : جمع ريح ، جمع تكسير ، وياؤه واو لأنها من راح يروح ، وقلبت ياء لكسرة ما قبلها ، وحين زال موجب القلب ، وهو الكسر ، ظهرت الواو ، وقالوا : أرواح ، كجمع الروح.
قال الشاعر :
أريت بها الأرواح كل عشية . . .
فلم يبق إلا ال نؤي منضد
قال ابن عطية : وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، فاستعمل الأرياح في شعره ، ولحن في ذلك.

وقال أبو حاتم : إن الأرياح لا يجوز ، فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح؟ فقال له أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال له : صدقت ورجع. انتهى.
وفي محفوظي قديماً أن الأرياح جاءت في شعر بعض فصحاء العرب الذين يستشهد بكلامهم ، كأنهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علة القلب مفقودة في الجمع ، كما قالوا : عيد وأعياد ، وإنما ذلك من العود ، لكنه لما لزم البدل جعله كالحرف الأصلي.
السحاب : اسم جنس ، المفرد سحابة ، سمي بذلك لأنه ينسحب ، كما يقال له : حبى ، لأنه يحبو ، قاله أبو علي.
التسخير : هو التذليل وجعل الشيء داخلاً تحت الطوع.
قال الراغب : التسخير : القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه.
الحب : مصدر حب يحب ، وقياس مضارعه يحب بالضم ، لأنه من المضاعف المتعدي ، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء ، ويقال : أحب ، بمعنى : حب ، وهو أكثر منه ، ومحبوب أكثر من محب ، ومحب أكثر من حاب ، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه ، قال الشاعر :
ثلاثة أحباب فحب علاقة . . .
وحب تملاق وحب هو القتل
والحب : إناء يجعل فيه الماء.
الجميع : فعيل من الجمع ، وكأنه اسم جمع ، فلذلك يتبع تارة بالمفرد : { نحن جميع منتصر } ، وتارة بالجمع : { جميع لدينا محضرون } وينتصب حالاً : جاء زيد وعمرو جميعاً ، ويؤكد به بمعنى كلهم : جاء القوم جميعهم ، أي كلهم ، ولا يدل على الاجتماع في الزمان ، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل.
تبرأ : تفعل ، من قولهم : برئت من الدين.
براءة : وهو الخلوص والانفصال والبعد.
تقطع : تفعل من القطع ، وهو معروف.
الأسباب : جمع سبب ، وهو الوصلة إلى الموضع ، والحاجة من باب ، أو مودة ، أو غير ذلك.
قيل : وقد تطلق الأسباب على الحوادث ، قال الشاعر :
ومن هاب أسباب المنية يلقها . . .
ولو رام أسباب السماء بسلم
وأصل السبب : الحبل ، وقيل : الذي يصعد به ، وقيل : الرابط الموصل.
الكرّة : العودة إلى الحالة التي كان فيها ، والفعل كر يكر كراً ، قال الشاعر :
أكر على الكتيبة لا أبالي . . .
أحتفي كان فيها أم سواها
الحسرة : شدة الندم ، وهو تألم القلب بانحساره عن مأموله.
.
{ إن الصفا والمروة من شعائر الله } ، سبب النزول : أن الأنصار كانوا يحجون لمناة ، وكانت مناة خزفاً وحديداً ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا ، فأنزلت.
وخرّج هذا السبب في الصحيحين وغيرهما.
وقد ذكر في التحرّج عن الطواف بينهما أقوال.
مناسبة هذه الآية لما قبلها : أن الله تعالى لما أثنى على الصابرين ، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن وكان أحد أركان الإسلام ، ناسب ذكره بعد ذلك.
والصفا والمروة ، كما ذكرنا ، قيل : علمان لهذين الجبلين ، والأعلام لا يلحظ فيها تذكير اللفظ ولا تأنيثه.

ألا ترى إلى قولهم : طلحة وهند؟ وقد نقلوا أن قوماً قالوا : ذكّر الصفا ، لأن آدم وقف عليه ، وأنثت المروة ، لأن حوّاء وقفت عليها.
وقال الشعبي : كان على الصفا صنم يدعى أسافا ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة ، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث ، وقدم المذكر.
نقل القولين ابن عطية : ولولا أن ذلك دوّن في كتاب ما ذكرته.
ولبعض الصوفية وبعض أهل البيت كلام منقول عنهم في الصفا والمروة ، رغبنا عن ذكره.
وليس الجبلان لذاتهما من شعائر الله ، بل ذلك على حذف مضاف ، أي إن طواف الصفا والمروة ، ومعنى من شعائر الله : معالمه.
وإذا قلنا : معنى من شعائر الله من مواضع عبادته ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف في الأول ، بل يكون ذلك في الجر.
ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة ، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة.
بين تعالى ذلك بقوله : { فمن حج البيت أو اعتمر } ، ومن شرطية.
{ فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } ، قرأ الجمهور : أن يطوّف.
وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر : أن لا ، وكذلك هي في مصحف أبي وعبد الله ، وخرج ذلك على زيادة لا ، نحو : { ما منعك أن لا تسجد } وقوله :
وما ألوم البيض أن لا تسخرا . . .
إذا رأين الشمط القفندرا
فتتحد معنى القراءتين ، ولا يلزم ذلك ، لأن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه ، إذ هو تخيير بين الفعل والترك ، نحو قوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } فعلى هذا تكون لا على بابها للنفي ، وتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطواف نصاً ، وفي هذه رفع الجناح في الترك نصاً ، وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك ، فليس الطواف بهما واجباً ، وهو مروي عن ابن عباس ، وأنس ، وابن الزبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وأحمد بن حنبل ، فيما نقل عنه أبو طالب ، وأنه لا شيء على من تركه ، عمداً كان أو سهواً ، ولا ينبغي أن يتركه.
ومن ذهب إلى أنه ركن ، كالشافعي وأحمد ومالك ، في مشهور مذهبه ، أو واجب يجبر بالدم ، كالثوري وأبي حنيفة ، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم ، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين ، كأبي حنيفة في بعض الرّوايات ، يحتاج إلى نص جلي ينسخ هذا النص القرآني.
وقول عائشة لعروة حين قال لها : أرأيت قول الله : { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } ، فما نرى على أحد شيئاً؟ فقالت : يا عرية ، كلا ، لو كان كذلك لقال : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما.
كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الإثم عمن طاف بهما ، ولا يدل ذلك على وجوب الطواف ، لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل ، وإذا كان مباحاً كنت مخيراً بين فعله وتركه.

وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة ، فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما ، لم يعد طائفاً.
ودلت الآية على مطلق الطواف ، لا على كيفية ، ولا عدد.
واتفق علماء الأمصار على أن الرّمل في السعي سنة.
وروى عطاء ، عن ابن عباس : من شاء سعى بمسيل مكة ، ومن شاء لم يسع ، وإنما يعني الرمل في بطن الوادي.
وكان عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال : إن مشيت ، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، وإن سعيت ، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى.
وسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ليرى المشركين قوته.
فيحتمل أن يزول الحكم بزوال سببه ، ويحتمل مشروعيته دائماً ، وإن زال السبب ، والركوب في السعي بينهما مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه ، ولا يجوز عند مالك الركوب في السعي ، ولا في الطواف بالبيت ، إلا من عذر ، وعليه إذ ذاك دم.
وإن طاف راكباً بغير عذر ، أعاد إن كان بحضرة البيت ، وإلا أهدى.
وشكت أم سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « طوفي من وراء الناس وأنت راكبة » ولم يجىء في هذا الحديث أنه أمرها بدم.
وفرق بعض أهل العلم فقال : إن طاف على ظهر بعير أجزاه ، أو على ظهر إنسان لم يجزه.
وكون الضمير مثنى في قوله : بهما ، لا يدل على البداءة بالصفا ، بل الظاهر أنه لو بدأ بالمروة في السعي أجزأه ، ومشروعية السعي ، على قول كافة العلماء ، البداءة بالصفا.
فإن بدأ بالمروة ، فمذهب مالك ، ومشهور مذهب أبي حنيفة ، أنه يلغي ذلك الشوط ، فإن لم يفعل ، لم يجزه.
وروي عن أبي حنيفة أيضاً : إن لم يلغه ، فلا شيء عليه ، نزله بمنزلة الترتيب في أعضاء الوضوء.
وقرأ الجمهور : يطوف وأصله يتطوّف ، وفي الماضي كان أصله تطوف ، ثم أدغم التاء في الطاء ، فاحتاج إلى اجتلاب همزة الوصل ، لأن المدغم في الشيء لا بدّ من تسكينه ، فصار أطوف ، وجاء مضارعه يطوف ، فانحذفت همزة الوصل لتحصين الحرف المدغم بحرف المضارعة.
وقرأ أبو حمزة : أن يطوف بهما ، من طاف يطوف ، وهي قراءة ظاهرة.
وقرأ ابن عباس وأبو السمال : يطاف بهما ، وأصله : يطتوف ، يفتعل ، وماضيه : اطتوف افتعل ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء ، كما قلبوا في اطلب ، فهو مطلب ، فصار : أطاف ، وجاء مضارعه : يطاف ، كما جاء يطلب : ومصدر اطوف : اطوّفا ، ومصدر اطاف : اطيافاً ، عادت الواو إلى أصلها ، لأن موجب إعلالها قد زال ، ثم قلبت ياء لكسرة ما قبلها ، كما قالوا : اعتاد اعتياداً ، وأن يطوف أصله ، في أن يطوف ، أي لا إثم عليه في الطواف بهما ، فحذف الحرف مع أن ، وحذفه قياس معها إذا لم يلبس ، وفيه الخلاف السابق ، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون : أن يطوّف ، في موضع رفع ، على أن يكون خبراً أيضاً ، قال التقدير : فلا جناح الطواف بهما ، وأن يكون في موضع نصب على الحال ، والتقدير : فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما ، قال : والعامل في الحال العامل في الجر ، وهي حال من الهاء في عليه.

وهذان القولان ساقطان ، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.
{ ومن تطوّع خيراً } : التطوّع : ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك.
ألا ترى إلى قوله في حديث ضمام : هل عيّ غيرها؟ قال : لا ، إلا أن تطوّع ، أي تتبرّع.
هذا هو الظاهر ، فيكون المراد التبرع بأي فعل طاعة كان ، وهو قول الحسن؛ أو بالنفل على واجب الطواف ، قاله مجاهد ، أو بالعمرة ، قاله ابن زيد؛ أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه ، أو بالسعي بين الصفا والمروة ، وهذا قول من أسقط وجوب السعي ، لما فهم الإباحة في التطوف بهما من قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ، حمل هذا على الطواف بهما ، كأنه قيل : ومن تبرع بالطواف بينهما ، أو بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة ، أقوال ستة.
وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : تطوّع فعلاً ماضياً هنا ، وفي قوله : { فمن تطوّع خيراً فهو خير له } ، فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون شرطية.
وقرأ حمزة ، والكسائي : يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية ، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما ، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر ، أي بخير ، وهي قراءة ابن مسعود ، قرأ : يتطوّع بخير.
ويطوّع أصله : يتطوّع ، كقراءة عبد الله ، فأدغم.
وأجازوا جعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف ، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً.
{ فإن الله شاكر عليم } : هذه الجملة جواب الشرط.
وإذا كانت من موصولة في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً ، فهي جملة في موضع خبر المبتدأ ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة.
وشكر الله العبد بأحد معنيين : إما بالثواب ، وإما بالثناء.
وعلمه هنا هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة ، أو بنيته وإخلاصه في العمل.
وقد وقعت الصفتان هنا الموقع الحسن ، لأن التطوّع بالخير يتضمن الفعل والقصد ، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل ، وذكر العلم باعتبار القصد ، وأخرت صفة العلم ، وإن كانت متقدمة ، على الشكر ، كما أن النية مقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي.
{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } : الآية نزلت في أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن عباس : أن معاذاً سأل اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه إياه ، فأنزل الله هذه الآية.

