كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وقال الزجاج : ومن الكنوز ، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال ، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى.
{ وتخلت } : أي عن ما كان فيها ، لم تتمسك منهم بشيء.
وجاء تخلت : أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو.
كما تقول : تكرم الكريم : بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه ، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه ، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها.
وجواب إذا محذوف ، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار ، أو ما يدل عليه : { إنك كادح } ، أي لاقى كل إنسان كدحه.
وقال الأخفش والمبرد : هو ملاقيه ، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه.
وقيل : { يا أيها الإنسان } ، على حذف الفاء تقديره : في أيها الإنسان.
وقيل : { وأذنت } على زيادة الواو؛ وعن الأخفش : { إذا السماء } مبتدأ ، خبره { وإذا الأرض } على زيادة الواو ، والعامل فيها على قول الأكثرين : الجواب إما المحذوف الذي قدروه ، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب.
قال ابن عطية : وقال بعض النحويين : العامل انشقت ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن إذا مضافة إلى انشقت ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء ، انتهى.
وهذا القول نحن نختاره ، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه ، والتقدير : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض.
وقيل : لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به ، فليست شرطاً.
{ وأذنت لربها } : أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها.
والإنسان : يراد به الجنس ، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه.
وقال مقاتل : المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث ، فقال أبو سلمة : والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة.
فقال الأسود فأين : الأرض والسماء وما جال الناس؟ انتهى.
وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود ، وهي تعم الجنس.
وقيل : المراد أبيّ بن خلف ، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر.
وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وهو غير ضائع عنده.
{ إنك كادح } : أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك ، أي طول حياتك إلى لقاء ربك ، وهو أجل موتك ، { فملاقيه } : أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب.
قال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه ، ولا يتعين ما قاله ، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات.
وقال الجمهور : الضمير في ملاقيه عائد على ربك ، أي فملاقي جزائه ، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل.
{ حساباً يسيراً } قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه.

وقال الحسن : يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة.
وفي الحديث : « من حوسب عذب » ، فقالت عائشة : ألم يقل الله تعالى { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « إنما ذلك العرض ، وأما من نوقش الحساب فيهلك ».
{ وينقلب إلى أهله } : أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين ، أو إلى عشيرته المؤمنين ، فيخبرهم بخلاصه وسلامته ، أو إلى المؤمنين ، إذ هم كلهم أهل إيمان.
وقرأ زيد بن علي : ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول.
{ وراء ظهره } : روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره ، فيأخذ كتابه بها.
قال ابن عطية : وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم ، يعني عصاة المؤمنين ، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار.
وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار ، وهذه الآية ترد على هذا القول ، انتهى.
والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار.
{ يدعو ثبوراً } : يقول : واثبوراه ، والثبور : الهلاك ، وهو جامع لأنواع المكاره.
وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة : { ويصلى } بفتح الياء مبنياً للفاعل؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع ، وأبان عن عاصم ، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو : بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام ، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة ، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف.
{ إنه كان في أهله مسروراً } : أي فرحاً بطراً مترفاً لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته لقوله تعالى : { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } بخلاف المؤمن ، فإنه حزين مكتئب يتفكر في الآخرة.
{ إنه ظن أن لن يحور } : أي أن لن يرجع إلى الله ، وهذا تكذيب بالبعث.
{ بلى } : إيجاب بعد النفي ، أي بلى ليحورن.
{ إن ربه كان به بصيراً } : أي لا تخفي عليه أفعاله ، فلا بد من حوره ومجازاته.
{ فلا أقسم بالشفق } : أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها ، والشفق تقدم شرحه.
وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة : هو البياض الذي يتلوه الحمرة.
وروى أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رجع عن قوله هذا إلى قول الجمهور.
وقال مجاهد والضحاك وابن أبي نجيح : إن الشفق هنا كأنه لما عطف عليه الليل قال ذلك.
قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ، انتهى.
وعن مجاهد : هو الشمس؛ وعن عكرمة : ما بقي من النهار.
{ وما وسق } : ما ضم من الحيوان وغيره ، إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل.
وقال ابن عباس : { وما وسق } : أي ما غطى عليه من الظلمة.

وقال مجاهد : وما ضم من خير وشر.
وقال ابن جبير : وما ساق وحمل.
وقال ابن بحر : وما عمل فيه ، ومنه قول الشاعر :
فيوماً ترانا صالحين وتارة . . .
تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقال ابن الفضل : لف كل أحد إلى الله ، أي سكن الخلق إليه ورجع كل إلى ما رآه لقوله : { لتسكنوا فيه }.
وقرأ عمر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير : بتاء الخطاب وفتح الباء.
فقيل : خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي حالاً بعد حال من معالجة الكفار.
وقال ابن عباس : سماء بعد سماء في الإسراء.
وقيل : عدة بالنصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك.
وقال الزمخشري : وقرىء { لتركبن } على خطاب الإنسان في { يا أيها الإنسان }.
وقال ابن مسعود المعنى : لتركبن السماء في أهوال القيامة حالاً بعد حال ، تكون كالمهل وكالدهان وتنفطر وتنشق ، فالتاء للتأنيث ، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها ، والضمير الفاعل عائد على السماء.
وقرأ عمر وابن عباس أيضاً : بالياء من أسفل وفتح الباء على ذكر الغائب.
قال ابن عباس : يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقيل : الضمير الغائب يعود على القمر ، لأنه يتغير أحوالاً من إسرار واستهلال وإبدار.
وقال الزمخشري : ليركبن الإنسان.
وقرأ عمر وابن عباس أيضاً وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة : بتاء الخطاب وضم الباء ، أي لتركبن أيها الإنسان.
وقال الزمخشري : ولتركبن بالضم على خطاب الجنس ، لأن النداء للجنس ، فالمعنى : لتركبن الشدائد : الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال ، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم ، كما تقول : طبقة بعد طبقة.
قال نحوه عكرمة.
وقيل : عن تجىء بمعنى بعد.
وقيل : المعنى لتركبن هذه الأحوال أمة بعد أمة.
ومنه قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وأنت لما ولدت أشرقت الأر . . .
ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم . . .
إذا مضى عالم بدا طبق
وقال مكحول وأبو عبيدة : المعنى لتركبن سنن من قبلكم.
وقال ابن زيد : المعنى لتركبن الآخرة بعد الأولى.
وقرأ عمر أيضاً : ليركبن بياء الغيبة وضم الباء.
قيل : أراد به الكفار لا بيان توبيخهم بعده ، أي يركبون حالاً بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس : لتركبن بكسر التاء ، وهي لغة تميم.
قيل : والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقرىء بالتاء وكسر الباء على خطاب النفس ، وطبق الشيء مطابقة لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة.
ويجوز أن تكون اسم جنس ، واحدة طبقة ، وهي المرتبة من قولهم : هم على طبقات.
و { عن طبق } في موضع الصفة لقوله : { طبقاً } ، أو في موضع الحال من الضمير في { لتركبن }.

وعن مكحول ، كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه.
{ فما لهم لا يؤمنون } : تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل.
{ لا يسجدون } : لا يتواضعون ويخضعون ، قاله قتادة.
وقال عكرمة : لا يباشرون بجباههم المصلى.
وقال محمد بن كعب : لا يصلون.
وقرأ الجمهور : { يكذبون } مشدداً؛ والضحاك وابن أبي عبلة : مخففاً وبفتح الياء.
{ بما يوعون } : بما يجمعون من الكفر والتكذيب ، كأنهم يجعلونه في أوعية وعيت العلم وأوعيت المتاع ، قال نحوه ابن زيد.
وقال ابن عباس : بما تضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقال مجاهد : بما يكتمون من أفعالهم.
وقرأ أبو رجاء : بما يعون ، من وعى يعي.
{ إلا الذين آمنوا } : أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون.
{ غير ممنون } : غير مقطوع.
وقال ابن عباس : { ممنون } : معدد عليهم ، محسوب منغص بالمن ، وتقدم الكلام على ذلك في فصلت ، والله الموفق.

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

{ ذات البروج } ، قال ابن عباس والجمهور : هي المنازل التي عرفتها العرب ، وهي اثنا عشر على ما قسمته ، وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً.
وقال عكرمة والحسن ومجاهد : هي القصور.
وقال الحسن ومجاهد أيضاً : هي النجوم.
وقيل : عظام الكواكب ، سميت بروجاً لظهورها.
وقيل : هي أبواب السماء؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر.
{ واليوم الموعود } : هو يوم القيامة ، أي الموعود به.
{ وشاهد ومشهود } : هذان منكران ، وينبغي حملهما على العموم لقوله : { علمت نفس ما أحضرت } وإن كان اللفظ لا يقتضيه ، لكن المعنى يقتضيه ، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي.
فإذا لوحظ فيها معنى العموم ، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم.
وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة ، كقوله : { والطور وكتاب مسطور } ولأنه إذا حمل { وكتاب مسطور } على العموم دخل فيه معنيان : الكتب الإلهية ، كالتوراة والإنجيل والقرآن ، فيحسن إذ ذاك القسم به.
ولما ذكر واليوم الموعود ، وهو يوم القيامة باتفاق ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ناسب أن يكون المقسم به من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه.
إن كان ذلك من الشهادة ، وإن كان من الحضور ، فالشاهد : الخلائق الحاضرون للحساب ، والمشهود : اليوم ، كما قال تعالى : { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } كان موعوداً به فصار مشهوداً ، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما.
وعن ابن عباس : الشاهد : الله تعالى؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة : الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار : آدم عليه السلام وذريته؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن : الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة ، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة : وشاهد يوم الجمعة؛ وعن ابن المسيب : يوم التروية؛ وعن علي أيضاً : يوم القيامة؛ وعن النخعي : يوم الأضحى.
ومشهود في هذه الأقوال يوم عرفة؛ وعن ابن عمر : يوم الجمعة ، ومشهود يوم النحر؛ وعن جابر : يوم الجمعة ، ومشهود الناس؛ وعن محمد بن كعب : ابن آدم ، ومشهود الله تعالى؛ وعن ابن جبير : عكس هذا؛ وعن أبي مالك : عيسى ، ومشهود أمته ، وعن علي : يوم عرفة ، ومشهود يوم النحر؛ وعن الترمذي : الحكيم الحفظة ، ومشهود عليهم : الناس؛ وعن عبد العزيز بن يحيى : محمد صلى الله عليه وسلم ، ومشهود عليه أمته؛ وعنه : الأنبياء ، ومشهود أممهم؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة ، ومشهود أصحابها.
وقيل : هما يوم الاثنين ويوم الجمعة.
وقيل : الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر.
وقيل : النجم والليل والنهار.
وقيل : الله والملائكة وأولو العلم ، ومشهود به الوحدانية ، و { إن الدين عند الله الإسلام } وقيل : مخلوقاته تعالى ، ومشهود به وحدانيته.

وقيل : هما الحجر الأسود والحجج.
وقيل : الليالي والأيام وبنو آدم.
وقيل : الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك ، وللصوفية أقوال غير هذه.
والظاهر ما قلناه أولاً ، وجواب القسم قيل محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه.
وقال الزمخشري : يدل عليه { قتل أصحاب الأخدود }.
وقيل : الجواب مذكور فقيل : { إن الذين فتنوا }.
وقال المبرد : { إن بطش ربك لشديد }.
وقيل : قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل ، وحسن حذفها كما حسن في قوله : { والشمس وضحاها } ثم قال : { قد أفلح من زكاها } أي لقد أفلح من زكاها ، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله ، وتنبيهاً لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين.
وإذا كان { قتل } جواباً للقسم ، فهي جملة خبرية ، وقيل : دعاء ، فكون الجواب غيرها.
وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد ، والجمهور بالتخفيف.
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالاً فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا؛ ومضنها أن ناساً من الكفار خدوا أخدوداً في الأرض وسجروه ناراً وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصرّ على الإيمان أحرقوه؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين.
وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق : بعث الله على المؤمنين ريحاً فقبضت أرواحهم أو نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود ، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن ، ويكون خبراً عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم.
وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه.
وقرأ الجمهور : { النار } بالجر ، وهو بدل اشتمال ، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف ، أي أخدود النار.
وقرأ قوم النار بالرفع.
قيل : وعلى معنى قتلهم ، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين ، وقتل على حقيقته.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى : الوقود بضم الواو وهو مصدر ، والجمهور : بفتحها ، وهو ما يوقد به.
وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضاً مصدر كالضم.
والظاهر أن الضمير في { إذ هم } عائد على الذين يحرقون المؤمنين ، وكذلك في { وهم } على قول الربيع يعود على الكافرين ، ويكون هم أيضاً عائداً عليهم ، ويكون معنى { على ما يفعلون } : ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين.
وقيل : أصحاب الأخدود محرق ، وتم الكلام عند قوله : { ذات الوقود } ، ويكون المراد بقوله : { وهم } قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، وإذا العامل فيه قتل ، أي لعنوا وقعدوا على النار ، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كما قال الأعشى :
تشب لمقرورين يصطليانها . . .
وبات على النار الندى والمحلق
{ شهود } : يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم.

وقرأ الجمهور : { نقموا } بفتح القاف؛ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : { هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله } وكقول قيس الرقيات :
ما نقموا من بني أمية إلا . . .
أنهم يحلمون أن غضبوا
جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر :
ولا عيب فيها غير شكلة عينها . . .
كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها
وفي المنتخب : إنما قال { إلا أن يؤمنوا } ، لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يدعوا على إيمانهم. انتهى.
وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه ، حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السموات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي.
{ والله على كل شيء شهيد } : وعيد لهم ، أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم.
والظاهر أن { الذين فتنوا } عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذاباً لكفرهم ، وعذاباً لفتنتهم.
وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم ، { فلهم } في الآخرة { عذاب جهنم } بكفرهم ، { ولهم عذاب الحريق } : وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، انتهى.
وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوّزه ، لأن في الآية { ثم لم يتوبوا } ، وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحداً منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر.
وقال ابن عطية : { ثم لم يتوبوا } يقوي أن الآيات في قريش ، لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم.
وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن ، انتهى.
وكذلك قوله : { إن الذين آمنوا } ، المراد به العموم لا المطروحون في النار ، والبطش : الأخذ بقوة.
{ يبدىء ويعيد } ، قال ابن زيد والضحاك : يبدىء الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر.
وقال ابن عباس : عام في جميع الأشياء ، أي كلّ ما يبدأ وكل ما يعاد.
وقال الطبري : يبدىء العذاب ويعيده على الكفار؛ ونحوه عن ابن عباس قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ، ثم يعيدهم خلقاً جديداً.
وقرىء : يبدأ من بدأ ثلاثياً ، حكاه أبو زيد.

ولما ذكر شدّة بطشه ، ذكر كونه ، غفوراً ساتراً لذنوب عباده ، ودوداً لطيفاً بهم محسناً إليهم ، وهاتان صفتا فعل.
والظاهر أن الودود مبالغة في الوادّ؛ وعن ابن عباس : المتودد إلى عباده بالمغفرة.
وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد :
وأركب في الروع عريانة . . .
ذلول الجماع لقاحاً ودودا
أي : لا ولد لها تحن إليه.
وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون.
{ ذو العرش } : خص العرش بإضافة نفسه تشريفاً للعرش وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات.
وقرأ الجمهور : { ذو } بالواو؛ وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك.
وقال القفال : { ذو العرش } : ذو الملك والسلطان.
ويجوز أن يراد بالعرش : السرير العالي ، ويكون خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ، انتهى.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان : { المجيد } بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوّه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيباً.
ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخباراً عن هو ، فيكون { فعال } خبراً.
ويجوز أن يكون { الودود ذو العرش } صفتين للغفور ، و { فعال } خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه.
{ هل أتاك حديث الجنود } : تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم.
والجنود : الجموع المعدّة للقتال.
{ فرعون وثمود } : بدل من { الجنود } ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن.
وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدّمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضاً.
ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله :
ألم تر أن الله أهلك تبعاً . . .
وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما نوى . . .
وفرعون جباراً طغى والنجاشيا
وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم.
{ بل الذين كفروا } : أي من قومك ، { في تكذيب } : حسداً لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم.
{ والله من ورائهم محيط } : أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطاً به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعاً ، والمعنى : دنو هلاكهم.
ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان صلى الله عليه وسلم قد كذبوه وكذبوا ما جاء به وهو القرآن ، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال : { بل هو قرآن } : أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ، ومجادته : شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه ، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه.

وقرأ الجمهور : { قرآن مجيد } : موصوف وصفة.
وقرأ ابن السميفع : { قرآن مجيد } بالإضافة ، قال ابن خالويه : سمعت ابن الأنباري يقول معناه : بل هو قرآن رب مجيد ، كما قال الشاعر :
ولكن الغني رب غفور . . .
معناه : ولكن الغنى غنى رب غفور ، انتهى.
وعلى هذا أخرجه الزمخشري.
وقال ابن عطية : وقرأ اليماني : قرآن مجيد على الإضافة ، وأن يكون الله تعالى هو المجيد ، انتهى.
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته؛ فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع مجيد واحداً ، وهذا أولى لتوافق القراءتين.
وقرأ الجمهور : { في لوح } بفتح اللام ، { محفوظ } بالخفض صفة للوح ، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء.
وقرأ ابن يعمر وابن السميفع : بضم اللام.
قال ابن خالويه : اللوح : الهواء.
وقال الزمخشري : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ من وصول الشياطين إليه ، انتهى.
وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه : محفوظ بالرفع صفة لقرآن ، كما قال تعالى : { وإنا له لحافظون } أي هو محفوظ في القلوب ، لا يلحقه خطأ ولا تبديل.

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

{ والسماء } : هي المعروفة ، قاله الجمهور.
وقيل : السماء هنا المطر ، { والطارق } : هو الآتي ليلاً ، أي يظهر بالليل.
وقيل : لأنه يطرق الجني ، أي يصكه ، من طرقت الباب إذا ضربته ليفتح لك.
أتى بالطارق مقسماً به ، وهي صفة مشتركة بين النجم الثاقب وغيره.
ثم فسره بقوله : { النجم الثاقب } ، إظهاراً لفخامة ما أقسم به لما علم فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وتنبيهاً على ذلك.
كما قال تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } وقال ابن عطية : معنى الآية : والسماء وجميع ما يطرق فيه من الأمور والمخلوقات.
ثم ذكر بعد ذلك ، على جهة التنبيه ، أجل الطارقات قدراً وهو النجم الثاقب ، وكأنه قال : وما أدراك ما الطارق حتى الطارق ، انتهى.
فعلى هذا يكون { النجم الثاقب } بعضاً مما دل عليه { والطارق } ، إذ هو اسم جنس يراد به جميع الطوارق.
وعلى قول غيره : يراد به واحد مفسر بالنجم الثاقب.
والنجم الثاقب عند ابن عباس : الجدي ، وعند ابن زيد : زحل.
وقال هو أيضاً وغيره : الثريا ، وهو الذي تطلق عليه العرب اسم النجم.
وقال علي : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد.
وقال الحسن : هو اسم جنس لأنها كلها ثواقب ، أي ظاهرة الضوء.
وقيل : المراد جنس النجوم التي يرمى بها ويرجم.
والثاقب ، قيل : المضيء؛ يقال : ثقب يثقب ثقوباً وثقابة : أضاء ، أي يثقب الظلام بضوئه.
وقيل : المرتفع العالي ، ولذلك قيل هو زحل لأنه أرقها مكاناً.
وقال الفراء : ثقب الطائر ارتفع وعلا.
وقرأ الجمهور : إن خفيفة ، كل رفعاً لما خفيفة ، فهي عند البصريين مخففة من الثقيلة ، كل مبتدأ واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة ، وما زائدة ، وحافظ خبر المبتدأ ، وعليها متعلق به.
وعند الكوفيين : إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، وكل حافظ مبتدأ وخبر؛ والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما : لما مشددة وهي بمعنى إلا ، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم.
تقول العرب : أقسمت عليك لما فعلت كذا : أي إلا فعلت ، قاله الأخفش.
فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون نافية ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ.
وحكى هارون أنه قرىء : إن بالتشديد ، كل بالنصب ، فاللام هي الداخلة في خبر إن ، وما زائدة ، وحافظ خبر إن ، وجواب القسم هو ما دخلت عليه إن ، سواء كانت المخففة أو المشددة أو النافية ، لأن كلاًّ منها يتلقى به القسم؛ فتلقيه بالمشددة مشهور ، وبالمخففة

{ تالله إن كدت لتردين } وبالنافية { ولئن زالتا إن أمسكهما } وقيل : جواب القسم { إنه على رجعه لقادر } ، وما بينهما اعتراض ، والظاهر عموم كل نفس.
وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما : { إن كل نفس } مكلفة ، { عليها حافظ } : يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها ، فيكون في الآية وعيد وزاجر وما بعد ذلك يدل عليه.
وقيل : حفظة من الله يذبون عنها ، ولو وكل المرء إلى نفسه لاختطفته الغير والشياطين.
وقال الكلبي والفراء : حافظ من الله يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير.
وقيل : الحافظ : العقل يرشده إلى مصالحه ويكفه عن مضاره.
وقيل : حافظ مهيمن ورقيب عليه ، وهو الله تعالى.
ولما ذكر أن كل نفس عليها حافظ ، أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل لذلك ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.
و { مم خلق } : استفهام ، ومن متعلقة بخلق ، والجملة في موضع نصب ب فلينظر ، وهي معلقة.
وجواب الاستفهام ما بعده وهو : { خلق من ماء دافق } ، وهو مني الرجل والمرأة لما امتزجا في الرحم واتحدا عبر عنهما بماء ، وهو مفرد ، ودافق قيل : هو بمعنى مدفوق ، وهي قراءة زيد بن عليّ.
وعند الخليل وسيبويه : هو على النسب ، كلابن وتامر ، أي ذي دفق.
وعن ابن عباس : بمعنى دافق لزج ، وكأنه أطلق عليه وصفه لا أنه موضوع في اللغة لذلك ، والدفق : الصب ، فعله متعد.
وقال ابن عطية : والدفق : دفع الماء بعضه ببعض ، تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضاً.
ويصح أن يكون الماء دافقاً ، لأن بعضه يدفع بعضاً ، فمنه دافق ومنه مدفوق ، انتهى.
وركب قوله هذا على تدفق ، وتدفق لازم دفقته فتدفق ، نحو : كسرته فتكسر ، ودفق ليس في اللغة معناه ما فسر من قوله : والدفق دفع الماء بعضه ببعض ، بل المحفوظ أنه الصب.
وقرأ الجمهور : { يخرج } مبنياً للفاعل ، { من بين الصلب } : بضم الصاد وسكون اللام؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم : مبنياً للمفعول ، وهما وأهل مكة وعيسى : بضم الصاد واللام؛ واليماني : بفتحهما.
قال العجاج :
في صلب مثل العنان المؤدم . . .
وتقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء ، وإعرابها صالب كما قال العباس :
تنقل من صالب إلى رحم . . .
قال قتادة والحسن : معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه.
وقال سفيان وقتادة أيضاً : من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وتقدم شرح الترائب في المفردات.
وقال ابن عباس : موضع القلادة؛ وعن ابن جبير : هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب.
وقيل : ما بين المنكبين والصدر.
وقيل : هي التراقي؛ وعن معمر : هي عصارة القلب ومنه يكون الولد.
ونقل مكي عن ابن عباس أن الترائب أطراف المرء ، رجلاه ويداه وعيناه.
قال ابن عطية : وفي هذه الأحوال تحكم على اللغة ، انتهى.
{ إنه } : الضمير يعود على الخالق الدال عليه خلق.

