كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ ) كَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا ( قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ) يَعْنِي طَلَاقًا بَائِنًا لِأَنَّ حُكْمَ الْفِرَارِ إنَّمَا يُعْطَى إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ ) بِمَعْنَى وُجِدَتْ تَامَّةً لَا تَحْتَاجُ إلَى خَبَرٍ .
وَقَوْلُهُ ( يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا ) يَظْهَرُ بِمَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالشَّرْطِ ثُمَّ وُجِدَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَ أَنَّ طَلَاقَ الْمَجْنُونِ غَيْرُ وَاقِعٍ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَطْلِيقٍ قَصْدًا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِشَرْطٍ ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَا يَحْنَثُ ، فَلَوْ كَانَ تَطْلِيقًا قَصَدَ الْحِنْثَ .
وَقَوْلُهُ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَصِيرُ فَارًّا ) قِيلَ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِيرَ فَارًّا فِي التَّعْلِيقِ بِالْفِعْلِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَصِيرُ مُضْطَرًّا فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ الْفِعْلُ ظُلْمًا فَلَا تَرِثُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاضْطِرَارَ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ لَا يَرِدُ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ إلَى قَتْلِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ فِعْلُهُ بِالظُّلْمِ لِمَا أَنَّ عِصْمَةَ الْمَحَلِّ تَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ ) يَعْنِي صَارَ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا لِمَا أَنَّ الرِّضَا بِالشَّرْطِ رِضًا بِالْمَشْرُوطِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ أَحَدَ شَرِيكَيْ الْعَبْدِ إذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ إنْ ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ عَتَقَ ، وَلِلضَّارِبِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْحَالِفِ مَعَ أَنَّ الضَّارِبَ ضَرَبَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا .
أُجِيبَ

بِأَنَّ حُكْمَ الْفِرَارِ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بِشُبْهَةِ الْعُدْوَانِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَتَابَعَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ فَيَبْطُلُ حُكْمُهُ أَيْضًا لِشُبْهَةِ الرِّضَا ، وَلَا كَذَلِكَ حُكْمُ الضَّمَانِ ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا شُبْهَةُ رِضَا الْمَرْأَةِ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِنَفْيِ حُكْمِ الْفِرَارِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ فِي الْعُقْبَى ) رَاجِعٌ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ .
قِيلَ إنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَكْتُوبَاتِ فِيهِ سَوَاءً لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْفَهْمُ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ أَسْبَقَ .
وَقَوْلُهُ ( فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) أَيْ لَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ حِينَ عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ لَهَا حَقٌّ فَلَا يُتَّهَمُ بِالْقَصْدِ إلَى الْفِرَارِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ صُنْعٌ ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَنْعَدِمَ رِضَاهَا إذْ فِعْلُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْهُ بُدًّا ؛ فَيَكُونُ هَذَا كَالتَّعْلِيقِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِمَجِيءِ الشَّهْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا تَرِثُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُبَاشِرْ الْعِلَّةَ وَلَا الشَّرْطَ فِي مَرَضِهِ فَلَا يَكُونُ فَارًّا .
فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذَا مُنَاقَضَةٌ مِنْ جَانِبِ زُفَرَ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْمَرَضِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَا لَهُ صُنْعٌ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا كَانَ فِعْلَهَا جُعِلَ صُنْعُ الزَّوْجِ كَلَا صُنْعٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ فِعْلَهَا فَلَمْ يَخْرُجْ فِعْلُهُ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْجَأَهَا إلَى الْمُبَاشَرَةِ ) أَيْ إلَى جَعْلِ فِعْلِهَا الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ حَقِّهَا

قَالَ ( وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : تَرِثُ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْفِرَارَ حِينَ أَوْقَعَ فِي الْمَرَضِ وَقَدْ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَرَضُ إذَا تَعَقَّبَهُ بُرْءٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ مَرَضُ الْمَوْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا .
وَلَوْ طَلَّقَهَا فَارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مِنْ مَرَضِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْ ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَدَّ بَلْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فِي الْجِمَاعِ وَرِثَتْ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهَا بِالرِّدَّةِ أَبْطَلَتْ أَهْلِيَّةَ الْإِرْثِ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَبِالْمُطَاوَعَةِ مَا أَبْطَلَتْ الْأَهْلِيَّةَ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ وَهُوَ الْبَاقِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَاوَعَتْ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْفُرْقَةَ فَتَكُونُ رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ السَّبَبِ ، وَبَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْمُطَاوَعَةِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا فَافْتَرَقَاوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ ) يَعْنِي بَلْ تُنَافِي النِّكَاحَ كَمَا فِي الْأُمِّ وَالْأُخْتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ ) يَعْنِي الْإِرْثَ هُوَ ( الْبَاقِي ) وَقَوْلُهُ ( فَتَكُونُ رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ السَّبَبِ ) أَيْ سَبَبِ الْإِرْثِ وَهُوَ النِّكَاحُ .

( وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَاعَنَ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَرِثُ ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) وَهَذَا مُلْحَقٌ بِالتَّعْلِيقِ بِفِعْلِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَى الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ ( وَإِنْ آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ ، وَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ أَيْضًا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ ) لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْوِقَاعِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالتَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ قَالَ ( وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ تَرِثُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ حَتَّى يُحِلَّ الْوَطْءَ فَكَانَ السَّبَبُ قَائِمًا .
قَالَ ( وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَرِثُ إنَّمَا تَرِثُ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ) وَقَدْ بَيِّنَاهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تَرِثُ ) قِيلَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِلِعَانِهَا لِأَنَّهُ آخِرُ اللِّعَانَيْنِ ، وَكَانَ آخِرَ الْمُدَارَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْفُرْقَةُ إنَّمَا تَقَعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَنَا فَكَانَ الْقَضَاءُ آخِرَ الْمُدَارَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا يَأْتِي ، وَالْحُكْمُ إمَّا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالْقَضَاءِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَإِنْ كَانَتْ تَقَعُ بِلِعَانِهَا إلَّا أَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي ذَلِكَ لِاسْتِدْفَاعِ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهَا وَكَانَ مُلْحَقًا بِفِعْلٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ ) أَيْ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ ) ظَاهِرٌ قَوْلُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَصِيرُ تَطْلِيقًا إلَخْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيلَاءَ نَظِيرُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ لِمَا أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إبْطَالِ الْإِيلَاءِ بِالْفَيْءِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْإِيلَاءَ فِي الْمَرَضِ وَهُنَاكَ تَرِثُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَكَانَ نَظِيرَ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِالطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ فِي الْمَرَضِ كَانَ فَارًّا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَزْلِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَعْزِلْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إبْطَالُ الْإِيلَاءِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِسُؤَالِهَا أَوْ بِغَيْرِ سُؤَالِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.

( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَرْضَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِدَامَةُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ انْقِضَائِهَابَابُ الرَّجْعَةِ ) لَمَّا كَانَتْ الرَّجْعَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ الطَّلَاقِ طَبْعًا أَخَّرَهَا وَضْعًا لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ وَالرَّجْعَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِدَامَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ .
وَلَهَا شَرَائِطُ : إحْدَاهَا تَقْدِيمُ صَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ مَالٌ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يُسْتَوْفَى الثَّلَاثَةُ مِنْ الطَّلَاقِ .
وَالرَّابِعَةُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا .
وَالْخَامِسَةُ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا لِأَحَدٍ لِثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .

( وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ .
قَالَ ( أَوْ يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ) وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ حَتَّى يَحْرُمَ وَطْؤُهَا ، وَعِنْدَنَا هُوَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ ، وَالدَّلَالَةُ فِعْلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِهِ خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ ، بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ ، فَلَوْ كَانَ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا .

وَ ) أَلْفَاظُ ( الرَّجْعَةِ أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُك ) إنْ كَانَ فِي حَضْرَتِهَا ( أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي ) فِي الْغَيْبَةِ بِشَرْطِ الْإِعْلَامِ أَوْ فِي الْحَضْرَةِ أَيْضًا ، أَوْ يَقُولَ رَدَدْتُك أَوْ أَمْسَكْتُك ، أَوْ يَقُولَ أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْت ، أَوْ أَنْتِ امْرَأَتِي إنْ نَوَى الرَّجْعَةَ ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي جَوَازِ الرَّجْعَةِ بِالْقَوْلِ .
وَأَمَّا بِالْفِعْلِ مِثْلَ أَنْ ( يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ ( عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ) لِثُبُوتِ الْحِلِّ بِهَا ، وَابْتِدَاءُ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ بِالْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ ؛ فَكَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ .
وَقُلْنَا : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُمِّيَ إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَسَنُقَرِّرُهُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْنَا إنَّهَا قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا إلَخْ .
وَقَوْلُهُ وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ ) جُزْءُ الدَّلِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ ) دَلِيلُهُ .
وَتَقْرِيرُهُ : الرَّجْعَةُ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ ، وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ ، فَإِنَّ مَنْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ وَطِئَهَا سَقَطَ الْخِيَارُ ، كَمَا إذَا أَسْقَطَ بِالْقَوْلِ ، بَلْ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ يَحْتَاجُ إلَى رَفْعِ السَّبَبِ الْمُزِيلِ وَهُوَ الْبَيْعُ ، أَمَّا هَاهُنَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ مَا لَوْلَاهُ لَزَالَ وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ .
وَلَمَّا كَانَ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ بَعْضَ الْفِعْلِ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُعَيِّنَهُ فَقَالَ (