والكاتمون هم أحبار اليهود وعلماء النصارى ، وعليه أكثر المفسرين وأحبار اليهود كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وابن صوريا ، وزيد بن التابوه.
ما أنزلنا : فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم.
والبينات : هي الحجج الدالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم.
والهدى : الأمر باتباعه ، أو البينات والهدى واحد ، والجمع بينهما توكيد ، وهو ما أبان عن نبوّته وهدى إلى اتباعه.
أو البينات : الرجم والحدود وسائر الأحكام ، والهدى : أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته واتباعه.
وتتعلق من بمحذوف ، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى.
{ من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } : الضمير المنصوب في بيناه عائد على الموصول الذي هو ما أنزلنا ، وضمير الصلة محذوف ، أي ما أنزلناه.
وقرأ الجمهور : بيناه مطابقة لقوله : أنزلنا.
وقرأ طلحة بن مصرّف : بينه : جعله ضمير مفرد غائب ، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب.
والناس هنا : أهل الكتاب ، والكتاب التوراة والإِنجيل ، وقيل : الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب : القرآن.
والأولى والأظهر : عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس ، وفي الكتاب؛ وإن نزلت على سبب خاص ، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : « من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » ، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه.
وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم ، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن.
كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم.
وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال : لو بثثته لقطع هذا البلعوم.
وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله ، وإن لم يسأل عنه ، بل يجب التعليم والتبيين ، وإن لم يسألوا ، { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي ، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ : الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه ، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة ، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابراً في ذلك على المشقة والأذى ، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعداً كريماً وأحياء للعلم ، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة.
انتهى كلامه.
{ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } : هذه الجملة خبر إن.

واستحقوا هذا الأمر الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم ، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى ، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس ، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه ، فاستحقوا بذلك هذا العقاب.
وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد ، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح ، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً ، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه ، وهو قوله تعالى : { إن الذين يكتمون }.
ولذلك أتى صلة الذين فعلاً مضارعاً ليدل أيضاً على التجدد ، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان.
وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله ، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب.
وجاءت الجملة الثانية ، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين.
وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات ، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق ، لكان أولئك يلعنهم ، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير.
واللاعنون : كل من يتأتى منهم اللعن ، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين ، قاله الربيع بن أنس؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين ، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب ، إذا وضع في قبره وعذب فصاح ، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين؛ أو البهائم والحشرات ، قاله مجاهد وعكرمة ، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين ، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها ، لأن اللعن هو الطرد؛ أو الملائكة؛ قاله قتادة؛ أو المتلاعنون ، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود ، قاله ابن مسعود؛ والأظهر القول الأول.
ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل ، إذ صدرت منه اللعنة ، وهي من فعل من يعقل ، وذلك لجمعه بالواو والنون.
وفي قوله : { ويلعنهم اللاعنون } ، ضرب من البديع ، وهو التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً.
{ إلا الذين تابوا } : هذا استثناء متصل ، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام ، أو عن الكتمان إلى الإظهار.
{ وأصلحوا } ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها ، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله ، أو أصلحوا قومهم بالإِرشاد إلى الإِسلام بعد الإضلال.
{ وبينوا } : أي الحق الذي كتموه ، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها ، أو ما في التوراة والإِنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم ، أو ما أحدثوا من توبتهم ، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين.
{ فأولئك } : إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين.
{ أتوب عليهم } : أي أعطف عليهم ، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة.
{ وانا التواب الرحيم } : تقدم الكلام في هاتين الصفتين ، وختم بهما ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له ، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه.

وذكروا في هذه الآية من الأحكام جملة ، منها أن كتمان العلم حرام ، يعنون علم الشريعة لقوله : { ما أنزلنا من البينات } ، وبشرط أن يكون المعلم لا يخشى على نفسه ، وأن يكون متعيناً لذلك.
فإن لم يكن من أمور الشرائع ، فلا تحرج في كتمها.
روي عن عبد الله أنه قال : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « حدث الناس بما يفهمون » أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ قالوا : والمنصوص عليه من الشرائع والمستنبط منه في الحكم سواء ، وإن خشي على نفسه فلا يحرج عليه ، كما فعل أبو هريرة ، وإن لم يتعين عليه فكذلك ، ما لم يسأل فيتعين عليه ، ومنها : تحريم الأجرة على تعليم العلم ، وقد أجازه بعض العلماء.
ومنها : أن الكافر لا يجوز تعليمه القرآن حتى يسلم ، ولا تعليم الخصم حجة على خصمه ليقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلاً يتطرّف به إلى مكاره الرعية ، ولا تعليم الرخص إذا علم أنها تجعل طريقاً إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات.
ومنها : وجوب قبول خبر الواحد ، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب عليهم قبول قوله ، لأن قوله من البينات والهدى يعم المنصوص والمستنبط وجواز لعن من مات كافراً ، وقال بعض السلف : لا فائدة في لعن من مات أو جنّ من الكفار ، وجمهور العلماء على جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين.
وقال بعضهم بوجوبها ، وأما الكافر المعين فجمهور العلماء على أنه لا يجوز لعنه.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً بأعيانهم.
وقال ابن العربي : الصحيح عندي جواز لعنه.
وذكر ابن العربي الاتفاق على أنه لا يجوز لعن العاصي والمتجاهر بالكبائر من المسلمين.
وذكر بعض العلماء فيه خلافاً ، وبعضهم تفصيلاً ، فأجازه قبل إقامة الحدّ عليه.
ومنها : أن التوبة المعتبرة شرعاً أن يظهر التائب خلاف ما كان عليه في الأول ، فإن كان مرتداً ، فبالرجوع إلى الإسلام وإظهار شرائعه ، أو عاصياً ، فبالرجوع إلى العمل الصالح ومجانبة أهل الفساد.
وأما التوبة باللسان فقط ، أو عن ذنب واحد ، فليس ذلك بتوبة.
وقد تقدم الكلام في التوبة مشبعاً.
{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله } : لما ذكر حال من كتم العلم وحال من تاب ، ذكر حال من مات مصراً على الكفر ، وبالغ في اللعنة ، بأن جعلها مستعلية عليه ، وقد تجللته وغشيته ، فهو تحتها ، وهي عامة في كل من كان كذلك.
وقال أبو مسلم : هي مختصة بالذين يكتمون ما أنزل الله في الآية قبل ، وذلك أنه ذكر حال الكاتمين ، ثم ذكر حال التائبين ، ثم ذكر حال من مات من غير توبة منهم.

ولأنه لما ذكر أن الكاتمين ملعونون في الدنيا حال الحياة ، ذكر أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات.
والجملة من قوله : { وهم كفار } ، جملة حالية ، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها ، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً ، وهو الفراء ، وتبعه الزمخشري ، وبيان ذلك في علم النحو.
والجملة من قوله : { عليهم لعنة الله } خبر إن ، ولعنة الله مبتدأ ، خبره عليهم.
والجملة من قوله : { عليهم لعنة الله } خبر عن أولئك.
والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد بكونه خبراً لذي خبر ، فيرفع ما بعده على الفاعلية ، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد ، بخلاف الإعراب الأول ، فإنك أخبرت عنه بجمل.
وقرأ الجمهور : { والملائكة والناس أجمعين } ، بالجر عطفاً على اسم الله.
وقرأ الحسن : والملائكة والناس أجمعون ، بالرفع.
وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله ، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر ، وقدروه : أن لعنهم الله ، أو : أن يلعنهم الله.
وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع ، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير ، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل ، وأنه ينحل لأن والفعل.
والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل ، لأنه لا يراد به العلاج.
وكان المعنى : أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار ، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص ، لا على سبيل الحدوث.
ونظير ذلك : { ألا لعنة الله على الظالمين } ، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين ، وقولهم له ذكاء الحكماء.
ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل ، بل صار ذلك على معنى قولهم : له وجه وجه القمر ، وله شجاعة شجاعة الأسد ، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف ، لا على معنى أن يشجع الأسد.
ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر ، أعني لعنة الله بأن والفعل ، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع ، لأنه لا طالب له.
ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه ، ولذلك حمل سيبويه قولهم : هذا ضارب زيد غداً وعمراً ، على إضمار فعل : أي ويضرب عمراً ، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع.
ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت : هذا ضارب زيداً وتنون؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون ، فهي مسألة خلاف.
البصريون يجيزون ذلك فيقولون : عجبت من ضرب زيد عمراً.
والفراء يقول : لا يجوز ذلك ، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع.
والصحيح مذهب الفراء ، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع ، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل.

فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر ، لأنا نقول : لا نسلم أنه مصدر ينحل لأن والفعل ، فيكون عاملاً.
سلمنا ، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً.
سلمنا ، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه.
وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه.
أولاها : أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف ، التقدير : وتلعنهم الملائكة ، كما خرج سيبويه في : هذا ضارب زيد وعمراً : أنه على إضمار فعل : ويضرب عمراً.
الثاني : أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف ، أي لعنة الله ولعنة الملائكة ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو : { واسئل القرية } الثالث : أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى ، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم.
وظاهر قوله : والناس أجمعين العموم ، فقيل ذلك يكون في القيامة ، إذ يلعن بعضهم بعضاً ، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون ، فصار عاماً ، وبه قال أبو العالية.
وقيل : أراد بالناس من يعتد بلعنته ، وهم المؤمنون خاصة ، وبه قال ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل.
وقيل : الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون ، فيقولون : في الدنيا لعن الله الكافر ، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار ، بدأ تعالى بنفسه ، وناهيك بذلك طرداً وإبعاداً.
{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } ؟ من لعنه الله ، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس.
ألا ترى إلى قول بعض الصحابة : وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله؟ وكما روي عن أحمد ، أن ابنه سأله : هل يلعن؟ وذكر شخصاً معيناً.
فقال لابنه : يا بني ، هل رأيتني ألعن شيئاً قط؟ ثم قال : وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ قال فقلت : يا أبت ، وأين لعنة الله؟ قال : قال تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } ثم ثنى بالملائكة ، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم.
ثم ثلث بالناس ، لأنهم من جنسهم ، فهو شاق عليهم ، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق ، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.
{ خالدين فيها } : أي في اللعنة ، وهو الظاهر ، إذ لم يتقدم ما يعود عليها في اللفظ إلا اللعنة.
وقيل : يعود على النار ، أضمرت لدلالة المعنى عليها ، ولكثرة ما جاء في القرآن من قوله : خالدين فيها ، وهو عائد على النار ، ولدلالة اللعنة على النار ، لأن كل من لعنه الله فهو في النار.
{ لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } : سبق الكلام على مثل هاتين الجملتين تلو قوله { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف } ، الآية ، فأغنى عن إعادته هنا.
إلا أن الجملة من قوله : { لا يخفف } هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين ، أي غير مخفف عنهم العذاب.
فهي حال متداخلة ، أي حال من حال ، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم.

ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد ، أجاز أن تكون الجملة من قوله : { لا يخفف } ، حال من الضمير في عليهم ، ويجوز أن تكون : لا يخفف جملة استئنافية ، فلا موضع لها من الإعراب.
وفي آخر الجملة الثانية ، هناك : ولا ينصرون ، نفى عنهم النصر ، وهنا : ولا هم ينظرون ، نفي الأنظار ، وهو تأخير العذاب.
{ وإلهكم إله واحد } الآية.
روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش ، قالوا : يا محمد ، صف وانسب لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية.
وروي عنه أيضاً أنه كان في الكعبة ، وقيل حولها ، ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله ، فنزلت.
وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة ، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى.
ويحتمل أن يكون خطاباً لمن قال : صف لنا ربك وانسبه ، أو خطاباً لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار.
وإله : خبر عن إلهكم ، وواحد : صفته ، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله ، ومنع الاقتصار عليه ، فهو شبيه بالحال الموطئة ، كقولك : مررت بزيد رجلاً صالحاً.
والواحد المراد به نفي النظير ، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل شيء ، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء ، أو المتوحد في استحقاق العبادة.
أقوال أربعة أظهرها الأول.
تقول : فلان واحد في عصره ، أي لا نظير له ولا شبيه ، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد.
{ لا إله إلا هو } : توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره.
وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة ، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى ، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى ، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك ، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك ، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية.
وتقدم الكلام على إعراب الاسم بعد لا في قوله : { لا ريب فيه } ، والخبر محذوف ، وهو بدل من اسم لا على الموضع ، ولا يجوز أن يكون خبراً.
كما جاز ذلك في قولك : زيد ما العالم إلا هو ، لأن لا لا تعمل في المعارف ، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الاسم معها هو مرفوع بها ، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها ، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها ، وهو مذهب سيبويه ، فلا يجوز أيضاً ، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي.
وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم : إنه بدل من إله ، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل ، لا تقول : لا رجل إلا زيد.
والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك : لا رجل إلا زيد ، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلا زيد ، فالتقدير : لا رجل كائن أو موجود إلا زيد.

كما تقول : ما أحد يقوم إلا زيد ، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد ، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب ، فليس بدلاً على موضع اسم لا ، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا.
ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا ، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا ، أي من الضمير العائد على اسم لا.
قال بعضهم : وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل ، قال : ولا يجوز فيه النصب هاهنا ، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك ، والنصب على أن الاعتماد على الأول.
انتهى كلامه.
ولا فرق في المعنى بين : ما قام القوم إلا زيد ، وإلا زيداً ، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى.
إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب ، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً ، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء ، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية ، والنصب جائز ، ولا نعلم في ذلك خلافاً.
وقال في المنتخب : لما قال تعالى : { وإلهكم إله واحد } ، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم.
أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال : لا إله إلا هو.
فقوله : لا إله يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قال بعده : إلا الله ، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق.
ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف ، كما يقوله النحويون ، والتقدير : لا إله لنا ، أو في الوجود ، إلا الله ، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق ، لأنه إن كان المحذوف لنا ، كان توحيداً لإلهنا لا توحيداً للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله : { وإلهكم إله واحد } ، وبين قوله : { لا إله إلا هو فرق } ، فيكون ذلك تكراراً محضاً ، وأنه غير جائز.
وأما إن كان المحذوف في الوجود ، كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني.
أما لو لم يضمر ، كان نفياً لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى ، وإنما قدم النفي على الإثبات ، لغرض إثبات التوحيد ، ونفي الشركاء والأنداد.
انتهى الكلام.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ( ريّ الظمآن ) : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب.
فإن لا إله في موضع المبتدأ ، على قول سيبويه ، وعند غيره اسم لا ، وعلى التقديرين ، لا بد من خبر للمبتدأ ، أو للا ، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.

وأما قوله : إذا لم يضمر كان نفياً للماهية ، قلنا : نفي الماهية هو نفي الوجود ، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود ، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود ، وهذا مذهب أهل السنة ، خلافاً للمعتزلة ، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود ، والدليل يأبى ذلك.
انتهى كلامه ، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه ، لأن قوله : لا إله ، كلام ، فمن حيث هو كلام ، لا بد فيه من مسنده ومسند إليه.
فالمسند إليه هو إله ، والمسند هو الكون المطلق ، ولذلك ساغ حذفه ، كما ساغ بعد قولهم : لولا زيد لأكرمتك ، إذ تقديره : لولا زيد موجود ، لأنها جملة تعليقية ، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك ، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه ، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا ، إذا علم ، كثر حذفه عند الحجازيين ، ووجب حذفه عند التميميين.
وإذا كان الخبر كوناً مطلقاً ، كان معلوماً ، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم ، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود ، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها ، بخلاف الكون المقيد ، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه ، فلذلك لا يجوز حذفه نحو : لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد ، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم ، فيجوز حذفه.
{ الرحمن الرحيم } : ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له ، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة ، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه ، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته.
وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى ، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب ، ذكرت آية رحمة ، وإذا ذكرت آية رحمة ، ذكرت آية عذاب.
وتقدم شرح هاتين الصفتين ، فأغنى عن إعادته.
ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو ، وعلى إضمار مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم ، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله : وإلهكم ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر ، ولا إله إلا هو خبر ثان ، والرحمن الرحيم خبر ثالث.
ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة ، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد.
قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو ، لأن المضمر لا يوصف. انتهى.
وهو جائز على مذهب الكسائي ، إذا كانت الصفة للمدح ، وكان الضمير الغائب.
وأهمل ابن مالك القيد الأول ، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم ، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم »

{ إن في خلق السموات والأرض } : روي أنه لما نزل { وإلهكم } الآية ، قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل : { إن في خلق }.
ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية ، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالاً بالأثر على المؤثر ، وبالصنعة على الصانع ، وعرفهم طريق النظر ، وفيم ينظرون.
فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي فقال : { إن في خلق السموات }.
وخلقها : إيجادها واختراعها ، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم : خلق فلان حسن : أي خلقته وشكله.
وقيل : خلق هنا زائدة والتقدير : إن في السموات والأرض ، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء.
والآيات في المشاهد من السموات والأرض ، لا في الإرادة ، وهذا ضعيف ، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان ، ولأن الخلق ليس هو الإرادة ، بل الخلق ناشىء عن الإرادة.
قالوا : وجمع السموات لأنها أجناس ، كل سماء من جنس غير جنس الأحرى ، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب.
وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك ، وآياتها : ارتفاعها من غير عمد تحتها ، ولا علائق من فوقها ، ثم ما فيها من النيرين ، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة ، شارقة وغاربة ، نيرة وممحوّة ، وعظم أجرامها وارتفاعها ، حتى قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة ، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات ، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام ، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها ، وإنها سبعة أفلاك ، يجمعها الفلك المحيط.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أطت السماء وحق لها أن تئط ، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد » وصح أيضاً.
« أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة » وآية الأرض : بسطها ، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها ، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها ، واختصاص كل موضع منها بما هيىء له ، ومنافع نباتها ومضارها.
وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة ، وأن البحار محيطة بها ، والهواء محيط بالماء ، والنار محيطة بالهواء ، والأفلاك وراء ذلك.
وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف ( بالدقائق ) خلافاً عن الناس المتقدمين : هل الأرض واقفة أم متحركة؟ وفي كل قول من هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها ، أو لتحركها.
وكذلك تكلموا على جرم السموات ولونها وعظمها وأبراجها ، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية ، وتخاليط كثيرة.
والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم ، وليس في الشرع شيء من ذلك.
والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي

{ أحاط بكل شيء علماً } { وأحصى كل شيء عدداً }
{ واختلاف الليل والنهار } : اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا ، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة ، والطول والقصر ، أو تساويهما ، قاله ابن كيسان.
وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ، قال تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم.
فعلى القول الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور؛ وعلى القول الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار ، اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً.
{ والفلك التي تجري في البحر } : أول من عمل الفلك نوح ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وقال له جبريل عليه السلام : ضعها على جؤجؤ الطائر.
فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله أبو بكر بن العربي.
وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد.
ولو رميت في البحر حصاة لغرقت.
ووصفها بهذه الصفة من الجريان ، لأنها آيتها العظمى ، وجعل الصفة موصولاً ، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها.
وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد ، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر.
والألف واللام فيه للجنس ، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع ، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري.
{ بما ينفع الناس } : يحتمل أن تكون ما موصولة ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد ، فتكون الباء للحال.
ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما ، فتكون الباء للسبب.
واقتصر على ذكر النفع ، وإن كانت تجري بما يضر ، لأنه ذكرها في معرض الامتنان.
.
{ وما أنزل الله من السماء من ماء } : أي من جهة السماء.
من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل ، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما ، أي والذي أنزله الله من السماء.
ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله : { من السماء } ، بدل اشتمال ، فهو على نية تكرار العامل ، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى ، أو للتبعيض ، وتتعلق بإنزل.
ولا يقال : كيف تتعلق بإنزل من الأولى والثانية ، لأن معنييهما مختلفان.
{ فأحيا به الأرض بعد موتها } : عطف على صلة ما ، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات ، وبه عائد على الموصول.
وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات ، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره.
وهما كنايتان غريبتان ، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة ، وما لم يظهر فهو كامن فيها ، كأنه دفين فيها ، وهي له قبر.

{ وبث فيها من كل دابة } : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين ، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول ، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة.
لكن حذف هذا الضمير ، إذا كان مجروراً بالحرف ، له شرط ، وهو أن يدخل على الموصول ، أو الموصوف بالموصول ، أو المضاف إلى الموصول حرف جر ، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى ، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع ، وأن لا يكون محصوراً ، ولا في معنى المحصور ، وأن يكون متعيناً للربط.
وهذا الشرط مفقود هنا.
قال الزمخشري : فإن قلت قوله : { وبث فيها } ، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ، لأن قوله : { فأحيا به الأرض } عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، وكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة.
ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة.
انتهى كلامه ، ولا طائل تحته.
وكيفما قدّرت من تقديرية ، لزم أن يكون في قوله : { وبث فيها من كل دابة } ضمير يعود على الموصول ، سواء أعطفته على أنزل ، أو على فأحيا ، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول.
والذي يتخرّج على الآية ، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله : { وما أنزل } ، التقدير : وما بث فيها من كل دابة ، فيكون ذلك أعظم في الآيات ، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها ، وما أودع في كل شكل ، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة ، وذلك من الفيل إلى الذرة ، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر.
فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر ، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي ، غير أن عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب ، وإن كان البصريون لا يقيسونه ، فقد قاسه غيرهم ، قال بعض طي :
ما الذي دأبه احتياط وحزم . . .
وهواه أطاع مستويان
أي : والذي أطاع ، وقال حسان :
أمن يهجو رسول الله منكم . . .
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، وقال آخر :
فوالله ما نلتم وما نيل منكم . . .
بمعتدل وفق ولا متقارب
يريد : ما الذي نلتم وما نيل منكم ، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى :

{ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى : { والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى ، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه ، وقد جاء ذلك في أشعارهم ، قال :
وإن لساني شهدة يشتفى بها . . .
وهو على من صبه الله علقم
يريد : من صبه الله عليه ، وقال :
لعلّ الذي أصعدتني أن تردني . . .
إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
يريد : أصعدتني به.
فعلى هذا القول يكون { من كل دابة } في موضع المفعول ، ومن تبعيضية.
وعلى مذهب الأخفش ، يجوز أن تكون زائدة ، وكل دابة هو نفس المفعول ، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً ، أي : وبثه ، وتكون من حالية ، أي : كائناً من كل دابة ، فهي تبعيضية ، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك.
{ وتصريف الرّياح } في هبوبها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيماً ولواقح ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين.
وقيل : تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب.
وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنها ما يضر بها ، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها ، فإنها لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلوع وأغرقت.
وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها ، وفيما جاء فيها من الآثار ، وفيما قيل فيها من الشعر ، وليس ذلك من غرضنا.
والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي ، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الديار وتهلك الكفار ، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها ، وسوق السحاب إلى البلد الماحل.
واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعاً.
هذا ، وفي الشريعة وفي الأعراف : { يرسل الرياح } و { اشتدت به الرّيح } و { أرسلنا الرّياح لواقح } و { تذروه الرّياح } وفي الفرقان : { أرسل الرياح } و { من يرسل الرياح } وفي الروم : { ألله الذي يرسل الرياح } وفي فاطر : { أرسل الرياح } ، وفي الشورى : { إن يشأ يسكن الرياح } فأفرد حمزة إلا في الفرقان ، والكسائي إلا في الحجر ، وجمع نافع الجميع والعربيان إلا في إبراهيم والشورى ، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط.
وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح.
ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام.
وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : { وجرين بهم بريح طيبة } وفي الحديث : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » قال ابن عطية : لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة منقطعة ، فلذلك هي رياح ، وهو معنى ينشر ، وأفردت مع الفلك ، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة.
ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، انتهى.