{ على رجعه } ، قال ابن عباس وقتادة : الضمير في رجعه عائد على الإنسان ، أي على رده حياً بعد موته ، أي من أنشأه أولاً قادر على بعثه يوم القيامة لا يعجزه شيء.
وقال الضحاك : على رده من الكبر إلى الشباب.
وقال عكرمة ومجاهد : الضمير عائد على الماء ، أي على رد الماء في الإحليل أو في الصلب.
وعلى هذا القول وقول الضحاك يكون العامل في { يوم تبلى } مضمر تقديره اذكر.
وعلى قول ابن عباس ، وهو الأظهر ، فقال بعض النحاة : العامل ناصر من قوله : { ولا ناصر } ، وهذا فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، وكذلك ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور.
وقال آخرون ، ومنهم الزمخشري : العامل رجعه ورد بأن فيه فصلاً بين الموصول ومتعلقه ، وهو من تمام الصلة ، ولا يجوز.
وقال الحذاق من النحاة : العامل فيه مضمر يدل عليه المصدر تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر.
قال ابن عطية : وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل لقادر ، لأنه يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده.
وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون المعنى لقادر ، وذلك أنه قال : { إنه على رجعه لقادر } على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت.
ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار ، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه ، انتهى.
{ تبلى } قيل : تختبر ، وقيل : تعرف وتتصفح وتميز صالحها من فاسدها ، و { السرائر } : ما أكنته القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفته الجوارح من الأعمال ، والظاهر عموم السرائر.
وفي الحديث : إنها التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ، وكان المذكور في الحديث هو أعظم السرائر ، وسمع الحسن من ينشد :
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا . . .
سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
فقال : ما أغفله عما في السماء والطارق ، والبيت للأحوص.
ولما كان الامتناع في الدنيا إما بقوة في الإنسان ، وإما بناصر خارج عن نفسه ، نفى عنه تعالى ما يمتنع به وأتى بمن الدالة على العموم في نفي القوة والناصر.
{ والسماء } : أقسم ثانياً بالسماء وهي المظلة.
قيل : ويحتمل أن يكون السحاب.
{ ذات الرجع } ، قال ابن عباس : الرجع : السحاب فيه المطر.
وقال الحسن : ترجع بالرزق كل عام.
وقال ابن زيد : الرجع مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة ، تذهب وترجع ، وقيل : الرجع : المطر ، ومنه قول الهذلي :
أبيض كالرجع رسوب إذا . . .
ما ناح في محتفل يختلي
يصف سيفاً شبهه بماء المطر في بياضه وصفائه ، وسمي رجعاً كما سمي إرباً ، قال الشاعر :
ربا شمالاً يأوي لقلتها . . .
إلا السحاب وإلا الإرب والسبل
تسمية بمصدر آب ورجع.

تزعم العرب أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض إذا أرادوا التفاؤل ، وسموه رجعاً وإرباً ليرجع ويؤب.
وقيل : لأن الله تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً ، قالت الخنساء :
كالرجع في الموجنة السارية . . .
وقيل : الرجع : الملائكة ، سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد.
وقيل : السحاب ، والمشهور عند أهل اللغة وقول الجمهور : أن الرجع هو المطر ، والصدع : ما تتصدع عنه الأرض من النبات ، ويناسب قول من قال : الرجع : المطر.
وقال ابن زيد : ذات الانشقاق : النبات.
وقال أيضاً : ذات الحرث.
وقال مجاهد : الصدع : ما في الأرض من شقاق ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره ، وهي أمور فيها معتبر ، وعنه أيضاً : ذات الطرق تصدعها المشاة.
وقيل : ذات الأموات لانصداعها عنهم يوم النشور.
والضمير في { إنه } ، قالوا عائد على القرآن.
{ فصل } أي فاصل بين الحق والباطل ، كما قيل له فرقان.
وأقول : ويجوز أن يعود الضمير في { إنه } على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة ، وابتلاء سرائره : أي إن ذلك القول قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه ، ويكون الضمير قد عاد على مذكور ، وهو الكلام الذي تضمن الأخبار عن البعث ، وليس من الأخبار التي فيها هزل بل هو جد كله.
{ إنهم } : أي الكافرون ، { يكيدون } : أي في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق ، { وأكيد } : أي أجازيهم على كيدهم ، فسمى الجزاء كيداً على سبيل المقابلة ، نحو قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } { إنما نحن مستهزءون } { الله يستهزىء بهم } ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { أمهلهم رويداً } : أي انتظر عقوبتهم ولا تستعجل ذلك ثم أكد أمره فقال : { أمهلهم رويداً } : أي إمهالاً لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين ، على أن الأول مطلق ، وهذا الثاني مقيد بقوله : { رويداً }.
وقرأ ابن عباس : مهلهم ، بفتح الميم وشدّ الهاء موافقة للفظ الأمر الأول.

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

{ سبح } : نزّه عن النقائص ، { اسم ربك } : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى.
وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى.
وقيل : معناه نزّه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع.
وقال ابن عباس : المعنى صلّ باسم ربك الأعلى ، كما تقول : ابدأ باسم ربك ، وحذف حرف الجر.
وقيل : لما نزل { فسبح باسم ربك العظيم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اجعلوها في ركوعكم » فلما نزل : { سبح اسم ربك الأعلى } ، قال : « اجعلوها في سجودكم » وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت.
قالوا : { الأعلى } يصح أن يكون صفة لربك ، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً ، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب { الذي خلق } صفة لربك ، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره.
لو قلت : رأيت غلام هند العاقل الحسنة ، لم يجز؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند ، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول : رأيت غلام هند الحسنة العاقل.
فإن لم يجعل الذي صفة لربك ، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح ، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم.
{ الذي خلق } : أي كل شيء ، { فسوى } : أي لم يأت متفاوتاً بل متناسباً على إحكام وإتقان ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم.
وقرأ الجمهور : { قدر } بشد الدال ، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء.
وقال الزمخشري : قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، انتهى.
وقرأ الكسائي : قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة ، وهدى عام لجميع الهدايات.
وقال الفرّاء : فهدى وأضل ، اكتفى بالواحدة عن الأخرى.
وقال الكلبي ومقاتل : هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث.
وقال مجاهد : هدى الإنسان للخير والشر ، والبهائم للمراتع.
وقيل : هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص.
والظاهر أن أحوى صفة لغثاء.
قال ابن عباس : المعنى { فجعله غثاء أحوى } : أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى.
وقيل : أحوى حال من المرعى ، أي أحرى المرعى أحوى ، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه ، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل ، وقال :
وغيث من الوسمي حوتلاعه . . .
تبظنته بشيظم صلتان
{ سنقرِئك فلا تنسى } ، قال الحسن وقتادة ومالك : هذا في معنى { لا تحرك به لسانك } وعده الله أن يقرئه ، وأخبره أنه لا ينسى ، وهذه آية للرسول صلى الله عليه وسلم في أنه أمّيّ ، وحفظ الله عليه الوحي ، وأمنه من نسائه.

وقيل : هذا وعد بإقراء السور ، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته ، فهو نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبتت الألف في { فلا تنسى } ، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي.
{ إلا ما شاء الله } ، الظاهر أنه استثناء مقصود.
قال الحسن وقتادة وغيرهما : مما قضى الله نسخه ، وأن ترتفع تلاوته وحكمه.
وقال ابن عباس : إلا ما شاء الله أن ينسيك لتسن به ، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام : « أني لأنسى وأنسى لأسن » وقيل : إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه ، ثم يذكرك به بعد ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، حين سمع قراءة عباد بن بشير : « لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا » وقيل : { فلا تنسى } : أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل.
وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه.
وأخذ الزمخشري هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء الله ، والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي ، انتهى.
وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء ، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، بل ولا في كلام فصيح.
وكذلك القول بأن لا في { فلا تنسى } للنهي ، والألف ثابتة لأجل الفاصلة ، وهذا قول ضعيف.
ومفهوم الآية في غاية الظهور ، وقد تعسفوا في فهمها.
والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه ، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله ، فإنه ينساه إما النسخ ، وإما أن يسن ، وإما على أن يتذكر.
وهو صلى الله عليه وسلم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه ، فإن وقع نسيان ، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة.
ومناسبة { سنقرئك } لما قبله : أنه لما أمره تعالى بالتسبيح ، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى ، استثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه.
{ إنه يعلم الجهر } : أي جهرك بالقرآن ، { وما يخفى } : أي في نفسك من خوف التفلت ، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه ، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء.
{ ونيسرك } معطوف على { سنقرئك } ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض ، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني في حفظ الوحي.

وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة.
وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة.
ولما أخبر أنه يقرئه وييسره ، أمره بالتذكير ، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم.
والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى ، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخاً لقريش ، أي { إن نفعت الذكرى } في هؤلاء الطغاة العتاه ، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى ، فهو كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حياً . . .
ولكن لا حياة لمن تنادي
كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك؛ فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع.
وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني.
وقيل : إن بمعنى إذ ، كقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي إذ كنتم؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم.
{ سيذكر من يخشى } : أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف ، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه ، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق ، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له.
{ ويتجنبها } : أي الذي ، { الأشقى } : أي المبالغ في الشقاوة ، لأن الكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله.
ثم وصفه بما يؤول إليه حاله في الآخرة ، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى.
قال الحسن : النار الكبرى : نار الآخرة ، والصغرى : نار الدنيا.
وقال الفراء : الكبرى : السفلى من أطباق النار.
وقيل : نار الآخرة تتفاضل ، ففيها شيء أكبر من شيء.
{ ثم لا يموت } : فيستريح ، { ولا يحيى } حياة هنيئة؛ وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذاناً بتفاوت مراتب الشدة ، لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي بالنار.
{ قد أفلح } : أي فاز وظفر بالبغية ، { من تزكى } : تطهر.
قال ابن عباس : من الشرك ، وقال : لا إله إلا الله.
وقال الحسن : من كان عمله زاكياً.
وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة : من رضخ من ماله وزكاه.
{ وذكر اسم ربه } : أي وحده ، لم يقرنه بشيء من الأنداد ، { فصلى } : أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل ، والمعنى : أنه لما تذكر آمن بالله ، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة ، واحتج بقوله : { وذكر اسم ربه } على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى ، وأنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح ، وهو احتجاج ضعيف.
وقال ابن عباس : { وذكر اسم ربه } : أي معاده وموقفه بين يدي ربه ، { فصلى له }.
وقرأ الجمهور : { بل تؤثرون } بتاء الخطاب للكفار.

وقيل : خطاب للبر والفاجر؛ يؤثرها البر لاقتناء الثواب ، والفاجر لرغبته فيها.
وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم : بياء الغيبة.
{ إن هذا } : أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا ، قاله ابن زيد وابن جرير ، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا.
وقال ابن عباس وعكرمة والسدي : إلى معاني السورة.
وقال الضحاك : إلى القرآن.
وقال قتادة : إلى قوله : { والآخرة خير وأبقى }.
{ لفي الصحف الأولى } ، لم ينسخ إفلاح من تزكى ، والآخرة خير وأبقى في شرع من الشرائع.
فهو في الأولى وفي آخر الشرائع.
وقرأ الجمهور : الصحف بضم الحاء كالحرف الثاني؛ والأعمش وهرون وعصمة ، كلاهما عن أبي عمرو : بسكونها؛ وفي كتاب اللوامح العبقلي عن أبي عمرو : الصحف صحف بإسكان الحاء فيهما ، لغة تميم.
وقرأ الجمهور : إبراهيم بألف وبياء والهاء مكسورة؛ وأبو رجاء : بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معاً؛ وأبو موسى الأشعري وابن الزبير : أبراهام بألف في كل القرآن؛ ومالك بن دينار : إبراهيم بألف وفتح الهاء وبغير ياء؛ وعبد الرحمن بن أبي بكرة : إبراهيم بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن.
قال ابن خالويه : وقد جاء إبراهيم ، يعني بألف وضم الهاء.
وتقدم في والنجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

{ هل أتاك حديث الغاشية } والغاشية : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم القيامة ، قاله سفيان والجمهور.
وقال ابن جبير ومحمد بن كعب : النار ، قال تعالى : { وتغشى وجوههم النار } وقال : { ومن فوقهم غواش } فهي تغشى سكانها.
وهذا الاستفهام توقيف ، وفائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر.
وقيل : المعنى هل كان هذا من عملك لولا ما علمناك؟ وفي هذا تعديد النعمة.
وقيل : هل بمعنى قد.
{ وجوه يومئذ } : أي يوم إذ غشيت ، والتنوين عوض من الجملة ، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضاً منها ، لكن لما تقدّم لفظ الغاشية ، وأل موصولة باسم الفاعل ، فتنحل للتي غشيت ، أي للداهية التي غشيت.
فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها ، وإلى الموصول الذي هو التي.
{ خاشعة } : ذليلة.
{ عاملة ناصبة } ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة : { عاملة } في النار ، { ناصبة } تعبة فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا.
قيل.
وعملها في النار جر السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود نار وهبوطها في حدور منها.
وقال ابن عباس أيضاً وزيد بن أسلم وابن جبير : عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى ، فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار؛ والآية في القسيسين وعباد الأوثان وكل مجتهد في كفره.
وقال عكرمة والسدي : عاملة ناصبة بالنصب على الذم ، والجمهور برفعهما.
وقرأ : { تصلى } بفتح التاء؛ وأبو رجاء وابن محيصن والأبوان : بضمها؛ وخارجة : بضم التاء وفتح الصاد مشدّد اللام ، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء { حامية } : مسعرة آنية قد انتهى حرها ، كقوله : { وبين حميم آن } قاله ابن عباس والحسن ومجاهد.
وقال ابن زيد : حاضرة لهم من قولهم : آنى الشيء حضر.
والضريع ، قال ابن عباس : شجر من نار.
وقال الحسين : وجماعة الزقوم.
وقال ابن جبير : حجارة من نار.
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعكرمة ومجاهد : شبرق النار.
وقيل : العبشرق.
وقيل : رطب العرفج ، وتقدم ما قيل فيه في المفردات.
وقيل : واد في جهنم.
والضريع ، إن كان الغسلين والزقوم ، فظاهر ولا يتنافى الحصر في { إلا من غسلين } و { إلا من } ضريع.
وإن كانت أغياراً مختلفة ، والجمع بأن الزقوم لطائفة ، والغسلين لطائفة ، والضريع لطائفة.
وقال الزمخشري : { لا يسمن } مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع ، يعني أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك ، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به ، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ، ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه ، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة ، والسمن في البدن ، انتهى.
فقوله : مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع.
أما جره على وصفه لضريع فيصح ، لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع.

وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح ، لأن الطعام منفي ولا يسمن ، منفي فلا يصح تركيبه ، إذ يصير التقدير : ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع ، فيصير المعنى : أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير ضريع ، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو ، فمعناه أن له مالاً ينتفع به من غير مال عمرو.
ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في { إلا من ضريع } كان صحيحاً ، لأنه في موضع رفع على أنه بدل من اسم ليس ، أي ليس لهم طعام إلا كائن من ضريع ، إذ الإطعام من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع ، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح ، وقال الزمخشري : أو أريد أن لا طعام لهم أصلاً ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس ، لأن الطعام ما أشبع وأسمن ، وهو منهما بمعزل.
كما تقول : ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد نفي الظل على التوكيد. انتهى.
فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً ، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظة طعام ، إذ ليس بطعام.
والظاهر الاتصال فيه.
وفي قوله : { ولا طعام إلا من غسلين } لأن الطعام هو ما يتطعمه الإنسان ، وهذا قدر مشترك بين المستلذ والمكروه وما لا يستلذ ولا يستكره.
{ وجوه يومئذ ناعمة } : صح الابتداء في هذا وفي قوله : { وجوه يومئذ خاشعة } بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل ، ناعمة لحسنها ونضارتها أو متنعمة.
{ لسعيها راضية } : أي لعملها في الدنيا بالطاعة ، راضية إذا كان ذلك العمل جزاؤه الجنة.
{ في جنة عالية } : أي مكاناً ومكانة.
وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم.
{ لا تسمع } مبنياً للمفعول ، { لاغية } : رفع ، أي كلمة لاغية ، أو جماعة لاغية ، أو لغو ، فيكون مصدراً كالعاقبة ، ثلاثة أقوال ، الثالث لأبي عبيدة وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك ، إلا أنهم قرأوا بالياء لمجاز التأنيث ، والفضل والجحدري كذلك ، إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها ، أي أحد من قولك : أسمعت زيداً؛ والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين ونافع في رواية خارجة وأبو عمرو بخلاف عنه؛ وباقي السبعة : لا تسمع بتاء الخطاب عموماً ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام ، أو الفاعل الوجود.
لاغية : بالنصب ، { فيها عين جارية } : عين اسم جنس ، أي عيون ، أو مخصوصة ذكرت تشريفاً لها.
{ فيها سرر مرفوعة } : من رفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما خوله ربه من الملك والنعيم ، أو مخبوءة من رفعت لك هذا ، أي خبأته.
{ وأكواب موضوعة } : أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء ، أو موضوعة بين أيديهم ، أو موضوعة على حافات العيون.

{ ونمارق مصفوفة } : أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها.
{ وزرابي مبثوثة } : متفرقة هنا وهنا في المجالس.
ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء ، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم ، أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل ، وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائماً فقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } ، وهي الجمال ، فإنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها ، من أكل لحمها ، وشرب لبنها ، والحمل عليها ، والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة ، وعيشها بأي نبات أكلته ، وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر ، وطواعيتها لمن يقودها ، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال ، وكثرة جنينها ، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها ، وهي لا شيء من الحيوان جميع هذه الخصال غيرها.
وقد أبان تعالى امتنانه عليهم بقوله : { أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } الآيات.
ولكونها أفضل ما عند الغرب ، جعلوها دية القتل ، ووهبوا المائة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه ، وذكرها الشعراء في مدح من وهبها ، كما قال :
أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية . . .
وقال آخر :
الواهب المائة الهجان برمتها . . .
وناسب التنبيه بالنظر إليها وإلى ما حوت من عجائب الصفات ، ما ذكر معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم ، وليدل على الاستدلال على إثبات الصانع ، وأنه ليس مختصاً بنوع دون نوع ، بل هو عام في كل موجوداته ، كما قيل :
وفي كل شيء له آية . . .
تدل على أنه واحد
وقال أبو العباس : المبرد : الإبل هنا السحاب ، لأن العرب قد تسميها بذلك ، إذ تأتي إرسالاً كالإبل ، وتزجى كما تزجى الإبل ، وهي في هيئتها أحياناً تشبه الإبل والنعام ، ومنه قوله :
كأن السحاب ذوين السما . . .
ء نعام تعلق بالأجل
وقال الزمخشري : ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة ، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل كثيراً في أشعارهم ، فجوّز أن يراد بها السحاب على طريقة التشبيه والمجاز ، انتهى.
وقرأ الجمهور : { الإبل } بكسر الباء وتخفيف اللام؛ والأصمعي عن أبي عمرو : بإسكان الباء؛ وعليّ وابن عباس : بشد اللام.
ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا : إنها السحاب ، عن قوم من أهل اللغة.
وقال الحسن : خص الإبل بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن ، فقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، وقال العرب : بعيدة العهد بالفيل ، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره ولا يحلب دره.
والإبل لا واحد له من لفظه وهو مؤنث ، ولذلك إذا صغر دخلته التاء فقالوا : أبيلة ، وقالوا في الجمع : آبال.
وقد اشتقوا من لفظه فقالوا : تأبل الرجل ، وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا : ما آبل زيداً.

وإبل اسم جاء على فعل ، ولم يحفظ سيبويه مما جاء على هذا الوزن غيره.
وكيف خلقت : جملة استفهامية في موضع البدل من الإبل ، وينظرون : تعدى إلى الإبل بواسطة إلى ، وإلى كيف خلقت على سبيل التعليق ، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم : عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال ، على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف ، فحكى أنهم قالوا : انظر إلى كيف يصنع.
وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت ، وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام ، لم يبق الاستفهام على حقيقته ، وقد بينا ذلك في كتابنا المسمى بالتذكرة وفي غيره.
وقرأ الجمهور : { خلقت } : رفعت ، { نصبت } سطحت بتاء التأنيث مبنياً للمفعول؛ وعليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بتاء المتكلم مبنياً للفاعل ، والمفعول محذوف ، أي خلقتها ، رفعتها ، نصبتها؛ رفعت رفعاً بعيد المدى بلا عمد ، نصبت نصباً ثابتاً لا تميل ولا تزول؛ سطحت سطحاً حتى صارت كالمهاد للمتقلب عليها.
وقرأ الجمهور : { سطحت } خفيفة الطاء؛ والحسن وهارون : بشدّها.
ولما حضهم على النظر ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتذكيرهم فقال : { فذكر } ولا يهمنك كونهم لا ينظرون.
{ إنما أنت مذكر } ، كقوله تعالى : { إن عليك إلا البلاغ } { لست عليهم بمسيطر } : أي بمسلط ، كقوله : { وما أنت عليهم بجبار } وقرأ الجمهور : بالصاد وكسر الطاء ، وابن عامر في رواية ، ونطيق عن قنبل ، وزرعان عن حفص : بالسين؛ وحمزة في رواية : بإشمام الزاي؛ وهارون : بفتح الطاء ، وهي لغة تميم.
وسيطر متعد عندهم ويدل عليه فعل المطاوعة وهو تسطر ، وليس في الكلام على هذا الوزن إلا مسيطر ومهيمن ومبيطر ومبيقر ، وهي أسماء فاعلين من سيطر وهيمن وبيطر.
وجاء مجيمر اسم واد ومديبر ، ويمكن أن يكون أصلهما مدبر ومجمر فصغراً.
وقرأ الجمهور : إلا حرف استثناء فقيل متصل ، أي فأنت مسيطر عليه.
وقيل : متصل من فذكر ، أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر ، وما بينهما اعتراض.
وقيل : منقطع ، وهي آية موادعة نسخت بآية السيف.
وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ وقتادة وزيد بن أسلم : ألا حرف تنبيه واستفتاح ، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم.
وقرأ الجمهور : { إيابهم } بتخفيف الياء مصدر آب؛ وأبو جعفر وشيبة : بشدّها مصدراً لفعيل من آب على وزن فيعال ، أو مصدراً كفوعل كحوقل على وزن فيعال أيضاً كحيقال ، أو مصدر الفعول كجهور على وزن فعوال كجهوار فأصله أوواب فقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ واجتمع في هذا البناء والبناءين قبله واو وياء ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ، وأدغم ولم يمنع الإدغام من القلب لأن الواو والياء ليستا عينين من الفعل ، بل الياء في فيعل والواو في فعول زائدتان.

وقال صاحب اللوامح ، وتبعه الزمخشري : يكون أصله إواباً مصدر أوّب ، نحو كذّب كذاباً ، ثم قيل إواباً فقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها.
قال الزمخشري : كديوان في دوان ، ثم فعل به ما فعل بسيد ، يعني أنه اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الواو ، فأما كونه مصدر أوب فإنه لا يجوز ، لأنهم نصوا على أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسوراً فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة ، ومثلوا بأخرواط مصدر أخروّط ، ومثلوا أيضاً بمصدر أوب نحو أوّب إواباً ، فهذه وضعت على الإدغام ، فحصنها من الإبدال ولم تتأثر للكسر.
وأما تشبيه الزمخشري بديوان فليس بجيد لأنهم لم ينطقوا بها في الوضع مدغمة ، فلم يقولوا دوّان ، ولولا الجمع على دواوين لم يعلم أن أصل هذه الياء واو ، وأيضاً فنصوا على شذوذ ديوان فلا يقاس عليه غيره.
وقال ابن عطية : ويصح أن يكون من أأوب ، فيجيء إيواباً ، سهلت الهمزة ، وكان اللازم في الإدغام يردها إواباً ، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس ، انتهى.
فقوله : وكان اللازم في الإدغام بردها إواباً ليس بصحيح ، بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إياباً ، لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل.
وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة ، فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إياباً.
ولما كان من مذهب الزمخشري أن تقديم المعمول يفيد الحصر ، قال معناه : أن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه تعالى ، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير ، ومعنى الوجوب : الوجوب في الحكمة ، والله أعلم.

