كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

.
قَالَ ( ثُمَّ إذَا اسْتَوَى قَائِمًا كَبَّرَ وَسَجَدَ ) أَمَّا التَّكْبِيرُ وَالسُّجُودُ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ قَائِمًا فَلَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَكَذَا الْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُفْتَرَضُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } " قَالَهُ لِأَعْرَابِيٍّ حِينَ أَخَفَّ الصَّلَاةَ .
وَلَهُمَا أَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالسُّجُودَ هُوَ الِانْخِفَاضُ لُغَةً ، فَتَتَعَلَّق الرُّكْنِيَّةُ بِالْأَدْنَى فِيهِمَا ، وَكَذَا فِي الِانْتِقَالِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ .
وَفِي آخِرِ مَا رُوِيَ تَسْمِيَتُهُ إيَّاهُ صَلَاةً حَيْثُ قَالَ : وَمَا نَقَصْت مِنْ هَذَا شَيْئًا فَقَدْ نَقَصْت مِنْ صَلَاتِك ، ثُمَّ الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَا الطُّمَأْنِينَةُ فِي تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ .
وَفِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ وَاجِبَةٌ حَتَّى تَجِبَ سَجْدَتَا السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا عِنْدَهُ

قَالَ ( ثُمَّ إذَا اسْتَوَى قَائِمًا كَبَّرَ وَسَجَدَ ) إذَا اسْتَوَى الْمُصَلِّي مِنْ رُكُوعِهِ كَبَّرَ وَسَجَدَ ( أَمَّا التَّكْبِيرُ وَالسُّجُودُ فَلِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي مَا ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا مِنْ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ } ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } اعْلَمْ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ قَائِمًا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَيُسَمَّى قَوْمَةً ( وَالْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ) أَيْ الْقَرَارُ فِيهِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُفْتَرَضُ ذَلِكَ كُلُّهُ ) وَمِقْدَارُ الطُّمَأْنِينَةِ بِمِقْدَارِ تَسْبِيحَةٍ ( وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِدُونِهِ .
فَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ، وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِحَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ نَقَرَ نَقْرَ الدِّيكِ : قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } " نَفَى كَوْنَهُ صَلَاةً بِتَرْكِ التَّعْدِيلِ فَكَانَ رُكْنًا ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفِيهَا .
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ ، يُقَالُ رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ ، وَالسُّجُودُ هُوَ الِانْخِفَاضُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِدُونِ الطُّمَأْنِينَةِ فَتَتَعَلَّقُ الرُّكْنِيَّةُ بِالْأَدْنَى فِيهِمَا ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَأَمَّا الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا فِي الِانْتِقَالِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ أَدَاءُ الرُّكْنِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِي آخِرِ مَا رُوِيَ

) جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ .
وَتَقْرِيرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى مَا صَنَعَهُ الْأَعْرَابِيُّ صَلَاةً حَيْثُ قَالَ وَمَا نَقَصْتَ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَقَدْ نَقَصْتَ مِنْ صَلَاتِك } " فَلَوْ كَانَ تَرْكُ التَّعْدِيلِ مُفْسِدًا لَمَا سَمَّاهُ صَلَاةً كَمَا لَوْ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوْ السُّجُودَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَاسِدًا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَبَثًا فَكَانَ تَرْكُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْفَرَاغِ مِنْهُ حَرَامًا فَكَانَ الْحَدِيثُ مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ التَّعْدِيلُ عِنْدَهُمَا فَرْضًا فَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ ؟ فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فِي الِانْتِقَالِ وَهِيَ الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا ( وَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ ) فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ( فَفِي تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ سُنَّةٌ وَفِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ وَاجِبَةٌ حَتَّى تَجِبَ سَجْدَتَا السَّهْوِ بِتَرْكِهَا عِنْدَهُ ) وَجْهُ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّ هَذِهِ طُمَأْنِينَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِإِكْمَالِ رُكْنٍ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ سُنَّةٌ كَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الِانْتِقَالِ .
وَوَجْهُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةَ مَشْرُوعَةٌ لِإِكْمَالِ رُكْنٍ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ كَالْقِرَاءَةِ ، بِخِلَافِ الِانْتِقَالِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ قِيلَ فِي كَيْفِيَّةِ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ مِنْهُ أَنْ يَضَعَ أَوَّلًا مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ ، وَأَنْ يَرْفَعَ أَوَّلًا مَا كَانَ إلَى السَّمَاءِ أَقْرَبَ فَيَضَعُ أَوَّلًا رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ وَوَجْهَهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَضَعُ أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَيَرْفَعُ أَوَّلًا وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ .

( وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ) لِأَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَسَجَدَ وَادَّعَمَ عَلَى رَاحَتَيْهِ وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ } " قَالَ ( وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ .
قَالَ ( وَسَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ ( فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ ، وَعَدَّ مِنْهَا الْجَبْهَةَ } " وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السُّجُودَ يَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَّا أَنَّ الْخَدَّ وَالذَّقَنَ خَارِجٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا رُوِيَ الْوَجْهُ فِي الْمَشْهُورِ ، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا لِتَحَقُّقِ السُّجُودِ بِدُونِهِمَا ، وَأَمَّا وَضْعُ الْقَدَمَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرِيضَةٌ فِي السُّجُودِ .
قَالَ ( فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ فَاضِلِ ثَوْبِهِ جَازَ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ ، وَيُرْوَى " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَّقِي بِفُضُولِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا ( وَيُبْدِي ضَبْعَيْهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " وَأَبْدِ ضَبْعَيْك " وَيُرْوَى " وَأَبِّدْ " مِنْ الْإِبْدَادِ : وَهُوَ الْمَدُّ ، وَالْأَوَّلُ مِنْ الْإِبْدَاءِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ ( وَيُجَافَى بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ ) " { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى حَتَّى أَنَّ بَهْمَةً لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ } " .
وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي الصَّفِّ لَا يُجَافِي كَيْ لَا

يُؤْذِيَ جَارَهُ ( وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا سَجَدَ الْمُؤْمِنُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ ، فَلْيُوَجِّهْ مِنْ أَعْضَائِهِ الْقِبْلَةَ مَا اسْتَطَاعَ } "

وَقَوْلُهُ : ( وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ) ظَاهِرٌ .
وَمَعْنَى ادَّعَمَ عَلَى رَاحَتَيْهِ اتَّكَأَ ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مَنْ دَعَمْت الشَّيْءَ : أَيْ جَعَلْته دِعَامَةً .
وَقَوْلُهُ : وَسَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ ) تَقْدِيمُ الْأَنْفِ عَلَى الْجَبْهَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَنْفَ أَقْرَبُ إلَى الْأَرْضِ فَيَضَعُهُ أَوَّلًا لِمَا مَرَّ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا ) يَعْنِي أَنَّ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ الْجَبْهَةَ جَازَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْفَ ( جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَيُكْرَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ ، وَعَدَّ مِنْهَا الْجَبْهَةَ } " : أَيْ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْجَبْهَةِ .
قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ وَضْعَ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ جَازَتْ سَجْدَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ تِلْكَ السَّبْعَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ السَّجْدَةِ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَا عَلَى أَنَّ وَضْعَهَا لَازِمٌ لَا مَحَالَةَ ، وَالْأَنْفُ غَيْرُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلسَّجْدَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السُّجُودَ يَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ جَمِيعِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ وَالْجَبْهَةَ عَظْمَاتُ نَاتِئَانِ يَمْنَعَانِ وَضْعَ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ وَضْعُ الْكُلِّ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَضْعَ الْبَعْضِ ، إلَّا أَنَّ الْخَدَّ وَالذَّقَنَ خَرَجَا بِالْإِجْمَاعِ إذْ التَّعْظِيمُ لَمْ يُشْرَعْ بِوَضْعِهِمَا فَبَقِيَ الْأَنْفُ وَالْجَبْهَةُ ، وَالْجَبْهَةُ تَصْلُحُ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ فَكَذَلِكَ الْأَنْفُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ أَوَّلًا ، لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي

؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لَمْ يَنْتَقِلْ كَالذَّقَنِ بَلْ يَنْتَقِلُ الْفَرْضُ إلَى الْإِيمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ بِهِمَا عُذْرٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ كَالْجَبْهَةِ ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا رُوِيَ مِنْ الْخَبَرِ هُوَ الْوَجْهُ فِي الْمَشْهُورِ فَيَكُونُ الْأَنْفُ وَالْجَبْهَةُ دَاخِلَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَلَوْ اكْتَفَى بِالْجَبْهَةِ جَازَ فَكَذَا لَوْ اكْتَفَى بِالْأَنْفِ ( وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا لِتَحَقُّقِ السُّجُودِ بِدُونِهِمَا ) ؛ لِأَنَّ السَّاجِدَ اسْمٌ لِمَنْ وَضَعَ الْوَجْهَ عَلَى الْأَرْضِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ عَاقِصٌ شَعْرَهُ كَمَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ } " فَالتَّمْثِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ دُونَ الْجَوَازِ .
وَقَوْلُهُ : عِنْدَنَا احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ } " وَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ السَّجْدَةِ لَا عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْجَمِيعِ لَازِمٌ ( وَأَمَّا وَضْعُ الْقَدَمَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ فَرْضٌ فِي السُّجُودِ ) فَإِذَا سَجَدَ وَرَفَعَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ عَنْ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَالْجَصَّاصُ ، وَلَوْ وَضَعَ إحْدَاهُمَا جَازَ .
قَالَ قَاضِي خَانْ : وَيُكْرَهُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَهُوَ الْحَقُّ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ ) ظَاهِرٌ ، وُكُورُ الْعِمَامَةِ دَوْرُهَا وَكُلُّ دَوْرٍ كُورٌ ، وَالضَّبُعُ بِالسُّكُونِ لَا غَيْرُ : الْعَضُدُ وَيُجَافَى بَطْنَهُ ) أَيْ يُبَاعِدُ ، وَالْبَهْمَةُ : وَلَدُ الشَّاةِ بَعْدَ السَّخْلَةِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا

تَضَعُهُ سَخْلَةٌ ثُمَّ يَصِيرُ بَهْمَةً .

( وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { وَإِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } " أَيْ أَدْنَى كَمَالِ الْجَمْعِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَعْدَ أَنْ يَخْتِمَ بِالْوِتْرِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ يَخْتِمُ بِالْوِتْرِ } ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا لَا يَزِيدُ عَلَى وَجْهٍ يُمِلُّ الْقَوْمَ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّنْفِير ثُمَّ تَسْبِيحَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ لِأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَهُمَا دُونَ تَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا يَزِيدُ عَلَى النَّصِّ ( وَالْمَرْأَةُ تَنْخَفِضُ فِي سُجُودِهَا وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا .
قَالَ ( ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ ) لِمَا رَوَيْنَا ( فَإِذَا اطْمَأَنَّ جَالِسًا كَبَّرَ وَسَجَدَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ " { ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَك حَتَّى تَسْتَوِيَ جَالِسًا } " وَلَوْ لَمْ يَسْتَوِ جَالِسًا وَسَجَدَ أُخْرَى أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَتَكَلَّمُوا فِي مِقْدَارِ الرَّفْعِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ إلَى السُّجُودِ أَقْرَبَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاجِدًا ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْجُلُوسِ أَقْرَبَ جَازَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا فَتَتَحَقَّقُ الثَّانِيَةُ .

وَقَوْلُهُ : وَإِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ ) بِالْوَاوِ مَعْطُوفٌ عَلَى إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ ) الرَّفْعُ فَرِيضَةٌ كَمَا أَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الرَّأْسِ لِيَتَحَقَّقَ الِانْتِقَالُ إلَيْهَا وَالتَّكْبِيرُ سُنَّةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ " ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ } " وَقَوْلُهُ : ( وَتَكَلَّمُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( فِي مِقْدَارِ الرَّفْعِ ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا زَايَلَ جَبْهَتَهُ عَنْ الْأَرْضِ ثُمَّ أَعَادَهَا جَازَ ذَلِكَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الْأَرْضِ بِقَدْرِ مَا تَجْرِي فِيهِ الرِّيحُ جَازَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ لَا يَكُونُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَرْفَعْ جَبْهَتَهُ مِقْدَارَ مَا يَقَعُ عِنْدَ النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ لِيَسْجُدَ أُخْرَى ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ وَإِلَّا يَكُونُ عَنْ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَفِي الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّفْعِ .
وَجَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا أَصَحَّ وَقَالَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الرَّفْعُ ، فَإِذَا وُجِدَ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الرَّفْعِ بِأَنْ رَفَعَ جَبْهَتَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِهَذَا الرُّكْنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ إلَى السُّجُودِ أَقْرَبَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاجِدًا ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْجُلُوسِ أَقْرَبَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا فَتَتَحَقَّقُ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ ) يَعْنِي بَعْدَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنْ الرَّفْعِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَتَكَلَّمَ مَشَايِخُنَا فِي الرُّكُوعِ فِي كَوْنِ الرُّكُوعِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّةً وَالسُّجُودِ مَرَّتَيْنِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ وَاتِّبَاعٌ لِلشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ لَهُ مَعْنًى وَقَدْ

تَعَبَّدَنَا الشَّرْعُ بِمَا لَا نَعْقِلُ لَهُ مَعْنًى تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ لِذَلِكَ حِكْمَةً فَقَالَ : إنَّمَا كَانَ السُّجُودُ مَثْنَى تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِسَجْدَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ تَرْغِيمًا لَهُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَقَالَ " { هُمَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } " وَقِيلَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } .

قَالَ ( فَإِذَا اطْمَأَنَّ سَاجِدًا كَبَّرَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ( وَيَسْتَوِي قَائِمًا عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَنْهَضُ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ .
وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ } ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ قَعْدَةُ اسْتِرَاحَةٍ وَالصَّلَاةُ مَا وُضِعَتْ لَهَا .

وَقَوْلُهُ : ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) قِيلَ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ " كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ " وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَيْنَا ، وَلَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَقْعُدُ ) أَيْ لَا يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ( وَلَا يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ) بَلْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَنْهَضُ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ ) لَهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَعَدَ ثُمَّ نَهَضَ } " ( وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ } " وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَالِ الْكِبَرِ ) يَعْنِي فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ مَا كَبِرَ وَأَسَنَّ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ " { لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ } " وَمَا رَوَيْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْقُدْرَةِ فَيُوَفَّقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَوْ تُتْرَكُ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا لِلتَّعَارُضِ وَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُهُ : فِي الْكِتَابِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ قَعْدَةُ اسْتِرَاحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا لِلْفَصْلِ ، فَإِنَّ الْفَصْلَ بِالْقَعْدَةِ إنَّمَا شُرِعَ إمَّا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالصَّلَاةُ مَا وُضِعَتْ لَهَا .

( وَيَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ) لِأَنَّهُ تَكْرَارُ الْأَرْكَانِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ ) لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشْرَعَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ( وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ : تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ ، وَتَكْبِيرَةُ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ ، وَذَكَرَ الْأَرْبَعَ فِي الْحَجِّ } " وَاَلَّذِي يُرْوَى مِنْ الرَّفْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ .

قَالَ ( وَيَفْعَلُ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ) يَفْعَلُ الْمُصَلِّي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ( ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ ( تَكْرَارُ الْأَرْكَانِ ) وَالتَّكْرَارُ يَقْتَضِي إعَادَةَ الْأَوَّلِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِحُ ) قِيلَ : أَيْ لَا يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ إلَخْ ، وَيُسَمَّى هَذَا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ ( وَلَا يَتَعَوَّذُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشْرَعَا إلَّا مَرَّةً ) ؛ لِأَنَّ رُوَاةَ صَلَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا رَوَوْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ( وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَرْفَعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ .
وَلَنَا مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ( " { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ } " ) فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَفِي التَّكْبِيرِ لِلْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ ، وَفِي الْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَبِجَمْعٍ وَعَرَفَاتٍ ، وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ : أَرَادَ بِهِمَا الْأُولَى وَالْوُسْطَى دُونَ الْعَقَبَةِ ، وَالْمُتَنَازَعُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ : أَيْ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ نُسِخَ كَذَا نُقِلَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ : لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَرَكَهُ } ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ .
رُوِيَ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَقِيَ

أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ : مَا بَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ هُمَا ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَدَّثَنِي حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ } " فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : عَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ ، فَرَجَّحَ حَدِيثَهُ بِعُلُوِّ إسْنَادِهِ .
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَمَّا حَمَّادٌ فَكَانَ أَفْقَهَ مِنْ الزُّهْرِيِّ ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ سَالِمٍ ، وَلَوْلَا سَبْقُ ابْنِ عُمَرَ لَقُلْت بِأَنَّ عَلْقَمَةَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَعَبْدُ اللَّهِ ، فَرَجَّحَ حَدِيثَهُ بِفِقْهِ الرُّوَاةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِفِقْهِ الرُّوَاةِ لَا بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرٌ وَهَذَا الْمُخْتَصَرُ لَا يَحْتَمِلُهُ ، خَلَا أَنَّ الْمُحْتَمَلَ عَلَى الرُّوَاةِ وَرُوَاةُ أَخْبَارِنَا الْبَدْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا يَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ ، وَرُوَاتُهُ ابْنُ عُمَرَ وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ كَانُوا يَقُومُونَ بِبُعْدٍ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَقْرَبِ أَوْلَى .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ .

( وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وَوَجَّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ ) هَكَذَا وَصَفَتْ عَائِشَةُ قُعُودَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ ( وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَبَسَطَ أَصَابِعَهُ وَتَشَهَّدَ ) يُرْوَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَوْجِيهَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ ( فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً جَلَسَتْ عَلَى أَلْيَتِهَا الْيُسْرَى وَأَخْرَجَتْ رِجْلَيْهَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ) لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا .وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَبَسَطَ أَصَابِعَهُ وَتَشَهَّدَ ) وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى الشَّهَادَةِ أَوْ لَا ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ ، فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يُشِيرُ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ زِيَادَةَ رَفْعٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فَالتَّرْكُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُشِيرُ بِهَا ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْمُسَبِّحَةِ ، حَدَّثَنَا عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ : أَيْ يُشِيرُ ، ثُمَّ قَالَ : نَصْنَعُ بِصَنِيعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَأْخُذُ بِفِعْلِهِ } .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ ؟ قَالَ : يَقْبِضُ أُصْبُعَهُ الْخِنْصَرَ وَاَلَّتِي تَلِيَهَا وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مَعَ الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِسَبَّابَتِهِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ فِيهِ تَوْجِيهَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُحَلِّقُ شَيْئًا مِنْ الْأَصَابِعِ .

( وَالتَّشَهُّدُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ إلَخْ ) وَهَذَا تَشَهُّدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ " { أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يُعَلِّمُنِي سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ : قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ } إلَخْ ، وَالْأَخْذُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ " التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ ، سَلَامٌ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، سَلَامٌ عَلَيْنَا " إلَخْ ، لِأَنَّ فِيهِ الْأَمْرَ ، وَأَقَلُّهُ الِاسْتِحْبَابُ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ وَهُمَا لِلِاسْتِغْرَاقِ ، وَزِيَادَةُ الْوَاوِ وَهِيَ لِتَجْدِيدِ الْكَلَامِ كَمَا فِي الْقَسَمِ وَتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ ( وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى ) { لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا ، فَإِذَا كَانَ وَسَطُ الصَّلَاةِ نَهَضَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ وَإِذَا كَانَ آخِرَ الصَّلَاةِ دَعَا لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ } " .

قَالَ ( وَالتَّشَهُّدُ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا وَلِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَشَهُّدًا وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا وَلِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَشَهُّدًا وَلِجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا وَلِغَيْرِهِمْ أَيْضًا تَشَهُّدًا ، وَعُلَمَاؤُنَا أَخَذُوا بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّافِعِيُّ بِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ : التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ ، سَلَامٌ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ : وَالْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : أَحَدُهَا أَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ كَلِمَةٍ وَهِيَ الْمُبَارَكَاتُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيْبَةً } وَالثَّالِثُ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّلَامَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، وَأَكْثَرُ تَسْلِيمَاتِ الْقُرْآنِ مَذْكُورٌ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } .
{ قَالُوا سَلَامًا } .
{ قَالَ سَلَامٌ } .
{ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } وَأَشْرَفُ الْكَلَامِ مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ .
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ صَغِيرَ السِّنِّ فَكَانَ يَنْقُلُ مَا تَأَخَّرَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَأَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : { الْأَخْذُ بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ

وَرَسُولُهُ أَوْلَى بِوُجُوهٍ ، ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يَعْلَمُنِي سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ قُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ } إلَخْ فَقَوْلُهُ : قُلْ أَمْرٌ وَأَقَلُّ مَرْتَبَتِهِ الِاسْتِحْبَابُ .
وَقَوْلُهُ : السَّلَامُ عَلَيْك بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ .
وَقَوْلُهُ : وَالصَّلَوَاتُ بِالْوَاوِ يُفِيدُ تَجْدِيدَ الْكَلَامِ كَمَا فِي الْقَسَمِ .
وَقَوْلُهُ : أَخَذَ بِيَدِي وَعَلَّمَنِي يُفِيدُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَقُوَّةٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ .
وَقَدْ ذُكِرَ وُجُوهٌ أُخْرَى : مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ التَّحِيَّاتُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ قُرْبَةٍ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا ، فَإِذَا قَالَ الصَّلَوَاتُ بِغَيْرِ الْوَاوِ صَارَ تَخْصِيصًا وَبَيَانًا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّلَوَاتِ لَا غَيْرُ وَمَتَى قَالَ بِالْوَاوِ يَبْقَى الْأَوَّلُ عَامًّا فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ فَكَانَ أَوْلَى .
وَمِنْهَا تَقْدِيمُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ إذَا قُدِّمَ عَلِمَ الْمَمْدُوحُ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ وَمَتَى أُخِّرَ كَانَ مُحْتَمَلًا ، وَإِزَالَةُ الِاحْتِمَالِ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْلَى .
وَمِنْهَا أَنَّهُ عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّمَامَ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا هَكَذَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ .
وَمِنْهَا أَنَّ عَامَّةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخَذُوا بِتَشَهُّدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَّمَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ مِثْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، هَكَذَا رَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جَابِرٍ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَمِنْهَا اشْتِمَالُ تَشَهُّدِهِ عَلَى لَفْظِ الْعَبْدِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ مِنْ كَمَالِ الْحَالِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعَبْدِ

فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَمِنْهَا حُسْنُ ضَبْطِهِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَخَذَ حَمَّادٌ بِيَدِي ، وَقَالَ حَمَّادٌ أَخَذَ إبْرَاهِيمُ بِيَدِي ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِي ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ أَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِي ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ زِيَادَةُ كَلِمَةٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ مُرَجِّحَةً كَانَ تَشَهُّدُ جَابِرٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَفِي خَبَرِنَا زِيَادَةُ الْوَاوِ أَوْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، وَقَوْلُهُ : عَبْدُهُ فَكَانَ أَوْلَى .
وَعَنْ قَوْلِهِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَجِّحٍ ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الْقَعْدَةِ مَكْرُوهَةٌ فَكَيْفَ يُسْتَحَبُّ مَا يُوَافِقُهُ .
وَعَنْ قَوْلِهِ أَكْثَرُ التَّسْلِيمَاتِ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمُوَافَقَةَ وَقَدْ قُلْنَا إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَيْضًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ } .
{ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى } وَعَنْ قَوْلِهِ إنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَأَخِّرٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
رَوَى الْكَرْخِيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نَقُولُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ : التَّحِيَّاتُ الطَّاهِرَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الزَّاكِيَاتُ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَقَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرْوِي آخِرَ السُّنَنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُرَجِّحْ رِوَايَةَ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَكَابِرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ هِجْرَتُهُ فَقَدْ دَامَتْ صُحْبَتُهُ إلَى أَنْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ التَّحِيَّاتِ : التَّحِيَّاتُ أَيْ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ

لِلَّهِ ، وَالصَّلَوَاتُ : أَيْ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ لِلَّهِ ، وَالطَّيِّبَاتُ : أَيْ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ لِلَّهِ ، وَقَوْلُهُ : السَّلَامُ عَلَيْك : حِكَايَةُ السَّلَامِ الَّذِي رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَّا أَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي مُقَابِلِهَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ : السَّلَامُ بِمُقَابَلَةِ التَّحِيَّاتِ ، وَالرَّحْمَةَ بِمُقَابَلِهِ الصَّلَوَاتِ ، وَالْبَرَكَةَ بِمُقَابَلَةِ الطَّيِّبَاتِ .
وَالْبَرَكَةُ : هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى مِقْدَارِ التَّشَهُّدِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ( فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى ) لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ " { فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَشَهُّدٌ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } " وَلَنَا قَوْلُ { ابْنِ مَسْعُودٍ : عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا ، فَإِذَا كَانَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ نَهَضَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ ، وَإِذَا كَانَ آخِرَ الصَّلَاةِ دَعَا لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ } ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ ، فَإِنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ مُرَادُهُ سَلَامُ التَّشَهُّدِ .

( وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } " وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِ هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِيك مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَىقَالَ ( وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَحْدَهَا لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ) وَهُوَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي قَتَادَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ } وَهَذَا بَيَانٌ لِلْأَفْضَلِ .
قَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَاجِبَةٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا لَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مَقْصُودٌ فَيُكْرَهُ إخْلَاؤُهُ عَنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ جَمِيعًا كَمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ .

( وَجَلَسَ فِي الْأَخِيرَةِ كَمَا جَلَسَ فِي الْأُولَى ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّوَرُّكِ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ مُتَوَرِّكًا } ضَعَّفَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِوَقَوْلُهُ : ( وَجَلَسَ فِي الْأَخِيرَةِ كَمَا جَلَسَ فِي الْأُولَى ) قِيلَ إنَّمَا قَالَ فِي الْأَخِيرَةِ لِيَتَنَاوَلَ قَعْدَةَ الْعَجْزِ وَقَعْدَةَ الْمُسَافِرِ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَمَا جَلَسَ فِي الْأُولَى يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ ) بْنِ حُجْرٍ يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ يُرْوَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَائِشَةَ ) أَيْ حَدِيثِ عَائِشَةَ .
وَقَوْلُهُ : هَكَذَا وَصَفَتْ عَائِشَةُ قُعُودَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّهَا ) أَيْ الْجِلْسَةَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ( أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ ) مِنْ التَّوَرُّكِ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ مَالِكٌ ، قَالَ مَالِكٌ : الْمَسْنُونُ فِي الْقَعْدَةِ أَنْ يَقْعُدَ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ يُخْرِجَ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُفْضِي بِأَلْيَتَيْهِ إلَى الْأَرْضِ فِي الْقَعْدَتَيْنِ جَمِيعًا مَا كَانَ أَشَقَّ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ مَالِكٌ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ مُتَوَرِّكًا } " ضَعَّفَهُ الطَّحَاوِيُّ ، قَالَ : هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ ، وَلَئِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْكِبَرِ .

( وَتَشَهَّدَ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَهُوَ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك ، إنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ } " وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ ، إمَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ ، أَوْ كُلَّمَا ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ فَكُفِينَا مُؤْنَةَ الْأَمْرِ ، وَالْفَرْضُ الْمَرْوِيُّ فِي التَّشَهُّدِ هُوَ التَّقْدِيرُ .

قَوْلُهُ : ( وَتَشَهَّدَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ جَلَسَ ( وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا ) أَيْ فِي قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ فَإِنَّهُمَا فَرْضَانِ عِنْدَهُ .
أَمَّا التَّشَهُّدُ فَلِمَا رَوَاهُ { ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ، إلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ : إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك } " أَطْلَقَ اسْمَ الْفَرْضِ عَلَى التَّشَهُّدِ وَقَالَ لَهُ قُلْ ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، وَعَلَّقَ التَّمَامَ بِهِ فَلَا يَتِمُّ بِدُونِهِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { صَلُّوا عَلَيْهِ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، وَلَا وُجُوبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِيهَا .
وَلَنَا عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّةِ التَّشَهُّدِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَإِنَّهُ عَلَّقَ عَلَى التَّمَامِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ التَّمَامَ مُعَلَّقٌ بِالْقَعْدَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَمْ تُجْزِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي لِيَتَحَقَّقَ التَّخْيِيرُ ، فَإِنَّ مُوجِبَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِهِمَا ، وَكَذَلِكَ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا ، فَمَنْ عَلَّقَ بِثَالِثٍ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ .
وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ التَّقْدِيرُ : أَيْ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ التَّشَهُّدُ ، وَالْأَمْرُ صَدَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ فَلَا يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعُدَّهَا فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ .
فَإِنَّ الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ خَمْسُ كَلِمَاتٍ ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ قَوْلِهِ

عَلَّقَ التَّمَامَ بِهِ آنِفًا ، وَعَنْ الْآيَةِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ لَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِيهِ ، إمَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ، أَوْ كُلَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ ، فَكُفِينَا مُؤْنَةَ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ قَدْ حَصَلَ ، فَإِنَّهُ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهَا فِي الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَكَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
كَذَا نَقَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ { عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَرَفْنَا السَّلَامَ عَلَيْك ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْت وَبَارَكْت وَتَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } " وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : نَحْنُ أُمِرْنَا بِتَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَوْقِيرِهِمْ .
وَفِي قَوْلِهِ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا نَوْعُ ظَنٍّ بِالتَّقْصِيرِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَتَرَك ذَلِكَ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ وَرَدَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَا عَتْبَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْأَثَرَ ؛ وَلِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ

رَحْمَةِ اللَّهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْفَرْضُ الْمَرْوِيُّ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ .

قَالَ ( وَدَعَا بِمَا شَاءَ مِمَّا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ { ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَأَعْجَبَهُ إلَيْك } " وَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ ( وَلَا يَدْعُو بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ ) تَحَرُّزًا عَنْ الْفَسَادِ ، وَلِهَذَا يَأْتِي بِالْمَأْثُورِ الْمَحْفُوظِ ، وَمَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلَانَةَ يُشْبِهُ كَلَامَهُمْ وَمَا يَسْتَحِيلُ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ ، وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ هُوَ الصَّحِيحُ لِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ ، يُقَالُ رَزَقَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ

قَالَ ( وَدَعَا بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَاغْفِرْ لِأَبِي ، وَالْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ تَجُوزُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَلْفَاظٍ وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْقُرْآنِ ، وَالْمَأْثُورَةُ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ { أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي ، فَقَالَ : قُلْ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } " وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو بِكَلِمَاتٍ مِنْهُنَّ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَإِذَا كَانَ آخِرَ الصَّلَاةِ دَعَا لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) يَعْنِي حِينَ قَالَ لَهُ إذَا قُلْت هَذَا إلَخْ قَالَ لَهُ { ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ وَأَطْيَبَهُ إلَيْك } بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا وَرَدَ فِي السُّنَنِ .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ أَعْجَبَهَا وَأَطْيَبَهَا قَالُوا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَلَئِنْ صَحَّ بِالتَّأْنِيثِ فَعَلَى تَأْوِيلِ الدَّعَوَاتِ بِحُصُولِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الدُّعَاءِ بِدُخُولِ اللَّامِ ، وَقِيلَ عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَاتِ .
وَقَوْلُهُ : { لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ } وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يَحْسُنُ مِنْ الْكَرِيمِ أَنْ يَسْتَجِيبَ بَعْضَ

الدُّعَاءِ دُونَ بَعْضٍ آخَرَ فَيَسْتَجِيبُ الْجَمِيعَ ( وَلَا يَدْعُو بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ ) تَحَرُّزًا عَنْ إفْسَادِ الْجُزْءِ الْمُلَاقِي لِكَلَامِ النَّاسِ لَا جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ النَّاسِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَكَيْفَ مَا يُشْبِهُهُ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ صُنِعَ مِنْ الْمُصَلِّي فَتَتِمُّ بِهِ صَلَاتُهُ فَكَانَ بِالدُّعَاءِ الَّذِي يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ خَارِجًا عَنْ الصَّلَاةِ لَا مُفْسِدًا لَهَا ، ثُمَّ فَسَّرَ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ وَمَا لَا يُشْبِهُهُ فَقَالَ ( وَمَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلَانَةَ يُشْبِهُ كَلَامَهُمْ وَمَا يَسْتَحِيلُ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : بَيْنَ هَذَا التَّفْسِيرِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مُنَافَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَخِي يَنْبَغِي أَلَّا يَجُوزَ نَظَرًا لِلْأَوَّلِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ ، وَأَنْ يَجُوزَ بِهِ نَظَرًا إلَى الثَّانِي ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اخْتِيَارَ الْمُصَنِّفِ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ أَلْفَاظُ الدُّعَاءِ غَيْرَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَلَا يَمْتَنِعُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَخِي ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ النَّاسِ .
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ لَيْسَ إلَّا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) لِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ يُقَالُ رَزَقَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ .

( ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ) لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ } " ( وَيَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ) لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَلَا يَنْوِي النِّسَاءَ فِي زَمَانِنَا وَلَا مَنْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي صَلَاتِهِ ، هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْخِطَابَ حَظُّ الْحَاضِرِينَ ( وَلَا بُدَّ لِلْمُقْتَدِي مِنْ نِيَّةِ إمَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ نَوَاهُ فِيهِمْ ) وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ نَوَاهُ فِي الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْجِيحًا لِلْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَوَاهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ ذُو حَظٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ( وَالْمُنْفَرِدُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ لَا غَيْرُ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ سِوَاهُمْ ( وَالْإِمَامُ يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ ) هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَا يَنْوِي فِي الْمَلَائِكَةِ عَدَدًا مَحْصُورًا لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي عَدَدِهِمْ قَدْ اخْتَلَفَتْ فَأَشْبَهَ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، ثُمَّ إصَابَةُ لَفْظِ السَّلَامِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } " .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي الْفَرْضِيَّةَ وَالْوُجُوبَ ، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْوُجُوبَ بِمَا رَوَاهُ احْتِيَاطًا ، وَبِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ) التَّسْلِيمُ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ } " وَالْأَخْذُ بِقَوْلِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِمَّا قَالَ بِهِ مَالِكٌ إنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَرَوْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَعَائِشَةُ كَانَتْ فِي صَفِّ النِّسَاءِ ، وَسَهْلٌ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّبْيَانِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُسَلِّمُ الثَّانِيَةَ أَخَفَضَ مِنْ الْأُولَى ( وَيَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ ) وَهَذَا وَضْعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفِي وَضْعِ الْأَصْلِ قُدِّمَتْ الْحَفَظَةُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ بَنِي آدَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا عَكْسُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ ، وَإِنَّمَا يَنْوِي عِنْدَ التَّسْلِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إقَامَةُ سُنَّةٍ فَلْيَكُنْ بِالنِّيَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ السُّنَنِ ، وَهَكَذَا قَالُوا فِي التَّسْلِيمِ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَنْوِي السُّنَّةَ ( وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ ) أَيْ يَنْوِي فِيهَا مَا نَوَى فِي الْأُولَى ، وَقَالَ ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ أَبَيْتُمْ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَكَيْفَ اسْتَدَلَّ بِهِ هَاهُنَا ؟ فَالْجَوَابُ إنَّا أَبَيْنَا اشْتِرَاطَهَا فِيهِ لِاسْتِلْزَامِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ

وَهَاهُنَا مَا جَعَلْنَاهَا شَرْطًا ، وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ عَلَى سُنِّيَّةِ مَا لَا يُخَالِفُهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ حَتَّى يَسْتَلْزِمَ الزِّيَادَةَ .
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ : هَذَا شَيْءٌ تَرَكَهُ النَّاسُ ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَنْوِي أَحَدٌ شَيْئًا ( وَلَا يَنْوِي النِّسَاءُ فِي زَمَانِنَا ) يَعْنِي أَنَّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ نِيَّةِ النِّسَاءِ كَانَ فِي زَمَنِهِمْ ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَنْوِي النِّسَاءُ ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُنَّ الْجَمَاعَاتِ مَتْرُوكٌ بِإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِينَ ( وَلَا مَنْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي صَلَاتِهِ ) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْغُيَّبِ .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ .
قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ : إنَّهُ يَنْوِي جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ يُشَارِكُهُ وَمَنْ لَا يُشَارِكُهُ لِيَكُونَ عَلَى وَفْقِ سَلَامِ التَّشَهُّدِ : يَعْنِي قَوْلَهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ سَلَامَ التَّحْلِيلِ خِطَابٌ وَالْخِطَابُ حَظُّ الْحَاضِرِينَ ، بِخِلَافِ سَلَامِ التَّشَهُّدِ ؛ لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ عَامَّةٌ لِلْحُضُورِ وَالْغُيَّبِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قَالَ الْمُصَلِّي السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } " قَالَ ( وَلَا بُدَّ لِلْمُقْتَدِي مِنْ نِيَّةِ إمَامِهِ ) قِيلَ تَخْصِيصُ الْإِمَامِ بِالذِّكْرِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ يَنْوِي مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْإِمَامَ يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى لَا غَيْرُ ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ تَرْجِيحًا لِلْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ، وَالْأَصَحُّ الْجَمْعُ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ عِنْدَ التَّعَارُضِ مُمْكِنٌ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ ، وَعَمَّا قِيلَ الْإِمَامُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنْوِيَ ؛ لِأَنَّهُ يَجْهَرُ بِالسَّلَامِ وَيُشِيرُ إلَيْهِمْ

وَهُوَ فَوْقُ النِّيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَنْوِيَ فِي الْمَلَائِكَةِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَفَظَةِ لَيْسَ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ فَقَطْ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ ذَلِكَ ، وَهْم اثْنَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهَا مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَا يَحْصُرُ فِي ذَلِكَ عَدَدًا مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي عَدَدِهِمْ قَدْ اخْتَلَفَتْ .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " مَعَ كُلِّ مُؤْمِنٍ خَمْسَةٌ مِنْ الْحَفَظَةِ : وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ ، وَآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ ، وَآخَرُ أَمَامَهُ يُلَقِّنُهُ الْخَيْرَاتِ ، وَآخَرُ وَرَاءَهُ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَكَارِهَ ، وَآخَرُ عِنْدَ نَاصِيَتِهِ يَكْتُبُ مَا يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُ إلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " .
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : مَعَ كُلِّ مُؤْمِنٍ سِتُّونَ مَلَكًا ، وَفِي بَعْضِهَا مِائَةٌ وَسِتُّونَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْوِيهِمْ بِدُونِ حَصْرٍ فِي عَدَدٍ فَأَشْبَهَ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ نُؤْمِنُ بِكُلِّهِمْ وَلَا نَحْصُرُهُمْ فِي عَدَدٍ لِئَلَّا يُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ وَلَا يُدْخِلَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } " ) وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَيْسَ لِلْعَهْدِ لِعَدَمِ مَعْهُودٍ فَكَانَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فَقَدْ جَعَلَ جِنْسَ التَّحَلُّلِ فِي الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ ، فَمَنْ أَثْبَتَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ كَالتَّحْرِيمَةِ .
( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ { ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ : إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ

صَلَاتُك ، فَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ } .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ وَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ ، وَهَذَا يُنَافِي فَرْضِيَّةَ أَمْرٍ آخَرَ وَوُجُوبَهُ ، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْوُجُوبَ بِمَا رَوَاهُ احْتِيَاطًا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ ، وَبِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ

قَالَ ( وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إنْ كَانَ إمَامًا ) وَيَخْفِي فِي الْأُخْرَيَيْنِ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ الْمُتَوَارَثُ ( وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ ) لِأَنَّهُ إمَامٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ( وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ خَلْفَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْجَهْرُ لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ

( فَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَبَيَانِ أَرْكَانِهَا وَفَرَائِضِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِزِيَادَةِ أَحْكَامٍ تَعَلَّقَتْ بِهَا دُونَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ ، وَابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ دُونَ ذِكْرِ الْقَدْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَكْسُ مُتَعَيِّنًا ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ ، وَالْجَهْرَ وَالْإِخْفَاءَ رَاجِعٌ إلَى الصِّفَةِ وَالذَّاتِ قَبْلَ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ الْكَامِلِ وَالْقَدْرُ يَعُمُّهُ وَالْقَاصِرُ أَيْضًا ، فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ صِفَةٍ تَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ الْكَامِلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ الصَّلَاةِ أَوْلَى ( ثُمَّ الْمُصَلِّي إنْ كَانَ إمَامًا يَجْهَرُ فِي الْفَجْرِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ) وَيُخْفَى فِي الْأُخْرَيَيْنِ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ الْمُتَوَارَثُ ) أَيْ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، ثُمَّ الْجَهْرُ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُقْرَأُ فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعْنَاكُمْ ، وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا أَخْفَيْنَا عَلَيْكُمْ .
وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يَجْهَرُ وَعَلَى الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافِتُ .
وَبِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ فَإِنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ إظْهَارُهُمَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ وَلِهَذَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا لَغَوْا عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَغَلَّطُوهُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَرَكَ

الْجَهْرَ فِيهِمَا بِهَذَا الْعُذْرِ } وَالْعُذْرُ وَإِنْ زَالَ بِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ بَقِيَتْ الْمُخَافَتَةُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ .
وَأَمَّا { فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَالْكُفَّارُ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ وَنِيَامًا فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ } عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ ( وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ إمَامٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ( وَإِنْ شَاءَ خَافَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ فَلَمَّا تَجَاذَبَ مُوجِبُ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ دَفْعًا لِمَا يُقَالُ فَائِدَةُ الْجَهْرِ الْإِسْمَاعُ وَلَا إسْمَاعَ هَاهُنَا إذْ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ يَسْمَعُهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَائِدَةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي إسْمَاعِ الْغَيْرِ بَلْ مِنْ فَائِدَتِهِ إسْمَاعُ نَفْسِهِ فَيَجْهَرُ لِذَلِكَ ، أَوْ بَيَانٌ لِلْحَكَمِ وَهُوَ أَلَّا يَجْهَرَ هَاهُنَا كُلَّ الْجَهْرِ إذْ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ يَسْمَعُهُ بَلْ يَأْتِي بِأَدْنَى الْجَهْرِ ، فَكَانَ مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ جَهَرَ ، وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ .

( وَيُخْفِيهَا الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِنْ كَانَ بِعَرَفَةَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ } " أَيْ لَيْسَتْ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ ، وَفِي عَرَفَةَ خِلَافُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ( وَيُخْفِي الْإِمَامُ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِنْ كَانَ بِعَرَفَةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ } " أَيْ لَيْسَتْ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ ) إنَّمَا فَسَّرَهُ بِهَذَا احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرِهِ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا قِرَاءَةَ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ } " أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَفْسِيرِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " بِمَ عَرَفْتُمْ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ؟ قَالَ : بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ " .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ أَحْيَانًا } " .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجْهَرُ الْإِمَامُ فِيهِمَا فِي عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هُنَاكَ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيُجْهَرُ فِيهَا كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ ) وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدِيثٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْغَرِيبَيْنِ وَالْفَائِقِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ .
وَلَئِنْ سُلِّمَ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ خَصَّ مِنْهُ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْجُمُعَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَصْحَابَنَا مَلَئُوا كُتُبَهُمْ بِهِ ، وَنَقَلُوا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُفَسِّرُهُ بِعَدَمِ الْقِرَاءَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ، وَلَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ إسْنَادُهُ لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ .

( وَيَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ) لِوُرُودِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ بِالْجَهْرِ ، وَفِي التَّطَوُّعِ بِالنَّهَارِ يُخَافِتُ وَفِي اللَّيْلِ يَتَخَيَّرُ اعْتِبَارًا بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُكَمِّلٌ لَهُ فَيَكُونُ تَبَعًاوَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ لَيْسَتْ بِمَخْصُوصَةٍ ؛ لِأَنَّ { الْجُمُعَةَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا } فَكَانَ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا ، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا فِي الْأَعْيَادِ وَمِنْهُ عُرِفَ حُكْمُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
( وَالنَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ ) أَيْ الشَّائِعُ الْمُنْتَشِرُ مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَ { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } } " وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ حَتَّى تُسْمَعَ قِرَاءَتُهُ ( وَفِي التَّطَوُّعِ بِالنَّهَارِ يُخَافِتُ وَفِي اللَّيْلِ يَتَخَيَّرُ اعْتِبَارًا بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ كَذَلِكَ .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي تَهَجُّدِهِ يُؤْنِسُ الْيَقْظَانَ وَلَا يُوقِظُ الْوَسْنَانَ } .
وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ .

( مَنْ فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إنْ أَمَّ فِيهَا جَهَرَ ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَضَى الْفَجْرَ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بِجَمَاعَةٍ ( وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ خَافَتَ حَتْمًا وَلَا يَتَخَيَّرُ هُوَ الصَّحِيحُ ) لِأَنَّ الْجَهْرَ يَخْتَصُّ إمَّا بِالْجَمَاعَةِ حَتْمًا أَوْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا

وَلَيْسَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلُهُ : ( وَمَنْ فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ ، إلَى قَوْلِهِ : مَنْ قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ ) وَالصَّوَابُ ذِكْرُهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْمُصَنِّفُ الْتَزَمَ ذِكْرَ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ خَافَتْ حَتْمًا هُوَ الصَّحِيحُ ) مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ وَالتُّمُرْتَاشِيُّ وَالْمَحْبُوبِيُّ فِي شُرُوحِهِمْ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْجَهْرُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْأَدَاءِ ، وَفِي الدَّاءِ الْمُنْفَرِدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ كَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجَهْرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا ، وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الْجِمَاعُ وَالْفَرْضُ هَاهُنَا عَدَمُهُ ، وَسَبَبُ الثَّانِي الْوَقْتُ وَالْفَرْضُ عَدَمُهُ فَتَعَيَّنَ الْإِخْفَاءُ ، وَمُنِعَ بِأَنَّ السَّبَبَ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِي ذَلِكَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَةُ الْقَضَاءِ الْأَدَاءَ سَبَبًا لِلْجَوَازِ أَيْضًا فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ سَبَبَيْ الْجَهْرِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ انْتَفَى كُلُّ مِنْهُمَا فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ ، وَأَمَّا مُوَافَقَةُ الْقَضَاءِ الْأَدَاءَ فَلَيْسَ عَلَى سَبَبِيَّتِهَا إجْمَاعٌ وَلَا نَصٌّ يَدُلُّ عَلَيْهَا فَجَعْلُهَا سَبَبًا يَكُونُ إثْبَاتَ سَبَبٍ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً ، وَهُوَ يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَلَعَلَّ هَذَا حَمْلُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ حَتْمًا هُوَ الصَّحِيحُ ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ هُوَ الصَّحِيحُ دِرَايَةً لَا رِوَايَةً ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْجَوَازِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .

( وَمَنْ قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي الْأُولَيَيْنِ السُّورَةَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُعِدْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَجَهَرَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُقْضَى إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَلَهُمَا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شُرِعَتْ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا السُّورَةُ ، فَلَوْ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ تَتَرَتَّبُ الْفَاتِحَةُ عَلَى السُّورَةِ ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَوْضُوعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ السُّورَةَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ قَضَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَفِي الْأَصْلِ بِلَفْظَةِ الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فَغَيْرُ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاتِحَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ مُرَاعَاةُ مَوْضُوعِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( وَيَجْهَرُ بِهِمَا ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ شَنِيعٌ ، وَتَغْيِيرُ النَّفْلِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ أَوْلَى ، ثُمَّ الْمُخَافَتَةُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَالْجَهْرُ أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ ، وَهَذَا عِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ لَا يُسَمَّى قِرَاءَةً بِدُونِ الصَّوْتِ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : أَدْنَى الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ ، وَأَدْنَى الْمُخَافَتَةِ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ دُونَ الصِّمَاخِ .
وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّطْقِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

( وَمَنْ قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي الْأُولَيَيْنِ السُّورَةَ وَلَمْ يَقْرَأْ الْفَاتِحَةَ لَمْ يُعِدْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَجَهَرَ ) يَعْنِي بِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا نَذْكُرُهُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَقْضِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ ، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَ إحْدَاهُمَا سَاهِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ سَجْدَةُ السَّهْوِ وَقَضَاهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي أَوْ لَمْ يَقْضِ ، وَالْوَاجِبُ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُقْضَى إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَا لَهُ مَشْرُوعًا لِيُصْرَفَ إلَى مَا عَلَيْهِ ، وَالسُّورَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ( وَلَهُمَا ) وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ ( أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شُرِعَتْ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا السُّورَةُ ، فَلَوْ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ تَتَرَتَّبُ الْفَاتِحَةُ عَلَى السُّورَةِ ) إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ ثُمَّ يَقْضِي الْفَاتِحَةَ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، وَاَلَّذِي وَقَعَ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ الَّذِي وَقَعَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ الْفَاتِحَةُ بَعْدَ السُّورَةِ ( وَهُوَ خِلَافُ الْمَوْضُوعِ ) وَنُوقِضَ بِتَرَتُّبِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي فِي الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَى السُّورَةِ الَّتِي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يُرَتِّبُ الْفَاتِحَةَ عَلَى السُّورَةِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لَا مَحَالَةَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ .
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى وَجْهِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْفَاتِحَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي تَجْعَلُهَا كَالْوَاقِعَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَلْنُقَدِّرْ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَ السُّورَةِ حُكْمًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّهَا فَتَكُونُ السُّورَةُ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الْفَاتِحَةِ دُونَ الْعَكْسِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَقْدِيرَهَا

كَالْوَاقِعَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لِضَرُورَةِ تَدَارُكِ الْفَارِطِ إنْ أَمْكَنَ ، وَلَيْسَ بِمُمْكِنٍ لِاسْتِلْزَامِهِ تَغَيُّرَ الْمَحْسُوسِ ، وَالضَّرُورِيُّ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ تَغَيُّرُ الْمَحْسُوسِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ السُّورَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ قَضَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ) وَهُوَ تَرَتُّبُ السُّورَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السُّورَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنَّ السُّورَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مَشْرُوعَةٌ نَفْلًا ، وَلِهَذَا لَوْ قَرَأَ فِيهِمَا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا ) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : قَرَأَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بَلْ آكَدُ ، وَفِي الْأَصْلِ بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : إذَا تَرَكَ السُّورَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهَا .
أَمَّا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ فَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ( ؛ لِأَنَّهَا ) أَيْ السُّورَةَ ( إنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً عَنْ الْفَاتِحَةِ فَغَيْرُ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاتِحَةِ الْأُولَى ) لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بِالْفَاتِحَةِ الثَّانِيَةِ ( فَلَمْ يُمْكِنْ مُرَاعَاةُ مَوْضُوعِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّقَّ الْآخَرَ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفَاتِحَةِ لِبُعْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى غَيْرِ مَشْرُوعٍ آخَرَ وَهُوَ تَقْدِيمُ السُّورَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ .
وَقَوْلُهُ : ( وَيَجْهَرُ بِهِمَا هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالسُّورَةِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَاتِحَةِ مُؤَدٍّ فَيُرَاعَى صِفَةُ أَدَائِهَا ، وَفِي السُّورَةِ قَاضٍ فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا كَانَ يَجْهَرُ فِي الْأَدَاءِ ، وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ

وَاحِدَةٍ تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَلْتَحِقُ بِمَحَلِّ الْأَدَاءِ .
وَعَمَّا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجْهَرُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ لِمَا قُلْنَا ، فَلَوْ جَهَرَ بِالسُّورَةِ كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ صُورَةً وَحَقِيقَةً ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ شَنِيعٌ ، فَإِمَّا أَنْ يُخْفِيَهُمَا كَمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَفِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ صِفَةِ الْوَاجِبِ وَهُوَ السُّورَةُ لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ صِفَةِ سُنَّةٍ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَقْوَى لِلْأَدْنَى ، وَإِمَّا أَنْ يَجْهَرَ بِهِمَا وَفِيهِ تَغْيِيرُ صِفَةِ النَّفْلِ لِأَجْلِ صِفَةِ الْوَاجِبِ فَهُوَ أَوْلَى .
قَالَ ( ثُمَّ الْمُخَافَتَةُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ ) اعْلَمْ أَنَّ أَجْزَاءَ الْكَلِمَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عَلَى اللِّسَانِ عَلَى نَوْعَيْنِ : كَلَامٌ ، وَقِرَاءَةٌ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ إفَادَةُ النِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ أَوْ لَا : فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْكَلَامُ ، وَإِلَّا فَهُوَ الْقِرَاءَةُ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ : جَهْرٍ ، وَمُخَافَتَةٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا ، فَذَهَبَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إلَى أَنَّ الْمُخَافَتَةَ هُوَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ مَجْمَجَةٌ وَدَنْدَنَةٌ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَلَا قِرَاءَةٍ ( وَالْجَهْرُ هُوَ أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ ) فَهُوَ كَمَا تَرَى جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوْعَيْهِ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَسْمُوعَةِ وَقَالَ ( ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِدُونِ الصَّوْتِ لَا تُسَمَّى قِرَاءَةً ) يَعْنِي لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى الْمُصَلِّي الْأُطْرُوشَ مِنْ بَعِيدٍ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ يُخْبِرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ .
( وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : أَدْنَى الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَأَدْنَى الْمُخَافَتَةِ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ ) وَقَالَ (

لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ دُونَ الصِّمَاخِ ) فَإِنَّ الْأُطْرُوشَ يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْمَعُ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى جَعَلَ الْمُخَافَتَةَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُبْصَرَةِ وَالْجَهْرَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَسْمُوعَةِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ يُوجَدُ بِهَا تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ وَلَا تُسَمَّى قِرَاءَةٌ لِعَدَمِ الصَّوْتِ وَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ مُطْلَقًا قِرَاءَةً بَلْ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ بِاللِّسَانِ قِرَاءَةٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ ) قِيلَ يَعْنِي فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَإِنْ شَاءَ خَافَتْ ، وَقِيلَ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ هَذَا الْكَلَامَ نُصْرَةً لِأَبِي جَعْفَرٍ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَقَرَأَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ ، وَبِقَوْلِهِ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ الْمُنْفَرِدُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَسْمَعَ نَفْسَهُ لَا غَيْرُ وَإِنْ شَاءَ أَسْمَعَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَأْوِيلٌ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَحْتَمِلُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّطْقِ ) يَعْنِي إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرٌّ وَلَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ خِلَافًا لِلْهِنْدُوَانِيِّ ، وَكَذَا إذَا جَهَرَ بِهِمَا وَخَافَتْ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ الشَّرْطِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ لَمْ يَقَعَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَصْلًا وَتَأَخَّرَا إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ ، وَعِنْدَ الْهِنْدُوَانِيِّ يَقَعَانِ فِي الْحَالِ ، وَعَلَى هَذَا التَّسْمِيَةُ عَلَى

الذَّبِيحَةِ وَوُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ .

( وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ آيَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَارِئًا بِدُونِهِ فَأَشْبَة قِرَاءَةَ مَا دُونَ الْآيَةِ .
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ خَارِجٌ وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ

قَالَ ( وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ) الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَضَرِ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ ، وَقِسْمٌ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ ، وَقِسْمٌ يَدْخُلُ بِهِ فِي حَدِّ الِاسْتِحْبَابِ .
وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّفَرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي فِي عَجَلَةٍ مِنْ السَّيْرِ أَوْ أَمَنَةٍ وَقَرَارٍ ، وَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا خَلَا أَنَّ لِلْعَجَلَةِ تَأْثِيرًا فِي التَّخْفِيفِ ( وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آيَةٌ ) وَاحِدَةٌ إنْ كَانَتْ كَلِمَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَبِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمَشَايِخِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً كَمُدْهَامَّتَانِ أَوْ حَرْفًا وَاحِدًا كص و ن و ق ، فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ ( وَقَالَا ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ ) كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَةِ ( لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى قَارِئًا بِدُونِهِ ) أَيْ بِدُونِ الْمَذْكُورِ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ ( فَأَشْبَهَ ) قِرَاءَتَهُ ( قِرَاءَةَ مَا دُونَ الْآيَةِ ) وَقِرَاءَةُ مَا دُونَ الْآيَةِ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ فَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْآيَةِ ، وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمَا أَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ وَإِنْ كَانَتْ قُرْآنًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يَنْطَلِقُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ فَيُصَارُ إلَيْهِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ) بَيْنَ آيَةٍ فَمَا فَوْقَهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْآنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فَتَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { مِنْ الْقُرْآنِ } وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ خَارِجٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } مُطْلَقَهُ

مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لَجَازَ بِمَا دُونَ الْآيَةِ كَمَا جَازَ بِالْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَتَنَاوَلُهُمَا تَنَاوُلًا وَاحِدًا ، وَلَكِنْ لَمْ يَجُزْ بِمَا دُونَ الْآيَةِ فَكَذَلِكَ بِالْآيَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِطْلَاقِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالْكَامِلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ قُرْآنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ قُرْآنًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ حُكْمًا حَيْثُ جَازَ قِرَاءَتُهُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ فَلَا يَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ : خَارِجٌ ، بِمَعْنَى لَمْ يَدْخُلْ ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَزَ الْكَلَامِ مُبْرَزَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ لَا الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِخْرَاجِ بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلَهُ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ قَرَّرْنَاهَا فِي التَّقْرِيرِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ ) أَيْ فِي مَعْنَى مَا دُونَ الْآيَةِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِدَفْعِ مَنْ عَسَى أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ فَتَلْحَقُ الْآيَةُ بِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْآيَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ .

( وَفِي السَّفَرِ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ) وَأَيِّ سُورَةٍ شَاءَ لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي سَفَرِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ } " وَلِأَنَّ السَّفَرَ أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى ، وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى عَجَلَةٍ مِنْ السَّيْرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمَنَةٍ وَقَرَارٍ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ نَحْوَ سُورَةِ الْبُرُوجِ وَانْشَقَّتْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مُرَاعَاةُ السُّنَّةِ مَعَ التَّخْفِيفِقَوْلُهُ : ( وَفِي السَّفَرِ ) إنَّمَا قَدَّمَ الْكَلَامَ فِي السَّفَرِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْعَوَارِضِ ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِالتَّأْخِيرِ ، إمَّا ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ فَكَانَ أَنْسَبَ لِذِكْرِ قِرَاءَةِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ شُعَبَ بَحْثِ الْحَضَرِ كَثِيرَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ بَحْثِ السَّفَرِ لِيَدْخُلَ فِي بَحْثِ الْحَضَرِ عَلَى فَرَاغٍ ، وَكَلَامُ فِي السَّفَرِ ظَاهِرٌ .
وَالْأَمَنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ : هُوَ الْأَمْنُ .
وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ التَّخْفِيفِ أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَخُفِّفَ فِي الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي حَالِ الْأَمْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَمَنَةٍ وَقَرَارٍ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي طَرَفِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْوَاثِ فِي بَابِ الْأَنْجَاسِ حَيْثُ اسْتَدَلَّ هَاهُنَا بِوُجُودِ التَّخْفِيفِ مَرَّةً عَلَى التَّخْفِيفِ ثَانِيًا وَأَبَى ذَلِكَ هُنَاكَ .
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِتَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ عَمَلٌ بِالدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَصْلِ كَانَ ظُهُورُ تَأْثِيرِهِ فِي الْوَصْفِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِلْأَصْلِ ، بِخِلَافِ الْأَرْوَاثِ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ عَمِلَتْ فِي صِفَةِ التَّخْفِيفِ مَرَّةٌ فَكَفَتْ مُؤْنَتُهَا بِهَا فَلَا تَعْمَلُ ثَانِيَةً .

( وَيَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِينَ آيَةً أَوْ خَمْسِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ ) وَيُرْوَى مِنْ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ وَمِنْ سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ .
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِالرَّاغِبِينَ مِائَةً وَبِالْكَسَالَى أَرْبَعِينَ وَبِالْأَوْسَاطِ مَا بَيْنَ خَمْسِينَ إلَى سِتِّينَ ، وَقِيلَ يَنْظُرُ إلَى طُولِ اللَّيَالِي وَقِصَرِهَا وَإِلَى كَثْرَةِ الْأَشْغَالِ وَقِلَّتِهَا .
قَالَ ( وَفِي الظُّهْرِ مِثْلَ ذَلِكَ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَعَةِ الْوَقْتِ ، وَقَالَ فِي الْأَصْلِ أَوْ دُونَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاشْتِغَالِ فَيَنْقُصُ عَنْهُ تَحَرُّزًا عَنْ الْمَلَالِ ( وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ سَوَاءٌ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ ، وَفِي الْمَغْرِبِ دُونَ ذَلِكَ يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْعَجَلَةِ وَالتَّخْفِيفُ أَلْيَقُ بِهَا .
وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ يُسْتَحَبُّ فِيهِمَا التَّأْخِيرُ ، وَقَدْ يَقَعَانِ بِالتَّطْوِيلِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُسْتَحَبٍّ فَيُوَقِّتُ فِيهِمَا بِالْأَوْسَاطِ

( وَيَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِينَ آيَةً أَوْ خَمْسِينَ سِوَى الْفَاتِحَةِ ) وَيُرْوَى مِنْ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ ، وَيُرْوَى مِنْ سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَتْ الْآثَارُ .
قَالَ { مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : تَلَقَّنْت سُورَةَ ق وَاقْتَرَبَتْ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ } " وَقِ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً ، وَاقْتَرَبَتْ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ أَوْ سِتٌّ وَخَمْسُونَ آيَةً .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ، وَالْأُولَى ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَةُ إحْدَى وَثَلَاثُونَ } " فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ مَقَادِيرُ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ فِيهَا ، وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ أَيُّهَا كَانَتْ إنَّمَا تَكُونُ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى تَكُونَ عَلَى رِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرُونَ .
قَوْلُهُ : ( وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ ) يَعْنِي بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِي الظُّهْرِ مِثْلُ ذَلِكَ ) أَيْ مِثْلُ مَا قَرَأَ فِي الْفَجْرِ ( لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَعَةِ الْوَقْتِ ) وَرُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ الم السَّجْدَةَ } " .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : " { سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهْرِ فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ } " ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ { الم تَنْزِيلُ } السَّجْدَةَ وَفِي الثَّانِيَةِ { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ فِي الظُّهْرِ مَا قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ( وَقَالَ فِي الْأَصْلِ أَوْ دُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاشْتِغَالِ فَيَنْقُصُ عَنْهُ تَحَرُّزًا عَنْ الْمَلَالِ ) وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً وَهُوَ نَحْوُ سُورَةِ الْمُلْكِ } " .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ سَوَاءٌ ) يَعْنِي فِي سَعَةِ الْوَقْتِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ ( يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ ) لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } " وَلِحَدِيثِ { مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ قَوْمَهُ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْوِيلَ قِرَاءَتِهِ فِي الْعِشَاءِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } " ( وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ) لِمَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَطِوَالِ الْمُفَصَّلِ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إلَى سُورَةِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالْأَوْسَاطِ مِنْهَا إلَى لَمْ يَكُنْ ، وَالْقِصَارِ مِنْهَا إلَى الْآخِرِ } " وَقِيلَ طِوَالُهُ مِنْ الْحُجُرَاتِ إلَى عَبَسَ ، وَأَوْسَاطُهُ مِنْ كُوِّرَتْ إلَى وَالضُّحَى ، وَالْقِصَارُ مِنْهُ إلَى الْآخِرِ .

( وَيُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ عَلَى الثَّانِيَةِ ) إعَانَةً لِلنَّاسِ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ .
قَالَ ( وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ سَوَاءٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُطِيلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا } " وَلَهُمَا أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمِقْدَارِ ، بِخِلَافِ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِطَالَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّنَاءُ وَالتَّعَوُّذُ وَالتَّسْمِيَةُ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ

وَقَوْلُهُ : ( وَيُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ ) بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَفِيهِ إعَانَةٌ لِلنَّاسِ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُطِيلُ فِي غَيْرِهَا عِنْدَهُمَا .
( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُطِيلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ؛ لِمَا رَوَى ) أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا } " .
وَلَهُمَا أَنَّ رَكْعَتَيْ الصَّلَاةِ اسْتَوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ ) لِكَوْنِهَا رُكْنًا فِي الْجَمِيعِ ، وَكُلُّ مَا كَانَا كَذَلِكَ يَسْتَوِيَانِ فِي الْمِقْدَارِ إلَّا بِعَارِضٍ غَيْرِ اخْتِيَارِيٍّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحُدُوثِ مُتَّحِدٌ وَسَبَبُ التَّفَاوُتِ غَيْرُ مَوْجُودٍ .
وَقُلْنَا بِعَارِضٍ غَيْرِ اخْتِيَارِيٍّ لِيُخْرِجَ صَلَاةَ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّ تَطْوِيلَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَلِئَلَّا يَرُدَّ مَا يُقَالُ فِي جَانِبِ مُحَمَّدٍ : إنَّ مَعْنَى تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، إلَّا أَنَّ الْغَفْلَةَ فِي الْفَجْرِ بِسَبَبِ النَّوْمِ وَفِي غَيْرِهِ بِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْكَسْبِ ؛ لِأَنَّ غَفْلَتَهُمْ تِلْكَ بِاخْتِيَارِهِمْ ، بِخِلَافِ النَّوْمِ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّطْوِيلِ بِالْآيَاتِ إنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً أَوْ مُتَقَارِبَةً مِنْ حَيْثُ الْكَلِمَاتُ وَالْحُرُوفُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ فَالْمُعْتَبَرُ بِالْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ فِي مِقْدَارِ زِيَادَةِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَانِ فِي الْأُولَى وَالثُّلُثُ فِي الثَّانِيَةِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِثَلَاثِينَ آيَةً وَفِي الثَّانِيَةِ بِعَشْرِ آيَاتٍ أَوْ عِشْرِينَ ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ .
وَأَمَّا بَيَانُ الْحُكْمِ فَالْجَوَازُ وَإِنْ كَانَ

التَّفَاوُتُ فَاحِشًا بِأَنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِأَرْبَعِينَ وَفِي الثَّانِيَةِ بِثَلَاثِ آيَاتٍ .
وَأَمَّا إطَالَةُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى فَمَكْرُوهٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالثَّانِيَةُ أَطْوَلُ بِآيَةٍ } ، وَلَمَّا قَالَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَهَذَا فِي الْفَرَائِضِ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ زِيَادَةَ إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مَكْرُوهَةٌ ، وَقِيلَ لَيْسَتْ بِمَكْرُوهَةٍ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّوَافِلِ أَسْهَلُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا جَازَتْ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ .

( وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بِعَيْنِهَا ) بِحَيْثُ لَا تَجُوزُ بِغَيْرِهَا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُوَقِّتَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ الْبَاقِي وَإِيهَامِ التَّفْضِيلِ

وَقَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بِعَيْنِهَا ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا يَتَرَاءَى أَنَّهُمَا فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مُتَغَايِرَانِ وَضْعًا وَبَيَانًا .
أَمَّا الْوَضْعُ فَلِأَنَّ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْقُدُورِيِّ ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَدْ الْتَزَمَ الْإِتْيَانَ بِهِمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَتَانِ .
وَأَمَّا الْبَيَانُ فَلِأَنَّ مَعْنَى الْأُولَى لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ مُطْلَقًا تَعْيِينُ قِرَاءَةِ سُورَةٍ بِعَيْنِهَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِهَا ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ عَيَّنَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا ، وَقَالَ : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ .
قُلْنَا إنَّهُ بَاطِلٌ ( لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا ) مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } لَا يُقَالُ : فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَا تَتَعَيَّنُ رُكْنًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ مِنْ لَفْظِ الْهِدَايَةِ ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ يُكْرَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ مِثْلَ الم السَّجْدَةَ وَ { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ كَالْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا ، وَهُوَ أَيْضًا احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَؤُهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ } فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا ، وَقُلْنَا إنَّ فِي ذَلِكَ هَجْرَ الْبَاقِي وَإِيهَامَ التَّفْضِيلِ بِلَا دَلِيلٍ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } شَكَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا إلَى رَبِّهِ بِاِتِّخَاذِهِمْ

الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَهُوَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لَوْلَا رِوَايَةُ الْجَوَازِ بِغَيْرِهَا فَمَعَهَا يَكُونُ مَكْرُوهًا .
لَا يُقَالُ : لَيْسَ فِي ذَلِكَ هَجْرٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْضِيلٌ بِدَلِيلٍ ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ ق } " وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ بِتَبُوكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ الْفَاتِحَةَ ، وَإِذَا زُلْزِلَتْ } " فَعُلِمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ ، فَفِي اسْتِحْبَابِ الْمُوَاظَبَةِ مُخَالَفَةٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَمْلٌ لِصَلَاتِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحَبِّ ، وَلَا كَرَاهَةَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ .
نِعْمَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا كَمَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِهِ لِتَبَرُّكِهِ بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( وَلَا يَقْرَأُ الْمُؤْتَمُّ خَلْفَ الْإِمَامِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَاتِحَةِ .
لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ الْأَرْكَانِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } " وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ رُكْنٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، لَكِنَّ حَظَّ الْمُقْتَدِي الْإِنْصَاتُ وَالِاسْتِمَاعُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا } " وَيُسْتَحْسَنُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ ( وَيَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ وَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ آيَةَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ) لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ فَرْضٌ بِالنَّصِّ ، وَالْقِرَاءَةُ وَسُؤَالُ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذُ مِنْ النَّارِ كُلُّ ذَلِكَ مُخِلٌّ بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ ، ( وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) لِفَرْضِيَّةِ الِاسْتِمَاعِ إلَّا أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } الْآيَةَ ، فَيُصَلِّي السَّامِعُ فِي نَفْسِهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِي عَنْ الْمِنْبَرِ ، وَالْأَحْوَطُ هُوَ السُّكُوتُ إقَامَةً لِفَرْضِ الْإِنْصَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَلَا يَقْرَأُ الْمُؤْتَمُّ خَلْفَ الْإِمَامِ ) سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَفِي الرَّكَعَاتِ الَّتِي لَا جَهْرَ فِيهَا ، وَكَذَا فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ : قَالَ أَصْحَابُهُ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ الْمُقْتَدِي الْفَاتِحَةَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ الْأَرْكَانِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } " حَدَّثَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُوسَى ابْنِ عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
لَا يُقَالُ : هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ } " فَيَسْلَمُ اسْتِدْلَالُهُ بِالْقِيَاسِ سَالِمًا .
؛ لِأَنَّا نَقُولُ .
بِالْمُوجِبِ : أَيْ سَلَّمْنَا أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ أَوْ لَا ، وَحَدِيثُهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ، وَحَدِيثُنَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فَعَمِلْنَا بِهِ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ) قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إجْمَاعُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ثَمَانِينَ نَفَرًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَة مَنْعَ الْمُقْتَدِي عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : أَدْرَكْت سَبْعِينَ بَدْرِيًّا كُلُّهُمْ يَمْنَعُونَ الْمُقْتَدِي عَنْ

الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ لَيْسَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ ، وَأَيْضًا الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ كَخِلَافِ الْأَكْثَرِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ إجْمَاعُ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ وَكِبَارِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ أَشَدَّ النَّهْيِ : أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُ الْمُخَالِفِ ثَابِتًا فَيَتِمُّ الْإِجْمَاعُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَوْ ثَبَتَ نَهْيُ الْعَشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ رَدُّ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ كَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا .
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ رُكْنٌ مُشْتَرَكٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْقِرَاءَةُ رُكْنٌ .
وَتَقْرِيرُهُ : سَلَّمْنَا أَنَّهُ رُكْنٌ مُشْتَرَكٌ ( بَيْنَهُمَا ) لَكِنْ حَظُّ الْمُقْتَدِي ( مِنْهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْعَبَّاسِ " { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَءُوا خَلْفَهُ فَخَلَطُوا عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ فَنَزَلَتْ } " .
وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } " الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَيُسْتَحْسَنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ ) لِمَا رَوَى مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ( وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَفِي فِيهِ جَمْرَةٌ } وَقَالَ : وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ .
وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : لَيْتَ فِي فَمِ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ حَجَرًا وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مُرَادًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَيَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ وَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ آيَةَ التَّرْغِيبِ ) أَيْ إلَى الْجَنَّةِ ( وَالتَّرْهِيبِ ) أَيْ مِنْ النَّارِ ، وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، وَهَلْ يَسْأَلُ وَيَتَعَوَّذُ الْإِمَامُ أَوْ الْمُنْفَرِدُ أَوْ لَا ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ هَاهُنَا ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا فِي الْفَرْضِ وَلَا فِي النَّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَوْمِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَكَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ إذَا كَانَ فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَنْقُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّطَوُّعِ فَهُوَ حَسَنٌ لِحَدِيثِ { حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ } " ( وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْخَطِيبُ فِي الْخُطْبَةِ ) يَسْتَمِعُ الْقَوْمُ وَيُنْصِتُوا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا ، وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ } " وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُونَ وَيُنْصِتُونَ .
سَأَلَ أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا

اللَّهُ : إذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ هَلْ يَذْكُرُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَمِعُوا وَيُنْصِتُوا ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَذْكُرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي الْعِبَارَةِ وَاحْتَشَمَ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَا يَذْكُرُونَ لَا يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا كَانَ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ أَحَبَّ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَاسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِقَامَةِ مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى : يَعْنِي إذَا قَرَأَ الْخَطِيبُ ( قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } يُصَلِّي السَّامِعُ فِي نَفْسِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْخَطِيبَ حَكَى عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُصَلِّي وَعَنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ ، وَحَكَى أَمْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَدْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ فَكَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالصَّلَاةِ تَحْقِيقًا لِمَا طُلِبَ مِنْهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمِنْبَرِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ نَائِيًا عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْلَى أَمْ الْإِنْصَاتُ .
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ : الْإِنْصَاتُ أَوْلَى وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ ، وَقَدْ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْئَانِ : الِاسْتِمَاعُ ، وَالْإِنْصَاتُ ، فَإِذَا تَهَيَّأَ لَهُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا عَمِلَ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْلَى ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَضْلِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الِاسْتِمَاعِ لِلتَّدَبُّرِ ، وَحَيْثُ فَاتَ ذَلِكَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إحْرَازًا لِثَوَابِهِ .

( الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ }لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَفْعَالِ الْإِمَامِ مِنْ بَيَانِ وُجُوبِ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ وَمِنْ تَقْدِيرِ الْقِرَاءَةِ بِمَا هُوَ سُنَّةُ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَذَكَرَ أَفْعَالَ الْمُقْتَدِي مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ أَتْبَعَهُ ذِكْرَ صِفَةِ شَرْعِيَّةِ الْإِمَامَةِ بِأَنَّهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هِيَ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ فَذَكَرَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَمَا يَتْلُوهَا مِنْ خَوَاصِّ الْإِمَامَةِ فَقَالَ ( الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ) أَيْ قَوِيَّةٌ تُشْبِهُ الْوَاجِبَ فِي الْقُوَّةِ حَتَّى اسْتَدَلَّ بِمُعَاهَدَتِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوعَاتِ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ سُنَّةَ الْهُدَى : أَيْ أَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( " { الْجَمَاعَةُ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ } " ) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِ الْمُنَافِقُ الْمُصْطَلَحُ وَهُوَ الَّذِي يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَإِلَّا لَكَانَتْ الْجَمَاعَةُ فَرِيضَةً ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ وَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ، وَكَانَ آخِرُ الْكَلَامِ مُنَاقِضًا لِأَوَّلِهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْعَاصِيَ ، وَالْجَمَاعَةُ مِنْ خَصَائِصِ الدِّينِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ ، وَلَا صِحَّةَ لِقَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا فَرْضَ عَيْنٍ كَأَحْمَدَ وَبَعْضٍ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَيَقُولُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ ، وَلَا لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا فَرْضُ كِفَايَةٍ كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِآيَةٍ مُؤَوَّلَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أَوْ بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ .

( وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْرَؤُهُمْ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْعِلْمِ إذَا نَابَتْ نَائِبَةٌ ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْقِرَاءَةُ مُفْتَقَرٌ إلَيْهَا لِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَالْعِلْمُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ ( فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَقْرَؤُهُمْ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ } وَأَقْرَؤُهُمْ كَانَ أَعْلَمَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهُ بِأَحْكَامِهِ فَقُدِّمَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا فَقَدَّمْنَا الْأَعْلَمَ ( فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَوْرَعُهُمْ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالَمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ } فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَسَنُّهُمْ " لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنَيْ أَبِي مُلَيْكَةَ { وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا سِنًّا } وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ .

( قَوْلُهُ : وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ) أَيْ بِالْفِقْهِ وَالشَّرِيعَةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ) أَنَّ أُولَاهُمْ بِهَا ( أَقْرَؤُهُمْ ) لِكِتَابِ اللَّهِ : أَيْ أَعْلَمُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ حُرُوفِهَا وَوُقُوفِهَا ( ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ ) رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ ( لَا بُدَّ مِنْهَا وَالْحَاجَةُ إلَى الْعِلْمِ ) إنَّمَا تَكُونُ ( إذَا نَابَتْ نَائِبَةٌ ) أَيْ عَرَضَ عَارِضٌ مُفْسِدٌ لِيُمْكِنَهُ إصْلَاحُ صَلَاتِهِ وَقَدْ يَعْرِضُ وَقَدْ لَا يَعْرِضُ ( وَنَحْنُ نَقُولُ الْقِرَاءَةُ مُفْتَقَرٌ إلَيْهَا لِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَالْعِلْمُ ) مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ( لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ ) وَالْخَطَأُ الْمُفْسِدُ لِلصَّلَاةِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْمُصْلِحُ لَهَا كَذَلِكَ ( فَإِنْ تَسَاوَوْا ) يَعْنِي فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ ( فَأَقْرَؤُهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ } " ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { يَؤُمُّ الْقَوْمَ } " بِمَعْنَى الْأَمْرِ ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ الْوَاقِعُ فِي الْحَدِيثِ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ مَا وَقَعَ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَقْرَإِ ، أَوْ مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ لِلْأَفْضَلِيَّةِ دُونَ الْجَوَازِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعَى ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى تَقْدِيمُ الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَإِ لِكِتَابِ اللَّهِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بَلْ هُوَ صِيغَةُ إخْبَارٍ لِبَيَانِ الْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ بِالْإِجْمَاعِ ( وَ ) عَنْ

الثَّانِي بِأَنَّ ( أَقْرَأَهُمْ كَانَ أَعْلَمَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهُ بِأَحْكَامٍ ) عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَفِظَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ( فَقُدِّمَ فِي الْحَدِيثِ وَلَا كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا ) لَا يُقَالُ : هَذَا يُفْضِي إلَى التَّكْرَارِ إذْ يَئُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ إلَى يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَعْلَمُهُمْ ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَقْرَؤُهُمْ : أَيْ أَعْلَمُهُمْ بِأَحْكَامِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ السُّنَّةِ .
وَقَوْلُهُ : أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ : أَيْ أَعْلَمُهُمْ بِأَحْكَامِ كِتَابِ اللَّهِ وَالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ كِتَابِ اللَّهِ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ هُوَ أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالسُّنَّةِ ، فَكَانَ الْأَعْلَمُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَعْلَمِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ : فَإِنْ تَسَاوَوْا : فَأَوْرَعُهُمْ ) لَيْسَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ فِي تَرْتِيبِ الْإِمَامَةِ إنَّمَا فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَعْلَمِ ذِكْرُ أَقْدَمِهِمْ هِجْرَةً لَكِنَّ أَصْحَابَنَا جَعَلُوا مَكَانَ الْهِجْرَةِ الْوَرَعَ وَالصَّلَاحَ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً فِي زَمَانِهِمْ ، فَجَعَلُوا الْهِجْرَةَ عَنْ الْمَعَاصِي مَكَانَ تِلْكَ الْهِجْرَةِ ، وَالْوَرَعُ : الِاجْتِنَابُ عَنْ الشُّبُهَاتِ ، وَالتَّقْوَى : الِاجْتِنَابُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَسَنُّهُمْ ) ظَاهِرٌ ، وَلَمْ يَذْكُر وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي السِّنِّ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا ثُمَّ أَصْبَحَهُمْ وَجْهًا ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي التَّقْدِيمِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ قِرَاءَةً وَعِلْمًا وَصَلَاحًا وَنَسَبًا وَخُلُقًا وَخَلْقًا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ فِي حَيَاتِهِ لِسَبْقِهِ سَائِرَ الْبَشَرِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ ثُمَّ أَمَّهُمْ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ .

( وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِلتَّعَلُّمِ ( وَالْأَعْرَابِيِّ ) لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمْ الْجَهْلُ ( وَالْفَاسِقِ ) لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ لِأَمْرِ دِينِهِ ( وَالْأَعْمَى ) لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ ( وَوَلَدِ الزِّنَا ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُثَقِّفُهُ فَيَغْلِبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ هَؤُلَاءِ تَنْفِيرَ الْجَمَاعَةِ فَيُكْرَهَ ( وَإِنْ تَقَدَّمُوا جَازَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَّوْا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْعَبْدِ ) الْعَبْدُ لَا يَتَفَرَّغُ لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَتَرَجَّحُ الْحُرُّ عَلَيْهِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوَرَعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ } " وَالْجَوَابُ أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مَكْرُوهٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْإِمَارَةُ ( وَ ) يُكْرَهُ تَقْدِيمُ ( الْأَعْرَابِيِّ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ فِيهِمْ وَالْفَاسِقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ دِينِهِ ) وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا يُؤْتَمَنُ فِي أَهَمِّ الْأُمُورِ .
وَقُلْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ صَلَّوْا خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَكَانَ أَفْسَقَ أَهْلِ زَمَانِهِ ( وَالْأَعْمَى ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ( وَوَلَدِ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُثَقِّفُهُ ) أَيْ يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ ( وَإِنْ تَقَدَّمُوا ) وَصَلَّوْا ( جَازَتْ ) الصَّلَاةُ ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } " ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا ، فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .

( وَلَا يُطَوِّلُ الْإِمَامُ بِهِمْ الصَّلَاةَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلِيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ ، فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ }( وَلَا يُطَوِّلُ الْإِمَامُ بِهِمْ ) أَيْ بِالْقَوْمِ ( الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ أَمَّ قَوْمًا } " ) الْحَدِيثَ ، وَحَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ شَكَا قَوْمُهُ تَطْوِيلَ قِرَاءَتِهِ مَعْرُوفٌ ، وَصَحَّ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالُوا أَوْجَزْت ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : سَمِعْت بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ } " وَذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ .

( وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ الْجَمَاعَةُ ) لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ ، وَهُوَ قِيَامُ الْإِمَامِ وَسَطَ الصَّفِّ فَيُكْرَهَ كَالْعُرَاةِ ( فَإِنْ فَعَلْنَ قَامَتْ الْإِمَامُ وَسَطَهُنَّ ) لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَعَلَتْ كَذَلِكَ ، وَحُمِلَ فِعْلُهَا الْجَمَاعَةَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ زِيَادَةَ الْكَشْفِ .

( وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُصَلِّينَ جَمَاعَةً ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَخْلُونَ عَنْ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ ) أَيْ مَكْرُوهٍ ؛ لِأَنَّ إمَامَتَهُنَّ إمَّا أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى الْقَوْمِ أَوْ تَقِفُ وَسَطَهُنَّ ، وَفِي الْأَوَّلِ زِيَادَةُ الْكَشْفِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ ، وَفِي الثَّانِي تَرْكُ الْإِمَامِ مَقَامَهُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَالْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ وَتَرْكُ مَا هُوَ سُنَّةٌ أَوْلَى مِنْ ارْتِكَابِ مَكْرُوهٍ ، وَصَارَ حَالُهُنَّ كَحَالِ الْعُرَاةِ فِي أَنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ وَقَفَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِأَجْلِهِ ، وَفِي أَنَّ الْأَفْضَلَ لِكُلٍّ مِنْ النِّسَاءِ وَالْعُرَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ ، خَلَا أَنَّ الْعُرَاةَ يُصَلِّي كُلٌّ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا قَاعِدًا بِإِيمَاءٍ دُونَ النِّسَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ فَعَلْنَ ) أَيْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ ( قَامَتْ الْإِمَامُ وَسَطَهُنَّ ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْقُولِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَعَارَضْت هَاهُنَا حُرْمَتَانِ زِيَادَةُ الْكَشْفِ فِي التَّقَدُّمِ وَتَرْكُ مَقَامِ الْإِمَامِ بِالتَّوَسُّطِ فَلِمَ رَجَّحْت رِعَايَةُ جَانِبِ الْكَشْفِ عَلَى جَانِبِ تَرْكِ الْمَقَامِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْكَشْفِ فَرْضٌ ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ تَرْكِ مَقَامِ الْإِمَامِ سُنَّةٌ ، وَالْفَرْضُ مُرَجَّحٌ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَحُمِلَ فِعْلُهَا الْجَمَاعَةَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَتْ إمَامَتُهُنَّ مَكْرُوهَةً فَكَيْفَ فَعَلَتْ عَائِشَةُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ جَائِزَةً سُنَّةً تَقِفُ الْإِمَامُ وَسَطَهُنَّ فَنُسِخَتْ سُنِّيَّتُهَا دُونَ الْجَوَازِ ، فَإِنَّهُنَّ لَوْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَتْ بِالْإِجْمَاعِ تَقَدَّمَتْ الْإِمَامُ أَوْ تَوَسَّطَتْ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ التَّوَسُّطُ لِرُجْحَانِ جَانِبِ السَّتْرِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ فَبِكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ : حُمِلَ فِعْلُهَا الْجَمَاعَةَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ .
الثَّانِي أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْوُجُوبِ تَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْجَوَازِ كَمَا عُرِفَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ فِيهَا كَوُجُودِهِ فِيهِ وَهُوَ وَاضِحٌ لِلْمُزَاوِلَيْنِ فِي عِلْمٍ آخَرَ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا طَرِيقَ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ ، فَإِذَا نُسِخَتْ السُّنِّيَّةُ نُسِخَ الْجَوَازُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَنْسُوخِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ إمَامَتَهُنَّ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ ، وَارْتِكَابُ أَحَدِ الْمُحَرَّمَيْنِ فِيهَا مَوْجُودٌ .
وَالرَّابِعُ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِزِيَادَةِ الْكَشْفِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ بِدُونِهَا ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا حَشْوًا مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا وَأَمَّتْ النِّسَاءَ خَاصَّةً وَلَا رَجُلَ ثَمَّةَ فَإِنَّهُ لَا كَشْفَ هُنَاكَ : أَصْلًا فَضْلًا عَنْ الزِّيَادَةِ ، وَتَقَدُّمُهَا مَكْرُوهٌ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْعِلَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مَا قَبْلَ النَّسْخِ ، فَإِنَّهُ ابْتِدَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْجَوَازَ الْبَاقِيَ جَوَازٌ فِي ضِمْنِ الْكَرَاهَةِ ، وَاَلَّذِي كَانَ فِي ضِمْنِ السُّنَّةِ نُسِخَ مَعَهَا ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهَا لِبَيَانِ أَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً وَنُسِخَتْ ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ فِي زَمَانِنَا بِمُقْتَضَى الْجَوَازِ الَّذِي كَانَ مِنْ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ مَعَ مَا يُوجِبُ كَرَاهَتَهُ مِنْ ارْتِكَابِهِ الْمُحَرَّمَ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ تَرْكَهُنَّ الْجَمَاعَةَ إنَّمَا كَانَ لِاجْتِمَاعِ السُّنَّةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَتُرِكَتْ السُّنَّةُ لِأَجْلِ الْكَرَاهَةِ ، وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ اجْتِمَاعُ الْفَرْضِ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَقَدْ اُبْتُلِينَ بِتَرْكِ الْفَرْضِ تَحَرُّزًا عَنْ ارْتِكَابِ

الْمَكْرُوهِ أَوْ إقَامَتِهِ مَعَ ارْتِكَابِهِ ، وَإِقَامَتِهِ مَعَ ارْتِكَابِهِ أَوْلَى وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُنَّ إنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً وَقَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ أَقَمْنَ فَرْضًا لِكَوْنِ الصَّلَاةِ فَرْضًا عَلَى الْكُلِّ وَارْتَكَبْنَ مَكْرُوهًا : وَإِنْ صَلَّيْنَ فُرَادَى تَرَكْنَ الْمَكْرُوهَ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضِهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْوَاحِدَةِ ، وَقَدْ يَتَّفِقُ فَرَاغُ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْبَاقِيَاتِ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ مِنْ الْبَاقِيَاتِ نَفْلًا وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّقَدُّمِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالتَّعْلِيلُ لِإِيضَاحِهَا .

( وَمَنْ صَلَّى مَعَ وَاحِدٍ أَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ ) لِحَدِيثِ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى بِهِ وَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ } وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِمَامِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَضَعُ أَصَابِعَهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ ، فَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَوْ فِي يَسَارِهِ جَازَ وَهُوَ مُسِيءٌ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ ( وَإِنْ أَمَّ اثْنَيْنِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَوَسَّطُهُمَا ، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ حِينَ صَلَّى بِهِمَا } فَهَذَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ وَالْأَثَرُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ صَلَّى مَعَ وَاحِدٍ أَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ) وَهُوَ مَا قَالَ " { بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ ، فَانْتَبَهَ فَقَالَ : نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } إلَى آخِرِهَا ، ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ ، فَقُمْت وَتَوَضَّأْت وَوَقَفْت عَلَى يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ } " وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ " { فَقُمْت خَلْفَهُ فَأَخَذَ ذُؤَابَتِي وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، فَعُدْت إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : مَا مَنَعَك يَا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْقَفْتُك ؟ فَقُلْت : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَك فِي الْمَوْقِفِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } " فَإِعَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ بِدْعَةٌ وَصَلَاةُ اللَّيْلِ كَانَتْ نَافِلَةً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّهَجُّدَ كَانَ فَرْضًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ اقْتِدَاءُ مُتَنَفِّلٍ بِمُفْتَرِضٍ ، وَلَا يَتَأَخَّرُ الْمُقْتَدِي الْوَاحِدُ عَنْ الْإِمَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضَعُ أَصَابِعَهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِطُولِ الْمُقْتَدِي الَّذِي بِحَيْثُ يَقَعُ سُجُودُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْمَوْقِفِ .
قَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ ) يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ

الْمَشَايِخِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ وَقَالَ : لَا يَكُونُ مُسِيئًا إذَا كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ يَسَارِهِ فَإِنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ) رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ فَقَامَ وَسَطَهُمَا وَلَنَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ حِينَ صَلَّى بِهِمَا } عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " { أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَأُصَلِّي لَكُمْ ، قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِسَ فَنَضَحْته بِمَاءٍ ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ } " ( فَهَذَا ) أَيْ تَقَدُّمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( دَلِيلُ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْأَثَرُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ ) وَلَمْ يُعْكَسْ لِيَكُونَ مِنْ بَابِ تَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَالْإِبَاحَةِ كَمَا هُوَ زَعْمُ أَبِي يُوسُفَ حَمْلًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ لِضِيقِ الْمَكَانِ ، فَإِذًا لَا يَكُونُ ثَبْتًا ، وَقِيلَ الْيَتِيمُ أَخُو أَنَسٍ لِأَبِيهِ اسْمُهُ عُمَيْرٌ ، وَفِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ اسْمَهُ ضَمِيرَةُ بْنُ سَعْدٍ الْحِمْيَرِيُّ الْمَدَنِيُّ .
وَالْيَتِيمُ عَلَمٌ غَالِبٌ لَهُ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ حَيْثُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ وَلَا مَكَانَ يَجِبُ

تَأْخِيرُهُنَّ فِيهِ إلَّا مَكَانَ الصَّلَاةِ ، وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ : يَعْنِي كَمَا أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ فِي الشَّهَادَاتِ وَالْإِرْثِ وَالسَّلْطَنَةِ وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ .

( وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ أَنْ يَقْتَدُوا بِامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ ) أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا } وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِهِ .
وَفِي التَّرَاوِيحِ وَالسُّنَنِ الْمُطْلَقَةِ جَوَّزَهُ مَشَايِخُ بَلْخِي ، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ نَفْلَ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يَبْنِي الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ ، بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ فَاعْتُبِرَ الْعَارِض عَدَمًا .
وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ بِالصَّبِيِّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ .

وَقَوْلُهُ : ( وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ ) وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ .
وَقَوْلُهُ : ( فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِهِ ) سَيَجِيءُ بَيَانُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالسُّنَنُ الْمُطْلَقَةُ ) يَعْنِي بِهِ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ الْمَشْرُوعَةَ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا وَصَلَاةَ الْعِيدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوِتْرَ عِنْدَهُمَا وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَهُمَا .
وَقَوْلُهُ : ( جَوَّزَهُ مَشَايِخُ بَلْخِي ) ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ بِعِلَّةِ أَنَّ النَّفَلَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَصَارَ كَنَفْلِ الْبَالِغِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ وَهِيَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ ( وَلَمْ يُجَوِّزْهُ مَشَايِخُنَا ) يَعْنِي مَشَايِخَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ ( وَمِنْهُمْ ) أَيْ مِنْ الْمَشَايِخِ ( مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ) فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا وَمُحَمَّدٌ جَوَّزَهُ ( وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ) وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَذْهَبِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ( ؛ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ ) حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مَشَايِخِ بَلْخِي عَلَى الْمَظْنُونِ ، وَتَقْرِيرُهُ قِيَاسَ اقْتِدَاءِ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالظَّانِّ فَاسِدٌ ( ؛ لِأَنَّ الْمَظْنُونَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ زُفَرَ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الظَّانِّ وَكُلُّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ يُحْتَمَلُ صِحَّةُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْبَدَلِ ، فَالْمَظْنُونُ يَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى اجْتِهَادِ زُفَرَ ، وَالْمَانِعُ عَنْ الْقَوْلِ وُجُوبُهُ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ الْعَارِضُ ، وَهُوَ ظَنُّ الْإِمَامِ ، وَهُوَ عَارِضٌ غَيْرُ مُمْتَدٍّ عَرَضَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَجَازَ

اعْتِبَارُ عَدَمِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَظْنُونُ وَاجِبَ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَكَانَ اقْتِدَاءُ ضَامِنٍ بِضَامِنٍ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مَضْمُونًا ، وَالصِّبَا أَيْضًا عَارِضٌ مُمْتَدٌّ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ عَدَمِهِ فَكَانَ اقْتِدَاءُ ضَامِنٍ بِغَيْرِ ضَامِنٍ وَهُوَ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ ( وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ بِالصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ ) لِعَدَمِ الضَّمَانِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ بِنَاءُ الضَّعِيفِ عَلَى الضَّعِيفِ .

( وَيَصُفُّ الرِّجَالَ ثُمَّ الصِّبْيَانَ ثُمَّ النِّسَاءَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ مُفْسِدَةٌ فَيُؤَخَّرْنَ ( وَإِنْ حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ وَهُمَا مُشْتَرَكَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إنْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَفْسُدَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِصَلَاتِهَا حَيْثُ لَا تَفْسُدُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رَوَيْنَاهُ وَأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ دُونَهَا فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكُ لِفَرْضِ الْمَقَامِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا ، كَالْمَأْمُومِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ ( وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا لَمْ تَضُرَّهُ وَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهَا ) لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ دُونَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ فِي الْمَقَامِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْتِزَامِهِ كَالِاقْتِدَاءِ ، إنَّمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ إذَا ائْتَمَّتْ مُحَاذِيَةً .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا رَجُلٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَوَّلِ لَازِمٌ ، وَفِي الثَّانِي مُحْتَمَلٌ ( وَمِنْ شَرَائِطِ الْمُحَاذَاةِ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُشْتَرَكَةً ، وَأَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ .
وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ ) لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مُفْسِدَةً بِالنَّصِّ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ .

قَالَ ( وَيَصُفُّ الرِّجَالَ ثُمَّ الصِّبْيَانَ ) هَذَا بَيَانُ تَرْتِيبِ الْقِيَامِ خَلْفَ الْإِمَامِ ، وَلِيَلِنِي أَمْرٌ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ .
وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ الْحُلُمِ بِالضَّمِّ وَهُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَرَاهُ النَّائِمُ مِنْ دَلَالَةِ الْبُلُوغِ ، وَالْمُرَادُ لِيَلِنِي الْبَالِغُونَ مِنْكُمْ .
وَالنُّهَى جَمْعُ نُهْيَةٍ وَهِيَ الْعَقْلُ ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الرِّجَالِ عَلَى الصِّبْيَانِ ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصِّبْيَانِ عَلَى النِّسَاءِ فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصِّبْيَانَ تَابِعَةٌ لِلرِّجَالِ لِاحْتِمَالِ رُجُولِيَّتِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيمُهُمْ عَلَيْهِنَّ ثَابِتٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَقَامَ الْعَجُوزَ وَرَاءَ الْيَتِيمِ وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ .
قَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَتَمْهِيدٌ لِذِكْرِ مَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ الْمُفْسِدَةَ هِيَ أَنْ يُحَاذِيَ قَدَمُ الْمَرْأَةِ عُضْوًا مِنْ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ شَرَائِطُهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا مَنْوِيَّةً إمَامَتُهَا ، وَأَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً تَحْرِيمَةً وَأَدَاءً ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ ، وَذَكَرَ الْمَرْأَةَ مُطْلَقَةً لِيَتَنَاوَلَ الْمَحَارِمَ وَالْحَلِيلَةَ وَالْأَجْنَبِيَّةَ ، وَذَكَرَ الْحَالَ لِيَتَنَاوَلَ الصَّغِيرَةَ الْمُشْتَهَاةَ .
وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِسَبْعِ سِنِينَ وَبَعْضُهُمْ بِتِسْعِ سِنِينَ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا مُعْتَبَرَ بِالسِّنِّ ، فَإِنْ كَانَتْ عَبْلَةً ضَخْمَةً كَانَتْ مُشْتَهَاةً وَإِلَّا فَلَا .
وَذَكَرَ الْمَاضِي لِيَتَنَاوَلَ الْعَجُوزَ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْهَا الرِّجَالُ لِمَا أَنَّهَا كَانَتْ مُشْتَهَاةُ ، وَشَرْطُ نِيَّةِ إمَامَتِهَا ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهَا لَا يَصِحُّ بِدُونِهَا فَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرِّجَالِ ، وَوَصَفَ الصَّلَاةَ بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً احْتِرَازًا عَنْ

صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ الْمُحَاذَاةَ لَا تُفْسِدُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ فِيهَا لِشَبَهِهَا بِالصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَشَرْطُ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بِاتِّحَادِ الْفَرْضَيْنِ وَبِاقْتِدَاءِ الْمُتَطَوِّعَةِ بِالْمُتَطَوِّعِ وَبِالْمُفْتَرِضِ ، وَأَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاكُ تَحْرِيمَةً وَأَدَاءً حَتَّى لَا تَكُونَ الْمُحَاذَاةُ فِي أَدَاءِ مَا سُبِقَا بِهِ مُفْسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِي أَدَاءِ مَا سُبِقَ مُنْفَرِدٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ وَسَجْدَةِ السَّهْوِ فَلَمْ يَكُونَا مُشْتَرَكَيْنِ أَدَاءً بِخِلَافِ اللَّاحِقِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعَ الْإِمَامِ تَقْدِيرًا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اقْتَدَتْ نَاوِيَةً لِلْعَصْرِ بِرَجُلٍ يُصَلِّي الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهَا فَرْضًا ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ نَفْلًا فَقَدْ وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَلَمْ تَفْسُدْ الصَّلَاةُ .
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ وَشَرْطُ عَدَمِ الْحَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ لَا تَفْسُدُ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا فَاتَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا لَا تَفْسُدُ لِمَا قَالَ إنَّهَا عُرِفَتْ مُفْسِدَةً بِالنَّصِّ ، وَهُوَ مَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ صَنَعَتْ طَعَامًا إلَى آخِرِ مَا رَوَيْنَا ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا فَإِنَّهَا تُفْسِدُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِصَلَاتِهَا فَإِنَّهَا لَا تُفْسِدُ .
وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ لَمَّا لَمْ تُوجِبْ فَسَادَ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ لَمْ تُوجِبْ فَسَادَ صَلَاةِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ فِعْلٌ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ هَذَا تَرَكَ فَرْضَ مَقَامِ الْإِمَامِ ، وَمَنْ تَرَكَ فَرْضَ الْمَقَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، أَمَّا أَنَّهُ تَرَكَ

فَرْضَ الْمَقَامِ فَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمَرْأَةِ فَرْضٌ عَلَى الرَّجُلِ فِي صَلَاةٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهَا لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ } أَمَرَ الرِّجَالَ بِالتَّأْخِيرِ فِي الْمَكَانِ وَلَا مَكَانَ يَجِبُ تَأْخِيرُهُنَّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَتَعَيَّنَ التَّأْخِيرُ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضِيَّةُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ ؛ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهَا فِي الصَّلَاةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَرْضٌ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ مَعَ اتِّحَادِ فَرْضِهِمَا ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِنُقْصَانِ حَالِهَا فِي ذَلِكَ الصَّبِيِّ ، أَوْ لِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا كَالْأُمِّيِّ ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ كَالْعَارِي ، أَوْ لِفَوَاتِ تَرْتِيبِ الْمَقَامِ كَمَا فِي إمَامَةِ الْمُتَأَخِّرِ وَبِالِاسْتِقْرَاءِ لِعَدَمِ مُجَاوَزَةِ انْتِفَاءِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ عَنْهَا شَرْعًا ، وَلَيْسَ لِلنُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ إمَامَةِ الْفَاسِقِ وَالْعَبْدِ وَالْأَعْمَى مَعَ نُقْصَانِ أَحْوَالِهِمْ ، بَلْ إنَّمَا يُمْنَعُ إذَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَحْظُورٌ كَإِمَامَةِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِمُ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ ، وَلَا لِعَدَمِ الصَّلَاحِيَةِ لِجَوَازِ إمَامَتِهَا لِلنِّسَاءِ مُتَقَدِّمَةً وَمُتَوَسِّطَةً ، وَلَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ مِنْ الشُّرُوطِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَدَمُهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَرْكِ فَرْضِ مَقَامِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَخِّرُوهُنَّ " الْحَدِيثَ .
فَلَمَّا أَجْمَعْنَا هَاهُنَا لِانْعِدَامِ التَّأْخِيرِ يَثْبُتُ الْفَسَادُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَيْضًا لِانْعِدَامِ التَّأْخِيرِ ، وَأَمَّا أَنَّ مَنْ تَرَكَ فَرْضَ الْمَقَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَكَالْمُقْتَدِي إذَا تَقَدَّمَ

عَلَى إمَامِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ ) جَوَابٌ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ وَتَقْدِيرُهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ فَسَادِ صَلَاتِهَا عَدَمُ فَسَادِ صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " أَخِّرُوهُنَّ " دُونَهَا فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكُ لِفَرْضِ الْمَقَامِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا ، كَالْمَأْمُومِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّأْخِيرِ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالتَّأَخُّرِ ضَرُورَةً .
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَأْخِيرُ الرَّجُلِ إيَّاهَا بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ وَلَا تَأَخُّرَ مِنْهَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهُ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُسَاوِي الْقَصْدِيَّ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا ) بَيَانٌ لِتَأْثِيرِ النِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( لَمْ تَضُرَّهُ ) أَيْ لَمْ تَضُرَّ الْمُحَاذَاةُ الْمُصَلِّيَ .
وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ دُونَهَا ) أَيْ دُونَ النِّيَّةِ ( عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ) فَإِنَّ عِنْدَهُ نِيَّةَ إمَامَتِهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِفَسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ بَعْدَمَا دَخَلَتْ فِي صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ صَالِحٌ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، ثُمَّ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِهِ صَحِيحٌ بِلَا نِيَّةِ إمَامَتِهِ فَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ وَقَوْلُهُ : ( أَلَا تَرَى ) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ دُونَهُمَا ، وَتَقْرِيرُهُ الْإِمَامَ يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ فِي الْمَقَامِ بِالنَّصِّ ، وَكُلُّ مَنْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْتِزَامِهِ كَالِاقْتِدَاءِ .
فَإِنَّ لُزُومَ فَسَادِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي لَمَّا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْإِمَامِ مُحْتَمَلًا لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ إلَّا بِالِالْتِزَامِ ، وَلَا الْتِزَامَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ .
فَكَمَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ لِيَكُونَ الضَّرَرُ اللَّازِمُ مِنْ جَانِبِ الْإِمَامِ ضَرَرًا مَرْضِيًّا ، كَذَلِكَ لَا تَصِحُّ إمَامَةُ النِّسَاءِ بِدُونِ النِّيَّةِ لِلنِّسَاءِ لِيَكُونَ الضَّرَرُ اللَّازِمُ

لِلْإِمَامِ مِنْ جَانِبِهِنَّ ضَرَرًا مَرْضِيًّا ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى اشْتِرَاطِ ثُبُوتِ الِاشْتِرَاكِ ، وَثُبُوتُهُ مَمْنُوعٍ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَالثَّانِي أَنَّهُ مَنْقُوضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِاقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ .
فَإِنَّ صَلَاةَ الْأُمِّيِّ تَفْسُدُ بِسَبَبِ اقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِلْأُمِّيِّ نِيَّةُ إمَامَةِ الْقَارِئِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي الْمُسَلَّمَاتِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَقُولُ بِمَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ يَشْتَرِطُ الِاشْتِرَاكَ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ أَنَّهُ يَقُولُ : الِاشْتِرَاكُ يَثْبُتُ بِدُخُولِهَا فِي صَلَاتِهِ نَوَى إمَامَتَهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ بِدُونِهَا كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَالتَّشْكِيكُ فِي الْمُسَلَّمَاتِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ عَلَى أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَقَامِ ، وَالْمَقَامُ وَتَرْتِيبُهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صَلَاةٍ أُدِّيَتْ بِجَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ تَقَدَّمَ عَلَى الْمَأْمُومِ بِالرُّتْبَةِ ، وَالصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ تَسْتَلْزِمُ الِاشْتِرَاكَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ كَلَامُنَا فِي فَسَادٍ يَحْصُلُ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ كَاَلَّذِي فِي اقْتِدَاءِ الْمُحَاذِيَةِ فَإِنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَفْسُدُ بِسَبَبِهِ ، وَصُورَةُ النَّقْضِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَارِئَ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ وَالْأُمِّيُّ وَحْدَهُ وَأَمْكَنَ الْأُمِّيَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فَسَدَتْ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ الْفَسَادُ بِسَبَبِ اقْتِدَاءٍ حَتَّى يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَرْكِ النِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامِ إذَا ائْتَمَّتْ مُحَاذِيَةً ) أَيْ إذَا اقْتَدَتْ بِالْإِمَامِ مُحَاذِيَةً لَهُ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامِ لِفَسَادِ

الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجَنْبِهَا رَجُلٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فَالصَّوَابُ أَنَّ اقْتِدَاءَهَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْفَسَادُ عَلَى مَنْ بِجَنْبِهَا ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي لِنِيَّةِ مَنْ بِجَنْبِهَا عَلَى أَصْلِ الْمَارِّ إلَّا أَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إمَامِهِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يَلْزَمُهُ عَلَى الْتِزَامِ إمَامِهِ وَالْتِزَامُ الْإِمَامِ إلْزَامُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا رَجُلٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ) فِي رِوَايَةٍ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ مِنْ جِهَتِهَا بِالْمَشْيِ وَالْمُحَاذَاةِ فَتَحْتَاجُ إلَى الِالْتِزَامِ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ ( وَ ) عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُحْتَاجُ إلَى ( الْفَرْقُ ) وَهُوَ ( أَنَّ الْفَسَادَ الْأَوَّلَ ) وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُحَاذِيَةً ( لَازِمٌ ) أَيْ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ ( وَالثَّانِيَ ) وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ خَلْفَهُ وَلَيْسَ بِجَنْبِهَا رَجُلٌ ( مُحْتَمَلٌ ) لِاحْتِمَالِ أَنْ تَمْشِيَ فَتُحَاذِيَ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ ذَلِكَ ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ نِيَّةُ الْإِمَامِ هَذَا فِي صَلَاةٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهَا ، وَأَمَّا فِي صَلَاةٍ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهَا فَالتَّقَدُّمُ عَلَيْهِ وَمُحَاذَاتُهَا إيَّاهُ يُورِثُ الْكَرَاهَةَ .

( وَيُكْرَهُ لَهُنَّ حُضُورُ الْجَمَاعَاتِ ) يَعْنِي الشَّوَابَّ مِنْهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ ( وَلَا بَأْسَ لِلْعَجُوزِ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا يَخْرُجْنَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ) لِأَنَّهُ لَا فِتْنَةَ لِقِلَّةِ الرَّغْبَةِ إلَيْهَا فَلَا يُكْرَهُ كَمَا فِي الْعِيدِ .
وَلَهُ أَنَّ فَرْطَ الشَّبَقِ حَامِلٌ فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ ، غَيْرَ أَنَّ الْفُسَّاقَ انْتِشَارُهُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ ، أَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ فَهُمْ نَائِمُونَ ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِالطَّعَامِ مَشْغُولُونَ ، وَالْجَبَّانَةُ مُتَّسِعَةٌ فَيُمْكِنُهَا الِاعْتِزَالُ عَنْ الرِّجَالِ فَلَا يُكْرَهُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَيُكْرَهُ لَهُنَّ حُضُورُ الْجَمَاعَاتِ ) كَانَتْ النِّسَاءُ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الصَّلَوَاتِ ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ مُنِعْنَ عَنْ ذَلِكَ ، جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } نَزَلَتْ فِي شَأْنِ النِّسْوَةِ حَيْثُ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَأَخَّرُونَ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِنَّ ، وَلَقَدْ نَهَى عُمَرُ النِّسَاءَ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ فَشَكَوْنَ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : لَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَذِنَ لَكُنَّ فِي الْخُرُوجِ ، فَاحْتَجَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَمَنَعُوا الشَّوَابَّ عَنْ الْخُرُوجِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ وَهِيَ جَمْعُ عَجُوزٍ وَالْعَامَّةُ تَقُولُ عَجُوزَةٌ فَمَنَعَهُنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْخُرُوجِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ دُونَ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَأَجَازَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِانْتِفَاءِ الْفِتْنَةِ بِقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْعَجَائِزِ ، كَمَا أُجِيزَ لَهُنَّ ذَلِكَ فِي الْعِيدِ بِالِاتِّفَاقِ .
إمَّا لِلصَّلَاةِ كَمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ لِلصَّلَاةِ وَيَقُمْنَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ فَيُصَلِّينَ مَعَ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ تَبَعًا لِلرِّجَالِ ، أَوْ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ كَمَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ وَيَقُمْنَ فِي نَاحِيَةٍ وَلَا يُصَلِّينَ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ الْحُيَّضَ وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَلَهُ أَنَّ فَرْطَ الشَّبَقِ حَامِلٌ ) عَلَى الْوِقَاعِ فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ ، وَالْفَرْطُ بِسُكُونِ الرَّاءِ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَالشَّبَقُ بِفَتْحَتَيْنِ : شِدَّةُ شَهْوَةِ الضِّرَابِ ( غَيْرَ أَنَّ الْفُسَّاقَ انْتِشَارُهُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ ، أَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ

فَهُمْ نَائِمُونَ ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِالطَّعَامِ مَشْغُولُونَ ) جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْجُمُعَةَ مِنْ قَبِيلِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَيْهَا ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ جَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ حَتَّى يُبَاحَ لَهُنَّ الْخُرُوجُ ، وَالْمَغْرِبُ جَعَلَهَا الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبِيلِ الْعِشَاءِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَيْضًا فِيهِمَا وَجَعَلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنْ قَبِيلِ الظُّهْرِ .
قَوْلُهُ : ( وَالْجَبَّانَةُ مُتَّسِعَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى كَرَاهَةِ حُضُورِهِنَّ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِظُهُورِ الْفَسَادِ .

قَالَ ( وَلَا يُصَلِّي الطَّاهِرُ خَلْفَ مَنْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلَا الطَّاهِرَةُ خَلْفَ الْمُسْتَحَاضَةِ ) لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالًا مِنْ الْمَعْذُورِ ، وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ ، وَالْإِمَامُ ضَامِنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَضْمَنُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي ( وَلَا ) يُصَلِّي ( الْقَارِئُ خَلْفَ الْأُمِّيِّ وَلَا الْمُكْتَسِي خَلْفَ الْعَارِي ) لِقُوَّةِ حَالِهِمَا .

قَالَ ( وَلَا يُصَلِّي الطَّاهِرُ ) الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْإِمَامُ ضَامِنٌ } " بِمَعْنَى تَضْمَنُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ الضَّمَانُ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي لَيْسَتْ فِي ذِمَّةِ الْإِمَامِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ صَلَاةَ الْإِمَامِ تَتَضَمَّنُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي ، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَتْ أَقْوَى حَالًا مِنْ الْإِمَامِ فَوْقَ صَلَاتِهِ ، وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلَهُ لَا مَا هُوَ فَوْقَهُ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الطَّاهِرِ بِمَنْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَانْطِلَاقُ الْبَطْنِ وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ ( وَلَا الطَّاهِرَةُ خَلْفَ الْمُسْتَحَاضَةِ ) لِنُقْصَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ عَنْ حَالِ الْمُقْتَدِي ( وَلَا الْمُكْتَسِي بِالْعَارِي ) وَلَا الْأُمِّيُّ بِالْأَخْرَسِ لِقُوَّةِ حَالِهِمَا إذْ الْمُرَادُ بِقُوَّةِ الْحَالِ الِاشْتِمَالُ عَلَى مَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْإِمَامِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ، وَالْأُمِّيُّ يَقْدِرُ عَلَى الِافْتِتَاحِ دُونَ الْأَخْرَسِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ ، فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَنَعَهُ مُحَمَّدٌ قَالَ : ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ طَهَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَالَ مَنْ اشْتَمَلَ عَلَى الطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَقْوَى مِنْ حَالِ مَنْ اشْتَمَلَ عَلَى الطَّهَارَةِ الضَّرُورِيَّةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ : أَيْ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَلِهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَكَانَ الْمُتَيَمِّمُ كَالْمُتَوَضِّئِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَلْوِيثٌ ، وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَمُطْلَقَةٌ بِاتِّفَاقِهِمْ ؛

لِأَنَّهُ لَيْسَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ ، وَيَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ مِنْ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّعْلِيلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِيهِ .
وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ جِهَةَ الْإِطْلَاقِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَعْطَاهُ حُكْمَ الطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَافْتَتَحَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَتَوْقِيتٍ .
وَفِي نَفْيِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ مُخَالَفَةٌ لِإِطْلَاقِهِ وَقَوْدٌ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْحَرَجِ وَاخْتَارَ جِهَةَ الضَّرُورَةِ فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَة وَقَالَا : لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ بِمُجَرَّدِ التَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُصَلِّيَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَذْكُرْ كَوْنَهُ طَهَارَةً فِي بَابِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ طَهَارَتِهِ أَدَاءَ الصَّلَاةِ ، فَمَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ طَهَارَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ عَمِلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَابَيْنِ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ الْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْمُتَوَضِّئِ ، أَوْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا حَتَّى تَكُونَ صَلَاتُهُ بِالْوُضُوءِ فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ ، وَفِي بَابِ الرَّجْعَةِ الْقَوْلُ بِالِانْقِطَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَانْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ إجْمَاعًا : أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَ عَلَى بَدَنِهَا لُمْعَةٌ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ عَنْهَا احْتِيَاطًا ، وَإِذَا تُصُوِّرَ التَّيَمُّمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ

انْدَفَعَ مَا يَتَرَاءَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَرَكَ أَصْلَهُ وَنَاقَضَ كَلَامَهُ .

( وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ أَصْلِيَّةٌ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ وَلِهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ( وَيَؤُمُّ الْمَاسِحُ الْغَاسِلِينَ ) لِأَنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ ، وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ يُزِيلُهُ الْمَسْحُ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا مَعَ قِيَامِهِ حَقِيقَةً ( وَيُصَلِّي الْقَائِمُ خَلْفَ الْقَاعِدِ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِقُوَّةِ حَالِ الْقَائِمِ وَنَحْنُ تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى آخِرَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ } ( وَيُصَلِّي الْمُومِئُ خَلْفَ مِثْلِهِ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَالِ إلَّا أَنْ يُومِئَ الْمُؤْتَمُّ قَاعِدًا وَالْإِمَامُ مُضْطَجِعًا ، لِأَنَّ الْقُعُودَ مُعْتَبَرٌ فَتَثْبُتَ بِهِ الْقُوَّةُ ( وَلَا يُصَلِّي الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ خَلْفَ الْمُومِئِ ) لِأَنَّ حَالَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

قَالَ ( وَيَؤُمُّ الْمَاسِحُ الْغَاسِلِينَ ) ؛ لِأَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَهُ فَلَبِسَ الْخُفَّ ، وَالْخُفُّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كَوْنِهِ غَاسِلًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى كَوْنِهِ غَاسِلًا ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ قَامَ مَقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ ، وَالْحَدَثُ قَدْ حَلَّهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ يُزِيلُهُ الْمَسْحُ ) فَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ كَغَسْلِ الرِّجْلِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَيُصَلِّي الْقَائِمُ خَلْف الْقَاعِدِ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ : { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى آخِرَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ } وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ضَعُفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ قَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ : قَوْلِي لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ فِي مَكَانِك لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَوْ أَمَرْت غَيْرَهُ ، فَقَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَنْتُنَّ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ الصَّلَاةَ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ الْأَرْضَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ : يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْمَعُ تَكْبِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُكَبِّرُ وَالنَّاسُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ } " وَهَذَا آخِرُ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ فَإِنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ أَبَا بَكْرٍ وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِمَامَ الْخَطَّابِيَّ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ رَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ، وَهِيَ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ لِفِقْهِهِ وَإِتْقَانِهِ وَمُوَافَقَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ قَالَ : { دَخَلْت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْت : أَعْرِضُ عَلَيْك مَا حَدَّثَتْنِي بِهِ عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ هَاتِ ، فَعَرَضْت عَلَيْهِ حَدِيثَهَا فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا } .
وَقَوْلُهُ : ( وَيُصَلِّي الْمُومِئُ خَلْفَ مِثْلِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ مُعْتَبَرٌ فَتَثْبُتُ بِهِ الْقُوَّةُ ) دَلِيلُهُ أَنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ مُسْتَلْقِيًا بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقُعُودِ لَا تَجُوزُ .
قَالَ ( وَلَا يُصَلِّي الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ خَلْفَ الْمُومِئِ ) قَالَ زُفَرُ : تَصِحُّ إمَامَةُ الْمُومِئِ بِمَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ سَقَطَ إلَى بَدَلٍ ، وَالْمُتَأَدَّى بِالْبَدَلِ كَالْمُتَأَدَّى بِالْأَصْلِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُتَيَمِّمَ يَؤُمُّ الْمُتَوَضِّئِينَ .
وَلَنَا أَنَّ حَالَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَيَمْتَنِعُ الِاقْتِدَاءُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيمَاءَ بَدَلٌ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ أَوْ بَعْضَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْضَ الْأَصْلِ لَوْ جَازَ الِاقْتِدَاءُ لَكَانَ مُقْتَدِيًا فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ دُونَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

( وَلَا يُصَلِّي الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ ) لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءٌ ، وَوَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْبِنَاءُ عَلَى الْمَعْدُومِ .
قَالَ ( وَلَا مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ ) لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ شَرِكَةٌ وَمُوَافَقَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاتِّحَادِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِنْدَمَا أَدَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَافَقَةِ ، وَعِنْدَنَا مَعْنَى التَّضَمُّنِ مُرَاعًى ( وَيُصَلِّي الْمُتَنَفِّلُ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي حَقِّهِ إلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَيَتَحَقَّقَ الْبِنَاءُ .

قَوْلُهُ : ( وَلَا يُصَلِّي الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ ) هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَعَكْسُهُ ، وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ مُخْتَلِفَيْنِ : فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُتَابَعَةِ شَخْصٍ لِآخَرَ فِي أَفْعَالِهِ بِصِفَاتِهَا وَهُوَ مَفْهُومٌ وُجُودِيٌّ لَا سَلَبَ فِيهِ ، وَبِنَاءُ الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ عَلَى الْمَعْدُومِ بِصِفَاتِهِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، وَوَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ شَرِكَةٌ : يَعْنِي فِي التَّحْرِيمَةِ وَمُوَافَقَةٌ يَعْنِي فِي الْأَفْعَالِ وَلَا شَرِكَةَ وَلَا مُوَافَقَةَ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ مَا تُحَرَّمَا لَهُ وَفَعَلَاهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ شَرِكَةً فِي التَّحْرِيمَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافَقَةً فِيهَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمَعِيَّةَ فِي الِاشْتِرَاكِ ، وَالْبِنَاءُ يَقْتَضِي التَّعَاقُبَ فَيَكُونُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي تَنَافٍ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّحْرِيمَةِ وَالْبِنَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْعَالِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَّزَ الِاقْتِدَاءَ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِنْدَهُ أَدَاءٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَافَقَةِ ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُصَلِّي بِذَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ يُوَافِقُ الْإِمَامَ فِي الْأَرْكَانِ وَالِانْتِقَالُ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا أَيْضًا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِهِ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُوَافَقَةِ فِي دَلِيلِنَا مُوَافَقَةٌ تَبَعِيَّةٌ ، وَفِي دَلِيلِهِ مُوَافَقَةٌ فِي تَطْبِيقِ أَفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي طَابَقَهُ أَفْعَالُ الْإِمَامِ لَيْسَ

إلَّا وَهَذَا غَيْرُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعِنْدَنَا مَعْنَى التَّضَمُّنِ مُرَاعًى ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِمَامُ ضَامِنٌ } عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَاهُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ لَا يَتَضَمَّنُ مَا فَوْقَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَحَّ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ فِي بَنِي سَلَمَةَ فَكَانَ صَلَاةُ قَوْمِهِ فَرْضًا وَصَلَاتُهُ نَفْلًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ مُعَاذًا جَازَ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْلًا وَيُصَلِّيَ مَعَ قَوْمِهِ الْفَرْضَ ( وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي ( لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ الْمُتَنَفِّلِ إلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ ( وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَيَتَحَقَّقُ الْبِنَاءُ ) وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ كَافٍ فِي صِحَّةِ النَّفْلِ وَالْفَرْضُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ ، وَأَمَارَتُهَا جَوَازُ بِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْمُنْفَرِدِ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَالْمُنْفَرِدُ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فَرْضًا عَلَى فَرْضٍ آخَرَ فَلَا يَقْتَدِي بِغَيْرِهِ كَذَلِكَ ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ الْفَرْضَ عَلَى النَّفْلِ ، وَأَمَّا بِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ فَقَدْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِغَيْرِهِ .

( وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ إمَامَهُ مُحْدِثٌ أَعَادَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَمَّ قَوْمًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَعَادَ صَلَاتَهُ وَأَعَادُوا } وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ مَعْنَى التَّضَمُّنِ وَذَلِكَ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ .

( وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ إمَامَهُ مُحْدِثٌ أَعَادَ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعِلْمِ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ قَبْلَهُ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِدَاءُ بِهِ إجْمَاعًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِنْدَهُ أَدَاءٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ غَيْرِ مَعْنَى التَّضَمُّنِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً فَأَعَادَهَا وَقَالَ : مَنْ أَمَّ قَوْمًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَعَادَ صَلَاتَهُ وَأَعَادُوا } " وَعُورِضَ بِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرْنَا مَعَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْقَوْمِ أَنْ اُمْكُثُوا كَمَا أَنْتُمْ ، فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اغْتَسَلَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ } " وَلَوْ لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُمْ مُنْعَقِدَةً لَمْ يُكَلِّفْهُمْ اسْتِدَامَةَ الْقِيَامِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ طَهَارَةِ الْإِمَامِ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْإِمَامِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُكْثِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِانْعِقَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْعًا لَهُمْ عَنْ التَّفَرُّقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ أَنْ اُقْعُدُوا وَلَوْ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَعَلُّقِ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةُ فِعْلٍ لَا تُعَارِضُ الْقَوْلَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ مَعْنَى التَّضَمُّنِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { الْإِمَامُ ضَامِنٌ } وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ

لِصَلَاةِ نَفْسِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ ، أَوْ ضَامِنٌ لِصَلَاةِ الْقَوْمِ وَهُوَ صَحِيحٌ ، ثُمَّ إنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِصَلَاتِهِمْ وُجُوبًا وَأَدَاءً أَوْ صِحَّةً وَفَسَادًا ، وَالْأَوَّلَانِ غَيْرُ مُرَادَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرَانِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ السَّهْوَ وَالْقِرَاءَةَ عَنْ الْمُقْتَدِي وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ .

( وَإِذَا صَلَّى أُمِّيٌّ بِقَوْمٍ يَقْرَءُونَ وَبِقَوْمٍ أُمِّيِّينَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَا : صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ أَمَّ قَوْمًا مَعْذُورِينَ وَغَيْرَ مَعْذُورِينَ فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَّ الْعَارِي عُرَاةً وَلَابِسِينَ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِمَامَ تَرَكَ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِالْقَارِئِ تَكُونُ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي ( وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي الْأُمِّيُّ وَحْدَهُ وَالْقَارِئُ وَحْدَهُ جَازَ ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا رَغْبَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ ( فَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ قَدَّمَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَفْسُدُ لِتَأَدِّي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ صَلَاةٌ فَلَا تَخْلُو عَنْ الْقِرَاءَةِ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا وَلَا تَقْدِيرَ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَكَذَا عَلَى هَذَا لَوْ قَدَّمَهُ فِي التَّشَهُّدِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا صَلَّى أُمِّيٌّ ) الْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْأُمِّ : أَيْ هُوَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .
وَالْمُرَادُ بِهِ حَيْثُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ : مَنْ لَا يُحْسِنُ الْخَطَّ وَلَا يَقْرَأُ شَيْئًا ، وَمَنْ أَحْسَنَ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنْ التَّنْزِيلِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ عِنْدَهُمَا ، فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَحْفَظُ التَّنْزِيلَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَتِمُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِقْدَارِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى تَرْكِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( تَكُونُ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُ ) يَعْنِي لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ } " ) وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ) يُرِيدُ مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الْعَارِي إذَا أَمَّ عُرَاةً وَلَابِسِينَ ( وَأَمْثَالِهَا ) يُرِيدُ بِهِ الْأَخْرَسَ أَمَّ قَوْمًا قَارِئِينَ وَخُرْسًا ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ وَالْمُومِئُ إذَا أَمَّا لِمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِمَا وَلِمَنْ هُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُمَا ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَحَدُ طَرِيقَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ افْتِتَاحَ الْكُلِّ قَدْ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ التَّكْبِيرِ ، وَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَالْقَارِئِ ، فَبِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ صَارَ الْأُمِّيُّ مُتَحَمِّلًا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ عَنْ الْقَارِئِ ثُمَّ جَاءَ أَوَانُ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا تَحَمَّلَ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ لَا عُذْرَ بِهِ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي الْأُمِّيُّ ) فِيهِ شَائِبَةُ الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَى الْقُدْرَةِ عَلَى جَعْلِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ مُعْتَبَرًا

لَمَا جَازَ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَحْدَهُ وَالْقَارِئُ وَحْدَهُ لِاقْتِدَارِهِ أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا رَغْبَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا جَعَلَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي إذَا اقْتَدَى ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي الِاقْتِدَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَلَّا تَجُوزَ صَلَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَقَوْلُهُ : ( وَقَدَّمَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أُمِّيًّا ) أَيْ أَحْدَثَ ( فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ ) وَقَالَ زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ قَدْ تَأَدَّى فَكَانَ اسْتِخْلَافُ الْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ سَوَاءً .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ صَلَاةٌ فَلَا تَخْلُو عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا ، إمَّا تَحْقِيقًا كَمَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَإِمَّا تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِالْحَدِيثِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمُجَرَّدٍ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ ، أَمَّا تَحْقِيقًا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا تَقْدِيرًا فَلِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالشَّيْءُ إنَّمَا يُقَدَّرُ إذَا أَمْكَنَ تَحْقِيقُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا عَلَى هَذَا لَوْ قَدَّمَهُ ) أَيْ الْأُمِّيَّ ( فِي التَّشَهُّدِ ) يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ ( لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ عِنْدَ زُفَرَ وَفَسَدَتْ عِنْدَنَا ) وَأَمَّا إذَا قَدَّمَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَهِيَ مِنْ الِاثْنَا عَشْرِيَّةِ ، وَقِيلَ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ الْكُلِّ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِوُجُودِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ بِصُنْعِهِ وَهُوَ الِاسْتِخْلَافُ كَمَا لَوْ قَهْقَهَ أَوْ تَكَلَّمَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ وَهُوَ مُنَافٍ فَانْقَطَعَتْ

صَلَاتُهُ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ مِثْلُ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، قِيلَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ ) ( وَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ انْصَرَفَ فَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُنَافِيهَا وَالْمَشْيَ وَالِانْحِرَافَ يُفْسِدَانِهَا فَأَشْبَهَ الْحَدَثُ الْعَمْدَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمَذَى فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَقَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ مَنْ لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ } وَالْبَلْوَى فِيمَا يُسْبَقُ دُونَ مَا يَتَعَمَّدُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ( وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ ) تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ ، وَقِيلَ إنَّ الْمُنْفَرِدَ يَسْتَقْبِلُ وَالْإِمَامَ وَالْمُقْتَدِيَ يَبْنِي صِيَانَةً لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ ( وَالْمُنْفَرِدَ إنْ شَاءَ أَتَمَّ فِي مَنْزِلِهِ ، وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى مَكَانِهِ ) ، وَالْمُقْتَدِيَ يَعُودُ إلَى مَكَانِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ قَدْ فَرَغَ أَوْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ ( وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يُصَلِّي مَا بَقِيَ ) وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا الِاسْتِقْبَالُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِوُجُودِ الِانْصِرَافِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ انْصَرَفَ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَأَلْحَقَ قَصْدَ الْإِصْلَاحِ بِحَقِيقَتِهِ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَكَانُ بِالْخُرُوجِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتَخْلَفَ فَسَدَتْ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَانْصَرَفَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى وُضُوءٍ حَيْثُ تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَلَى سَبِيلِ الرَّفْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ

لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ يَسْتَقْبِلُهُ فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ ، وَمَكَانُ الصُّفُوفِ فِي الصَّحْرَاءِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ تَقَدَّمَ قُدَّامَهُ فَالْحَدُّ هُوَ السُّتْرَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَمِقْدَارُ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَمَوْضِعُ سُجُودِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( وَإِنَّ جُنَّ أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَ ) لِأَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُ هَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَهْقَهَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَاطِعٌ .

بَابُ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ : لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَوَارِضِ فِي الصَّلَاةِ انْفِرَادًا وَجَمَاعَةً ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْعَوَارِضِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمُضِيِّ ، وَالْأَصْلُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ( وَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ انْصَرَفَ عَلَى الْفَوْرِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَكَثَ سَاعَةً صَارَ جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ مُؤَدًّى مَعَ الْحَدَثِ .
وَأَدَاؤُهَا مَعَهُ لَا يَجُوزُ فَفَسَدَ مَا أَدَّى فَفَسَدَ الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ صِحَّةً وَفَسَادًا ( فَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ ) وَتَفْسِيرُ الِاسْتِخْلَافِ أَنْ يَأْخُذَ بِثَوْبِهِ وَيَجُرَّهُ إلَى الْمِحْرَابِ ( وَتَوَضَّأَ وَبَنَى ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ ( وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُنَافِي الصَّلَاةَ ) ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثُ يُنَافِي الطَّهَارَةَ ، وَمُنَافِي اللَّازِمِ مُنَافٍ لِلْمَلْزُومِ وَالشَّيْءُ لَا يُنْفَى مَعَ الْمُنَافِي ( وَلِأَنَّ الْمَشْيَ وَالِانْحِرَافَ ) عَنْ الْقِبْلَةِ ( يُفْسِدَانِ الصَّلَاةَ ) وَكُلُّ مَا يُفْسِدُهَا لَا تَبْقَى مَعَهُ كَالْحَدَثِ الْعَمْدِ فَالصَّلَاةُ لَا تَبْقَى مَعَ الْمَشْيِ وَالِانْحِرَافِ وَقَوْلُهُ : ( فَأَشْبَهَ الْحَدَثَ الْعَمْدَ ) يَخْدُمُ فِي الدَّلِيلَيْنِ ( وَلَنَا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمَذَى فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ } " وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَقَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ مَنْ لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ قَالَ " { وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ } " ، وَأَدْنَى مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ فَيَكُونُ الْبِنَاءُ مُبَاحًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، فَإِنْ قِيلَ : الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ لِلْوُجُوبِ فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ وَلْيَبْنِ كَذَلِكَ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ

الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَفُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَبِمِثْلِهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ الِاسْتِخْلَافِ وَقَالَ : مَنْ لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ بَيَانًا لِلْأَفْضَلِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ مِنْ الْمَسْبُوقِ فَتَقْلِيدُهُ يَكُونُ خِيَانَةً .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْبَلْوَى فِيمَا يُسْبَقُ دُونَ مَا يَتَعَمَّدُهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ) قِيلَ هُوَ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ الْحَدَثَ السَّابِقَ بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قِيَاسَ الْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَى الْحَدَثِ الْعَمْدِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ فِيهِ الْبَلْوَى لِحُصُولِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ مَعْذُورًا بِخِلَافِ الْعَمْدِ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ السَّابِقِ بِهِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ ، وَذَلِكَ اعْتِرَافٌ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ ، إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ بِالنَّصِّ .
وَفِي الِاشْتِغَالِ بِبَيَانِ فَسَادِهِ تَنَاقُضٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ تَرْكُ إلْحَاقِ الْعَمْدِ بِالسَّابِقِ ، فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ السَّابِقُ وَالْعَمْدُ فِي كَوْنِهِمَا مُنَافِيَيْنِ لِلصَّلَاةِ سَوَاءٌ ، فَإِذَا بَنَى فِي السَّابِقِ بِمَا ذَكَرَ ثُمَّ مِنْ الدَّلِيلِ فَلْيَبْنِ فِي الْعَمْدِ إلْحَاقًا بِهِ ، فَقَالَ فِي السَّابِقِ : بَلْوَى دُونَ الْعَمْدِ ، وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَلْحَقُ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ( وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبِنَاءَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْأَحْدَاثِ الْخَارِجَةِ مِنْ بَدَنِهِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ لَا الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلْحَدَثِ أَوْ لِسَبَبِهِ ، وَلَا مِنْ

غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَأْتِ بَعْدَهُ بِمَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ تَوَقُّفٍ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَكَلَامٍ أَوْ حَدَثٍ أَوْ كَشْفِ عَوْرَةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، فَلَا يَبْنِي إذَا انْصَرَفَ لِغَسْلِ نَجَاسَةٍ فِي ثَوْبِهِ ، أَوْ لِلْوُضُوءِ مِنْ الْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهِ ، أَوْ لِلْغُسْلِ مِنْ الِاحْتِلَامِ ، أَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ عَصَرَ جِرَاحَةً فَسَالَ مِنْهَا دَمٌ نَجِسٌ ، أَوْ رَمَاهُ إنْسَانٌ بِحَجَرٍ أَوْ سَقَطَ مِنْ السَّقْفِ فَأَدْمَاهُ ، أَوْ مَكَثَ سَاعَةً فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ كَمَا مَرَّ ، أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ بَالَ أَوْ تَغَوَّطَ أَوْ كَشَفَ الْعَوْرَةَ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ ، أَوْ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ( وَقِيلَ إنَّ الْمُنْفَرِدَ يَسْتَقْبِلُ ) أَيْ الْأَفْضَلُ لَهُ ذَلِكَ ( وَالْإِمَامُ وَالْمُقْتَدِي يَبْنِي ) كَذَلِكَ ( وَالْمُنْفَرِدُ إنْ شَاءَ أَتَمَّ فِي مَنْزِلِهِ ) الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الْمَشْيِ ، وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى مَكَانِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ لِيَكُونَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ مُؤَدًّى فِي مَكَان وَاحِدٍ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي الْعَوْدِ إلَى مَكَانِهِ مَشْيًا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إذْ الْأَدَاءُ فِي الْمَنْزِلِ صَحِيحٌ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَشْيَ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُخْتَلِفَةَ كَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ ، وَلِهَذَا صَحَّ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْمُقْتَدِي يَعُودُ إلَى مَكَانِهِ ) يَعْنِي حَتْمًا ، حَتَّى لَوْ أَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي مَوْضِعِ وُضُوئِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إمَامِهِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ حَائِطٍ ، وَلِهَذَا إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَنْزِلِهِ ، فَإِنْ أَدْرَكَ إمَامَهُ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْضِيَ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ فِي حَالِ

اشْتِغَالِهِ بِالْوُضُوءِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ثُمَّ يَقْضِيَ آخِرَ صَلَاتِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ ثُمَّ يَقْضِيَ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ خِلَافًا لِزُفَرَ ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
قَالَ ( وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ ) الْمُصَلِّي إذَا انْصَرَفَ عَنْ مَكَانِ صَلَاتِهِ عَلَى ظَنِّ انْتِفَاءِ شَرْطِ جَوَازِ صَلَاتِهِ ثُمَّ عَلِمَ وُجُودَهُ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ انْصِرَافُهُ عَلَى قَصْدِ إصْلَاحِ الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى قَصْدِ رَفْضِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ لَا ، فَإِنْ خَرَجَ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ أَتَمَّهَا وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا الِاسْتِقْبَالُ لِوُجُودِ الِانْصِرَافِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْإِعْرَاضِ عَلَى مَا يَأْتِي ( وَهُوَ ) أَيْ الِاسْتِقْبَالُ فِيهِمَا ( رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَخِلَافُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ بَابُ الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِ حَائِطِ الْقِبْلَةِ لِيَتَحَقَّقَ الِانْصِرَافُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَمْشِي فِي الْمَسْجِدِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ بِأَنْ كَانَ بَابُ الْمَسْجِدِ عَلَى حَائِطِ الْقِبْلَةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ انْصَرَفَ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ) وَقَصْدُ الْإِصْلَاحِ مُلْحَقٌ بِحَقِيقَةِ الْإِصْلَاحِ شَرْعًا كَمَا إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ الرَّمْيُ إلَيْهِمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُمْ الرَّمْيَ إلَى الْكُفَّارِ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهُمْ رَمَوْا إلَى الْكُفَّارِ ، ثُمَّ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ الْحَدَثِ مَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِالِانْصِرَافِ لِإِصْلَاحِهَا ، فَكَذَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى قَصْدِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَصْدَ الْإِصْلَاحِ لَوْ أُلْحِقَ بِحَقِيقَتِهِ لَمَا شُرِطَ عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ لَمْ تُشْتَرَطْ بِذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ

دَلِيلِهِ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ وُجِدَ الْقَصْدُ وَقَامَ الْعُذْرُ وَلَيْسَ فِي قَصْدِهِ قِيَامَ الْعُذْرِ فَانْحَطَّ عَنْ دَرَجَتِهَا ( وَإِنْ كَانَ ) قَدْ ( اسْتَخْلَفَ ) فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ ( فَسَدَتْ ) صَلَاتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ فَإِنَّ الْعَمَلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِقِيَامِ الْعُذْرِ فَكَانَ الِاسْتِخْلَافُ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ يَحْتَاجُ لِصِحَّتِهِ إلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَقِيَامِ الْعُذْرِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَسَدَتْ حَيْثُ انْصَرَفَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ؛ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَلَى سَبِيلِ الرَّفْضِ مُلْحَقٌ بِحَقِيقَتِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ يَسْتَقْبِلُهُ ( فَهَذَا ) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْصِرَافَ إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ أَوْ يَسْتَخْلِفْ ، وَإِذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْإِعْرَاضِ وَالرَّفْضِ فَسَدَتْ ( وَهُوَ الْحَرْفُ ) أَيْ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَمَنْ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّ مُدَّةَ الْمَسْحِ قَدْ انْقَضَتْ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَ ؛ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ عَلَى قَصْدِ الرَّفْضِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَكَانُ الصُّفُوفِ ) لِبَيَانِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ مَاذَا يَكُونُ حُكْمُهُ وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَإِنْ جُنَّ أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُ هَذِهِ الْعَوَارِضِ ) فِي الصَّلَاةِ ( فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ ) وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ } " الْحَدِيثَ ( وَكَذَلِكَ إذَا قَهْقَهَ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ فَعَلَ الْقَهْقَهَةَ ( بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ ) فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْقُلُ الْمَعْنَى مِنْ ضَمِيرِهِ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْكَلَامُ ( قَاطِعٌ ) ؛ لِأَنَّهُ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ } " وَهَذَا إذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، فَأَمَّا إذَا وُجِدَتْ بَعْدَهُ فَلَا اسْتِقْبَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ لِلْخُرُوجِ مِنْ فِعْلِ الْمُصَلِّي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُوجَدْ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْمَوْصُوفُ بِهَا عَنْ اضْطِرَابٍ أَوْ مُكْثٍ ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالصُّنْعُ مِنْهُ مَوْجُودٌ ، أَمَّا فِي الِاضْطِرَابِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي الْمُكْثِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُؤَدِّيًا جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَالْأَدَاءُ صُنْعٌ مِنْهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْبِنَاءِ قُبَيْلَ هَذَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ فَلْيَكُنْ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك .
قِيلَ وَإِنَّمَا قَالَ أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ بِانْفِرَادِهِ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ النَّوْمِ وَهُوَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بَيَانًا لِلْمُرَادِ .

