كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَحِلُّ رَأْسُ الْمَالِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا لِبَيَانِ الصِّفَةِ : أَيْ لِبَيَانِ أَنَّ صِفَةَ تِلْكَ الْحِنْطَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِثْلُ صِفَةِ حِنْطَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الْمُعَيَّنَةِ كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْعَقْدُ ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْخَشْمَرَانِيِّ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ صِفَةَ الْحِنْطَةِ مَثَلًا مِثْلُ صِفَةِ حِنْطَةِ الْخَشْمَرَانِيِّ ، وَعَلَى هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ مِنْ حِنْطَةِ هَرَاةَ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فِي جَوَازِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ لِبَيَانِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا لِتَعْيِينِ الْمَكَانِ ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ مَا يُنْسَجُ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ فَسَوَاءٌ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ عَلَى الصِّفَةِ بِهَرَاةَ أَوْ بِغَيْرِهَا يُسَمَّى هَرَوِيًّا .
وَإِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِثَوْبٍ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ هَرَاةَ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ فَإِنَّ حِنْطَةَ هَرَاةَ مَا نَبَتَتْ بِأَرْضِ هَرَاةَ وَالنَّابِتُ فِي غَيْرِهَا لَا يُنْسَبُ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَكَانَ تَعْيِينًا لِلْمَكَانِ وَهُوَ مَوْهُومُ الِانْقِطَاعِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِبَيَانِ الصِّفَةِ عَادَ كَالْأَوَّلِ .

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ : جِنْسٌ مَعْلُومٌ ) كَقَوْلِنَا حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ ( وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ ) كَقَوْلِنَا سَقِيَّةٌ أَوْ بَخْسِيَّةٌ ( وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ ) كَقَوْلِنَا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ ( وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ ) كَقَوْلِنَا كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ وَكَذَا وَزْنًا ( وَأَجَلٌ مَعْلُومٌ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا ( وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ ( وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ) وَقَالَا : لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ .
وَلَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ وَصَارَ كَالثَّوْبِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا وَلَا يَسْتَبْدِلُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ لَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ أَوْ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ ، وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ .

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ ) صِحَّةُ السَّلَمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وُجُودِ سَبْعِ شَرَائِطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ ، فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسٍ مَعْلُومٍ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا وَنَوْعٍ مَعْلُومٍ سَقِيَّةً أَوْ بَخْسِيَّةً .
وَالْبَخْسِيُّ خِلَافُ السَّقِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى الْبَخْسِ ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تَسْقِيهَا السَّمَاءُ ؛ لِأَنَّهَا مَبْخُوسَةُ الْحَظِّ مِنْ الْمَاءِ .
وَصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَيِّدَةٍ أَوْ رَدِيئَةٍ ، وَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِشْرِينَ كُرًّا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ أَوْ عِشْرِينَ رِطْلًا ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْقُولِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ } إلَخْ ، وَمِنْ الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى النِّزَاعِ .
فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ( فَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَى مِقْدَارِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ ) وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَمُؤْنَةٌ وَمَعْنَاهُ مَا لَهُ ثِقَلٌ يَحْتَاجُ فِي حَمْلِهِ إلَى ظَهْرٍ أَوْ أُجْرَةِ حَمَّالٍ ، فَهَذَانِ شَرْطَانِ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خِلَافًا لَهُمَا .
قَالَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى : إنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ : يَعْنِي إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ أَوْ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ وَأُشِيرَ إلَيْهِمَا جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُمَا ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ بَدَلًا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ تَكْفِي اتِّفَاقًا ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذُرْعَانُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا وَلَا

يُسْتَبْدَلُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ لَا يُدْرَى فِي كَمْ بَقِيَ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تَسْتَلْزِمُ جَهَالَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَرُبَّمَا يَجِدُ بَعْضَ ذَلِكَ زُيُوفًا وَلَا يَسْتَبْدِلُهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ مَا رَدَّهُ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا لَا يُعْلَمُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ السَّلَمُ أَوْ فِي كَمْ بَقِيَ وَجَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَفْسَدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا .
وَقَوْلُهُ : ( أَوْ رُبَّمَا ) وَجْهٌ آخَرُ لِفَسَادِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ ( قَدْ يَعْجِزُ عَنْ تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ حِينَئِذٍ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ ) وَإِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ تَعَذَّرَ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الرُّخَصِ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ ( الْمَوْهُومَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ ) لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي ) إذْ الْقِيَاسُ يُخَالِفُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِتَوَهُّمِ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ وَعَوْدِهِ إلَى الْجَهَالَةِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ أَدْنَى الْأَجَلِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذَا اعْتِبَارٌ لِلنَّازِلِ عَنْ الشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ زُيُوفًا فِيهِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَبَعْدَ الْوُجُودِ الرَّدُّ مُحْتَمَلٌ فَقَدْ لَا يُرَدُّ ، وَبَعْدَ الرَّدِّ تَرْكُ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ ، وَالْمُعْتَبَرُ هِيَ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْمَوْهُومِ هُوَ ذَاكَ ، وَقِيلَ بَلْ هَذِهِ شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِهِ زَيْفًا ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الثَّوْبِ ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَاهُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوْبِ .
وَتَقْرِيرُهُ

أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ ( ؛ لِأَنَّ الذَّرْعَ ) فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ ( صِفَةٌ ) وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَهُ زَائِدًا عَلَى الْمُسَمَّى سَلَّمَ لَهُ الزِّيَادَةَ مَجَّانًا ، وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا لَمْ يَحُطَّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ فَكَانَ قِيَاسًا مَعَ الْفَارِقِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَنْ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ تَضَمَّنَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَنْفَسِخَانِ بِرَدِّ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ .
وَمِنْ فُرُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ مَا إذَا أَسْلَمَ مِائَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ تَنْقَسِمُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحَزْرُ فَلَا يَكُونُ مِقْدَارُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا .
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَتْ ، أَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَدْ عَلِمَ وَزْنَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِي حِصَّتِهِ فَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ ، وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِشَارَةِ .

وَمِنْ فُرُوعِهِ إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا .
وَلَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرَ فِيهِ فَيَصِيرُ نَظِيرُ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ فَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِّ فَلَا يَتَعَيَّنُ ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَهُ يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَمَا فِي الصِّفَةِ .
وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّ تَعَيُّنِ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ ، وَصُورَتُهَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ .
وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ لِلْإِيفَاءِ .
قَالَ ( وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ) لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ ( وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعِ .
وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ ، وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِّ .
وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا ، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ

سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا .

وَقَالَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ : إنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْلِيمِ وُجِدَ فِيهِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ كَمَا فِي بَيْعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ التَّسْلِيمَ يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرُ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ كَأَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ ، فَإِنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَتَعَيَّنُ لِلسَّبَبِيَّةِ لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ فِي تَعَيُّنِ مَكَانِهِمَا لِلتَّسْلِيمِ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ طَعَامًا وَهُوَ فِي السَّوَادِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مَكَانَ الطَّعَامِ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْبَيْعِ لِلتَّسْلِيمِ لَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَوْ تَعَيَّنَ لَبَطَلَ الْعَقْدُ بِبَيَانِ مَكَان آخَرَ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ يَفْسُدُ عَقْدُهُ اشْتَرَاهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ النَّقْضِ أَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا وَالْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ حَاضِرٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ حَاضِرًا بِحُضُورِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَيْدًا لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّعْلِيلِ وَمِثْلُهُ يُعَدُّ انْقِطَاعًا .
وَعَنْ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالدَّلَالَةِ ، فَإِذَا جَاءَ بِصَرِيحٍ يُخَالِفُهَا يُبْطِلُهَا ، وَإِنَّمَا فَسَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْمَبِيعِ وَالْحَمْلِ فَتَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السَّلَمَ تَسْلِيمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ

تَسْلِيمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ فِيهِ لِلتَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الِالْتِزَامِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ بِسَبَبٍ يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى طِبْقِ سَبَبِهِ ، وَالسَّلَمُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ لِكَوْنِهِ مُؤَجَّلًا ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّ تَسْلِيمَهَا يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ فَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُهُ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَرَأَيْت لَوْ عَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ فِي السَّفِينَةِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَكَانَ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِبْقَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ فِي مَوْضِعٍ يُكْثِرُ فِيهِ السَّلَمَ ، وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُسَلِّمُهُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ فِي اخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ .
( وَعَنْ هَذَا ) أَيْ عَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكَانِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ ( قَالَ : مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَكَانِ يُوجِبُ التَّخَالُفَ ) عِنْدَهُ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ( وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ ) أَيْ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ عِنْدَهُ بَلْ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ .
وَعِنْدَهُمَا يُوجِبُهُ ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ : أَيْ مُقْتَضَاهُ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَكَانِ كَالِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ .
وَعِنْدَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ .
وَصُورَةُ الثَّمَنِ : اشْتَرَى شَيْئًا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ

يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ .
وَقِيلَ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ( وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ) ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِثْلُ الْأُجْرَةِ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ .
وَصُورَةُ الْأُجْرَةِ : اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ دَابَّةً بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَيَتَعَيَّنُ فِي إجَارَةِ الدَّارِ مَكَانُهَا ، وَفِي الدَّابَّةِ تُسَلَّمُ فِي مَكَانِ تَسْلِيمِهَا .
وَصُورَةُ الْقِسْمَةِ : اقْتَسَمَا دَارًا وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ وَالْتَزَمَ فِي مُقَابَلَةِ الزَّائِدِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ خِلَافًا لَهُمَا وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْقِسْمَةِ .
قَالَ ( وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ إلَخْ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ .
وَقِيلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ هُوَ الَّذِي لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِحَمْلِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حَمَلَهُ مَجَّانًا .
وَقِيلَ هُوَ مَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الْقِيمَةِ ، وَلَكِنْ هَلْ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ( فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبُيُوعُ الْأَصْلِ ) يَتَعَيَّنُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ فَيُرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ ( يُوَفِّيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ ) إذْ الْمَالِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فِيهِ .
( قَوْلُهُ : وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ مُؤَنُ الْعَقْدِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَقَالَ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ لَيْسَ

بِوَاجِبٍ لِيَتَعَيَّنَ بِاعْتِبَارِهِ ، فَلَوْ عَيَّنَ مَكَانًا قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ بِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ ، وَلَا تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ : وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ رَبَّ السَّلَمِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلَّةِ .
وَقِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَهِيَ السَّلَمُ وَالثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِصْرُ عَظِيمًا ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ نَوَاحِيهِ مِثْلُ فَرْسَخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَاحِيَةً مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ .

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهِ ) أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا } ، فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الِاسْمِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْض لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ السَّلَمَ لَا يَبْقَى صَحِيحًا بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إذَا لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ صَاحِبَهُ بَدَنًا لَا مَكَانًا ، حَتَّى لَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُفْسَخْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، فَإِذَا افْتَرَقَا كَذَلِكَ فَسَدَ ، أَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } : أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا ؛ فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ آجِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَاجِلًا لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ لُغَةً كَالصَّرْفِ وَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا عُقُودٌ ثَبَتَتْ أَحْكَامُهَا بِمُقْتَضَيَاتِ أَسْمَائِهَا لُغَةً ، وَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَتَرْكُ شَرْطِ التَّعْجِيلِ لَمْ يُؤَدِّ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ : أَيْ لِيَتَصَرَّفَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ ( قُلْنَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ) وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْقَبْضِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ ، وَمَا كَانَ مَانِعًا مِنْ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْمَبْنِيِّ ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِي السَّلَمِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْفَسْخُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ وَالْوَاجِبُ بِعَقْدِ السَّلَمِ الدَّيْنُ وَمَا أَخَذَهُ عَيْنٌ ،

فَلَوْ رَدَّ الْمَأْخُوذَ عَادَ إلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيمَا أَخَذَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ فَائِدَتَهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ يُفِيدُ فَائِدَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ إذَا رَدَّ الْمَبِيعَ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَيُفْسَخُ .
قِيلَ فِيهِ إشْكَالَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ الْمُسْلَمُ فِيهِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَابِتٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ ، صَرَّحَ بِهِ فِي التُّحْفَةِ وَقَالَ : لَا يَفْسُدُ بِهِ السَّلَمُ ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِانْتِفَاءِ التَّقْرِيبِ ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ دَيْنٌ وَمَعَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَصْنِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَعُودُ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَهُوَ إنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ يَتَسَلْسَلُ وَلَا يُفِيدُ ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ لِإِفْضَائِهِ إلَى التُّهْمَةِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِصْنَاعِ دَيْنٌ بَلْ هُوَ عَيْنٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَتَمَامُهَا بِتَمَامِ الرِّضَا وَهُوَ مَوْجُودٌ وَقْتَ الْعَقْدِ .

وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ جَازَ خِلَافًا لَزُفَرَ ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ( وَلَوْ أَسْقَطَ ) رَبُّ السَّلَمِ ( خِيَارَ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ) فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِالْإِسْقَاطِ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ فَكَذَا إتْمَامُهُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اتِّفَاقِيٌّ فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ .

( وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ إعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادَ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ ، إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَيَنْعَقِدُ صَحِيحًا .

قَالَ ( وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا ) جَمَعَ الْمَشَايِخُ جُمْلَةَ شُرُوطِ السَّلَمِ فِي إعْلَامِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَفِي تَعْجِيلِهِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي إعْلَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ ، وَفِي تَأْجِيلِهِ : يَعْنِي إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِقْدَارِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ كَمَا مَرَّ ، وَفِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ كَمَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ ) سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْمِائَتَيْنِ ابْتِدَاءً أَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ فِي إحْدَاهُمَا إلَى الدَّيْنِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ .
وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ ، وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا ؛ أَمَّا إذَا أَطْلَقَ ثُمَّ جَعَلَا الْمِائَةَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ فَلَا إشْكَالَ فِي طُرُوِّهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَاقِي مَبِيعًا بِالْحِصَّةِ الطَّارِئَةِ ، وَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى الدَّيْنِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا فَكَذَا إذَا كَانَتْ دَيْنًا فَصَارَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ سَوَاءً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّيْنُ فَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ صَحِيحًا فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } .
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ ( مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى غَيْرِهِ

يُوجِبُ شُيُوعَ الْفَسَادِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمَا .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُقَالَ ( وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَخْ ) لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ، فَلَوْ جَازَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَاتَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَالْعَيْنِ الْمُشْتَرَى ، فَرَأْسُ الْمَالِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا جَازَ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا لَا يَجُوزُ إلَّا مِمَّنْ عِنْدَهُ الثَّمَنُ .

( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ شَخْصٌ آخَرُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ ( وَ ) لَا ( التَّوْلِيَةُ ) وَصُورَتُهَا ظَاهِرَةٌ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ بَعْدَمَا دَخَلَا فِي الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ .
وَقِيلَ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّ التَّوْلِيَةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا إقَامَةُ مَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يُوَلِّي غَيْرَهُ مَا تَوَلَّى .

( فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ } أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ ، وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَحِلُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَبِيعًا لِسُقُوطِهِ فَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ مَبِيعًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ .

( فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ } ) يَعْنِي حَالَةَ الْبَقَاءِ وَعِنْدَ الْفَسْخِ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ ( وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ ) ( ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعُ جَدِيدٍ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ ) وَهُوَ الشَّرْعُ ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ( لِسُقُوطِهِ ) بِالْإِقَالَةِ ( فَ ) لَا بُدَّ مِنْ ( جَعْلِ رَأْسِ الْمَالِ مَبِيعًا ) لِيَرُدَّ عَلَيْهِ الْعَقْدَ ، وَإِلَّا لَكَانَ مَا فَرَضَاهُ بَيْعًا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ وَهُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ دَيْنًا مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فِيمَا هُوَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ عَقْدُ السَّلَمِ فَلَأَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ انْتِهَاءً فِيمَا هُوَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَانَ أَوْلَى ، وَإِذَا ثَبَتَ شَبَهُهُ بِالْمَبِيعِ ، وَالْمَبِيعُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ : أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِقَالَةِ ( لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَالْإِقَالَةُ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَا غَيْرُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْأَوَّلِ اشْتِرَاطُهُ فِي الثَّانِي بِالضَّرُورَةِ ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ وَهُوَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَالتَّأَمُّلُ يُغْنِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ سَقَطَ اشْتِرَاطُ قَبْضِهِ ، فَالسُّؤَالُ بِوُجُوبِ قَبْضِهِ لَا

يَرِدُ ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ دَفَعَ وَهْمَ مَنْ عَسَى يَتَوَهَّمُ نَظَرًا إلَى كَوْنِهِ رَأْسَ الْمَالِ وُجُوبُ قَبْضِهِ ، وَلَوْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي مَبْرَزِ الدَّلِيلِ عَلَى انْقِلَابِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ .
وَلَوْ بَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ لَوَجَبَ كَانَ أَدَقَّ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَيَجُوزُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ سِوَى الْفَارِسِيَّةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ : وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ قَوْلُهُ : وَفِيهِ ) أَيْ فِي جَعْلِ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ مَبِيعًا ( خِلَافُ زُفَرَ ) هُوَ يَقُولُ رَأْسُ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، فَكَمَا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ جَازَ بِهَذَا الدَّيْنِ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ ) لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ ، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لَكِنْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً .
وَإِنْ جَعَلَ عَيْنَهُ فِي حَقٍّ حُكْمٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا وَكَانَ قَرْضًا فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ إلَخْ ) رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَهُوَ سِتُّونَ قَفِيزًا ( فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءً لِحَقِّهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً ) حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ( وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لِأَجْلِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ صَفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ ) الْأُولَى صَفْقَةُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ بَائِعِهِ وَالثَّانِيَةُ صَفْقَتُهُ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ } ، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ ) فِي الْفَصْلِ الْمُتَّصِلِ بِبَابِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ قَالَ فِيهِ : وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ .
( قَوْلُهُ : وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ فَلَا يَكُونُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَائِعًا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الصَّفْقَةُ الثَّانِيَةُ لِتَدْخُلَ تَحْتَ النَّهْيِ ، وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ .
سَلَّمْنَا ذَلِكَ ( لَكِنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ ) وَقَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ ( بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ ، وَهُوَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَإِنْ جُعِلَ عَيْنُهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ ضَرُورَةً فَلَا يَتَعَدَّى فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءُ كَالْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ الْكَيْلِ .
( وَ ) إنْ ( كَانَ ) الْكُرُّ ( قَرْضًا فَأَمَرَ ) الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ ( بِقَبْضِ

الْكُرِّ ) فَفَعَلَ ( جَازَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إعَارَةً لَزِمَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعَوَارِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ ( مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ ) وَكَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ يُكْتَفَى فِيهِ بِكَيْلٍ وَاحِدٍ .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ ، [ لِأَنَّ ] حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ دُونَ الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْهُ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا .
وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُشْتَرَاةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ حَيْثُ صَادَفَ مِلْكَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْبَيْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ كَانَ الطَّحِينُ فِي السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْأَمْرِ ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ، وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ أَمَرَهُ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَا تَصِيرُ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ ، فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهَا ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ إلَخْ رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ ( غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ ) لَهُ فِي غَرَائِرِهِ طَعَامٌ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ( قَضَاءً ) فَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ( ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ ) يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ إذْ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَا ( يَصِحُّ ) الْأَمْرُ ( وَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَهُ فِيهَا ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنَهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا ) وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ إلَى الْبَائِعِ وَقَالَ لَهُ اجْعَلْهَا فِيهَا فَفَعَلَ وَالْمُشْتَرِي غَائِبٌ صَارَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَصَحَّ الْأَمْرُ لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ ، وَإِذَا صَحَّ صَارَ الْبَائِعُ وَكِيلًا عَنْهُ فِي إمْسَاكِ الْغَرَائِرِ فَبَقِيَتْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا فَمَا وَقَعَ فِيهَا صَارَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ( قَوْلُهُ : أَلَا تَرَى ) تَوْضِيحٌ لِتَمَلُّكِهِ بِالْبَيْعِ ( فَإِنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ فِي السَّلَمِ كَانَ الطَّحِينُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي ) وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ فَفَعَلَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ( وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ) وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَعَدَمِهَا ، وَصِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمِلْكِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَلَكَهُ لَمَا صَحَّ أَمْرُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ ( يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ ) فَإِنْ قِيلَ : الْبَائِعُ مُسَلِّمٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَسَلِّمًا .
أَجَابَ

بِقَوْلِهِ ( وَالْقَبْضُ بِالْوُقُوعِ ) أَيْ وَتَحَقُّقُ الْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ ( فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي ) فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَمَّا قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِكَيْلٍ وَاحِدٍ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي } وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ بَابِ الرِّبَا ( وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ ) الْمُشْتَرِي ( قَابِضًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَمْ تَصِرْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا تَتِمَّ بِدُونِ الْقَبْضِ ، فَكَذَا مَا وَقَعَ فِيهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ لَمْ يَقْبِضْ .

وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ وَالْغَرَائِرُ لِلْمُشْتَرِي ، إنْ بَدَأَ بِالْعَيْنِ صَارَ قَابِضًا ، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا ، كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِهِ ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ ، وَإِنَّ بَدَأَ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا ، أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمُلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ ، وَهَذَا الْخَلْطُ غَيْرُ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ ) صُورَتُهُ رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرًّا آخَرَ بِعَيْنِهِ وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ إلَيْهِ لِيَجْعَلَ الدَّيْنَ : أَيْ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَالْعَيْنَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي فِيهَا فَلَا يَخْلُو الْبَائِعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا أَوَّلًا الدَّيْنَ أَوْ الْعَيْنَ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي ( صَارَ ) الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُمَا جَمِيعًا ، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ .
وَرُدَّ " بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ كَذَلِكَ نَصًّا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا .
وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ بِرِضَاهُ وَالِاتِّصَالُ بِالْمِلْكِ بِالرِّضَا يُثْبِتُ الْقَبْضَ ( كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا فِي أَرْضِهِ ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ ) وَلَا يُشْكِلُ بِالصَّبْغِ ، فَإِنَّ الصَّبْغَ وَالْبَيْعَ اتَّصَلَا بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَمْ يَصِرْ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفِعْلُ لَا الْعَيْنُ ، وَالْفِعْلُ لَا يَتَجَاوَزُ الْفَاعِلَ فَلَمْ يَصِرْ مُتَّصِلًا بِالثَّوْبِ فَلَا يَكُونُ قَابِضًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا .
أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ وَهَذَا عَيْنٌ فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِجَعْلِهِ فِي الْغَرَائِرِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْآمِرِ ( وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمِلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ) فَإِنْ قِيلَ : الْخَلْطُ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْخَلْطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا حَصَلَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي بَلْ الْخَلْطُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ بِهِ

الْآمِرُ قَابِضًا هُوَ الَّذِي كَانَ مَأْذُونًا بِهِ ، وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِكَوْنِ الْخَلْطِ غَيْرَ مَرْضِيٍّ بِهِ جَزْمًا ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ ( لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ ) فَيَكُونُ الدَّلِيلُ أَعَمَّ مِنْ الْمُدَّعَى وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلَامُهُ فِي قُوَّةِ الْمُمَانَعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْخَلْطَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ بِهِ ( قَوْلُهُ : لِجَوَازِ ) سَنَدُ الْمَنْعِ فَاسْتَقَامَ الْكَلَامُ ( وَعِنْدَهُمَا الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا ) .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا ، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ جَازَ ) لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ ، وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْقَى انْتِهَاءٌ ، لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا ( وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ ، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْجَارِيَةُ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ هَلَاكِهَا فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ابْتِدَاءً وَلَا تَبْقَى انْتِهَاءً لِانْعِدَامِ مَحِلِّهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ وَتَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فِيهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ ) رَجُلٌ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبَضَهَا وَلَمْ تَبْطُلْ الْإِقَالَةُ بِهَلَاكِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ كَانَتْ الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ ، وَإِذَا صَحَّ ابْتِدَاءً صَحَّ انْتِهَاءً ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا وَقَامَتْ مَقَامَ الْجَارِيَةِ ، فَكَأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ كَانَ قَائِمًا فَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ هَلَكَتْ ، وَالْمُسْلَمَ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ فَصَارَ كَهَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُقَايَضَةِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِقَالَةِ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُقَايَضَةِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْجَارِيَةِ بِالدَّرَاهِمِ حَيْثُ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ مِلَاكِهَا بَقَاءً وَابْتِدَاءً ، وَمَا فِي الْكِتَابِ طَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَم لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ) لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ الصِّحَّةَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ ، وَفِي عَكْسِهِ قَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا .
وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ ) إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ ، فَمَنْ كَانَ مُتَعَنِّتًا وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ كَانَ كَلَامُهُ بَاطِلًا وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَنْ كَانَ مُخَاصِمًا وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَضُرُّهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنْ ادَّعَى الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ هُوَ الْمُنْكِرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْت رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ صِحَّةَ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ عَادَةً فَكَانَ الْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفَا فِيمَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ وَهُوَ بَيَانُ الْوَصْفِ وَالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِمَا مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ عَلَى وَصْفِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَقَوْلُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ أَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ النَّقْدَ الْقَلِيلَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ يَرْبُو عَلَيْهِ إذَا كَانَ جَيِّدًا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ رَدِيئًا فَمَمْنُوعٌ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ مَعَ وُفُورِ عُقُولِهِمْ وَشِدَّةِ تَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْغَبْنِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَكَثْرَةِ رَغْبَتِهِمْ

فِي التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ يُقْدِمُونَ عَلَى السَّلَمِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ ، وَذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى رِبَا الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَدِيئًا وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ ، فَمُنْكِرُ صِحَّةِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَكِنَّهُ مُدَّعٍ فِي الْمَعْنَى فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ انْعَكَسَتْ الْمَسْأَلَةُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّ السَّلَمِ الْوَصْفَ ، وَأَنْكَرَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَشَايِخِ ( قَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا ) وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ ( قَوْلُهُ : وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ ) يُرِيدُ بِهِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَهُ بِخُطُوطِ الْقَوْلِ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْبَعِيدِ وَالْمُطَابِقِ وَنُقَرِّرُهُ .

( وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ حَقًّا لَهُ وَهُوَ الْأَجَلُ ، وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ ، وَفِي عَكْسِهِ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ ، أَمَّا السَّلَمُ فَلَازِمٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ كَلَامُهُ تَعَنُّتًا فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ خَرَجَ خُصُومَةٌ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْقَوْلُ لِمُدَعِّي الصِّحَّةِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ .

وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ الْأَجَلُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ بِإِنْكَارِهِ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ وَسَلَامَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَهُ وَهُوَ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ ( بِأَنَّ الْفَسَادَ بِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ لِمَنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ ) فَإِنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِعَدَمِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إنْكَارِهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ النَّفْعُ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ مُعْتَبَرًا ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْفَسَادَ بِعَدَمِهِ مُتَيَقَّنٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِ مُخَالِفٍ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ وَضْعِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ .
فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ ، لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ ، وَفِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْأَجَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُنْكِرُهُ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ وَاحِدٌ ، إذْ السَّلَمُ الْحَالُّ فَاسِدٌ لَيْسَ بِعَقْدٍ آخَرَ .
وَاخْتَلَفَا فِي جَوَازِهِ وَفَسَادِهِ ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ

عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ .
الثَّانِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْعَقْدِ الْتِزَامٌ لِشَرَائِطِهِ ، وَالْأَجَلُ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ فَكَانَ اتَّفَقَاهُمَا عَلَى الْعَقْدِ إقْرَارًا بِالصِّحَّةِ ، فَالْمُنْكِرُ بَعْدَهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ وَإِنْكَارُهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهَا تَنَوَّعَ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ فَإِنَّهَا إذَا فَسَدَتْ كَانَتْ إجَارَةً ، وَإِذَا صَحَّتْ كَانَتْ شَرِكَةً ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فَالْمُدَّعِي لِلصِّحَّةِ مُدَّعٍ لِعَقْدٍ ، وَالْمُدَّعِي لِلْفَسَادِ مُدَّعٍ لِعَقْدٍ آخَرَ خِلَافَهُ ، وَوَحْدَةُ الْعَقْدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ تَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلتَّنَاقُضِ الْمَرْدُودِ لِوَحْدَةِ الْمَحَلِّ ، وَعَدَمُ وَحْدَتِهِ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ .
وَلَمَّا كَانَ السَّلَمُ عَقْدًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْإِنْكَارُ ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَكَانَ الْمَحَلُّ مُخْتَلِفًا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ مُعْتَبَرًا فَكَأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْوَحْدَةِ بِاللُّزُومِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسَادِ لَا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ وَعَنْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ اللُّزُومِ لِانْقِلَابِهِ عَقْدًا آخَرَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فِي الْمُضَارَبَةِ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ قَالَ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْمُضَارِبِ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الِاخْتِلَافُ وَيَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ مَا يَدَّعِيهِ

الْمُضَارِبُ فِي مَالِهِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُذْرَ الْمَذْكُورَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى انْتِفَاءِ وُرُودِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَهَاهُنَا قَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ بِقَوْلِهِ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ مَا يَدَّعِيهِ وَيَدَّعِي بِقَوْلِهِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ فَسَادَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ ، كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَرَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ وَهُوَ الْمُضَارِبُ كَمَا فِي السَّلَمِ ، وَهَذَا الْمَحَلُّ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الْكِتَابِ وَجُهْدُ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقْعَةً ) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ حَرِيرٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِيهِ .قَالَ ( وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إلَخْ ) السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ جَائِزٌ إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالرُّقْعَةَ .
يُقَالُ رُقْعَةُ هَذَا الثَّوْبِ جَيِّدَةٌ يُرَادُ غِلَظُهُ وَثَخَانَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبَ حَرِيرٍ وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ الْمَطْبُوخِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحَرِيرِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ ، فَذِكْرُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لَيْسَ بِكَافٍ وَلَا ذِكْرُ الْوَزْنِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ رُبَّمَا يَأْتِي وَقْتُ حُلُولِ الْأَجَلِ بِقَطْعِ حَرِيرٍ بِذَلِكَ الْوَزْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ لَا مَحَالَةَ ، وَأَمَّا فِي الثِّيَابِ فَالْوَزْنُ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اشْتِرَاطَ الْوَزْنِ فِي الْوَذَارِيِّ وَمَا يَخْتَلِفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ .

( وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ وَلَا فِي الْخَرَزِ ) لِأَنَّ آحَادَهَا مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِقَالَ ( وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ إلَخْ ) الْعَدَدِيُّ الَّذِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى النِّزَاعِ .
وَفِي الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ جَازَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ فَلَا تَفَاوُتَ فِي الْمَالِيَّةِ .

( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا ) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا سُمِّيَ الْمَلْبَنُ .( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبَنِ وَالْآجُرِّ ) إذَا اشْتَرَطَ فِيهِ مَلْبَنًا مَعْرُوفًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى الْمَلْبَنَ صَارَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ لَبَنٍ وَلَبَنٍ يَسِيرًا فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ .

قَالَ ( وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ( وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ ، وَبِدُونِ الْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِقَالَ ( وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ إلَخْ ) هَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَكَسَهَا فَقَالَ وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، وَلَا يَنْعَكِسُ قَوْلُنَا كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ إلَى كُلُّ مَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَاعِدَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفُرُوعِ ، وَالْأَصْلُ ذِكْرُ الْقَاعِدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ تَفْرِيعُ الْفُرُوعِ عَلَيْهَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ ضَبْطِ الصِّفَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ } الْحَدِيثَ ، وَحِينَئِذٍ كَانَ مِثْلَ قَوْلِنَا كُلُّ إنْسَانٍ نَاطِقٌ وَهُوَ يَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ مَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَيْسَ بِنَاطِقٍ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْقَاعِدَةِ عَلَى الْفُرُوعِ يَلِيقُ بِوَضْعِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأَمَّا فِي الْفِقْهِ فَالْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ فَتُقَدَّمُ الْفُرُوعُ ثُمَّ يُذْكَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لِلْفُرُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ .

( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَجْهُولٌ .
قَالَ ( وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) لِلْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِالتَّعَامُلِ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعًا لَا عِدَةً ، وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالِاخْتِيَارِ ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
قَالَ ( وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا .
أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ كَالثِّيَابِ لِعَدَمِ الْمُجَوَّزِ وَفِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَمْكَنَ إعْلَامُهُ بِالْوَصْفِ لِيُمْكِنَ التَّسْلِيمُ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِغَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ يَصِيرُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَلَوْ ضَرَبَهُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِصْنَاعِ فَيُحَافَظُ عَلَى قَضِيَّتِهِ وَيُحْمَلُ الْأَجَلُ

عَلَى التَّعْجِيلِ ، بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمَ ، وَجَوَازُ السَّلَمِ بِإِجْمَاعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ فِيهَا شَرَائِطُ السَّلَمِ ، وَإِلَّا فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) أَيْ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ خَيْرٌ فَيَنْتَفِي .
قَالَ ( وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْأَجَلِ جَازَ إلَخْ ) الِاسْتِصْنَاعُ هُوَ أَنْ يَجِيءَ إنْسَانٌ إلَى صَانِعٍ فَيَقُولَ اصْنَعْ لِي شَيْئًا صُورَتُهُ كَذَا وَقَدْرُهُ كَذَا بِكَذَا دِرْهَمًا وَيُسْلِمُ إلَيْهِ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ لَا يُسْلِمُ ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ : أَيْ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ طَسْتٍ وَقُمْقُمٍ وَخُفَّيْنِ أَوْ لَا .
وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا كَمَا سَيَجِيءُ وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَلَمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ أَجَلٌ ، إلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ : بِغَيْرِ أَجَلٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُلِ ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ تَعَارَفُوا الِاسْتِصْنَاعَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمِثْلِهِ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ ، وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ فِيهَا لِلنَّاسِ تَعَامُلًا ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا كَانَ ثَابِتًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ هَلْ هُوَ بَيْعٌ أَوْ عِدَةٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَيْعٌ لَا عِدَةٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا ، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ : هُوَ مُوَاعَدَةٌ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ .
وَجْهُ الْعَامَّةِ أَنَّهُ سَمَّاهُ فِي الْكِتَابِ بَيْعًا وَأَثْبَتَ فِيهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ، وَذَكَرَ الْقِيَاسَ

وَالِاسْتِحْسَانَ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ لَا فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ ، كَمَا إذَا طَلَبَ مِنْ الْحَائِكِ أَنْ يَنْسِجَ لَهُ ثَوْبًا بِغَزْلٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ لَهُ قَمِيصًا بِكِرْبَاسَ مِنْ عِنْدِهِ ، وَالْمُوَاعَدَةُ تَجُوزُ فِي الْكُلِّ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاعَدَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إذَا تَبَايَعَا عَرَضَا بِعَرْضٍ وَلَمْ يَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ وَهُوَ بَيْعٌ مَحْضٌ لَا مَحَالَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا وَالْمَعْدُومُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا .
أَجَابَ ( بِأَنَّ الْمَعْدُومَ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا ) كَالنَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً لِعُذْرِ النِّسْيَانِ ، وَالطَّهَارَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً لِعُذْرِ جَوَازِ الصَّلَوَاتِ لِئَلَّا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَصْنَعُ الْمَعْدُومُ جُعِلَ مَوْجُودًا حُكْمًا لِلتَّعَامُلِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ الْمُسْتَصْنَعَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الصُّنْعَ .
أَجَابَ ( بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ ) وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ طَلَبُ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا بَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَكِنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ لِلِاسْتِصْنَاعِ شَبَهًا بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ طَلَبَ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ ، وَشَبَهًا بِالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَيْنُ الْمُسْتَصْنَعُ ، فَلِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلِشَبَهِهِ

بِالْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَجْرَيْنَا فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَأَثْبَتْنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَلَمْ نُوجِبْ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّبَّاغِ ، فَإِنَّ فِي الصَّبْغِ الْعَمَلَ وَالْعَيْنَ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، وَذَلِكَ إجَارَةٌ مَحْضَةٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّبْغَ أَصْلٌ وَالصَّبْغُ آلَتُهُ فَكَانَ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعَمَلَ وَذَلِكَ إجَارَةٌ وَرَدَتْ عَلَى الْعَمَلِ فِي عَيْنِ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَهَاهُنَا الْأَصْلُ هُوَ الْعَيْنُ الْمُسْتَصْنَعُ الْمَمْلُوكُ لِلصَّانِعِ فَيَكُونُ بَيْعًا ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا غَيْرُ ( وَلَا يَتَعَيَّنُ ) الْمُسْتَصْنَعُ ( إلَّا بِاخْتِيَارِ ) الْمُسْتَصْنِعِ ( حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ وَهَذَا كُلُّهُ ) أَيْ كَوْنُهُ بَيْعًا لَا عِدَةً ، وَكَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ دُونَ الْعَمَلِ ، وَعَدَمُ تَعَيُّنِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .
قَالَ ( وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَخْ ) أَيْ الْمُسْتَصْنِعُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ بَائِعٌ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِ بَيْعًا لَا عِدَةً .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَإِتْلَافُ الْخَيْطِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا .
أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا ، وَأَمَّا

الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ أَتْلَفَ مَالَهُ بِقَطْعِ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ لِيَصِلَ إلَى بَدَلِهِ ، فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ تَضَرَّرَ الصَّانِعُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَشْتَرِيهِ بِمِثْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاعِظَ إذَا اسْتَصْنَعَ مِنْبَرًا وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَالْعَامِّيُّ لَا يَشْتَرِيهِ أَصْلًا .
فَإِنْ قِيلَ : الضَّرَرُ حَصَلَ بِرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا .
أُجِيبَ بِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مَجْبُورٌ عَلَى الْقَبُولِ فَلَمَّا عَلِمَ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ رِضَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ لِجَهْلٍ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ خِيَارَ الْمُسْتَصْنِعِ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِلْمُ أَقْوَالِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَإِنَّمَا الْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا بُدَّ لِإِقَامَةِ الدِّينِ مِنْهَا لَا فِي حِيَازَةِ اجْتِهَادِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ بِحُرٍّ ثُمَّ بَلَغَتْ فَإِنَّ لَهَا خِيَارَ الْبُلُوغِ ، فَإِنْ سَكَتَتْ لِجَهْلِهَا بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِعُذْرٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا بُدَّ لِإِقَامَةِ الدِّينِ مِنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِصْنَاعُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْقُمْصَانِ إبْقَاءً لَهُ عَلَى الْقِيَاسِ السَّالِمِ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ : بِغَيْرِ أَجَلٍ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَأَمَّا إذَا ضُرِبَ الْأَجَلُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ ، أَمَّا الْمَذْكُورُ عَلَى

سَبِيلِ الِاسْتِعْجَالِ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ لَا يُصَيِّرُهُ سَلَمًا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ حِينَئِذٍ لِلْفَرَاغِ لَا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَيُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَصْنِعِ فَهُوَ لِلِاسْتِعْجَالِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ سَلَمًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الصَّانِعِ فَهُوَ سَلَمٌ ؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ ، وَفِيمَا إذَا صَارَ سَلَمًا يُعْتَبَرُ شَرَائِطُ السَّلَمِ الْمَذْكُورَةِ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِصْنَاعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ سَلَمًا ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَهُوَ مُمْكِنُ الْعَمَلِ ، وَذِكْرُ الْأَجَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سَلَمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَكَّمٍ فِيهِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْجِيلِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْمُحَكَّمُ وَالْمُحْتَمَلُ فَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ( بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَإِنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمِ ) وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّفْظَ مُحَكَّمٌ فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْأَجَلِ أَدْخَلَهُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ ( وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ فِي فِعْلِ الصَّحَابَةِ فِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ شُبْهَةٌ ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ ثَابِتٌ بِآيَةِ الْمُدَايَنَةِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ

( مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ ) قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ } وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَجَوَازُ الْبَيْعِ يُشْعِرُ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَ مُنْتَفِيًا .
وَلَنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ } وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَلْعًا لَهُمْ عَنْ الِاقْتِنَاءِ وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ .
وَقَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّنَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
.

مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ ) أَيْ هَذِهِ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ نُثِرَتْ عَنْ أَبْوَابِهَا وَلَمْ تُذْكَرْ ثَمَّةَ فَاسْتُدْرِكَتْ بِذِكْرِهَا هَاهُنَا .
قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ ) بَيْعُ الْكَلْبِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ جَائِزٌ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، أَمَّا الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَكُونُ مَالًا .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ بِغَيْرِ الِاصْطِيَادِ ، فَإِنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَحْفَظُ بَيْتَ صَاحِبِهِ وَيَمْنَعُ الْأَجَانِبَ عَنْ الدُّخُولِ فِي بَيْتِهِ وَيُخْبِرُ عَنْ الْجَائِي بِنُبَاحِهِ فَسَاوَى الْمُعَلَّمَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ) أَيْ الْجَارِحِ ( لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ) وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إمْسَاكِهِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ .
قُلْنَا : كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ لِلزَّرْعِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ } ) السُّحْتُ : هُوَ الْحَرَامُ .
وَالْبَغِيُّ : الزَّانِيَةُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَتَرْكُ التَّاءِ إلْحَاقًا بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِمْ مِلْحَفَةٌ جَدِيدٌ .
( وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ) بِدَلَالَةِ نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ ثَابِتَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ مُنْتَفِيًا ( وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ } ) وَهِيَ الَّتِي تَحْرُسُ الْمَوَاشِيَ .
وَاعْتُرِضَ

بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى جَوَازُ بَيْعِ الْكِلَابِ مُطْلَقًا ، وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ لَا غَيْرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ لِإِبْطَالِ شُمُولِ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ ، وَأَمَّا إثْبَاتُ الْمُدَّعَى فَثَابِتٌ بِحَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلْبٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا } مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِهِ بِنَوْعٍ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَدَّثَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا } وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ كَمَا تَرَى .
وَقِيلَ الِاسْتِدْلَال يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ سِوَى الْعَقُورِ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مُلْحَقٌ بِهِ دَلَالَةً ( وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا ) لَفٌّ وَنَشْرٌ ( فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ) .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَنَافِعِ الْكَلْبِ لَا بِعَيْنِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَالِيَّةِ عَيْنِهِ كَالْآدَمِيِّ يُنْتَفَعُ بِمَنَافِعِهِ بِالْإِجَارَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَالثَّانِي أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَسَاكِفَةُ وَلَيْسَ بِمَالٍ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَنْفَعَةِ الْكَلْبِ يَقَعُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْعَيْنِ لَا قَصْدًا فِي الْمَنْفَعَةِ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُورَثُ وَالْمَنْفَعَةُ وَحْدَهَا لَا تُورَثُ فَجَرَى مَجْرَى الِانْتِفَاعِ بِمَنَافِع الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَجَمِيعِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ شَرْعًا فَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ وَسَقَطَ التَّقَوُّمُ وَالْإِبَاحَةُ لِضَرُورَةِ الْخَرَزِ لَا تَدُلُّ عَلَى

رَفْعِ الْحُرْمَةِ فِيمَا عَدَاهَا كَإِبَاحَةِ لَحْمِهِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الِانْتِفَاعُ ثَبَتَ فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالزَّنَابِيرِ ؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا ( قَوْلُهُ : وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ ، وَتَقْرِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ } وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ نَهْيٍ اُنْتُسِخَ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ ، وَكَانَتْ تُؤْذِي الضِّيفَانَ وَالْغُرَبَاءَ فَنُهُوا عَنْ اقْتِنَائِهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَنُهُوا عَنْ بَيْعِهَا تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ ، ثُمَّ رُخِّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَمَنِ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْكِلَابِ .
فَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الْحَدِيثُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالثَّمَنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُبَايَعَةِ .
( قَوْلُهُ : وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ بِالْمَنْعِ ، فَإِنَّ تَمْلِيكَهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَجُوزُ بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ نَجِسُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ كَالسِّرْقِينِ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إلَخْ ) بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِلْمُسْلِمِ غَيْرُ جَائِزٍ : يَعْنِي أَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَتَقَدَّمَ وُقُوعُهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ .
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا } قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُكَنَّى أَبَا عَامِرٍ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ ، فَأَهْدَى إلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي حُرِّمَتْ رَاوِيَةً كَمَا كَانَ يُهْدِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِخَمْرِك ، قَالَ : فَخُذْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِعْهَا وَاسْتَعِنْ بِثَمَنِهَا عَلَى حَاجَتِك ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا } .

قَالَ ( وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ { فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مُحْتَاجُونَ كَالْمُسْلِمِينَ .
قَالَ ( إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً ) فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ ، وَعَقْدُهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ .
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا .

قَالَ ( وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ ) قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : لَا يَجُوزُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الرِّبَا وَلَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَوَانِ وَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَةً وَلَا الصَّرْفُ نَسِيئَةً وَلَا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا ، هُمْ فِي الْبُيُوعِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ { فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ يَعْنِي بِالْمُعَامَلَاتِ بِالِاتِّفَاقِ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا تَبْقَى بِهِ نُفُوسُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَا تَبْقَى الْأَنْفُسُ إلَّا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَيْهِمَا كَالْعَقْدِ عَلَى الْعَصِيرِ وَالشَّاةِ فِي كَوْنِهِمَا أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً فِي اعْتِقَادِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَّالِهِ حِينَ حَضَرُوا إلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ : يَا هَؤُلَاءِ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ فِي الْجِزْيَةِ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْخَمْرَ ، فَقَالَ بِلَالٌ : أَجَلْ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ ، وَلَكِنْ وَلُّوا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّمِينِ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَتَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا ، ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِهَا شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ لَكِنْ مِنْ شَرْطِهَا الْمُقَابَلَةُ تَسْمِيَةً وَصُورَةً ، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ شَرْطُهَا فَيَصِحُّ ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَصِحَّ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ ) صُورَتُهُ أَنْ يَطْلُبَ إنْسَانٌ مِنْ آخَرَ شِرَاءَ عَبْدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرْغَبُ فِيهِ إلَّا بِأَلْفٍ فَيَجِيءُ آخَرُ وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ بِعْ عَبْدَك هَذَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّامِنِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ ( أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَتُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِلْحَاقَ ( تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا ) فَصَارَ الْفَضْلُ فِي ذَلِكَ كَبَدَلِ الْخُلْعِ فِي كَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ فَجَازَ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَهُوَ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُقَابَلَةُ صُورَةً وَإِنْ فَاتَتْ مَعْنًى لِيَخْرُجَ عَنْ حَيِّزِ الْحُرْمَةِ ، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِحُّ ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ صَارَ ذِكْرُ خَمْسِمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ رِشْوَةً مِنْهُ عَلَى الْبَيْعِ بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْمَالِ ، وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ لَا تَلْزَمُ بِالضَّمَانِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ كَيْفَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
الثَّانِي لَوْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ ثَمَنًا لَتَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الضَّامِنُ وَلَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ .
الثَّالِثُ أَنَّ

أَصْلَ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَبِيعِ لِغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ، وَالْفِكْرُ الصَّائِبُ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا ، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ ذَلِكَ لِلتَّحْقِيقِ ، فَإِنَّ وُرُودَ السُّؤَالِ إذَا كَانَ لِغُمُوضِ فَهْمِ أَصْلِ الْكَلَامِ فَجَوَابُهُ تَكْرَارُهُ ، وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فُضُولَ الثَّمَنِ قَدْ تَسْتَغْنِي عَنْ أَنْ تُقَابَلَ بِالْمَالِ جُزْءًا فَجُزْءًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ خَالِيًا عَمَّا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ ، كَالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ يُسَاوِي الثَّمَنَ بِلَا زِيَادَةٍ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَابِتَةً بِلَا بَدَلٍ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ بَطَلَ مِمَّنْ الْتَزَمَهُ لَا غَيْرُ ، وَالْمُلْتَزِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْأَجْنَبِيُّ فَلَا يَتَوَجَّهُ الطَّلَبُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الثَّمَنِ ، فَإِنَّ أَصْلَ الثَّمَنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ كَالزِّيَادَةِ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وُجُوبِهِ عَلَى الْغَيْرِ عَدَمُ جَوَازِ مَا لَا يَلْزَمُ وُجُوبُ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَتِهِ .
وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالْخَمْسُمِائَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامُ فِي الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ : بَعْضُ الْكُتَّابِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا ، وَقِيلَ إذَا وَرَدَ مِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَدَ إضَافَةُ الْخَمْسَةِ بَلْ الْجَرُّ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ : أَيْ الْخَمْسِ خَمْسِمِائَةٍ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ) لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ .
( وَهَذَا قَبْضٌ ) لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ ( إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ بِقَبْضٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَلَا كَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَافْتَرَقَا .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا إلَخْ ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا بِرَجُلٍ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ جَازَ النِّكَاحُ ( لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ ) لِلنِّكَاحِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ ) وَمَا ثَمَّةَ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَصَرُّفٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَهَذَا التَّزْوِيجُ يَكُونُ قَبْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ ( وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا ) الزَّوْجُ ( فَلَيْسَ ) أَيْ مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ ( قَبْضًا ) اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ قَبْضٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، حَتَّى إنْ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَيْبٌ حُكْمِيٌّ ، حَتَّى لَوْ وَجَدَهَا الْمُشْتَرِي ذَاتَ زَوْجٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ قَابِضًا فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّعْيِيبُ الْحَقِيقِيُّ كَقَطْعِ الْيَدِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي التَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ بِاتِّصَالِ فِعْلٍ مِنْهُ إلَيْهِ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِيِّ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا ، وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ إتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ وَإِنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَعْرُوفَةً لَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِ الْبَائِعِ ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي ( وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ ) لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَالْمَبِيعُ لَمْ يُقْبَضْ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ ، ثُمَّ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ وَإِنْ نَقَصَ يَتْبَعُ هُوَ أَيْضًا .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَيَقْبِضَهُ ، وَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ حَتَّى يَنْقُدَ شَرِيكُهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا دَفَعَ الْحَاضِرُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا نَصِيبَهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا يَقْبِضُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ الْمُشْتَرِي إلَخْ ) رَجُلٌ اشْتَرَى مَنْقُولًا فَغَابَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَطَلَبَ الْبَائِعُ مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ الْعَبْدِ بِثَمَنِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ ، فَإِذَا أَقَامَهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ مَعْرُوفَةً أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَبِعْهُ فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ مُمْكِنٌ وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بَاعَ الْعَبْدَ وَأَدَّى الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُقِرَّ بِهِ وَقَدْ أُقِرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ فَيُعْتَبَرُ كَذَلِكَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِهِ وَالْقَوْلُ : قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ ، فَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ كَانَ مَسْمُوعًا ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَامِلًا صَحَّ بِحُكْمِ الْيَدِ ، فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهِ نَاقِصًا مَشْغُولًا بِحَقِّهِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَاقِصًا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الِاسْتِيفَاءَ وَقَدْ تَعَذَّرَ فَيَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ ، كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِالْمَرْهُونِ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ إنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ ، وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ مُفْلِسًا فَإِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ فِي ثَمَنِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَلْ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَنَا .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ إنْكَارَ الْخَصْمِ وَذَلِكَ مِنْ الْغَائِبِ مَجْهُولٌ .
الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ قَوْلٌ بِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ .

الثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مَقْبُوضًا وَغَيْرَ مَقْبُوضٍ فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ لَا لِلْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا الْقَاضِي يَقْضِي بِمُوجِبِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِمَا فِي يَدِهِ ، وَفِي ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَى إنْكَارِ الْخَصْمِ .
وَعَنْ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّ الْقَاضِيَ يُنَصِّبُ مَنْ يَقْبِضُ الْعَبْدَ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَبِيعُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي كَبَيْعِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَكَذَا مَنْ يُجْعَلُ وَكِيلًا عَنْهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْبَائِعِ وَقَدْ يُتَسَامَحُ بِتَأْخِيرِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ وَالْبَيْعُ يَحْصُلُ ضِمْنًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ضِمْنًا مَا لَا يَثْبُتُ قَصْدًا .
وَعَنْ الثَّالِثِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ بِالْإِقْرَارِ بِمَا فِي يَدِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ التَّحَكُّمُ ( ثُمَّ إذَا بَاعَهُ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ ، وَإِنْ نَقَصَ يُتْبَعُ هُوَ ) أَيْ يَتْبَعُ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَالْحَاضِرُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ نَصِيبِهِ حَتَّى يَنْقُدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، فَإِذَا نَقَدَهُ أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَتَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْحَاضِرِ ، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَهُ لِأَجْلِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ نَصِيبَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا

نَقَدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَوْ قَبِلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَالْحَاضِرُ لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ مُهَايَأَةً لَا غَيْرُ ، فَإِذَا قَبَضَ الْحَاضِرُ الْعَبْدَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ بِمَا نَقَدَهُ لِأَجْلِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ ( وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا رُجُوعَ فِي ذَلِكَ ( وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ) فَلَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ ، وَلِكَوْنِ الْبَائِعِ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ ) فَإِنَّ مَنْ أَعَارَ شَيْئًا رَجُلًا لِيَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الرَّاهِنُ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَابَ فَافْتَكَّهُ الْمُعِيرُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِاضْطِرَارِهِ فِي الْقَضَاءِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ فَإِنَّ لِلضَّرُورَاتِ أَحْكَامًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِالِاضْطِرَارِ صَحِيحًا لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ حَالَةِ حُضُورِ الشَّرِيكِ وَغَيْبَتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إلَّا بَعْدَ نَقْدِ صَاحِبِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاضْطِرَارَ فِي حَالَةِ حُضُورِهِ مَفْقُودٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَنْقُدَ نَصِيبَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ قَبْضِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِخِلَافِ حَالِ غَيْبَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ نَقْدِ الْأُجْرَةِ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَنَقَدَ الْحَاضِرُ كُلَّ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي نَقْدِ

نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ إذْ لَيْسَ لِلْآجِرِ حَبْسُ الدَّارِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ .
كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ ( وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَلْفَ إلَيْهِمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ إلَخْ ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ صَحَّ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ ( لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَهُوَ عَطْفٌ مَعَ الِافْتِقَارِ وَالْعَطْفُ مَعَ الِافْتِقَارِ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَوْلَوِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ التَّسَاوِي .
قِيلَ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَيِّدَ الْمُصَنِّفُ بِالْجَوْدَةِ أَوْ الرَّدَاءَةِ أَوْ الْوَسَطِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَبَايَعُونَ بِالتِّبْرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الصِّفَةِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَلِهَذَا قَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبُيُوعِ الْأَصْلِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَرَكَهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجَبَ الْمُشَارَكَةُ كَمَا فِي الْأَوَّلِ لِلْعَطْفِ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : النَّظَرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ يَقْتَضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ بِدَرَاهِمِهِ ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ كَهُوَ فِي الْأَصْلِ ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ .
حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ جَازَ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَبْقَى حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٌ إلَخْ ) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٌ ( فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَالْقَابِضُ لَمْ يَعْلَمْ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْجِيَادِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ ) مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ ، كَمَا أَنَّ حَقَّهُ مَرْعِيٌّ فِي الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ ، فَلَوْ نَقَصَ عَنْ كَمِّيَّةِ حَقِّهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِهِ فَكَذَا إذَا نَقَصَ فِي كَيْفِيَّتِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ مُنْفَرِدًا لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِ وَهَدَرِهِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ بِالْمَقْبُوضِ حَاصِلًا ، فَلَمْ يَبْقَ حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ وَتَدَارُكُهَا مُنْفَرِدَةً بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ هَدَرٌ وَلَا عَقْلًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الِانْفِكَاكِ ، وَلَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ حِينَئِذٍ هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ مُسْتَوْفٍ فَإِيجَابُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِهِ إيجَابٌ عَلَيْهِ لَهُ ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُفِدْ وَهَاهُنَا يُفِيدُ فَصَارَ كَكَسْبِ الْمَأْذُونِ لَهُ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى صَحَّ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ إحْيَاءُ حَقِّ صَاحِبِهِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ عَلَيْهِ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَائِدَةَ ثَمَّةَ إنَّمَا هِيَ لِلْغُرَمَاءِ فَكَانَ تَضْمِينَ

الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْوَصْفَ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ تَابِعًا لَهُ .

قَالَ ( وَإِذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ ) وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا ( وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ ) لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ ، وَكَذَا الْبَيْضُ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ فَصَارَ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِلْجَفَافِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِأَرْضِهِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ فِي أَرْضِهِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَخْ ) إذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ وَلَمْ يُعِدَّهَا لِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْهُ ( فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ ، وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا أَوْ تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : تَكَسَّرَ فِيهَا ظَبْيٌ ( لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ) فَيَمْلِكُهُ ( وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَيْدٌ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ ) بِالْحَدِيثِ ، وَكَوْنُهُ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ كَصَيْدٍ انْكَسَرَ رِجْلُهُ بِأَرْضِ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ لِلْآخِذِ دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالتَّكَنُّسُ : التَّسَتُّرُ ، وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ دَخَلَ فِي الْكِنَاسِ وَهُوَ مَوْضِعُ الظَّبْيِ ، وَمَعْنَى تَكَسَّرَ انْكَسَرَ رِجْلُهُ ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ كَسَرَهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ ( وَالْبَيْضُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ ) ( قَوْلُهُ : وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ لِذَلِكَ ) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ بِأَنْ حَفَرَهَا لِيَقَعَ فِيهَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُصَادُ بِهِ كَانَ لَهُ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعُدَّهَا فَهِيَ كَشَبَكَةٍ نُصِبَتْ لِلْجَفَافِ فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ فَهُوَ لِلْآخِذِ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَيْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ ( أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ ) فَإِنَّ الْعَسَلَ لِصَاحِبِهَا ( لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ ) أَيْ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ بِتَأْوِيلِ الْمَكَانِ ؛ جَمْعُ نُزُلٍ : وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ مِنْهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَسَلَ صَارَ قَائِمًا بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ فَصَارَ تَابِعًا لَهَا ( كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ ) بِخِلَافِ الصَّيْدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الصَّرْفِ ) قَالَ ( الصَّرْفُ هُوَ الْبَيْعُ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِوَضَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ) سُمِّيَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ .
وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا الزِّيَادَةَ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ ، وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا .
قَالَ ( فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوز إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ يَدًا بِيَدِ وَالْفَضْلُ رِبًا } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ .
.

الصَّرْفُ بَيْعُ خَاصٍّ ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِهِ عَلَى السَّلَمِ فِي أَوَّلِ السَّلَمِ ، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ صَرْفًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ : إمَّا ( لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ .
وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا الزِّيَادَةُ ) يَعْنِي لَا يُطْلَبُ بِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا زِيَادَةٌ تَحْصُلُ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا مِنْ الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ ، إذْ النُّقُودُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهَا كَمَا يُنْتَفَعُ بِغَيْرِهَا مِمَّا يُقَابِلُهَا مِنْ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَرْكُوبِ ، فَلَوْ لَمْ يُطْلَبْ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالْعَيْنُ حَاصِلَةٌ فِي يَدِهِ مَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } الْآيَةَ ، وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ } الْحَدِيثَ ، وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ الزِّيَادَةَ ( وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً ، كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ ) نَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى صَرْفًا ( وَمِنْهُ ) أَيْ مِنْ كَوْنِ الصَّرْفِ هُوَ الزِّيَادَةَ لُغَةً ( سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَالْعَدْلُ هُوَ الْفَرْضُ ، سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ أَدَاءَ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ .
وَشُرُوطُهُ عَلَى الْإِجْمَالِ : التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَدَنًا ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِيَارٌ وَلَا تَأْجِيلٌ .
وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ : بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَبَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ .
قَالَ ( فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ إلَخْ ) فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَحْسَنَ

صِيَاغَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } الْحَدِيثَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَابِ الرِّبَا .
حَدَّثَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِنَاءٍ كُسِرَ وَإِنِّي قَدْ أَحْكَمْت صِيَاغَتَهُ ، فَبَعَثَنِي بِهِ لِأَبِيعَهُ ، فَأُعْطِيت بِهِ وَزْنَهُ وَزِيَادَةً فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ : أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا .

قَالَ ( وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا لِيَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَوَجَبَ قَبْضُهُمَا سَوَاءٌ كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِافْتِرَاقُ بِالْأَبْدَانِ ، حَتَّى لَوْ ذَهَبَا عَنْ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ ، وَكَذَا الْمُعْتَبَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ فِيهِ .

قَالَ ( وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ) قَبْضُ عِوَضِ الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ وَاجِبٌ بِالْمَنْقُولِ وَهُوَ ( مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ { يَدًا بِيَدٍ } وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ ) وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَبْضِ كَمَا تَرَى .
وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ ( أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا إخْرَاجًا لِلْعَقْدِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَبْضَ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ نَفْيًا لِتَحَقُّقِ الرِّبَا ) ( قَوْلُهُ : فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ) قِيلَ هُوَ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِ النَّفْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ثُمَّ لَا بُدَّ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ لَيْسَ أَوْلَى بِالْقَبْضِ مِنْ الْآخَرِ فَيَجِبُ قَبْضُهُمَا مَعًا ( وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ مَا كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ } الْحَدِيثَ ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْمَصُوغَ وَغَيْرَهُ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ إلَخْ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ بَيْعُ الْمَضْرُوبِ بِالْمَضْرُوبِ بِلَا قَبْضٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِكَالِئٍ ، وَبَيْعُ الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعَيُّنِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَصُوغَ وَإِنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَلْزَمُ فِي بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِالْمَصُوغِ نَسِيئَةً شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِالْمَضْرُوبِ نَسِيئَةً شُبْهَةَ الْفَضْلِ ، فَإِذَا بِيعَ مَضْرُوبٌ بِمَصُوغٍ نَسِيئَةً وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ خُلِقَ ثَمَنًا شُبْهَةَ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَتِلْكَ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى

الشُّبْهَةِ الْأُولَى وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْمَضْرُوبِ نَسِيئَةً بِقَوْلِهِ { يَدًا بِيَدٍ } لَا بِالشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ مُضَافٌ إلَيْهِ لَا إلَى الْعِلَّةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ ( وَالْمُرَادُ بِالِافْتِرَاقِ مَا يَكُونُ بِالْأَبْدَانِ حَتَّى لَوْ مَشَيَا مَعًا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ ) وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَبَلَةَ .
قَالَ : سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُلْت : إنَّا نَقْدَمُ أَرْضَ الشَّامِ وَمَعَنَا الْوَرِقُ الثِّقَالُ النَّافِقَةُ وَعِنْدَهُمْ الْوَرِقُ الْكَاسِدَةُ فَنَبْتَاعُ وَرِقَهُمْ الْعَشَرَةَ بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ بِعْ وَرِقَك بِذَهَبٍ وَاشْتَرِ وَرِقَهُمْ بِالذَّهَبِ ، وَلَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ ، وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا بَيَّنَ جَوَابَ مَا سُئِلَ عَنْهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ الطَّرِيقَ الْمُحَصِّلَ لِمَقْصُودِهِ مَعَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْمُومٌ مِنْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ .
وَقَيَّدَ مَشْيَهُمَا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَشَيَا إلَى جِهَتَيْنِ يُوجِبُ تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ التَّفَرُّقِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ) يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلُ الصَّرْفُ يُرِيدُ أَنَّ مَشْيَ الْمُخَيَّرَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يُبْطِلُ خِيَارَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ .

( وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ ) لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ ( وَوَجَبَ التَّقَابُضُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ } ( فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ وَلَا الْأَجَلُ لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا وَبِالثَّانِي يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ ، إلَّا إذَا أُسْقِطَ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ وَوَجَبَ التَّقَابُضُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ } ) عَلَى وَزْنِ هَاعَ بِمَعْنَى خُذْ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } ( قَوْلُهُ : فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ : يَعْنِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَقَاءِ وَهَذَا صَحِيحٌ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ الصِّحَّةِ ، فَإِنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ وَالْقَبْضُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَمَا أُجِيبَ بِهِ بِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ مَا يُشْتَرَطُ مُقَارِنًا لِحَالَةِ الْعَقْدِ ، إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ مُقَارِنًا لِحَالَةِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، فَعَلَّقْنَا الْجَوَازَ بِقَبْضٍ يُوجَدُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ حُكْمَ حَالَةِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، فَصَارَ الْقَبْضُ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي مَجْلِسِهِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ حُكْمًا ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ كَانَ شَرْطُ الْجَوَازِ ، فَكَذَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا حُكْمًا فَعَلَى مَا تَرَى فِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ بِلَا قَبْضٍ مُبْطِلٌ ( لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الصَّرْفِ وَلَا الْأَجَلِ ) بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ ( ؛ لِأَنَّ بِالْخِيَارِ لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا ) لِمَنْعِهِ الْمِلْكَ ( وَبِالْأَجَلِ يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ فِي الْخِيَارِ يَتَأَخَّرُ الْقَبْضُ إلَى زَمَانِ سُقُوطِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي

الْحَالِ مُسْتَحَقًّا وَفِي الْأَجَلِ ذَكَرَ فِي الْعَقْدِ مَا يُنَافِي الْقَبْضَ ، وَذِكْرُ مُنَافِي الشَّيْءِ مُفَوِّتٌ لَهُ ، كَذَا قِيلَ ، وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ فِي الْأَوَّلِ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ فَائِتٌ ، وَفِي الثَّانِي الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ شَرْعًا فَائِتٌ ( قَوْلُهُ : إلَّا إذَا أُسْقِطَ فِي الْمَجْلِسِ ) يَعْنِي مِنْهُمَا إنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ ( فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ ) اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَإِنْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الْأَجَلِ إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ ، وَالْفَرْقُ يُعْرَفُ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ ، وَقَيَّدَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ يَثْبُتَانِ فِي الصَّرْفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، إلَّا أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الْعَيْنِ لَا الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي رَدِّهِ بِالْخِيَارِ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِثْلَ الْمَرْدُودِ أَوْ دُونَهُ فَلَا يُفِيدُ الرَّدُّ فَائِدَةً .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، حَتَّى لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ فَاسِدٌ ) لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَفِي تَجْوِيزِهِ فَوَاتُهُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي الثَّوْبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِهَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مَبِيعًا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا كَمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ إلَخْ ) التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ ، فَإِذَا بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى إذْ الرِّبَا حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ عَيْنًا كَانَتْ أَوْ دَيْنًا فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ ، إذْ الْإِطْلَاقُ وَالْإِضَافَةُ إلَى بَدَلِ الصَّرْفِ إذْ ذَاكَ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ بَيْعٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَبِيعٍ وَمَا ثَمَّةَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ مَبِيعًا فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَا ثَمَنَيْنِ خِلْقَةً ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْمُقَايَضَةِ ، وَاعْتَبَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَبِيعًا حَقِيقَةً .
قِيلَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ فَإِنَّ مَا دَخَلَهُ الْبَاءُ أَوْلَى بِالثَّمَنِيَّةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَثْمَانِ الْجَعْلِيَّةِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا كَانَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْأَثْمَانِ الْخِلْقِيَّةِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ بَدَلُ الصَّرْفِ مَبِيعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا ، فَقَالَ كَوْنُهُ مَبِيعًا لَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ ، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ كَانَ مَبِيعًا لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِيهِمَا

وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَلَيْسَا فِي مِلْكِهِمَا فَاسْتَقْرَضَا فِي الْمَجْلِسِ وَافْتَرَقَا عَنْ قَبْضٍ صَحَّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ حَالَةَ الْعَقْدِ ثَمَنٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ مُثَمَّنًا بَعْدَ الْعَقْدِ لِضَرُورَةِ الْعَقْدِ فَيُجْعَلُ مُثَمَّنًا بَعْدَهُ ثَمَنًا قَبْلَهُ فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ قَبْلَهُ .