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

قرأ أبو الدينار الأعرابي : والفجر ، والوتر ، ويسر بالتنوين في الثلاثة.
قال ابن خالويه : هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين ، وإن كان فعلاً ، وإن كان فيه ألف ولام.
قال الشاعر :
أقلّي اللوم عاذل والعتابا . . .
وقولي إن أصبت لقد أصابا
انتهى.
وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر ، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر ، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي.
وقرأ الجمهور : { وليال عشر } بالتنوين؛ وابن عباس : بالإضافة ، فضبطه بعضهم.
{ وليال عشر } بلام دون ياء ، وبعضهم وليالي عشر بالياء ، ويريد : وليالي أيام عشر.
ولما حذف الموصوف المعدود ، وهو مذكر ، جاء في عدده حذف التاء من عشر.
والجمهور : { والوتر } بفتح الواو وسكون التاء ، وهي لغة قريش.
والأغر عن ابن عباس ، وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن : بخلاف عنه؛ والأخوان : بكسر الواو ، وهي لغة تميم ، واللغتان في الفرد ، فأما في الرحل فالكسر لا غير.
وحكى الأصمعي : فيه اللغتين؛ ويونس عن أبي عمرو : بفتح الواو وكسر التاء.
والجمهور : { يسر } بحذف الياء وصلاً ووقفاً؛ وابن كثير : بإثباتها فيهما؛ ونافع وابن عمرو : بخلاف عنه بياء في الوصل وبحذفها في الوقف؛ والظاهر وقول الجمهور ، منهم علي وابن عباس وابن الزبير : أن الفجر هو المشهور ، أقسم به كما أقسم بالصبح ، ويراد به الجنس ، لا فجر يوم مخصوص.
وقال ابن عباس ومجاهد؛ من يوم النحر؛ وعكرمة : من يوم الجمعة؛ والضحاك : من ذي الحجة؛ ومقاتل : من ليلة جمع؛ وابن عباس وقتادة : من أول يوم من المحرم.
وعن ابن عباس أيضاً : الفجر : النهار كله؛ وعنه أيضاً وعن زيد بن أسلم : الفجر هو صلاة الصبح ، وقرآنها هو قرآن الفجر.
وقيل : فجر العيون من الصخور وغيرها.
وقال ابن الزبير والكلبي وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي وعطية العوفي : هي عشر ذي الحجة؛ وابن عباس والضحاك : العشر الأواخر من رمضان.
وقال ابن جريج : الأول منه؛ ويمان وجماعة : الأول من المحرم ومنه يوم عاشوراء؛ ومسروق ومجاهد : وعشر موسى عليه السلام التي أتمها الله تعالى.
قيل : والأظهر قول ابن عباس للحديث المتفق على صحته.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
قال التبريزي : اتفقوا على أنه العشر الأواخر ، يعني من رمضان ، لم يخالف فيه أحد ، فتعظيمه مناسب لتعظيم القسم.
وقال الزمخشري : وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة.
فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت : لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر ، بعض منها أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها.

فإن قلت : فهل لا عرفت بلام العهد لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت : لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير ، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية ، انتهى.
أما السؤالان فظاهران ، وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق لا يعقل منه معنى فيقبل أو يرد.
{ والشفع والوتر } : ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولاً ضجرنا من قراءتها فضلاً عن كتابتها في كتابنا هذا ، وعن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هي الصلوات ، منها الشفع ومنها الوتر » وروى أبو أيوب عنه صلى الله عليه وسلم : « الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر » وروى جابر عنه صلى الله عليه وسلم : « الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة » وفي هذا الحديث تفسيره عليه الصلاة والسلام الفجر بالصبح والليالي العشر بعشر النحر ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، واختاره النحاس.
وقال حديث أبي الزبير عن جابر : هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أصح إسناداً من حديث عمران بن حصين : « صوم عرفة وتر لأنه تاسعها ، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها » وذكر ابن عطية في الشفع والوتر أربعة عشر قولاً ، والزمخشري ثلاثة أقوال ، ثم قال : وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه ، انتهى.
{ والليل إذا يسر } : قسم بجنس الليل ، ويسري : يذهب وينقرض ، كقوله : { والليل إذا أدبر } وقال الأخفش وابن قتيبة : يسري فيه ، فيكون من باب ليلك نائم.
وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : المراد ليلة جمع لأنه يسري فيها ، وجواب القسم محذوف.
قال الزمخشري : وهو لنعذبن ، يدل عليه قوله : { ألم تر } إلى قوله : { فصب عليهم ربك سوط عذاب }.
وقال ابن الأنباري : الجواب : { إن ربك لبالمرصاد }.
والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية ، وهو قوله : { إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم } وتقديره : لإيابهم إلينا وحسابهم علينا.
وقول مقاتل : هل هنا في موضع تقديره : إن في ذلك قسماً لذي حجر.
فهل على هذا في موضع جواب القسم ، قول لم يصدر عن تأمل ، لأن المقسم عليه على تقدير أن يكون التركيب إن في ذلك قسماً لذي حجر لم يذكر ، فيبقى قسم بلا مقسم عليه ، لأن الذي قدره من إن في ذلك قسماً لذي حجر لا يصح أن يكون مقسماً عليه ، وهل في ذلك تقرير على عظم هذه الأقسام ، أي هل فيها مقنع في القسم لذي عقل فيزدجر ويفكر في آيات الله.
ثم وقف المخاطب على مصارع الأمم الكافرة الماضية مقصوداً بذلك توعد قريش ، ونصب المثل لها.

وعاد هو عاد بن عوص ، وأطلق ذلك على عقبه ، ثم قيل للأولين منهم عاداً الأولى وإرم ، نسبة لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة.
وقال مجاهد وقتادة : هي قبيلة بعينها.
وقال ابن إسحاق : إرم هو أبو عاد كلها.
وقال الجمهور : إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن.
وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية.
وقال ابن المسيب والمقبري : هي دمشق.
وقال مجاهد أيضاً : إرم معناه القديمة.
وقرأ الجمهور : بعاد مصر ، وفا إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية لأنه اسم للقبيلة ، وعاد ، وإن كان اسم القبيلة ، فقد يلحظ فيه معنى الحي فيصرف أو لا يلحظ ، فجاء على لغة من صرف هنداً ، وإرم عطف بيان أو بدل.
وقرأ الحسن : بعاد غير ممنوع الصرف مضافاً إلى إرم ، فجاز أن يكون إرم وجداً ومدينة؛ والضحاك : إرم بفتح الراء وما بعدها ممنوعي الصرف.
وقرأ ابن الزبير : بعاد بالإضافة ، إرم بفتح الهمزة وكسر الراء ، وهي لغة في المدينة ، والضحاك : بعاد مصروفاً ، وبعاد غير مصروف أيضاً ، أرم بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف أرم بكسر الراء؛ وعن ابن عباس والضحاك : أرم فعلاً ماضياً ، أي بلي ، يقال : رم العظم وأرم هو : أي بلي ، وأرمه غيره معدى بالهمزة من رم الثلاثي.
وذات على هذه القراءة مكسورة التاء؛ وابن عباس أيضاً : فعلاً ماضياً ، ذات بنصب التاء على المفعول به ، وذات بالكسر صفة لإرم؛ وسواء كانت اسم قبيلة أو مدينة ، وإن كان يترجح كونها مدينة بقوله : { لم يخلق مثلها في البلاد } ، فإذا كانت قبيلة صح إضافة عاد إليها وفكها منها بدلاً أو عطف بيان ، وإن كانت مدينة فالإضافة إليها ظاهرة والفك فيها يكون على حذف مضاف ، أي بعاد أهل إرم ذات العماد.
وقرىء : { إرم ذات } ، بإضافة إرم إلى ذات ، والإرم : العلم ، يعني بعاد : أعلام ذات العماد.
ومن قرأ : أرم فعلاً ماضياً ، ذات بالنصب ، أي جعل الله ذات العماد رميماً ، ويكون { إرم } بدلاً من { فعل ربك } وتبييناً لفعل ، وإذا كانت { ذات العماد } صفة للقبيلة.
فقال ابن عباس : هي كناية عن طول أبدانهم ، ومنه قيل : رفيع العماد ، شبهت قدودهم بالأعمدة ، ومنه قولهم : رجل عمد وعمدان أي طويل.
وقال عكرمة ومقاتل : أعمدة بيوتهم التي كانوا يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود.
وقال ابن زيد : أعمدة بنيانهم ، وإذا كانت صفة للمدينة ، فأعمدة الحجارة التي بنيت بها.
وقيل : القصور العالية والأبراج يقال لها عماد.
وحكي عن مجاهد : أرم مصدر ، أرم يأرم إذا هلك ، والمعنى : كهلاك ذات العماد ، وهذا قول غريب ، كأن معنى { كيف فعل ربك بعاد } : كيف أهلك عاداً كهلاك ذات العماد.
وذكر المفسرون أن ذات العماد مدينة ابتناها شداد بن عاد لما سمع بذكر الجنة على أوصاف بعيد ، أو مستحيل عادة أن يبنى في الأرض مثلها ، وأن الله تعالى بعث عليها وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلها هلكوا جميعاً ، ويوقف على قصتهم في كتاب التحرير وشيء منها في الكشاف.

وقرأ الجمهور : { لم يخلق } مبنياً للمفعول ، { مثلها } رفع؛ وابن الزبير : مبنياً للفاعل ، مثلها نصباً ، وعنه : نخلق بالنون والضمير في مثلها عائد على المدينة التي هي ذات العماد في البلاد ، أي في بلاد الدنيا ، أو عائد على القبيلة ، أي في عظم أجسام وقوة.
وقرأ ابن وثاب وثمود بالتنوين.
والجمهور : بمنع الصرف.
{ جابوا الصخر } : خرقوه ونحتوه ، فاتخذوا في الحجارة منها بيوتاً ، كما قال تعالى : { وتنحتون من الجبال بيوتاً } قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بالوادي ، وادي القرى.
وقيل : جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه فعل ذي القوة والآمال.
{ ذي الأوتاد } : تقدم الكلام على ذلك في سورة ص.
{ الذين } صفة لعاد وثمود وفرعون ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع على إضمارهم.
{ فصب عليهم ربك سوط عذاب } : أبهم هنا وأوضح في الحاقة وفي غيرها ، ويقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، واستعمل الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب ، قال :
فصب عليهم محصرات كأنها . . .
شآبيب ليست من سحاب ولا قطر
يريد : المحدودين في قصة الإفك.
وقال بعض المتأخرين في صفة الحبل :
صببنا عليهم ظالمين شياطناً . . .
فطارت بها أيدي سراع وأرجل
وخص السوط فاستعير للعذاب ، لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره.
وقال الزمخشري : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
والمرصاد والمرصد : المكان الذي يترتب فيه الرصد ، مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المرصاد في الآية اسم فاعل ، كأنه قال : لبالراصد ، فعبر ببناء المبالغة ، انتهى.
ولو كان كما زعم ، لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها ، لا زائدة ولا غير زائدة.
{ فأما الإنسان } : ذكر تعالى ما كانت قريش تقوله وتستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده ، فيرون المكرم من عنده الثروة والأولاد ، والمهان ضده.
ولما كان هذا غالباً عليهم وبخوا بذلك.
والإنسان اسم جنس ، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { فأما الإنسان } ؟ قلت : بقوله : { إن ربك لبالمرصاد } ، كأنه قال : إن الله تعالى لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة ، وهو مرصد للعاصي؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ، انتهى.
وفيه التصريح بمذهب الاعتزال في قوله : لا يريد من الإنسان إلا الطاعة.

وإذا العامل فيه فيقول : والنية فيه التأخير ، أي فيقول كذا وقت الابتداء ، وهذه الفاء لا تمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإن كانت فاء دخلت في خبر المبتدأ لأجل أما التي فيها معنى الشرط ، وبعد أما الثانية مضمر به وقع التوازن بين الجملتين تقديره : فأما إذا هو ما ابتلاه ، وفيقول خبر عن ذلك المبتدأ المضمر ، وابتلاه معناه : اختبره ، أيشكر أم يكفر إذا بسط له؟ وأيصبر أم يجزع إذا ضيق عليه؟ لقوله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } وقابل ونعمه بقوله : { فقدر عليه رزقه } ، ولم يقابل { فأكرمه } بلفظ فأهانه ، لأنه ليس من يضيق عليه الرزق ، كان ذلك إهانة له.
ألا ترى إلى ناس كثير من أهل الصلاح مضيقاً عليهم الرزق كحال الإمام أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني رضي الله تعالى عنه وغيره ، وذم الله تعالى العبد في حالتيه هاتين.
أما في قوله : { فيقول ربي أكرمن } ، فلأنه إخبار منه على أنه يستحق الكرامة ويستوجبها.
وأما قوله : { أهانن } ، فلأنه سمى ترك التفضيل من الله تعالى إهانة وليس بإهانة ، أو يكون إذا تفضل عليه أقر بإحسان الله إليه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك تفضل الله إهانة ، لا إلى الاعتراف بقوله : { أكرمن }.
وقرأ ابن كثير : أكرمني وأهانني بالياء فيهما؛ ونافع : بالياء وصلاً وحذفها وقفاً ، وخير في الوجهين أبو عمرو ، وحذفها باقي السبعة فيهما وصلاً ووقفاً ، ومن حذفها وقفاً سكن النون فيه.
وقرأ الجمهور : { فقدر } بخف الدال؛ وأبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه؛ وابن عامر : بشدها.
قال الجمهور : هما بمعنى واحد بمعنى ضيق ، والتضعيف فيه للمبالغة لا للتعدي ، ولا يقتضي ذلك قول الإنسان { أهانن } ، لأن إعطاء ما يكفيه لا إهانة فيه.
{ كلا } : رد على قولهم ومعتقدهم ، أي ليس إكرام الله وتقدير الرزق سببه ما ذكرتم ، بل إكرامه العبد : تيسيره لتقواه ، وإهانته : تيسيره للمعصية؛ ثم أخبرهم بما هم عليه من أعمالهم السيئة.
وقال الزمخشري : كلا ردع للإنسان عن قوله ، ثم قال : بل هنا شر من هذا القول ، وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدون فيها ما يلزمهم من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرة وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ويحبونه فيشحون به ، انتهى.
وفي الحديث : « أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم » وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمر : يكرمون ولا يحضون ، ويأكلون ويحبون بياء الغيبة فيها؛ وباقي السبعة ، بتاء الخطاب ، وأبو جعفر وشيبة والكوفيون وابن مقسم : تحاضون بفتح التاء والألف أصله تتحاضون ، وهي قراءة الأعمش ، أي يحض بعضكم بعضاً؛ وعبد الله أو علقمة وزيد بن عليّ وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي : كذلك إلا أنهم ضموا التاء ، أي تحاضون أنفسكم ، أي بعضكم بعضاً ، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى فعل أيضاً.

{ على طعام } ، يجوز أن يكون بمعنى إطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، والأولى أن يكون على حذف مضاف ، أي على بذل طعام.
{ وتأكلون التراث } ، كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد ، فيأكلون نصيبهم ويقولون : لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة ، والتراث تاؤه بدل من واو ، كالتكلة والتخمة من توكلت ووخمت.
وقيل : كانوا يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة وهم عالمون بذلك يجمعون بين الحلال والحرام ويسرفون في إنفاق ما ورثوه لأنهم ما تعبوا في تحصيله ، كما شاهدنا الوراث البطالين.
{ كلا } : ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم.
ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه في دار الدنيا.
{ دكاً دكاً } : حال كقولهم : باباً باباً ، أي مكرراً عليهم الدّك.
{ وجاء ربك } ، قال القاضي منذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك ، وليس بمجيء نقلة ، وكذلك مجيء الطامّة والصاخة.
وقيل : وجاء قدرته وسلطانه.
وقال الزمخشري : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وسلطانه ، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه ، انتهى.
والملك اسم جنس يشمل الملائكة.
وروي أنه ملائكة كل سماء تكون صفاً حول الأرض في يوم القيامة.
قال الزمخشري : { صفاً صفاً } تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس ، انتهى.
{ وجيء يومئذ بجهنم } ، كقوله تعالى : { وبرزت الجحيم لمن يرى } { يومئذ } بدل من { إذا }.
قال الزمخشري : وعامل النصب فيهما يتذكر ، انتهى.
ظاهر كلامه أن العامل في البدل هو العامل نفسه في المبدل منه ، وهو قول قد نسب إلى سيبويه ، والمشهور خلافه ، وهو أن البدل على نية تكرار العامل ، أي يتذكر ما فرط فيه.
{ وأنى له الذكرى } : أي منفعة الذكرى ، لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر ، لو اتعظ في الدنيا لنفعه ذلك في الأخرى ، قاله الجمهور.
قال الزمخشري وغيره : أو وقت حياتي في الدنيا ، كما تقول : جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا وكذا.
وقال قوم : لحياتي في قبري ، يعني الذي كنت أكذب به.
قال الزمخشري : وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجورين عن الطاعات مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء والبدع ، وإلا فما معنى التحسر؟ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
وقرأ الجمهور : { لا يعذب . . .
ولا يوثق } : مبنيين للفاعل ، والضمير في { عذابه } ، و { وثاقه } عائد على الله تعالى ، أي لا يكل عذابه ولا وثاقه إلى أحد ، لأن الأمر لله وحده في ذلك؛ أو هو من الشدّة في حيز لم يعذب قط أحد في الدنيا مثله ، والأول أوضح لقوله : { لا يعذب . . .
ولا يوثق } ، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد ، بل موضوع ، لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلاً.

ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائداً على الكافر ، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.
وقيل إلى الله ، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر ، ويضعف هذا عمل لا يعذب في يومئذ ، وهو ظرف مستقبل.
وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوّار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو : بفتح الذال والثاء مبنيين للمفعول ، فيجوز أن يكون الضمير فيهما مضافاً للمفعول وهو الأظهر ، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ، أو لا يحمل أحد عذاب الإنسان لقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وعذاب وضع موضع تعذيب.
وفي اقتباس مثل هذا خلاف ، وهو أن يعمل ما وضع لغير المصدر ، كالعطاء والثواب والعذاب والكلام.
فالبصريون لا يجيزونه ويقيسونه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم : وثاقه بكسر الواو؛ والجمهور : بفتحها ، والمعذب هو الكافر على العموم.
وقيل : هو أمية بن خلف.
وقيل : أبيّ بن خلف.
وقيل : المراد به إبليس؛ وقام الدليل على أنه أشد من الناس عذاباً ، ويدفع القول هذا قوله : { يومئذ يتذكر الإنسان } ، والضمائر كلها مسوقة له.
ولما ذكر تعالى شيئاً من أحوال من يعذب ، ذكر شيئاً من أحوال المؤمن فقال : { يا أيتها النفس } ، وهذا النداء الظاهر إنه على لسان ملك.
وقرأ الجمهور : بتاء التأنيث.
وقرأ زيد بن علي : يا أيها بغير تاء ، ولا أعلم أحداً ذكر أنها تذكر ، وإن كان المنادى مؤنثاً ، إلا صاحب البديع.
وهذه القراءة شاهدة بذلك ، ولذلك وجه من القياس ، وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع؛ فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث.
{ المطمئنة } : الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن ، أو التي كانت مطمئنة إلى الحق لم يخالطها شك.
قال ابن زيد : يقال لها ذلك عند الموت وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا.
وقيل : عند البعث.
وقيل : عند دخول الجنة.
{ إلى ربك } : أي إلى موعد ربك.
وقيل : الرب هنا الإنسان دون النفس ، أي ادخل في الأجساد ، والنفس اسم جنس.
وقيل : هذا النداء هو الآن للمؤمنين.
لما ذكر حال الكفار قال : يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين ، { راضية } بما أوتيته ، { مرضية } عند الله.
{ فادخلي في عبادي } : أي في جملة عبادي الصالحين.
{ وادخلي جنتي } معهم.
وقيل : النفس والروح ، والمعنى : فادخلي في أجساد عبادي.
وقرأ الجمهور : { في عبادي } جمعاً؛ وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني : في عبدي على الإفراد ، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس ، فمدلوله ومدلول الجمع واحد.
وقيل : هو على حذف خاطب النفس مفردة فقال : فادخلي في عبدي : أي في جسد عبدي.
وتعدى فادخلي أولاً بفي ، وثانياً بغير فاء ، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعددت إليه بفي ، دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ، ومنه : { فادخلي في عبادي }.
وإذا كان المدخول فيه ظرفاً حقيقياً ، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة في.
قيل : في عثمان بن عفان.
وقيل : في حمزة.
وقيل : في خبيب بن عدي ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

{ وأنت حل } : جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر.
وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة.
وقال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال ، إحلال حرمته.
وقال شرحبيل بن سعد : يعني { وأنت حل بهذا البلد } ، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر.
ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : { وأنت حل } في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال.
إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ انتهى.
وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية؛ فليست من الإخبار بالمستقبل.
وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى؛ وهذا من مبادىء علم النحو.
وأما قوله : وكفاك دليلاً قاطعاً الخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل { وأنت حل } على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة.
وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : { وأنت حل بهذا البلد } على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامته فيها ، فصارت أهلاً لأن يقسم بها.

والظاهر أن قوله : { ووالد وما ولد } ، لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد.
وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان.
وقال مجاهد : آدم وجميع ولده.
وقيل : والصالحين من ذريته.
وقيل : نوح وذريته.
وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليه السلام وجميع ولده.
وقيل : ووالد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ولد إبراهيم عليه السلام.
وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنما أنا لكم بمنزلة الوالد » ولقراءة عبد الله : { وأزواجه أمهاتهم } وهو أب لهم ، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده.
أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه.
فإن قلت : لم نكر؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب.
فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد؟ قلت : فيه ما في قوله : { والله أعلم بما وضعت } أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعاً عجيب الشأن. انتهى.
وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله : { ما طاب لكم } { وما خلق الذكر والأنثى } وهو الخالق للذكر والأنثى. انتهى.
وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له.
جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } : هذه الجملة المقسم عليها.
والجمهور : على أن الإنسان اسم جنس ، وفي كبد : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره ، إما في جنة فتزول عنه المشقات؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده.
وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد : { في كبد } معناه : منتصب القامة واقفاً ، ولم يخلق منكباً على وجهه ، وهذا امتنان عليه.
وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له بالخروج ، قلب رأسه إلى قدمي أمه.
وعن ابن عمر : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضراء.
وقال ابن زيد : { الإنسان } : آدم ، { في كبد } : في السماء ، سماها كبداً ، وهذه الأقوال ضعيفة ، والأول هو الظاهر.
والظاهر أن الضمير في { أيحسب } عائد على { الإنسان } ، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد ، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده.
يقول على سبيل الفخر : { أهلكت مالاً لبداً } : أي في المكارم وما يحصل به الثناء ، أيحسب أن أعماله تخفى ، وأنه لا يراه أحد ، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء.