ومن قرأ بالتوحيد ، فإنه يريد الجنس ، فهو كقراءة الجمع.
والرياح في موضع رفع ، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل ، أي وتصريف الرياح ، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله.
ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل ، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول ، أي وتصريف الله الرياح.
{ والسحاب المسخر } ، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان.
وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه.
ووصف السحاب هنا بالمسخر ، وهو مفرد لأنه اسم جنس ، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله : { أعجاز نخل منقعر } ، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع ، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة ، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً } قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض.
فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء ، وقيل : يغترفه من بحار الأرض ، وقيل : يخلقه الله فيه ، وللفلاسفة فيه أقوال.
وجعل مسخراً باعتبار إمساكه الماء ، إذ الماء ثقيل ، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه ، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة ، يأتي به الله في وقت الحاجة ، ويرده عند زوال الحاجة ، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى.
وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية.
{ بين السماء والأرض } : انتصاب بين على الظرف ، والعامل فيه المسخر ، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائناً بين ، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر.
{ لآيات لقوم يعقلون } : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها ، إذ لو كان يليها ، ما جاز دخولها ، وهي لام التوكيد ، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام.
ولقوم : في موضع الصفة ، أي كائنة لقوم.
والجملة صفة لقوم ، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً ، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى ، وانفراده بالإلهية ، وعظيم قدرته ، وباهر حكمته.
وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار.
ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من الله على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر.
لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية ، وإن جعلنا : وبث فيها ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف.

فبدأ أولاً بالخلق ، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف.
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق } { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } ودل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدّم السموات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.
ثم أعقب ذكر خلق السموات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السموات.
ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال : واختلاف الفلك ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالأحياء.
وجاء هذا المشترك مقدماً فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب.
وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولاً باختراع السموات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك.
ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح.
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار.
فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار.
والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك قال تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } ، ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليباً لحكم العقل ، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } : لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة ، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق.
واتخاذه الأنداد من دون الله ، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين.
والضد يظهر حسنه الضد ، وأنه مع وضوح هذه الآيات ، لم يشاهد هذا الضال شيئاً منها.
ولفظ الناس عام ، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان.
فالأنداد ، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم ، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي ، وإن خالف أمر الله ونهيه.
قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } والأنداد ، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام ، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله.

وقيل : المراد بالناس الخصوص.
فقيل : أهل الكتاب.
وقيل : عباد الأوثان ، والأولى القول الأول.
ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله : يحبونهم ، فأتى بضمير العقلاء ، وباستبعاد محبة الأصنام ، وبقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء.
ومن : مبتدأ موصول ، أو نكرة موصوفة ، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من ، ومن دون الله متعلق بيتخذ ، ودون هنا بمعنى غير ، وأصلها أن يكون ظرف مكان ، وهي نادرة التصرف إذ ذاك.
قال ابن عطية : ومن دون : لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام ، وتفسير دون بسوى ، أو بغير ، لا يطرد. انتهى.
تقول : فعلت هذا من دونك ، أي وأنت غائب.
وتقول : اتخذت منك صديقاً ، واتخذت من دونك صديقاً.
فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً.
وتقول : قام القوم دون زيد.
فالذي يفهم من هذا : أن المعنى أن زيداً لم يقم ، فدلالتها دلالة غير في هذا.
والذي ذكر النحويون ، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان ، وأنها قليلة التصرف نادرته.
وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء ، تقول : هذا ثوب دون أي رديء ، فإذا كانت ظرفاً ، دلت على انحطاط المكان ، فتقول : قعد زيد دونك ، فالمعنى : قعد زيد مكاناً دون مكانك ، أي منحطاً عن مكانك.
وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول : زيد دون عمرو في الشرف ، تريد المكانة لا المكان.
ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء ، ونحن نوضحه فنقول : إذا قلت : اتخذت من دونك صديقاً ، فأصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً ، فهو ظرف مجازي.
وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه ، لزم أن يكون غيراً ، لأنه ليس إياه ، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً ، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب ، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك.
وانتصب أنداداً هنا على المفعول بيتخذ ، وهي هنا متعدية إلى واحد ، نحو قولك : اتخذت منك صديقاً ، وهي افتعل من الأخذ ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ ، فأغنى عن إعادته.
قال ابن عباس والسّدي : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى.
وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الأوثان ، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل.
وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد : المجموع من الأوثان والرؤساء ، وتكون الآية عامة.
وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في : { يحبونهم } ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم.
والجملة من يحبونهم صفة للأنداد ، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ ، ويجوز أن تكون صفة لمن ، إذا جعلتها نكرة موصوفة.
وجاز ذلك ، لأن في يحبونهم ضمير أنداد ، أو ضمير من ، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى ، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ ، إذ أفرد الضمير ، وقد وقع الفصل بين الجملتين ، وهو شرط على مذهب الكوفيين.

{ كحب الله } ، الكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف ، على رأي سيبويه ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، على رأي جمهور المعربين ، التقدير : على الأول يحبونهموه ، أي الحب مشبهاً حب الله ، وعلى الثاني تقديره : حباً مثل حب الله ، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب ، والفاعل محذوف ، التقدير : كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين ، حب الأنداد وحب الله.
وقال ابن عطية : حب : مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر ، تقديره : كحبكم الله ، أو كحبهم ، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة.
انتهى كلامه.
فقوله : مضاف إلى الفاعل المضمر ، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل ، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم ، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره ، أو يعني بالمضمر المحذوف ، وهو موجود في اصطلاح النحويين ، أعني أن يسمى الحذف إضماراً.
وإنما قلت ذلك ، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف ، وإنما يكون مضمراً في المصدر.
وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس ، كالزيت والقمح ، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها.
وقال الزمخشري : كحب الله : كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه ، لأنه غير ملبس.
وقيل : كحبهم الله ، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه ، { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } انتهى كلامه.
واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي مسألة خلاف.
أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز : عجبت من ضرب زيد ، على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ثم يضاف إليه ، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب ، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل ، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول ، ويمتنع في الثاني ، وأصحها المنع مطلقاً.
وتقرير هذا كله في النحو.
وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين ، أو ضميرهم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والمبرد ، وقال : ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين ، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله ، لأنهم أشركوها مع الله تعالى ، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها.

وقرأ أبو رجاء العطاردي : يحبونهم ، بفتح الياء ، وهي لغة ، وفي المثل السائر : من حب طبّ ، وجاء مضارعه على يحب ، بكسر العين شذوذاً ، لأنه مضاعف متعد ، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو : مده يمده ، وجر يجره.
{ والذين آمنوا أشد حباً لله } : قال الراغب : الحب أصله من المحبة ، حببته : أصبت حبة قلبه ، وأصبته بحبة القلب ، وهي في اللفظ فعل ، وفي الحقيقة انفعال.
وإذا استعمل في الله ، فالمعنى : أصاب حبة قلب عبده ، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله. انتهى.
وقال عبد الجبار : حب العبد لله : تعظيمه والتمسك بطاعته ، وحب الله العبد : إرادة الثناء عليه وإثابته.
وأصل الحب في اللغة : اللزوم ، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن.
اه.
والمفضل عليه محذوف ، وهم المتخذون الأنداد ، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف.
فقيل : معنى أشد حباً لله : أي منهم لله ، لأن حبهم لله بواسطة ، قاله الحسن؛ أو منهم لأوثانهم ، قاله غيره.
ومقتضى التمييز بالأشدية ، إفراد المؤمنين له بالمحبة ، أو لمعرفتهم بموجب الحب ، أو لمحبتهم إياه بالغيب ، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة ، إذ قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } ، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء ، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه ، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضارّ النافع ، أو لكون حبه بالعقل والدليل ، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمر الله تعالى من عبده لا يشرك به شيئاً أن يقتحم النار ، فيبادرون إليه ، فتبرد عليهم النار ، فينادي مناد تحت العرش : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون ، قاله ان جبير.
تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد.
وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين ، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه.
والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب ، فلا تباين بين الأقوال على هذا ، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه ، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز.
وقال في المنتخب جمهور المتكلمين : على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته.
فإذا قلنا : يحب الله ، فمعناه : يحب طاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه.
وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا : نحب الله لذاته ، كما نحت اللذة لذاتها ، لأنه تعالى موصوف بالكمال ، والكمال محبوب لذاته.
انتهى كلامه.
وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً ، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد.
وأنت لو قلت : ما أحب زيداً ، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل ، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول ، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول ، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل.

لا تقول : ما أضرب زيداً ، على أن زيداً حل به الضرب.
وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز زيد أحب لعمرو ، لأنه يكون المعنى : أن زيداً هو المحبوب لعمرو.
فلما لم يجز ذلك ، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك ، فتقول : ما أشد حب زيد لعمرو ، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر.
على أنهم قد شذوا فقالوا : ما أحبه إليّ ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس ، ويعدل على الصحيح الفصيح.
وانتصاب حباً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره : حبهم لله أشد من حب أولئك لله ، أو لأندادهم ، على اختلاف القولين.
{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب } : قرأ نافع وابن عامر : وإذ ترون ، بالتاء من فوق أن القوة ، وأن بفتحهما.
وقرأ ابن عامر : إذ يرون ، بضم الياء.
وقرأ الباقون : بالفتح.
وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ولو ترى ، بالتاء من فوق إن القوة ، وإن بكسرهما.
وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو ، وابن كثير : ولو يرى ، بالياء من أسفل أن القوة ، وأن بفتحهما.
وقرأت طائفة : ولو يرى ، بالياء من أسفل إن القوة ، وإن بكسرهما.
ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فلا بد لها من جواب ، واختلف في تقديره.
فمنهم من قدره قبل أن القوة ، فيكون أن القوة معمولاً لذلك الجواب ، التقدير : على قراءة من قرأ بالتاء من فوق ، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعاً ، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له.
وقد كان صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا.
ومن قرأ بالكسر ، قدر الجواب : لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله : ولو ترى من هو؟ أهو السامع؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو يكون التقدير : لاستعظمت حالهم.
وأن القوة ، وإن كانت مكسورة ، فيها معنى التعليل مثل : لو قدمت على زيد لأحسن إليك ، إنه مكرم للضيفان.
وقال ابن عطية : تقدير ذلك : ولو ترى الذين ظلموا ، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له ، لأقروا أن القوة لله.
فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في أن انتهى.
وفيه مناقشة ، وهو قوله : في حال رؤيتهم العذاب.
وكان ينبغي أن يقدر بمرادف ، إذ وهو قوله : في وقت رؤيتهم العذاب ، وأيضاً فقدر جواب لو ، وهو غير مترتب على ما يلي لو ، لأن رؤية السامع ، أو النبي صلى الله عليه وسلم الظالمين في وقت رؤيتهم ، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً.