.
قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا .قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً ) إذَا كَانَ الصَّرْفُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ صَحَّ مُجَازَفَةً ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ ، لَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ } وَهُوَ وَالْمَعْقُولُ الْمُتَقَدِّمُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَعَاقِدَانِ قَدْرَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ فِي الْوَاقِعِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَسَاوِيهِمَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ حِينَئِذٍ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمُتَحَقِّقِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ الْمُمَاثَلَةَ فِي عِلْمِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ فِي عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ وَلَمْ تُوجَدْ ؛ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ ، فَإِنْ كَانَا وَزَنَا فِي الْمَجْلِسِ وَعَلِمَا فِي الْمَجْلِسِ تَسَاوِيَهُمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهُ ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا عُرِفَ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْفَرْضُ وُجُودُهَا فِي الْوَاقِعِ .
وَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا هُوَ فِي عِلْمِهِمَا .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ ) لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ وَاجِبٌ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ ( وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ ) لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ ، وَالْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا ( وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : خُذْ هَذِهِ الْخَمْسِينَ مِنْ ثَمَنِهِمَا ) لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذِكْرِهِمَا الْوَاحِدُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ ( فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ ) لِأَنَّهُ صُرِفَ فِيهَا ( وَكَذَا فِي السَّيْفِ إنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الضَّرَرِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ ( وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ لَا يَدْرِي لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِلرِّبَا أَوْ لِاحْتِمَالِهِ ، وَجِهَةُ الصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَجِهَةُ الْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَتَرَجَّحَتْ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إلَخْ ) الْجَمْعُ بَيْنَ النُّقُودِ وَغَيْرِهَا فِي الْبَيْعِ لَا يُخْرِجُ النُّقُودَ عَنْ كَوْنِهَا صَرْفًا بِمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الثَّمَنِ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ فِي الْمَجْلِسِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ ، وَقَبْضُ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلَمِ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ تَفْرِيغًا لِلذِّمَّةِ ، كَمَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً صَلَاتِيَّةً وَسَهَا أَيْضًا ثُمَّ أَتَى بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَسَلَّمَ تُصْرَفُ إحْدَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إلَى الصَّلَاتِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لِيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالٍ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمَا الْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ وَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ فَإِنْ دَفَعَ سَاكِتًا عَنْهُمَا جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْحِلْيَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ ، وَإِنْ صَرَّحَ بِذَكَرِهِمَا فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذَكَرِهِمَا الْوَاحِدُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } وَإِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ ، وَإِنْ قَالَ عَنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ خَاصَّةً فَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنْ قَالَ عَنْ ثَمَنِ السَّيْفِ خَاصَّةً وَقَالَ الْآخَرُ نِعْمَ أَوْ لَا وَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ فِي الْحِلْيَةِ ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ

الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَقْدِ وَالْإِضَافَةِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَعْدَ تَصْرِيحٍ مِنْ الْقَوْلِ قَوْلُهُ : إنَّ الْمَدْفُوعَ ثَمَنُ السَّيْفِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا شَيْئًا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِيهَا .
وَأَمَّا فِي السَّيْفِ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ بِدُونِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِلَا ضَرَرٍ جَازَ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ ) يَعْنِي الثَّمَنَ ( أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ ) أَيْ الْمَبِيعِ تَعْمِيمٌ لِلْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحِلْيَةَ خَمْسُونَ وَالثَّمَنَ مِائَةٌ فَكَانَ ذِكْرُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَكِنَّهُ عَمَّمَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ أَزْيَدَ مِنْ وَزْنِ الْفِضَّةِ الَّتِي مَعَ غَيْرِهَا ، وَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَهَا يُقَابِلُهَا وَالزَّائِدُ يُقَابِلُ الْغَيْرَ فَلَا يُفْضِي إلَى الرِّبَا .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْمُفْرَدَةِ مِثْلَ الْمُنْضَمَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّهُ رِبًا ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا .
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْمُفْرَدَةُ أَقَلَّ وَهُوَ أَوْضَحُ وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُدْرَى مِقْدَارُهَا وَهُوَ فَاسِدٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَتَوَهُّمِ الْفَضْلِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَوَازُ وَالْمُفْسِدُ هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ حُكِمَ بِجَوَازِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَى يَجُوزُ فِي الْوَاقِعِ أَنْ يَكُون مِثْلًا وَأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ وَأَنْ يَكُونَ زَائِدًا ، فَإِنْ كَانَ زَائِدًا جَازَ وَإِلَّا فَسَدَ فَتَعَدَّدَتْ جِهَةُ الْفَسَادِ فَتَرَجَّحَتْ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ

لِلْفَسَادِ فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ .
وَأَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَكْفِي لِلْحُكْمِ فَمَا ظَنُّك بِهِمَا لَا التَّرْجِيحُ الْحَقِيقِيُّ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُفْسِدِ وَالْمُصَحِّحِ فِيمَا يَلْحَقُ الشُّبْهَةُ فِيهِ بِالْحَقِيقَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَكَانَ الْإِنَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ فَصَحَّ فِيمَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَبَطَلَ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ وَالْفَسَادُ طَارِئٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ فَلَا يَشِيعُ .
قَالَ ( وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فِي الْإِنَاءِ .
( وَمَنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا إلَخْ ) وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ وَقَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ دُونَ بَعْضٍ وَافْتَرَقَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ ثَمَنُهُ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَاشْتَرَكَا فِي الْإِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَصَحَّ : أَيْ بَقِيَ صَحِيحًا فِي بَعْضٍ وَبَطَلَ فِي آخَرَ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الْجَوَازِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ طَارِئًا فَلَا يَشِيعُ .
لَا يُقَالُ : عَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا لَا يَجُوزُ ، وَهَاهُنَا الصَّفْقَةُ تَامَّةٌ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى تَمَامِ الصَّفْقَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ إلَخْ ) أَيْ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ تَعَيَّبَ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ تُعَدُّ عَيْبًا لِانْتِقَاصِهَا بِالتَّبْعِيضِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَيَتَخَيَّرُ ، بِخِلَافِ صُورَةِ الِافْتِرَاقِ فَإِنَّ الْعَيْبَ حَدَثَ بِصُنْعٍ مِنْهُ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ .
قَالَ ( وَإِنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ إلَخْ ) الْمُرَادُ بِالنُّقْرَةِ قِطْعَةُ فِضَّةٍ مُذَابَةٌ .
فَإِضَافَةُ الْقِطْعَةِ إلَى النُّقْرَةِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ .
وَإِذَا بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِعَيْبٍ ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ لَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْإِنَاءِ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ : وَلَهُمَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ ، وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى قَلْبًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ بِعْتُك أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ .
وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الدِّرْهَمَيْنِ وَلَا يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ ، وَأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ، وَفِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِهِ لَا أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا عُدَّ مِنْ الْمَسَائِلِ .
أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُرَابَحَةِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ .
وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ

الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَفِي الثَّالِثَةِ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنَكَّرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ .
وَفِي الْأَخِيرَةِ الْعَقْدُ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَالْفَسَادُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ إلَخْ ) رَجُلٌ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الرِّبَوِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّفْقَةُ ، وَكَانَ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ فَسَادُ الْمُبَادَلَةِ يَصْرِفُ كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا إلَى خِلَافِ جِنْسِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ خِلَافًا لَهُمَا ، قَالَا : إنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغَيُّرَ تَصَرُّفِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ ، وَمِنْ قَضِيَّةِ التَّقَابُلِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ ، وَمَعْنَى الشُّيُوعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ حَظٌّ مِنْ جُمْلَةِ الْآخَرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْوُقُوعُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى قَلْبًا : أَيْ سِوَارًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَقَالَ بِعْتُك أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ فَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الدِّرْهَمِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الثَّوْبِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَضِيَّةَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ دُونَ التَّعْيِينِ ، فَالتَّعْيِينُ تَغْيِيرٌ وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ مُقَابَلَةَ

الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ فَكَانَ جَائِزَ الْإِرَادَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ، أَمَّا أَنَّهُ جَائِزُ الْإِرَادَةِ فَلِأَنَّ كُلَّ مُطْلَقٍ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ لَا مَحَالَةَ ، وَلِهَذَا إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْهَا فَسَدَ ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ قَابَلَ الْكُرَّ وَفَضَلَ الْآخَرُ .
وَأَمَّا وُجُوبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ سُلُوكُهُ ، وَلَئِنْ مُنِعَ تَعَيُّنُهُ لِذَلِكَ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ دِرْهَمٌ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ بِمُقَابَلَةِ دِرْهَمٍ وَالدِّرْهَمُ الْآخَرُ بِمُقَابَلَةِ دِينَارٍ مِنْ الدِّينَارَيْنِ وَالدِّينَارُ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ الْآخَرِ .
قُلْنَا : هَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّا مَا أَرَدْنَا مِنْ الطَّرِيقِ إلَّا الصَّرْفَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ .
عَلَى أَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةً وَمَا هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا مُتَعَيِّنٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِ التَّصَرُّفِ أَوْ أَصْلِهِ ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْأَصْلِيَّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ وَصْفِ التَّصَرُّفِ مِنْ الشُّيُوعِ إلَى مُعَيَّنٍ لَمَا كَانَ أَصْلُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ بَاقِيًا ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا .
أَمَّا الْأُولَى : أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُرَابَحَةِ فَبِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ فِي الْأَصْلِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَمْ يُبَيِّنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ

وَالْمُثَمَّنِ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَى النُّقْصَانِ تَغَيُّرُ الْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ ، وَلَعَلَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسَاوَمَةِ ، أَمَّا إذَا صَرَّحَا بِذِكْرِ الْمُرَابَحَةِ فَالتَّغْيِيرُ إلَى التَّوْلِيَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ لَا فِي وَصْفِهِ ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِقَوْلِهِ وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ لِلْمُشْتَرِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهُ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنْكِرِ وَالْمُنْكِرُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ ، وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ وَالشَّيْءُ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ .
وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَفَسَدَ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِافْتِرَاقِ بِلَا قَبْضٍ ، وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ : يَعْنِي أَنَّ الصَّرْفَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ صَحِيحٌ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ الْبَيْعُ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِدِرْهَمٍ ) لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ وَهُمَا جِنْسَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا .قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ إلَخْ ) الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَانَ الْبَدَلَانِ فِيهَا جِنْسَيْنِ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَفِي هَذِهِ أَحَدُهُمَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ كَالْأُولَى ، وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصَّرْفِ التَّمَاثُلُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْبَائِعِ إرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ حَمْلًا عَلَى الصَّلَاحِ ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ .

( وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَمَعَ أَقَلِّهِمَا شَيْءٌ آخَرُ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَاقِي الْفِضَّةِ جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَمَعَ الْكَرَاهَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَالتُّرَابِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا إذْ الزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا .

قَالَ ( وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ إلَخْ ) وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَشَيْئًا مَعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ الْفِضَّةَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ مَثَلًا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ فَتَحَقَّقَ الرِّبَا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَبْلُغُ الْفِضَّةَ كَثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةً جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَكَفٍّ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ جَوْزَةٍ أَوْ بَيْضَةٍ .
وَالْكَرَاهَةُ ، إمَّا ؛ لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِسُقُوطِ الرِّبَا فَيَصِيرُ كَبَيْعِ الْعِينَةِ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ بِالْحِيلَةِ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَأْلَفَ النَّاسُ فَيَسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ فِيمَا لَا يَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت وَلَمْ تَذْكُرْ فِيهَا الْكَرَاهَةَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الدِّينَارُ الزَّائِدُ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ وَقِيمَةُ الدِّينَارِ تَبْلُغُ قِيمَةَ الدِّرْهَمِ وَلَا تَزِيدُ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدِّينَارُ غَيْرَ الْمُصْطَلَحِ وَهُوَ مَا تَكُونُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ السُّؤَالَ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا هِيَ لِلِاحْتِيَالِ لِسُقُوطِ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا إرَادَةُ الْمُبَادَلَةِ ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ إرَادَةَ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَ حَفْنَةٍ مِنْ زَبِيبٍ وَالْفِضَّةِ الزَّائِدَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَ الدِّينَارَ وَتَقَاصَّا الْعَشَرَةَ بِالْعَشَرَةِ فَهُوَ جَائِزٌ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا بَاعَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُهُ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْمَبِيعِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ ، فَإِذَا تَقَاصَّا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَسْخَ الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الدَّيْنِ ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَزُفَرُ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالِاقْتِضَاءِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا .
فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِتَضَمُّنِهِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَكَفَى ذَلِكَ لِلْجَوَازِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَخْ ) مَسْأَلَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا بَيْعُ النَّقْدِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَابِقًا أَوْ مُقَارِنًا أَوْ لَاحِقًا ، فَإِنْ كَانَ سَابِقًا وَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ الْعَقْدَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّذِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَسَقَطَتْ الْعَشَرَةُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَدَلًا عَنْ الدِّينَارِ .
غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ صَرْفٍ وَفِي الصَّرْفِ يُشْتَرَطُ قَبْضُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ .
وَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْآخَرِ احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ حَصَلَ الْأَمْنُ عَنْ خَطَرِ الْهَلَاكِ ، فَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ كَانَ فِيهِ خَطَرُ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي مَعْنَى التَّأَدِّي فَيَلْزَمُ الرِّبَا ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ نَقْدٌ وَبَدَلُهُ وَهُوَ الْعَشَرَةُ سَقَطَ عَنْ بَائِعِ الدِّينَارِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ خَطَرُ الْهَلَاكِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ الْآخَرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا ، وَلَا رِبَا فِي دَيْنٍ يَسْقُطُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا بِأَنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ وَلَمْ يُضِفْ إلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَقَعَ الدِّينَارُ ، فَإِمَّا أَنْ يَتَقَابَضَا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ مَا لَمْ يَتَقَاصَّا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُبْدِلَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَخَذَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَرَضًا .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ وَاجِبُ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ قَبْضِ

الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَدًا بِيَدٍ } وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ وَاجِبُ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ وَالدَّيْنُ قَدْ سَبَقَ وُجُوبُهُ ، لَكِنَّهُمَا إذَا أَقْدَمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ بِتَرَاضِيهِمَا لَا بُدَّ ثَمَّةَ مِنْ تَصْحِيحٍ وَلَا صِحَّةَ لَهَا مَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ فَتُجْعَلُ الْمُقَاصَّةُ مُتَضَمِّنَةً لِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْفَسْخُ ثَابِتًا بِالِاقْتِضَاءِ ، وَلَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا فَسْخَ أَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ لَهُمَا تَغْيِيرُ وَصْفِ الْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ عَدَمَ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ لَوْ مَنَعَ الْمُقَاصَّةَ لَمَا وَقَعَتْ إذَا أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ .
الثَّانِي أَنَّ الثَّابِتَ بِالِاقْتِضَاءِ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمُقْتَضِي ، وَإِذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ الْمُقْتَضِي بَطَلَ الْمُقْتَضَى وَهُوَ الْمُقَاصَّةُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي قِيَامَ الْعَشَرَةِ الثَّابِتَةِ بِالْعَقْدِ وَقَدْ فَاتَ الْفَسْخُ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ فُسِخَ لِلْمُقَاصَّةِ وَجَبَ قَبْضُ الدِّينَارِ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ ؛ لِأَنَّ لِإِقَالَةِ الصَّرْفِ حُكْمَ الصَّرْفِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ ) يَعْنِي الْمَعْهُودَ ( تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ) وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَقْتَضِي قِيَامَ الْعَقْدِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَبْطَلَا عَقْدَ الصَّرْفِ صَارَا كَأَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدًا جَدِيدًا

فَتَصِحُّ الْمُقَاصَّةُ بِهِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ ضِمْنِيَّةٌ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْمُقَاصَّةِ فَجَازَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْإِقَالَةِ حُكْمُ الْبَيْعِ ، وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِالِاقْتِضَاءِ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ فَتَعَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي أَكْرِي إبِلًا بِالْبَقِيعِ إلَى مَكَّةَ بِالدَّرَاهِمِ فَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ ، أَوْ قَالَ بِالْعَكْسِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ } فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَاصَّةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا يُضِيفَانِ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ الْأَوَّلِ أَوْ إلَى مُطْلَقِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَاطِعًا حَتَّى يَلْتَزِمَهُ زُفَرُ وَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِأَنْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ الدِّينَارَ ثُمَّ إنَّ مُشْتَرِيَ الدِّينَارِ بَاعَ ثَوْبًا مِنْ بَائِعِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَقَاصَّا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَاخْتَارَهَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ : لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَاحِقٌ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ الْمُقَاصَّةَ فِي دَيْنٍ سَابِقٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَوَجْهُ الْأَصَحِّ أَنَّ قَصْدَهُمَا الْمُقَاصَّةَ يَتَضَمَّنُ الِانْفِسَاخَ الْأَوَّلَ وَالْإِضَافَةُ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الدَّيْنُ حِينَئِذٍ سَابِقًا عَلَى الْمُقَاصَّةِ هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ لَيْسَ بِدَافِعٍ كَمَا تَرَى إلَّا إذَا أُضِيفَ أَنَّ الْقِيَاسَ

يَقْتَضِي أَنْ لَا تَقَعَ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ أَصْلًا لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ ، إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ بِالْأَثَرِ ، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ مِنْهُ سَوَاءٌ ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ إذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا بِاللَّاحِقِ بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَإِلَّا لَكَانَ الدَّيْنُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَذَلِكَ خُلْفٌ ؛ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ عَدَمُ كَوْنِهِمَا مُوجِبَيْ عَقْدٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ تَجَانَسَا ، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى دَيْنٍ مُقَارِنٍ عَدَمُ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ السَّابِقِ وَإِنَّمَا الْمُجَانَسَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا ، وَبَيْنَ الدَّيْنِ الْمُقَارِنِ وَهَذَا أَوْضَحُ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ ) وَالْغَلَّةُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَأْخُذُهُ التُّجَّارُ .
وَوَجْهُهُ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ وَمَا عُرِفَ مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ .قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ إلَخْ ) الْغَلَّةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ هِيَ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي فِي الْقِطْعَةِ مِنْهَا قِيرَاطٌ أَوْ طُسُوجٌ أَوْ خَبَّةٌ فَيَرُدُّهَا بَيْتَ الْمَالِ لَا لِزِيَافَتِهَا بَلْ لِكَوْنِهَا قِطَعًا وَيَأْخُذُهَا التُّجَّارُ وَبَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَانِعَ أَنْ تُصَوَّرَ هَاهُنَا فِي الْجَوْدَةِ وَهِيَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ فِضَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّنَانِيرِ الذَّهَبَ فَهِيَ ذَهَبٌ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ .
وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا وَزْنًا ) لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ عَادَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا مَعَ الْغِشِّ ، وَقَدْ يَكُونُ الْغِشُّ خِلْقِيًّا كَمَا فِي الرَّدِيءِ مِنْهُ فَيُلْحَقُ الْقَلِيلُ بِالرَّدَاءَةِ ، وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ سَوَاءٌ ( وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا فِضَّةً خَالِصَةً فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ دَرَاهِمُ إلَخْ ) الْأَصْلُ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ خِلْقَةً أَوْ عَادَةً ؛ فَالْأَوَّلُ كَمَا فِي الرَّدِيءِ ، وَالثَّانِي مَا يُخْلَطُ لِلِانْطِبَاعِ فَإِنَّهَا بِدُونِهِ تَتَفَتَّتُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ ؛ لِأَنَّهُ الْمَغْلُوبُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَالْمُسْتَهْلَكِ ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ كَانَا فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ ( وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ) فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا إنْسَانٌ فِضَّةً خَالِصَةً ، فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ مِثْلَ تِلْكَ الْفِضَّةِ الَّتِي فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يُدْرَى فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ صَحَّ وَهِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ .

( وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ) فَهِيَ فِي حُكْمِ شَيْئَيْنِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَإِذَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا ، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَنْفَتِحُ بَابُ الرِّبَا ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ فَالتَّبَايُعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَبِالْعَدِّ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَصٌّ ، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَإِذَا كَانَتْ يَتَقَبَّلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا إنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا لِتَحَقُّقِ الرِّضَا مِنْهُ ، وَبِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ .

( وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ وَهِيَ فِي حُكْمِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ ) ( قَوْلُهُ : وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا صُرِفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَكُونُ صَرْفًا فَلَا يَبْقَى التَّقَابُضُ شَرْطًا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ صَرْفَ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى فَبَقِيَ الْعَقْدُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَرْفًا ( وَاشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَإِذَا شَرَطَ الْقَبْضَ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمَشَايِخُنَا ) يُرِيدُ بِهِ عُلَمَاءَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ( لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ ) يَعْنِي التَّفَاضُلَ ( فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ ) أَيْ الدَّرَاهِمِ الْغِطْرِيفِيَّةِ وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءِ الْكَنَدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ ، وَقِيلَ هُوَ خَالُ هَارُونَ الرَّشِيدِ ( لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا ، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ ) أَيْ لَوْ أُفْتِيَ بِإِبَاحَتِهِ ( تَدَرَّجُوا إلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالْقِيَاسِ ) ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِهَا الْمُعْتَادُ ( فَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ كَانَ التَّبَابِعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَهُمَا فِيهَا بِالْعَدِّ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا ، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ) فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ ( وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ ) كَالرَّصَاصِ وَالسَّتُّوقَةِ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذَا عَلِمَ الْمُتَعَاقِدَانِ

حَالَ الدَّرَاهِمِ وَيَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمَا أَوْ عَلِمَا وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي عَلَيْهَا مُعَامَلَاتُ النَّاسِ دُونَ الْمُشَارِ إلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَتْ يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا ) إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ الزُّيُوفِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ بِالزُّيُوفِ .

( وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً فَكَسَدَتْ وَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : قِيمَتُهَا آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا ) لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ .
وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلَكُ بِالْكَسَادِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ بِالِاصْطِلَاحِ وَمَا بَقِيَ فَيَبْقَى بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيَبْطُلُ ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ يَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ هَالِكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .

( وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ النَّقْدِ فَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَمْ يَبْطُلْ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا ) وَالْمُصَنِّفُ فَسَّرَ الْكَسَادَ بِتَرْكِ النَّاسِ الْمُعَامَلَةَ بِهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ فِي كُلِّ الْبِلَادِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ .
وَنَقَلَ عَنْ عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ عَدَمَ الرَّوَاجِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ هَالِكًا وَيَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَيَرُوجُ فِي غَيْرِهَا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ لَكِنَّهُ تَعَيَّبَ ، فَكَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَالَ أَعْطِ مِثْلَ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ ذَلِكَ دَنَانِيرَ .
قَالُوا : وَمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَسْتَقِيمُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَسَادِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ .
عِنْدَهُمَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ ، فَالْكَسَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا ( لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ ) لِوُجُودِ رُكْنِهِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ ( إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرَّطْبِ فَانْقَطَعَ ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَجَبَ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْبَيْعِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ : أَيْ الْكَسَادِ ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْهُ إلَى الْقِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ

الثَّمَنَ يَهْلِكُ بِالْكَسَادِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا بِالِاصْطِلَاحِ ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّمَنِيَّةُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ ) لَا يُقَالُ : الْعَقْدُ تَنَاوَلَ عَيْنَهَا وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الْكَسَادِ وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهَا بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَبِالْكَسَادِ يَنْعَدِمُ مِنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ ، وَصِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا كَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ ؛ وَلَوْ انْعَدَمَتْ الْمَالِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ فَسَدَ الْبَيْعُ فَكَذَا هَذَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الرُّطَبِ أَنَّ الرُّطَبَ مَرْجُوُّ الْحُصُولِ فِي الْعَامِ الثَّانِي غَالِبًا فَلَمْ يَكُنْ هَالِكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْطُلْ ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ .
أَمَّا الْكَسَادُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا غِشُّهَا فَهَلَاكُ الثَّمَنِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى الْوُصُولُ إلَى ثَمَنِيَّتِهَا فِي ثَانِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَسَادَ أَصْلِيٌّ وَالشَّيْءُ إذَا رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ قَلَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا ، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، هَذَا حُكْمُ الْكَسَادِ وَحُكْمُ الِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَإِنْ كَانَ صَدَّرَ الْبَحْثَ بِالْكَسَادِ .
وَأَمَّا إذَا غَلَبَتْ بِازْدِيَادِ الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ

بِالرُّخْصِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ وَيُطَالِبُهُ بِالدَّرَاهِمِ بِذَلِكَ الْعِيَارِ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ ) لِأَنَّهَا مَالٌ مَعْلُومٌ ، فَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً جَازَ الْبَيْعُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ بِهَا حَتَّى يُعَيِّنَهَا لِأَنَّهَا سِلَعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا ( وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ) وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ إلَخْ ) الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومٌ : أَيْ مَعْلُومٌ قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ إشَارَةً إلَى وُجُوبِ بَيَانِ الْمِقْدَارِ وَالْوَصْفِ أَوْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ ، ثُمَّ إنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ نَافِقَةً أَوْ كَاسِدَةً حَالَةَ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ تُعَيَّنْ ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ ، فَالْمُشْتَرِي بِهَا لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ مَا عَيَّنَ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَفْعِ ذَلِكَ وَدَفْعِ مِثْلِهِ وَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لِجَوَازِ الْبَيْعِ بِهَا مِنْ التَّعْيِينِ ؛ لِأَنَّهَا سِلَعٌ .
وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كَسَادِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ قَبْلَ نَقْدِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَطَلَ الْبَيْعُ خِلَافًا لَهُمَا .
قَالَ الشَّارِحُونَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ ذَكَرَ بُطْلَانَ الْبَيْعِ عِنْدَ كَسَادِ الْفُلُوسِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَذَكَرُوا نَقْلَ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَسْرَارِ وَهُوَ مَا قِيلَ فِيهِ : إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الشِّرَاءُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ الْكَسَادِ إلَّا الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ ، وَهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عِنْدَنَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْنَعُهُ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمَا فِي كَسَادِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ حَيْثُ قَالَا : الْكَسَادُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فَجَعْلُهُ مُفْسِدًا

هَاهُنَا يُفْضِي إلَى التَّحَكُّمِ إلَّا إذَا ظَهَرَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ .

( وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً فَكَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا ) لِأَنَّهُ إعَارَةٌ ، وَمُوجِبُهُ رَدُّ الْعَيْنِ مَعْنًى وَالثَّمَنِيَّةِ فَضْلٌ فِيهِ إذْ الْقَرْضُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ .
وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قُبِضَ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا ، كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْظَرُ لِلْجَانِبَيْنِ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ ) إذَا اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ اسْتِقْرَاضَ الْمِثْلِيِّ ( إعَارَةٌ ) كَمَا أَنَّ إعَارَتَهُ قَرْضٌ ( وَمُوجِبُ اسْتِقْرَاضِ الْمِثْلِيِّ رَدُّ عَيْنِهِ مَعْنًى ) وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ عَارِيَّةً يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَقِيقَةً ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَرْضًا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِتْلَافِ عَيْنِهِ فَاتَ رَدُّ عَيْنِهِ حَقِيقَةً فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ مَعْنًى وَهُوَ الْمِثْلُ وَيُجْعَلُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَزِمَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ الْمِثْلِيُّ بِمَعْنَى الْعَيْنِ وَقَدْ فَاتَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَيْنِ أَنْ لَوْ رُدَّ مِثْلُهُ حَالَ كَوْنِهِ نَافِقًا أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( بِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فَضْلٌ ) فِيهِ أَيْ فِي الْقَرْضِ إذْ الْقَرْضُ لَا يُخْبَصُ بِهِ : أَيْ بِمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ لَيْسَتْ عَيْنَ الْفَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَكَّ الْقَرْضُ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ وَيُجْعَلَ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ فِيهِ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْكَسَادِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهَا مَا دَامَ مُمْكِنًا ( وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قَبَضَ ) وَلَيْسَ الْمِثْلُ الْمُجَرَّدُ عَنْهَا فِي مَعْنَاهَا ( فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ ، لَكِنْ عِنْدَ

أَبِي يُوسُفَ يَوْمَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ ) يَعْنِي بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَسَيَجِيءُ ( وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْظَرُ ) لِلْمُقْرِضِ وَلِلْمُسْتَقْرِضِ ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ وَهُوَ كَاسِدٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُقْرِضِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِيمَةَ يَوْمِ الْقَبْضِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ يَوْمِ الِانْقِطَاعِ وَهُوَ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَقْرِضِ فَكَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنْظَرَ لِلْجَانِبَيْنِ ( وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ ) ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَبْضِ مَعْلُومَةٌ لِلْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَقْرِضِ وَسَائِرِ النَّاسِ ، وَقِيمَةُ يَوْمِ الِانْقِطَاعِ تَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ وَيَخْتَلِفُونَ فِيهَا فَكَانَ قَوْلُهُ أَيْسَرَ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ وَعَلَيْهِ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ ) وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ جَازَ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِالْعَدَدِ لَا بِالدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ عَدَدِهَا ، وَنَحْنُ نَقُولُ : مَا يُبَاعُ بِالدَّانِقِ وَنِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ .
وَلَوْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْ فُلُوسٍ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَا يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُرَادُ لَا وَزْنُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالدِّرْهَمِ وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةَ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَصَارَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ قَالُوا : وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَحُّ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ إلَخْ ) رَجُلٌ قَالَ اشْتَرَيْت هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ : يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ مِنْ الدَّرَاهِمِ فُلُوسٌ لَا نُقْرَةٌ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَقْتَ الْعَقْدِ جَازَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْفُلُوسِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ وَهُوَ سُدُسُ الدِّرْهَمِ جَازَ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَهِيَ مَعْدُودَةٌ وَنِصْفُ دِرْهَمِ دَانَقٍ وَقِيرَاطٍ مِنْهُ مَوْزُونَةٌ ، وَذِكْرُهَا لَا يُغْنِي عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ .
وَقُلْنَا : فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومًا مِنْ حَيْثُ الْعَدُّ فَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ ، وَإِذَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ جَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا ، وَفَصَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَمَا فَوْقَهُ ، فَجَوَّزَ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةُ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَكَانَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ .
قَالُوا : وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا عَلَى عَدَمِ الْمُنَازَعَةِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَلِاشْتِرَاكِ الْعُرْفِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا وَقَالَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ دِرْهَمٍ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ وَبَيْعُ النِّصْفِ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً رِبًا فَلَا يَجُوزُ ( وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَطَلَ فِي الْكُلِّ ) لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَالْفَسَادُ قَوِيٌّ فَيَشِيعُ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ ، وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ كَانَ جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمَا بَيْعَانِ ( وَلَوْ قَالَ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسًا وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ ) لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَمَا وَرَاءَهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا إلَخْ ) هَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْأُولَى أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا كَبِيرًا وَيَقُولَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا : أَيْ دِرْهَمًا صَغِيرًا وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ كَبِيرٍ إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ نِصْفَ الدِّرْهَمِ بِالْفُلُوسِ وَلَا مَانِعَ فِيهِ عَنْ الْجَوَازِ وَقَابَلَ النِّصْفَ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً وَهُوَ رِبًا فَلَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَطَلَ فِي الْكُلِّ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَقُوَّةِ الْفَسَادِ لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَيَشِيعُ ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَصَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالثَّانِيَةُ إنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْإِعْطَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْحُكْمُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْفُلُوسِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدَانِ .
وَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْنِي بِنِصْفِ هَذِهِ الْأَلْفِ عَبْدًا وَبِنِصْفِهَا دَنًّا مِنْ الْخَمْرِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي الْعَبْدِ صَحِيحٌ وَفِي الْخَمْرِ فَاسِدٌ وَلَمْ يَشِعْ الْفَسَادُ لِتَفْرِقَةِ الصَّفْقَةِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ وَالْفَقِيهِ الْمُظَفَّرِ بْنِ الْمَيَّانِ وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ هَاهُنَا أَيْضًا وَإِنْ كَرَدِّ لَفْظِ الْإِعْطَاءِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ .
فَإِنَّ قَوْلَهُ أَعْطِنِي مُسَاوَمَةٌ وَبِتَكْرَارِهَا لَا يَتَكَرَّرُ الْبَيْعُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْمُسَاوَمَةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِعْنِي فَقَالَ بِعْتُك لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلْ الْآخَرُ اشْتَرَيْت ، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْعَقِدُ بِذِكْرِ الْمُسَاوَمَةِ فَكَيْفَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِهَا ؟ قِيلَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ :

أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فُلُوسًا بَدَلًا عَنْ نِصْفٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ لَفْظَ بِنِصْفِهِ بَلْ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذِكْرُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ) أَرَادَ قَوْلَهُ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً وَهِيَ الثَّالِثَةُ فِيمَا ذَكَرْنَا ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ .
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ : وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْكَفَالَةِ ) الْكَفَالَةُ : هِيَ الضَّمُّ لُغَةً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } ثُمَّ قِيلَ : هِيَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .كِتَابُ الْكَفَالَةِ ) : عَقَّبَ الْبُيُوعَ بِذِكْرِ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي الْبِيَاعَاتِ غَالِبًا ، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرٍ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ انْتِهَاءً فَنَاسَبَ ذِكْرُهَا عَقِيبَ الْبُيُوعِ الَّتِي هِيَ مُعَاوَضَةٌ ( وَالْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ : هِيَ الضَّمُّ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } ) أَيْ ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَنَصْبِ زَكَرِيَّا : أَيْ جَعَلَهُ كَافِلًا لَهَا وَضَامِنًا لِمَصَالِحِهَا ( وَفِي الشَّرِيعَةِ : ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَالِ تَصِحُّ بِالنَّفْسِ وَلَا دَيْنَ ثَمَّةَ وَكَمَا تَصِحُّ بِالدَّيْنِ تَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ لِنَفْسِهَا كَمَا سَيَجِيءُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَلَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ صَارَ الدَّيْنُ الْوَاحِدُ دَيْنَيْنِ ، وَعُورِضَ بِمَا إذَا وَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ دَيْنَهُ لِلْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَمَا مَلَكَ كَمَا قَبْلَ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَمَّا وَهَبَهُ لِلْكَفِيلِ صَحَّ فَجَعَلْنَا الدَّيْنَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ وَجَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ

قَالَ ( الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ : كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ .
فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } وَهَذَا يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِطَرِيقِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ الطَّالِبُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحَقُّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فِيهِ .

قَالَ ( الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ إلَخْ ) الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ : كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ ، فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ كِفْلٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ لَا يَنْقَادُ لَهُ لِيُسَلِّمَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْعًا .
أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فِي نَفْسِهِ لِيُسَلِّمَهُ ، كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَا يُثْبِتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً لِيُؤَدِّيَ الْمَالَ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ وَلَنَا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } " ) أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهَا .
لَا يُقَالُ : هُوَ مُشْتَرَكٌ الْإِلْزَامُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُكِمَ فِيهِ بِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْغُرْمُ عَلَى الْكَفِيلِ .
وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِ مَا يَضُرُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْإِحْضَارُ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِهِ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ كِفْلٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ( قَوْلُهُ : إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ ) مَمْنُوعٌ فَإِنَّ قُدْرَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يُعْلِمَ الطَّالِبَ مَكَانَهُ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْعًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ

الْكَفَالَةِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهُ ( قَوْلُهُ : وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ ) اسْتِظْهَارٌ بَعْدَ مَنْعِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالْحَاجَةُ وَهِيَ إحْيَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَاسَّةٌ فَلَمْ يَبْقَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا تَعَنُّتًا وَعِنَادًا .

قَالَ ( وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ وَكَذَا بِبَدَنِهِ وَبِوَجْهِهِ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْبَدَنِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا عَلَى مَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، كَذَا إذَا قَالَ بِنِصْفِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْتُ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَصِحُّ ( وَكَذَا إذَا قَالَ ضَمِنْته ) لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُوجِبِهِ ( أَوْ قَالَ ) هُوَ ( عَلَيَّ ) لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ ( أَوْ قَالَ إلَيَّ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( { وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ } ) ( وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ أَوْ قَبِيلٌ بِهِ ) لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ .
وَالْقَبِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قَبَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ .

قَالَ : ( وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ إلَخْ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَفَالَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْبَدَنِ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ ، وَقِسْمٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ عُرْفًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَبِرَقَبَتِهِ .
فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا مَخْصُوصٌ بِعُضْوٍ خَاصٍّ فَلَا يَشْمَلُ الْكُلَّ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ ، وَكَذَا إذَا عَبَّرَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ ، فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ مِنْ صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا ، وَكَذَا تَنْعَقِدُ إذَا قَالَ ضَمِنْته ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ إلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ ، فِي هَذَا الْمَقَامِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ } " وَالْكَلُّ : الْيَتِيمُ ، وَالْعِيَالُ : مَنْ يَعُولُ : أَيْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمَا الْعِيَالَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ أَوْ قَبِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْقَبِيلَ هُوَ الْكَفِيلُ وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قُبَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ فَهُوَ كَفَالَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ النَّاسِ .

قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ) وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَاذَا يَدَّعِي .
وَلَوْ غَابَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ يَحْبِسُهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ كَاَلَّذِي أُعْسِرَ ، وَلَوْ سَلَّمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَرِئَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً .
قَالَ ( وَإِذَا كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا : لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا ( وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ فِيهِ ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ .
وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ .

قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ يَسْتَعْجِلُ فِي حَبْسِهِ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَا يَدَّعِي ) فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزٍ أَوْ مَعَ قُدْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالطَّالِبُ إمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ الْكَفِيلِ لِلْحَالِ حَتَّى يُعْرَفَ مَكَانُهُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَالَ الْكَفِيلُ لَا أَعْرِفُ مَكَانَهُ وَقَالَ الطَّالِبُ تَعْرِفُهُ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُرْجَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَخْرُجُ مَعَهَا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلتِّجَارَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَيُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالْمَكَانِ وَمُنْكِرٌ لُزُومَ الْمُطَالَبَةِ إيَّاهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقُولُ ، فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا أَمَرَ الْكَفِيلَ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ وَإِحْضَارِهِ اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .
قَالَ ( وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان إلَخْ ) إذَا أَحْضَرَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِنَفْسِهِ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان

يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِيءَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هُوَ الْمُحَاكَمَةُ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِذَا سَلَّمَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَبَرِئَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا هَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
أَمَّا فِي زَمَانِنَا إذَا شَرَطَ التَّسْلِيمَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ وَالتَّقَيُّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي مُفِيدٌ ، وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ فَالتَّسْلِيمُ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ شُهُودَهُ كَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَيَّنَهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَلَّمَهُ فِيهِ ، فَتَعَارَضَ الْمَوْهُومَانِ وَبَقِيَ التَّسْلِيمُ مُتَحَقِّقًا مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ فَيَبْرَأُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي إمَّا لِيَثْبُتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا وَقَدْ حَصَلَ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَأَوَانٍ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِهِ بِالصِّدْقِ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْقُضَاةُ لَا يَرْغَبُونَ إلَى الرِّشْوَةِ ، وَعَامِلُ كُلِّ مِصْرٍ مُنْقَادٌ لِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مِصْرٍ آخَرَ ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَهَرَ الْفَسَادُ وَالْمَيْلُ مِنْ الْقُضَاةِ إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ ، فَقَيَّدَ التَّسْلِيمَ بِالْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ .
وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَابِسُ هُوَ الطَّالِبَ بَرِئَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ لَمْ يَبْرَأْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهِ .
وَذَكَرَ فِي الْوَاقِعَاتِ : رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْكَفِيلُ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ ، وَلَوْ كَفَلَ بِهِ وَهُوَ مُطْلَقٌ ثُمَّ حُبِسَ حُبِسَ الْكَفِيلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَالُ مَا كَفَلَ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ .
وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ .قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ) بَقَاءُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِبَقَاءِ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ وَمَوْتُهُمَا أَوْ مَوْتُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطٌ لَهَا ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَلِأَنَّ الْكَفِيلَ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ فَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسَلُّمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِيُؤَدِّ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ ، أَجَابَ بِأَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ وَهُوَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ لَا أَصَالَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْمَالَ ، وَلَا نِيَابَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْ النَّفْسِ ، بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ نَائِبًا ، إذْ الْمَقْصُودُ إيفَاءُ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالْمَالِ وَمَالُ الْكَفِيلِ صَالِحٌ لِذَلِكَ فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ ثُمَّ تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ .
وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ لَهُ وَصِيٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِقِيَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامَ الْمَيِّتِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ فَيَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَكِيلُ الْكَفِيلِ أَوْ رَسُولُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ إلَخْ ) وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ بِالْإِضَافَةِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بَرِئَ ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي الْبَرَاءَةَ وَذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ ، وَمَعْنَاهُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مُوجِبُهَا الْبَرَاءَةُ عِنْدَ التَّسْلِيمِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْمُوجِبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُوجِبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِلَا شَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ ، وَكَحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِكَوْنِهِ مُوجِبَهُ وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمُوجِبَاتِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ : أَيْ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ مُوجِبُ تَصَرُّفِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ، وَالْمُوجِبَاتُ تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ بِدُونِ ذِكْرِهَا صَرِيحًا ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُلُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ لَا دَفْعِ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا النَّفْيُ الِاشْتِبَاهَ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ حَقُّهُ ، فَلَعَلَّ الطَّالِبَ يَقُولُ مَا لَمْ أَسْتَوْفِ حَقِّي مِنْ الْمَطْلُوبِ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّسْلِيمَ وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْرَارَ إذَا وُجِدَ التَّسْلِيمُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ بِإِيفَاءِ عَيْنِ مَا الْتَزَمَ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ صَاحِبِهِ ، فَلَوْ تَوَقَّفَ لَرُبَّمَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ إبْقَاءً لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْكَفِيلُ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَلَوْ سَلَّمَ الْأَصِيلُ نَفْسَهُ عَنْ كَفَالَتِهِ : أَيْ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَقَالَ دَفَعْت إلَيْك نَفْسِي مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَصَارَ كَتَسْلِيمِهِ

الْكَفِيلَ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْحُضُورِ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ إذَا طُولِبَ بِهِ فَهُوَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ ، لَكِنْ إذَا قَالَ دَفَعْت نَفْسِي مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ وَاجِبٌ مِنْ جِهَتَيْنِ : مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِقَوْلِهِ مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ لَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ فَلَا يَبْرَأُ ، وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ : أَيْ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مُطَالَبٌ بِالْحُضُورِ فَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ مُتَبَرِّعًا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ التَّبَرُّعِ وُقُوعُهُ عَنْ الْكَفِيلِ لِيَبْرَأَ بِهِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ جِهَةً أُخْرَى كَمَا بَيَّنَّا ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمَا ، وَتَسْلِيمُ وَكِيلِ الْكَفِيلِ وَرَسُولِهِ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ كَتَسْلِيمِهِ .

قَالَ ( فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَالِ ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحٌ ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ ( وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامٌ .
فَقُلْنَا : لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ .
وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ .

قَالَ ( وَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا إلَخْ ) رَجُلٌ قَالَ إنْ لَمْ أُوَافِ بِفُلَانٍ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ ضَمِنَ الْمَالَ وَافَاهُ : أَيْ آتَاهُ مِنْ الْوَفَاءِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ لِمَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقُلْهُ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا ، وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ أَلْفٌ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فَعَلَى مَالِكٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْكَمِّيَّةَ جَازَ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى التَّوَسُّعِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك بِمَا أَدْرَكَك فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ صَحَّتْ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالشَّجَّةِ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُعْلَمْ هَلْ تَبْلُغُ النَّفْسَ أَوْ لَا .
ثُمَّ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا صِحَّةُ الْكَفَالَةِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالثَّانِي عَدَمُ بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ أَدَاءِ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ : يَعْنِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِتَصْرِيحِهِ بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشَّرْطِ ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ يُرِيدُ بِهِ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ .
وَسَنَذْكُرُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ صَحِيحٌ ، فَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ .
وَعَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَمَّا تَحَقَّقَتْ حَقًّا لِلْمَكْفُولِ لَهُ لَا تَبْطُلُ إلَّا بِمَا يُنَافِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ أَوْ إبْرَاءٍ أَوْ مَوْتٍ .
وَلَيْسَتْ

الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ مُنَافِيَةً لَهُمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ فَلَا تُبْطِلُهَا وَكَيْفَ تُبْطِلُهَا وَقَدْ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَاتٌ أُخْرَى وَإِبْطَالُهَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ تَثْبُتُ بَدَلًا عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ، وَوُجُوبُ الْبَدَلِ يُنَافِي وُجُوبُ الْمُبْدِلِ مِنْهُ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَدَلِيَّتَهَا مَمْنُوعَةٌ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوعٌ لِلتَّوَثُّقِ كَمَا مَرَّ كَكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بَعْدَ مِثْلِهَا وَبِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا صَحِيحٌ وَالْوَفَاءُ بِهِمَا إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ ، بِخِلَافِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذِهِ الْكَفَالَةُ : أَيْ الْمُعَلَّقَةُ بِالشَّرْطِ لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَيْ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ فِي لُزُومِ الْمَالِ بِالْعِوَضِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ وَتَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا .
الْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ تَعْلِيقَ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَنَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ لَا الْتِزَامُ الْمَالِ .
سَلَّمْنَاهُ ، وَلَكِنْ أَشْبَهَ الْبَيْعَ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهٍ كَمَا مَرَّ ، وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ الِالْتِزَامُ ، فَشَبَهُ الْبَيْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ كُلِّهَا ، وَشَبَهُ النَّذْرِ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ وَإِعْمَالُ الشَّبَهَيْنِ أَوْلَى ، فَقُلْنَا : لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ ، وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِهِمَا ، وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي ذَلِكَ

أَكْثَرُ مِنْ رَغْبَتِهِمْ فِي مُجَرَّدِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ ) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ إلَخْ ) وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَهِيَ وَإِنْ وَافَقَتْ مَسْأَلَةَ الْقُدُورِيِّ الْمَذْكُورَةَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَالُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالشَّرْطِ لَكِنَّهُ عَدِمَهَا هَاهُنَا بِالْمَوْتِ وَفِيمَا تَقَدَّمَتْ بِغَيْرِهِ فَذَكَرَهَا بَيَانًا لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالْمَوْتِ وَبِغَيْرِهِ ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إذَا سَقَطَتْ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِكَوْنِهَا كَالتَّأْكِيدِ لَهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً ، وَلِهَذَا إذَا وَافَى بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ وَقَدْ سَقَطَتْ إذَا سَقَطَتْ الْأُولَى بِالْإِبْرَاءِ فَيَجِبُ أَنْ تَسْقُطَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى سَقَطَتْ بِالْمَوْتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ تَأْكِيدًا لِلْغَيْرِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ .
وَأَجَابَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَوَائِدِهِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ وُضِعَ لِفَسْخِ الْكَفَالَةِ وَالْمَوْتُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ ، فَبِالْإِبْرَاءِ تَنْفَسِخُ الْكَفَالَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَبِالْمَوْتِ تَنْفَسِخُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ ضَرُورَةَ عَجْزِ الْكَفِيلِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ تَسْلِيمٌ يَقَعُ ذَرِيعَةً إلَى الْخِصَامِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّسْلِيمِ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْقَوْلِ بِانْفِسَاخِهَا فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُوَافَاةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ يَتَحَقَّقُ ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ ضَرُورَةَ التَّأْكِيدِ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ الْمُؤَكَّدَ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْبَةِ

إلَيْهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ كَمَا كَانَ ، فَإِنْ قِيلَ : إذَنْ يَتَضَرَّرُ الْكَفِيلُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ .
قُلْنَا : الِالْتِزَامُ مِنْهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ ، وَقَدْ اُلْتُزِمَ حَيْثُ تُيُقِّنَ بِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ بِالْمَوْتِ تَنْفَسِخُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَكَذَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا .
قُلْنَا : دَعْوَى مِنْهُ عَلَى خِلَافِ إطْلَاقِ لَفْظِهِ فِي إنْ لَمْ يُوَافِ فَلَا يُفِيدُهُ فِي إضْرَارِ غَيْرِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ بَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالًا مُطْلَقًا بِخَطَرٍ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَا يَجِبُ إحْضَارُ النَّفْسِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا تَصِحُّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ ، فَإِذَا بَيَّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ إلَخْ ) وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ وَبَيَّنَهَا بِأَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ هِنْدِيَّةٌ أَوْ مِصْرِيَّةٌ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَطَلَبَهُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ الْكَفَالَةِ مِائَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَةٍ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ فَلَا يَقْدِرُ الْمُدَّعِي عَلَى مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِالْكَفَالَةِ ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكَفِيلَ عَلَّقَ فِي كَفَالَتِهِ مَالًا مُطْلَقًا عَنْ النِّسْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَدًا ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْمَالَ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، بَلْ الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّشْوَةِ لِيَتْرُكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ وَإِنْ بَيَّنَ الْمَالَ وَبِهِ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الدَّعْوَى بِلَا بَيَانٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، فَلَمْ يَجِبْ إحْضَارُ النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا يَصِحُّ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا ، وَهَذَا مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ ، وَهُوَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ إذَا كَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا عِنْدَ الدَّعْوَى .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذَكَرَهُ مُعَرَّفًا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : فَعَلَيَّ الْمِائَةُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ النِّسْبَةُ مَوْجُودَةً فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رِشْوَةً ، فَكَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا وَالدَّعْوَى صَحِيحَةً فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ

لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْأُولَى .
وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي مُقَابَلَةِ النُّكْتَةِ الْأُولَى لِمُحَمَّدٍ ، وَقَوْلُهُ : وَالْعَادَةُ جَرَتْ فِي مُقَابَلَةِ الثَّانِيَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ دَفْعًا لِحِيَلِ الْخُصُومِ وَالْبَيَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ ، فَإِذَا بَيَّنَ اُلْتُحِقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمِائَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ الْمِائَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا وَبَيَّنَهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَعَلَى هَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْكَفَالَةِ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) مَعْنَاهُ : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ ، وَقَالَا : يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَلِيقُ بِهِمَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ ( وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ .
قَالَ ( وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي ) لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ هَاهُنَا ، وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ : إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ إلَخْ ) مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ الْقِصَاصُ إذَا طَالَبَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يُحْضِرَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ عَنْ إعْطَائِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لَا يَجُوزُ إجْبَارُ الْكَفَالَةِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِسْنَادِ الْجَوَازِ إلَى الْكَفَالَةِ مَجَازٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِهِمْ وَفِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ : أَيْ ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُلُوصِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ ، وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْجَبْرِ هَاهُنَا الْحَبْسَ بَلْ الْأَمْرُ بِالْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَدُورَ الطَّالِبُ مَعَ الْمَطْلُوبِ أَيْنَمَا دَارَ كَيْ لَا يَتَغَيَّبَ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَأَرَادَ الدُّخُولَ يَسْتَأْذِنُهُ الطَّالِبُ فِي الدُّخُولِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ يَدْخُلُ مَعَهُ وَيَسْكُنُ حَيْثُ سَكَنَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ يُجْلِسُهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْكَفِيلِ بِهِ سَوَاءٌ أَعْطَاهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا .
أَمَّا قَبْلَ إقَامَتِهَا فَلِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ حُضُورَ مَجْلِسٍ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدٍ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَهَذَا لَمْ يَكْفُلْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصْلِ ؛ وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يُحْبَسُ وَبِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِيثَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ } "

مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ) يَعْنِي بَيْنَ مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ ، قِيلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ شُرَيْحٍ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي عَنْ شُرَيْحٍ .
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي : رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالتَّكْفِيلِ ) فَإِنْ قِيلَ : حُبِسَ بِإِقَامَةِ شَاهِدٍ عَدْلٍ وَمَعْنَى الِاسْتِيثَاقِ فِي الْحَبْسِ أَتَمُّ مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ لَا لِلِاسْتِيثَاقِ ( بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ ) فَإِنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَيَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَيَحْلِفُ فِيهِ فَيُجْبَرُ الْمَطْلُوبُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ ( وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ ) أَيْ لَوْ تَبَرَّعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ لِلطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ ( وَحَدُّ الْقَذْفِ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ وَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ ) وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ حَدَّ السَّرِقَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ .
قَالَ ( وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ إلَخْ ) لَا يَحْبِسُ الْحَاكِمُ فِي الْحُدُودِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيهِمَا : أَيْ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ : أَيْ يَعْرِفُ الْحَاكِمُ كَوْنَهُ عَدْلًا ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ هَاهُنَا لِلتُّهْمَةِ : أَيْ لِتُهْمَةِ الْفَسَادِ لَا لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حُجَّةٍ كَامِلَةٍ

وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةِ ، ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الدِّيَانَاتِ وَالدِّيَانَاتُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْهَا .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ .
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ مَا كَانَ الْحَبْسُ فِيهِ أَقْصَى عُقُوبَةٍ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ إذَا ثَبَتَتْ وَعَدَمُ مُوجِبَاتِ السُّقُوطِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْإِيفَاءِ لَا يُحْبَسُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ ، وَمَا كَانَ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْأَقْصَى فِيهَا الْقَتْلُ أَوْ الْقَطْعُ أَوْ الْجَلْدُ حَازَ الْحَبْسُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ لِلتُّهْمَةِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْحَبْسُ لِلتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِالْحُجَّةِ يُنَافِي الدَّرْءَ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالدَّرْءُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْتَفِي الْحَبْسُ لِلتُّهْمَةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ لِلتُّهْمَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اتِّهَامُ الْحَاكِمِ أَيْضًا بِالتَّهَاوُنِ فِيهِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّرْءَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالتَّرْكَ وَالتَّهَاوُنَ حَرَامٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى فَسَادِ الْعَالَمِ الَّذِي شُرِعَ الْحُدُودُ لِدَفْعِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَحْبِسْهُ الْحَاكِمُ اُتُّهِمَ بِأَنَّهُ مُتَهَاوِنٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَادِحٌ فِي عَدَالَتِهِ ، وَالْإِيفَاءُ مِنْ أَمْثَالِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَيُحْبَسُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشِّهَادِ إذَا اتَّهَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْفَسَادِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ الْحَاكِمِ ، وَالْحَبْسُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَقَعَ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَتَّهِمُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ

إذَا سَمِعَ الْحُجَّةَ الْكَامِلَةَ تُحِيلُ لِلدَّرْءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لَمَّا جَازَ عِنْدَهُمَا جَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِهِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ الْحَبْسِ .
وَقِيلَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ فِي الْحَبْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَنْهُمَا رِوَايَتَيْنِ : فِي رِوَايَةٍ يُحْبَسُ وَلَا يُكْفَلُ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَكْسُهُ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِأَحَدِهِمَا ، وَفِي دَلَالَةِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ خَفَاءٌ لَا مَحَالَةَ .

قَالَ ( وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ فَيُمْكِنُ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهِمَا .قَالَ ( وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ إلَخْ ) أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هَاهُنَا دَفْعًا لِمَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَخَذَ الْكَفِيلِ عَنْ الْخَرَاجِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ دُونَ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ تَقْتَضِي دَيْنًا مُطَالَبًا بِهِ مُطْلَقًا وَالْخَرَاجُ كَذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَيُمْنَعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَيُلَازَمُ مَنْ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا قِيلَ مُطْلَقًا يَعْنِي فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ احْتِرَازًا عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا ، أَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْمُطَالِبُ هُوَ الْإِمَامُ ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنَةِ فَمُلَّاكُهَا لِكَوْنِهِمْ نُوَّابَ الْإِمَامِ ، وَالْكَفَالَةُ بِهَا لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ تَوْثِيقًا كَالْكَفَالَةِ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِهِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ ، فَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، فَإِنَّ كُلَّ دَيْنٍ صَحِيحٍ تَصِحُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ ، وَالْمَمَاتِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَلِوُجُودِ مَا شُرِعَ الْكَفَالَةُ لِأَجْلِهِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : ( مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ فَإِنَّهَا تَعْتَمِدُ إمْكَانَ الِاسْتِيفَاءِ لِكَوْنِهِ تَوْثِيقًا بِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَتَرَتَّبُ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ عَلَيْهِ .
قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ وَلَا بُعْدَ فِي قَصْدِهِ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ فَهُمَا كَفِيلَانِ ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمَقْصُودُ التَّوَثُّقُ ، وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ فَلَا يَتَنَافَيَانِقَالَ ( وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَخْ ) تَعَدُّدُ الْكُفَلَاءِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ صَحِيحٌ كَفَلُوا جُمْلَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ : أَيْ أَنْ يَلْتَزِمَ الْكَفِيلُ ضَمَّ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ بِنَفْسِهِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ لِرُجُوعِهِ إلَى إلْزَامِ مَنْ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى الطَّلَبِ وَهُوَ خُلْفٌ بَاطِلٌ ، وَالْمَقْصُودُ بِشَرْعِ الْكَفَالَةِ التَّوَثُّقُ وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ ، وَمَا يُزَادُ بِهِ الشَّيْءُ لَا يُنَافِيهِ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا ، فَالْقَوْلُ بِامْتِنَاعِهِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ ، وَإِذَا صَحَّتْ الثَّانِيَةُ لَمْ يَبْرَأْ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا صَحَّحْنَاهَا لِيَزْدَادَ التَّوَثُّقُ ، فَلَوْ بَرِئَ الْأَوَّلُ مَا زَادَ إلَّا مَا نَقَصَ فَمَا فَرَضْنَاهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَكُنْ زِيَادَةٌ هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الثَّانِي فَلَوْ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ وَاجِبًا فِي مَوْضِعَيْنِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكَفِيلَ إذَا كَفَلَ بِالدَّيْنِ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ وَالْأَصْلُ مُوَافَقَتُهَا وَيُفْضِي إلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ نَفْسَ الْأَصِيلِ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ دُونَ صَاحِبِهِ .

( وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ مَعْلُومًا كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ أَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ أَوْ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ ) لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ إجْمَاعٌ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً ، وَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ لِشَجَّةٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَتْ السِّرَايَةُ وَالِاقْتِصَارُ ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ ، وَسَيَأْتِيك فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ ( وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ إلَخْ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ ، أَوْ مَجْهُولًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ : يَعْنِي مِنْ الضَّمَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً فَيُتَحَمَّلُ فِيهَا جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ يَسِيرَةً وَغَيْرَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَارَفَةً .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا وَهُوَ التَّبِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الضَّمَانَ بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَالٍ فَلَا يَصِحُّ مَجْهُولًا كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ .
وَقُلْنَا الضَّمَانُ بِالدَّرَكِ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ ضَمَانٌ بِالْمَجْهُولِ ، وَصَارَ الْكَفَالَةُ بِمَالِ مَجْهُولٍ كَالْكَفَالَةِ بِشَجَّةٍ أَيِّ شَجَّةٍ كَانَتْ إذَا كَانَتْ خَطَأً فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لِاحْتِمَالِ السِّرَايَةِ وَالِاقْتِصَارِ .
وَإِنَّمَا قِيلَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَمْدًا وَقَدْ سَرَتْ وَكَانَتْ الشَّجَّةُ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ .
وَلَمَّا مَرَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ ( وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ دَيْنًا صَحِيحًا ) وَفَسَّرَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ، إذْ الدَّيْنُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَقًّا لِنَفْسِهِ ، وَالْمَطْلُوبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِهِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِيفَاءِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاقْتِدَارِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يُسْقِطَ الْبَدَلَ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ .
وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْءٌ فَيُطَالِبُهُ بِهِ .

قَالَ ( وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ كَفِيلَهُ ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهُ ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَرَاءَةَ فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِدُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى ، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ بِهَا الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً ( وَلَوْ طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا ) لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ الضَّمُّ ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّمْلِيكُ مِنْ الثَّانِي ، أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ فَوَضَحَ الْفَرْقُقَالَ ( وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إلَخْ ) الْمَكْفُولُ لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ : أَيْ الدَّيْنُ وَيُسَمَّى الدَّيْنُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ دَيْنٍ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ فَرْعًا ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهَا إلَّا إذَا شُرِطَتْ الْبَرَاءَةُ فَتَصِيرُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى ، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا جُمْلَةً وَمُتَعَاقِبًا ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْغَاصِبَيْنِ : أَيْ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَضْمِينِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْ الثَّانِي .
أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ فَلَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَوْ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ فَعَلَيَّ أَوْ مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ ، أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَأَمَّا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا ، إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ إلَخْ ) يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا أَوْ إذَا حَلَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَلَمْ يُوَفِّ بِهِ فَعَلَيَّ .
وَلَا يَجُوزُ بِشَرْطٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْمُلَاءَمَةِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ ، وَقَيَّدَ بِكَوْنِ زَيْدٍ مَكْفُولًا عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا كَانَ التَّعْلِيقُ بِهِ كَمَا فِي هُبُوبِ الرِّيحِ .
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } فَإِنَّ مُنَادِيَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّقَ الِالْتِزَامَ بِالْكَفَالَةِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ هُوَ الْمَجِيءُ بِصُوَاعِ الْمِلْكِ ، وَكَانَ نِدَاؤُهُ بِأَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى بَيَانِ الْعِمَالَةِ لِمَنْ يَأْتِي بِهِ لَا لِبَيَانِ الْكَفَالَةِ ، فَهُوَ كَقَوْلِ مَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ عَشَرَةٌ فَلَا يَكُونُ كَفَالَةً ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَكُونُ إذَا الْتَزَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَهَاهُنَا قَدْ الْتَزَمَ عَنْ نَفْسِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَهِيَ تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّعِيمَ حَقِيقَةً فِي الْكَفَالَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ فَكَانَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ الْمُنَادِي لِلْغَيْرِ : إنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } بِذَلِكَ فَيَكُونُ ضَامِنًا عَنْ الْمِلْكِ لَا عَنْ نَفْسِهِ فَتَتَحَقَّقُ

حَقِيقَةُ الْكَفَالَةِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِي الْآيَةِ أَمْرَيْنِ : ذِكْرُ الْكَفَالَةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ ، وَإِضَافَتُهَا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَعَدَمُ جَوَازِ أَحَدِهِمَا بِدَلِيلٍ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الْآخَرِ .
فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ وَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ أَصْلًا ، وَالثَّانِيَةُ تَمْنَعُهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُضَافَةً كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِمَا بَايَعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ ، وَالثَّالِثَةُ تَمْنَعُهُ مُطْلَقًا .
؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأُولَى مَنْصُوصٌ عَلَى جَوَازِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى حِمْلُ بَعِيرٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَعِيرِ فَلَمْ تُمْنَعْ مُطْلَقًا ، وَالثَّانِيَةُ إنَّمَا تَمْنَعُهُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ لَا لِلْجَهَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا عَلَى مَا يَأْتِي ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ ، وَالتَّعَامُلُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ مِنْهُ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَالثَّالِثَةُ إنَّمَا تَمْنَعُهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي حَقِّ الطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الطَّالِبِ ، وَفِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَتَّى تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ كَمَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَصْلًا وَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الطَّالِبِ كَانَتْ جَهَالَةُ الطَّالِبِ مَانِعَةً جَوَازَهَا كَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُشْتَرِي مَانِعَةٌ مِنْ الْبَيْعِ بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ جَهَالَتَهُ لَا تَمْنَعُ كَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُعْتَقِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعِتْقِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا عَلَى مَا يَأْتِي ( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا ) أَيْ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ كَذَا لَا يَصِحُّ جَعْلُهُمَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47