وقيل : الضمير في { أيحسب } لبعض صناديد قريش.
وقيل : هو أبو الأسد أسيد بن كلدة ، كان يبسط له الأديم العكاظي ، فيقوم عليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعاً ، ويبقى موضع قدميه.
وقيل : الوليد بن المغيرة.
وقيل : الحرث بن عامر بن نوفل ، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأمره بالكفارة ، فقال : لقد أهلكت مالاً لبداً في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور : لبداً ، بضم اللام وفتح الباء؛ وأبو جعفر : بشدّ الباء؛ وعنه وعن زيد بن علي : لبداً بسكون الباء ، ومجاهد وابن أبي الزناد : بضمهما.
ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال : { ألم نجعل له عينين } يبصر بهما ، { ولساناً } يفصح عما في باطنه ، { وشفتين } يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك.
{ وهديناه النجدين } ، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : طريق الخير والشر.
وقال ابن عباس أيضاً ، وعليّ وابن المسيب والضحاك : الثديين ، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه.
{ فلا اقتحم العقبة } : أي لم يشكر تلك النعم السابقة ، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل ، وهو ما صعب منه ، وكان صعوداً ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها.
واقتحمها : دخلها بسرعة وضغط وشدّة ، والقحمة : الشدّة والسنة الشديدة.
ويقال : قحم في الأمر قحوماً : رمى نفسه فيه من غير روية.
والظاهر أن لا للنفي ، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج ، كأنه قال : وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل ، فما فعل خيراً ، أي فلم يقتحم.
قال الفرّاء والزجاج : ذكر لا مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد ، كقوله تعالى : { فلا صدق ولا صلى } وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } ، قائماً مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
وقيل : هو جار مجرى الدعاء ، كقوله : لا نجا ولا سلم ، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً.
وقيل : هو تحضيض بألا ، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض ، وليس معها الهمزة.
وقيل : العقبة : جهنم ، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال ، قاله الحسن.
وقال ابن عباس ومجاهد وكعب : جبل في جهنم.
وقال الزمخشري ، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج : هي بمعنى لا متكررة في المعنى ، لأن معنى { فلا اقتحم العقبة } : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً.
ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ انتهى ، ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلاً ماضياً.

وقرأ ابن كثير والنحويان : فك فعلاً ماضياً ، رقبة نصب ، أو أطعم فعلاً ماضياً؛ وباقي السبعة : فك مرفوعاً ، رقبة مجروراً ، وإطعام مصدر منون معطوف على فك.
وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير ، إلا أنهما قرآ : ذا مسغبة بالألف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً : أو إطعام في يوم ذا بالألف ، ونصب ذا على المفعول ، أي إنساناً ذا مسغبة ، ويتيماً بدل منه أو صفة.
وقرأ بعض التابعين : فك رقبة بالإضافة ، أو أطعم فعلاً ماضياً.
ومن قرأ فك بالرفع ، فهو تفسير لاقتحام العقبة ، والتقدير : وما أدراك ما اقتحام العقبة.
ومن قرأ فعلاً ماضياً ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ، ويجيء فك بدلاً من اقتحم ، قاله ابن عطية.
وفك الرقبة : تخليصها من الأسر والرق.
{ ذا مقربة } : ليجتمع صدقة وصلة ، وأو هنا للتنويع ، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع.
{ ذا متربة } ، قال : هم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب ، لا بيوت لهم.
وقال ابن عباس : هو الذي يخرج من بيته ، ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب.
{ ثم كان من الذين آمنوا } : هذا معطوف على قوله : { فلا اقتحم } ؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة ، لا للتراخي في الزمان ، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع ، أو يكون المعنى : ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات ، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل : ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا.
{ وتواصوا بالصبر } : أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي ، { وتواصوا بالمرحمة } : أي بالتعاطف والتراحم ، أو بما يؤدي إلى رحمة الله.
والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : { مؤصدة } بالهمز هنا وفي الهمزة ، فيظهر أنه من آصدت قيل : ويجوز أن يكون من أوصدت ، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً.
وقرأ باقي السبعة بغير همز ، فيظهر أنه من أوصدت.
وقيل : يجوز أن يكون من آصدت ، وسهل الهمزة ، وقال الشاعر :
قوماً تعالج قملاً أبناءهم . . .
وسلاسلاً حلقاً وباباً مؤصداً

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

ولما تقدّم القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها ، أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم والسفلي ، وبما هو آلة التفكر في ذلك ، وهو النفس.
وكان آخر ما قبلها مختتماً بشيء من أحوال الكفار في الآخرة ، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا ، وفي ذلك بمآلهم في الآخرة إلى النار ، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل.
وتقدم الكلام على ضحى في سورة طه عند قوله : { وأن يحشر الناس ضحى } وقال مجاهد : هو ارتفاع الضوء وكماله.
وقال مقاتل : حرها لقوله { ولا تضحى } وقال قتادة : هو النهار كله ، وهذا ليس بجيد ، لأنه قد أقسم بالنهار.
والمعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلاً ، فإذا زاد فهو الضحاء ، بالمد وفتح الضاد إلى الزوال ، وقول مقاتل تفسير باللازم.
وما نقل عن المبرد من أن الضحى مشتق من الضح ، وهو نور الشمس ، والألف مقلوبة من الحاء الثانية؛ وكذلك الواو في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية ، لعله مختلق عليه ، لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا ، وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى.
{ والقمر إذا تلاها } ، قال الحسن والفراء : تلاها معناه تبعها دأباً في كل وقت ، لأنه يستضيء منها ، فهو يتلوها لذلك.
وقال ابن زيد : يتلوها في الشهر كله ، يتلوها في النصف الأول من الشهر بالطلوع ، وفي الآخر بالغروب.
وقال ابن سلام : في النصف الأول من الشهر ، وذلك لأنه يأخذ موضعها ويسير خلفها ، إذا غابت يتبعها القمر طالعاً.
وقال قتادة : إنما ذلك البدر ، تغيب هي فيطلع هو.
وقال الزجاج وغيره : تلاها معناه : امتلأ واستدار ، وكان لها تابعاً للمنزل من الضياء والقدر ، لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر.
وقيل : من أول الشهر إلى نصفه ، في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو؛ وفي النصف الآخر يتحاوران ، وهو أن تغرب هي فيطلع هو.
وقال الزمخشري : تلاها طالعاً عند غروبها أخداً من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر.
{ والنهار إذا جلاها } : الظاهر أن مفعول جلاها هو الضمير عائد على الشمس ، لأنه عند انبساط النهار تنجلي الشمس في ذلك الوقت تمام الإنجلاء.
وقيل : يعود على الظلمة.
وقيل : على الأرض.
وقيل : على الدنيا ، والذي يجلي الظلمة هو الشمس أو النهار ، فإنه وإن لم تطلع الشمس لا تبقى الظلمة ، والفاعل بجلاها ضمير النهار.
قيل : ويحتمل أن يكون عائداً على الله تعالى ، كأنه قال : والنهار إذا جلى الله الشمس ، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته.
{ والليل إذا يغشاها } : أي يغشى الشمس ، فبدخوله تغيب وتظلم الآفاق ، ونسبة ذلك إلى الليل مجاز.
وقيل : الضمير عائد على الأرض ، والذي تقتضيه الفصاحة أن الضمائر كلها إلى قوله : { يغشاها } عائدة على الشمس.

وكما أن النهار جلاها ، كان النهار هو الذي يغشاها.
ولما كانت الفواصل ترتبت على ألف وهاء المؤنث ، أتى { والليل إذا يغشاها } بالمضارع ، لأنه الذي ترتب فيه.
ولو أتى بالماضي ، كالذي قبله وبعده ، كان يكون التركيب إذا غشيها ، فتفوت الفاصلة ، وهي مقصودة.
وقال القفال ما ملخصه : هذه الأقسام بالشمس في الحقيقة بحسب أوصاف أربعة : ضوءها عند ارتفاع النهار وقت انتشار الحيوان ، وطلب المعاش ، وتلو القمر لها بأخذه الضوء ، وتكامل طلوعها وبروزها وغيبوبتها بمجيء الليل.
وما في قوله : { وما بناها . . .
وما طحاها . . .
وما سواها } ، بمعنى الذي ، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة ، واختاره الطبري ، قالوا : لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم.
وقيل : مصدرية ، قاله قتادة والمبرد والزجاج ، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم.
وقال الزمخشري : جعلت مصدرية ، وليس بالوجه لقوله : { فألهمها } ، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا ، انتهى.
أما قوله : وليس بالوجه لقوله : { فألهمها } ، يعني من عود الضمير في { فألهمها } على الله تعالى ، فيكون قد عاد على مذكور ، وهو ما المراد به الذي ، ولا يلزم ذلك لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى ، أي وبناها هو ، أي الله تعالى ، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً فقلت : عجبت مما ضرب عمراً تقديره : من ضرب عمر؟ وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير ، وقوله : وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك ، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر ، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية ، لأنهما لا يوصف بهما ، بخلاف الذي ، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما ، فلا ينفرد به ما دون من ، وقوله : وفي كلامهم إلخ.
تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية.
وقال الزمخشري : فإن قلت : الأمر في نصب إذا معضل ، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين ، وفي نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو؛ وأما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.
قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه ، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً ، كما تقول؛ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، انتهى.

أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار ، أعني أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك.
وقوله : فتقع في العطف على عاملين ، ليس ما في الآية من العطف على عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب ، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : امرر بزيد قائماً وعمرو جالساً؟ وقد أنشد سيبويه في كتابه :
فليس بمعروف لنا أن نردها . . .
صحاحاً ولا مستنكران تعقرا
فهذا من عطف مجرور ، ومرفوع على مجرور ومرفوع ، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب ، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ، وهذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : مررت بزيد أمس وعمرو اليوم ، ونحن نجيز هذا.
وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل يدل على المنع.
قال الخليل : في قوله عز وجل : { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى } الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء ، انتهى.
وأما قوله : إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فليس هذا الحكم مجمعاً عليه ، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : أقسم أو أحلف والله لزيد قائم.
وأما قوله : والواوات العواطف نوائب عن هذه الخ ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار.
والذي نقوله : إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام ، كقوله : { والنجم إذا هوى } { والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر } { والقمر إذا تلاها } ، { والليل إذا يغشى } وما أشبهها.
فإذا ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ، لأنه فعل إنشائي.
فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه ، أي : وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل.
فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزماً ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره : والنجم كائناً إذا هوى ، والليل كائناً إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائناً أن يكون منصوباً بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً.

وأيضاً فقد يكون القسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث ، كما لا تكون أخباراً.
{ ونفس وما سواها } : اسم جنس ، ويدل على ذلك ما بعده من قوله : { فألهمها } وما بعده ، وتسويتها : إكمال عقلها ونظرها ، ولذلك ارتبط به { فألهمها } ، لأن الفاء تقتضي الترتيب على ما قبلها من التسوية التي هي لا تكون إلا بالعقل.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم نكرت النفس؟ قلت : فيه وجهان : أحدها : أن يريد نفساً خاصة من النفوس ، وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس ، انتهى.
وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها ، فلا تكون إلا للجنس.
ألا ترى إلى قوله : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ، كيف تقتضي التغاير في المزكى وفي المدسى؟ { فألهمها } ، قال ابن جبير : ألزمها.
وقال ابن عباس : عرفها.
وقال ابن زيد : بين لها.
وقال الزجاج : وفقها للتقوى ، وألهمها فجورها : أي خذلها ، وقيل : عرفها وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى.
وقال الزمخشري : ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامها وإعقالها ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ، فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما.
والتزكية : الإنماء ، والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
{ قد أفلح من زكاها } ، قال الزجاج وغيره : هذا جواب القسم ، وحذفت اللام لطول الكلام ، والتقدير : لقد أفلح.
وقيل : الجواب محذوف تقديره لتبعثن.
وقال الزمخشري : تقديره ليدمدمن الله عليهم ، أي على أهل مكة ، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً.
وأما { قد أفلح من زكاها } فكلام تابع لقوله : { فألهمها فجورها وتقواها } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، انتهى.
وزكاؤها : ظهورها ونماؤها بالعمل الصالح ، ودساها : أخفاها وحقرها بعمل المعاصي.
والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من ، وقاله الحسن وغيره.
ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى ، وعاد الضمير مؤنثاً باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث.
وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل ، كان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال : « اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها » وقال الزمخشري : وأما قول من زعم أن الضمير في زكى ودسى لله تعالى ، وأن تأنيث الراجع إلى من لأنه في معنى النفس ، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون على الله قدراً هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه تعالى ، انتهى.
فجرى على عادته في سب أهل السنة.
هذا ، وقائل ذلك هو بحر العلم عبد الله بن عباس ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « وزكها أنت خير من زكاها »

وقال تعالى : { دساها } في أهل الخير بالرياء وليس منهم؛ وحين قال : { وتقواها } أعقبه بقوله : { قد أفلح من زكاها }.
ولما قال : { وقد خاب من دساها } ، أعقبه بأهل الجنة.
ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه ، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم.
{ بطغواها } : الباء عند الجمهور سببية ، أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها.
وقال ابن عباس : الطغوى هنا العذاب ، كذبوا به حتى نزل بهم لقوله : { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } وقرأ الجمهور : { بطغواها } بفتح الطاء ، وهو مصدر من الطغيان ، قلبت فيه الياء واواً فصلاً بين الاسم وبين الصفة ، قالوا فيها صرنا وحدنا ، وقالوا في الاسم تقوى وشروي.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة : بضم الطاء ، وهو مصدر كالرجعى ، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا ، لكنهم شذوا فيه.
{ إذ انبعث } : أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص ، والناصب لإذ { كذبت } ، و { أشقاها } : قدار بن سالف ، وقد يراد به الجماعة ، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عنى به جمع.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة ، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها ، انتهى.
فأطلق الإضافة ، وكان ينبغي أن يقول : إلى معرفة ، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك إلا أن يكون مفرداً مذكراً ، كحاله إذا كان بمن.
والظاهر أن الضمير في { لهم } عائد على أقرب مذكور وهو { أشقاها } إذا أريد به الجماعة ، ويجوز أن يعود على { ثمود }.
{ رسول } : هو صالح عليه السلام.
وقرأ الجمهور : { ناقة الله } بنصب التاء ، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله ، لأنه قد عطف عليه ، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر ، كقولك : الأسد الأسد ، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك.
{ فكذبوه } ، الجمهور على أنهم كانوا كافرين ، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحاً بمدة ، ثم كذبوا وعقروا ، وأسند العقر للجماعة لكونهم راضين به ومتمالئين عليه.
وقرأ الجمهور : { فدمدم } بميم بعد دالين؛ وابن الزبير : قد هدم بهاء بينهما ، أي أطبق عليهم العذاب مكرراً ذلك عليهم ، { بذنبهم } : فيه تخويف من عاقبة الذنوب ، { فسواها } ، قيل : فسوى القبيلة في الهلاك ، عاد عليها بالتأنيث كما عاد في { بطغواها }.
وقيل : سوى الدمدمة ، أي سواها بينهم ، فلم يفلت منهم صغيراً ولا كبيراً.
وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر : فلا يخاف بالفاء؛ وباقي السبعة ولا بالواو؛ والضمير في يخاف الظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو ربهم ، أي لأدرك عليه تعالى في فعله بهم لا يسئل عما يفعل ، قاله ابن عباس والحسن ، وفيه ذم لهم وتعقبه لآثارهم.
وقيل : يحتمل أن يعود على صالح ، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم ، إذ كان قد أنذرهم وحذرهم.
ومن قرأ : ولا يحتمل الضمير الوجهين.
وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي : الواو واو الحال ، والضمير في يخاف عائد على { أشقاها } ، أي انبعث لعقرها ، وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه ، والعقبى : خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه ، وهذا فيه بعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها.

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

لما ذكر فيما قبلها { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما تحصل به الخيبة ، ثم حذر النار وذكر من يصلاها ومن يتجنبها ، ومفعول يغشى محذوف ، فاحتمل أن يكون النهار ، كقوله : { يغشي الليل النهار } وأن يكون الشمس ، كقوله : { والليل إذا يغشاها } وقيل : الأرض وجميع ما فيها بظلامه.
وتجلى : انكشف وظهر ، إما بزوال ظلمة الليل ، وإما بنور الشمس.
أقسم بالليل الذي فيه كل حيوان يأوي إلى مأواه ، وبالنهار الذي تنتشر فيه.
وقال الشاعر :
يجلي السرى من وجهه عن صفيحة . . .
على السير مشراق كثير شحومها
وقرأ الجمهور : { تجلى } فعلاً ماضياً ، فاعله ضمير النهار.
وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير : تتجلى بتاءين ، يعني الشمس.
وقرىء : تجلى بضم التاء وسكون الجيم ، أي الشمس.
{ وما خلق } : ما مصدرية أو بمعنى الذي ، والظاهر عموم الذكر والأنثى.
وقيل : من بني آدم فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.
وقال ابن عباس والكلبي والحسن : هما آدم وحواء.
والثابت في مصاحف الأمصار والمتواتر { وما خلق الذكر والأنثى } ، وما ثبت في الحديث من قراءة.
والذكر والأنثى : نقل آخاد مخالف للسواد ، فلا يعد قرآناً.
وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ : وما خلق الذكر ، بجر الذكر ، وذكرها الزمخشري عن الكسائي ، وقد خرجوه على البدل من على تقدير : والذي خلق الله ، وقد يخرج على توهم المصدر ، أي وخلق الذكر والأنثى ، كما قال الشاعر :
تطوف العفاة بأبوابه . . .
كما طاف بالبيعة الراهب
بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر ، رأى كطواف الراهب بالبيعة.
{ إن سعيكم } : أي مساعيكم ، { لشتى } : لمتفرقة مختلفة ، ثم فصل هذا السعي.
{ فأما من أعطى } الآية : روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، كان يعتق ضعفة عبيده الذين أسلموا ، وينفق في رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله ، وكان الكفار بضدّه.
قال عبد الله بن أبي أوفى : نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وأبي سفيان بن حرب.
وقال السدّي : نزلت في أبي الدحداح الأنصاري بسبب ما كان يعلق في المسجد صدقة ، وبسبب النخلة التي اشتراها من المنافق بحائط له ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ساوم المنافق في شرائها بنخلة في الجنة ، وذلك بسبب الأيتام الذين كانت النخلة تشرف على بيتهم ، فيسقط منها الشيء فتأخذه الأيتام ، فمنعهم المنافق ، فأبى عليه المنافق ، فجاء أبو الدحداح وقال : يا رسول الله أنا أشتري النخلة التي في الجنة بهذه ، وحذف مفعولي أعطى ، إذ المقصود الثناء على المعطى دون تعرض للمعطى والعطية.
وظاهره بذل المال في واجب ومندوب ومكرمة.
وقال قتادة : أعطى حق الله.

وقال ابن زيد : أنفق ماله في سبيل الله.
{ واتقى } ، قال ابن عباس : اتقى الله.
وقال مجاهد : واتقى البخل.
وقال قتادة : واتقى ما نهي عنه.
{ وصدق بالحسنى } ، صفة تأنيث الأحسن.
فقال ابن عباس وعكرمة وجماعة : هي الحلف في الدنيا الوارد به وعد الله تعالى.
وقال مجاهد والحسن وجماعة : الجنة.
وقال جماعة : الثواب.
وقال السلمي وغيره : لا إله إلا الله.
{ فسنيسره لليسرى } : أي نهيئة للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة.
وقابل أعطى ببخل ، واتقى باستغنى ، لأنه زهد فيما عند الله بقوله : { واستغنى } ، { للعسرى } ، وهي الحالة السيئة في الدنيا والآخرة.
وقال الزمخشري : فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد كقوله : { يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } إذ سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر العسرى لأن عاقبتها العسر ، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار ، أي فسنهديهما في الآخرة للطريقين.
انتهى ، وفي أول كلامه دسيسة الاعتزال.
وجاء { فسنيسره للعسرى } على سبيل المقابلة لقوله : { فسنيسره لليسرى } ، والعسرى لا تيسير فيها ، وقد يراد بالتيسير التهيئة ، وذلك يكون في اليسرى والعسرى.
{ وما يغني } : يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية ، أي : وأي شيء يغني عنه ماله؟ { إذا تردى } : تفعل من الرّدى ، أي هلك ، قاله مجاهد ، وقال قتادة وأبو صالح : تردى في جهنم : أي سقط من حافاتها.
وقال قوم : تردى بأكفانه ، من الردى ، وقال مالك بن الذئب :
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي . . .
ورداً على عينيّ فضل ردائيا
وقال آخر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله . . .
رداآن تلوي فيهما وحنوط
{ إن علينا للهدى } : التعريف بالسبيل ومنحهم الإدراك ، كما قال تعالى : { وعلَى الله قصد السبيل } وقال الزمخشري : إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع.
{ وإن لنا للآخرة والأولى } : أي ثواب الدارين ، لقوله تعالى : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير : تتلظى بتاءين ، والبزي بتاء مشدّدة ، والجمهور : بتاء واحدة.
وقال الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل : { الأشقى } ، وجعل مختصاً بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له.
وقال : { الأتقى } ، وجعل مختصاً بالنجاة وكأن الجنة لم تخلق إلا له.
وقيل : هما أبو جهل ، أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
{ يتزكى } ، من الزكاة : أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، لا يريد به رياء ولا سمعة ، أو يتفعل من الزكاة ، انتهى.
وقرأ الجمهور : { يتزكى } مضارع تزكى.
وقرأ الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم : بإدغام التاء في الزاي ، ويتزكى في موضع الحال ، فموضعه نصب.

وأجاز الزمخشري أن لا يكون له موضع من الإعراب لأنه جعله بدلاً من صلة الذي ، وهو { يؤتي } ، قاله : وهو إعراب متكلف ، وجاء { تجزى } مبنياً للمفعول لكونه فاصلة ، وكان أصله نجزيه إياها أو نجزيها إياه.
وقرأ الجمهور : { إلا ابتغاء } بنصب الهمزة ، وهو استثناء منقطع لأنه ليس داخلاً في { من نعمة }.
وقرأ ابن وثاب : بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع ، وهي لغة تميم ، وأنشد بالوجهين قول بشر بن أبي حازم :
أضحت خلاء قفاراً لا أنيس بها . . .
إلا الجآذر والظلمات تختلف
وقال الراجز في الرفع :
وبلدة ليس بها أنيس . . .
إلا اليعافير وإلا العيس
وقرأ ابن أبي عبلة : { إلا ابتغاء } ، مقصوراً.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء وجه الله مفعولاً له على المعنى ، لأن معنى الكلام لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمه ، انتهى.
وهذا أخذه من قول الفراء.
قال الفراء : ونصب على تأويل ما أعطيك ابتغاء جزائك ، بل ابتغاء وجه الله.
{ ولسوف يرضى } : وعد بالثواب الذي يرضاه.
وقرأ الجمهور : { يرضى } بفتح الياء ، وقرىء : بضمها ، أي يرضى فعله ، يرضاه الله ويجازيه عليه.

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

وقرأ الجمهور { ما ودعك } بتشديد الدال؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها ، أي ما تركك.
واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر ، وعن اسم فاعلهما بتارك ، وعن اسم مفعولهما بمتروك ، وعن مصدرهما بالترك ، وقد سمع ودع ووذر.
قال أبو الأسود :
ليت شعري عن خليلي ما الذي . . .
غاله في الحب حتى ودعه
وقال آخر :
وثم ودعنا آل عمرو وعامر . . .
فرائس أطراف المثقفة السمر
والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك.
{ وما قلى } : ما أبغضك ، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى ، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في { قلى } ، وفي { فآوى } وفي { فهدى } ، وفي { فأغنى } ، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، حتى شق ذلك عليه ، فقالت أم جميل ، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت.
وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته.
{ وللآخرة خير لك من الأولى } : يريد الدارين ، قاله ابن إسحاق وغيره.
ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها ، وعده تعالى بالنصر والظفر ، قاله ابن عطية اهتمالاً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل قوله : { وللآخرة خير لك من الأولى } بما قبله؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، ولا نعمة أجل منه ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته.
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } ، قال الجمهور : ذلك في الآخرة.
وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وقال أيضاً : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم.
وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره ، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر ، ولما ادخر له من الثواب.
واللام في { وللآخرة } لام ابتداء أكدت مضمون الجملة ، وكذا في { ولسوف } على إضمار مبتدأ ، أي ولأنت سوف يعطيك.
ولما وعده هذا الموعود الجليل ، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته.
{ ألم يجدك } : يعلمك ، { يتيماً } : توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين ، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين ، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته.