وصار نظير قولك : يا زيد لو ترى عمراً في وقت ضربه ، لأقر أن الله قادر عليه ، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد.
وعلى من قرأ : ولو يرى ، بالياء من أسفل وفتح ، أن يكون تقدير الجواب : لعلموا أن القوة لله جميعاً ، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا ، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو ، أي السامع ، كان التقدير : لعلم أن القوة لله جميعاً.
ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله { وأن الله شديد العذاب } ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ، وأبي العباس المبرد ، وتقديره : على قراءة ولو ترى بالخطاب ، لاستعظمت ما حل بهم ، وعلى قراءة ولو يرى للغائب ، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير : لاستعظم ذلك ، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل ، كان التقدير : لاستعظموا ما حل بهم.
وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام ، وكانت أن مفتوحة ، فتوجيه فتحها على تقديرين : أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء ، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً.
وأما من قرأ بالتاء ، فتكون أن مفعولاً من أجله ، أي لأن القوة لله جميعاً ، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى ، وقدر الجواب آخر الكلام ، فهي ، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة ، دالة على التعليل ، تقول : لا تهن زيداً إنه عالم ، ولا تكرم عمراً إنه جاهل ، فهي على معنى المفتوحة من التعليل ، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف.
وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين ، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو ، أي لقالوا إن القوة ، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف ، أي لاستعظموا ذلك ، ومفعول : ترى محذوف ، أي ولو رأى الظالمون حالهم.
وترى في قوله : ولو ترى ، يحتمل أن تكون بصرية ، وهو قول أبي علي ، ويحتمل أن تكون عرفانية.
وإذا جعلت أن معمولة ليرى ، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين ، سدت أن مسدهما ، على مذهب سيبويه.
والذين ظلموا ، إشارة إلى متخذي الأنداد ، ونبه على العلية ، أو يكون عاماً ، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار.
ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد.
وقراءة ابن عامر : إذ يرون ، مبنياً للمفعول ، هو من أريت المنقولة من رأيت ، بمعنى أبصرت.
ودخلت إذ ، وهي للظرف الماضي ، في أثناء هذه المستقبلات ، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه ، كما يقع الماضي المستقبل في قوله : { ونادى أصحاب النار } وكما جاء :
بقيت وفري وانحرفت عن العلى . . .
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
لأنه علق ذلك على مستقبل ، وهو قوله :
إن لم أشن على ابن هند غارة . . .
لم تخل يوماً من نهاب نفوس
وحذف جواب لو ، لفهم المعنى ، كثير في القرآن ، وفي لسان العرب.

قال تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال } وقال امرؤ القيس :
وجدك لو شيء أتانا رسوله . . .
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب ، ونحن نذكر من كلام المفسرين فيها.
قال عطاء : المعنى : ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة ، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة ، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعاً.
وقيل : لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه ، إذ يرون العذاب ، لأقروا بأن القوّة لله جميعاً ، أي لتبرأوا من الأنداد ، والثانية من رؤية العين.
وقال التبريزي : لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة ، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب.
وقال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم ، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين ، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم.
انتهى كلامه.
وحكى الراغب : أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين ، قال : وهو ضعيف. انتهى.
ويصير المعنى : ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا.
وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم. انتهى.
ولا فرق عندنا بين القراءتين ، أعني التاء والياء ، لأنهما متواترتان.
وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور.
والقوة هنا مصدر أريد به الجنس ، التقدير : أن القوى مستقرة لله جميعاً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة ، لأن العامل في القوة أن ، وأن لا تعمل في الأحوال.
وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت : إن الله قوي ، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف.
وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى ، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك ، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.
{ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت العذاب بهم الأسباب } : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم ، معتقدين أنهم سبب نجاتهم ، لم تغن شيئاً ، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم ، تبرأوا منهم.
وإذ : بدل من : إذ يرون العذاب.
وقيل : معمولة لقوله شديد العذاب.
وقيل : لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا ، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم ، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج ، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي؛ أو عام في كل متبوع ، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ.

وقراءة الجمهور : اتبعوا الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل.
وقراءة مجاهد بالعكس.
فعلى قراءة الجمهور : تبرؤ المتبوعون بالندم على الكفر ، أو بالعجز عن الدفع ، أو بالقول : إنا لم نضل هؤلاء ، بل كفروا بإرادتهم وتعلق العقاب عليهم بكفرهم ، ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على من أضلهم.
أقوال ثلاثة ، الأخير أظهرها ، وهو أن يكون التبرؤ بالقول.
قال تعالى : { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } وتبرؤ التابعين هو انفصالهم عن متبوعيهم والندم على عبادتهم ، إذ لم يجد عنهم يوم القيامة شيئاً ، ولم يدفع عنهم من عذاب الله ، ورأوا العذاب الظاهر.
إن هذه الجملة ، هي وما بعدها ، قد عطفتا على تبرأ ، فهما داخلان في حيز الظرف.
وقيل : الواو للحال فيهما ، والعامل تبرأ ، أي تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب بهم ، ولأنها حالة يزداد فيها الخوف والتنصل ممن كان سبباً في العذاب.
وقيل : الواو للحال في : ورأوا العذاب ، وللعطف في : وتقطعت على تبرأ ، وهو اختيار الزمخشري.
{ وتقطعت بهم الأسباب } : كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب ، ولا مخلص ، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله ، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به.
وللمفسرين في الأسباب أقوال : الوصلات عن قتادة ، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج ، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي ، أو العهود عن مجاهد وأبي روق ، أو وصلات الكفر ، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس ، أو أسباب النجاة ، أو المودّات.
والظاهر دخول الجميع في الأسباب ، لأنه لفظ عام.
وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعاً كقوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } ، وهو في القرآن كثير ، وهو في هذه الآية في موضعين.
أحدهما : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : اتبعوا ، إذ لو جاء اتبعوهم ، لفات هذا النوع من البديع.
والموضع الثاني : { ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب :
في تاجه قمر في ثوبه بشر . . .
في درعه أسد تدمي أظافره
وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد :
فالنحر مرمرة والنشر عنبرة . . .
والثغر جوهرة والريق معسول
{ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا } ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولاً منهم.
ولو : هنا للتمني.
قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : { فنتبرأ } ، كما جاء جواب ليت في قوله : { يا ليتني كنت معهم فأفوز } ، وكما جاء في قول الشاعر :

فلو نبش المقابر عن كليب . . .
فتخبر بالذنائب أي زير
والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله :
بيوم الشعثمين لقر عيناً . . .
وكيف لقاء من تحت القبور
وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله :
يا ليت أنا ضمنا سفينه . . .
حتى يعود البحر كينونه
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء ، انجزم الفعل هذا الموضع ، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً ، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء.
والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني ، ليس أصلها ، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت.
والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء ، إنما هو لتضمنها معنى الشرط ، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها ، على اختلاف القولين ، فصارت لو فرع فرع ، فضعف ذلك فيها.
والكاف في كما : في موضع نصب ، إما نعتاً لمصدر محذوف ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين ، في غير ما موضع من هذا الكتاب.
وما في كما : مصدرية ، التقدير : تبرأوا مثل تبرئهم ، أو فنتبرأه ، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم.
وقال ابن عطية : الكاف من قوله : كما في موضع نصب على النعت ، إما لمصدر ، أو لحال ، تقديرها : متبرئين.
كما انتهى كلامه.
أما قوله على النعت ، إما لمصدر ، فهو كلام واضح ، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا.
وأما قوله : أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما ، فغير واضح ، لأنا لو صرحنا بهذه الحال ، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين ، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل ، لا من صفات الفاعل.
وإذا كان كذلك ، لم ينتصب على النعت للحال ، لأن الحال هنا من صفات الفاعل ، ولا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة ، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها.
أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة ، فلا حاجة إلى ذلك.
وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف ، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً.
فلو صرح بهذه الحال ، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف ، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها ، مثال ذلك : هم محسنون إليّ كما أحسنوا إلى زيد.
فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين ، إنما هو من صفات الإحسان ، التقدير : على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد.

{ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } : الكاف عند بعضهم في موضع رفع ، وقدروه الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، وهو ضعيف ، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ ، أو كلاهما على خلاف الأصل.
والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه ، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال ، { يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف ، فيكون في موضع نصب.
وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : كذلك ، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض.
والأجود تشبيه الآراءة بالآراءة ، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة ، فتكون حسرات منصوباً على الحال ، وأن تكون قلبية ، فتكون مفعولاً ثالثاً ، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف ، أي على تفريطهم.
وتحسر : يتعدى بعلى ، تقول : تحسرت على كذا ، فعلى هنا متعلقة بقوله : حسرات.
ويحتمل أن تكون في موضع الصفة ، فالعامل محذوف ، أي حسرات كائنة عليهم ، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم.
وأعمالهم ، قيل : هي الأعمال التي صنعوها ، وأضيفت إليهم من حيث عملوها ، وأنهم مأخوذون بها.
وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فوجب بهم بها النار.
وقال ابن مسعود والسدّي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها ، ففاتتهم الجنة ، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها.
قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله تعالى ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك حين يندمون.
وهذا معنى قول بعضهم ، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم ، لأن الكافر لا يثاب مع كفره.
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم ، " وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين ، وسئل : هل ذلك نافعه؟ قال : «لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ، ومنه قوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم.
والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم ، وهي الكفر والمعاصي.
وكانت حسرة عليهم ، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم ، وتيقنوا الجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها ، لو شاء الله.
{ وما هم بخارجين من النار } : هذا يدل على دخول النار ، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول.
ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم ، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع ، وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد.
وقال الزمخشري : هم بمنزلته في قوله :
هم يفرشون اللبد كل طمرّه . . .
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص.
انتهى كلامه ، وفيه دسيسة اعتزال ، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص ، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة ، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها.

وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، إلى آخر كلامه ، فهو غير مسلم ، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين.
لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد ، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق ، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق ، فلا إنما يفهم ذلك ، أعني الاختصاص ، بنفي الخروج من النار ، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج ، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب؟ فإذا قلت : زيد منطلق ، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص ، ولا شيء من المشاركة ، فكذلك النفي ، وكونه قابلاً للخصومة والاشتراك ، يدل على ذلك.
ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره ، وزيد منطلق مع غيره؟.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة.
إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملاً لعبادته ، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها ، وتقربهم بالأصنام عليها.
وصرّح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر.
ثم ذكر أن من تبرع بخير ، فإن الله شاكر لفعله ، عليم بنيته ، لما كان التطوّع يشتمل على فعل ونية ، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين.
ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه ، لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده.
ثم استثنى من تاب وأصلح ، وبين ما كتم.
ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح ، لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد ، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي.
وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحاً بيناً ما كان عليه من الضلال ، وأنه أقلع عن ذلك ، وسلك نقيض فعله الأول ، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولاً من كتمان الحق
وبضدها تتبين الأشياء
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين ، أنه يتوب عليهم ، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب ، وإن كان أعظم الذنوب ، إذا تاب العبد منه.
ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم ، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل.
ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج ، وغير ذلك من أعمال البر ، وحال من ارتكب المعاصي ، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله.
ذكر حال من وافى على الكفر ، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس ، وأنهم خالدون في اللعنة ، غير مخفف عنهم العذاب ، ولا مرجئون إلى وقت.
ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي آلهين من دون الله }

وفي الحديث : « أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيراً »
أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ، ولا له مثيل في صفاته.
ثم حصر الإلهية فيه ، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب ، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية.
ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية.
فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية ، والجرم الكثيف الأرضي ، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة ، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي ، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشىء ذلك عما أودع في العالم السفلي ، وما يكون مشتركاً بين العالمين ، من إنزال الماء ، وتشقق الأرض بالنبات ، وانتشار العالم فيها.
ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية ، وأشياء في الجرم الأرضي ، ذكر شيئاً مما هو بين الجرمين ، وهو تصريف الرّياح والسحاب ، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية.
ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل ، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية ، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعاً أنه لا يمكنه اقتدار على شيء مما تضمنته هذه الآيات ، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية ، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير ، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل ، وغشيته ظلمات الجهل.
ثم ذكر تعالى ، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة ، أن من الناس متخذي أنداد ، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة الله ، فهم يسوّون بين الخالق والمخلوق في المحبة ، { أفمن يخلق كمن لا يخلق } ثم ذكر أن من المؤمنين أشدّ حبًّا لله من هؤلاء لأصناهم.
ثم خاطب من خاطب بقوله : { ولو يرى الذين ظلموا } ، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد ، وهو العذاب ، الحال بهم ، أي لرأيت أمراً عظيماً.
ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم ، لأن جميع القوى والقدر هي لله تعالى.
ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم ، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرأوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع ، فهو تمني مستحيل ، لأن الله تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا.
ثم ذكر تعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب ، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم ، ليتضاعف بذلك الألم.
ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي.
نعوذ بالله من سطا نقماته ، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

الحلال : مقابل الحرام ومقابل المحرم.
يقال شيء حلال : أي سائغ الانتفاع به ، وشيء حرام : ممنوع منه ، ورجل حلال : أي ليس بمحرم.
قيل : وسمي حلالاً لانحلال عقد المنع منه ، والفعل منه حتى يحل ، بكسر الحاء في المضارع ، على قياس الفعل المضاعف اللازم.
ويقال : هذا حل ، أي حلال ، ويقال : حل بل على سبيل التوكيد ، وحل بالمكان : نزل به ، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها ، وحل عليه الدين : حان وقت أدائه.
الخطوة ، بضم الخاء : ما بين قدمي الماشي من الأرض ، والخطوة ، بفتحها : المرة من المصدر.
يقال : خطا يخط خطواً : مشى.
ويقال : هو واسع الخطو.
فالخطوة بالضم ، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها ، كالغرفة والقبضة ، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض ، وفي جمعها بالألف والياء لغي ثلاث : إسكان الطاء كحالها في المفرد ، وهي لغة تميم وناس من قيس ، وضمة الطاء اتباعاً لضمة الخاء ، وفتح الطاء.
ويجمع تكسيراً على خطى ، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم.
الفحشاء : مصدر كالبأساء ، وهو فعلاء من الفحش ، وهو قبح المنظر ، ومنه قول امرىء القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش . . .
إذا هي نصته ولا بمعطل
ثم توسع فيه حتى صار يستعمل فيما يستقبح من المعاني.
ألفى : وجد ، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف ، ومن منع جعل الثاني حالاً ، والأصح كونه مفعولاً لمجيئه معرفة ، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل.
النعيق : دعاء الراعي وتصويته بالغنم ، قال الشاعر :
فانعق بضأنك يا جرير فإنما . . .
منتك نفسك في الخلاء ضلالاً
ويقال : نعق المؤذن ، ويقال : نعق يتعق نعيقاً ونعاقاً ونعقاً ، وأما نغق الغراب ، فبالغين المعجمة.
وقيل أيضاً : يقال بالمهملة في الغراب.
النداء : مصدر نادى ، كالقتال مصدر قاتل ، وهو بكسر النون ، وقد يضم.
قيل : وهو مرادف للدعاء ، وقيل : مختص بالجهر ، وقيل : بالبعد ، وقيل : بغير المعين.
ويقال : فلان أندى صوتاً من فلان ، أي أقوى وأشد وأبعد مذهباً.
اللحم : معروف.
يقال : لحم الرجل لحامه ، فهو لحيم : ضخم.
ولحم يلحم ، فهو لحم : اشتاق إلى اللحم.
ولحم الناس يلحمهم : أطعمهم اللحم ، فهو لاحم.
وألحم ، فهو ملحم : كثر عنده اللحم.
الخنزير : حيوان معروف ، ونونه أصلية ، فهو فعليل.
وزعم بعضهم أن نونه زائدة ، وأنه مشتق من خزر العين ، لأنه كذلك ينظر.
يقال : تخازر الرجل : ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها ، ويقال : رجل أخزر : بين الخزر.
وقيل : هو النظر بمؤخر العين ، فيكون كالتشوش.
الإهلال : رفع الصوت ، ومنه الإهلال بالتلبية ، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته ، ويقال : أهل الهلال واستهل ، ويقال : أهل بكذا : رفع صوته.
قال ابن أحمر :
يهل بالفدفد ركباننا . . .
كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة :
أو درة صدفية غوّاصها . . .
بهج متى تره يهل ويسجد

ومنه : إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته.
وقال الشاعر :
يضحك الذئب لقتلي هذيل . . .
وترى الذئب لها يستهل
البطن : معروف ، وجمعه على فعول قياس ، ويجمع أيضاً على بطنان ، ويقال : بطن الأمر يبطن ، إذا خفي.
وبطن الرجل ، فهو بطين : كبر بطنه.
والبطنة : امتلاء البطن بالطعام.
ويقال : البطنة تذهب الفطنة.
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } : هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله : يا أيها الناس ، ولفظه عام.
قال الحسن : نزلت في كل من حرم على نفسه شيئاً لم يحرمه الله عليه.
وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما : أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب ، قاله النقاش.
وقيل : في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة.
قيل : وبني مدلج ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام.
فإن صح هذا ، كان السبب خاصاً واللفظ عاماً ، والعبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب.
ومناسبة هذا لما قبله ، أنه لما بين التوحيد ودلائله ، وما للتائبين والعاصين ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن ، ليدل أن الكفر لا يؤثر في قطع الأنعام.
وقال المروزي : لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة ، أمرهم بأكل الحلال ، لأن مدار الطاعة عليه.
كلوا : أمر إباحة وتسويغ ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء ، فهو المتصرف فيها على ما يريد.
مما في الأرض ، من : تبعيضية ، وما : موصولة ، ومن : في موضع المفعول ، نحو : أكلت من الرغيف ، وحلالاً : حال من الضمير المتسقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليها.
وقال مكي بن أبي طالب : حلالاً : نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً ، قال ابن عطية : وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده ، وبعده أنه مما حذف الموصوف ، وصفته غير خاصة ، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول.
وإذا كانت الصفة هكذا ، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه.
وأجاز قوم أن ينتصب حلالاً على أنه مفعول بكلوا ، وبه ابتدأ الزمخشري.
ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا ، أو متعلقة بمحذوف ، فيكون حالاً ، والتقدير : كلوا حلالاً مما في الأرض.
فلما قدمت الصفة صارت حالاً ، فتعلقت بمحذوف ، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف.
وقال ابن عطية : مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا ، تأمل. انتهى.
طيباً : انتصب صفة لقوله : حلالاً ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد ، وهو قول مالك وغيره ، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ ، وهو قول الشافعي وغيره.
ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث.
وقيل : انتصب طيباً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي أكلاً طيباً ، وهو خلاف الظاهر.
وقال ابن عطية : ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره : مستطيبين ، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى.

أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير ، لأن الضمير جمع ، وطيب مفرد ، وليس طيب بمصدر ، فيقال : لا يلزم المطابقة.
وأما المعنى : فلأن طيباً مغاير لمعنى مستطيبين ، لأن الطيب من صفات المأكول ، والمستطيب من صفات الآكل.
تقول : طاب لزيد الطعام ، ولا تقول : طاب زيد الطعام ، في معنى استطابه.
وقال الزمخشري في قوله طيباً : طاهراً من كل شبهة.
وقال السجاوندي : حلالاً مطلق الشرع ، طيباً مستلذ الطبع.
وقال في المنتخب ما ملخصه : الحلال : الذي انحلت عنه عقدة الخطر ، إما لكونه حراماً لجنسه كالميتة ، وإما لا لجنسه كملك الغير ، إذ لم يأذن في أكله.
والطيب لغة الطاهر ، والحلال يوصف بأنه طيب ، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث ، والأصل في الطيب ما يستلذ ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ، لأن النجس تكرهه النفس ، والحرام لا يستلذ ، لأن الشرع منع منه. انتهى.
والثابت في اللغة : أن الطيب هو الطاهر من الدنس.
قال :
والطيبون معاقد الأزر . . .
وقال آخر
ولي الأصل الذي في مثله . . .
يصلح الآبر زرع المؤتبر
طيبوا الباءة سهل ولهم . . .
سبل إن شئت في وحش وعر
وقال الحسن : الحلال الطيب : هو ما لا يُسأل عنه يوم القيامة.
وقال ابن عباس : الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة.
وقيل : الحلال ما يجوزه المفتي ، والطيب ما يشهد له القلب بالحل.
وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية ، لأن الأشياء ملك الله تعالى ، فلا بد من إذنه فيما يتناول منها ، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر.
وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض ، فهو مأذون في أكله.
أما تملكه والتصدق به ، أو ادخاره ، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل ، فلا تدل عليه الآية.
فإما أن يجوز ذلك بنص آخر ، أو إجماع عند من لا يرى القياس ، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس.
{ ولا تتبعوا خطوات الشيطان } وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص وعباس ، عن أبي عمرو والبرجمي ، عن أبي بكر : بضم الخاء والطاء وبالواو.
وقرأ باقي السبعة : بضم الخاء وإسكان الطاء وبالواو.
وقرأ أبو السمال : خطوات ، بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو.
وقد تقدم أن هذه لغى ثلاث في جمع خطوة.
ونقل ابن عطية والسجاوندي أن أبا السمال قرأ : خطوات ، بفتح الخاء والطاء وبالواو ، جمع خطوة ، وهي المرة من الخطو.
وقرأ علي وقتادة والأعمش وسلام : خطؤات ، بضم الخاء والطاء والهمزة ، واختلف في توجيه هذه القراءة فقيل : الهمزة أصل ، وهو من الخطأ جمع خطأة ، إن كان سمع ، وإلا فتقديراً.
وممن قال إنه من الخطأ أبو الحسن الأخفش ، وفسره مجاهد خطاياه ، وتفسيره يحتمل أن يكون فسر بالمرادف ، أو فسر بالمعنى.

