كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

وَيَقُولَ مَا عَلِمْت لَهُ دَيْنًا عَلَيَّ فَإِذَا عَلِمْت الْآنَ لَا أَتَوَانِي فِي قَضَائِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِذَارِ فِي فَصْلِ الْإِقْرَارِ ، وَالْمَالُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي حَقِّ الْحَبْسِ يُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ ؛ ؛ لِأَنَّ مَانِعَ ذَلِكَ ظَالِمٌ فَيُجَازَى بِهِ ، وَالْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ لَا يَخْرُجُ لِمَجِيءِ رَمَضَانَ وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَحَجَّةِ فَرِيضَةٍ وَحُضُورِهِ جِنَازَةَ بَعْضِ أَهْلِهِ وَمَوْتِ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ إذَا كَانَ ثَمَّةَ مَنْ يُكَفِّنُهُ وَيُغَسِّلُهُ ، ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْمَيِّتِ تَصِيرُ مُقَامَةً بِغَيْرِهِ ، وَفِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتُ حَقِّ الطَّالِبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخُرُوجِ كَثِيرُ ضَرَرٍ لِلطَّالِبِ ، وَإِنْ مَرِضَ وَلَهُ خَادِمٌ لَا يَخْرُجُ ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِالْمَرَضِ يَزْدَادُ الضَّجَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ أَخْرَجُوهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُمَرِّضُهُ رُبَّمَا يَمُوتُ بِسَبَبِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فَيَطَؤُهُمَا حَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَكَذَا شَهْوَةُ الْفَرْجِ .
وَقِيلَ الْوَطْءُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ فَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ بِخِلَافِ الطَّعَامِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ عَلَيْهِ لِيُشَاوِرَهُمْ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ عِنْدَهُ .
قَالَ ( فَإِنْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا إلَخْ ) فَإِنْ امْتَنَعَ الْغَرِيمُ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ حَبَسَهُ إذَا طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ غِنَاهُ وَفَقْرِهِ فَإِنْ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي قَبُولِ دَعْوَاهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بِعَقْدٍ

كَالثَّمَنِ وَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِ حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ وَزَوَالُهُ عَنْ الْمِلْكِ مُحْتَمَلٌ وَالثَّابِتُ لَا يُتْرَكُ بِالْمُحْتَمَلِ ، وَبِقَوْلِهِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا بِمَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَا كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ وَيَخْرُجُ عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ دَيْنًا مُطْلَقًا كَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَسْلِيمِ الْمُعَجَّلِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى النِّكَاحِ دَلِيلًا عَلَى قُدْرَتِهِ .
قَالَ الْقُدُورِيُّ ( وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ ) يَعْنِي ضَمَانَ الْغَصْبِ وَأَرْشَ الْجِنَايَاتِ ( إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ مَالًا بِبَيِّنَةٍ فَيَحْبِسُهُ .
وَرَوَى الْخَصَّافُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) أَيْ فِيمَا كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ وَمَا لَمْ يَكُنْ ( لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ ) إذْ الْآدَمِيُّ يُولَدُ وَلَا مَالَ لَهُ ، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَارِضًا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ مَعَ يَمِينِهِ ( وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ : إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ ) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ دُخُولَ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ وَزَوَالُهُ مُحْتَمَلٌ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَدَلُهُ مَالًا

كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَعْرِفْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْقَضَاءِ فَبَقِيَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ ، فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ .
وَالْآخَرُ أَنْ يُحَكِّمَ الزِّيَّ إنْ كَانَ زِيَّ الْفُقَرَاءِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي إلَّا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَشْرَافِ كَالْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي الزِّيِّ مَعَ حَاجَتِهِمْ حَتَّى لَا يَذْهَبَ مَاءُ وَجْهِهِمْ فَلَا يَكُونُ الزِّيُّ فِيهِمْ دَلِيلَ الْيَسَارِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِي النَّفَقَةِ ) بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ الرِّوَايَةِ .
ذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ مُوسِرٌ وَادَّعَتْ نَفَقَةَ الْمُوسِرِينَ وَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ .
وَفِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ مَحْفُوظَتَانِ تُؤَيِّدَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ .
أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِلَّذِي كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى مَعَ أَنَّهُمَا بَاشَرَا عَقْدَ النِّكَاحِ وَالْإِعْتَاقِ ، فَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَالشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي دَعْوَى الْيَسَارِ ، وَأَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِلَّذِي كَانَ الْقَوْلُ لِمَنْ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمَهْرِ وَبَدَلُ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ مَالًا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقَوْلَانِ

الْأَخِيرَانِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ جَوَابٌ عَنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ نُصْرَةً لِلْمَذْكُورِ فِيهِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ : أَيْ النَّفَقَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِنْفَاقِ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ .
وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بِالْإِنْفَاقِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ الصَّحِيحَ هُوَ مَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِبْرَاءِ مَنْ لَهُ أَوْ بِإِيفَاءِ مَنْ عَلَيْهِ ، وَكَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ : حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّيْنِ هُوَ الْمُطْلَقُ مِنْهُ إذْ بِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا بِالْإِيفَاءِ وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ مَالًا أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَ خِبْرَتِهِ عَنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ .
أَمَّا الْحَبْسُ فَلِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِالْمَطْلِ فِي الْحَالِ ، وَأَمَّا تَوْفِيَتُهُ فَلِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ مَالِهِ إنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقُدِّرَ بِمَا ذُكِرَ ، وَيُرْوَى غَيْرُ التَّقْدِيرِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِشَهْرٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ آجِلٌ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : وَهُوَ أَرْفَقُ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ

يَضْجَرُ فِي السِّجْنِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَضْجَرُ كَثِيرَ ضَجَرٍ بِمِقْدَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي ضَجِرَ الْآخَرُ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي رَأْيِهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَضْجَرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَيُظْهِرُ الْمَالَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ سَأَلَ عَنْهُ فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى عُسْرَتِهِ أَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَبْسِ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْبَيِّنَةِ إلَى لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَالْعَدَدِ ، بَلْ إذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ ثِقَةٌ عَمِلَ بِقَوْلِهِ ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَالَ مُنَازَعَةٍ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ كَمَا إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْإِعْسَارَ وَالطَّالِبُ الْيَسَارَ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا شَهَادَةً عَلَى النَّفْيِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ بَعْدَ الْيَسَارِ أَمْرٌ حَادِثٌ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ بِأَمْرٍ حَادِثٍ لَا بِالنَّفْيِ ، وَإِنْ اسْتَحْلَفَ الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مُعْدَمٌ حَلَّفَهُ الْقَاضِي ، فَإِنْ نَكَلَ أَطْلَقَهُ وَإِنْ حَلَفَ أَبَّدَ الْحَبْسَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : هَذَا السُّؤَالُ مِنْ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الْمَدْيُونِ بَعْدَمَا حَبَسَهُ احْتِيَاطٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْإِعْسَارِ شَهَادَةٌ بِالنَّفْيِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ سَأَلَ كَانَ أَحْوَطَ .
قِيلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَسَارِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا بِمِقْدَارِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ فِيمَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي جِوَارَ السَّفِيهِ وَأَنْكَرَ مِلْكَهُ فِي الدَّارِ الَّتِي بِيَدِهِ فِي جَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ فَأَقَامَ الشَّفِيعُ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا مِقْدَارَ نَصِيبِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الْيَسَارِ شَاهِدٌ

عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إنَّمَا تَكُونُ بِمِلْكِ مِقْدَارِ الدَّيْنِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ قَدْرُ الْمِلْكِ لِكَوْنِ قَدْرِ الدَّيْنِ مَعْلُومًا فِي نَفْسِهِ .
أَمَّا الشَّاهِدُ عَلَى النَّصِيبِ فَلَيْسَ بِشَاهِدٍ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ إلَخْ ) فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْمَحْبُوسِ مَالٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي رَآهَا الْقَاضِي بِرَأْيِهِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي اخْتَارَهَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ خَلَّى سَبِيلَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَكَانَ الْحَبْسُ بَعْدَهُ ظُلْمًا .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعَلَ قَوْلَهُ يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلِّيهِ مَا لَمْ تَمْضِ الْمُدَّةُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا فِي نُسَخِ أَدَبِ الْقَاضِي وَقَالُوا : وَإِذَا ثَبَتَ إعْسَارُهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ( وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ) بِأَنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ ثِقَةٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُفْلِسٌ مُعْدَمٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا سِوَى كِسْوَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ وَثِيَابِ لَيْلِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا أَمْرَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ( تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ) وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَبْسِ ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يَحْبِسُهُ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَهُوَ قَوْلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَفِي أُخْرَى

وَعَلَيْهَا عَامَّةُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى النَّفْيِ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَقَبْلَ الْحَبْسِ مَا تَأَيَّدَتْ ، فَإِذَا حُبِسَ وَمَضَتْ مُدَّةٌ فَقَدْ تَأَيَّدَتْ بِهِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ مِنْ مَرَارَةِ الْحَبْسِ لَا يَتَحَمَّلُهَا ( قَالَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ ( خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ ) يَعْنِي الْمَنْعَ عَنْ مُلَازَمَةِ الْمَدْيُونِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحَبْسِ ( فِي الْمُلَازَمَةِ ) هَلْ لِلطَّالِبِ ذَلِكَ أَوْ لَا ( وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ ، وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ وَالْحَبْسُ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فَلَا نُعِيدُهُ .( وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ ) وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّ الْحَقَّ إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَأْوِيلَهُ بِقَوْلِهِ ( وَمُرَادُهُ ) أَيْ مُرَادُ مُحَمَّدٍ ( إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَمَدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ الْعَكْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّأْوِيلُ ( قَوْلُهُ : وَالْحَبْسُ أَوَّلًا ) يَعْنِي أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ الْحَبْسِ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ فَيُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لَهَا فَلَا نُعِيدُهُ .

قَالَ ( وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ ( وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى الْوَالِدِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ( إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِوَلَدِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ إلَخْ ) إذَا فَرَضَ الْقَاضِي عَلَى رَجُلٍ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ أَوْ اصْطَلَحَا عَلَى مِقْدَارٍ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا وَرَفَعَتْ إلَى الْحَاكِمِ حَبَسَهُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِالِامْتِنَاعِ ( وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ } ( إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَ وَلَدِهِ ) وَفِي تَرْكِهِ سَعْيٌ فِي هَلَاكِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ الْوَالِدُ لِقَصْدِهِ إتْلَافَ مَالِ الْوَلَدِ ( وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا ) وَسَائِرُ الدُّيُونِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ فَافْتَرَقَا ، وَكَذَا لَا يُحْبَسُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنْ كَانَ حُبِسَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا ، وَكَذَا الدَّيْنُ مُكَاتَبَةً إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِوُقُوعِ الْمُقَاصَّةِ ، وَإِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَالْمُكَاتَبُ فِي حَقِّ أَكْسَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فَيُحْبَسُ الْمَوْلَى لِأَجْلِهِ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِدَيْنِ الْكِتَابَةِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ فَلَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ ظَالِمًا وَيُحْبَسُ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَقِيلَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ الدَّيْنُ عَنْهُ كَدَيْنِ الْكِتَابَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) .
قَالَ ( وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إذَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ ) لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ( فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ ) لِوُجُودِ الْحُجَّةِ ( وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ ) وَهُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا ( وَإِنْ شَهِدُوا بِهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْخَصْمِ لَمْ يَحْكُمْ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ( وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ ) لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ ، وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَجَوَازُهُ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَخَصْمِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ ، وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ .

( بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) أَوْرَدَ هَذَا الْبَابَ بَعْدَ فَصْلِ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقَضَاءِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ السِّجْنَ يَتِمُّ بِقَاضٍ وَاحِدٍ وَهَذَا بِاثْنَيْنِ ، وَالْوَاحِدُ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَتِهِ ، وَلَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْقَاضِي فَكَيْفَ بِالْكِتَابِ وَفِيهِ شُبْهَةُ التَّزْوِيرِ إذْ الْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ الْخَاتَمَ إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَّزَهُ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ .
قَالَ ( وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إلَخْ ) يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي حُقُوقٍ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَنْدَرِئُ بِهَا إذَا شُهِدَ بِهِ بِضَمِّ الشِّينِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : الْمُسَمَّى سِجِلًّا ، وَالْمُسَمَّى الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إمَّا أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى خَصْمٍ أَوْ لَا ، وَتَنْكِيرُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ إيَّاهُ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابِ ، وَالْكِتَابُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمَدْعُوّ سِجِلًّا ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْحُكْمِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَحْكُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ، وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ لِيَحْكُمَ بِهَا الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ وَهُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ إذَا وَصَلَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ إلَّا التَّنْفِيذُ وَافَقَ رَأْيَهُ أَوْ خَالَفَهُ لِاتِّصَالِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ وَافَقَهُ نَفَّذَهُ وَإِلَّا فَلَا

لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَقَدْ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَتَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ مِنْهَا الْعُلُومُ الْخَمْسَةُ ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَعْلُومٍ فِي مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ ، وَسَنَذْكُرُ مَا عَدَاهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ( قَوْلُهُ : وَجَوَازُهُ ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ جَوَازَهُ ثَابِتٌ بِمُشَابَهَتِهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِاتِّحَادِ الْمَنَاطِ وَهُوَ تَعَذُّرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الشُّهُودِ وَالْخَصْمِ ، فَكَمَا جُوِّزَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكَذَا جُوِّزَ الْكِتَابُ لِذَلِكَ ، وَلَا يُرَادُ بِالْمُشَابَهَةِ الْقِيَاسُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَيُرَادُ بِهِ الِاتِّحَادُ فِي مَنَاطِ الِاسْتِحْسَانِ .
( وَقَوْلُهُ ) : يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ( فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ ) وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ ( وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ ) وَالدَّيْنُ يَجُوزُ فِيهِ الْكِتَابُ فَكَذَا فِيمَا كَانَ فِي مَنْزِلَتِهِ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ يُعْرَفُ ) أَيْ الدَّيْنُ ( يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ) يُشِيرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إلَى أَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ الْكِتَابُ ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ ، وَإِلَى أَنَّ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْكِتَابُ ، وَإِلَى أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِي أَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا سِوَى الدَّيْنِ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَإِنَّ الشَّاهِدَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا يَجُوزُ فِيهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الْخَصْمِ شَرْطٌ فِيمَا ذَكَرْت وَهُوَ

لَيْسَ بِمُدَّعًى بِهِ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ النِّكَاحِ وَالْأَمَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ دَعْوَى الدَّيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ بِالْإِجْمَاعِ ( وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْعَقَارِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ ) وَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ .

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِيهِ دُونَهَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ .

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزَاهُ فِي الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي ( وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْعَبِيدِ دُونَ الْإِمَاءِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ ) فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْدُمُ خَارِجَ الْبَيْتِ غَالِبًا فَيَقْدِرُ عَلَى الْإِبَاقِ فَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْكِتَابِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهَا تَخْدُمُ دَاخِلَ الْبَيْتِ غَالِبًا ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا ) يَعْنِي الْكُتُبَ الْمَبْسُوطَةَ كَالْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ أَدَبِ الْقَاضِي .
وَصِفَةُ ذَلِكَ بُخَارِيٌّ أَبَقَ عَبْدٌ لَهُ إلَى سَمَرْقَنْدَ مَثَلًا فَأَخَذَهُ سَمَرْقَنْدِيٌّ وَشُهُودُ الْمَوْلَى بِبُخَارَى فَطَلَبَ مِنْ قَاضِي بُخَارَى أَنْ يَكْتُبَ بِشَهَادَةِ شُهُودِهِ عِنْدَهُ يُجِيبُ إلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبُ : شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ مِلْكُ فُلَانٍ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ بِيَدِ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُشْهِدُ عَلَى كِتَابِهِ شَاهِدَيْنِ وَيُعْلِمُهُمَا مَا فِيهِ وَيُرْسِلُهُمَا إلَى سَمَرْقَنْدَ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ يَحْضُرُ الْعَبْدُ مَعَ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ يَشْهَدَا عِنْدَهُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِيهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَيُفْتَحُ الْكِتَابُ وَيُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى الْمُدَّعِي وَلَا يُقْضَى لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْمِلْكِ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْ الْمُدَّعِي بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَيَجْعَلُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ خَاتَمًا مِنْ رَصَاصٍ كَيْ لَا يُتَّهَمَ الْمُدَّعِي بِالسَّرِقَةِ ، وَيَكْتُبُ كِتَابًا إلَى قَاضِي بُخَارَى وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَعَلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى قَاضِي بُخَارَى وَشَهِدَا بِالْكِتَابِ وَخَتْمِهِ أَمَرَ الْمُدَّعِيَ بِإِعَادَةِ شُهُودِهِ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ حَقُّهُ وَمِلْكُهُ ، فَإِذَا شَهِدُوا بِذَلِكَ

قَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَكَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيَبْرَأَ كَفِيلُهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَاضِيَ بُخَارَى لَا يَقْضِي لِلْمُدَّعِي بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ غَائِبٌ ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ كِتَابًا آخَرَ إلَى قَاضِي سَمَرْقَنْدَ فِيهِ مَا جَرَى عِنْدَهُ وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَمَا فِيهِ وَيَبْعَثُ بِالْعَبْدِ إلَى سَمَرْقَنْدَ حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَيْهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ ، وَصِفَةُ الْكِتَابِ فِي الْجَوَارِي صِفَتُهُ فِي الْعَبِيدِ غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْفَعُ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُدَّعِي وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَا مَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِئَلَّا يَطَأَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ زَاعِمًا أَنَّهَا مِلْكُهُ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : هَذَا اسْتِحْسَانٌ فِيهِ بَعْضُ قُبْحٍ ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا وَيَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ وَالصِّفَةَ تَشْتَبِهَانِ فَإِنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحُلِيِّ وَالصِّفَاتِ فَالْأَخْذُ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ ) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ .

قَالَ ( وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) لِأَنَّ الْكِتَابَ يُشْبِهُ الْكِتَابَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ ، بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَرَسُولِهِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالتَّزْكِيَةِ .

قَالَ ( وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَخْ ) لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُجَّةِ فَلِأَنَّهُ مُلْزِمٌ وَلَا إلْزَامَ بِدُونِهَا ، وَأَمَّا قَبُولُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَهُوَ مِمَّا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ بِجَوَازِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قِيَاسًا عَلَى كِتَابِ أَهْلِ الْحَرْبِ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ : يَعْنِي إذَا جَاءَ مِنْ مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، حَتَّى لَوْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ رَأْيًا فِي الْأَمَانِ وَتَرْكِهِ ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَعَكْسِهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ عَلَى الْحَاكِمِ لَيْسَ بِالتَّزْكِيَةِ بَلْ هُوَ بِالشَّهَادَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالشَّهَادَةِ بِلَا تَزْكِيَةٍ صَحَّ ، وَقَوْلُهُ : وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي قِيلَ قَدْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ رَسُولَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فِي حَقِّ لُزُومِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ وَبِغَيْرِهَا ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي اتِّحَادَ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابِهِ يَنْعَقِدُ بِرَسُولِهِ أَوْ اتِّحَادُهُمَا فِي عَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُمَا ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وُرُودُ الْأَثَرِ فِي جَوَازِ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الرَّسُولِ فَبَقِيَ عَلَى الْقِيَاسِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ وَالْكِتَابُ وُجِدَ مِنْ مَوْضِعِ الْقَضَاءِ فَكَانَ كَالْخِطَابِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ حُجَّةً ، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَقَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ

، وَالْمُرْسِلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِقَاضٍ ، وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَوْضِعِ قَضَائِهِ كَقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا .

قَالَ ( وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ ) لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ ( ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ ) كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بِحَضْرَتِهِمْ شَرْطٌ ، وَكَذَا حِفْظُ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ غَيْرُ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةٌ عَلَى حِفْظِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا : شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .
وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ ( وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلْحُكْمِ .
قَالَ ( فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ

أَوْ عُزِلَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ مُعَرَّفٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ .

قَالَ ( وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ إلَخْ ) شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَحِفْظَهُ وَالْخَتْمَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكَاتِبُ كِتَابَهُ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ بِلَا عِلْمٍ وَهِيَ بَاطِلَةٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهْم يَعْلَمُونَ } وَيَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَى الشُّهُودِ كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ خَتْمٍ أَوْ بِيَدِ الْخَصْمِ وَهَذَا قَوْلُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّهُ يَدْفَعُ الْكِتَابَ إلَى الطَّالِبِ وَهُوَ الْمُدَّعِي وَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابًا آخَرَ غَيْرَ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةً عَلَى حِفْظِهِمْ ، فَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا : شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، بَلْ إذَا أَشْهَدَهُمْ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا كِتَابَهُ وَخَتَمَهُ فَشَهِدُوا عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَانَ كَافِيًا .
وَعَنْهُ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا سَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا قَالَ آخِرًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ .
قَالَ ( وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ إلَخْ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَانِبِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَانِبِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرِ الْخَصْمِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ فَإِنَّهُ جَازَ

بِغَيْبَةِ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ لَيْسَ لِلْحُكْمِ بَلْ لِلنَّقْلِ فَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْبَتِهِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَقْبَلُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَخْتَصُّ بِالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ الْكِتَابِ فَاعْتُبِرَ حُضُورُ الْخَصْمِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِهِ .
قَالَ ( فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ إلَخْ ) إذَا سَلَّمَ الشُّهُودُ الْكِتَابَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ بِمَا فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ وَفَتَحَهُ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقُدُورِيِّ ظُهُورَ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَإِذَا شَهِدُوا وَعُدِّلُوا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ : أَيْ يَفْتَحُهُ بَعْدَ الْعَدَالَةِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَظْهَرْ الْعَدَالَةُ رُبَّمَا احْتَاجَ الْمُدَّعِي إلَى أَنْ يَزِيدَ فِي شُهُودِهِ ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَة بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ لِيَشْهَدُوا أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي وَخَتْمُهُ ، فَأَمَّا إذَا فَكَّ الْخَاتَمَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَرَى أَنَّهُ دَوْرٌ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ إذَا كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا وَلَمْ تَظْهَرْ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فَكَمَا أَدَّوْا الشَّهَادَةَ جَازَ فَضُّهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شُهُودٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شُهُودٍ بَعْدَ الْفَتْحِ بَلْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَتْمِ وَذَلِكَ بَعْدَ

الْفَتْحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ فَكَّ الْخَاتَمِ نَوْعُ عَمَلٍ بِالْكِتَابِ ، وَالْكِتَابُ لَا يُعْمَلُ بِهِ مَا لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ عَلَى الْكِتَابِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ فَكَّ الْخَاتَمِ عَمَلٌ لِلْكِتَابِ لَا بِهِ ، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَجْوِيزِ الْفَتْحِ عِنْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ بِالْكِتَابِ وَالْخَتْمِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَالَةِ الشُّهُودِ ، كَذَا نَقَلَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْمُغْنِي .
وَالْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إنَّمَا يَقْبَلُ الْكِتَابَ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ فِسْقٍ إذَا تَوَلَّى وَهُوَ عَدْلٌ ثُمَّ فَسَقَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ أَوْ بَعْدَ الْوُصُولِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ بَطَلَ الْكِتَابُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَانِي : يُعْمَلُ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِكِتَابِهِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِالْحَقِّ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَالنَّقْلُ قَدْ تَمَّ بِالْكِتَابِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الْفُرُوعِ إذَا مَاتُوا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ .
وَلَنَا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ أَنَّ الْكَاتِبَ وَإِنْ كَانَ نَاقِلًا إلَّا أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَهُ حُكْمُ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْقَاضِي وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْكَاتِبِ هَذَا النَّقْلُ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَضَاءٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ وَقَبْلَ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقْضِيَةِ إذَا مَاتَ الْقَاضِي قَبْلَ إتْمَامِهَا .

وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُ قَاضٍ آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا عُزِلَ ، أَمَّا فِي الْمَوْتِ أَوْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَالْمَجْنُونَ لَا يُلْتَحَقَانِ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا وَعَلَى أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْقَ كَلَامُهُ حُجَّةً ، فَلَأَنْ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ الْخُرُوجِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ أَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بَطَلَ كِتَابُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْمَلُ بِهِ مَنْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ اعْتَمَدَ عَلَى عِلْمِ الْأَوَّلِ وَأَمَانَتِهِ ، وَالْقُضَاةُ يَتَفَاوَتُونَ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، فَصَارُوا كَالْأُمَنَاءِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَهُنَاكَ قَدْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، فَكَذَا هَاهُنَا إلَّا إذَا صَرَّحَ بِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْكُلِّ بَعْدَ تَعْرِيفِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَعْلُومٍ ثُمَّ صَيَّرَ غَيْرَهُ تَبَعًا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَجْهُولٍ ، وَالْعِلْمُ فِيهِ شَرْطٌ كَمَا مَرَّ وَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي جَوَازِهِ ، فَإِنَّهُ حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَسَّعَ كَثِيرًا تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ ( وَلَوْ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَرَثَتِهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ ) سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُ

الْكِتَابِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَطْلُوبِ أَوْ بَعْدَهُ .

( وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا .( وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ ( وَلَنَا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ) وَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيهِمَا ( وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا ) .

( فَصْلٌ آخِرُ ) ( وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا .
وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ .فَصْلٌ آخَرُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إذَا كَانَ سِجِلًّا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاؤُهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إمْضَاؤُهُ إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ الْحُكْمِيِّ فَإِنَّ الرَّأْيَ لَهُ فِي التَّنْفِيذِ وَالرَّدِّ ، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ تَعْدَادِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِذِكْرِ أَصْلٍ يَجْمَعُهَا ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَمَا يُلْحَقُ بِهِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ مِنْ تَتِمَّةِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، لَكِنَّ قَوْلَهُ آخَرُ يُنَافِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فَصْلٌ قَبْلَ هَذَا حَتَّى يَقُولَ فَصْلٌ آخَرُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَصْلًا آخَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ فَصْلُ الْحَبْسِ وَهَذَا فَصْلٌ آخَرُ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَخْ ) قَضَاءُ الْمَرْأَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ : أَيْ فِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَهِيَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَهِيَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ فِي غَيْرِهِمَا .
قِيلَ أَرَادَ بِهِ مَا مَرَّ قَبْلُ بِخُطُوطٍ مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا ، وَشَهَادَتُهَا كَذَلِكَ كَمَا سَيَجِيءُ وَقَضَاؤُهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ شَهَادَتِهَا .

( وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ .
وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي فَأَجَازَ الْأَوَّلُ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْعَزْلَ هُوَ الصَّحِيحُ .

( وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ ) بِعُذْرٍ وَبِغَيْرِهِ ( إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ ) أَيْ بِالْقَضَاءِ ( فَصَارَ كَالْوَكِيلِ ) لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ ( بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ ) يَجُوزُ لَهُ أَنْ ( يَسْتَخْلِفَ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْجُمُعَةِ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ ) بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ بِانْقِضَائِهِ ( فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ الْخَلِيفَةِ إذْنًا لَهُ بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً ) لَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ فَلَوْ افْتَتَحَ الْأَوَّلُ الصَّلَاةَ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ بَانٍ لَا مُفْتَتِحٌ .
وَاعْتُرِضَ بِمَنْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ ، وَهُوَ مُفْتَتِحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَصَارَ خَلِيفَةً لِلْأَوَّلِ اُلْتُحِقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ .
وَأَرَى أَنَّ إلْحَاقَهُ بِالْبَانِي لِتَقَدُّمِ شُرُوعِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ ) أَيْ لَيْسَ الْقَضَاءُ كَالْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ الْعُذْرِ ، فَمَنْ أَذَّنَ بِالْجُمُعَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ فَقَدْ رَضِيَ بِالِاسْتِخْلَافِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ ( فَلَوْ ) فَرَضْنَا أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ ، وَ ( قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي ) عِنْدَ غَيْبَةِ الْأَوَّلِ ( فَأَجَازَهُ الْأَوَّلُ جَازَ ) إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ ( كَمَا فِي الْوَكَالَةِ ) فَإِنَّ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ وَتَصَرَّفَ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ أَوْ أَجَازَهُ الْأَوَّلُ جَازَ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ )

يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلْمَسْأَلَتَيْنِ ، أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ رَضِيَ بِقَضَاءٍ حَضَرَهُ رَأْيُ الْقَاضِي وَقْتَ نُفُوذِهِ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ ، وَالْحُكْمُ الَّذِي حَضَرَهُ الْقَاضِي أَوْ أَجَازَهُ قَضَاءٌ حَضَرَهُ رَأْيُ الْقَاضِي فَيَكُونُ رَاضِيًا بِهِ ، وَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ فَسَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، قِيلَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ فَلِمَ اخْتَلَفَا فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ .
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَذِنَ لَهُ الْقَاضِي بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ قَضَاءٌ لَمْ يَحْضُرْهُ رَأْيُ الْقَاضِي وَكَانَ رِضَا الْخَلِيفَةِ بِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي مُقَيَّدًا بِهِ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا فَوَّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ ) أَيْ إذَا قَالَ الْخَلِيفَةُ لِلْقَاضِي وَلِّ مَنْ شِئْت كَانَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ ( فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت فَيَمْلِكُ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ ، فَإِذَا قَالَ الْخَلِيفَةُ وَلِّ مَنْ شِئْت وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا لَهُ بِالتَّوْلِيَةِ ، وَالْعَزْلُ خِلَافُهُ ، وَإِذَا أَضَافَ إلَى ذَلِكَ وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت كَانَ أَمْرًا لَهُ بِهِمَا فَكَانَا لَهُ ، فَإِذَا قَالَ الْخَلِيفَةُ لِرَجُلٍ جَعَلْتُك قَاضِيَ الْقُضَاةِ كَانَ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ وَالْعَزْلِ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْقُضَاةِ تَقْلِيدًا وَعَزْلًا ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْقَاضِي فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُفَوَّضٌ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ تَوْكِيلًا وَإِيصَاءً ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِ الْوِصَايَةِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَقَدْ يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى

مُوجِبِ الْوِصَايَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْمُوصِي فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ رَاضِيًا بِاسْتِعَانَتِهِ بِغَيْرِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ .
وَقِيلَ الْقَاضِي يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْإِيصَاءَ وَلَا يَمْلِكُ التَّقْلِيدَ ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْلِيدِ يَجْرِي فِيهِمَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ فَيَكُونُ تَوَقُّعُ الْفَسَادِ فِي الْقَضَاءِ أَكْثَرَ .

قَالَ ( وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ يُنْفِذُهُ وَلَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ .

قَالَ ( وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَخْ ) إذَا تَقَدَّمَ رَجُلٌ إلَى قَاضٍ ، وَقَالَ حَكَمَ عَلَيَّ فُلَانٌ الْقَاضِي بِكَذَا وَكَذَا نَفَّذَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُخَالِفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أَوْ السُّنَّةِ : أَيْ الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي التَّقْرِيرِ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، أَوْ الْإِجْمَاعِ كَالْحُكْمِ بِبُطْلَانِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ ، أَوْ يَكُونُ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ قِيلَ كَمَا إذَا مَضَى عَلَى الدَّيْنِ سُنُونَ فَحَكَمَ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ عَمَّنْ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ شَرْعِيَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَنْ يَكُونَ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ عَدَمُ تَنْفِيذِهِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِسَبَبِ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ .
وَفِيهِ فَائِدَتَانِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَيَّدَ بِالْفُقَهَاءِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَاتَّفَقَ قَضَاؤُهُ بِمَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يُنَفِّذُهُ الْمَرْفُوعُ إلَيْهِ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْحُكْمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَنْفُذُ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا ، فَإِنَّهُ إذَا نَفَّذَهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ فَفِيمَا يُوَافِقُهُ أَوْلَى ، وَرِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ سَاكِتَةٌ عَنْ الْفَائِدَتَيْنِ جَمِيعًا .
( وَالْأَصْلُ ) فِي تَنْفِيذِ الْقَاضِي مَا

يُرْفَعُ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ ( أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ يَنْفَدُ وَلَا يَرُدُّ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ ) فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ ( وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا دُونَهُ ) دَرَجَةً وَهُوَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْقَضَاءُ فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْفَرْعُ مُرَجِّحًا لِأَصْلِهِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْهُ أَوْ مُطْلَقًا .
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا لِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ بَقَاءُ الْأَصْلِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلٍ بِلَا فَرْعٍ ، إذْ الشَّيْءُ الْمُسَاوِي لِلشَّيْءِ فِي الْقُوَّةِ لَا يَرْفَعُ مَا يُسَاوِيهِ فِيهَا مَعَ شَيْءٍ آخَرَ ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا شَغَلَهُ أَشْغَالُ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعَانَ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَضَى زَيْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَقَالَ : إنَّ زَيْدًا قَضَى عَلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَوْ كُنْت لَقَضَيْت لَك ، فَقَالَ : مَا يَمْنَعُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّاعَةَ ؟ فَاقْضِ لِي فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ كَانَ هُنَا نَصٌّ آخَرُ لَقَضَيْت لَك ، وَلَكِنْ هَاهُنَا رَأْيٌ وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ .

( وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ) وَوَجْهُ النَّفَاذِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ وَذَلِكَ خِلَافٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ .

( وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَوَجْهُ النَّفَاذِ ) وَهُوَ دَلِيلُ النِّسْيَانِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَإٍ بِيَقِينٍ ) لِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ بِهِ نَافِذٌ كَعَامَّةِ الْمُجْتَهَدَاتِ .
وَوَجْهُ عَدَمِهِ أَنَّهُ زَعَمَ فَسَادَ قَضَائِهِ وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِزَعْمِهِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ ) فَيَعْمَلُ بِهِ بِزَعْمِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ) قَالَ ( ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مَاضٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ فَقَالَ ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَرُفِعَ إلَى آخَرَ لَمْ يُنَفِّذْهُ بَلْ يُبْطِلُهُ حَتَّى لَوْ نَفَّذَهُ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نُقِضَ ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ ، وَالْبَاطِلُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الثَّانِي نَفَّذَهُ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ نَقَضَهُ فَرُفِعَ إلَى ثَالِثٍ فَإِنَّهُ يُنْفِذُ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ وَيُبْطِلُ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالثَّانِي مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَمُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ لَا يَنْفُذُ ، وَالْمُرَادُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ نَصِّ الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الْأَبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ ، فَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ

مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ ( وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا ) كَمَا ذَكَرْنَا ( وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ) أَيْ جُلُّ النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ ( وَمُخَالَفَةُ الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ ) فَعَلَى هَذَا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْوَاحِدُ الْمُخَالِفُ مِمَّنْ لَمْ يُسَوِّغْ اجْتِهَادُهُ ذَلِكَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَازِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ لَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ فَلَمْ يَتْبَعْهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَجَبَ نَقْضُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْحُرْمَةِ بِدُونِهِ فَأَمَّا إذَا سُوِّغَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي اشْتِرَاطِ حَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْجَمْعِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَفِي إعْطَائِهَا ثُلُثَ الْجَمِيعِ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ، وَلَعَلَّهُ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ خِلَافَ الْأَقَلِّ غَيْرُ مَانِعٍ لِانْعِقَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ( قَوْلُهُ : وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَجْعَلُ الْمَحَلَّ مُجْتَهَدًا فِيهِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا الَّذِي يَقَعُ بَعْدَهُمْ ، وَعَلَى هَذَا إذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ أَوْ الْمَالِكِيُّ بِرَأْيِهِ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ لَمْ يَرَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ .

قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمٍ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَدْ مَرَّتْ فِي النِّكَاحِ .

قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمٍ إلَخْ ) كُلُّ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي بِتَحْرِيمِهِ فِي الظَّاهِرِ : أَيْ فِيمَا بَيْنَنَا فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ : أَيْ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامٌ ، وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ كَنِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ، فَمِنْ الْعُقُودِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَأَنْكَرَتْ فَأَقَامَ عَلَيْهَا شَاهِدَيْ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا وَحَلَّ لِلْمَرْأَةِ التَّمْكِينُ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرُ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ وَأَنْكَرَ .
وَمِنْهَا مَا إذَا قَضَى بِالْبَيْعِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي مِثْلَ أَنْ قَالَ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَضَاءُ بِالنِّكَاحِ بِحُضُورِ مَنْ يَصْلُحُ شَاهِدًا فِيهِ وَبِالْبَيْعِ بِثَمَنِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ أَوْ لَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ لِإِنْشَاءِ النِّكَاحِ قَصْدًا وَالْإِنْشَاءُ هَاهُنَا يَثْبُتُ اقْتِضَاءً فَلَا تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ وَأَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ مُبَادَلَةٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَالْمُكَاتَبُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا التَّبَرُّعَ فَكَانَ كَسَائِرِ الْمُبَادَلَاتِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَصِيرُ مُنْشِئًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُنْشِئًا فِيمَا

لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ .
وَمِنْ الْفُسُوخِ مَا إذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْجَارِيَةِ وَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَفَسَخَ الْقَاضِي حَلَّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا .
وَمِنْهَا مَا إذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ شَاهِدَيْ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَلَّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي وَطْؤُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ لَمْ يُطَلِّقْهَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ ، وَقَالَا : إنْ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ الْوَطْءُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَهُمَا لَمْ تَقَعْ بَاطِنًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ لَمْ تَقَعْ بَاطِنًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ زَانِيًا عِنْدَ النَّاسِ فَيَحُدُّونَهُ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا سِرًّا ؛ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي ، فَإِذَا دَخَلَ بِهَا لَا يَحِلُّ سَوَاءٌ عَلِمَ الثَّانِي بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .

قَالَ ( وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فَظَهَرَ الْحَقُّ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَلَا مُنَازَعَةَ دُونَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَدْ يَكُونُ نَائِبًا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ وَهَذَا فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ ، أَمَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لِحَقِّهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَقَدْ عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ .

قَالَ ( وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَخْ ) الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ وَلَهُ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا حَضَرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ غَابَ عَنْ الْبَلَدِ أَوْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَاسْتَتَرَ فِي الْبَلَدِ جَازَ ، وَإِلَّا لَا يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِتَارِ تَضْيِيعًا لِلْحُقُوقِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْقَضَاءِ بِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ ، فَإِذَا وُجِدَتْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَيَحِلُّ لِلْقَاضِي الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا ، وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ حُجَّةً ضَرُورَةَ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَأَقَرَّ بِالْحَقِّ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَلَا مُنَازَعَةَ إلَّا بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ ، فَإِنْ قَالَ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالشَّهَادَةِ بِدُونِ الْإِنْكَارِ إذَا حَضَرَ الْخَصْمُ وَسَكَتَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ مُنْكِرًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَسْكُتَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ رَفْعًا لِظُلْمِهِ إنْ أَرَادَ بِسُكُوتِهِ تَوْقِيفَ حَالِ الْمُدَّعِي عَنْ سَمَاعِ الْحُجَّةِ فَكَانَ الْإِنْكَارُ مَوْجُودًا حُكْمًا ، وَإِنْ قَالَ سَلَّمْنَا أَنْ لَا مُنَازَعَةَ إلَّا بِالْإِنْكَارِ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِقْرَارِ ، إذْ الْأَصْلُ فِي الْيَدِ الْمِلْكُ .
قُلْنَا : مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ صَادِقٌ ظَاهِرُ الْوُجُودِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ الْكَذِبِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَهُوَ لَا يَتْرُكُ الْإِقْرَارَ لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ أَيْضًا .
وَإِنْ قَالَ لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ كَانَ الْوَاجِبُ سَمَاعَ الْحُجَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
قُلْنَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ

، وَسَيَأْتِي لَهُ جَوَابٌ آخَرُ .
وَإِنْ قَالَ وَقْفُ الْحُكْمِ عَلَى حُضُورِ الْخَصْمِ غَيْرُ مُفِيدٍ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَضَرَ فَأَقَرَّ لَزِمَتْ الدَّعْوَى وَإِنْ أَنْكَرَ فَكَذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لَا يَظْهَرُ بِهَا إلَّا بِالنِّزَاعِ وَبِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطْعَنَ فِي الشُّهُودِ وَيُثْبِتَهُ أَوْ يُسَلِّمَ الدَّعْوَى وَيَدَّعِيَ الْأَدَاءَ وَيُثْبِتَهُ ، أَوْ يُقِرَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَبْطُلُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ مُمْكِنٌ وَفِيهِ إبْطَالُهُ ، وَصَوْنُ الْحُكْمِ عَنْ الْبُطْلَانِ مِنْ أَجْلِ الْفَوَائِدِ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْإِقْرَارُ إلَخْ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَازَعَانِ وَيَشْتَبِهَ فِي وَجْهِ الْقَضَاءِ وَأُعْمِلَ الثَّانِي ؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّأْنَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ ، أَوْ وَجْهُ الْقَضَاءِ يَحْتَمِلُهُمَا مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ عَلَى الْحَاكِمِ وَجْهُ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَيَظْهَرُ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْبُيُوعِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الرَّجُلُ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ كَاسْمِهَا مُبَيِّنَةٌ فَيَظْهَرُ مِلْكُ الْجَارِيَةِ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مُتَفَرِّعًا عَنْ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْمُسْتَحِقِّ وَلِهَذَا تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } " فَإِنَّهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِ الْخَصْمِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، أَوْ بِحَدِيثِ هِنْدٍ حَيْثُ قَالَتْ " { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي ، فَقَالَ : خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } " فَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَهُوَ غَائِبٌ أَجَبْنَاهُ عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَقَرَّ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنِّزَاعِ ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ لَا ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ " { لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ ، فَإِنَّك إذَا سَمِعْت كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْت كَيْفَ تَقْضِي } " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ حَدِيثِ هِنْدٍ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ ( قَوْلُهُ : لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ ) يَعْنِي لَا يَقْضِي الْقَاضِي فِي غَيْبَتِهِ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ وَسُمِعَتْ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ ( ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْقَضَاءِ وَهُوَ الْجَوَابُ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا سَيَأْتِي ( وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ ) فَإِنَّهُ يَقُولُ : الشَّرْطُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِالِاسْتِصْحَابِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ يَصْلُحُ لِلرَّفْعِ لَا لِلْإِثْبَاتِ .
قَالَ (

وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ إلَخْ ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَامَ الْحَاضِرِ مَقَامَ الْغَائِبِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ أَوْ يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ الْغَائِبَ كَمَا إذَا وَكَّلَ شَخْصًا وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ الْقَاضِيَ كَمَا إذَا أَقَامَ وَصِيًّا مِنْ جِهَتِهِ .
وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَازِمًا لِمَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ أَوْ شَرْطًا لِحَقِّهِ ، فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَازِمًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى وَاحِدًا كَمَا إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّ الْمُدَّعَى وَهُوَ الدَّارُ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَمَا ادَّعَى عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ لَا مَحَالَةَ ، أَوْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، كَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَا فُلَانٍ الْغَائِبِ فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ بَيِّنَةً أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ أَعْتَقَهُمَا وَهُوَ يَمْلِكُهُمَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَالْمُدَّعَى شَيْئَانِ : الْمَالُ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْعِتْقُ عَلَى الْغَائِبِ ، وَالْمُدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبُ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الشَّهَادَةِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْعِتْقِ بِحَالٍ فَالْقَضَاءُ فِيهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ ، وَالْحَاضِرُ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْأَوَّلِ أَوْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فِي الثَّانِي لِعَدَمِ الِانْفِكَاكِ ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَهُمَا نَظَائِرُ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ ،

وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِلسَّبَبِيَّةِ ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ اللَّازِمِ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ بِلَوَازِمِهِ ، وَقَيَّدْنَا السَّبَبَ بِقَوْلِنَا لَازِمًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ سَبَبًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ .
فَإِنَّ الْحَاضِرَ فِيهِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ، كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةِ رَجُلٍ غَائِبٍ إنَّ زَوْجَك فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَنِي أَنْ أَحْمِلَكِ إلَيْهِ ، فَقَالَتْ : إنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا فِي حَقِّ قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا لَا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى الْغَائِبِ ، حَتَّى إذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ الطَّلَاقَ يَجِبُ عَلَيْهَا إعَادَةُ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَازِمٍ لِثُبُوتِ مَا يُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ وَهُوَ قِصَرُ يَدِهِ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَتَى تَحَقَّقَ قَدْ لَا يُوجِبُ قِصَرَ يَدِ الْوَكِيلِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْحَمْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ يُوجِبُ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْحَمْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَقُلْنَا : يَقْضِي بِقِصَرِ الْيَدِ دُونَ الطَّلَاقِ عَمَلًا بِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ قُلْت : اكْتَفَى بِالْإِطْلَاقِ لِصَرْفِ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَامِلِ عَنْ التَّقْيِيدِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْنِي مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ شَرْطًا لِحَقِّهِ ، أَيْ لِحَقِّ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقَ فُلَانٌ امْرَأَتَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَادَّعَتْ امْرَأَةُ الْحَالِفِ عَلَيْهِ أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قَالَ الْمُصَنِّفُ : فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهَا عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا

تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ إنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ وَيُجْعَلُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ كَمَا فِي السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي كَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّبَبِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْطِ .
لَا يُقَالُ : الْمُعْتَبَرُ هُوَ السَّبَبُ اللَّازِمُ وَالتَّوَقُّفُ فِيهِ أَكْثَرُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَوَقُّفُ مَا يُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ عَلَى مَا يُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ فِي الشَّرْطِ مَوْجُودٌ .
وَأَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ الْمُسَخَّرَ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَهُوَ مَنْ يُنَصِّبُهُ وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ لِيَسْتَمِعَ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِيمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَائِبِ وَالْمُسَخَّرُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ .

قَالَ ( وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ ) لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً ، وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالْكِتَابَةِ لِيَحْفَظَهُ ( وَإِنْ أَقْرَضَ الْوَصِيُّ ضَمِنَ ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ ، وَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ .

قَالَ ( وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى إلَخْ ) لِلْقَاضِي أَنْ يُقْرِضَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبَ الصَّكَّ لِأَجْلِ تَذْكِرَةِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِقْرَاضُ ، ؛ لِأَنَّ فِي إقْرَاضِ أَمْوَالِهِمْ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَائِهَا مَحْفُوظَةً فَإِنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ وَبِالْوَدِيعَةِ إنْ حَصَلَ الْحِفْظُ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً ، وَبِالْقَرْضِ تَصِيرُ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً فَيُقْرِضُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يُؤْمَنْ التَّوَى لِجُحُودِ الْمُسْتَقْرِضِ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَهُ وَبِالْكِتَابَةِ يَحْصُلُ الْحِفْظُ وَيَنْتَفِي النِّسْيَانُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ وَالضَّمَانَ وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ بِالْإِقْرَاضِ لَكِنَّ مَخَافَةَ التَّوَى بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ وَلَا كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ ، وَالْأَبُ كَالْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْعَتَّابِيِّ ، وَفِي رِوَايَةٍ : يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ كَوِلَايَةِ الْقَاضِي ، وَشَفَقَتُهُ تَمْنَعُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْرِضُهُ مِمَّنْ يَأْمَنُ جُحُودَهُ ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْأَبُ قَرْضًا لِنَفْسِهِ فَالْقِرَاضُ يَجُوزُ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ

( بَابُ التَّحْكِيمِ ) .
( وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ ) لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُوَلَّى ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا ( وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا ) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا ( وَإِذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ( وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ ) لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ .

بَابُ التَّحْكِيمِ ) هَذَا بَابٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ ، وَتَأْخِيرُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُحَكَّمَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْ الْقَاضِي لِاقْتِصَارِ حُكْمِهِ عَلَى مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي .
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ : تَعَالَى فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ ( وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَصِحُّ تَحْكِيمُهُمَا وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا ) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا ( وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَكِنَّهَا وَقَعَتْ فَإِنَّهُمَا جَائِزَانِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ التَّحْكِيمِ عِنْدَهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ صَلَحَ مَعْنًى حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالصُّلْحُ لَا يُعَلَّقُ وَلَا يُضَافُ ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ ( وَإِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ ) اُشْتُرِطَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ ( فَلَوْ حَكَّمَا امْرَأَةً فِيمَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ جَازَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيهَا ) قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فَمَنْ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يُقَلَّدُ حَاكِمًا وَلَا مُحَكَّمًا ، فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ إنْ حَكَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَإِنْ حَكَّمَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا كَتَقْلِيدِ السُّلْطَانِ إيَّاهُ ، وَتَقْلِيدُ الذِّمِّيِّ

لِيُحَكِّمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَحِيحٌ دُونَ الْإِسْلَامِ ، فَكَذَا تَحْكِيمُهُ ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَإِنْ تَابَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا كَمَا سَيَأْتِي ، وَالْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا لَكِنْ إذَا حُكِّمَ الْفَاسِقُ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ ، وَلَوْ قُلِّدَ جَازَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكَّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ ( فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وُجُودِهِمَا ، وَأَمَّا عَدَمُهُ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى عَدَمِهِمَا بَلْ يَعْدَمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْرَاجُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ .
قُلْنَا : مَا تَمَّ الْأَمْرُ وَإِنَّمَا التَّمَامُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَلَا نَقْضَ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ لَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلُزُومِ الْحُكْمِ بِصُدُورِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى ثُمَّ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَازِمٌ ( وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى حَاكِمٍ فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ) إذَا نَقَضَهُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِذَلِكَ فَ ( لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ) وَفَائِدَةُ إبْرَامِهِ أَنَّهُ لَوْ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَقْضِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ لَتَمَكَّنَ ؛ لِأَنَّ إمْضَاءَ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ نَفْسِهِ ( وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ ) بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ الثَّانِي وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ فَكَانَ قَضَاؤُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ

أَنْ يَرُدَّهُ .

( وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِرِضَاهُمَا قَالُوا : وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهُوَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ ، وَيُقَالُ يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْمُوَلَّى دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ .
وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَيْضًا إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ وَهُمَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَائِمَةٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْقِضَاءِ الْوِلَايَةِ كَقَوْلِ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَخْ ) لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِاسْتِيفَائِهَا ، وَأَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْمَشَايِخُ ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ التَّحْكِيمُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ جَائِزٌ .
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ صُلْحِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْكِيمَ فِي الْقِصَاصِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَيْهِمَا وَهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ التَّحْكِيمَ لَا يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ ، وَهُوَ دَلِيلُ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ الْحُدُودِ .
وَقَالُوا فِي ذَلِكَ : ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحَكِّمِينَ فَكَانَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَا تُسْتَوْفَى بِالشُّبُهَاتِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى أَشْمَلُ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ ( قَوْلُهُ : وَقَالُوا ) أَيْ قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا ( وَتَخْصِيصُ الْقُدُورِيِّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ ) كَالْكِنَايَاتِ فِي جَعْلِهَا رَجْعِيَّةً وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَصْحَابِنَا ( وَهُوَ صَحِيحٌ ) لَكِنَّ الْمَشَايِخَ امْتَنَعُوا عَنْ الْفَتْوَى بِذَلِكَ ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ تُعْلَمُ وَلَا يُفْتَى بِهَا ، وَكَانَ يَقُولُ : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ النَّسَفِيَّ كَانَ يَقُولُ : يُكْتَمُ هَذَا الْفَصْلُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقَ الْجُهَّالُ إلَى ذَلِكَ فَيُؤَدِّيَ إلَى هَدْمِ مَذْهَبِنَا .
وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ لَا يَنْفُذُ إلَّا فِي صُورَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَحْكُمَ

بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ .
وَحُكْمُ الْحَكَمِ لَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِ الْمُحَكِّمِينَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ رَأْيَهُ وَمُخَالِفٌ لِنَصِّ حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ " قُومُوا فَدُوهُ " كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ : إلَّا إذَا ثَبَتَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي : أَيْ رَدَّ قَضَاءَهُ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ ، وَأَمَّا أُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَتَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَ دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ أَوْ كَانَ عَمْدًا وَقَضَى عَلَى الْجَانِي جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ وَقَدْ رَضِيَ الْجَانِي بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ بِأَنْ كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَتْ خَطَأً لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهَا أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْجَانِي خَالَفَ حُكْمَ الشَّرْعِ ، وَإِنْ قَضَى عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْعَاقِلَةُ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ ( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا صَارَ حَكَمًا عَلَيْهِمَا بِتَسْلِيطِهِمَا جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ ( وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ ، وَإِذَا أَخْبَرَ الْمُحَكَّمُ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ) بِأَنْ يَقُولَ لِأَحَدِهِمَا اعْتَرَفْت عِنْدِي لِهَذَا بِكَذَا ( أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَامَتْ عِنْدِي عَلَيْك بَيِّنَةٌ لِهَذَا بِكَذَا فَعُدِّلُوا عِنْدِي وَقَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ وَحَكَمْت بِهِ لِهَذَا عَلَيْك فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ

أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِشَيْءٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَقَضَى الْقَاضِي وَنَفَذَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَكَّمَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ( إذَا كَانَ عَلَى تَحْكِيمِهِمَا ) فَيَمْلِكُ الْإِخْبَارَ كَالْقَاضِي الْمُوَلَّى إذَا قَالَ فِي قَضَائِهِ لِإِنْسَانٍ قَضَيْت عَلَيْك لِهَذَا بِإِقْرَارِك أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدِي عَلَى ذَلِكَ ( فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ ) وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا ( وَإِنْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُحَكَّمُ كُنْت حَكَمْت عَلَيْك لِهَذَا بِكَذَا ( لَمْ يُصَدَّقْ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَكَمَ صَارَ مَعْزُولًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ : إنِّي حَكَمْت بِكَذَا كَالْقَاضِي الْمُوَلَّى إذَا قَالَ بَعْدَ عَزْلِهِ حَكَمْت بِكَذَا .

( وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ بَاطِلٌ وَالْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمُ فِيهِ سَوَاءٌ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ لَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَا الْقَضَاءُ ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .( وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ لِهَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ ( وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ مَقْبُولَةٌ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ .
وَإِذَا حَكَّمَا رَجُلَيْنِ جَازَ وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ ) فَلَوْ حَكَّمَ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَيْسَ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى ، وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا بَعْدَ الْقِيَامِ انْعَزَلَا فَصَارَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ .

( مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ ) قَالَ ( وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا يَنْقُبَ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ ( وَقَالَا : يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ .
قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا خِلَافَ .
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ فَإِذَا أُشْكِلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلْوِ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ .

مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ : مَسَائِلُ شَتَّى : أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مِنْ شَتَّتَ تَشْتِيتًا : إذَا فَرَّقَ .
ذَكَرَ فِي آخِرِ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مَسَائِلَ مِنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ مِنْ الْكِتَابِ وَيُتَرْجِمُونَهُ بِمَسَائِلَ شَتَّى أَوْ مَنْثُورَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ .
قِيلَ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى آخِرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَضَاءَ بِالْمَوَارِيثِ وَالرَّحِمِ وَإِنَّهُ لَجَدِيرٌ بِالتَّأْخِيرِ لَا مَحَالَةَ ( وَإِذَا كَانَ عُلُوٌّ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا أَنْ يَنْقُبَ فِيهِ كُوَّةً بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ ) وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ وَلَا أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جِذْعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا يُحْدِثَ كَنِيفًا إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ ، وَقِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا مَنَعَ عَمَّا مَنَعَ إذَا كَانَ مُضِرًّا ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا فَلَا يُمْنَعُ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا فَكَانَ جَوَازُ التَّصَرُّفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْآخَرُ فَصْلًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِهِ ( وَقِيلَ ) لَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَإِنَّمَا الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ ) فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ إلَّا بِعَارِضِ الضَّرَرِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ لَمْ يُمْنَعْ ( بِالِاتِّفَاقِ ، وَ ) إنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ ( إذَا أَشْكَلَ ) فَعِنْدَهُمَا ( لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بِيَقِينٍ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ( وَالْأَصْلُ

عِنْدَهُ الْحَظْرُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ ، وَهُوَ ) صَاحِبُ الْعُلُوِّ ؛ لِأَنَّ قَرَارَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ الْهَدْمِ اتِّفَاقًا ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ بِمَنْعِ الْمَالِكِ مِنْ التَّصَرُّفِ كَمَا مُنِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ الْمَالِكَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ ( وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ ) وَهُوَ الرِّضَا بِهِ دُونَ عَدَمِ الضَّرَرِ فَتَأَمَّلْ ( فَإِذَا أَشْكَلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلُوِّ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ ) اسْتِظْهَارٌ عَلَى الْمَنْعِ لِإِفَادَةِ مَا قَبْلَهُ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى ) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ إذْ هُوَ لِأَهْلِهَا خُصُوصًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَهْلِ الْأُولَى فِيمَا بِيعَ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ ، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ .
قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ جِدَارِهِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ .
وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ ( وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا ) بَابًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً إلَخْ ) سِكَّةٌ طَوِيلَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ تَنْشَعِبُ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ يَسَارِهَا مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ : لَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى ؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ لِلْمُرُورِ ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ ؛ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا لِأَهْلِهَا خَاصَّةً لِكَوْنِهَا غَيْرَ نَافِذَةٍ بِمَنْزِلَةِ دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَكَذَا هَذَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي تِلْكَ السِّكَّةِ الْقُصْوَى لَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ الْعُظْمَى أَنْ يَأْخُذُوا بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّكَّةَ لَهُمْ خَاصَّةً ، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ .
ثُمَّ قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ رَفْعُ بَعْضِ جِدَارِهِ .
وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ جِدَارِهِ بِالْهَدْمِ فَرَفْعُ بَعْضِهِ أَوْلَى ، وَلِهَذَا لَوْ فَتَحَ كُوَّةً أَوْ بَابًا لِلِاسْتِضَاءَةِ دُونَ الْمُرُورِ لَمْ يُمْنَعْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْفَتْحِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ رُبَّمَا يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّائِغَةَ الْأُولَى غَيْرُ نَافِذَةٍ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ، إلَّا إذَا جَعَلْت الضَّمِيرَ مَوْضُوعًا مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وَذَلِكَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الزَّائِغَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إلَى الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ صَحِيحَةٌ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } أَيْ بِذَلِكَ

عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ الزَّائِغَةُ الْقُصْوَى مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا : يَعْنِي سِكَّةً فِيهَا اعْوِجَاجٌ حَتَّى بَلَغَ اعْوِجَاجُهَا رَأْسَ السِّكَّةِ وَالسِّكَّةُ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ ؛ لِأَنَّهَا سِكَّةٌ وَاحِدَةٌ إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا ، وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ ) وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ إلَخْ ) دَارٌ بِيَدِ رَجُلٍ ادَّعَى عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا .
وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ثُمَّ صَالَحَ مِنْهَا جَازَ الصُّلْحُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى وَمَعْلُومِيَّةُ مِقْدَارِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الدَّعْوَى ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمَانِعُ مِنْهَا مَا أَفْضَى إلَيْهَا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : جَهَالَةُ الْمُدَّعَى إمَّا أَنْ تَكُونَ مَانِعَةَ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ دَعْوَى مَنْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَكِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمَا جَازَ الصُّلْحُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعَى لَكِنَّهُ صَحِيحٌ .
وَالْجَوَابُ بِاخْتِيَارِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّهُ لِقَطْعِ الشَّغَبِ وَالْخِصَامِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْحَقِّ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لِلْمُدَّعِي دَعْوَاك فَاسِدَةٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَيُمْكِنُهُ إزَالَةُ الْفَسَادِ بِإِعْلَامِ مِقْدَارٍ مِمَّا يَدَّعِي فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ مُفِيدًا .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتِ كَذَا فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ إذْ هُوَ يَدَّعِي الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهَا ، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا ، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ عَنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عِنْدَهَا .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ إلَخْ ) إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ مَثَلًا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَجَحَدَ دَعْوَاهُ ذُو الْيَدِ فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى الشِّرَاءِ ؛ لِأَنِّي طَلَبْت مِنْهُ فَجَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاضْطُرِرْت إلَى شِرَائِهَا مِنْهُ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَشْهَدْت عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ حَيْثُ قَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَالشُّهُودُ شَهِدُوا بِشِرَاءٍ قَبْلَهَا فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى .
وَالثَّانِي مِنْ حَيْثُ الدَّعْوَى نَفْسُهَا إنْ ثَبَتَ مُوجِبُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ تَقَدُّمُ وَقْتِ الشِّرَاءِ عَلَى وَقْتِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَائِلًا وَهَبَ لِي هَذِهِ الدَّارَ وَكَانَتْ مِلْكًا لِي بِالشِّرَاءِ قَبْلَ الْهِبَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالشِّرَاءِ ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي ادَّعَى فِيهِ الْهِبَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ .
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهْم يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهُ : أَيْ قَبْلَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ وَقْتَهَا ، وَفِي بَعْضِهَا قَبْلَهَا : أَيْ قَبْلَ الْهِبَةِ ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ وَقْتَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَ الْهِبَةِ وَدَعْوَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا رُجُوعٌ مِنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا .
وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَ الْوَاهِبِ

عِنْدَهَا فَلَيْسَ بِمُنَاقِضٍ .
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شِرَاءً بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شِرَاءَ مَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْهِبَةَ فَقَدْ فَسَخَهَا مِنْ الْأَصْلِ وَتَوَقَّفَ الْفَسْخُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَلَى رِضَاهُ ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ الْفَسْخِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَانْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِتَرَاضِيهِمَا وَاشْتَرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ فَكَانَ صَحِيحًا .

( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا ) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَهُ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ ، إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ الْفَسْخِ ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا وَمَا يُضَاهِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِع فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ .
قَالَ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ إلَخْ ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَهُ إنْ أَجْمَعَ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ : أَيْ عَزَمَ بِقَلْبِهِ ، وَقِيلَ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يُخَاصِمَ مَعَهُ وَسِعَهُ : أَيْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الْعَقْدَ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنْكَارٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَالْفَسْخُ رَفْعٌ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَتَلَاقَيَانِ بَقَاءً فَجَازَ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ تَجَاحَدَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا مَحَالَةَ ، فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ تَمَّ الْفَسْخُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
قِيلَ لَوْ جَازَ قِيَامُ الْجُحُودِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ مَقَامَ الْفَسْخِ لَجَازَ لِامْرَأَةٍ جَحَدَ زَوْجُهَا النِّكَاحَ وَعَزَمَتْ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ إقَامَةً لَهُمَا مَقَامَ الْفَسْخِ ، لَكِنْ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْءَ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا احْتَمَلَ الْمَحَلُّ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِالضَّرُورَةِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ اللُّزُومِ فَكَيْفَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : مُجَرَّدُ الْعَزْمُ قَدْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ كَعَزْمِ مَنْ لَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ عَلَى الْفَسْخِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِهِ تَنَزَّلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ : وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ الْعَزْمُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا مِنْ مَوْضِعِ الْخُصُومَةِ إلَى بَيْتِهِ وَمَا يُضَاهِيهِ كَالِاسْتِخْدَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ بِدُونِ الْفَسْخِ فَتَحَقَّقَ الِانْفِسَاخُ لِوُجُودِ الْفَسْخِ مِنْهُمَا دَلَالَةً ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَتَى بَاعَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ

يَبِعْهَا أَوْ يَتَقَايَلَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّقَايُلَ مَوْجُودٌ دَلَالَةً ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الْعَقْدَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْهُ ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِفَوَاتِ رُكْنِ الْبَيْعِ فَيَسْتَقِلُّ بِفَسْخِهِ فَيُجْعَلُ عَزْمُهُ فَسْخًا عَلَى مَا مَرَّ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِينَ أَنَّ الِانْفِسَاخَ كَانَ فِي الْأَوَّلِ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْفَسْخِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَجَعَلَ جُحُودَهُ فَسْخًا مِنْ جَانِبِهِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ ، وَفِي الثَّانِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ بِاسْتِبْدَادِهِ .

( وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ أَيْضًا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ ، وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ ، وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُصَدَّقُ وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ .
وَالزَّيْفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ ، وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ

قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَخْ ) وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ سِلْعَةٍ لَهُ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ إنَّهُ زُيُوفٌ صُدِّقَ سَوَاءٌ كَانَ مَفْصُولًا أَوْ مَوْصُولًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةُ ثُمَّ فِي الْكِتَابِ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ فِي غَيْرِهِ .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ قَبَضَ اقْتَضَى وَالْمَعْنَى هَاهُنَا وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال فِي بَدَلِهِ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا كَانَ التَّجْوِيزُ اسْتِبْدَالًا وَهُوَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَهُوَ الْجِيَادُ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ لَا مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ حَقِّهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زُيُوفٌ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ ، فَكَذَا هَذَا .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ وَهُوَ مَنْعٌ لِلْمُلَازَمَةِ ، وَقَوْلُهُ : حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ مُسَلَّمٌ ، وَالزُّيُوفُ لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْ الْقَبْضِ مَا يَزِيدُ عَلَى حَقِّهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَبْضُ مُخْتَصًّا بِالْجِيَادِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الْجِيَادِ فَبِدَعْوَاهُ الزُّيُوفَ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ قَبْضَ حَقِّهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِالْيَمِينِ ، وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ لِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْجِيَادِ وَهُوَ حَقُّهُ أَوْ بِحَقِّهِ أَوْ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ ادَّعَى كَوْنَ الْمَقْبُوضِ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً لَمْ يُصَدَّقْ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا فِي

الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِي الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجِيَادِ ، وَالثَّمَنُ جِيَادٌ وَالِاسْتِيفَاءُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَلَا تَمَامَ دُونَ الْحَقِّ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ مُتَنَاقِضًا .
وَمِنْ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَأَنْكَرَهُ .
فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ لَا الْمُشْتَرِي الَّذِي أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِقَبْضِ حَقِّهِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : فَكَانَ مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي : أَعْنِي الْمُقِرَّ بِقَبْضِ الْحَقِّ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ لَا مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا ، وَفِيمَا بَقِيَ لَا يُصَدَّقُ مَفْصُولًا وَلَكِنْ يُصَدَّقُ مَوْصُولًا .
وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ قَبَضْت مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ حَقِّي عَلَيْهِ جُعِلَ مُقِرًّا بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْجَوْدَةَ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً ؛ فَأَمَّا إذَا قَالَ قَبَضْت عَشَرَةً جِيَادًا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْوَزْنِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَإِذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، كَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ إلَّا دِينَارًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا ، وَإِنْ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا كَذَا هَاهُنَا ( قَوْلُهُ : وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ ) يَعْنِي لَوْ ادَّعَاهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الْعَشَرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ

بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَمْ يَجُزْ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَنَقَلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ ادَّعَى الرَّصَاصَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ ، إنْ كَانَ مَفْصُولًا لَمْ يُسْمَعْ ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لَا يُسْمَعْ .
وَالسَّتُّوقَةُ أَقْرَبُ إلَى الدَّرَاهِمِ مِنْ الرَّصَاصِ ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الرَّصَاصِ ذَلِكَ فَفِي السَّتُّوقَةِ أَوْلَى وَكَأَنَّ الِاعْتِرَاضَيْنِ وَقَعَا لِذُهُولٍ عَنْ التَّدْقِيقِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيمَا إذَا قَالَ مَفْصُولًا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ثُمَّ ادَّعَى فَإِنَّهُ لِلتَّرَاخِي ، وَلَا نِزَاعَ فِي غَيْرِ الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ لَا تُقْبَلُ مَفْصُولًا ، وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ مَوْصُولًا أَوْ لَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَهُوَ لَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا وَيُقْبَلُ مَوْصُولًا ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَّمَ الْجَانِبَ الْآخَرَ .
بَقِيَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ عَنْ قَبُولِ الْمَوْصُولِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارٍ عَارِضٍ وَهُوَ لُزُومُ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ كَمَا مَرَّ ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ الْأَصْحَابِ أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ وَقَدْ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَإِنَّهُ مَا عَزَاهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ النُّسَخِ ، وَتَمْثِيلُهُ بِاسْتِثْنَاءِ الدِّينَارِ قَدْ لَا يَنْهَضُ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ وَصْفٌ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ ، ثُمَّ فَسَّرَ الزُّيُوفَ بِمَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ : أَيْ رَدَّهُ ، وَالنَّبَهْرَجَةَ بِمَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ ، وَلَعَلَّهُ أَرْدَأُ مِنْ الزَّيْفِ ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ ، قِيلَ هُوَ مُعَرَّبُ ستو وَهِيَ أَرْدَأُ مِنْ

النَّبَهْرَجَةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَالثَّانِي دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ خَصْمِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرَيْت وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ ، أَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَتَفَرَّدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ أَوْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ الْمُقِرُّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِهِ ، وَالثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ خَصْمِهِ ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ .
ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَيَرْتَدُّ .
وَقَوْلُهُ : بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُجَّةٍ : أَيْ بَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْخَصْمِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ ثَانِيًا لَزِمَهُ الْمَالُ اسْتِحْسَانًا .
وَإِذَا قَالَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْكَرَ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ كَانَ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِإِثْبَاتِهِ فَلَا يَتَفَرَّدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ : يَعْنِي الْمُقَرُّ لَهُ لَا يَتَفَرَّدُ بِالرَّدِّ ، كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَتَفَرَّدُ بِإِثْبَاتِهِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَتَفَرَّدُ بِالْإِثْبَاتِ فَيَتَفَرَّدُ الْآخَرُ بِالرَّدِّ .
قُلْت : إنَّ عَزْمَ الْمُقِرِّ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ ، فَإِنَّ الْفَسْخَ قَدْ تَمَّ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ وَطْؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَزْمَ وَالنَّقْلَ كَانَا دَلِيلَ الْفَسْخِ ، وَبِهِ سَقَطَ مَا قَالَ فِي

الْكَافِي ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ أَحَدَ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرَى فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ صَعْبٌ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ يَسْتَبِدُّ ، وَهَاهُنَا لَمَّا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي فِي مَكَانِهِ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَتَعَذَّرْ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا يَسْتَبِدُّ بِالْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ وَافَقَهُ الْمُقِرُّ عَلَى ذَلِكَ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا .
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ ( وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ ) وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا إلَخْ ) إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَضَاهُ أَوْ عَلَى الْإِبْرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : إنَّهَا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ ، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يَقْتَضِي دَعْوَى صَحِيحَةٍ .
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيُبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ كَمَا يُقَالُ قُضِيَ بِحَقٍّ ، وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ لَيْسَ لِنَفْيِ الْحَالِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ زَمَانِ الْحَالِ لَمْ يُتَصَوَّرْ تَنَاقُضٌ أَصْلًا .
قَالُوا : دَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ ، وَاسْتَدَلَّ الْخَصَّافُ لِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِفَصْلِ دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالرِّقِّ فَقَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَمَ عَمْدٍ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالْعَفْوِ أَوْ الصُّلْحِ مَعَهُ عَلَى مَالٍ قُبِلَتْ ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَقَبَةَ جَارِيَةٍ فَأَنْكَرَتْ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَقَبَتِهَا ثُمَّ أَقَامَتْ هِيَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَهَا أَوْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفٍ وَأَنَّهَا أَدَّتْ الْأَلْفَ إلَيْهِ قُبِلَتْ ؛ وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك أَوْ مَا أَشْبَهَ كَقَوْلِهِ وَلَا رَأَيْتُك وَلَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُخَالَطَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ

تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ إذْ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِلَا خُلْطَةٍ وَمَعْرِفَةٍ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ أَيْضًا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا .
قَالُوا : وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، وَقِيلَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِلَا مَعْرِفَةٍ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ إلَخْ ) وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَأَرَادَ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ .
ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَالْخَصَّافُ أَثْبَتَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ صُورَةِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ هَاهُنَا أَنْ يَقُولَ : لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ لَكِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَيَّ الْبَيْعَ سَأَلْته أَنْ يُبَرِّئَنِي مِنْ الْعَيْبِ فَأَبْرَأَنِي .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ أَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ وَهُوَ قَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ .

قَالَ ( ذِكْرُ حَقٍّ كُتِبَ فِي أَسْفَلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَوْ كُتِبَ فِي شِرَاءٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْخَلَاصِ وَعَلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ ذَكَرَهُ فِي الْإِقْرَارِ ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ وَلَهُ أَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةِ مِثْلِ قَوْلِهِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَلَوْ تَرَكَ فُرْجَةً قَالُوا : لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

قَالَ ( ذِكْرُ حَقٍّ كَتَبَ فِي أَسْفَلِهِ إلَخْ ) إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَكَتَبَ صَكًّا وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ : وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ هَذَا الصَّكَّ وَطَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ كَتَبَ فِي كِتَابِ شِرَاءٍ مَا أَدْرَكَ فِيهِ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى قَوْلِهِ عَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ وَإِلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ وَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ ، وَالْمَالُ الْمُقَرُّ بِهِ لَازِمٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ وَصَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ مُبْطِلٌ ، فَمَا فُرِضَ لِلِاسْتِيثَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ فَلَا يَكُونُ مَا فِي الصَّكِّ بَعْضُهُ مُرْتَبِطًا بِبَعْضٍ فَيَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى مَا يَلِيهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ مُطْلَقًا ، أَوْ إذَا لَمْ يَكْتُبْ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَالْأَوَّلُ عَيْنُ النِّزَاعِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَالُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَطْفُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكُلَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ ، كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَمِيعِ ، هَذَا إذَا كَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مِنْ غَيْرِ فُرْجَةٍ بِبَيَاضٍ لِيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّصَالِ فِي الْكَلَامِ ، وَأَمَّا إذَا تَرَكَ فُرْجَةً قُبَيْلَ قَوْلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَقَدْ قَالُوا لَا يُلْتَحَقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ

السُّكُوتِ .
وَفَائِدَةُ كَتْبِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فِي الشُّرُوطِ إثْبَاتُ الرِّضَا مِنْ الْمُقِرِّ بِتَوْكِيلِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْخُصُومَةِ مَعَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَصِحُّ بِلَا ضَرُورَةٍ ، وَكَوْنُهُ تَوْكِيلًا مَجْهُولًا لَيْسَ بِضَائِرٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِسْقَاطِ ، فَإِنَّ لِلْمُقِرِّ أَنْ لَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ الْمُقَرِّ لَهُ مَنْ يُخَاصِمُ مَعَهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ بِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَةِ ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَعَ الْجَهَالَةِ جَائِزٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقِيلَ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ، إلَّا إذَا رَضِيَ بِوَكَالَةِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ لَا عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .

( فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ ) قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ ؛ وَمَا ذَكَرَهُ يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ أَيْضًا ، وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ وَيَشْهَدُ لَهُمْ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ أَيْضًا .

فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ : قَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ هَذَا الْفَصْلِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ النَّصْرَانِيُّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً إلَخْ ) ذَكَرَ مَسْأَلَتَيْنِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ إثْبَاتُهُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَمْرٍ فِي وَقْتٍ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ .
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَاضِي فَيَكُونُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ .
وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيُحْكَمُ بِثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي كَجَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَهُوَ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُثْبِتَةٌ عِنْدَنَا كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِذَا مَاتَ النَّصْرَانِيُّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ لِلْوَرَثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : الْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْحَادِثُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ يَكُونُ ثَابِتًا فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ : أَيْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَعَاقِدَانِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا فِي الْحَالِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْآجِرِ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّاحُونَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ .
قَوْلُهُ : وَهَذَا ) يَعْنِي تَحْكِيمَ الْحَالِ أَوْ الْحَالَ ( ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِدَفْعِ اسْتِحْقَاقِهَا الْمِيرَاثَ ) وَهُوَ صَحِيحٌ ( وَهُوَ ) أَعْنِي زُفَرَ ( يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ) وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ زُفَرَ لَمْ يَجْعَلْ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْمِيرَاثِ بِالْحَالِ بَلْ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَادِثِ الْإِضَافَةُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ

ذَلِكَ أَيْضًا ظَاهِرٌ ، وَالظَّاهِرُ اسْتِصْحَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ لَا يُعْتَبَرُ لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِالِاسْتِصْحَابِ كَمَا سَيَظْهَرُ ( وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ أَيْضًا وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ ) ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِهِ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتِمُّ الدَّلِيلُ .
وَقَوْلُهُ : ( أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ ) إشَارَةً إلَى مَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا اجْتَمَعَ نَوْعَا الِاسْتِصْحَابِ .
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ نَصْرَانِيَّةَ امْرَأَةِ النَّصْرَانِيِّ كَانَتْ ثَابِتَةً فِيمَا مَضَى ثُمَّ جَاءَتْ مُسْلِمَةً وَادَّعَتْ إسْلَامًا حَادِثًا ؛ فَبِالنَّظَرِ إلَى مَا كَانَتْ فِيمَا مَضَى وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى هُوَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيمَا مَضَى هُوَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْأَوَّلَ حَتَّى كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَانَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُثْبِتًا وَهُوَ بَاطِلٌ فَاعْتَبَرْنَا الثَّانِيَ لِيَكُونَ دَافِعًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ نَصْرَانِيَّتَهَا كَانَتْ ثَابِتَةً وَالْإِسْلَامُ حَادِثٌ ، فَالنَّظَرُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَقْتَضِي بَقَاءَهَا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُثْبِتًا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ فَاعْتَبَرْنَا الْأَوَّلَ لِيَكُونَ دَافِعًا وَالْوَرَثَةُ هُمْ الدَّافِعُونَ فَيُفِيدُهُمْ الِاسْتِدْلَال بِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَيَشْهَدُ لَهُمْ ) دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ وَالْحَادِثُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ

مُعْتَبَرٌ فِي الدَّلَالَةِ كَانَ ظَاهِرُ زُفَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُعَارِضًا لِلِاسْتِصْحَابِ وَيَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّفْعِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ ، وَزُفَرُ يَعْتَبِرُهُ لِلْإِثْبَاتِ .
وَنُوقِضَ بِنَقْضٍ إجْمَالِيٍّ وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا قُضِيَ بِالْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إذَا كَانَ مَاءُ الطَّاحُونَةِ جَارِيًا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْأَجْرِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ لِدَفْعِ مَا يَدَّعِي الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْآجِرِ مِنْ ثُبُوتِ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِسُقُوطِ الْأَجْرِ ، وَأَمَّا ثُبُوتُ الْأَجْرِ فَإِنَّهُ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ الْمُوجِبِ لَهُ فَيَكُونُ دَافِعًا لَا مُوجِبًا ، وَاعْتَبِرْ هَذَا وَاسْتَغْنِ عَمَّا فِي النِّهَايَةِ مِنْ التَّطْوِيلِ .

قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ هَذَا ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ خِلَافَةً فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ( فَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَوَّلُ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قَضَى بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا ، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ فَلَمْ يَصِحَّ .

قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً إلَخْ ) رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَأَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ يَقْضِي الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَمِلْكُهُ خِلَافَةً .
وَمَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ شَخْصٍ عِنْدَهُ وَجَبَ دَفْعُهُ إلَيْهِ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُورَثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ لِكَوْنِهِ حَيًّا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِالدَّفْعِ لِجَوَازِ قِيَامِ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي الْمَآلِ بِاعْتِبَارِ مَا يُوجِبُ قِيَامَهُ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ كَالدَّيْنِ وَغَيْرِهِ : فَإِنَّ خِلَافَةَ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ بِيَقِينٍ ، وَمَا يُوجِبُ قِيَامَ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي الْمَآلِ مُتَوَهَّمٌ فَلَا يُؤَخَّرُ الْيَقِينُ بِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ فِي الْوَدِيعَةِ حَتَّى هَلَكَتْ هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا ؟ قِيلَ يَضْمَنُ ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ كَالْمَنْعِ مِنْ الْمُودِعِ وَفِي الْمَنْعِ عَنْهُ يَضْمَنُ فَكَذَا مِنْ وَكِيلِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَهَا هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا ؟ قِيلَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ ، بَلْ الْإِقْرَارُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمُودَعُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِرَجُلٍ آخَرَ بِأَنَّهُ أَيْضًا ابْنُ

الْمَيِّتِ وَأَنْكَرَهُ الْأَوَّلُ بِأَنْ قَالَ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قُضِيَ بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ فِي وَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهُ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ ، فَالْإِقْرَارُ الثَّانِي يَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُكَذِّبْهُ أَحَدٌ فَصَحَّ إقْرَارُهُ ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي كَذَّبَهُ الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ تَكْذِيبَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي إقْرَارِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِ مَا أَدَّى لِلْأَوَّلِ .
وَأَجَابُوا بِالْتِزَامِ ذَلِكَ إذَا دَفَعَ الْجَمِيعَ بِلَا قَضَاءٍ كَاَلَّذِي أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْقَاضِي بَعْدَمَا أَقَرَّ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ كَانَ فِي الْإِقْرَارِ الثَّانِي مُكَذِّبًا شَرْعًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ

قَالَ ( وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ وَلَا مِنْ وَارِثٍ وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ .
لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا ، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ .
كَمَا إذَا دَفَعَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى صَاحِبِهِ وَأَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا ، أَوْ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَخَّرُ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِي دَيْنِهِ لَا يَكْفُلُ ، وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَصَارَ كَمَا إذَا كُفِلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَهُوَ مَعْلُومٌ .
وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ .
وَقِيلَ إنْ دَفَعَ بِعَلَامَةِ اللُّقَطَةِ أَوْ إقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ .
وَقَوْلُهُ ظُلْمٌ : أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَهَذَا يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ .

قَالَ ( وَإِذَا قَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ إلَخْ ) إذَا حَضَرَ رَجُلٌ وَادَّعَى دَارًا فِي يَدِ آخَرَ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ ذُو الْيَدِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ قَالُوا تَرْكُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ وَلَا عَدَدَهُمْ وَفِيهِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُعْرَفْ نَصِيبُ هَذَا الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ .
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا نَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَفِيهِ يَقْضِي الْحَاكِمُ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَلَوُّمٍ وَهَاتَانِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ مَالِكِ هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقُولُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَا نَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ زَمَانًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى .
وَقَدَّرَ الطَّحَاوِيُّ مُدَّةَ التَّلَوُّمِ بِالْحَوْلِ ، فَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ غَيْرُهُ قُسِمَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ دَفَعَ الدَّارَ إلَيْهِ إنْ كَانَ الْحَاضِرُ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ حِرْمَانًا كَالْأَبِ وَالِابْنِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ فَإِنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ نُقْصَانًا كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَدْفَعُ إلَيْهِ أَوْفَرَ النَّصِيبَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَقَلُّهُمَا وَهُوَ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُضْطَرِبٌ ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ وَدُفِعَتْ الدَّارُ إلَيْهِ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُؤْخَذُ وَنَسَبَ الْقَائِلَ بِهِ إلَى الظُّلْمِ .
قِيلَ أَرَادَ بِهِ ابْنَ

أَبِي لَيْلَى وَقَالَا : لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً .
لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغَيْبِ وَلَا نَظَرَ بِتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ فَيَحْتَاطُ الْقَاضِي بِأَخْذِهِ ، كَمَا إذَا دَفَعَ الْقَاضِي الْعَبْدَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى رَجُلٍ أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَكَمَا لَوْ أَعْطَى نَفَقَةَ امْرَأَةِ الْغَائِبِ إذَا اسْتَنْفَقَتْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَهُ عِنْدَ إنْسَانٍ وَدِيعَةٌ يُقِرُّ بِهَا الْمُودَعُ وَبِقِيَامِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ بِيَقِينٍ ، أَوْ ظَاهِرًا إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ بِإِظْهَارِهِ بَلْ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَالثَّابِتُ قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا لَا يُؤَخَّرُ لِمَوْهُومٍ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي وَالدَّيْنَ إلَى الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ كَفِيلٍ ، وَإِنْ كَانَ حُضُورُ مُشْتَرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَغَرِيمٍ آخَرَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُتَوَهَّمًا فَلَا يُؤَخَّرُ حَقُّ الْحَاضِرِ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الْكَفِيلِ ، وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَهَاهُنَا الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَفَلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَقَرَّ بِهِ ذُو الْيَدِ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ وَلَمْ يُثْبِتْ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَكَانَ مَظِنَّةَ أَنَّ ثَمَّةَ

مَالِكًا لَا مَحَالَةَ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْمَالَ وَهُوَ مَعْلُومٌ فَكَانَ التَّكْفِيلُ لَهُ .
وَنَقَلَ التُّمُرْتَاشِيُّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنْ ثَبَتَ فَلَا إشْكَالَ .
لَا يُقَالُ : الْحَاكِمُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ وَلَا لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِتَوْثِيقِ الْمُطَالَبَةِ كَمَا مَرَّ وَهِيَ مِنْ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يَرَاهُ ، وَفِي ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِحَقٍّ ثَابِتٍ قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْتُمْ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ جَائِزٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّلَوُّمَ لَيْسَ لِلْحَقِّ الْمَوْهُومِ ، بَلْ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَفْعَلُهُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا فِي طَلَبِ زِيَادَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ شَرِيكٍ لِلْحَاضِرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ بَلْ خَبَرٌ يُسْتَأْنَسُ بِهِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ ، وَالتَّلَوُّمُ مِنْ الْقَاضِي يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إفَادَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ طَلَبُ شَيْءٍ زَائِدٍ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ، بِخِلَافِ طَلَبِ الْكَفَالَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ ، أَمَّا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ التَّكْفِيلَ فِيهَا لِحَقٍّ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ مِنْ الْمَالِ مِنْ مُودَعِ الزَّوْجِ وَالْمَكْفُولُ لَهُ وَهُوَ الزَّوْجُ مَعْلُومٌ أَيْضًا فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ ( وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ ) قَالَ فِي رِوَايَةٍ : لَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ : أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا ، قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ .
وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ ( إنْ دَفَعَ

الْعَبْدَ بِإِقْرَارِهِ إلَى الْمُدَّعِي وَاللَّقْطَةَ بِإِخْبَارِ الْمُدَّعِي عَنْ عَلَامَةٍ فِيهِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ ) وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ قَوْلُهُ : وَقَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ( ظُلْمٌ : أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) إنَّمَا ذَكَرَهُ تَمْهِيدًا لِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا ) أَيْ إطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى الْمُجْتَهَدِ فِيهِ ( يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ) وَيُقَرِّرُ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ بَرَاءٌ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَادِّعَائِهِمْ أَنْ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَوْفًى .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخُوهُ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ تُرِكَ فِي يَدِهِ ) لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ أَمِينٌ .
وَلَهُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَمَا إذَا كَانَ مُقِرًّا وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْجُحُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ ، وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ .
وَقِيلَ الْمَنْقُولُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَظْهَرُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا لَا لِإِنْشَائِهَا ، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلَّمُ النِّصْفُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ

نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ ، الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي يَدِهِ .
ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ إلَخْ ) دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخُوهُ فَلِأَنَّ الْغَائِبَ قَضَى لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ ذِي الْيَدِ كَفِيلٌ ، وَهَذَا : أَيْ تَرْكُ النِّصْفِ الْآخَرِ فِي يَدِ مَنْ فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفِيلِ هَاهُنَا فَبِالْإِجْمَاعِ ، وَقَالَا : مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ إنْ كَانَ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ وَإِلَّا تُرِكَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ وَالْخَائِنُ لَا يُتْرَكُ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ وَالْمُقِرُّ أَمِينٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْمَالُ بِيَدِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْقَضَاءُ يُعْتَبَرُ فِيمَنْ الْمَقْضِيُّ بِيَدِهِ كَوْنُهُ مُخْتَارًا لَهُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ بِيَدِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ بِيَدِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ بِاخْتِيَارِ الْمَيِّتِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ ، وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ فَاكْتُفِيَ بِهِ كَمَا إذَا كَانَ مَنْ بِيَدِهِ مُقِرًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ الْبَاقِي بِيَدِهِ كَذَلِكَ ( قَوْلُهُ : وَجُحُودُهُ ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَاهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخِيَانَةَ بِالْجُحُودِ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى أَوْ مَا سَيَأْتِي ، وَالْأَوَّلُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَا لَازِمُهُ .
وَالثَّانِي ظَاهِرُ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَمَّا صَارَتْ مَعْلُومَةً لِلْقَاضِي وَلِمَنْ بِيَدِهِ ذَلِكَ ، وَكُتِبَتْ فِي الْخَرِيطَةِ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَجْحَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ .
لَا يُقَالُ : مَوْتُ الْقَاضِي وَالشُّهُودِ وَنِسْيَانُهُمَا لِلْحَادِثَةِ وَاحْتِرَاقُ الْخَرِيطَةِ أُمُورٌ مُحْتَمَلَةٌ فَكَانَ الْجُحُودُ مُحْتَمَلًا ؛ ؛ لِأَنَّ

ذَلِكَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ ( وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ ) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَقَدْ قِيلَ يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ ) النِّصْفُ الْآخَرُ ( بِالِاتِّفَاقِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَارِ أَنَّ الْمَنْقُولَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ ، وَمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ فَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ ، أَمَّا أَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ بِنَفْسِهِ لِقَبُولِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ ، أَوْ مَا أَنَّ النَّزْعَ أَبْلَغُ فِيهِ فَلِأَنَّ النَّزْعَ أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَهُ مَنْ بِيَدِهِ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ لِخِيَانَتِهِ أَوْ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَإِذَا نَزَعَهُ الْحَاكِمُ وَوَضَعَهُ فِي يَدِ أَمِينٍ كَانَ هُوَ عَدْلًا ظَاهِرًا فَكَانَ الْمَالُ بِهِ مَحْفُوظًا ( بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ ) وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَلَهُمْ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَهَذَا مِنْ بَابِهِ ( وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ الْمَنْقُولُ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ ) بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ ، فَإِذَا تُرِكَ فِي يَدِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الَّذِي يَضَعُهُ الْقَاضِي فِي يَدِهِ فَكَانَ التَّرْكُ أَبْلَغَ فِي الْحِفْظِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمَّا جَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ لِخِيَانَتِهِ أَوْ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ سَاقِطًا لِعِبْرَةٍ نَظَرًا إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِ الْقَاضِي وَطَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ وَكِتَابَتِهِ فِي الْخَرِيطَةِ .
وَذَلِكَ ثَابِتٌ مُقْتَضٍ ثُبُوتَ الْخِلَافِ فِي الْعَقَارِ فَسَقَطَ الْفَرْقُ ( قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْخَذْ الْكَفِيلُ ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ .
وَمَعْنَاهُ

أَخْذُ الْكَفِيلِ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ ؛ ؛ لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْبَاقِي قَدْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِإِعْطَائِهِ وَالْقَاضِي يُطَالِبُهُ بِهِ فَيُنْشِئُ الْخُصُومَةَ وَالْقَاضِي لَمْ يُنَصَّبْ لِإِنْشَائِهَا بَلْ لِقَطْعِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَبْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُنَصَّبْ لِذَلِكَ فَلْيَكُنْ الْخَصْمُ هُوَ الْحَاضِرَ يُطَالِبُهُ بِالْكَفِيلِ وَالْقَاضِي يَقْطَعُهَا بِحُكْمِهِ بِإِعْطَائِهِ .
قُلْت : يُجْعَلُ تَرْكِيبُ الدَّلِيلِ هَكَذَا طَلَبُ الْكَفِيلِ هَاهُنَا إنْشَاءُ خُصُومَةٍ هُوَ مَشْرُوعٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَرَفْعِهَا فَمَا فَرَضْنَاهُ رَافِعًا لِشَيْءٍ كَانَ مُنْشِئًا لَهُ هَذَا خُلْفٌ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وُجُوبِ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِصَاصِ إذَا أَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ عَمْدًا ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ ، قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ ( لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لِلْمَيِّتِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ ) إنْ كَانَ الْكُلُّ بِيَدِهِ كَمَا سَيَجِيءُ ( دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي ذَلِكَ ) كَالْوَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُخَاصِمَ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَحَدِهِمْ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكُلِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَلَحَ أَحَدُهُمْ لِلْخِلَافَةِ لَكَانَ كَالْمَيِّتِ وَجَازَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ كَالْمَيِّتِ لَكِنْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ سِوَى نَصِيبِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ

الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فَلْيَكُنْ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ وَنَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ فِيمَا زَادَ وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ السَّائِلَ قَالَ : لَكِنْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ سِوَى نَصِيبِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ ، وَقَوْلُهُ : ( وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ ) أَيْ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ وَتَقْرِيرُهُ مَا مَرَّ وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنَّهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا إلَى قَوْلِهِ لَهُ وَعَلَيْهِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ يَكُونُ خَصْمًا عَنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ إنْ كَانَ جَمِيعُ التِّرْكَةِ بِيَدِهِ ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَإِلَّا كَانَ خَصْمًا عَمَّا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ .
أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَأُخْتُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَهِيَ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ ، إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ فِي الْعُشْرِيَّةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَدْخُلُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُؤْنَةِ ، إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ ، وَلَا تَدْخُلُ أَرْضُ الْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً .
وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ .
وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْمَالِ فَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، ( ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ ، ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ بِشَيْءٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ .
وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَهُ لِيَوْمٍ وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لِشَهْرٍ وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ عَلَى حَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي مُدَّةِ وُصُولِهِمْ إلَى الْمَالِ ، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التِّجَارَةِ

يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ إلَخْ ) رَجُلٌ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالسَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ بَلَغَ النِّصَابَ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ جِنْسُ مَالِ الزَّكَاةِ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ ، وَلِهَذَا قَالُوا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِهِ ، فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهِ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ وَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي جِنْسِهَا الزَّكَاةُ كَالْعَقَارِ وَالرَّقِيقِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ( وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْقِيَاسُ ) فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا ( أَنْ يَقَعَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ بِهِ زُفَرُ ) ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ .
( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ ) إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ مُسْتَبِدًّا بِهِ لِئَلَّا يَنْزِعَ إلَى الشَّرِكَةِ وَإِيجَابِ الشَّرْعِ فِي الْمَالِ مِنْ الصَّدَقَاتِ مُضَافٌ إلَى أَمْوَالٍ خَاصَّةٍ ، فَكَذَا إيجَابُ الْعَبْدِ ، وَلَا يَرِدُ الِاعْتِكَافُ حَيْثُ لَمْ يُوجَبْ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِنْسِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَبِثَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ عِبَادَةً وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لِانْتِظَارِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِمَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ كَأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ ( أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَهِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَالْوِرَاثَةِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ بَعْدَ الْمَوْتِ ( وَلَا يَخْتَصُّ الْمِيرَاثُ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ ) فِي الشَّرْعِ فَكَذَا الْوَصِيَّةُ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ

الظَّاهِرَ ) دَلِيلٌ آخَرُ : يَعْنِي أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّاذِرِ ( الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَى مَا تَقُومُ بِهِ حَوَائِجُهُ الْأَصْلِيَّةُ فَيَخْتَصُّ النَّذْرُ بِمَالِ الزَّكَاةِ .
( أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَمْوَالِ فَتَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ ، وَالْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ تَدْخُلُ فِي النَّذْرِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ عِنْدَهُ رَاجِحَةٌ ) فِي الْعُشْرِ فَصَارَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ ( وَلَا تَدْخُلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ وَالتَّذْكِيرُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ ( سَبَبُ الْمُؤْنَةِ إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ ) فَصَارَتْ مِثْلَ عَبْدِ الْخِدْمَةِ ( وَأَمَّا الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ فَلَا تَدْخُلُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً ) ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَهُ الْمُقَاتِلَةُ وَفِيهِمْ الْأَغْنِيَاءُ ( وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ ) زَكَوِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، ذَكَرَهَا فِي الْأَمَالِي ؛ لِأَنَّ مَا أَمْلِكُ أَعَمُّ مِنْ مَالِي ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَغَيْرِهِ ، يُقَالُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَمِلْكُ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النَّفَقَةِ ، وَالْمَالُ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِذَا كَانَ أَعَمَّ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَيْضًا إظْهَارًا لِزِيَادَةِ عُمُومِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّدَقَةُ بِالْأَمْوَالِ مُقَيَّدَةٌ فِي الشَّرْعِ بِأَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَزِيَادَةُ التَّعْمِيمِ خُرُوجٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ الْوَاجِبِ الرِّعَايَةِ .
أَجَابَ ( بِأَنَّ الْمُقَيَّدَ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظَةِ الْمَالِ وَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظَةِ

الْمِلْكِ فَيَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ ) وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إيجَابُ الْعَبْدِ مُعْتَبَرًا بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا ) أَيْ لَفْظَ مَالِي وَمَا أَمْلِكُ ( سَوَاءٌ ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَخْتَصَّانِ بِالْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ( ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلَ عَنْ الْحَاجَةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : إنَّ قَوْلَهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ بِقَوْلِهِ إنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ الْوَجْهَ بِقَوْلِهِ وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ لَفْظُ الْمَالِ ، وَلَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَارْجِعْ إلَيْهِ ( ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ ) إذْ لَوْ لَمْ يُمْسِكْ لَاحْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَبِيحٌ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَيَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ يَوْمِهِ ( ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمَا أَمْسَكَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مُحَمَّدٌ ) فِي الْمَبْسُوطِ ( مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ ) بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَقِلَّتِهَا ( وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَ يَوْمِهِ ) ؛ لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى مَا يُنْفِقُ يَوْمًا فَيَوْمًا ( وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ ) وَهُوَ صَاحِبُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ الَّتِي يُؤَجِّرُهَا الْإِنْسَانُ ( لِشَهْرٍ ) لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى مَا يُنْفِقُ شَهْرًا فَشَهْرًا ( صَاحِبُ الضَّيَاعِ لِسَنَةٍ ) ؛ لِأَنَّ يَدَ الدِّهْقَانِ تَصِلُ إلَى مَا يُنْفِقُ سَنَةً فَسَنَةً ( وَصَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ ) وَفِي إيرَادِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ فِي الْمَوَارِيثِ نَظَرٌ ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهَا بِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ

الْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَصِيَّةَ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ ) فَهُوَ وَصِيٌّ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَعْلَمَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِنَابَةِ قَبْلَهُ وَهِيَ الْوَكَالَةُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِإِضَافَتِهَا إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَارِثِ .
أَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ لَا يَفُوتُ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي ( وَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ .
قُلْ ( وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ .
وَلَهُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ فَيَكُونُ شَهَادَةً مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْهَا وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَالشَّفِيعُ وَالْبِكْرُ وَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ إلَخْ ) وَجْهُ إيرَادِ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ فِي الْمَوَارِيثِ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِصَايَةِ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ فَهُوَ وَصِيٌّ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ ، وَإِذَا وُكِّلَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى بَاعَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْإِنَابَةِ : أَيْ النِّيَابَةِ جَامِعٌ ، فَإِنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَكَالَةَ إنَابَةٌ قَبْلَهُ ، وَكَمَا لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ قَبْلَهُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لَا نِيَابَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ النِّيَابَةِ ، وَالْخِلَافَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ فِي التَّصَرُّفِ كَمَا إذَا تَصَرَّفَ الْوَارِثُ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِ الْمُورَثِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا إنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمُسْتَنِيبِ ، وَالْإِنَابَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَفُتْ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَفِي الْأَوَّلِ لَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَى عِلْمِهِ فَاتَ لِعَجْزِ الْمُوصِي .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَالَ لِرَجُلٍ اشْتَرِ عَبْدِي مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فُلَانٌ وَبَاعَ عَبْدَهُ صَحَّ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عِلْمِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا ، وَالْكَلَامُ فِي الْوَكَالَةِ يَثْبُتُ قَصْدًا ، وَهَذَا كَمَا إذَا قَالَ بَايِعُوا عَبْدِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا صَحَّ تَصَرُّفُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلْمَ الْوَكِيلِ بِالْوَكَالَةِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامٍ ، فَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا مُسْلِمًا عَدْلًا

أَوْ عَلَى أَضْدَادِ ذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَ مُمَيِّزًا جَازَ تَصَرُّفُهُ ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ : أَيْ إطْلَاقٌ مَحْضٌ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْإِلْزَامِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ كَافٍ .
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ فَلَا يَثْبُتُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَجِنْسُهَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْفَاسِقِ كَالْوَكَالَةِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ ، أَمَّا أَنَّهُ خَبَرٌ فَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْلَامُ ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلِأَنَّهُ يَنْفِي جَوَازَ التَّصَرُّفِ بَعْدَهُ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ خَبَرًا كَالْخَبَرِ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا ، وَبِالنَّظَرِ إلَى مَا فِيهِ مِنْ نَوْعِ إلْزَامٍ كَانَ فِي مَعْنَاهَا فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهَا أَصْلًا فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ ، إذْ رُبَّمَا لَا يَتَّفِقُ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ بَالِغٌ عَدْلٌ يُرْسِلُهُ إلَى وَكِيلِهِ ( قَوْلُهُ : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) يَعْنِي الَّذِي ذَكَرَهُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ أَحَدِ شَطْرَيْهَا فِيمَا فِيهِ إلْزَامٌ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّهَا سِتُّ مَسَائِلَ ثَلَاثٌ مِنْهَا ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَاثْنَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي النَّوَادِرِ ، وَالسَّادِسَةُ قَاسَهَا الْمَشَايِخُ عَلَيْهَا ، وَالْمُصَنِّفُ تَرَكَ مِنْهَا مَسْأَلَةً

.
أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ .
وَالثَّانِيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَبْسُوطِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْحَجْرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ عَدْلٌ أَوْ اثْنَانِ ثَبَتَ الْحَجْرُ صُدِّقَ الْعَبْدُ أَوْ كُذِّبَ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا وَكَذَّبَهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ وَقَيَّدَ بِتِلْقَاءِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ حُكْمُ مُرْسِلِهِ كَمَا مَرَّ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا .
وَالثَّالِثَةُ الْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَخْبَرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ اثْنَانِ أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ فَتَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَهُ بِعِتْقٍ أَوْ بَيْعٍ كَانَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلْفِدَاءِ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ وَصَدَّقَهُ فَكَذَلِكَ ، وَإِلَّا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا خِلَافًا لَهُمَا .
وَأُولَى النَّوَادِرِ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إذَا أَخْبَرَهُ اثْنَانِ أَوْ عَدْلٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ لَزِمَتْهُ وَبِتَرْكِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ وَكَذَّبَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَهُ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْزَمَهُ .
وَثَانِيهَا الشَّفِيعُ إذَا أَخْبَرَهُ اثْنَانِ أَوْ عَدْلٌ بِالْبَيْعِ فَسَكَتَ سَقَطَتْ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِهِ وَكَذَّبَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ .
وَالسَّادِسَةُ إذَا بَلَغَ الْبِكْرَ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ فَسَكَتَتْ فَإِنْ أَخْبَرَهَا اثْنَانِ أَوْ عَدْلٌ كَانَ رِضًا بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ أَخْبَرَهَا فَاسِقٌ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ وَأَخَذَ الْمَالَ فَضَاعَ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَقَامَ الْإِمَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَاقِدِ ، كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ ( وَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِهِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الْمَالُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ ) لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي عَنْهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِنَفْسِهِ .
قَالَ ( وَرَجَعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ ، وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ .
قَالُوا : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ ، وَالْوَارِثُ إذَا بِيعَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ ) إذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْمَيِّتِ لِأَجْلِ أَصْحَابِ الدُّيُونِ ( وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَضَاعَ الثَّمَنُ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ ) الْعَاقِدُ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ ( ؛ لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْإِمَامِ ، وَالْإِمَامُ لَا يَضْمَنُ كَيْ لَا يَتَقَاعَدَ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَتَضِيعَ الْحُقُوقُ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ ) وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْبَيْعُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي إذَا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْعَاقِدِ ( كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ ) صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا ( مَحْجُورًا عَلَيْهِ ) وَهَاهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْعَاقِدِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ .
( فَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الثَّمَنُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً ) فَإِنْ أَوْصَى إلَيْهِ الْمَيِّتُ فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ أَقَامَهُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا أَقَامَهُ نَائِبًا عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَقْدُ النَّائِبِ كَعَقْدِ الْمَنُوبِ عَنْهُ ( فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ ) الْمَيِّتُ ( بِنَفْسِهِ ) فِي حَيَاتِهِ وَفِي ذَلِكَ كَانَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فَهَا هُنَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ ( ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ ) أَيْ يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ لِلْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ ( قَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ ) وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَارِثُ

إذَا بِيعَ لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ ) .

فَصْلٌ آخَرُ .
( وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ : لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ .
وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ فِي زَمَانِنَا إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ ، وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَةٌ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يُسْتَفْسَرُ ، فَإِنْ أَحْسَنَ التَّفْسِيرَ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ .

( فَصْلٌ آخَرُ ) جَمَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً يَجْمَعُهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ قَبْلَ الْعَزْلِ وَبَعْدَهُ مَقْبُولٌ أَوَّلًا .
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت إلَخْ ) إذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ : لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِك ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ .
وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ قُضَاةِ زَمَانِنَا ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْبَلَ كِتَابُهُ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْشَاءِ الْقَضَاءِ ، وَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِنْشَاءِ عَمَّا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يُتَّهَمْ فِي خَبَرِهِ ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ أَوْ بِدُونِهَا .
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ ، وَالْأَوَّلُ يَجُرُّ إلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ مُعَايَنَةِ الْحُجَّةِ ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَتُهُ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْسَارٍ ، وَقَالُوا بِهِ إذَا كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَقِيهًا ، وَعَلَى هَذَا تَتَأَتَّى الْأَقْسَامُ الْعَقْلِيَّةُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِعَدَمِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ لِعِلْمِهِ وَالْخِيَانَةِ لِعَدَالَتِهِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْسَارِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يَسْتَفْسِرُ عَنْ قَضَائِهِ لِبَقَاءِ تُهْمَةِ الْخَطَأِ ، فَإِنْ أَحْسَنَ

تَفْسِيرَ الْقَضَاءِ بِأَنْ فَسَّرَ عَلَى وَجْهٍ اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا اسْتَفْسَرْت الْمُقِرَّ بِالزِّنَا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ وَحَكَمْت عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَثَبَتَ عِنْدِي بِالْحُجَّةِ أَنَّهُ أَخَذَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، وَأَنَّهُ قَتَلَ عَمْدًا بِلَا شُبْهَةٍ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَقَبُولُ قَوْلِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ بِسَبَبِ جَهْلِهِ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أَوْ الشُّبْهَةَ غَيْرَ دَارِئَةٍ ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ فِي الْجَهْلِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْفِسْقِ .

قَالَ ( وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْتُ بِمَا عَلَيْك فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَذْتَهَا ظُلْمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَكَذَا لَوْ قَالَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ ، هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ وَاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ مُقِرَّيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ ) وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ .
إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا ( وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي .
( وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعُ الْقَاضِي صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ مُعَايِنًا ( وَلَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ أَوْ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ أَنَّهُ فَعَلَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي أَيْضًا ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَالْجُنُونُ مِنْهُ كَانَ مَعْهُودًا ( وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي بِضَمَانٍ ) لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ ( وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا وَقَدْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ صُدِّقَ الْقَاضِي فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .

قَالَ ( وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَخْ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ قَضَائِهِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بَعْدَ عَزْلِهِ ، فَإِذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ بِمَا قَضَى وَأَسْنَدَ إلَى حَالِ وِلَايَتِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا قَالَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ أَوْ يُكَذِّبَهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَيُصَدِّقَهُ فِي كَوْنِهِ فِي زَمَنِ الْوِلَايَةِ أَوْ يُكَذِّبَهُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ .
فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْت مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْت بِهَا عَلَيْك وَقَالَ لِآخَرَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ فَقَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ فَعَلْت ذَلِكَ فِي حَالِ قَضَائِك ظُلْمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا وَالْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا عَلَيْهِ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ أُمُورِ النَّاسِ بِامْتِنَاعِ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ .
وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعَ الْقَاضِي وَأَمْرَهُ بِالشَّيْءِ صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ دَفْعُهُ الْمَالَ إلَى الْآخِذِ مُعَايِنًا فِي حَالِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْآخِذُ حِينَئِذٍ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ أَمْرُهُ بِالْقَطْعِ مُعَايِنًا فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَإِنْ قَالَ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقَوْلُ أَيْضًا لِلْقَاضِي فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِمَا مَرَّ أَنَّ حَالَةَ الْقَضَاءِ تُنَافِي الضَّمَانَ فَالْقَاضِي

بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ فَصَارَ إسْنَادُ الْقَاضِي هَاهُنَا كَإِسْنَادِ مَنْ عُهِدَ مِنْهُ الْجُنُونُ إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعْلُومًا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ : حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لِإِضَافَتِهِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْإِيقَاعِ ، وَإِنَّمَا قَالَ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُنَازَعَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاضِي تَحْكُمُ الْحَالَ ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ فِعْلُهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ ، وَأَمَّا فِي الْأُولَى فَقَدْ تَصَادَقَا أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ قَاضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهُ حَقًّا ، وَلَكِنْ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ لِلْقَاضِي .
( وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي ضِمْنًا ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ ) لَا يُقَالُ : الْآخِذُ وَالْقَاطِعُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَسْنَدَا الْفِعْلَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَا كَالْقَاضِي ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الضَّمَانِ رَاجِحَةٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَالظَّاهِرُ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي أَيْضًا لَكِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ مَخَافَةَ الضَّمَانِ .
( وَلَوْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْآخِذِ وَأَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي أَخَذَ

مِنْهُ الْمَالَ ) سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ ( ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ) فِيهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةَ فَرْدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الشَّهَادَاتِ ) ( قَالَ : الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ وَلَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهَا إذَا طَالَبَهُمْ الْمُدَّعِي ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
.

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ : إيرَادُ هَذَا الْكِتَابِ عَقِيبَ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ، إذْ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَ إنْكَارِ الْخَصْمِ .
وَمِنْ مَحَاسِنِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } فَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِهِ .
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ بِصِحَّةِ الشَّيْءِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ ، وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ الْمُعَايَنَةِ .
وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْفِقْهِ : عِبَارَةٌ عَنْ إخْبَارٍ صَادِقٍ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَالْإِخْبَارُ كَالْجِنْسِ يَشْمَلُهَا وَالْأَخْبَارَ الْكَاذِبَةَ .
وَقَوْلُهُ : صَادِقٌ يُخْرِجُ الْكَاذِبَةَ وَقَوْلُهُ : فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ يُخْرِجُ الْأَخْبَارَ الصَّادِقَةَ غَيْرَ الشَّهَادَاتِ .
وَسَبَبُ تَحَمُّلِهَا مُعَايَنَةُ مَا يَتَحَمَّلُهَا لَهُ وَمُشَاهَدَاتُهُ بِمَا يَخْتَصُّ بِمُشَاهَدَتِهِ مِنْ السَّمَاعِ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْإِبْصَارِ فِي الْمُبْصَرَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَسَبَبُ أَدَائِهَا إمَّا طَلَبُ الْمُدَّعِي مِنْهُ الشَّهَادَةَ ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا .
وَشَرْطُهَا : الْعَقْلُ الْكَامِلُ وَالضَّبْطُ وَالْوِلَايَةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْإِسْلَامُ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا .
وَحُكْمُهَا : وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْحَاكِمِ بِمُقْتَضَاهَا ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ ، لَكِنْ لَمَّا شَرَطَ الْعَدَالَةَ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ وَوَرَدَتْ النُّصُوصُ بِالِاسْتِشْهَادِ جُعِلَتْ مُوجِبَةً .
قَالَ ( الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ إلَخْ ) أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضٌ يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِحَيْثُ لَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهُ أَكَّدَ الْفَرْضَ بِوَصْفَيْنِ وَهُوَ اللُّزُومُ وَعَدَمُ سَعَةِ الْكِتْمَانِ دَلَالَةً عَلَى تَأَكُّدِهِ ، وَشَرَطَ مُطَالَبَةَ الْمُدَّعِي

تَحْقِيقًا لِسَبَبِ الْأَدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } أَيْ لِيُقِيمُوا الشَّهَادَةَ أَوْ لِيَتَحَمَّلُوهَا ، وَسُمُّوا شُهَدَاءَ بِاعْتِبَارِ مَا تَئُولُ إلَيْهِ ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْإِبَاءِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَحَدِ النَّقِيضِينَ وَهُوَ الْكِتْمَانُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النَّقِيضِ الْآخَرِ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ النَّقِيضَانِ ، فَإِذَا كَانَ الْكِتْمَانُ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ الْإِعْلَانُ ثَابِتًا وَهُوَ يُسَاوِي الْإِظْهَارَ فَيَكُونُ ثَابِتًا ، وَثُبُوتُهُ بِالْأَدَاءِ وَمَا لَمْ يَجِبْ لَا يَثْبُتُ فَكَانَ إظْهَارُ الْأَدَاءِ وَاجِبًا .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَهُوَ أَمْرٌ بِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ عَمَّا فِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ، وَلَيْسَ بِالصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ( وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ) وَنُوقِضَ بِمَا إذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمُدَّعِي وَيَعْلَمُ الشَّاهِدُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَشْهَدْ يَضِيعُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَلَا طَلَبَ ثَمَّةَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْمَطْلُوبِ دَلَالَةً ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَدَاءِ عِنْدَ الطَّلَبِ إحْيَاءُ الْحَقِّ وَهُوَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مَوْجُودٌ فَكَانَ فِي مَعْنَاهُ فَأُلْحِقَ بِهِ .
لَا يُقَالُ : قَدْ مَرَّ آنِفًا أَنَّ طَلَبَ الْمُدَّعِي سَبَبٌ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُ شَرْطٌ وَهُوَ غَيْرُ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ وَإِنَّمَا

يُشْتَرَطُ وُجُوبُ سَبَبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ طَلَبُ الْمُدَّعِي ، فَالطَّلَبُ سَبَبٌ وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فَلَا مُخَالَفَةَ حِينَئِذٍ .
فَإِنْ قُلْت : أَمَا تَجْعَلُهُ شَرْطًا وقَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ } { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } سَبَبًا .
قُلْت : نِعْمَ ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ وَضْعٍ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } .

( وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ ) لِأَنَّهُ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّوَقِّي عَنْ الْهَتْكِ ( وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ { لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ ( إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَيَقُولُ : أَخَذَ ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ( وَلَا يَقُولُ سَرَقَ ) مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ لَوَجَبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ لَا يُجَامِعُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْصُلُ إحْيَاءُ حَقِّهِ .

قَالَ ( وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ إلَخْ ) الشَّاهِدُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ وَأَنْ يُظْهِرَ ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَوَقَّى عَنْ هَتْكِ الْمُسْلِمِ حِسْبَةً لِلَّهِ ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ نَقْلًا وَعَقْلًا ، أَمَّا الْأَوَّلُ { فَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ هُزَالٌ الْأَسْلَمِيُّ لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك وَفِي رِوَايَةٍ بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } " وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَمَا رُوِيَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ فِيهَا دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ .
قِيلَ الْأَخْبَارُ مُعَارِضَةٌ لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ وَإِعْمَالُهَا نَسْخٌ لِإِطْلَاقِهِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُدَايَنَةِ لِنُزُولِهَا فِيهَا ، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي السَّتْرِ وَالدَّرْءِ مُتَوَاتِرٌ فِي الْمَعْنَى فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ .
وَقِيلَ إنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ وَرَدَ فِي مَاعِزٍ وَحِكَايَتُهُ مَشْهُورَةٌ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ شُهْرَةَ حِكَايَةِ مَاعِزٍ لَا تَسْتَلْزِمُ شُهْرَةَ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهَا بِالسَّتْرِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ السَّتْرَ وَالْكِتْمَانَ إنَّمَا يَحْرُمُ لِخَوْفِ فَوَاتِ حَقِّ الْمُحْتَاجِ إلَى الْأَمْوَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ خَوْفُ فَوَاتِ الْحَقِّ فَبَقِيَ صِيَانَةُ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَلَا شَكَّ فِي فَضْلِ ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ : إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ )

اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يُخَيَّرُ ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمَالِ لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيَقُولُ أَخَذَ وَلَا يَقُولُ سَرَقَ ( مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ ) ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ ، وَأَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخَرُ حَقُّ الْعَبْدِ ، وَالسَّتْرُ الْكُلِّيُّ إبْطَالٌ لَهُمَا وَفِيهِ تَضْيِيعُ حَقِّ الْعَبْدِ فَلَا يَجُوزُ .
وَالْإِقْدَامُ عَلَى إظْهَارِ السَّرِقَةِ تَرْجِيحُ حَقِّ اللَّهِ الْغَنِيِّ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ الْمُحْتَاجِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَتَعَيَّنَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَالِ دُونَ السَّرِقَةِ .

( وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ : مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ) لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ

قَالَ ( وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ ) رَتَّبَهَا الشَّرْعُ عَلَى مَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ ، فَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَلَفْظُ أَرْبَعَةٍ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْعَدَالَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُهَا .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ دُونَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَلَا يَرْضَى بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ : { مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ } ) وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ لِمَا وَرَدَ فِي حَقِّهِمَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } ( وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ ) فِي غَيْرِ الْحُدُودِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } عَلَى سِيَاقِ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَإِنَّمَا قَالَ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْبَدَلِ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ كَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَيْسَ شَهَادَتُهُنَّ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ ( فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ) .

( وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ) لِمَا ذَكَرْنَا .( وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ ) كَحَدِّ الشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ( وَالْقِصَاصُ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ) فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ وَغَيْرَهُ لِمَا مَرَّ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ وَالْبُلُوغِ خَلَا أَنَّ بَابَ الزِّنَا خَرَجَ بِمَا تَلَوْنَا فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى تَنَاوُلِهِ ( قَوْلُهُ : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ ، فَالْآيَةُ هَذِهِ عُقِّبَتْ بِقَوْلِهِ { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وَلَيْسَتْ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا مَقْبُولَةً .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ ، وَلَئِنْ أَوْجَبَ فَعَدَمُ قَبُولِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَشُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ فِي شَهَادَتِهِنَّ .
فَإِنْ قُلْت : مَا مَسْلَكُ الْحَدِيثِ مِنْ الْآيَةِ هَاهُنَا أَتَخْصِيصٌ أَمْ نَسْخٌ .
قُلْت : مَسْلَكُهُ مِنْهَا مَسْلَكُ آيَةِ شَهَادَةِ الزِّنَا مِنْ هَذِهِ ، وَهُوَ إمَّا التَّخْصِيصُ إنْ ثَبَتَتْ الْمُقَارَنَةُ أَوْ النَّسْخُ .
وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى تَلْقِيَةِ الصَّدْرِ الْأَوَّلُ بِالْقَبُولِ فَكَانَ مَشْهُورًا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ .

( قَالَ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ ) وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْوَقْفِ وَالصُّلْحِ ( وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ ) وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَلَدِ وَالْوِلَادِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً ، وَالنِّكَاحُ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ أَدْنَى خَطَرًا وَأَكْثَرُ وُجُودًا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ ، إذْ بِالْأَوَّلِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ ، وَبِالثَّانِي يَبْقَى ، وَبِالثَّالِثِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي وَلِهَذَا يُقْبَلُ إخْبَارُهَا فِي الْأَخْبَارِ ، وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ بِزِيَادَةِ النِّسْيَانِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ .

قَالَ ( وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ إلَخْ ) وَمَا سِوَى الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنْ بَقِيَّةِ الْحُقُوقِ ( مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ ) أَيْ الْوِصَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي تَعْدَادِ غَيْرِ الْمَالِ ( وَنَحْوِ ذَلِكَ ) يَعْنِي الْعَتَاقَ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِمَا تَلَوْنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا ) كَالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْأَجَلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ .
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي شَهَادَتِهِنَّ عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبُولِ ( لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ) لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَدُنُوِّ خَطَرِهَا فَلَا يُلْحَقُ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُجُودًا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْوَلَاءِ وَالْعِدَّةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ( وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ ) الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ وَالضَّبْطُ الَّذِي يَبْقَى بِهِ الْعِلْمُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْقَبُولِ أَصْلًا فِيهَا ( قَبْلَ إخْبَارِهَا فِي الْأَخْبَارِ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرْتُمْ مِمَّا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لَهَا أَوْ شَرْطًا ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالضَّبْطِ وَالْأَدَاءِ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِذَلِكَ لَا جَمْعًا وَلَا فُرَادَى .

وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهَا عَلَيْهَا كَذَلِكَ لَا جَمْعًا وَلَا فُرَادَى ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ هَيْئَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ .
وَأَمَّا الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لَهَا .
وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ لِأَهْلِيَّةِ قَبُولِهَا .
فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُجُودَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ أَيْضًا وَفَاتَهُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الضَّبْطُ أَوْ الْأَدَاءُ إذَا أَدَّى بِغَيْرِ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ .
وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةً اسْتَلْزَمَ وُجُودُهَا وُجُودَ مَعْلُولِهَا وَهُوَ الْقَبُولُ ، وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُضَافٌ : أَيْ أَهْلِيَّةُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ( قَوْلُهُ : وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتِلَالُ الضَّبْطِ .
وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ ذَلِكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَتُقْبَلُ فِيمَا يَثْبُتُ بِهَا ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَثْبُتُ بِهَا .
أَمَّا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ فَظَاهِرٌ لِثُبُوتِهِمَا مَعَ الْهَزْلِ ، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ وَالْإِيصَاءُ وَالْأَمْوَالُ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ أَمَارَةُ ثُبُوتِهَا مَعَ الشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ ، وَلَا عَنْ قَوْلِهِ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي عَقْلِهِنَّ فِيمَا هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ : الْأُولَى اسْتِعْدَادُ الْعَقْلِ وَيُسَمَّى الْعَقْلَ

الْهَيُولَانِيَّ وَهُوَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ فِي مَبْدَإِ فِطْرَتِهِمْ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَحْصُلَ الْبَدِيهِيَّاتُ بِاسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ فَيَتَهَيَّأُ لِاكْتِسَابِ الْفِكْرِيَّاتِ بِالْفِكْرِ ، وَيُسَمَّى الْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ تَحْصُلَ النَّظَرِيَّاتُ الْمَفْرُوغُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى اكْتِسَابٍ وَهُوَ يُسَمَّى الْعَقْلَ بِالْفِعْلِ .
وَالرَّابِعَةُ هُوَ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا وَيَلْتَفِتَ إلَيْهَا مُشَاهَدَةً وَيُسَمَّى الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ ، وَلَيْسَ فِيمَا هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْعَقْلُ بِالْمَلَكَةِ فِيهِنَّ نُقْصَانٌ بِمُشَاهَدَةِ حَالِهِنَّ فِي تَحَصُّلِ الْبَدِيهِيَّاتِ بِاسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَبِالتَّنْبِيهِ إنْ نَسِيَتْ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ نُقْصَانٌ لَكَانَ تَكْلِيفُهُنَّ دُونَ تَكْلِيفِ الرِّجَالِ فِي الْأَرْكَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ } الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْلُ بِالْفِعْلِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْنَ لِلْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ وَالْإِمَارَةِ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَيْضًا فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ : وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي قَبُولَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ .

قَالَ ( وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } وَالْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ .
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَتْ الذُّكُورَةُ لِيَخِفَّ النَّظَرُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ فَكَذَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالثَّلَاثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ ( ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ) وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعَةِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ وَالْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطْلُعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ .
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ

قَالَ ( وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ ) اُخْتُصَّ قَبُولُ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ قَصْرُ إفْرَادٍ قَصْرُ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ لَا عَكْسُهُ كَمَا فَهِمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِيهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَيْهِ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إذَا دَخَلَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ فَمَا فَوْقَهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَاتِ .
قَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّهُ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ لَنَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الذُّكُورَةَ سَقَطَتْ بِالِاتِّفَاقِ لِيَخِفَّ النَّظَرُ ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ أَخَفُّ وَفِي إسْقَاطِ الْعَدَدِ تَخْفِيفُ النَّظَرِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالْمُثَلَّثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَوْعَ مُنَاقَضَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَوَازُ الِاكْتِفَاءِ بِنَظَرِ الْوَاحِدَةِ لِخِفَّةِ نَظَرِهَا لَمَا كَانَ نَظَرُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ أَحْوَطَ مِنْ نَظَرِ الْوَاحِدَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : خِفَّةُ النَّظَرِ تُوجِبُ عَدَمَ وُجُودِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ ، وَمَعْنَى الْإِلْزَامِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ فَعَمِلْنَا بِهِمَا وَقُلْنَا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ احْتِيَاطًا ( ثُمَّ حُكْمُهَا ) أَيْ حُكْمُ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْوِلَادَةِ ( شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ) يَعْنِي فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَجَحَدَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ قَالَ

لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : تَطْلُقُ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَعْنِي تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِقَوْلِ امْرَأَتِهِ وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ ، وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنَّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَهِيرَةً أَوْ مَبِيعَةً لَا بُدَّ مِنْ نَظَرِ النِّسَاءِ إلَيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا نَظَرْنَ إلَيْهَا وَشَهِدْنَ فَإِمَّا أَنْ تَتَأَيَّدَ شَهَادَتُهُنَّ بِمُؤَيِّدٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَتْ شَهَادَتُهُنَّ حُجَّةً ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَيِّدُهَا ، فَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدْنَ بِأَنَّهَا بِكْرٌ فَإِنْ كَانَتْ مَهِيرَةً تُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْبَكَارَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْبَائِعِ لِذَلِكَ وَلِمُقْتَضَى الْبَيْعِ وَهُوَ اللُّزُومُ ، وَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ قَوِيٌّ وَشَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ فَيَحْلِفُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ وَقَبْلَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ ، فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ نَكَلَ تُرَدُّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : شَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيَجِبُ بِالرَّدِّ بِقَوْلِهِنَّ وَالتَّحْلِيفُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْعَيْبَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ يَعْنِي فِي حَقِّ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالتَّحْلِيفِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إثْبَاتِ قِيَامِهِ بِهِ فِي الْحَالِ لِيَثْبُتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّحْلِيفِ ، وَإِلَّا كَانَ الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ .
فَإِذَا قُلْت :

إنَّهَا ثَيِّبٌ ثَبَتَ الْعَيْبُ فِي الْحَالِ وَعُمِلَ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا ذَلِكَ الْعَيْبُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ .
وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَفِي حَقِّ الْإِرْثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتُ الصَّبِيِّ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ حُجَّةً لَكِنَّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ مَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَشَهَادَتُهُنَّ فِيهَا حُجَّةٌ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ .
وَعِنْدَهُمَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا مَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالرِّجَالُ لَا يَحْضُرُهَا عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ إمْكَانُ الِاطِّلَاعِ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِشَهَادَتِهِنَّ ، وَنَفْسُ الْوِلَادَةِ هُوَ انْفِصَالُ الْوَلَدِ عَنْ الْأُمِّ وَذَلِكَ لَا يُشَارِكُ الرِّجَالُ فِيهِ النِّسَاءَ .

قَالَ ( وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدُ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعِينَةُ لِلصِّدْقِ ، لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ قَدْ يَتَعَاطَاهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ .
وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ ، وَلِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَوْحِيدٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَشَدَّ .
وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ } وَمِثْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ دِينُهُ ، وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ إذْ لَا وُصُولَ إلَى

الْقَطْعِ .

( قَالَ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ إلَخْ ) لَا بُدَّ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ وَهِيَ كَوْنُ حَسَنَاتِ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الِاجْتِنَابَ عَنْ الْكَبَائِرِ وَتَرْكَ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ ( وَلَفْظُهُ الشَّهَادَةَ ) حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ( أَمَّا اشْتِرَاطُ ) الْعَدَالَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَالْفَاسِقُ لَا يَكُونُ مَرَضِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ( وَلِأَنَّ ) الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ بِاعْتِبَارِ الصِّدْقِ وَ ( الْعَدَالَةُ هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِلصِّدْقِ ) فَهِيَ عِلَّةُ الْحُجِّيَّةِ وَمَا سِوَاهَا مُعَدَّاتٌ ( ؛ لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ ) مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ ( فَقَدْ يَتَعَاطَاهُ أَيْضًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا ) أَيْ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ ( فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ ) أَيْ إنْسَانِيَّةٍ وَالْهَمْزَةُ وَتَشْدِيدُ الْوَاوِ فِيهَا لُغَتَانِ ( تُقْبَلُ ) شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ ، ( وَالْأَوَّلُ ) يَعْنِي عَدَمَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا وَجِيهًا ذَا مُرُوءَةٍ كَانَ أَوْ لَا ( أَصَحُّ ) ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُمَا إكْرَامٌ لِلْفَاسِقِ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا لَقِيت الْفَاسِقَ فَالْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ } وَالْمُعْلِنُ بِالْفِسْقِ لَا مُرُوءَةَ لَهُ ( لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ صَحَّ عِنْدَنَا ، وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا عَلِمْت مِثْلَ

الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } ( وَلِأَنَّ فِي لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ ) لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُشَاهَدَةِ ( وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَشَدُّ ) وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ فِي الِافْتِتَاحِ فَإِنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ فَيَجُوزُ تَبْدِيلُ مَا هُوَ أَصْرَحُ فِيهِ بِهِ ( قَوْلُهُ : فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا وَقَعَ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ : أَيْ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اُخْتُصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَاشْتُرِطَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ .
وَقَوْلُهُ : هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الشُّهُودَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ } وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي دِينِهِ وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ يَكْفِي لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ ، وَهَاهُنَا يَثْبُتُ لِلْمُدَّعِي اسْتِحْقَاقُ الْمُدَّعَى بِهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذْ لَا وُصُولَ إلَى الْقَطْعِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِالظَّاهِرِ لَاحْتِيجَ إلَى التَّزْكِيَةِ وَقَبُولُ قَوْلِ الْمُزَكِّي فِي التَّعْدِيلِ أَيْضًا عَمَلٌ بِالظَّاهِرِ لِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَ الْمُزَكِّي صِدْقٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ

كَالْأَوَّلِ وَهَلُمَّ جَرًّا ، وَيَدُورُ أَوْ يَتَسَلْسَلُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : بِالظَّاهِرِ هَاهُنَا اُعْتُبِرَ لِلرَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْكَارَ الْخَصْمِ تَعَارَضَا ، وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ ، وَبِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ انْدَفَعَ مُعَارَضَةُ الذِّمَّةِ فَكَانَ دَافِعًا .

( إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ ) لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ ، وَإِنْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ سَأَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ فَيَسْأَلُ طَلَبًا لِلتَّرْجِيحِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنَاهُ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَيَتَعَرَّفُ عَنْ الْعَدَالَةِ ، وَفِيهِ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ .

( قَوْلُهُ : إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ ، إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا ؛ وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ فَيَسْأَلُ عَنْهَا عَسَى يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِهِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَسْأَلُ عَنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي الشُّهُودِ مُعَارَضٌ بِحَالِ الْخَصْمِ إذَا طَعَنَ فِيهِمْ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكْذِبُ بِالطَّعْنِ عَلَى مُسْلِمٍ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا فَيَحْتَاجُ الْقَاضِي حِينَئِذٍ إلَى التَّرْجِيحِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّفِ عَنْ الْعَدَالَةِ ، وَفِي السُّؤَالِ صَوْنُ الْقَضَاءِ عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ الشُّهُودِ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا ( وَقِيلَ هَذَا ) الِاخْتِلَافُ ( اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ) ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَابَ فِي زَمَانِهِ وَكَانَ الْغَالِبُ مِنْهُمْ عُدُولًا .
وَهُمَا أَجَابَا فِي زَمَانِهِمَا وَقَدْ تَغَيَّرَ النَّاسُ وَكَثُرَ الْفَسَادُ ، وَلَوْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ لَقَالَ بِقَوْلِهِمَا .
وَلِهَذَا قَالَ ( وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ )

قَالَ ( ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ إلَى الْمُعَدِّلِ فِيهَا النَّسَبُ وَالْحَلْيُ وَالْمُصَلَّى وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ ) كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يُقْصَدَ ( وَفِي الْعَلَانِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ ) لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ .
وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ .
ثُمَّ قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ ، وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهَذَا أَصَحُّ .

قَالَ ( ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ التَّزْكِيَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ تَزْكِيَةٌ فِي السِّرِّ وَتَزْكِيَةٌ فِي الْعَلَانِيَةِ .
فَالْأُولَى ( أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي الْمَسْتُورَةَ ) وَهِيَ الرُّقْعَةُ الَّتِي يَكْتُبُهَا الْقَاضِي وَيَبْعَثُهَا سِرًّا بِيَدِ أَمِينِهِ إلَى الْمُزَكِّي سُمِّيَتْ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَرُ عَنْ نَظَرِ الْعَوَامّ ( إلَى الْمُعَدِّلِ ) مَكْتُوبًا ( فِيهَا النَّسَبُ وَالْحُلَى ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا جَمْعُ حِلْيَةِ الْإِنْسَانِ صِفَتُهُ وَمَا يُرَى مِنْهُ مِنْ لَوْنٍ وَغَيْرِهِ ( وَالْمُصَلَّى ) أَيْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ حَتَّى يَعْرِفَهُ الْمُعَدِّلُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ إلَى مَنْ كَانَ عَدْلًا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ وَصَاحِبِ خِبْرَةٍ بِالنَّاسِ بِالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ يَعْرِفُ الْعَدْلَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَكُونُ طَمَّاعًا وَلَا فَقِيرًا يُتَوَهَّمُ خِدَاعُهُ بِالْمَالِ ، وَفَقِيهًا يَعْرِفُ أَسْبَابَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ جِيرَانِهِ وَأَهْلِ سُوقِهِ ، فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْعَدَالَةِ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَيْهِ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ ، وَمَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ لَا يَكْتُبُ شَيْئًا احْتِرَازًا عَنْ الْهَتْكِ ، أَوْ يَقُولُ : اللَّهُ يَعْلَمُ إلَّا إذَا عَدَّلَهُ غَيْرُهُ وَخَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِعَدَالَةٍ أَوْ فِسْقٍ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ مَسْتُورٌ وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ إلَى الْحَاكِمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَلِكَ سِرًّا كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يَقْصِدَ الْخِدَاعَ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَجْمَعَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ فَيَقُولُ الْمُعَدِّلُ هَذَا الَّذِي عَدَّلْته يُشِيرُ إلَى الشَّاهِدِ لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ ؛ وَقَدْ كَانَتْ التَّزْكِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ وَحْدَهَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا صُلَحَاءَ وَالْمُعَدِّلُ مَا كَانَ يَتَوَقَّى عَنْ

الْجَرْحِ لِعَدَمِ مُقَابَلَتِهِمْ الْجَارِحَ بِالْأَذَى ( وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا ) ؛ لِأَنَّ الْعَلَانِيَةَ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ لِمُقَابَلَتِهِمْ الْجَارِحَ بِالْأَذَى ( يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ .
ثُمَّ قِيلَ : لَا بُدَّ لِلْمُعَدِّلِ أَنْ يَقُولَ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ ، وَقِيلَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا أَصَحُّ ) ؛ لِأَنَّ فِي زَمَانِنَا كُلَّ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الْحُرِّيَّةَ وَلِهَذَا لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ إسْلَامِهِ وَحُرِّيَّتِهِ وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ مِنْ التَّخْرِيجِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُلْ بِالسُّؤَالِ إذَا سَأَلَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا ، وَيُقْبَلُ إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ .

قَالَ ( وَفِي قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْخَصْمِ إنَّهُ عَدْلٌ ) مَعْنَاهُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ الْآخَرِ إلَى تَزْكِيَتِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُ شَرْطٌ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا ، أَمَّا إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ .

( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ آخَرَ إلَى تَزْكِيَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ عِنْدَهُ ) هَذَا إذَا كَانَ عَدْلًا يَصْلُحُ مُزَكِّيًا ، فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا وَسَكَتَ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَجْحَدْهُ فَلَمَّا شَهِدُوا عَلَيْهِ قَالَ هُمْ عُدُولٌ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْدِيلُ ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الْمُزَكِّي عِنْدَ الْكُلِّ ( وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطِلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا ) لِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : تَعْدِيلُ الْخَصْمِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَكَانَ مَقْبُولًا ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْمُقِرِّ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ ( وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذْ قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا ) وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالْحَقِّ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرُدُّ الْغَيْرَ لِلتُّهْمَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا إقْرَارَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فَأَنَّى يَكُونُ إقْرَارًا .

( وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَكِّي ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ لَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ بِالتَّزْكِيَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ ) بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ ( وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ ) ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ هَاهُنَا هُوَ الْمُزَكِّي ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي ) وَرَسُولُ الْمُزَكِّي إلَى الْقَاضِي ( وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ .
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تُبْتَنَى عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَالْعَدَالَةُ بِالتَّزْكِيَةِ ) فَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ تُبْتَنَى عَلَى ظُهُورِ التَّزْكِيَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ فِي مَعْنَاهَا ( يُشْتَرَطُ فِيهَا شَرَائِطُهَا مِنْ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ كَمَا اُشْتُرِطَ الْعَدَالَةُ وَيُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِيهِ فِي الْحُدُودِ ) وَالْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا ( وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ ) فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اُشْتُرِطَ فِيهَا ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِبَقَاءِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوَاتُرِ وَرُجْحَانُ الصِّدْقِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَدَالَةِ لَا الْعَدَدِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِالْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ لَا الْعِلْمُ وَلَا الْعَمَلُ لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَدَدِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا إلَى التَّزْكِيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَتُلْحَقُ بِهَا بِالدَّلَالَةِ وَمُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا أُلْحِقَ لَوْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ وَالتَّعَدِّيَةُ جَمِيعًا .

( وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فِي الْمُزَكِّي فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ ) حَتَّى صَلُحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا ، فَأَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ شَرْطٌ ، وَكَذَا الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ .
قَالُوا : يُشْتَرَطُ الْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .( قَالَ : وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ إلَخْ ) تَزْكِيَةُ السِّرِّ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكَّى فِيهَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فَصَلَحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا لِمَوْلَاهُ وَغَيْرِهِ وَالْوَالِدُ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ ( فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَهِيَ شَرْطٌ ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ ) وَفِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ يُنَافِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّي فِي السِّرِّ هُوَ الْمُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَصَّافَ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي فِي السِّرِّ غَيْرَ الْمُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : شَرَطَ الْخَصَّافُ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ غَيْرَ الْمُزَكِّي فِي السِّرِّ ، أَمَّا عِنْدَنَا فَاَلَّذِي يُزَكِّيهِمْ فِي السِّرِّ يُزَكِّيهِمْ فِي الْعَلَانِيَةِ

( فَصْلٌ ) وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ أَوْ رَآهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ ( لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ ) وَهُوَ الرُّكْنُ فِي إطْلَاقِ الْأَدَاءِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } قَالَ ( وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي ) لِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ .

فَصْلٌ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ .
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِشْهَادِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَإِذَا سَمِعَ الشَّاهِدُ مَا كَانَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ رَأَى مَا كَانَ مِنْ الْمُبْصَرَاتِ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْحَادِثَةُ بِمَا يُوجِبُهُ .
وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْأَدَاءُ بِوُجُودِ مَا هُوَ الرُّكْنُ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهْم يَعْلَمُونَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } قِيلَ جَعْلُ الْعِلْمِ بِالْمُوجِبِ رُكْنًا فِي الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لِلنَّصَّيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ لَا عَلَى رُكْنِيَّتِهِ ، إذْ الْأَحْوَالُ شُرُوطٌ وَإِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلشَّرْطِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ إشَارَةً إلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ .
قَالَ ( وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ إلَخْ ) إذَا سَمِعَ الْمُبَايَعَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا وَاحْتِيجَ إلَى الشَّهَادَةِ يَقُولُ الشَّاهِدُ أَشْهَدُ إنَّهُ بَاعَ ( وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَلَوْ سَمِعَ الْإِقْرَارَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ شَخْصِ الْمُقِرِّ ( لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي ) بِأَنْ قَالَ أَشْهَدُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ ( لَا يَقْبَلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّغْمَةَ ) وَهُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ ( تُشْبِهُ النَّغْمَةَ ) وَالْمُشْتَبَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَانْتَفَى الْمُطْلَقُ لِلْأَدَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا ) إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47