وقيل لجعفر الصادق : لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه؟ فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق.
قال الزمخشري : ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة ، وأن المعنى : ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك ، انتهى.
وقرأ الجمهور : { فآوى } رباعياً؛ وأبو الأشهب العقيلي : فأوى ثلاثياً ، بمعنى رحم.
تقول : أويت لفلان : أي رحمته ، ومنه قول الشاعر :
أراني ولا كفران لله أنه . . .
لنفسي قد طالبت غير منيل
{ ووجدك ضالاً } : لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى ، لأن الأنبياء معصومون من ذلك.
قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة ، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب.
وقيل : ضلاله من حليمة مرضعته.
وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور : { ووجدك } ، أي وجد رهطك ، { ضالاً } ، فهداه بك.
ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو : { وسئل القرية } وقرأ الجمهور : { عائلاً } : أي فقيراً.
قال جرير :
الله نزل في الكتاب فريضة . . .
لابن السبيل وللفقير العائل
كرر لاختلاف اللفظ.
وقرأ اليماني : عيّلاً ، كسيّدٍ ، بتشديد الياء المكسورة ، ومنه قول أجيحة بن الحلاج :
وما يدري الفقير متى غناه . . .
وما يدري الغني متى يعيل
عال : افتقر ، وأعال : كثر عياله.
قال مقاتل : { فأغنى } رضاك بما أعطاك من الرزق.
وقيل : أغناك بالقناعة والصبر.
وقيل : بالكفاف.
ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث ، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها.
{ فلا تقهر } ، قال مجاهد : لا تحتقره.
وقال ابن سلام : لا تستزله.
وقال سفيان : لا تظلمه بتضييع ماله.
وقال الفراء : لا تمنعه حقه ، والقهر هو التسليط بما يؤذي.
وقرأ الجمهور : { تقهر } بالقاف؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي : بالكاف بدل القاف ، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور.
{ وأما السائل } : ظاهره المستعطي ، { فلا تنهر } : أي تزجره ، لكن أعطه أو رده رداً جميلاً.
وقال قتادة : لا تغلظ عليه ، وهذه في مقابلة { ووجدك عائلاً فأغنى } ؛ فالسائل ، كما قلنا : المستعطي ، وقاله الفراء وجماعة.
وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما : السائل هنا : السائل عن العلم والدين ، لا سائل المال ، فيكون بإزاء { ووجدك ضالاً فهدى }.
{ وأما بنعمة ربك فحدّث } ، قال مجاهد والكلبي : معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به.
وقال محمد بن إسحاق : هي النبوة.
وقال آخرون : هي عموم في جميع النعم.
وقال الزمخشري : التحديث بالنعم : شكرها وإشاعتها ، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك ، انتهى.
ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة ، أمره بثلاثة : فذكر اليتيم أولاً وهي البداية ، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل ، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية ، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة ، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة ، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف ، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة ، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف ، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف ، فهما مقصدان في الخطاب.

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

وقرأ الجمهور : { نشرح } بجزم الحاء لدخول الجازم.
وقرأ أبو جعفر : بفتحها ، وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه ألم نشرحن ، فأبدل من النون ألفاً ، ثم حذفها تخفيفاً ، فيكون مثل ما أنشده أبو زيد في نوادره من قول الراجز :
من أي يومي من الموت أفر . . .
أيوم لم يقدر أم يوم قدر
وقال الشاعر :
أضرب عنك الهموم طارقها . . .
ضربك بالسيف قونس الفرس
وقال : قراءة مرذولة.
وقال الزمخشري : وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور ، وقالوا : لعله بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها ، انتهى.
ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله ، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره ، وهي الجزم بلن والنصب بلم عكس المعروف عند الناس.
وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد ، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما :
قد كان سمك الهدى ينهد قائمه . . .
حتى أتيح له المختار فانعمدا
في كل ما هم أمضى رأيه قدماً . . .
ولم يشاور في إقدامه أحدا
بنصب يشاور ، وهذا محتمل للتخريجين ، وهو أحسن مما تقدم.
{ ووضعنا عنك وزرك } : كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس ، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك ، كما يقول القائل : رفعت عنك مشقة الزيارة ، لمن لم يصدر منه زيارة ، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه.
وقال أهل اللغة : أنقض الحمل ظهر الناقة ، إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل ، وسمعت نقيض المرجل : أي صريره.
قال عباس بن مرداس :
وأنقض ظهري ما تطويت منهم . . .
وكنت عليهم مشفقاً متحننا
وقال جميل :
وحتى تداعت بالنقيض حباله . . .
وهمت بوأي زورة أن نحطها
والنقيض : صوت الانقضاض والانفكاك.
{ ورفعنا لك ذكرك } : هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن ، وفي تسميته نبي الله ورسول الله ، وذكره في كتب الأولين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به.
وقال حسان :
أغر عليه للنبوة خاتم . . .
من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه . . .
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وتعديد هذه النعم عليه صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب ، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم.
وكان الكفار أيضاً يعيرون المؤمنين بالفقر ، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله : { فإن مع العسر يسراً } : أي مع الضيق فرجاً.
ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر.
ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان ، جعل كأنه معه ، وفي ذلك تبشيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحصول اليسر عاجلاً.

والظاهر أن التكرار للتوكيد ، كما قلنا.
وقيل : تكرر اليسر باعتبار المحل ، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة.
وقيل : مع كل عسر يسر ، إن من حيث أن العسر معرف بالعهد ، واليسر منكر ، فالأول غير الثاني.
وفي الحديث : « لن يغلب عسر يسرين » وضم سين العسر ويسراً فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى ، وسكنهما الجمهور.
ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه صلى الله عليه وسلم ، ووعده بتيسير ما عسره ، أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر.
وقال ابن مسعود : { فإذا فرغت } من فرضك ، { فانصب } في التنفل عبادة لربك.
وقال أيضاً : { فانصب } في قيام الليل.
وقال مجاهد : قال { فإذا فرغت } من شغل دنياك ، { فانصب } في عبادة ربك.
وقال ابن عباس وقتادة : { فإذا فرغت } من الصلاة ، { فانصب } في الدعاء.
وقال الحسن : { فإذا فرغت } من الجهاد ، { فانصب } في العبادة.
ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة.
وقرأ الجمهور : { فرغت } بفتح الراء؛ وأبو السمال : بكسرها ، وهي لغة.
قال الزمخشري : ليست بفصيحة.
وقرأ الجمهور : { فانصب } بسكون الباء خفيفة ، وقوم : بشدها مفتوحة من الأنصاب.
وقرأ آخرون من الإمامية : فانصب بكسر الصاد بمعنى : إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة.
قال ابن عطية : وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم ، انتهى.
وقرأ الجمهور : { فارغب } ، أمر من رغب ثلاثياً : أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه.
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة : فرغت ، أمر من رغب بشد الغين.

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

أقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق ، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة.
والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم ، وفي الحديث : « مدح التين وأنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس » ، وقال تعالى : { وشجرة تخرج من طور سيناء } قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي.
وقال كعب وعكرمة : أقسم تعالى بمنابتهما ، فإن التين ينبت كثيراً بدمشق ، والزيتون بإيليا ، فأقسم بالأرضين.
وقال قتادة : هما جبلان بالشام ، على أحدهما دمشق وعلى الآخر بيت المقدس ، انتهى.
وفي شعر النابغة ذكر التين وشرح بأنه جبل مستطيل.
قال النابغة :
صهب الظلال أبين التين عن عرض . . .
يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبها
وقيل : هما مسجدان ، واضطربوا في مواضعهما اضطراباً كثيراً ضربنا عن ذلك صفحاً.
ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام ، وهو الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه.
ومعنى { سينين } : ذو الشجر.
وقال عكرمة : حسن مبارك.
وقرأ الجمهور : { سينين } ؛ وابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء : بفتح السين ، وهي لغة بكر وتميم.
قال الزمخشري : ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب ، انتهى.
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن : سيناء بكسر السين والمد؛ وعمر أيضاً وزيد بن علي : بفتحها والمد ، وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب.
وقال الأخفش : سينين : شجر واحده سينينة.
{ وهذا البلد الأمين } : هو مكة ، وأمين للمبالغة ، أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان ، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين ، وأمانته حفظه من دخله ولا ما فيه من طير وحيوان ، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين ، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.
ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل.
كما وصف بالآمن في قوله : { حرماً آمناً } بمعنى ذي أمن.
ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين.
فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام ومولد عيسى ومنشأه ، والطور هو المكان الذي نودي عليه موسى عليه السلام ، ومكة مكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين.
{ في أحسن تقويم } ، قال النخعي ومجاهد وقتادة : حسن صورته وحواسه.
وقيل : انتصاب قامته.
وقال أبو بكر بن طاهر : عقله وإدراكه زيناه بالتمييز.
وقال عكرمة : شبابه وقوته ، والأولى العموم في كل ما هو أحسن.
والإنسان هنا اسم جنس ، وأحسن صفة لمحذوف ، أي في تقويم أحسن.
{ ثم رددناه أسفل سافلين } ، قال عكرمة والضحاك والنخعي : بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئاً.

أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع ، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا ، بل في الجنس من يعتريه ذلك.
وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضاً : { أسفل سافلين } في النار على كفره ، ثم استثنى استثناء متصلاً.
وقرأ الجمهور : سافلين منكراً؛ وعبد الله : السافلين معرفاً بالألف واللام.
وأخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتفاء ألفاظه فقال : في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه ، ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية ، إذ رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً ، يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار.
وأسفل من سفل من أهل الدركات.
أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل ، حيث نكسناه في خلقه ، فقوس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن جلده وكان بضاً ، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين ، وتغير كل شيء فيه ، فمشيه دلف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف ،.
انتهى ، وفيه تكثير.
وعلى أن ذلك الرد هو إلى الهرم ، فالمعنى : ولكن الصالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم.
وفي الحديث : « إذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة » ، وفيه أيضاً : « أن المؤمن إذا رد لأرذل العمر كتب له ما كان يعمل في قوته » ، وذلك أجر غير ممنون وممنوع مقطوع ، أي محسوب يمن به عليهم.
والخطاب في { فما يكذبك } للإنسان الكافر ، قاله الجمهور ، أي ما الذي يكذبك ، أي يجعلك مكذباً بالدين تجعل لله أنداداً وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل؟ وقال قتادة والأخفش والفراء : قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : فإذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي توجب النظر فيها صحة ما قلت.
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } : وعيد للكفار وإخبار بعدله تعالى.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

وقرأ الجمهور : { اقرأ } بهمزة ساكنة؛ والأعشى ، عن أبي بكر ، عن عاصم : بحذفها ، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول : قرأ يقرا ، كسعى يسعى.
فلما أمر منه قيل : اقر بحذف الألف ، كما تقول : اسع ، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة ، ومفعول اقرأ محذوف ، أي اقرأ ما يوحى إليك.
وقيل : { باسم ربك } هو المفعول وهو المأمور بقراءته ، كما تقول : اقرأ الحمد لله.
وقيل : المعنى اقرأ في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال الأخفش : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم الله ، كما قالوا في قوله : { وقال اركبوا فيها بسم الله } أي على اسم الله.
وقيل : المعنى اقرأ القرآن مبتدئاً باسم ربك.
وقال الزمخشري : محل باسم ربك النصب على الحال ، أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل بسم الله ثم اقرأ ، انتهى.
وهذا قاله قتادة.
المعنى : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك.
وقال أبو عبيدة : الباء صلة ، والمعنى اذكر ربك.
وقال أيضاً : الاسم صلة ، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه.
وجاء باسم ربك ، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك.
وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس ، أي ليس لك رب غيره.
ثم جاء بصفة الخالق ، وهو المنشىء للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أرباً.
أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها ، ولم يذكر متعلق الخلق أولاً ، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق ، فاقتصر أو حذف ، إذ معناه خلق كل شيء.
ثم ذكر خلق الإنسان ، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه ، وهو أشرف.
قال الزمخشري : أشرف ما على الأرض ، وفيه دسيسة أن الملك أشرف.
وقال : ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان ، كما قال : { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان } فقيل : الذي خلق مبهماً ، ثم فسره بقوله : خلق تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته ، انتهى.
والإنسان هنا اسم جنس ، والعلق جمع علقة ، فلذلك جاء من علق ، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به ، ولم يذكر أصلهم آدم ، لأنه ليس متقرراً عند الكفار فيسبق الفرع ، وترك أصل الخلقة تقريباً لأفهامهم.
ثم جاء الأمر ثانياً تأنيساً له ، كأنه قيل : امض لما أمرت به ، وربك ليس مثل هذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص.
والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم ، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى ، ويحلم على الجاني ، ويقبل التوبة ، ويتجاوز عن السيئة.
وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال : { الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } ، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو.

وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به.
ولبعضهم في الأقلام :
ورواقم رقش كمثل أراقم . . .
قطف الخطا نيالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجد مسيرها . . .
إلا إذا لعبت بها بيض المدى
انتهى.
من كلام الزمخشري.
ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى : الأكرم ، والرشيد ، وفخر السعداء ، وسعيد السعداء ، والشيخ الرشيد ، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها.
يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال ، ومفعولا علم محذوفان ، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى.
وقدر بعضهم { الذي علم } الخط ، { بالقلم } : وهي قراءة تعزى لابن الزبير ، وهي عندي على سبيل التفسير ، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف.
والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم.
وقال الضحاك : إدريس ، وقيل : آدم لأنه أول من كتب.
والإنسان في قوله : { علم الإنسان } ، الظاهر أنه اسم الجنس ، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها.
وقيل : الرسول عليه الصلاة والسلام.
{ كلا إن الإنسان ليطغى } : نزلت بعد مدة في أبي جهل ، ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ، ونهاه عن الصلاة في المسجد؛ فروي أنه قال : لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه.
فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه وانتهره وتوعده ، فقال أبو جهل : أيتوعدني محمد! والله ما بالوادي أعظم نادياً مني.
ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة ، فكف عنه.
{ كلا } : ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه ، { إن الإنسان ليطغى } : أي يجاوز الحد ، { أن رآه استغنى } : الفاعل ضمير الإنسان ، وضمير المفعول عائد عليه أيضاً ، ورأى هنا من رؤية القلب ، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول : رأيتني صديقك ، وفقد وعدم بخلاف غيرها ، فلا يجوز : زيد ضربه ، وهما ضميرا زيد.
وقرأ الجمهور : { أن رآه } بألف بعد الهمزة ، وهي لام الفعل؛ وقيل : بخلاف عنه بحذف الألف ، وهي رواية ابن مجاهد عنه ، قال : وهو غلط لا يجوز ، وينبغي أن لا يغلطه ، بل يتطلب له وجهاً ، وقد حذفت الألف في نحو من هذا ، قال :
وصاني العجاج فيما وصني . . .
يريد : وصاني ، فحذف الألف ، وهي لام الفعل ، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم : أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة ، وهو حذف لا ينقاس؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله ، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها.

{ إن إلى ربك الرجعى } : أي الرجوع ، مصدر على وزن فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وفيه وعيد للطاغي المستغني ، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه.
{ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } : تقدم أنه أبو جهل.
قال ابن عطية : ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل ، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انتهى.
وفي الكشاف ، وقال الحسن : هو أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة.
وقال التبريزي : المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر.
قيل : هي أول جماعة أقيمت في الإسلام ، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين ، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر ، فقال له : صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً ، وأنشأ أبو طالب يقول :
إن علياً وجعفراً ثقتي . . .
عند ملم الزمان والكرب
والله لا أخذل النبي ولا . . .
يخذله من يكون من حسبي
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما . . .
أخي لأمّي من بينهم وأبي
ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
والخطاب في { أرأيت } الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذا { أرأيت } الثاني ، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم.
وقيل : { أرأيت } خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال : أرأيت يا كافر ، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمراً بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك؟ والضمير في { إن كان } ، وفي { إن كذب } عائد على الناهي.
قال الزمخشري : ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، وكان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح ، كما نقول نحن.
{ ألم يعلم بأن الله يرى } ، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة ، فيجازيه على حسب ذلك ، وهذا وعيد ، انتهى.
وقال ابن عطية : الضمير في { إن كان على الهدى } عائد على المصلي ، وقاله الفراء وغيره.
قال الفراء : المعنى { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } ، وهو على الهدى وأمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الذكر ، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله؟ فهذا تقرير وتوبيخ ، انتهى.
وقال : من جعل الضمير في { إن كان } عائداً على المصلي ، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى ، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن : الصلاة والدعاء إلى الله تعالى ، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يوجد إلا في أمرين : إصلاح نفسه بفعل الصلاة ، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى.

وقال ابن عطية : { ألم يعلم بأن الله يرى } : إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها ، يجاء بها في نسق.
ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصاراً واقتضاباً ، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها ، وألم يعلم دال عليها مغن.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما متعلق { أرأيت } ؟ قلت : { الذي ينهى } مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين.
فإن قلت : فأين جواب الشرط؟ قلت : هو محذوف تقديره : { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } ، { ألم يعلم بأن الله يرى } ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
فإن قلت : فكيف صح أن يكون { ألم يعلم } جواباً للشرط؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت : فما { أرأيت } الثانية وتوسطها بين مفعولي { أرأيت } ؟ قلت : هي زائدة مكررة للتوكيد ، انتهى.
وقد تكلمنا على أحكام { أرأيت } بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام ، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل.
وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه ، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد ، والموصول هو الآخر ، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية ، كقوله : { أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى أعنده علم الغيب } { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب } { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه } وهو كثير في القرآن ، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون ، ويجعل مفعول { أرأيت } الأولى هو الموصول ، وجاء بعده { أرأيت } ، وهي تطلب مفعولين ، وأرأيت الثانية كذلك؛ فمفعول { أرأيت } الثانية والثالثة محذوف يعود على { الذي ينهى } فيهما ، أو على { عبداً } في الثانية ، وعلى { الذي ينهى } في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير ، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب ، فنقول : حذف المفعول الثاني لأرأيت ، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه.
حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه.
وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول ، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر.
وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع ، لأن الجمل لا يصح إضمارها ، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع.
وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء ، فلا أعلم أحداً أجازه ، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر.
{ كلا } : ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله.
{ لئن لم ينته } عن ما هو فيه ، وعيد شديد { لنسفعاً } : أي لنأخذن ، { بالناصية } : وعبر بها عن جميع الشخص ، أي سحباً إلى النار لقوله : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة ، إذ علم أنها ناصية الناهي.

وقرأ الجمهور : بالنون الخفيفة ، وكتبت بالألف باعتبار الوقف ، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفاً ، وكثر ذلك حتى صارت روياً ، فكتبت ألفاً كقوله :
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا . . .
وقال آخر :
بحسبه الجاهل ما لم يعلما . . .
ومحبوب وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : بالنون الشديدة.
وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس ، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد.
وقال التبريزي : قيل : أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد ، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة.
وقرأ الجمهور : { ناصية . . .
خاطئة } ، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة.
قال الزمخشري : لأنها وصفت فاستقبلت بفائدة ، انتهى.
وليس شرطاً في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافاً لمن شرط ذلك من غيرهم ، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضاً خلافاً لزاعمه.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي : بنصب الثلاثة على الشتم؛ والكسائي في رواية : برفعها ، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة ، وصفها بالكذب والخطأ مجازاً ، والحقيقة صاحبها ، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال : ناصية كاذب خاطىء ، لأنها هي المحدث عنها في قوله : { لنسفعاً بالناصية }.
{ فليدع ناديه } : إشارة إلى قول أبي جهل : وما بالوادي أكبر نادياً مني ، والمراد أهل النادي.
وقال جرير :
لهم مجلس صهب السبال أذلة . . .
أي أهل مجلس ، ولذلك وصف بقوله : صهب السبال أذلة ، وهو أمر تعجبي ، أي لا يقدره الله على ذلك ، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عياناً.
وقرأ الجمهور : { سندع } بالنون مبنياً للفاعل ، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن أبي عبلة : سيدعى مبنياً للمفعول الزبانيه رفع.
{ كلا } : ردع لأبي جهل ، ورد عليه في : { لا تطعه } : أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه.
{ واسجد } : أمر له بالسجود ، والمعنى : دم على صلاتك ، وعبّر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى ، { واقترب } : وتقرّب إلى ربك.
وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في { إذا السماء انشقت } وفي هذه السورة ، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه.

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } ، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى ، وهو ضمير القرآن.
قال ابن عباس وغيره : أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
وقال الشعبي وغيره : إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر.
وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان.
وقيل المعنى : إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها.
ولما كانت السورة من القرآن ، جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً ، فليست ليلة القدر ظرفاً للنزول ، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه : لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن.
وقول عائشة : لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن.
وقال الزمخشري : عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصاً به ، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وسميت ليلة القدر ، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله ، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.
وقال الزهري : معناه ليلة القدر العظيم والشرف ، وعظم الشأن من قولك : رجل له قدر.
وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ، وترده عظيماً عند الله تعالى.
وقيل : سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر.
وقيل : لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، لأمة ذات قدر.
وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر.
وقيل : لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين.
وقال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق.
وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافاً متعارضاً جداً ، وبعضهم قال : رفعت ، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع ، وأن العشر الأخير تكون فيه ، وأنها في أوتاره ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة » وفي الصحيح : « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ».
{ وما أدراك ما ليلة القدر } : تفخيم لشأنها ، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها ، ثم بين له ذلك.
قال سفيان بن عيينة : ما كان في القرآن { وما أدراك } ، فقد أعلمه ، وما قال : وما يدريك ، فإنه لم يعلمه.
قيل : وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها.
والظاهر أن { ألف شهر } يراد به حقيقة العدد ، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام.
والحسن : في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور ، والمراد : { خير من ألف شهر } عار من ليلة القدر ، وعلى هذا أكثر المفسرين.

وقال أبو العالية : { خير من ألف شهر } : رمضان لا يكون فيها ليلة القدر.
وقيل : المعنى خير من الدهر كله ، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها ، قال تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } يعني جميع الدهر.
وعوتب الحسن بن عليّ على تسليمه الأمر لمعاوية فقال : إن الله تعالى أرى في المنام نبيه صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على مقبرة نزو القردة ، فاهتم لذلك ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وهي خير من مدة ملوك بني أمية ، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان.
قال القاسم بن الفضل الجذامي : فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً.
وخرج قريباً من معناه الترمذي وقال : حديث غريب ، انتهى.
وقيل : آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان ، ولا يعارض هذا تملك بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه ، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم.
وذكر أيضاً في تخصيص هذه المدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي.
وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر ، فأعطوا ليلة ، إن أحيوها ، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد.
وقال أبو بكر الوراق : ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة ، فصار ألف شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.
{ تنزل الملائكة والروح } : تقدم الخلاف في الروح ، أهو جبريل ، أم رحمة ينزل بها ، أم ملك غيره ، أم أشرف الملائكة ، أم جند من غيرهم ، أم حفظة على غيرهم من الملائكة؟ والتنزل إما إلى الأرض ، وإما إلى سماء الدنيا.
{ بإذن ربهم } : متعلق بتنزل { من كل أمر } : متعلق بتنزل ومن للسبب ، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل.
{ وسلام } : مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي ، أي هي سلام إلى أول يومها ، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء ، وهذا على قول من قال : إن تنزلهم التقدير : الأمور لهم.
وقال أبو حاتم : من بمعنى الباء ، أي بكل أمر؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي : من كل امرىء ، أي من أجل كل إنسان.
وقيل : يراد بكل امرىء الملائكة ، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة.
وأنكر هذا القول أبو حاتم.
{ سلام هي } : أي هي سلام ، جعلها سلاماً لكثرة السلام فيها.