( وَإِنْ حُصِرَ الْإِمَامُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدَّمَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا لَا يُجْزِئُهُمْ ) لِأَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُهُ فَأَشْبَهَ الْجَنَابَةَ فِي الصَّلَاةِ .
وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لِعِلَّةِ الْعَجْزِ وَهُوَ هَاهُنَا أَلْزَمُ ، وَالْعَجْزُ عَنْ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ نَادِرٍ فَلَا يَلْحَقُ بِالْجَنَابَةِ .
وَلَوْ قَرَأَ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ( وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ تَوَضَّأَ وَسَلَّمَ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوَضُّؤِ لِيَأْتِيَ بِهِ ( وَإِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ تَمَّتْ صَلَاتُهُ ) لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْبِنَاءُ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ ، لَكِنْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ .

قَالَ ( وَإِنْ حُصِرَ الْإِمَامُ عَنْ الْقِرَاءَةِ ) كُلُّ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَقَدْ حُصِرَ عَنْهُ ، فَإِنْ عَجَزَ الْإِمَامُ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِنِسْيَانِهِ جَمِيعَ مَا كَانَ يَحْفَظُ ( فَاسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَا يُجْزِئُهُمْ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : بَلْ يُتِمُّهَا بِدُونِ الْقِرَاءَةِ كَالْأُمِّيِّ إذَا أَمَّ قَوْمًا أُمِّيِّينَ ، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ إلَى السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمَا أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحَصْرُ عَنْ الْقِرَاءَةِ ( نَادِرُ الْوُجُودِ كَالْجَنَابَةِ فِي الصَّلَاةِ ) فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ الْحَدَثِ الَّذِي تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي بَابِ الْحَدَثِ جَازَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْمُضِيِّ وَالْعَجْزُ هَاهُنَا أَلْزَمُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ قَدْ يَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ مَاءً فَيُمْكِنُهُ إتْمَامُ صَلَاتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ .
أَمَّا الَّذِي نَسِيَ جَمِيعَ مَا يَحْفَظُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْمَامِ إلَّا بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّعْلِيمِ ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ .
وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ : إنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ إذَا كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ إلَّا أَنَّهُ لَحِقَهُ خَوْفٌ أَوْ خَجَلٌ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، وَأَمَّا إذَا نَسِيَ فَصَارَ أُمِّيًّا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْعَجْزُ عَنْ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ نَادِرٍ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ قَرَأَ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ ) ظَاهِرٌ .
وَكَذَا قَوْلُهُ : ( وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ ) وَقَوْلُهُ : ( فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ) يَعْنِي بَعْدَ التَّشَهُّدِ .

( فَإِنَّ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ بَطَلَتْ ) وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ( وَإِنْ رَآهُ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ كَانَ مَاسِحًا فَانْقَضَتْ مُدَّةُ مَسْحِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ أَوْ كَانَ أُمِّيًّا فَتَعَلَّمَ سُورَةً أَوْ عُرْيَانًا فَوَجَدَ ثَوْبًا ، أَوْ مُومِيًا فَقَدَر عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ الْقَارِئُ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا أَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي الْفَجْرِ أَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الْجُمُعَةِ ، أَوْ كَانَ مَاسِحًا عَلَى الْجَبِيرَةِ فَسَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ ، أَوْ كَانَ صَاحِبَ عُذْرٍ فَانْقَطَعَ عُذْرُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِمَعْنَاهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا تَمَّتْ صَلَاتُهُ ) وَقِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُمَا ، فَاعْتِرَاضُ هَذِهِ الْعَوَارِضِ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَاعْتِرَاضِهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَعِنْدَهُمَا كَاعْتِرَاضِهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ .
لَهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ صَلَاةٍ أُخْرَى إلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ .
وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَمَّتْ قَارَبَتْ التَّمَامَ ، وَالِاسْتِخْلَافُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ حَتَّى يَجُوزَ فِي حَقِّ الْقَارِئِ ، وَإِنَّمَا الْفَسَادُ ضَرُورَةُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ عَدَمُ صَلَاحِيَّةِ الْإِمَامَةِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي بَابِ التَّيَمُّمِ حَيْثُ قَالَ : وَيَنْقُضُهُ أَيْضًا رُؤْيَةُ الْمَاءِ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ رَآهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ ) بَيَانُ مَسَائِلَ تُسَمَّى بِاثْنَيْ عَشْرِيَّةٍ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( بِعَمَلٍ يَسِيرٍ ) يَعْنِي بِأَنْ كَانَ الْخُفُّ وَاسِعَ السَّاقِ لَا يَحْتَاجُ فِي نَزْعِهِ إلَى الْمُعَالَجَةِ .
وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ضَيِّقًا فَعَالَجَ بِالنَّزْعِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَتَعَلَّمَ سُورَةً ) قِيلَ تَذَكَّرَ بَعْدَ النِّسْيَانِ ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّعْلِيمِ ، وَذَلِكَ فِعْلٌ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقِيلَ سَمِعَهَا بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَفِظَهَا بِلَا صُنْعٍ .
وَقَوْلُهُ : ( أَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً قَبْلَ هَذِهِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( أَوْ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا ) قِيلَ هُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا عَلَى اخْتِيَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَلَا فَسَادَ فِي الِاسْتِخْلَافِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ بِلَا خِلَافٍ .
وَقَوْلُهُ : ( أَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الْجُمُعَةِ ) قِيلَ كَيْفَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْخِلَافُ وَدُخُولُ الْعَصْرِ عِنْدَهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، وَعِنْدَهُمَا إذَا صَارَ مِثْلَهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا مُهْمَلًا ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ تَحَقَّقَ الْخُرُوجُ عِنْدَهُمْ وَتَمَّتْ الصَّلَاةُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ بَاطِلَةٌ وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الْجُمُعَةِ .
وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ مِثْلَيْهِ ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ وَهُوَ بَعِيدٌ كَمَا تَرَى .
وَلَكِنْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُرُوجَ وَالدُّخُولَ يَكُونُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ كَمَا هُوَ

مَذْهَبُهُمَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَقْتِ الْمُهْمَلِ إلَى الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَا نُقِلَ فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ فَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْمَنْسُوبُ إلَى الْحَسَنِ رِوَايَةُ الْمُوَافَقَةِ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ : ( كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِمَعْنَاهَا ) يَعْنِي إذَا اسْتَوْعَبَ الِانْقِطَاعُ وَقْتًا كَامِلًا ، فَلَوْ انْقَطَعَ الدَّمُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ سَالَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى فَالصَّلَاةُ الْأُولَى جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِتَحَقُّقِ الِانْقِطَاعِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَهُوَ كَالِانْقِطَاعِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ كَالِانْقِطَاعِ بَعْدَ تَمَامِ الصَّلَاةِ قِيلَ قَوْلُهُ : ( وَقِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ ) هُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ وَعَلَيْهِ الْعَامَّةُ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ ، فَإِنَّ فَسَادَهَا بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِذَلِكَ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُوجَدُ مَعْصِيَةً بِأَنْ قَهْقَهَ أَوْ كَذَبَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْصِيَةُ فَرْضًا بَلْ الْخُرُوجُ بِفِعْلِ الْمُصَلِّي لَيْسَ بِفَرْضٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُغَيِّرَةٌ لِلصَّلَاةِ ، وَوُجُودُ الْمُغَيِّرِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَوُجُودِهِ قَبْلَهُ لِمَا أَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْإِقَامَةَ أَتَمَّ ، وَالْمَعْنَى بِالْمُغَيِّرِ مَا تَجِبُ الصَّلَاةُ بَعْدَ وُجُودِهِ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ هِيَ عَلَيْهَا قَبْلَهُ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَوِجْدَانِ الثَّوْبِ وَتَعَلُّمِ السُّورَةِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَاللُّبْسِ وَالْقِرَاءَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِطَهَارَةِ

التَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ وَالْعُرْيِ وَعَدَمِ الْقِرَاءَةِ .
وَقِيلَ الْمَعْنِيُّ بِهِ كَوْنُ الصَّلَاةِ جَائِزَةً لِلِاجْتِمَاعِ بِهِ وَبِضِدِّهِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ وَالْإِيمَاءِ وَأَضْدَادِهَا .
وَقَوْلُهُ : ( لَهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا } " الْحَدِيثَ ، عَلَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّمَامَ بِأَحَدِهِمَا ، فَمَنْ عَلَّقَ بِثَالِثٍ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ ( وَلَهُ أَنَّ أَدَاءَ صَلَاةٍ أُخْرَى فِي وَقْتِهَا وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ ) فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَسِيلَةً إلَى الْفَرْضِ بِاقْتِضَاءِ قَوْله تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } ( وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ كَانَ فَرْضًا ) وَهَذِهِ النُّكْتَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ حَاذَتْ رَجُلًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا صُنْعَ مِنْهُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ يَكُونُ فَرْضًا لِغَيْرِهِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ فَيَجِبُ أَنْ تَتِمَّ صَلَاتُهُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الصُّنْعِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الْأُولَى ، كَمَا لَوْ دَخَلَ الْجَامِعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ مُفَاعَلَةٌ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ فَاعِلَيْنِ فَكَانَ مِنْهُ صُنْعٌ أَدْنَاهُ اللُّبْثُ فِي مَكَانِهِ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْأُولَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ تَبْقَى صَحِيحَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ وَلَمْ تَبْقَ بِهَذَا الْخُرُوجِ صَحِيحَةً .
لَا يُقَالُ : إنَّمَا لَمْ تَبْقَ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَكُنْ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي فَكَانَ بَقَاؤُهَا صَحِيحَةً مَوْقُوفًا عَلَى الْخُرُوجِ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي ، فَلَوْ تَوَقَّفَ الْخُرُوجُ عَلَى بَقَائِهَا

صَحِيحَةً دَارَ .
؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْخُرُوجُ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي مَوْقُوفٌ عَلَى مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ رَافِعًا التَّحْرِيمَةَ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاؤُهَا صَحِيحَةً وَلَا مُعْتَبَرَ بِالضِّمْنِيَّاتِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمَا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } " أَيْ قَارَبَ التَّمَامَ ، سَمَّاهُ تَمَامًا بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالِاسْتِخْلَافُ غَيْرُ مُفْسِدٍ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ اسْتِخْلَافُ الْأُمِّيِّ صُنْعُ الْمُصَلِّي فَكَانَ الْوَاجِبُ أَلَّا تَفْسُدَ بِهِ عِنْدَهُ أَيْضًا ، وَتَقْرِيرُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُونَ قَالُوا : سَلَّمْنَا أَنَّهُ صُنْعٌ مِنْهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَخْلَفَ قَارِئًا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَالْمُعْتَبَرُ مِنْ الصُّنْعِ مَا كَانَ مُفْسِدًا لِيَكُونَ عَمَلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ رَافِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ .
وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِيمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ .
وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ صَلَاتَهُ تَامَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِكَوْنِهِ عَمَلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُ لَيْسَ لِلِاسْتِخْلَافِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ ، إنَّمَا الْفَسَادُ ضَرُورَةُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ عَدَمُ صَلَاحِيَةِ الْأُمِّيِّ لِلْإِمَامَةِ ، وَالرَّدُّ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : هُنَاكَ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهَاهُنَا فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ بِعُذْرٍ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُفْسِدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرُ كَوْنِهِ مُفْسِدًا عِنْدَ الْعُذْرِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي مَطْلَعِ الْبَحْثِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الشَّارِحِينَ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ :

وَقِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُخْتَارَهُ غَيْرَهُ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْمُخْتَارِ وَذِكْرَ غَيْرِهِ وَالِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ مِنْ مِثْلِهِ .

( وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ فَقَدَّمَهُ أَجْزَأَهُ ) لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ ، وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَ مُدْرِكًا لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ ، وَيَنْبَغِي لِهَذَا الْمَسْبُوقِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ ( فَلَوْ تَقَدَّمَ يَبْتَدِئُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى إلَيْهِ الْإِمَامُ ) لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ( وَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يُقَدِّمُ مُدْرِكًا يُسَلِّمُ بِهِمْ ، فَلَوْ أَنَّهُ حِينَ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ تَامَّةٌ ) لِأَنَّ الْمُفْسِدَ فِي حَقِّهِ وُجِدَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَفِي حَقِّهِمْ بَعْدَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ فَرَغَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ تَفْسُدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ( فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ صَلَاةُ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا تَفْسُدُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ تَفْسُدْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لَهُمَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي بِنَاءً عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ جَوَازًا وَفَسَادًا وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَكَذَا صَلَاتُهُ وَصَارَ كَالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ .
وَلَهُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ مُفْسِدَةٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيَفْسُدَ مِثْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي ، غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ وَالْمَسْبُوقَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ بِخِلَافِ السَّلَامِ لِأَنَّهُ مِنْهُ وَالْكَلَامَ فِي مَعْنَاهُ ، وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْإِمَامِ لِوُجُودِ الْقَهْقَهَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ .

قَوْلُهُ : ( وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ ) إذَا اقْتَدَى الرَّجُلُ بِمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ فَقَدَّمَهُ صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ ( وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِهَا ) لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إلَى اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ لِلتَّسْلِيمِ ، وَالْأَقْدَرُ أَوْلَى لَا مَحَالَةَ .
قَوْلُهُ : ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاتَهُ أَيْضًا تَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ أَوَّلَ صَلَاتِهِ فَيَكُونُ كَالْفَارِغِ بِقَعْدَةِ الْإِمَامِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ .
وَوَجْهُ الْأَصَحِّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ ، وَضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبِنَاءِ كَضَحِكِهِ ، وَلَوْ ضَحِكَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، فَكَذَا إذَا ضَحِكَ الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ بِالْعَمْدِ إذَا وُجِدَا قَبْلَهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَيَّدَ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُدْرِكِ لَا تَفْسُدُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي صَلَاةِ اللَّاحِقِ رِوَايَتَانِ .
قَوْلُهُ : ( وَلَهُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ مُفْسِدَةٌ ) ؛ لِأَنَّهَا كَالْحَدَثِ فِي إزَالَةِ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ فَتَكُونُ مُفْسِدَةً لِلْجُزْءِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيَفْسُدُ مِثْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي لِابْتِنَائِهَا عَلَيْهَا .
قَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ ) الْمَنْهِيُّ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ رَافِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ كَالتَّسْلِيمِ وَالْخُرُوجِ بِفِعْلِ الْمُصَلِّي ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُمَا كَذَلِكَ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } " وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } وَقَوْلُهُ : ( وَالْكَلَامُ فِي مَعْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ مَعَ

الْقَوْمِ يَمْنَةً وَيَسَرَةً لِوُجُودِ كَافِ الْخِطَابِ وَقَوْلُهُ : ( وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْإِمَامِ ) يَعْنِي عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ قَهْقَهَةٍ تُوجِبُ إعَادَةَ الصَّلَاةِ تُوجِبُ الْوُضُوءَ وَمَا لَا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَلَهُمْ أَنَّهَا وُجِدَتْ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُهُ فَتَكُونُ مُفْسِدَةً لِلْوُضُوءِ

( وَمَنْ أَحْدَثَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ تَوَضَّأَ وَبَنَى ، وَلَا يَعْتَدُّ بِاَلَّتِي أَحْدَثَ فِيهَا ) ، لِأَنَّ إتْمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ وَمَعَ الْحَدَثِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَادَةِ ، وَلَوْ كَانَ إمَامًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ دَامَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِتْمَامُ بِالِاسْتِدَامَةِ .وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَعْتَدُّ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يُعِيدُ ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ يَسْتَلْزِمُ الْإِعَادَةَ ( ؛ لِأَنَّ إتْمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ ، وَالِانْتِقَالُ مَعَ الْحَدَثِ لَا يَتَحَقَّقُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقَلَ إلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَأَدَاءُ جُزْءٍ مِنْهَا بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ مُفْسِدٌ ( فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَادَةِ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَنْتَقِضَ بِالْحَدَثِ جَمِيعُ مَا أَدَّى لَكِنْ تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي الْبِنَاءِ فَبَقِيَ انْتِقَاضُ الرُّكْنِ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَلَزِمَ إعَادَةُ مَا كَانَ الْحَدَثُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ .
وَقَوْلُهُ : ( دَامَ الْمُقَدَّمُ عَلَى رُكُوعِهِ ) أَيْ مَكَثَ رَاكِعًا قَدْرَ رُكُوعِهِ ( ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِتْمَامُ بِالِاسْتِدَامَةِ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ الرُّكُوعِ ، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .

( وَلَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَانْحَطَّ مِنْ رُكُوعِهِ أَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَسَجَدَهَا يُعِيدُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ) وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَى لِتَقَعَ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ مُرَتَّبَةً بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مَعَ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ وَقَدْ وُجِدَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ إعَادَةُ الرُّكُوعِ لِأَنَّ الْقَوْمَةَ فَرْضٌ عِنْدَهُ .

وَمَنْ ذَكَرَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَانْحَطَّ مِنْ رُكُوعِهِ أَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَسَجَدَ الَّتِي ذَكَرَهَا صُلْبِيَّةً كَانَتْ أَوْ تِلَاوَةً أَعَادَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لِتَقَعَ الْأَفْعَالُ مُرَتَّبَةً بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ رُكْنًا لَمَا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِعُذْرِ الْجَمَاعَةِ كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ ، فَلَوْ تَرَكَ الْإِعَادَةَ جَازَ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ السَّجْدَةِ لَا يَنْقُضُ الرُّكُوعَ فَيَصِحُّ الِاعْتِدَادُ بِهِ ، بِخِلَافِ سَبْقِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مَعَ الطَّهَارَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الرُّكُوعِ ( لِأَنَّ الْقَوْمَةَ عِنْدَهُ فَرْضٌ ) ، فَحَيْثُ انْحَطَّ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْفَرْضَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا عَادَ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ تَرْتَفِضُ الْقَعْدَةُ ، وَكَذَا لَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ فَعَادَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ارْتَفَضَ الرُّكُوعُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا تَرْتَفِضُ بِالْإِتْيَانِ بِالسَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك } " فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِ تَأْخِيرِ غَيْرِهَا عَنْهَا كَانَ تَمَامُ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ أَوْ الرُّكُوعُ عَنْ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكُوعِ ، وَالرُّكُوعُ وَسِيلَةٌ إلَى السُّجُودِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ ،

وَالْوَسَائِلُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ ، وَالْقِرَاءَةُ زِينَةُ الْقِيَامِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَمَّ رَجُلًا وَاحِدًا فَأَحْدَثَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْمَأْمُومُ إمَامٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ الصَّلَاةِ ، وَتَعْيِينُ الْأَوَّلِ لِقَطْعِ الْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحَمَةَ هَاهُنَا ، وَيُتِمُّ الْأَوَّلُ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي كَمَا إذَا اسْتَخْلَفَهُ حَقِيقَةً ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ إلَّا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ قِيلَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ) لِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ ، وَقِيلَ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِخْلَافُ قَصْدًا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمَنْ أَمَّ رَجُلًا وَاحِدًا فَأَحْدَثَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْمَأْمُومُ إمَامٌ نَوَى ) الْإِمَامُ ذَلِكَ ( أَوْ لَمْ يَنْوِ ) ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ فِي تَعْيِينِهِ إمَامًا ( صِيَانَةُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ إمَامًا خَلَا مَكَانُ الْإِمَامَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَهُوَ يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي .
فَإِنْ قِيلَ التَّعَيُّنُ لَا يَتَحَقَّقُ بِلَا تَعْيِينٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَتَعْيِينُ الْأَوَّلِ لِقَطْعِ الْمُزَاحَمَةِ ) وَلَا مُزَاحِمَ فَكَانَ التَّعْيِينُ مَوْجُودًا حُكْمًا ، وَإِذَا تَعَيَّنَ لِذَلِكَ كَانَ كَالْمُسْتَخْلِفِ حَقِيقَةً فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ مُقْتَدِيًا بِهِ ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ إلَّا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، فَقِيلَ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَقَطْ ( لِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ ) حُكْمًا فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ لِلْإِمَامَةِ كَانَ الْإِمَامُ مُقْتَدِيًا بِهِ ، وَمَنْ اقْتَدَى بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ( وَقِيلَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ .
أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَدَمُهُ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي صَلَاحِيَتَهُ لِلْإِمَامَةِ ، وَالْفَرْضُ عَدَمُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْكُلِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي خَاصَّةً وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ مُسْتَخْلِفًا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا لِمَا ذَكَرْنَا بَقِيَ الْإِمَامُ مُنْفَرِدًا فَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي لِخُلُوِّ مَكَانِ إمَامِهِ عَنْ الْإِمَامَةِ

( بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا ) ( وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ ، وَمَفْزَعُهُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ } وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ .
بِخِلَافِ السَّلَامِ سَاهِيًا لِأَنَّهُ مِنْ الْأَذْكَارِ فَيُعْتَبَرُ ذِكْرًا فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ وَكَلَامًا فِي حَالَةِ التَّعَمُّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ

( بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا ) هَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ فِي الصَّلَاةِ بِاخْتِيَارِ الْمُصَلِّي فَكَانَتْ مُكْتَسَبَةً ، وَأَخَّرَهُ عَمَّا تَقَدَّمَ لِكَوْنِهَا سَمَاوِيَّةً ( وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَفْسُدُ فِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ إلَّا إذَا طَالَ الْكَلَامُ ) وَلَمْ يُفَرِّقْ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَالسَّهْوُ مَا يَتَنَبَّهُ صَاحِبُهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ ، وَالْخَطَأُ مَا لَا يَنْتَبِهُ بِالتَّنْبِيهِ أَوْ يَتَنَبَّهُ بَعْدَ إتْعَابٍ ، وَالنِّسْيَانُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُدْرِكُ مِنْ الْخَيَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ( وَمَفْزَعُهُ ) أَيْ مَلْجَؤُهُ ( الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } الْحَدِيثَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ حَقِيقَتَهُمَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ لِوُجُودِهِمَا بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْإِفْسَادُ مَرْفُوعًا ( وَلَنَا ) حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ { صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَقُلْت يَرْحَمُك اللَّهُ ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْت : وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَالِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ شَزْرًا ؟ فَضَرَبُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَعَلِمْت أَنَّهُمْ يُسْكِتُونَنِي ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ دَعَانِي ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ مَا كَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قَالَ إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ } الْحَدِيثَ .
جَعَلَ عَدَمَ الْكَلَامِ فِيهَا مِنْ حَقِّهَا كَمَا جَعَلَ وُجُودَ الطَّهَارَةِ فِيهَا مِنْ حَقِّهَا ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْكَلَامِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ مُفْسِدًا لَأَمَرَ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ .
قُلْنَا : هَذَا اسْتِدْلَالٌ

بِالنَّفْيِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ بِالنَّسْخِ شَرْطٌ وَلَمْ يَكُنْ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ كَمُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حُكْمَ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْإِثْمُ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ الدُّنْيَا مُرَادًا وَإِلَّا لَزِمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْمُقْتَضِي .
وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ السَّلَامِ سَاهِيًا ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ السَّلَامُ كَالْكَلَامِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ .
وَفِي السَّلَامِ يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ كَالْكَلَامِ ( لِأَنَّهُ مِنْ الْأَذْكَارِ ) إذْ الْمُتَشَهِّدُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْكَلَامِ بِكَافِ الْخِطَابِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْخِطَابِ فِيهِ عِنْدَ الْقَصْدِ ، فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا أَلْحَقْنَاهُ بِالْأَذْكَارِ ، وَإِذَا كَانَ عَامِدًا أَلْحَقْنَاهُ بِالْكَلَامِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يُنَافِي الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ مُبْطِلًا لَهَا كَذَلِكَ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَفْعَالٍ تُنَافِي الصَّلَاةَ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا غَيْرُ مُفْسِدٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ قَلِيلِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، إذْ فِي الْحَيِّ حَرَكَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا تُفْسِدُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي حَيِّزِ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ الْكَثِيرُ ، وَلَيْسَ فِي الْحَيِّ كَلَامٌ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاسْتَوَى الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ .

( فَإِنْ أَنَّ فِيهَا أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى فَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ لَمْ يَقْطَعْهَا ) لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ ( وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ قَطَعَهَا ) لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارُ الْجَزَعِ وَالتَّأَسُّفِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَهُ آهٍ لَا يُفْسِدُ فِي الْحَالَيْنِ وَأُوهِ يُفْسِدُ .
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ وَهُمَا زَائِدَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا لَا تَفْسُدُ ، وَإِنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ تَفْسُدُ .
وَحُرُوفُ الزَّوَائِدِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ وَهَذَا لَا يَقْوَى لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ فِي مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ يَتْبَعُ وُجُودَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حُرُوفٍ كُلُّهَا زَوَائِدُ

قَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَنَّ فِيهَا أَوْ تَأَوَّهَ ) الْأَنِينُ : صَوْتُ الْمُتَوَجِّعِ ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ آهٍ ، وَالتَّأَوُّهُ أَنْ يَقُولَ أَوْهٌ ، وَارْتِفَاعُ الْبُكَاءِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ حُرُوفٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ ، أَوْ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَقْطَعْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ قَطَعَهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْجَزَعِ وَالْمُصِيبَةِ ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى أَمْرٍ ، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَرِيحٌ يُخَالِفُهَا ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسَالِكُ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِإِظْهَارِ الْوَجَعِ فَقَالَ إنِّي مُصَابٌ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، فَكَذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ صَرِيحٌ يُخَالِفُهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ آهٍ لَمْ تَفْسُدْ فِي الْحَالَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ ، أَوْ مِنْ وَجَعٍ وَمُصِيبَةٍ وَأَوْهٌ تُفْسِدُ .
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ وَهُمَا زَائِدَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا لَا تُفْسِدُ ، وَإِنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ تُفْسِدُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كَلَامِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى حَرْفٍ يُبْتَدَأُ بِهِ وَحَرْفٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ وَحَرْفٌ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ، فَالْحَرْفُ الْوَاحِدُ أَقَلُّ الْجُمْلَةِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَلَامِ ، وَالْحَرْفَانِ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ الزَّوَائِدِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْأَصْلِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ ، وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ ، وَالْحُرُوفُ الزَّوَائِدُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلُّ زَائِدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْهَا لَا عَكْسَهُ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ : آهٍ لَا تُفْسِدُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الزَّوَائِدِ ، وَأَوْهٌ تُفْسِدُ ؛

لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى حَرْفَيْنِ فَإِنَّهُ فِي الزَّوَائِدِ عَلَى حَرْفَيْنِ لَا يُنْظَرُ إلَى الْأَصَالَةِ وَالزِّيَادَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا لَا يَقْوَى ؛ لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ الْمُفْسِدُ ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِي مُتَفَاهِمِ الْعُرْفِ يَتَّبِعُ وُجُودَ الْهِجَاءِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حُرُوفٍ كُلِّهَا زَوَائِدَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فَإِنَّك إذَا قُلْت أَنْتُمْ الْيَوْمَ سَأَلْتُمُونِيهَا فَإِنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَفِعْلٌ وَفَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِهِ وَمَفْعُولٌ فِيهِ وَكُلُّهَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ ، وَهُوَ مُفْسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ .
قُلْت : هَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْحَرْفَيْنِ لَا فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا ، فَإِنَّ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا قَوْلَهُ كَقَوْلِهِمَا وَتَابَعَهُ الشَّارِحُونَ ، وَأَقُولُ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي حُرُوفٍ كُلِّهَا زَوَائِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ فِيهِ التَّثْنِيَةَ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ كَلَامَ النَّاسِ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ وُجُودِ الْهِجَاءِ وَإِفْهَامِ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ حَرْفَانِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ كَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا .

( وَإِنْ تَنَحْنَحَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا إلَيْهِ ( وَحَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَهُوَ عَفْوٌ كَالْعُطَاسِ ) وَالْجُشَاءِ إذَا حَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ .( وَإِنْ تَنَحْنَحَ ) وَحَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا إلَيْهِ : أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ تُفْسِدُ عِنْدَهُمَا .
قِيلَ إنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ التَّنَحْنُحُ لِإِصْلَاحِ الصَّوْتِ لِلْقِرَاءَةِ ، فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : لَا تُفْسِدُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ مَعْنًى ، كَالْمَشْيِ لِلْبِنَاءِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ صَارَ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ .
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا إلَيْهِ فِي التَّنَحْنُحِ إلَّا أَنَّهُ فَعَلَ لِإِصْلَاحِ الْحَلْقِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقِرَاءَةِ إنْ ظَهَرَ لَهُ حُرُوفٌ كَقَوْلِهِ " أُحْ أُحْ " وَتَكَلَّفَ لِذَلِكَ كَانَ الْفَقِيهُ إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ يَقُولُ : يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهَا حُرُوفُ هِجَاءٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ، وَلَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : عِنْدَهُمَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَحَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَمَذْهَبُهُ حِينَئِذٍ كَمَذْهَبِهِمَا كَمَا مَرَّ فَلَا وَجْهَ لِإِفْرَادِهِمَا بِالذِّكْرِ ، فَإِنْ حُمِلَ الْجَمْعُ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى التَّنْبِيهِ انْدَفَعَ النَّظَرُ الثَّانِي ، وَيُقَالُ فِي دَفْعِ الْأَوَّلِ : إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَقْلٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فَقَالَ يَنْبَغِي وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ عَفْوٌ : أَيْ مَعْفُوٌّ كَالْعُطَاسِ وَالْجُشَاءُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ حُرُوفُ هِجَاءٍ .

( وَمَنْ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ يَرْحَمُك اللَّهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ) لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوْ السَّامِعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًاقَوْلُهُ : ( وَمَنْ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ يَرْحَمُك اللَّهُ وَهُوَ ) أَيْ الْقَائِلُ ( فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَهُ الْعَاطِسُ بِنَفْسِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَرْحَمُنِي اللَّهُ وَبِهِ لَا تَفْسُدُ ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوْ السَّامِعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ ( عَلَى مَا قَالُوا ) وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الْبَعْضِ .
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَاطِسَ يَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ ، فَإِنْ حَرَّكَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا .

( وَإِنْ اسْتَفْتَحَ فَفَتْحَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ تَفْسُدُ ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ ، ثُمَّ شَرَطَ التَّكْرَارَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى الْقَلِيلُ مِنْهُ ، وَلَمْ يُشْرَطْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِنَفْسِهِ قَاطِعٌ وَإِنْ قَلَّ ( وَإِنْ فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُفْسِدًا ) اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنًى ( وَيَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى إمَامِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ ، وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا ( وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ ) لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُلْجِئَهُمْ إلَيْهِ بَلْ يَرْكَعَ إذَا جَاءَ أَوَانُهُ أَوْ يَنْتَقِلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى .

قَوْلُهُ : ( وَإِنْ اسْتَفْتَحَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ ) الِاسْتِفْتَاحُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَالِاسْتِنْصَارُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ } أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَاهُنَا مُرَادًا وَالِاسْتِفْتَاحُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِحَ وَالْفَاتِحَ إمَّا أَنْ يَكُونَا فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، أَوْ يَكُونَا فِيهَا ، أَوْ يَكُونُ الْمُسْتَفْتِحُ فِيهَا دُونَ الْفَاتِحِ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَا فِي الصَّلَاةِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُتَّحِدَةً بِأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِحُ إمَامًا وَالْفَاتِحُ مَأْمُومًا أَوْ لَا يَكُونُ ، فَفِي الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ) قَالَ فِي الْأَصْلِ : إذَا فَتَحَ غَيْرُ مَرَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ لَا تَفْسُدُ .
قَالَ ( ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى الْقَلِيلُ مِنْهُ وَلَمْ يَشْرِطْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) التَّكْرَارَ ( لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ قَاطِعٌ وَإِنْ قَلَّ ) قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَفِي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ كَلَامًا اسْتِحْسَانًا ، إمَّا بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ مِنْهَا كَلِمَةً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ؟ فَقَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَوْ نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ } وَإِمَّا بِمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنَى .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى إمَامِهِ أَوْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ،

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَنْوِي بِالْفَتْحِ التِّلَاوَةَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَنْوِي الْفَتْحَ دُونَ التِّلَاوَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ رُخِّصَ لَهُ فِي الْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ وَمُنِعَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَدَعُ مَا رُخِّصَ لَهُ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا هَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ فَإِنَّهُ يَنْوِي الْقِرَاءَةَ دُونَ التَّعْلِيمِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ مَا إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَقْرَأْ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلصَّحِيحِ ، فَإِنَّهُ إذَا فَتَحَ بَعْدَمَا قَرَأَ ذَلِكَ صَحَّ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَإِنْ فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنًى ، وَيَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى إمَامِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ وَصَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا إنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ) وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْمَشَايِخِ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا تَفْسُدُ ( وَيَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَلَّا يَعْجَلَ بِالْفَتْحِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَلَّا يُلْجِئَهُمْ إلَيْهِ ) بِأَنْ يُرَدِّدَ الْآيَةَ أَوْ يَقِفَ سَاكِتًا ( بَلْ يَرْكَعُ إذَا جَاءَ أَوَانُهُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى آيَةٍ أُخْرَى ) وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْأَوَانَ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الِاسْتِحْبَابَ فَقَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا أُرْتِجَ أَنْ يَتَجَاوَزَ إلَى سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ يَرْكَعَ إذَا كَانَ قَرَأَ الْمُسْتَحَبَّ صِيَانَةً لِلصَّلَاةِ عَنْ الزَّوَائِدِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْفَرْضَ فَقَالَ : يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فَيُلْجِئَ الْقَوْمَ أَنْ

يَفْتَتِحُوا عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَرَأَهُ مِقْدَارَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِحُ وَحْدَهُ فِي الصَّلَاةِ وَفَتَحَ عَلَيْهِ الْخَارِجُ وَأَخَذَ مِنْهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ ، فَإِنْ نَوَى تَعْلِيمَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ نَوَى قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَمْ تَفْسُدْ ، وَاشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ قَدْ مَرَّ .

( وَلَوْ أَجَابَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا كَلَامٌ مُفْسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَكُونُ مُفْسِدًا ) وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ .
لَهُ أَنَّهُ ثَنَاءٌ بِصِيغَتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَتِهِ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ فَيُجْعَلُ جَوَابًا كَالتَّشْمِيتِ وَالِاسْتِرْجَاعِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ ( وَإِنْ أَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ بِالْإِجْمَاعِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ }

قَوْلُهُ : ( وَلَوْ أَجَابَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) إذَا قِيلَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَخْلُو ، إمَّا أَنَّهُ أَرَادَ جَوَابَهُ أَوْ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ثَنَاءٌ بِصِيغَتِهِ : أَيْ بِمَا وُضِعَ لَهُ صِيغَتُهُ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَةِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا إذَا أَرَادَ بِهِ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ الثَّنَاءَ وَالْجَوَابَ فَكَانَ كَالْمُشْتَرَكِ ، وَالْمُشْتَرَكُ يَجُوزُ تَعْيِينُ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ بِالْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ كَالتَّشْمِيتِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ ذِكْرٌ بِصِيغَتِهِ وَيَحْتَمِلُ الْخِطَابَ ، وَقَدْ أَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ حِينَ قَصَدَ بِهِ خِطَابَ الْعَاطِسِ .
فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي جَوَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى الدُّخُولِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ { اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمَنِينَ } أَرَادَ جَوَابَهُ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ .
قِيلَ أَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ انْتَهَى بِالْقِرَاءَةِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَقِيَاسُهُ عَلَى إرَادَةِ الْإِعْلَامِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَإِذَا قِيلَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاتَ فُلَانٌ فَقَالَ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَهَذَا الْقَائِلُ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ فَارِقٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى الْوِفَاقِ : يَعْنِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَافَقَهُمَا فِي أَنَّ الِاسْتِرْجَاعَ مُفْسِدٌ ، وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الِاسْتِرْجَاعَ لِإِظْهَارِ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ وَالتَّهْلِيلُ لِلتَّعْظِيمِ

وَالتَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَفْسُدْ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ } .

( وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ ثُمَّ افْتَتَحَ الْعَصْرَ أَوْ التَّطَوُّعَ فَقَدْ نَقَضَ الظُّهْرَ ) لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي غَيْرِهِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ ( وَلَوْ افْتَتَحَ الظُّهْرَ بَعْدَمَا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً فَهِيَ هِيَ وَيَتَجَزَّأُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ ) لِأَنَّهُ نَوَى الشُّرُوعَ فِي عَيْنِ مَا هُوَ فِيهِ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ وَبَقِيَ الْمَنْوِيُّ عَلَى حَالِهِقَوْلُهُ : ( وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ ) يَعْنِي إذَا صَلَّى رَجُلٌ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ ثُمَّ افْتَتَحَ افْتِتَاحًا ثَانِيًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى أَوْ غَيْرَهَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ نَقَضَ الْأُولَى وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْأُولَى فَتَبْطُلُ ، وَإِنْ كَانَتَا فَرْضَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي صَاحِبَ تَرْتِيبٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ وَقَعَتْ الثَّانِيَةُ نَفْلًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَتْ فَرْضًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ ثَانِيًا فَقَدْ لَغَتْ نِيَّتُهُ وَبَقِيَ الْمَنْوِيُّ الْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَيَكُونُ مَا صَلَّى مِنْ الْأُولَى مَحْسُوبًا حَتَّى لَوْ صَلَّى بَعْدَهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ ، وَلَوْ صَلَّى أَرْبَعًا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْأُولَى انْتَقَضَتْ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّالِثَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ .
وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ هَذَا إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ ، أَمَّا إذَا نَوَى بِلِسَانِهِ وَقَالَ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ الظُّهْرَ انْتَقَضَ مَا صَلَّى وَلَا يُجْتَزَأُ بِهِ .

( وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا هِيَ تَامَّةٌ ) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ انْضَافَتْ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ ، وَلِأَنَّهُ تَلَقُّنٌ مِنْ الْمُصْحَفِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ ، وَلَوْ نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ وَفَهِمَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالْفَهْمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَالِكَ الْفَهْمُ ، أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُصْحَفِ ) قَيْدُ الْإِمَامِ اتِّفَاقِيٌّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُنْفَرِدِ كَذَلِكَ .
قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ ، فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إذَا قَرَأَ مِقْدَارَ آيَةٍ تَامَّةٍ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ قِرَاءَةً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إذَا قَرَأَ مِقْدَارَ الْفَاتِحَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ عِنْدَهُ فِي الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ ، وَعِنْدَهُمَا فِي عَدَمِهِ سَوَاءٌ فَلِهَذَا أَطْلَقَهُ فِي الْكِتَابِ ( لَهُمَا أَنَّهَا ) أَيْ الْقِرَاءَةَ ( عِبَادَةٌ ) وَهُوَ وَاضِحٌ ( انْضَافَتْ ) أَيْ انْضَمَّتْ ( إلَى عِبَادَةٍ ) وَهُوَ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْطُوا أَعْيُنَكُمْ مِنْ الْعِبَادَةِ حَظَّهَا قِيلَ وَمَا حَظُّهَا مِنْ الْعِبَادَةِ ؟ قَالَ : النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ } ، وَالْعِبَادَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّتْ إلَى أُخْرَى ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ ) وَنَحْنُ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهَا فِيمَا لَنَا مِنْهُ بُدٌّ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَمْيِيزَ حَرْفٍ عَنْ حَرْفٍ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ لَا مَحَالَةَ ؛ وَلِأَنَّهُ تَلَقُّنٌ مِنْ الْمُصْحَفِ وَهُوَ كَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ عِنْدَهُ ، وَالتَّلَقُّنُ مِنْ الْغَيْرِ مُفْسِدٌ لَا مَحَالَةَ فَكَذَا مِنْ الْمُصْحَفِ ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ( لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ فِي مَكَان وَالْمَحْمُولِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا فِي التَّلَقُّنِ سَوَاءٌ ( وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهِ الْحَمْلُ ، فَإِذَا فَاتَ بِالْوَضْعِ فَاتَ بَعْضُ الدَّلِيلِ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَ التَّعْلِيلَ بِالتَّلَقُّنِ أَصَحَّ .
وَقَوْلُهُ : (

وَلَوْ نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ ) يَعْنِي إذَا نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ سِوَى الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قُرْآنًا لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي جَوَازِهِ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْقُرْآنِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : لَا تَفْسُدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَتَفْسُدُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِاللِّسَانِ الْفَهْمُ فَكَانَ الْفَهْمُ كَالْقِرَاءَةِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِاللِّسَانِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ) وَلَيْسَ هَذِهِ كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْفَهْمُ ( أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ )

( وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي لَمْ تَقْطَعْ صَلَاتَهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ إلَّا أَنَّ الْمَارَّ آثِمٌ } لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ } وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ عَلَى مَا قِيلَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَتُحَاذِي أَعْضَاءُ الْمَارِّ أَعْضَاءَهُ لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الدُّكَّانِ

قَالَ : ( وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ) إنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْمُصَلِّي شَيْءٌ يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاتِهِ رَدًّا لِقَوْلِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ أَنَّ مُرُورَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يُفْسِدُ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَقْطَعُ الْمَرْأَةُ الصَّلَاةَ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ } قُلْنَا : أَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ حِينَ بَلَغَهَا فَقَالَتْ : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ قَرَنْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ ، فَإِذَا سَجَدَ خَنَسْت رِجْلِي ، وَإِذَا قَامَ مَدَدْتهَا وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا فِي الِاعْتِرَاضِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِدَوَامِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا فَالْمُرُورُ أَوْلَى ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ : أَوَّلُهَا هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ مُرُورَ شَيْءٍ لَا يَقْطَعُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ } .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَارَّ آثِمٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ } .
قَالَ الرَّاوِي : لَا أَدْرِي قَالَ أَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا ، وَقِيلَ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَالثَّالِثُ أَنَّ مِقْدَارَ مَوْضِعٍ يُكْرَهُ الْمُرُورُ فِيهِ هُوَ مَوْضِعُ السُّجُودِ عَلَى مَا قِيلَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ ، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : إذَا صَلَّى رَامِيًا بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَصَرُهُ لَا يُكْرَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِمِقْدَارِ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِأَرْبَعِينَ ،

هَذَا إذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، وَقِيلَ يَمُرُّ مَا وَرَاءَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالْمَارِّ ( حَائِلٌ ) كَأُسْطُوَانَةٍ أَوْ جِدَارٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَا يَأْثَمُ وَتُحَاذِي أَعْضَاءُ الْمَارِّ أَعْضَاءَهُ لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الدُّكَّانِ حَتَّى لَوْ كَانَ الدُّكَّانُ بِقَدْرِ قَامَةِ الرَّجُلِ كَانَ سُتْرَةً فَلَمْ يَأْثَمْ ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ : أَعْنِي قَيْدَ عَدَمِ الْحَائِلِ وَقَيْدَ الْمُحَاذَاةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ مُنَافَاةً ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ وَالْأُسْطُوَانَةَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى عَلَى الدُّكَّانِ لَا يُتَصَوَّرُ الْمُرُورُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَلَعَلَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَيُؤَوِّلُ إلَى مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى رَامِيًا بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَلَمْ يَقَعْ بِبَصَرِهِ عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ ، وَهَذَا لَا مُنَافَاةَ فِيهِ ، فَلِهَذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : إنَّهُ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَ شَيْئًا إلَّا وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي حَازَ قَصَبَاتِ السَّبْقِ فِي مَيْدَانِ التَّحْقِيقِ جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47