وقيل : هو جمع خطوة ، لكنه توهم ضمة الطاء أنها على الواو فهمز ، لأن مثل ذلك قد يهمز.
قال معناه الزمخشري : والنهي عن اتباع خطوات الشيطان كناية عن ترك الاقتداء به ، وعن اتباع ما سنّ من المعاصي.
يقال : اتبع زيد خطوات عمرو ووطىء على عقبيه ، إذ سلك مسلكه في أحواله.
قال ابن عباس : خطواته أعماله.
وقال مجاهد : خطاياه.
وقال السدي : طاعته.
وقال أبو مجلز : النذور في المعاصي.
وقيل : ما ينقلهم إليه من معصية إلى معصية ، حتى يستوعبوا جميع المعاصي ، مأخوذ من خطو القدم من مكان إلى مكان.
وقال الزجاج وابن قتيبة : طرقه.
وقال أبو عبيدة : محقرات الذنوب.
وقال المؤرّج آثاره وقال عطاء : زلاته ، وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل.
والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله ، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب ، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام ، لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة ، فيزين بذلك ما لا يحل ، فزجر الله عن ذلك.
والشيطان هنا إبليس ، والنهي عنا عن اتباع كل فرد فرد من المعاصي ، لا أن ذلك يفيد الجمع ، فلا يكون نهياً عن المفرد.
{ إنه لكم عدوّ مبين } : تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان ، لأن من ظهرت عداوته واستبانت ، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفرّ منه ، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه.
{ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } : لما أخبر أنه عدوّ ، أخذ يذكر ثمرة العداوة وما نشأ عنها ، وهو أمره بما ذكر.
وقد تقدم الكلام في إنما في قوله : { إنما نحن مصلحون } وفي الخلاف فيها ، أتفيد الحصر أم لا؟ وأمر الشيطان ، إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور ، وإما بوسوسته وإغوائه.
فإذا أطيع ، نفذ أمره بالسوء ، أي بما يسوء في العقبى.
وقال ابن عباس : السوء ما لا حد له.
والفحشاء ، قال السدي : هي الزنا.
وقال ابن عباس : كل ما بلغ حداً من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ.
وقيل : ما تفاحش ذكره.
وقيل : ما قبح قولاً أو فعلاً.
وقال طاوس : ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
وقال عطاء : هي البخل.
{ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ، قال الطبري : يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوه ، وجعلوه شرعاً.
وقال الزمخشري : هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله مما لا يجوز عليه. انتهى.
قيل : وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل من دين الله ، فيدخل في ذلك الرأي والأقيسة والشبهية والاستحسان.
قالوا : وفي هذه الآية إشارة إلى ذمّ من قلد الجاهل واتبع حكمه.

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف كان الشيطان آمراً مع قوله : { ليس لك عليهم سلطان } ؟ قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول : أمرتني نفسي بكذا ، وتحته رمز إلى أنكم فيه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ، ولذلك قال : { ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام } { ولأمرهن فليغيرنّ خلق الله }.
وقال الله تعالى : { إن النفس لأمّارة بالسوء } لما كان الإنسان يطعمها ويعطيها ما اشتهت.
انتهى كلامه.
{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } : الضمير في لهم عائد على كفار العرب ، لأن هذا كان وصفهم ، وهو الاقتداء بآبائهم ، ولذلك قالوا لأبي طالب ، حين احتضر : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ذكروه بدين أبيه ومذهبه.
وقال ابن عباس : نزلت في اليهود ، فعلى هذا يكون الضمير عائداً على غير مذكور ، وهم أشد الناس اتباعاً لأسلافهم.
وقيل : هو عائد على من ، من قوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } ، وهو بعيد.
وقال الطبري : هو عائد على الناس من قوله : { يا أيها الناس كلوا } وهذا هو الظاهر ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، وحكمته أنهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجب من فعله ، حيث دعي إلى اتباع شريعة الله التي هي الهدى والنور.
فأجاب باتباع شريعة أبيه ، وكأنه يقال : هل رأيتم أسخف رأياً وأعمى بصيرة ممن دعى إلى اتباع القرآن المنزل من عند الله ، فرد ذلك وأضرب عنه؟ وأثبت أنه يتبع ما وجد عليه أباه؟ وفي هذا دلالة على ذم التقليد ، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة.
وحكى ابن عطية أن الإجماع منعقد على إبطاله في العقائد.
وفي الآية دليل على أن ما كان عليه آباؤهم هو مخالف لما أنزل الله ، فاتباع أبنائهم لآبائهم تقليد في ضلال.
وفي هذا دليل على أن دين الله هو اتباع ما أنزل الله ، لأنهم لم يؤمروا إلا به.
والمراد بقوله : وإذا ، التكرار.
وبنى قيل لما لم يسم فاعله ، لأنه أخصر ، لأنه لو ذكر الآمرون لطال الكلام ، لأن الآمر بذلك هو الرسول ومن يتبعه من المؤمنين.
وفي قوله : { ما أنزل الله } إعلام بتعظيم ما أمروهم باتباعه أن نسب إنزاله إلى الله الذي هو المشرّع للشرائع ، فكان ينبغي أن يتلقى بالقبول ولا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضلالة.
وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع ، وأظهر ذلك غيره.
وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة ، التقدير : لا نتبع ما أنزل الله ، { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }.
ولا يجوز أن يعطف على قوله : { اتبعوا ما أنزل الله }.
وعليه متعلق بقوله : ألفينا ، وليست هنا متعدية إلى اثنين ، لأنها بمعنى وجد ، التي بمعنى أصاب.
{ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم ، وأما الواو بعد الهمزة ، فقال الزمخشري : الواو للحال ، ومعناه : أيتبعونهم ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب؟ وقال ابن عطية : الواو لعطف جملة كلام على جملة ، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزام هذا ، أي هذه حال آبائهم.

انتهى كلامه.
وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال ، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف ، لأن واو الحال ليست للعطف.
والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق ، هي جملة شرطية.
فإذا قال : اضرب زيداً ولو أحسن إليك ، المعنى : وإن أحسن ، وكذلك : اعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ ردّوا السائل ولو بشق تمرة ، المعنى فيها : وإن.
وتجيء لو هنا تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل ، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال ، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل.
ولذلك لا يجوز : اضرب زيداً ولو أساء إليك ، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجاً ، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار.
فإذا تقرر هذا ، فالواو في ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة ، والعطف على الحال حال ، فصح أن يقال : إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة.
والجملة المعطوفة على الحال حال ، وصح أن يقال : إنها للعطف من حيث ذلك العطف ، والمعنى : والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كلّ حال ، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها ، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية.
ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو ، إذا كانت تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها.
وإن كانت الجملة الواقعة حالاً فيها ضمير يعود على ذي الحال ، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن بتقييد الجملة السابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال.
فهما معنيان مختلفان ، والفرق ظاهر بين : أكرم زيداً لو جفاك ، أي إن جفاك ، وبين أكرم زيداً ولو جفاك.
وانتصاب شيئاً على وجهين : أحدهما : على المفعول به فعم جميع المعقولات ، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء.
والثاني : أن يكون منصوباً على المصدر ، أي شيئاً من العقل ، وإذا انتفى ، انتفى سائر العقول ، وقدم نفي العقل ، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات ، وأخر نفي الهداية ، لأن ذلك مترتب على نفي العقل ، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل ، وعدم العقل عدم لها.
{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } : لما ذكر تعالى أن هؤلاء الكفار ، إذا أمروا باتباع ما أنزل الله ، أعرضوا عن ذلك ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشأوا عليه ووجدوا عليه آباءهم ، ولم يتدبروا ما يقال لهم ، وصموا عن سماع الحق ، وخرسوا عن النطق به ، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي.

ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهاً على حالة الكافر في تقليده أباه ومحقراً نفسه ، إذ صار هو في رتبة البهيمة ، أو في رتبة داعيها ، على الخلاف الذي سيأتي في هذا التشبيه.
وهذه الآية لا بد في فهم معناها من تقدير محذوف.
واختلفوا ، فمنهم من قال : المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق.
ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به.
فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق ، قيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم ، كمثل الرّعاة يكلمون البهم ، والبهم لا تعقل شيئاً.
وقيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء ، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء.
قال الزمخشري : وقد ذكر هذا القول ، إلا أن قوله : { إلاّ دعاء ونداء } لا يساعد عليه ، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً.
انتهى كلامه.
ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فكذلك مدعو الكافر من الصنم ، والصنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول.
ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق الدعاء ، لا في خصوصيات المدعو ، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة ، لا في خصوصيات المنعوق به.
وقيل في هذا القول ، أعني قول من قال التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها ، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال ، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا ، يجيبه ولا ينفعه.
فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه ، قاله ابن زيد.
فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما ، وهو المنعوق به.
وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق ، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره : بما لا يسمع منه ، وليس فيه شروط جواز الحذف ، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره.
واختلف ما يتعلقان به ، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق ، والثاني من تعلق بيسمع.
وقد جاء في كلامهم مثل هذا ، قال : وقيل المراد بالذين كفروا : المتبوعون لا التابعون ، ومعناه : مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم ، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران ، كمثل الناعق بالغنم.

وأمّا القول على أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، وهو البهائم التي لا تعقل مثل : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والحمير ، وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة والحسن والربيع والسدي.
وأكثر المفسرين اختلفوا في تقديره مصحح هذا التشبيه ، فقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في دعاتهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه ، كمثل بهائم الذي ينعق ، فهو على حذف قيد في الأول ، وحذف مضاف من الثاني.
وقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت.
فيراد بالذي ينعق ، الذي ينعق به ، فيكون هذا من المقلوب عندهم.
قالوا : كما تقول : دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي.
وكقولهم : عرض الحوض على الناقة ، وأوردوا مما ذكروا أنه مقلوب جملة.
وذهب إلى هذا التفسير أبو عبيدة والفراء وجماعة ، وينبغي أن ينزه القرآن عنه ، لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر ، أو إن جاء في الكلام ، فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه.
وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، فيكون قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا } هو على تقدير : ومثل داعي الذين كفروا.
فهو على حذف مضاف ، فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق ، ولا بالمنعوق ، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم ، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دويّ الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر ، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم شيئاً آخر.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بما لا يسمع الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير ، من غير فهم للحروف.
وأما على القول بأن المثل مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به ، فهو الذي اختاره سيبويه في الآية.
إن المعنى : مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا ، كمثل الناعق والمنعوق به.
وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل : هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وقيل : هو تفسير إعراب ، وهو أن في الكلام حذفين : حذف من الأول ، وهو حذف داعيهم ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثاني ، وهو حذف المنعوق به ، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً ، ولا يعرفون ما وراءها.
وفي هذا الوجه حذف كثير ، إذ فيه حذف معطوفين ، إذ التقدير الصناعي : ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به.

وذهب إلى تقرير هذا الوجه جماعة من أصحابنا ، منهم الأستاذ أبو بكر بن طاهر وتلميذه أبو الحسن بن خروف ، والأستاذ أبو علي الشلوبين وقالوا : إن العرب تستحسنه ، وإنه من بديع كلامها ، ومثاله قوله تعالى : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء } التقدير : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج بيضاء ، فحذف تدخل لدلالة تخرج ، وحذف وأخرجها لدلالة وأدخل ، قالوا : ومثل ذلك قول الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك فترة . . .
كما انتفض العصفور بلله القطر
لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين يبله القطر ، لكونهما حركة وسكوناً ، فهما ضدان ، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر ، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض ، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه.
وهذه الأقوال كلها في التشبيه ، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به.
وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة ، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر فيه إلى المعنى.
وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب ، قال الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق ، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به.
وعلى هذا { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } وقوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية.
وقد بقي شيء من الكلام عليها ، فنقول : ومثل الذين مبتدأ ، خبره كمثل ، والكاف للتشبيه.
شبه الصفة بالصفة ، أي صفتهم كصفة الذي ينعق.
ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة ، فقوله ليس بشيء ، لأن الصفة ليست عين الصفة ، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه.
بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها ، لأن به تصحيح المعنى.
والذي ينعق ، لا يراد به مفرد ، بل المراد الجنس.
وتقدّم أن المراد : كالناعق بالبهائم ، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا ، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ ، أو كالمنعوق به ، فيكون من باب القلب.
وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه ، فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه.
وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن ، لأنها من أبله الحيوان ، فهي تحمق راعيها.
وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين.
وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف ، يوم هوازن : راعي ضأن والله ، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء ، فلما لقيه دريد قال : أراك سقت المال والنساء؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم.

فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك ، وقال الشاعر :
أصبحت هزأ لراعي الضان يهزأ بي . . .
ماذا يريبك مني راعي الضان
{ إلاّ دعاء ونداء } : هذا استثناء مفرّغ ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله.
وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة ، والدعاء والنداء منفي سماعهما ، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء ، وهذا ضعيف ، لأن القول بزيادة إلا ، قول بلا دليل.
وقد ذهب الأصمعي ، رحمه الله ، إلى ذلك في قوله :
حراجيح ما تنفك إلا مناخة . . .
على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا
وضعف قوله في ذلك ، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به ، فنثبت لها الزيادة ، وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال : فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء ونداء ، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع ، وهذا لا يجوز.
فالجواب : أن في الكلام إيجاراً ، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم ، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها ، وإنما يفهم شيئاً يسيراً ، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة ، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض.
انتهى كلامه.
وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال : { إلاّ دعاء ونداء } ، لأن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصوت.
{ صم بكم عمي } : تقدم الكلام على هذه الكلم.
{ فهم لا يعقلون } : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس ، قضى بأنهم لا يعقلون.
كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس ، إذ لا بد في كسبها من الحواس. انتهى.
قيل : والمراد العقل الاكتسابي ، لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم ، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب.
ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث ، كان إعراضهم عنها فقداً للعقل المكتسب ، ولهذا قيل : من فقد حساً فقد فَقَد عقلاً.
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بين لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل.
فلما بين ما حرم ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر.
وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عما يلبس المحرم فقال : « لا يلبس القميص ولا السراويل » ، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ.
والذين آمنوا : جمع من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يراد أهل المدينة ، فاللفظ عام والمراد خاص.
وقيل : هذا الخطاب مؤكداً لقوله : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض } ، ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر ، ميز الله المؤمنين بهذا النداء ، تشريفاً لهم وتنبيهاً على خصوصيتهم وظاهر كلوا : الأمر بالأكل المعهود.

وقيل : المراد الانتفاع به ، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع ، إذ كان الأكل أعظمها ، إذ به تقوم البنية.
قيل : وهذا أقرب إلى المعنى ، لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات ، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك والطيبات.
قيل : الحلال ، وقيل : المستلذ المستطاب ، لكن بشرط أن يكون حلالاً.
وقد تقدم هذا الشرط في قوله : { كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } ، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال.
ما رزقناكم : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ، لما في الرزق من الامتنان والإحسان.
وإذا فسر الطيبات بالحلال ، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى حرام ، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أن الرزق لا يكون إلا حلالاً.
وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة ، فأغنى عن إعادته هنا.
ومن منع أن يكون الرزق حراماً قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم ، وهو الحلال ، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعاً لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه ، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى.
{ واشكروا لله } : هذا من الالتفات ، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب ، وحكمة ذلك ظاهرة ، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر ، ليس على هذا الإذن الخاص ، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص.
وجاء هنا تعدية الشكر باللام ، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وتضمنت هذه الآية أمرين : الأول : { كلوا } ، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب ، ومع الضيف مندوب إليه ، وإذا خلا عن العوارض كان مباحاً ، وكذا هو في الآية.
والثاني : { واشكروا لله } ، وهو أمر وليس بإباحة.
قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر ، لأنه إما أن يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بالجوارح.
فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان ، أو الجوارح.
أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك.
فإذا كان ذلك العلم ضرورياً ، فكيف يمكن إيجابه؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح ، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح.
فإذا بينا أنهما لا يجبان ، كان العزم بأن لا يجب أولى.
وأما الشكر باللسان ، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعماً ، أو بالثناء عليه.
فهذا غير واجب بالاتفاق ، بل هو من باب المندوبات.
وأما الشكر بالجوارح والأعضاء ، فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضاً غير واجب.

وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم ، وإظهار ذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك.
وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه ، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله : { واشكروا لي ولا تكفرون }
{ إن كنتم إياه تعبدون } : من ذهب إلى أن معناها معنى إذ ، فقوله ضعيف ، وهو قول كوفي ، ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس ، وكأن المعنى : العبادة له واجبة ، فالشكر له واجب ، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني ، لا تريد بذلك التعليق المحض ، بل تبرزه في صورة التعليق ، ليكون أدعى للطاعة وأهزلها.
وقيل : عبر بالعبادة عن العرفان ، كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قيل : معناه ليعرفون ، فيكون المعنى : أشكروا لله إن كنتم عارفين به وبنعمه ، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر.
وقيل : عبر بالعبادة عن إرادة العبادة ، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته ، لأن الشكر رأس العبادات.
وقال الزمخشري : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري.
انتهى كلامه.
وإيا هنا مفعول مقدم ، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية ، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه ، لأنه عائد على الله تعالى ، كما في قولك : { وإياك نستعين } وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير ، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر ، لم ينفصل إلا في ضرورة ، قال :
إليك حتى بلغت إياكا . . .
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله } : تقدم الكلام على إنما في قوله : { إنما نحن مصلحون } وقرأ الجمهور : حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله ، وما بعده نصب ، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية.
وقرأ ابن أبي عبلة : برفع الميتة وما بعدها ، فتكون ما موصولة اسم إن ، والعائد عليها محذوف ، أي إن الذي حرمه الله الميتة ، وما بعدها خبران.
وقرأ أبو جعفر : حرم ، مشدداً مبنياً للمفعول ، فاحتملت ما وجهين : أحدهما : أن تكون موصولة اسم إن ، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران.
والوجه الثاني : أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إنما حرم ، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً ، والميتة وما بعدها مرفوع.
ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل ، والميتة فاعل يحرم ، إن كانت ما مهيئة ، وخبر إن ، إن كانت ما موصولة.
وقرأ أبو جعفر : الميتة ، بتشديد الياء في جميع القرآن ، وهو أصل للتخفيف.
وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله : { أو كصيِّب } ، وهما لغتان جيدتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :
ليس من مات فاستراح بميت . . .
إنما الميت ميت الأحياء

قيل : وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين ، أن الميت بالتخفيف : الذي فارقته الروح ، والميت بالتشديد : الذي لم يمت ، بل عاين أسباب الموت.
وقد تقدم الكلام في الموت.
ولما أمر تعالى : بأكل الحلال في الآية السابقة ، فصل هنا أنواع الحرام ، وأسند التحريم إلى الميتة.
والظاهر أن المحذوف هو الأكل ، لأن التحريم لا يتعلق بالعين ، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله : { كلوا مما في الأرض } ، { كلوا من طيبات ما رزقناكم }.
فالممنوع هنا هو الأكل ، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب.
فقوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } المحذوف : وطء ، كأنه قيل : وطء أمهاتكم ، { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي وطء ما وراء ذلكم.
فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة ، إما بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس ، وإما بدليل سمعي عند من لا يقول به.
وقال بعض الناس ما معناه : أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة ، وما نسق عليها وعلقه بعينها ، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به ، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ.
والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل.
وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم ، ولا يخص شيء منها إلا بدليل.
قال قوم : خص هذا العموم بقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعاماً متاعاً لكم وللسيارة } ، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : « حلت لنا ميتتان » وقال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم. انتهى.
فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ ، فلا نسلم له ذلك.
وإن عنى لم يدخل في الإرادة ، فهو كما قال ، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به.
قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد.
قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة.
ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد؟ كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال.
ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة.
وقال الله تعالى : { لتأكلوا منه لحماً طرياً } وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة ، فركب كافراً ، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } انتهى كلامه.
وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة ، وليس كما قال.
وكيف يكون ذلك ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أحلت لنا ميتتان » ؟ فلو لم يندرج في الدلالة ، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله ، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله : {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.

وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة ، كما قال الزمخشري ، بل لو لم يكن للمخاطب شعور ألبتة ، ولا علم ببعض أفراد العام ، وعلق الحكم على العام ، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به.
مثال ذلك ما جاء في الحديث : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع » فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب.
والمخاطب ، الذين هم العرب ، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب ، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي ، كما في بلادنا ، بلاد الأندلس ، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع ، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله ، ولا يشبه الأسد ، ولا الذئب ، ولا النمر ، ولا شيئاً مما يعرفه العرب ، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس.
فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب ، بل شمله النهي ، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه ، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به ، فهو معلق بكل فرد من أفراده ، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب ، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب ، فيندرج فيه ، ويحكم بالنهي عنه.
وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان ، فللإيمان أحكام منوطة بها ، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه.
{ والميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة.
واختلف في السمك الطافي ، وهو ما مات في الماء فطفا.
فذهب مالك وغيره أنه حلال.
ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله.
وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه.
وأما ما مات من الجراد بغير تسبب ، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام ، وعند ابن عبد الحكم وابن نافع حلال ، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية.
هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل.
وأما الانتفاع بشيء منها ، نحو : الجلد ، والشعر ، والريش ، واللبن ، والبيض ، والأنفخة ، والجنين ، والدهن ، والعظم ، والقرن ، والناب ، والغصب ، فذلك مذكور في كتب الفقه ، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم.
والدم : ظاهره العموم ، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام.
فإذا كان مسفوحاً ، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه.
وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان : أحدهما : أنه طاهر ، ويقتضي ذلك أنه غير محرم.
وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه ، وكذلك الكبد والطحال.
وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه ، وفي مقدار اليسير ، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب ، وهذا كله من علم الفقه ، فيطالع في كتب الفقه.

ولم يذكر الله تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم ، ولا جاء نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم ، لكان ذلك شرعاً يجب اتباعه.
وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت ، وأنه يحدث أذى للآكل.
وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد ، فهو في الأذى كالجامد في الميتة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الحس يكذب ذلك.
وجدنا من يأكل الميتة ، ويشرب الدم من الأمم ، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله ، ولا يحدث لهم أذى بذلك.
{ ولحم الخنزير } : ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط.
وقد ذهب إلى ذلك داود ، رأس الظاهرية ، فقال : المحرم اللحم دون الشحم.
وقال غيره من سائر العلماء : المحرم لحمه وسائر أجزائه.
وإنما خص اللحم بالذكر ، والمراد جميع أجزائه ، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به.
كما نص على قتل الصيد على المحرم ، والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد.
وكما نص على ترك البيع { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم ، فهو أشغل لهم من غيره ، والمراد جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت : لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قوله : لحم سمين ، يريدون أنه شحيم. انتهى.
وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم ، لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر ، لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء ، ألا ترى أنك تقول مثلاً رجل لابن ، أو رجل عالم؟ لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل ، ولا أن ذكر الرجل مجرداً عن الوصفين يدل عليهما.
وقال ابن عطية : وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هناك من الغضاريف وغيرها.
وأجمعت الأمة على تحريم شحمه.
انتهى كلامه.
وليس كما ذكر ، لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هناك من الغضاريف ، لأن كلاًّ من اللحم والشحم وما هناك من غضروف وغيره ، وليس له اسم يخصه.
إذا أطلق ذلك الاسم ، لم يدخل فيه الآخر ، ولا يدل عليه ، لا بمطابقة ، ولا تضمن.
فإذن ، تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم ، إذ لو أريد المجموع ، لدل بلفظ يدل على المجموع.
وقوله : أجمعت الأمة على تحريم شحمه ، ليس كما ذكر.
ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى ، وهو اللحم دون الشحم؟ إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني ، من أنه لا يعتد في الإجماع ، بخلاف داود ، فيكون ذلك عنده إجماعاً.
وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد ، قبل أن يخلق الجويني بأزمان ، بخلاف داود ، ونقلوا أقاويله في كتبهم ، كما نقلوا أقاويل الأئمة ، كالأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46