قيل : لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة.
وقال منصور والشعبي : سلام بمعنى التحية ، أي تسلم الملائكة على المؤمنين.
ومن قال : تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة ، جعل الكلام تاماً عند قوله : { بإذن ربهم }.
وقال : { من كل أمر } متعلق بقوله : { سلام هي } ، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام.
وقال مجاهد : لا يصيب أحداً فيها داء.
وقال صاحب اللوامح : وقيل معناه هي سلام من كل أمر ، وأمري سالمة أو مسلمة منه ، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر.
كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول ، انتهى.
وعن ابن عباس : تم الكلام عند قوله : { سلام } ، ولفظة { هي } إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر ، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة ، انتهى.
ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس ، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى.
وقرأ الجمهور : { مطلع } بفتح اللام؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو : بخلاف عنه بكسرها ، فقيل : هما مصدران في لغة بني تميم.
وقيل : المصدر بالفتح ، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز.

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

لما ذكر إنزال القرآن ، وفي السورة التي قبلها { اقرأ باسم ربك } ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها ، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك.
وقرأ بعض القراء : والمشركون رفعاً عطفاً على { الذين كفروا }.
والجمهور : بالجر عطفاً على { أهل الكتاب } ، وأهل الكتاب اليهود والنصارى ، والمشركون عبدة الأوثان من العرب.
وقال ابن عباس : أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينة وحولها.
قال مجاهد وغيره : لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة.
وقال الفراء وغيره : لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة ، فتفرقوا عند ذلك.
وقال الزمخشري : كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث : لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله ما كانوا يقولونه.
وقال ابن عطية : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أنه يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ، انتهى.
وقيل : لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة.
والظاهر أن المعنى : لم يكونوا منفكين ، أي منفصلاً بعضهم من بعض ، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه ، هذا من اعتقاده في شريعته ، وهذا من اعتقاده في أصنامه ، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة.
وقيل : معنى منفكين : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وأن ينفصل فلا يلتئم ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، انتهى.
ومنفكين اسم فاعل من انفك ، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر.
وقال بعض النحاة : هي الناقصة ، ويقدر منفكين : عارفين أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، أو نحو هذا ، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، نص على ذلك أصحابنا ، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو ، وقالوا في قوله : حين ليس مجير ، أي في الدنيا ، فحذف الخبر أنه ضرورة ، والبينة : الحجة الجليلة.
وقرأ الجمهور : { رسول } بالرفع بدلاً من { البينة } ، وأبيّ وعبد الله : بالنصب حالاً من البينة.

{ يتلو صحفاً } : أي قراطيس ، { مطهرة } من الباطل.
{ فيها كتب } : مكتوبات ، { قيمة } : مستقيمة ناطقة بالحق.
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } : أي من المشركين ، وانفصل بعضهم من بعض فقال : كل ما يدل عنده على صحة قوله.
{ إلا من بعد ما جاءتهم البينة } : وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها.
وقال الزمخشري : كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً : أفرد أهل الكتاب ، يعني في قوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } بعد جمعهم والمشركين ، قيل : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه ، كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقاً ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر.
وقال : ليس به ومنهم من عرف وعاند.
وقال ابن عطية : ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته ، فلما جاء من العرب حسدوه ، انتهى.
وقرأ الجمهور : { مخلصين } بكسر اللام ، والدين منصوب به؛ والحسن : بفتحها ، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم.
وانتصب { الدين } ، إما على المصدر من { ليعبدوا } ، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين ، وإما على إسقاط في ، أي في الدين ، والمعنى : وما أمروا ، أي في كتابيهما ، بما أمروا به إلا ليعبدوا.
{ حنفاء } : أي مستقيمي الطريقة.
وقال محمد بن الأشعب الطالقاني : القيمة هنا : الكتب التي جرى ذكرها ، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة ، كانت الألف واللام في القيمة للعهد ، كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } وقرأ عبد الله : وذلك الدين القيمة ، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة ، أو أنث ، على أن عنى بالدين الملة ، كقوله : ما هذه الصوت؟ يريد : ما هذه الصيحة : وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء ، والبرية : جميع الخلق.
وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع : البرئة بالهمز من برأ ، بمعنى خلق.
والجمهور : بشد الياء ، فاحتمل أن يكون أصله الهمز ، ثم سهل بالإبدال وأدغم ، واحتمل أن يكون من البراء ، وهو التراب.
قال ابن عطية : وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ ، وهو اشتقاق غير مرضي ، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا ، وهو التراب ، فلا يجعله خطأ ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ ، وغير الهمز من البرا؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو : أو ننساها أو ننسها ، فهو اشتقاق مرضي.
وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية ، وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته ، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به ، وشر البرية ظاهره العموم.
وقيل : { شر البريّة } : الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم هو شر من هؤلاء ، كفرعون وعاقر ناقة صالح.
وقرأ الجمهور : { خير البرية } مقابل { شر البرية } ؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد : خيار البرية جمع خير ، كجيد وجياد.
وبقية السورة واضحة ، وتقدم شرح ذلك إفراداً وتركيباً.

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

لما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار ، وجزاء المؤمنين ، فكأن قائلاً قال : متى ذلك؟ فقال : { إذا زلزلت الأرض زلزالها }.
قيل : والعامل فيها مضمر ، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره : تحشرون.
وقيل : اذكر.
وقال الزمخشري : تحدث ، انتهى.
وأضيف الزلزال إلى الأرض ، إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها ، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل؛ والفرق بين أكرمت زيداً كرامة وكرامته واضح.
وقرأ الجمهور : { زلزالها } بكسر الزاي؛ والجحدري وعيسى : بفتحها.
قال ابن عطية : وهو مصدر كالوسواس.
وقال الزمخشري : المكسور مصدر ، والمفتوح اسم ، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف ، انتهى.
أما قوله : والمفتوح اسم ، فجعله غيره مصدراً جاء على فعلال بالفتح.
ثم قيل : قد يجيء بمعنى اسم الفاعل ، فتقول : فضفاض في معنى مفضفض ، وصلصال : في معنى مصلصل.
وأما قوله : وليس في الأبنية الخ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف ، قالوا : ناقة بها خزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف.
{ وأخرجت الأرض أثقالها } : جعل ما في بطنها أثقالاً.
وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد : أثقالها : كنوزها وموتاها.
ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال ، لا يوم القيامة ، وقائل ذلك يقول : هو الزلزال يكون في الدنيا ، وهو من أشراط الساعة ، وزلزال : يوم القيامة ، كقوله : { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة } فلا يرد عليه بذلك ، إذ قد أخذ الزلزال عاماً باعتبار وقتيه.
ففي الأول أخرجت كنوزها ، وفي الثاني أخرجت موتاها ، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها.
وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله « تلقى الأرض أفلاذ كبدها » أمثال الأسطوان من الذهب والفضة.
وقال ابن عباس : موتاها ، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية ، فهو زلزال يوم القيامة ، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.
{ وقال الإنسان ما لها } : يعني معنى التعجب لما يرى من الهول ، والظاهر عموم الإنسان.
وقيل : ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة ، والمؤمن ، وإن كان مؤمناً بالبعث ، فإنه استهول المرأى.
وفي الحديث : « ليس الخبر كالعيان » قال الجمهور : الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن.
{ يومئذ } : أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث ، ويومئذ بدل من إذا ، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه ، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل.
{ تحدث أخبارها } : الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً ، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد ، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما.
ويشهد له ما جاء في الحديث : « بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة »

، وما جاء في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ثم قال : « أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا ، قال فهذه أخبارها » هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال الطبري : وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان ، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال ، فيعلم لم زلزلت ، ولم لفظت الأموات ، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه.
وقال يحيى بن سلام : تحدث بما أخرجت من أثقالها ، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة.
وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة : يا رب هذا ما استودعتني.
وعن ابن مسعود : تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها ، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك جواباً لهم عند سؤالهم.
وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف ، أي تحدث الناس ، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة.
{ بأن ربك أوحى لها } : أي بسبب إيحاء الله ، فالباء متعلقة بتحدث.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها ، كما تقول : نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين.
انتهى ، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه.
وقال أيضاً : ويجوز أن يكون { بأن ربك } بدلاً من { أخبارها } ، كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها ، لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا ، انتهى.
وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر ، وتارة يتعدى بنفسه ، وحرف الجر ليس بزائد ، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب.
فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم ، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب ، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام ، بنصب الرجال وخفض الكرام.
وكذلك لا يجوز أن تقول : استغفرت من الذنب العظيم ، بجر الذنب ونصب العظيم ، وكذلك في اخترت.
فلو كان حرف الجر زائداً ، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو ، تقول : ما رأيت من رجل عاقلاً ، لأن من زائدة ، ومن رجل عاقل على اللفظ.
ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من ، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر.
وعدى أوحى باللام لا بإلى ، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل.
قال العجاج يصف الأرض :
أوحى لها القرار فاستقرت . . .
وشدها بالراسيات الثبت
فعداها باللام.
وقيل : الموحى إليه محذوف ، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال.

واللام في لها للسبب ، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها.
وإذا كان الإيحاء إليها ، احتمل أن يكون وحي إلهام ، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة.
{ يومئذ يصدر الناس } : انتصب يومئذ بيصدر ، والصدر يكون عن ورد.
وقال الجمهور : هو كونهم في الأرض مدفونين ، والصدر قيامهم للبعث ، و { أشتاتاً } : جمع شت ، أي فرقاً مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض ، { ليروا أعمالهم }.
وقال النقاش : الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، ووردهم هو ورد المحشر.
فعلى الأول المعنى : ليرى عمله ويقف عليه ، وعلى قول النقاش : ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار.
والظاهر تعلق { ليروا } بقوله { يصدر }.
وقيل : بأوحى لها وما بينهما اعتراض.
وقال ابن عباس : أشتاتاً : متفرقين على قدر أعمالهم ، أهل الأيمان على حدة ، وأهل كل دين على حدة.
وقال الزمخشري : أشتاتاً : بيض الوجوه آمنين ، وسود الوجوه فزعين ، انتهى.
ويحتمل أن يكون أشتاتاً ، أي كل واحد وحده ، لا ناصر له ولا عاضد ، كقوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى } وقرأ الجمهور : { ليروا } بضم الياء؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية : بفتحها ، والظاهر تخصيص العامل ، أي { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً } من السعداء ، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة ، وتعميم { ومن يعمل مثقال ذرة شراً } من الفريقين ، لأنه تقسم جاء بعد قوله : { يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم }.
وقال ابن عباس : قال هذه الأعمال في الآخرة ، فيرى الخير كله من كان مؤمناً ، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه ، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها ، وما عمل من شر أو خير رآه.
ونبه بقوله : { مثقال ذرة } على أن ما فوق الذرة يراه قليلاً كان أو كثيراً ، وهذا يسمى مفهوم الخطاب ، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد ، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم ، كقوله : { فلا تقل لهما أف } والظاهر انتصاب خيراً وشراً على التمييز ، لأن مثقال ذرة مقدار.
وقيل : بدل من مثقال.
وقرأ الجمهور : بفتح الياء فيهما ، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب.
وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه : بضمها؛ وهشام وأبو بكر : بسكون الهاء فيهما؛ وأبو عمرو : بضمهما مشبعتين؛ وباقي السبعة : بإشباع الأولى وسكون الثانية ، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه ، وحكاها الكسائي أيضاً عن بني كلاب وبني عقيل ، وهذه الرؤية رؤية بصر.
وقال النقاش : ليست برؤية بصر ، وإنما المعنى يصيبه ويناله.
وقرأ عكرمة : يراه بالألف فيهما ، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة ، حكاها الأخفش؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية ، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر ، توهم أن من شرطية لا موصولة ، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم ، والله تعالى أعلم.

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل ، تعدو في سبيل الله وتضبح حالة عدوها ، وقال عنترة :
والخيل تكدح حين تضبح . . .
في حياض الموت ضبحا
وقال أبو عبد الله وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير : العاديات : الإبل.
أقسم بها حين تعدو من عرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج.
وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين ، فرس للزبير وفرس للمقداد ، وبهذا حج عليّ رضي الله عنه ابن عباس حين تماريا ، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي الله تعالى عنهما.
وقالت صفية بنت عبد المطلب :
فلا والعاديات غداة جمع . . .
بأيديها إذا سطع الغبار
وانتصب ضبحاً على إضمار فعل ، أي يضبحن ضبحاً؛ أو على أنه في موضع الحال ، أي ضابحات؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد ، فهو منصوب بالعاديات.
وقال الزمخشري : أو بالعاديات كأنه قيل : والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو ، انتهى.
وإذا كان الضبح مع العدو ، فلا يكون معنى { والعاديات } معنى الضابحات ، فلا ينبغي أن يفسر به.
{ فالموريات قدحاً } ، والإيراء : إخراج النار ، أي تقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضاً.
ويقال : قدح فأورى ، وقدح فأصلد.
وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل : نار الحباحب.
قال الشاعر :
تقدّ السلو في المضاعف نسجه . . .
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
وقيل : { فالموريات قدحاً } مجاز ، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب ، قاله قتادة.
وقال تعالى : { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } ويقال : حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب.
وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم : الموريات : الجماعة التي تمكر في الحرب ، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل : والله لا يكون ذلك ، ولأورين لك.
وعن ابن عباس أيضاً : التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها.
وعنه أيضاً : جماعة الغزاة تكثر النار إرهاباً.
وقال عكرمة : ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ، وتظهر من الحجج والدلائل ، وإظهار الحق وإبطال الباطل.
{ فالمغيرات صبحاً } : أي تغير على العدو في الصبح ، ومن قال هي الإبل ، قال العرب تقول : أغار إذا عدى جرياً ، أي من مزدلفة إلى منى ، أو في بدر؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة ، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب.
والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار ، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر ، وإن لم يكن فيها إلا فرسان ، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر ، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله ، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها.

{ فأثرن } : معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل ، لأنه في معنى الفعل ، إذ تقديره : فاللاتي عدون فأغرن فأثرن.
وقال الزمخشري : معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، انتهى.
وتقول أصحابنا : هو معطوف على الاسم ، لأنه في معنى الفعل.
وقرأ الجمهور : { فأثرن } ، { فوسطن } ، بتخفيف الثاء والسين؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بشدّهما؛ وعليّ وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى : بشدّ السين.
وقال الزمخشري : وقرأ أبو حيوة : فأثرن بالتشديد ، بمعنى : فأظهرن به غباراً ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار ، أو قلب ثورن إلى وثرن ، وقلب الواو همزة.
وقرىء : فوسطن بالتشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتوكيد ، كقوله : { فأتوا به } وهي مبالغة في وسطن ، انتهى.
أما قوله : أو قلب ، فتمحل بارد.
وأما أن التشديد للتعدية ، فقد نقلوا أن وسط مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد ، وأنهما لغتان ، والضمير في به عائد في الأول على الصبح ، أي هيجن في ذلك الوقت غباراً ، وفي به الثاني على الصبح.
قيل : أو على النقع ، أي وسطن النقع الجمع ، فيكون وسطه بمعنى توسطه.
وقال علي وعبد الله : { فوسطن به جمعاً } : أي الإبل ، وجمعاً اسم للمزدلفة ، وليس بجمع من الناس.
وقال بشر بن أبي حازم :
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب . . .
تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وقيل : الضمير في به معاً يعود على العدو الدال عليه { والعاديات } أيضاً.
وقيل : يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى ، وإن لم يجر له ذكر ، لدلالة والعاديات وما بعدها عليه.
وقيل : المراد بالنقع هنا الصياح ، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات ، وليست أل فيه للعهد ، والمقسم عليه : { إن الإنسان لربه لكنود }.
وفي الحديث : « الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده » وقال ابن عباس والحسن : هو الجحود لنعمة الله تعالى.
وعن الحسن أيضاً : هو اللائم لربه ، يعد السيئات وينسى الحسنات.
وقال الفضيل : هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ، ويعامل الله على عقد عوض.
وقال عطاء : هو الذي لا يغطى في النائبات مع قومه.
وقيل : البخيل.
وقال ابن قتيبة : أرض كنود : لا تنبت شيئاً.
والظاهر عود الضمير في { وإنه } على ذلك { لشهيد } ، أي يشهد على كنوده ، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره ، وقاله الحسن ومحمد بن كعب.
وقال ابن عباس وقتادة : هو عائد على الله تعالى ، أي وربه شاهد عليه ، وهو على سبيل الوعيد.
وقال التبريزي : هو عائد على الله تعالى ، وربه شاهد عليه هو الأصح ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين ، ويكون ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي ، انتهى.
ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى.
والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود.
وأيضاً فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلهما لمختلفين ، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد.

{ وإنه } : أي وإن الإنسان ، { لحب الخير } : أي المال ، { لشديد } : أي قوي في حبه.
وقيل : لبخيل بالمال ضابط له ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدد.
وقال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي . . .
عقيلة مال الفاحش المتشدد
وقال قتادة : الخير من حيث وقع في القرآن هو المال.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه ، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك.
فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور.
وقال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير.
فلما تقدم الحب قال لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ، ولرءوس الآي كقوله تعالى : { في يوم عاصف } والعصوف : للريح لا للأيام ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح ، انتهى.
وقال غيره ما معناه : لأنه ليس أصله ذلك التركيب ، بل اللام في { لحب } لام العلة ، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف متقاعس.
تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقاً له ضابطاً.
قال الزمخشري : أو أراد : وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض.
{ أفلا يعلم } : توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان ، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف ، أي أفلا يعلم مآ له؟ { إذا بعثر } ، وقال الحوفي : إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم.
انتهى ، وليس بمتضح لأن المعنى : أفلا يعلم الآن؟ وقرأ الجمهور : بعثر بالعين مبنياً للمفعول.
وقرأ عبد الله : بالحاء.
وقرأ الأسود بن زيد : بحث.
وقرأ نضر بن عاصم : بحثر على بنائه للفاعل.
وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان : وحصل مبنياً للفاعل؛ والجمهور : مبنياً للمفعول.
وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً : وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد ، والمعنى جمع ما في المصحف ، أي أظهر محصلاً مجموعاً.
وقيل : ميز وكشف ليقع الجزاء عليه.
وقرأ الجمهور : { إن } { لخبير } باللام : هو استئناف إخبار ، والعامل في { بهم } ، وفي { يومئذ لخبير } ، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم.
وقرأ أبو السمال والحجاج : بفتح الهمزة وإسقاط اللام.
ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن ، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية ، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام ، فإنه قال : يجزيهم إذا بعثر ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل في قراءة الجمهور ، وسدت مسد المعمول في إن ، وفي خبرها اللام ظاهر ، إذ هي في موضع نصب بيعلم.
وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره : كما قلنا يجزيهم إذا بعثر.

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

وقال الجمهور : { القارعة } : القيامة نفسها ، لأنها تقرع القلوب بهولها.
وقيل : صيحة النفخة في الصور ، لأنها تقرع الأسماع وفي ضمن ذلك القلوب.
وقال الضحاك : هي النار ذات التغيظ والزفير.
وقرأ الجمهور : { القارعة ما القارعة } بالرفع ، فما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ ، والقارعة خبره ، وتقدم تقرير ذلك في { الحاقة ما الحاقة } وقيل ذلك في قوله : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } وقال الزجاج : هو تحذير ، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب ، قال الشاعر :
أخو النجدة السلاح السلاح . . .
وقرأ عيسى : بالنصب ، وتخريجه على أنه منصوب بإضمار فعل ، أي اذكروا القارعة ، وما زائدة للتوكيد؛ والقارعة تأكيد لفظي للأولى.
وقرأ الجمهور : { يوم } بالنصب ، وهو ظرف ، العامل فيه ، قال ابن عطية : القارعة.
فإن كان عنى بالقارعة اللفظ الأول ، فلا يجوز للفصل بين العامل ، وهو في صلة أل ، والمعمول بالخبر؛ وكذا لو صار القارعة علماً للقيامة لا يجوز أيضاً ، وإن كان عنى اللفظ الثاني أو الثالث ، فلا يلتئم معنى الظرف معه.
وقال الزمخشري : الظرف نصب بمضمر دل عليه القارعة ، أي تقرع يوم يكون الناس.
وقال الحوفي : تأتي يوم يكون.
وقيل : اذكر يوم.
وقرأ زيد بن عليّ : يوم يكون مرفوع الميم ، أي وقتها.
{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } ، قال قتادة : هو الطير الذي يتساقط في النار.
وقال الفراء : غوغاء الجراد ، وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض يركب بعضه بعضاً من الهول.
وقيل : الفراش طير دقيق يقصد النار ، ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق.
شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام ، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حتى تدعوهم إلى ناحية المحشر ، كالفراش المتطاير إلى النار.
قال جرير :
إن الفرزدق ما علمت وقومه . . .
مثل الفراش عشين نار المصطلى
وقرن بين الناس والجبال تنبيهاً على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالعهن المنفوش؛ فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها؟ وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في الأعراف ، وعيشة راضية في الحاقة.
{ فأمه هاوية } : الهاوية دركة من دركات النار ، وأمه معناه مأواه ، كما قيل للأرض أم الناس لأنها تؤويهم ، وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب : فنحن بنوها وهي أمنا.
وقال قتادة وأبو صالح وغيره : فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوساً.
وقيل : هو تفاؤل بشر ، وإذا دعوا بالهلكة قالوا هوت أمه ، لأنه إذا هوى ، أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلاً وحزناً.
قال الشاعر :
هوت أمه ما نبعث الصبح غاديا . . .
وماذا يرد الليل حين يؤون
وقرأ الجمهور : { فأمه } بضم الهمزة ، وطلحة بكسرها.
قال ابن خالويه : وحكى ابن دريد أنها لغة.
وأما النحويون فإنهم يقولون : لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء ، انتهى.
{ وما أدراك } : هي ضمير يعود على هاوية إن كانت كما قيل دركة من دركات النار معروفة بهذا الاسم ، وإن كانت غير ذلك مما قيل فهي ضمير الداهية التي دل عليها قوله : { فأمه هاوية } ، والهاء فيما هيه هاء السكت ، وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة ، وأثبتها الجمهور : { نار } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي نار ، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه.

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

{ ألهاكم } : شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات.
عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم ، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم.
قيل : { حتى زرتم } : أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها ، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم.
وسمع بعض الأعراب { حتى زرتم } فقال : بعث القوم للقيامة ، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم.
وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي.
وقيل : هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ، ثم قال : « فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر » قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام ، وتلوينها شرفاً ، وبيان النواويس عليه.
وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى ، والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك ، وما يضيع فيها من الأموال ، والتعجب من ذلك ، ولرأى ما لم يخطر ببال؟
وأما التباهي بالزيارة ، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور.
زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلاناً بكذا ، والشيخ فلاناً بكذا؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد ، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفاراً ، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه ، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم.
وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدني علم الخضر ، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيراً من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلباً للمال والجاه وتقبيل اليد؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته.
وقرأ الجمهور : ألهاكم على الخبر؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة : بالمد على الاستفهام ، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب ، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضاً والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية : أألهاكم بهمزتين ، ومعنى الاستفهام : التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم؛ والجمهور : على أن التكرير توكيد.
قال الزمخشري : والتكرير تأكيد للردع والإنذار؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك لا تفعل ، والمعنى : سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : { كلا سوف تعلمون } في القبور { ثم كلا سوف تعلمون } في البعث : غاير بينهما بحسب التعلق ، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان.
وقال الضحاك : الزجر الأول ووعيده للكافرين ، والثاني للمؤمنين.
{ كلا لو تعلمون } : أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه ، { علم اليقين } : أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين ، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو { ألهاكم التكاثر }.
وقيل : اليقين هنا الموت.
وقال قتادة : البعث ، لأنه إذا جاء زال الشك.
ثم قال : { لترون الجحيم } : والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود ، كما قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها } ولا تكون رؤية عند الدخول ، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }.
{ ثم لترونها عين اليقين } : تأكيد للجملة التي قبلها ، وزاد التوكيد بقوله : { عين اليقين } نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى.
وعن ابن عباس : هو خطاب للمشركين ، فالرؤية رؤية دخول.
وقرأ ابن عامر والكسائي : لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة : بالفتح ، وعليّ وابن كثير في رواية ، وعاصم في رواية : بفتحها في { لترون } ، وضمها في { لترونها } ، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة : بضمهما.
وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت ، وكان القياس أن لا تهمز ، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها.
لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا ، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة ، فهمز هذه أولى.
{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } : الظاهر العموم في النعيم ، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب ، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف ، والكافر سؤال توبيخ وتقريع.
وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد : هو الأمن والصحة.
وعن ابن عباس : البدن والحواس فيم استعملها.
وعن ابن جبير : كل ما يتلذذ به.
وفي الحديث : « بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم ».

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

{ والعصر } ، قال ابن عباس : هو الدهر ، يقال فيه عصر وعصر وعصر؛ أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب.
وقال قتادة : العصر : العشي ، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة.
وقيل : العصر : اليوم والليلة ، ومنه قول حميد بن ثور :
ولن يلبث العصران يوم وليلة . . .
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقيل : العصر بكرة ، والعصر عشية ، وهما الأبردان ، فعلى هذا والقول قبله يكون القسم بواحد منهما غير معين.
وقال مقاتل : العصر : الصلاة الوسطى ، أقسم بها.
وبهذا القول بدأ الزمخشري قال : لفضلها بدليل قوله تعالى { والصلاة الوسطى } صلاة العصر ، في مصحف حفصة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » ، لأن التنكيف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم وتحاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ، انتهى.
وقرأ سلام : والعصر بكسر الصاد ، والصبر بكسر الباء.
قال ابن عطية : وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة.
وروي عن أبي عمرو : بالصبر بكسر الباء إشماماً ، وهذا أيضاً لا يكون إلا في الوقف ، انتهى.
وفي الكامل للهزلي : والعصر ، والصبر ، والفجر ، والوتر ، بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها هارون وابن موسى عن أبي عمرو؛ والباقون : بالإسكان كالجماعة ، انتهى.
وقال ابن خالويه : { وتواصوا بالصبر } ، بنقل الحركة عن أبي عمرو.
وقال صاحب اللوامح عيسى : البصرة بالصبر ، بنقل حركة الهاء إلى الياء لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف ، ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين ، وذلك لغة شائعة ، وليست شاذة بل مستفيضة ، وذلك دلالة على الإعراب ، وانفصال عن التقاء الساكنين ، ومادته حق الموقوف عليه من السكون ، انتهى.
وقد أنشدنا في الدلالة على هذا في شرح التسهيل عدّة أبيات ، كقول الراجز :
أنا جرير كنيتي أبو عمر . . .
أضرب بالسيف وسعد في العصر
يريد : أبو عمر.
والعصر والإنسان اسم جنس يعم ، ولذلك صح الاستثناء منه ، والخسر : الخسران ، كالكفر والكفران ، وأي خسران أعظم ممن خسر الدنيا والآخرة؟ وقرأ ابن هرمز وزيد بن عليّ وهارون عن أبي بكر عن عاصم : خسر بضم السين ، والجمهور بالسكون.
ومن باع آخرته بدنياه فهو في غاية الخسران ، بخلاف المؤمن ، فإنه اشترى الآخرة بالدنيا ، فربح وسعد.
{ وتواصوا بالحق } : أي بالأمر الثابت من الذين عملوا به وتواصوا به ، { وتواصوا بالصبر } في طاعة الله تعالى ، وعن المعاصي.

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

وتقدم الكلام في الهمزة في سورة ن ، وفي اللمز في سورة براءة ، وفعله من أبنية المبالغة ، كنومة وعيبة وسحرة وضحكة ، وقال زياد الأعجم :
تدلى بودّي إذا لاقيتني كذباً . . .
وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
وقرأ الجمهور : بفتح الميم فيهما؛ والباقون : بسكونها ، وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك منه ، ويشتم ويهمز ويلمز.
{ الذي } : بدل ، أو نصب على الذم.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والأخوان : جمع مشدد الميم؛ وباقي السبعة : بالتخفيف ، والجمهور : { وعدده } بشد الدال الأولى : أي أحصاه وحافظ عليه.
وقيل : جعله عدة لطوارق الدهر؛ والحسن والكلبي : بتخفيفهما ، أي جمع المال وضبط عدده.
وقيل : وعدداً من عشيرته.
وقيل : وعدده على ترك الإدغام ، كقوله :
إني أجود لأقوام وإن ضننوا . . .
{ أخلده } : أي أبقاه حياً ، إذ به قوام حياته وحفظه مدّة عمره.
قال الزمخشري : أي طوّل المال أمله ومناه الأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت.
قيل : وكان للأخنس أربعة آلاف دينار.
وقيل : عشرة آلاف دينار.
{ كلا } ردع له عن حسبانه.
وقرأ الجمهور : { لينبذن } فيه ضمير الواحد؛ وعليّ والحسن : بخلاف عنه؛ وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو : ولينبذان ، بألف ضمير اثنين : الهمزة وماله.
وعن الحسن أيضاً : لينبذن بضم الذال ، أي هو وأنصاره.
وعن أبي عمرو : لينبذنه.
وقرأ الجمهور : { في الحطمة وما أدراك ما الحطمة } ؛ وزيد بن عليّ : في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة ، وهي النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها.
قال الضحاك : الحطمة : الدرك الرابع من النار.
وقال الكلبي : الطبقة السادسة من جهنم؛ وحكى عنه القشيري أنها الدركة الثانية؛ وعنه أيضاً : الباب الثاني.
وقال الواحدي : باب من أبواب جهنم ، انتهى.
و { نار الله } : أي هي ، أي الحطمة.
{ التي تطلع على الأفئدة } : ذكرت الأفئدة لأنها ألطف ما في البدن وأشدّه تألماً بأدنى شيء من الأذى؛ واطلاع النار عليها هو أنها تعلوها وتشتمل عليها ، وهي تعلو الكفار في جميع أبدانهم ، لكن نبه على الأشرف لأنها مقر العقائد.
وقرأ الأخوان وأبو بكر : في عمد بضمتين جمع عمود؛ وهارون عن أبي عمرو : بضم العين وسكون الميم؛ وباقي السبعة : بفتحها ، وهو اسم جمع ، الواحد عمود.
وقال الفرّاء : جمع عمود ، كما قالوا : أديم وأدم.
وقال أبو عبيدة : جمع عماد.
قال ابن زيد : في عمد حديد مغلولين بها.
وقال أبو صالح : هذه النار هي قبورهم ، والظاهر أنها نار الآخرة ، إذ يئسوا من الخروج بإطباق الأبواب عليهم وتمدد العمد ، كل ذلك إيذاناً بالخلود إلى غير نهاية.
وقال قتادة : كنا نحدّث أنها عمد يعذبون بها في النار.
وقال أبو صالح : هي القيود ، والله تعالى أعلم.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

ومعنى { ألم تر } : ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك؟ إذ هو أمر منقول نقل التواتر ، فكأنه قيل : قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه ، ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل.
وقصة الفيل ذكرها أهل السير والتفسير مطولة ومختصرة ، وتطالع في كتبهم.
وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده.
والظاهر أنه فيل واحد ، وهو قول الأكثرين.
وقال الضحاك : ثمانية فيلة ، وقيل : اثنا عشر فيلاً ، وقيل : ألف فيل ، وهذه أقوال متكاذبة.
وكان العسكر ستين ألفاً ، لم يرجع أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا.
وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريباً منها فيبرك ، ويوجهونه نحو اليمن والشام فيسرع.
وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقرأ السلمي : ألم تر بسكون ، وهو جزم بعد جزم.
ونقل عن صاحب اللوامح ترأ بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل ، وهي لغة لتيم ، وتر معلقة ، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به؛ وكيف معمول لفعل.
وفي خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { فعل ربك } تشريف له صلى الله عليه وسلم وإشادة من ذكره ، كأنه قال : ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش أساف ونائلة وغيرهما.
{ ألم يجعل كيدهم في تضليل } ، يقال : ضلل كيدهم ، إذا جعله ضالاً ضائعاً.
وقيل لامرىء القيس الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أي ضيعه.
وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه ، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيراً جاءت من جهة البحر ، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء.
وقيل : خضراء على قدر الخطاف.
وقرأ الجمهور : { ترميهم } بالتاء ، والطير اسم جمع بهذه القراءة ، وقوله :
كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد . . .
وتذكر كقراءة أبي حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحة في رواية عنه : يرميهم.
وقيل : الضمير عائد على { ربك }.
{ بحجارة } ؛ كان كل طائر في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص ، مكتوب في كل حجر اسم مرميه ، ينزل على رأسه ويخرج من دبره.
ومرض أبرهة ، فتقطع أنملة أنملة ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت أبو مكسوم وزيره ، وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي وأخبره بما جرى للقوم ، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك.
وتقدم شرح سجيل في سورة هود ، والعصف في سورة الرحمن.
شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل ، أي وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود والتبن الذي أكلته الدواب وراثته.

وجاء على آداب القرآن نحو قوله : { كانا يأكلان الطعام } أو الذي أكل حبه فبقي فارغاً ، فنسبه أنه أكل مجاز ، إذ المأكول حبه لا هو.
وقرأ الجمهور : { مأكول } : بسكون الهمزة وهو الأصل ، لأن صيغة مفعول من فعل.
وقرأ أبو الدرداء ، فيما نقل ابن خالويه : بفتح الهمزة اتباعاً لحركة الميم وهو شاذ ، وهذا كما اتبعوه في قولهم : محموم بفتح الحاء لحركة الميم.
قال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشاً وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم ، فكان ذلك نعمة من الله تعالى عليهم.
وقيل : هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة والسلام.

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

وقرأ الجمهور : { لإيلاف قريش } ، مصدر آلف رباعياً؛ وابن عامر : لالاف على وزن فعال ، مصدر ألف ثلاثياً.
يقال : ألف الرجل الأمر إلفاً وإلافاً ، وآلفه غيره إياه إيلافاً ، وقد يأتي ألف متعدياً لواحد كإلف ، قال الشاعر :
من المؤلفات الرمل أدماء حرة . . .
شعاع الضحى في متنها يتوضح
ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدراً للرباعي.
وروي عن أبي بكر ، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين ، فيهما الثانية ساكنة ، وهذا شاذ ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين ، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه ، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر.
وروى محمد بن داود النقار عن عاصم : إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها ، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية ، وأنه قرأ كالجماعة.
وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري : لإلف قريش؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم.
قال الشاعر :
زعمتم أن إخوتكم قريشاً . . .
لهم إلف وليس لكم إلاف
جمع بين مصدري ألف الثلاثي.
وعن أبي جعفر وابن عامر : إلا فهم على وزن فعال.
وعن أبي جعفر وابن كثير : إلفهم على وزن فعل ، وبذلك قرأ عكرمة.
وعن أبي جعفر أيضاً : ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع ، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفاً على غير قياس.
وعن عكرمة : ليألف قريش؛ وعنه أيضاً : لتألف قريش على الأمر ، وعنه وعن هلال بن فتيان : بفتح لام الأمر ، وأجمعوا هنا على صرف قريش ، راعوا فيه معنى الحي ، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية.
قال الشاعر :
وكفى قريش المعضلات وسادها . . .
جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف ، وكينونة هذه للإحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن.
وقرأ الجمهور : { رحلة } بكسر الراء؛ وأبو السمال : بضمها ، فبالكسر مصدر ، وبالضم الجهة التي يرحل إليها ، والجمهور على أنهما رحلتان.
فقيل : إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح ، ومنه قول الشاعر :
سفرين بينهما له ولغيره . . .
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال ابن عباس : رحلة إلى اليمن ، ورحلة إلى بصرى.
وقال : يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم.
وقال الزمخشري : وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا . . .
فإن زمانكم زمن خميص
انتهى ، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة ، ومثله :
حمامة بطن الواديين ترنمي . . .
يريد : بطني الواديين ، أنشده أصحابنا على الضرورة.
وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل.

قال ابن عطية : وهذا قول مردود.
انتهى ، ولا ينبغي أن يرد ، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم : بنو عبد مناف هاشم ، كان يؤلف ملك الشام ، أخذ منه خيلاً ، فأمن به في تجارته إلى الشام ، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة؛ والمطلب إلى اليمن؛ ونوفل إلى فارس.
فكان هؤلاء يسمون المجبرين ، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم.
قال الأزهري : الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة ، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع ، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها ، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم :
يا أيها الرجل المحول رحله . . .
هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها . . .
والراحلون لرحلة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائش . . .
والقائلون هلمّ للأضياف
والخالطون غنيهم لفقيرهم . . .
حتى يصير فقيرهم كالكاف
فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر ، وإيلافهم بدل من { لإيلاف قريش } ، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به ، وهو رحلة ، أي لأن ألفوا رحلة تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً بعظيم النعمة فيه.
{ هذا البيت } : هو الكعبة ، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها ، ومن هنا للتعليل ، أي لأجل الجوع.
كانوا قطاناً ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام.
قال تعالى : { يجبى إليه ثمرات كل شيء } { وآمنهم من خوف } : فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا ، فيقال : هؤلاء قطان بيت الله ، فلا يتعرض إليهم أحد ، وغيرهم خائفون.
وقال ابن عباس والضحاك : { ىمنهم من خوف } : معناه من الجذام ، فلا ترى بمكة مجذوماً.
قال الزمخشري : والتنكير في جوع وخوف لشدتهما ، يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم ، وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم.
وقرأ الجمهور : { من خوف } ، بإظهار النون عند الخاء ، والمسيبي عن نافع : بإخفائها ، وكذلك مع العين ، نحو من على ، وهي لغة حكاها سيبويه.
وقال ابن الأسلت يخاطب قريشاً :
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا . . .
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق . . .
غداة أبي مكسوم هادي الكتائب
كثيبة بالسهل تمشي ورحلة . . .
على العادقات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم . . .
جنود المليك بين ساق وحاجب
فولوا سراعاً هاربين ولم يؤب . . .
إلى أهله ملجيش غير عصائب

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

الظاهر أن { أرأيت } هي التي بمعنى أخبرني ، فتتعدى لاثنين ، أحدهما الذي ، والآخر محذوف ، فقدره الحوفي : أليس مستحقاً عذاب الله ، وقدره الزمخشري : من هو ، ويدل على أنها بمعنى أخبرني.
قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب ، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية.
قال الحوفي : ويجوز أن تكون من رؤية البصر ، فلا يكون في الكلام حذف ، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة.
والدين : الجزاء بالثواب والعقاب.
وقال الزمخشري : والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء؟ هو الذي { يدع اليتيم } : أي يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة أو أذى ، { ولا يحض } : أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين.
جعل علم التكذيب بالجزاء ، منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، انتهى.
وقرأ الجمهور : { يدع } بضم الدال وشد العين؛ وعليّ والحسن وأبو رجاء واليماني : بفتح الدال وخف العين ، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه ويجفوه.
وقرأ الجمهور : { ولا يحض } مضارع حض؛ وزيد بن علي : يحاض مضارع حاضضت.
وقال ابن عباس : { بالدين } : بحكم الله.
وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن.
وقال إبراهيم ابن عرفة : { يدع اليتيم } : يدفعه عن حقه.
وقال مجاهد : يدفعه عن حقه ولا يطعمه ، وفي قوله : { ولا يحض } إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره ، وهذا من باب الأولى ، لأنه إذا لم يحض غيره بخلاً ، فلان يترك هو ذلك فعلاً أولى وأحرى ، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه.
ولما ذكر أولاً عمود الكفر ، وهو التكذيب بالدين ، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق ، وهو عبادته بالصلاة ، فقال : { فويل للمصلين }.
والظاهر أن المصلين هم غير المذكور.
وقيل : هو داع اليتيم غير الحاض ، وأن كلاً من الأوصاف الذميمة ناشىء عن التكذيب بالدين ، فالمصلون هنا ، والله أعلم ، هم المنافقون ، ثبت لهم الصلاة ، وهي الهيئات التي يفعلونها.
ثم قال : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، نظراً إلى أنهم لا يوقعونها ، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى.
وفي الحديث عن صلاتهم ساهون : « يؤخرونها عن وقتها تهاوناً بها » قال مجاهد : تأخير ترك وإهمال.
وقال إبراهيم : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتاً.
وقال قتادة : هو الترك لها ، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل.
وقال قطرب : هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى.
وقال ابن عباس : المنافقون يتركون الصلاة سراً ويفعلونها علانية ، { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } ويدل على أنها في المنافقين قوله تعالى : { الذين هم يراءون } ، وقاله ابن وهب عن مالك.
قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين.
وقال عطاء : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم.

وقال الزمخشري : بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن { فذلك الذي يدع } في موضع رفع ، قال : وطريقة أخرى أن يكون { فذلك } عطفاً على { الذي يكذب } ، إما عطف ذات على ذات ، أو عطف صفة على صفة ، ويكون جواب { أرأيت } محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، كأن قال : أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء ، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ، أنعم ما يصنع؟ ثم قال : { فويل للمصلين } : أي إذا علم أنه مسيء ، { فويل للمصلين } على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم.
فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير { الذي يكذب } ، وهو واحد؟ قلت : معناه الجمع ، لأن المراد به الجنس ، انتهى.
فجعل فذلك في موضع نصب عطفاً على المفعول ، وهو تركيب غريب ، كقولك : أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا ، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء ، وعلى تقدير النصب يكون التقدير : أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا.
فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح ، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا ، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا ، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا.
وأما قوله : إما عطف ذات على ذات فلا يصح ، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب ، فليسا بذاتين ، لأن المشار إليه بقوله : { فذلك } هو واحد.
وأما قوله : ويكون جواب { أرأيت } محذوفاً ، فلا يسمى جواباً ، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت.
وأما قوله : أنعم ما يصنع ، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس ، لأنهما إنشاء ، والاستفهام لا يدخل إلى على الخبر.
وأما وضعه المصلين موضع الضمير ، وأن المصلين جمع ، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع ، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب ، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة.
وتقدّم الكلام في الرياء في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور : يراءون مضارع راأى ، على وزن فاعل؛ وابن أبي إسحاق والأشهب : مهموزة مقصورة مشدّدة الهمزة؛ وعن ابن أبي إسحاق : بغير شد في الهمزة.
فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية ، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى : أرى ، فقالوا : راأى ، فجاء المضارع بأرى كيصلى ، وجاء الجمع يروّون كيصلون ، وتوجيه الثانية أن استثقل التضعيف في الهمزة فخففها ، أو حذف الألف من يراءون حذفاً لا لسبب.
{ ويمنعون الماعون } ، قال ابن المسيب وابن شهاب : الماعون ، بلغة قريش : المال.
وقال الفرّاء عن بعض العرب : الماعون : الماء.
وقال ابن مسعود وابن عباس وابن الحنفية والحسن والضحاك وابن زيد : ما يتعاطاه الناس بينهم ، كالفأس والدلو والآنية.

وفي الحديث : « سئل صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال : الماء والملح والنار » وفي بعض الطرق : الإبرة والخمير.
وقال عليّ وابن عمر وابن عباس أيضاً : الماعون : الزكاة ، ومنه قول الراعي :
أخليفة الرحمن إنا معشر . . .
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا . . .
حق الزكاة منزلاً تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا . . .
ما عونهم ويضيعوا التهليلا
يعني بالماعون : الزكاة ، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن ، وهو الشيء القليل ، فسميت الزكاة ماعوناً لأنها قليل من كثير ، وكذلك الصدقة غيرها.
وقال ابن عباس : هو العارية.
وقال محمد بن كعب والكلبي : هو المعروف كله.
وقال عبد الله بن عمر : منع الحق.
وقيل : الماء والكلأ.

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

وقرأ الجمهور : { أعطيناك } بالعين؛ والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني : أنطيناك بالنون ، وهي قراءة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال التبريزي : هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش.
ومن كلامه صلى الله عليه وسلم : « اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة » ومن كلامه أيضاً ، عليه الصلاة والسلام : « وأنطوا النيحة » وقال الأعشى :
جيادك خير جياد الملوك . . .
تصان الحلال وتنطى السعيرا
قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي : أبدل من العين نوناً؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن ، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك ، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة ، فلا يقول الأصل العين ، ثم أبدلت النون منها.
وذكر في التحرير : في الكوثر ستة وعشرين قولاً ، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم ، واقتطعنا منه ، قال : « أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم.
قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم » انتهى.
قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها.
وقال ابن عباس : الكوثر : الخير الكثير.
وقيل لابن جبير : إن ناساً يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير.
وقال الحسن : الكوثر : القرآن.
وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب : كثرة الأصحاب والأتباع.
وقال هلال بن يساف : هو التوحيد.
وقال جعفر الصادق : نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه.
وقال عكرمة : النبوّة.
وقال الحسن بن الفضل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع.
وقال ابن كيسان : الإيثار.
وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل ، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها.
والكوثر فوعل من الكثرة ، وهو المفرط الكثرة.
قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر.
وقال الشاعر :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب . . .
وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
{ فصل لربك وانحر } : الظاهر أن فصل أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل.
والنحر : نحر الهدى والنسك والضحايا ، قاله الجمهور؛ ولم يكن في ذلك الوقت جهاد فأمر بهذين.
قال أنس : كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقاله قتادة.
وقال ابن جبير : نزلت وقت صلح الحديبية.
قيل له : صل وانحر الهدى ، فعلى هذا الآية من المدني.
وفي قوله : { لربك } ، تنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية ، ونحرهم للأصنام.

وعن علي ، رضي الله تعالىعنه : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة.
وقيل : ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك.
وعن عطية وعكرمة : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر بمنى.
وقال الضحاك : استو بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحرك.
وقال أبو الأحوص : استقبل القبلة بنحرك.
{ إن شانئك } : أي مبغضك ، تقدم أنه العاصي بن وائل.
وقيل : أبو جهل.
وقال ابن عباس : لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى : { إن شانئك هو الأبتر }.
وقال شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط.
وقال قتادة : الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل.
وقرأ الجمهور : { شانئك } بالألف؛ وابن عباس : شينك بغير ألف.
فقيل : مقصور من شاني ، كما قالوا : برر وبر في بارر وبار.
ويجوز أن يكون بناء على فعل ، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين.
وقد قالوا : حذر أموراً ومزقون عرضي ، فلا يستوحش من كونه مضافاً للمفعول ، وهو مبتدأ ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلاً ، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به ، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجميع المؤمنين أولاده ، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر ، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر.
يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكره صلى الله عليه وسلم ، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف صلى الله عليه وسلم وعلى آله وشرف وكرم.

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

وفي قوله : { قل } دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله ، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم ، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم.
والكافرون ناس مخصوصون ، وهم الذين قالوا له تلك المقالة : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، وأبو جهل ، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم ، ووافى على الكفر تصديقاً للإخبار في قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد }.
وللمفسرين في هذه الجمل أقوال :
أحدها : أنها للتوكيد.
فقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } توكيداً لقوله : { لا أعبد ما تعبدون } ، وقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ثانياً تأكيد لقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أولاً.
والتوكيد في لسان العرب كثير جداً ، وحكوا من ذلك نظماً ونثراً ما لا يكاد يحصر.
وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار ، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبداً.
والثاني : أنه ليس للتوكيد ، واختلفوا.
فقال الأخفش : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ، فزال التوكيد ، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير.
وقال أبو مسلم : ما في الأوليين بمعنى الذي ، والمقصود المعبود.
وما في الأخريين مصدرية ، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين.
وقال ابن عطية : لما كان قوله : { لا أعبد } محتملاً أن يراد به الآن ، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه ، جاء البيان بقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } أبداً وما حييت.
ثم جاء قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون به أبداً ، كالذي كشف الغيب.
فهذا كما قيل لنوح عليه السلام : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أما أن هذا في معينين ، وقوم نوح عموا بذلك ، فهذا معنى الترديد الذي في السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته ، انتهى.
وقال الزمخشري : { لا أعبد } ، أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
{ ولا أنا عابد ما عبدتم } : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام؟ { ولا أنتم عابدون ما أعبد } : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.

فإن قلت : فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت ، انتهى.
أما حصره في قوله : لأن لا لا تدخل ، وفي قوله : ما لا تدخل ، فليس بصيح ، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم.
وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال ، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال : وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل.
وقال : وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل ، فذكر الغالب فيهما.
وأما قوله : في قوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً.
وأما قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ، فعابدون قد أعمله فيما أعبد ، فلا يفسر بالماضي.
وأما قوله ، وهو لم يكن إلى آخره ، فسوء أدب منه على منصب النبوة ، وهو أيضاً غير صحيح ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحداً لله عز وجل منزهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله ، مجتنباً لأصنامهم بحج بيت الله ، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وهذه عبادة لله تعالى ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم! والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات ، قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال المفسرون : معناه ليعرفون.
فسمى الله تعالى المعرفة به عباده.
والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً : نفى عبادته في المستقبل ، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل ، قيل : ثم عطف عليه { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفياً للمستقبل على سبيل المقابلة؛ ثم قال : { ولا أنا عابد ما عبدتم } نفياً للحال ، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال؛ ثم عطف عليه { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفياً للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون ، لا حالاً ولا مستقبلاً ، وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر.
ولما قال : { لا أعبد ما تعبدون } ، فأطلق ما على الأصنام ، قابل الكلام بما في قوله : { ما أعبد } ، وإن كانت يراد بها الله تعالى ، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد ، وهذا على مذهب من يقول : إن ما لا تقع على آحاد من يعلم.

أما من جوّز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
وقيل : ما مصدرية في قوله : { ما أعبد }.
وقيل : فيها جميعها.
وقال الزمخشري : المراد الصفة ، كأنه قيل : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق.
{ لكم دينكم ولي دين } : أي لكم شرككم ولي توحيدي ، وهذا غاية في التبرؤ.
ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه.
ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله : { لكم دينكم } على سبيل المهادنة ، وهي منسوخة بآية السيف.
وقرأ سلام : ديني بياء وصلاً ووقفاً ، وحذفها القراء السبعة ، والله تعالى أعلم.

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)

قال الزمخشري : { إذا } منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل ، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة ، انتهى.
وكذا قال الحوفي ، ولا يصح إعمال { فسبح } في { إذا } لأجل الفاء ، لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط ، فلا تعمل فيه ، بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح المنصور في علم العربية ، وقد استدللنا على ذلك في شرح التسهيل وغيره ، وإن كان المشهور غيره.
والنصر : الإعانة والإظهار على العدو ، والفتح : فتح البلاد.
ومتعلق النصر والفتح محذوف ، فالظاهر أنه نصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على أعدائهم ، وفتح مكة وغيرها عليهم ، كالطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن.
وقيل : نصره صلى الله عليه وسلم على قريش وفتح مكة ، وكان فتحها لعشر مضين من رمضان ، سنة ثمان ، ومعه عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار.
وقرأ الجمهور : { يدخلون } مبنياً للفاعل؛ وابن كثير في رواية : مبنياً للمفعول.
{ في دين الله } : في ملة الإسلام الذي لا دين له يضاف غيرها.
{ أفواجاً } أي جماعات كثيرة ، كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً بعد واحد ، واثنين اثنين.
قال الحسن : لما فتح عليه الصلاة والسلام مكة ، أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما الظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل.
وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين.
منهم من قدم ، ومنهم من قدّم وافده.
قال ابن عطية : والمراد ، والله أعلم ، العرب عبدة الأوثان.
وأما نصارى بني ثعلب فما أراهم أسلموا قط في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن أعطوا الجزية.
وقال مقاتل وعكرمة : المراد بالناس أهل اليمن ، وفد منهم سبعمائة رجل.
وقال الجمهور : وفود العرب ، وكان دخولهم بين فتح مكة وموته صلى الله عليه وسلم.
و { أفواجاً } : جمع فوج.
قال الحوفي : وقياس جمعه أفوج ، ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدّل إلى أفواج ، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح.
فكما أن قياس فعل صحيحها أن يجمع على أفعل لا على أفعال ، فكذلك هذا؛ والأمر في هذا المعتل بالعكس.
القياس فيه أفعال ، كحوض وأحواض ، وشذ فيه أفعل ، كثوب وأثوب ، وهو حال.
ويدخلون حال أو مفعول ثان إن كان { أرأيت } بمعنى علمت المتعدية لاثنين.
وقال الزمخشري : إما على الحال على أن أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت ، انتهى.
ولا نعلم رأيت جاءت بمعنى عرفت ، فنحتاج في ذلك إلى استثبات.
{ فسبح بحمد ربك } : أي ملتبساً بحمده على هذه النعم التي خولكها ، من نصرك على الأعداء وفتحك البلاد وإسلام الناس؛ وأي نعمة أعظم من هذه ، إذ كل حسنة يعملها المسلمون فهي في ميزانه.

وعن عائشة : كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك " قال الزمخشري : والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته ، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة " ، انتهى.
وقد علم هو صلى الله عليه وسلم من هذه السورة دنو أجله ، " وحين قرأها عليه الصلاة والسلام استبشر الصحابة وبكى العباس ، فقال : «وما يبكيك يا عم؟» قال : نعيت إليك نفسك ، فقال : «إنها لكما تقول» ، فعاش بعدها سنتين " { إِنَّهُ كَانَ تَوبَا } : فيه ترجئة عظيمة للمستغفرين.

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر ، وهنا قال ابن عباس : خابت ، وقتادة : خسرت ، وابن جبير : هلكت ، وعطاء : ضلت ، ويمان بن رياب : صفرت من كل خير ، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى.
وقالوا فيما حكى إشابة : أم تابة : أي هالكة من الهرم والتعجيز.
وإسناد الهلاك إلى اليدين ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، وهو في الحقيقة للنفس ، كقوله : { ذلك بما قدمت يداك } وقيل : أخذ بيديه حجراً ليرمي به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأسند التب إليهما.
والظاهر أن التب دعاء ، وتب : إخبار بحصول ذلك ، كما قال الشاعر :
جزاني جزاه الله شرّ جزائه . . .
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
ويدل عليه قراءة عبد الله : وقد تب.
روي أنه لما نزل : { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال : " يا صفية بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني لكما من الله شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتما " ثم صعد الصفا ، فنادى بطون قريش : " يا بني فلان يا بني فلان " وروي أنه صاح بأعلى صوته : " «يا صباحاه».
فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : «أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي؟» قالوا : نعم ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا؟ فافترقوا عنه ، ونزلت هذه السورة " وأبو لهب اسمه عبد العزى ، ابن عم المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ ابن محيصن وابن كثير : أبي لهب بسكون الهاء ، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب ، لأنها فاصلة ، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة.
قال الزمخشري : وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس مالك بالضم.
انتهى ، يعني : سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس ، ويعني في قول الشاعر :
وإني لمهد من ثنائي فقاصد . . .
به لابن عمي الصدق شمس بن مالك
فأما في لهب ، فالمشهور في كنيته فتح الهاء ، وأما شمس بن مالك ، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام ، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع ، كما جاء أذناب خيل شمس.
قيل : وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه ، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية ، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم؛ أو لأن مآله إلى النار ، فوافقت حالته كنيته ، كما يقال للشرير : أبو الشر ، وللخير أبو الخير؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية ، فعدل إلى الأنقص؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم.
والظاهر أن ما في { ما أغنى عنه ماله } نفي ، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه ، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته ، وما كسب من نسلها ومنافعها ، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به.

ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب ، أي : أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار؟ والمعنى : أين الغني الذي لماله ولكسبه؟ والظاهر أن ما في قوله : { وما كسب } موصولة ، وأجيز أن تكون مصدرية.
وإذا كانت ما في { ما أغنى } استفهاماً ، فيجوز أن تكون ما في { وما كسب } استفهاماً أيضاً ، أي : وأي شيء كسب؟ أي لم يكسب شيئاً.
وعن ابن عباس : { وما كسب } ولده.
وفي الحديث : « ولد الرجل من كسبه » وعن الضحاك : { وما كسب } هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعن قتادة : وعمله الذي ظن أنه منه على شيء.
وروي عنه أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً ، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي.
وقرأ عبد الله : وما اكتسب بتاء الافتعال.
وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره ، وهو أيضاً سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ، ومريئته؛ وعنه أيضاً : ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها.
وقرأ أيضاً : حمالة للحطب ، بالتنوين في حمالة ، وبلام الجر في الحطب.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : سيصلى بضم الياء وسكون الصاد؛ وأبو قلابة : حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافاً ، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم : حمالة بالنصب.
وقرأ الجمهور : { سيصلى } بفتح الياء وسكون الصاد ، { وامرأته } على التكبير ، { حمالة } على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً ، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة.
وارتفع { وامرأته } عطفاً على الضمير المستكن في { سيصلى } ، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته ، { وحمالة } في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لامرأته ، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة ، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل.
وفي قراءة النصب ، انتصب على الذم.
وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون { وامرأته } مبتدأ ، وحمالة ، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء.
والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم ، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب ، قاله ابن عباس.
فحمالة معرفة ، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان ، وأن يكون بدلاً.
قيل : وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة ، ويقال للمشاء بها : يحمل الحطب بين الناس ، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر.

قال الشاعر :
من البيض لم يصطد على ظهر لامه . . .
ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر.
وقال الراجز :
إن بني الأرزم حمالو الحطب . . .
هم الوشاة في الرضا وفي الغضب
وقال ابن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : يحطب على ظهره.
قال تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم }.
وقيل : الحطب جمع حاطب ، كحارس وحرس ، أي يحمل الجناة على الجنايات ، والظاهر أن الحبل من مسد.
وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان : استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم.
وقال قتادة : قلادة من ودع.
وقال ابن المسيب : قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد.
قال ابن عطية : وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، انتهى.
وقال الحسن : إنما كانت خرزاً.
وقال الزمخشري : والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطابون تحسيساً لحالها وتحقيراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة.
ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي . . .
أم ما تعير من حمالة الحطب
غرساء شاذخة في المجد سامية . . .
كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
ويحتمل أن يكون المعنى : إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع ، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه ، انتهى.
ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر ، فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلن؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فروي أن أبا بكر ، رضي الله تعالى عنه ، قال لها : هل تري معي أحداً؟ فقالت : أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك.
وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول :
مذمماً أبينا . . .
ودينه قلينا
وأمره عصينا . . .
فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها » وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال.

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

عن ابن عباس ، أن اليهود قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه ، فنزلت.
وعن أبي العالية ، قال قادة الأحزاب : انسب لنا ربك ، فنزلت.
فإن صح هذالسبب ، كان هو ضميراً عائداً على الرب ، أي { قل هو الله } أي ربي الله ، ويكون مبتدأ وخبراً ، وأحد خبر ثان.
وقال الزمخشري : وأحد يدل من قوله : { الله } ، أو على هو أحد ، انتهى.
وإن لم يصح السبب ، فهو ضمير الأمر ، والشان مبتدأ ، والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو ، وأحد بمعنى واحد ، أي فرد من جميع جهات الوحدانية ، أي في ذاته وصفاته لا يتجزأ.
وهمزة أحد هذا بدل من واو ، وإبدال الهمزة مفتوحة من الواو قليل ، من ذلك امرأة إناة ، يريدون وناة ، لأنه من الوني وهو الفتور ، كما أن أحداً من الوحدة.
وقال ثعلب : بين واحد وأحد فرق ، الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان ، والأحد لا يدخله.
يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ، لأن الله خصوصية له الأحد ، وزيد تكون منه حالات ، انتهى.
وما ذكر من أن أحداً لا يدخله ما ذكر منقوض بالعدد.
وقرأ أبان بن عثمان ، وزيد بن علي ، ونصر بن عاصم ، وابن سيرين ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وأبو عمرو في رواية يونس ، ومحبوب ، والأصمعي ، واللؤلؤي ، وعبيد ، وهارون عنه : { أحد . . .
الله } بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجد في الشعر نحو قوله :
ولا ذاكراً الله إلا قليلاً . . .
ونحو قوله :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه . . .
{ الله الصمد } : مبتدأ وخبر ، والأفصح أن تكون هذه جملاً مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف ، كما تقول : زيد العالم زيد الشجاع.
وقيل : الصمد صفة ، والخبر في الجملة بعده ، وتقدم شرح الصمد في المفردات.
وقال الشعبي ، ويمان بن رياب : هو الذي لا يأكل ولا يشرب.
وقال أبيّ بن كعب : يفسره ما بعده ، وهو قوله : { لم يلد ولم يولد }.
وقال الحسن : الصمد : المصمت الذي لا جوف له ، ومنه قوله :
شهاب حروب لا تزال جياده . . .
عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
وفي كتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة.
وقال ابن الأنباري : لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هو السيد الذي ليس فوقه أحد ، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم.
قال الزمخشري : { لم يلد } ، لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، ودل على هذا المعنى بقوله : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } { ولم يولد } : لأن كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أول لوجوده ، وليس بجسم ولم يكافئه أحد.
يقال له كفو ، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء ، وبضم الكاف مع ضم الفاء.

وقرأ حمزة وحفص : بضم الكاف وإسكان الفاء ، وهمز حمزة ، وأبدلها حفص واواً.
وباقي السبعة : بضمهما والهمز ، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع ، وفي رواية عن نافع أيضاً كفا من غير همز ، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة.
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد ، كما قال النابغة :
لا تعذقني بركن لا كفاء له . . .
الأعلم لا كفاء له : لا مثيل له.
وقال مكي سيبويه : يختار أن يكون الظرف خبراً إذا قدمه ، وقد خطأه المبرد بهذه الآية ، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبراً ، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم ، إنما أجاز أن يكون خبراً وأن لا يكون خبراً.
ويجوز أن يكون حالاً من النكرة وهي أحد.
لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال ، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره ، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول ، انتهى.
وخرجه ابن عطية أيضاً على الحال.
وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدماً في أفصح الكلام وأعربه؟ قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه ، انتهى.
وهذه الجملة ليست من هذا الباب ، وذلك أن قوله : { ولم يكن له كفواً أحد } ليس الجار والمجرور فيه تاماً ، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبراً لكان ، بل هو متعلق بكفواً وقدم عليه.
فالتقدير : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافئه ، فهو في معنى المفعول متعلق بكفواً.
وتقدم على كفواً للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى.
وتوسط الخبر ، وإن كان الأصل التأخر ، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك.
وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفواً حال من أحد ، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبراً ، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه.
وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً ، ويصلح أن يكون غير خبر.
قال سيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً ، ويصلح أن يكون غير خبر.
قال سيبويه : وتقول : ما كان فيها أحد خير منك ، وما كان أحد مثلك فيها ، وليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم.
أجريت الصفة على الاسم ، فإن جعلته على : فيها زيد قائم ، نصبت فتقول : ما كان فيها أحد خيراً منك ، وما كان أحد خيراً منك فيها ، إلا أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الملغى كان أحسن.

وإذا أردت أن يكون مستقراً ، فكلما قدمته كان أحسن ، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير.
قال تعالى : { ولم يكن له كفواً أحد }.
وقال الشاعر :
ما دام فيهن فصيل حياً . . .
انتهى.
وما نقلناه ملخصاً.
وهو بألفاظ سيبويه ، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبراً.
ومعنى قوله : مستقراً ، أي خبراً للمبتدأ ولكان.
فإن قلت : فقد مثل بالآية الكريمة.
قلت : هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام هو في قوله :
ما دام فيهن فصيل حياً . . .
أجرى فضلة لا خبراً.
كما أن له في الآية أجرى فضلة ، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً ، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله : ولم يكن له أحد ، بل لو تأخر كفواً وارتفع على الصفة وجعل له خبراً ، لم ينعقد منه كلام ، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو ، وله متعلق به ، والمعنى : ولم يكن له أحد مكافئه.
وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة ، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن ، وقد تكلم العلماء على ذلك ، وليس هذا موضعه ، والله الموفق.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

والفلق : الصبح ، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد ، وفي المثل : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح ، وقال الشاعر :
يا ليلة لم أنمها بت مرتقباً . . .
أرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق
وقال الشاعر يصف الثور الوحشي :
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق . . .
هاديه في أخريات الليل منتصب
وقيل : الفلق : كلما يفلقه الله تعالى ، كالأرض والنبات والجبال عن العيون ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك.
وقال ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين : الفلق : جب في جهنم ، ورواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لما اطمأن من الأرض الفلق ، وجمعه فلقان.
وقيل : واد في جهنم.
وقال بعض الصحابة : بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حره.
وقرأ الجمهور : { من شر ما خلق } ، بإضافة شر إلى ما ، وما عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد ، كالإحراق بالنار ، والإغراق بالبحر ، والقتل بالسم.
وقرأ عمرو بن فايد : من شر بالتنوين.
وقال ابن عطية : وقرأ عمرو بن عبيد ، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر : من شر بالتنوين ، ما خلق على النفي ، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل ، الله خالق كل شيء ، ولهذه القراءة وجه غير النفي ، فلا ينبغي أن ترد ، وهو أن يكون { ما خلق } بدلاً من { شر } على تقدير محذوف ، أي من شرّ شر ما خلق ، فحذف لدلالة شر الأول عليه ، أطلق أولاً ثم عمّ ثانياً.
والغاسق : الليل ، ووقب : أظلم ودخل على الناس ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال : والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه.
من قوله تعالى : { إلى غسق الليل } ومنه : غسقت العين : امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً ، ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء ، انتهى.
وقال الزجاج : هو الليل لأنه أبرد من النهار ، والغاسق : البارد ، استعيذ من شره لأنه فيه تنبث الشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك.
قال الشاعر :
يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقاً . . .
إذ جئتنا طارقاً والليل قد غسقا
وقال محمد بن كعب : النهار دخل في الليل.
وقال ابن شهاب : المراد بالغاسق : الشمس إذا غربت.
وقال القتبي وغيره : هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف.
وفي الحديث : « نظر صلى الله عليه وسلم إلى القمر فقال : يا عائشة ، نعوذ بالله من هذا ، فإنه الفاسق إذا وقب » وعنه صلى الله عليه وسلم : « الغاسق النجم » وقال ابن زيد عن العرب : الغاسق : الثريا إذا سقطت ، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك.

وقيل : الحية إذا لدغت ، والغاسق سم نابها لأنه يسيل منه.
والنفاثات : النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر ، يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين.
وقرأ الجمهور : { النفاثات } ؛ والحسن : بضم النون ، وابن عمر والحسن أيضاً وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات؛ والحسن أيضاً وأبو الربيع : النفثات بغير ألف ، نحو الخدرات.
والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك.
وسبب نزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله : ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله : { إن كيدكن عظيم } تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد ، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ، وعرضهنّ محاسنهن ، كأنهن يسحرنهم بذلك ، انتهى.
وقال ابن عطية : وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك ، وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحراء المغرب.
وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان ، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع ، انتهى.
وقيل : الغاسق والحاسد بالطرف ، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوباً إليه ، وكذا كل ما فسر به الغاسق.
وكذلك الحاسد ، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه.
أما إذا لم يظهر الحسد ، فإنما يتأذى به هو لا المحسود ، لاغتمامه بنعمة غيره.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره ، انتهى.
وعم أولاً فقال : { من شر ما خلق } ، ثم خص هذه لخفاء شرها ، إذ يجيء من حيث لا يعلم ، وقالوا : شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر ، ونكر غاسق وحاسد وعرف النفاثات ، لأن كل نفاثة شريرة ، وكل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر.
ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات ، ومنه : لا حسد إلا في اثنتين ، ومنه قول أبي تمام :
وما حاسد في المكرمات بحاسد . . .
وقال آخر :
إن الغلا حسن في مثلها الحسد . . .
وقول المنظور إليه للحاسد ، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة ، لأنها خمس آيات ، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

أضيف الرب إلى الناس ، لأن الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم ، استعاذوا بربهم مالكهم وإلههم ، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر.
والظاهر أن { ملك الناس إله الناس } صفتان.
وقال الزمخشري : هما عطفا بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس ، ثم زيد بياناً بإله الناس لأنه قد يقال لغيره : رب الناس ، كقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } وقد يقال : ملك الناس ، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان ، انتهى.
وعطف البيان المشهور أنه يكون بالجوامد ، وظاهر قوله أنهما عطفا بيان لواحد ، ولا أنقل عن النحاة شيئاً في عطف البيان ، هل يجوز أن يتكرر لمعطوف عليه واحد أم لا يجوز؟.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة؟ قلت : لأن عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار ، انتهى.
والوسواس ، قالوا : اسم من أسماء الشيطان؟ والوسواس أيضاً : ما يوسوس به شهوات النفس ، وهو الهوى المنهي عنه.
والخناس : الراجع على عقبه ، المستتر أحياناً ، وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد الله تعالى تأخر.
وأما الشهوات فتخنس بالإيمان وبلمة الملك وبالحياء ، فهذان المعنيان يندرجان في الوسواس ، ويكون معنى { من الجنة والناس } : من الشياطين ونفوس الناس ، أو يكون الوسواس أريد به الشيطان ، والمغري : المزين من قرناء السوء ، فيكون { من الجنة والناس } ، تبييناً لذلك الوسواس.
قال تعالى : { عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } وقال قتادة : إن من الإنس شياطين ، ومن الجن شياطين ، فنعوذ بالله منهم.
وقال أبو ذر لرجل : هل تعوذت من شياطين الإنس؟
وقال الزمخشري : { الوسواس } اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة؛ وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال ، والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه؛ أو أريد ذو الوسواس.
وقد تكلمنا معه في دعواه أن الزلزال بالفتح اسم وبالكسر مصدر في { إذا زلزلت } ويجوز في الذي الجر على الصفة ، والرفع والنصب على الشتم ، ومن في { من الجنة والناس } للتبعيض ، أي كائناً من الجنة والناس ، فهي في موضع الحال أي ذلك الموسوس هو بعض الجنة وبعض الناس.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من متعلقاً بيوسوس ، ومعناه ابتداء الغاية ، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ، انتهى.
ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة ، أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب والملك والإله ، وإن اتحد المطلوب ، وفي الاستعاذة من ثلاث : الغاسق والنفاثات والحاسد بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ : قل هو الله أحد والمعوذتين ، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثاً ، صلى الله عليه وسلم وشرّف ومجد وكرّم ، وعلى آله وصحبه ذوي الكرم وسلم تسليماً كثيراً.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46