وَالدَّلَالَةُ ) أَيْ الدَّلِيلُ ( فِعْلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ ، وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ ) فَتَقَعُ دَلَالَةً .
وَقَوْلُهُ ( خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ ) لِبَيَانِ أَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَيْسَ إلَّا بِالنِّكَاحِ ، وَأَمَّا فِي الْأَمَةِ فَيَحِلُّ بِهِ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا ( بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ ) وَالْخَاتِنَةِ ، وَالشَّاهِدِ فِي الزِّنَا إذَا احْتَاجَ إلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، ( وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ ، فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ) وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهَا فَلَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } .

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا تَصِحُّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ .
وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ ، وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا فِي الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ ، إلَّا أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ فِيهَا ، وَمَا تَلَاهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْمُفَارَقَةِ وَهُوَ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ ( وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَقَالَ كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ) لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُتَّهَمًا إلَّا أَنَّ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ ) إذَا أَرَادَ الرَّجْعَةَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ لِاثْنَيْنِ اشْهَدَا عَلَيَّ بِأَنِّي رَاجَعْت امْرَأَتِي ( وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا تَصِحُّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ) وَهُوَ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِشْهَادَ عَلَى ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَيَجْعَلُهُ شَرْطًا عَلَى الرَّجْعَةِ ( لَهُمَا قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ .
وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي الرَّجْعَةِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وقَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وقَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاح عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا } " وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الرَّجْعَةَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ ( اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ ) كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالِاسْتِدَامَةُ إنَّمَا هِيَ حَالَةُ الْبَقَاءِ ( وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ حَالَ الْبَقَاءِ ) بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَتْ ( كَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ ) فِي أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ حَالَةَ الْبَقَاءِ ( إلَّا أَنَّهَا ) أَيْ الشَّهَادَةَ ( مُسْتَحَبَّةٌ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ فِيهَا ) أَيْ فِي الرَّجْعَةِ ( وَمَا تَلَاهُ ) يَعْنِي مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ( مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دَفْعًا لِلتَّنَاكُرِ ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ إلَى مَا هُوَ الْأَوْفَقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْمُفَارَقَةِ حَيْثُ قَالَ { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا } ( وَهُوَ ) أَيْ الْإِشْهَادُ ( فِيهَا ) أَيْ فِي الْمُفَارَقَةِ (

مُسْتَحَبٌّ ) فَكَذَا فِي الرَّجْعَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا حُكِمَ عَلَى إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَقَارِنَتَيْنِ بِحُكْمِ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِحُكْمِهَا ، وَإِنَّمَا تَعْقُبُهُمَا جُمْلَةٌ أُخْرَى تَعَلَّقَتْ بِهِمَا وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي تَعَلُّقَهَا بِهَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْبَابُ ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى لِئَلَّا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا ) بِالرَّجْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا لَرُبَّمَا تَقَعُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَتَزَوَّجُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهَا أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَيَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فَكَانَتْ عَاصِيَةً وَزَوْجُهَا الَّذِي أَوْقَعَهَا فِيهِ مُسِيئًا بِتَرْكِ الْإِعْلَامِ ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا صَحَّتْ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلْقَائِمِ وَلَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ ؛ فَكَانَ الزَّوْجُ بِالرَّجْعَةِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْغَيْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَكُونُ عَاصِيَةً بِغَيْرِ عِلْمٍ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ وَقَعَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ جِهَتِهَا ( وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَقَالَ قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ ؛ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ ) وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُتَّهَمٌ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ الرَّجْعَةُ وَإِنْ صَدَّقَتْهُ أَيْضًا ( إلَّا أَنَّ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ

السِّتَّةِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ) ، .

.
( وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَا : تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ الْعِدَّةَ إذْ هِيَ بَاقِيَةٌ ظَاهِرًا إلَى أَنْ تُخْبِرَ وَقَدْ سَبَقَتْهُ الرَّجْعَةُ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سَبْقِ الِانْقِضَاءِ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قَوْلِ الزَّوْجِ وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ

( وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي ) فَأَمَّا إنْ قَالَتْ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِكَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ بَعْدَ مُكْثٍ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
قَالَا : الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ الْعِدَّةَ لِبَقَائِهَا ظَاهِرًا إلَى أَنْ تُخْبِرَ ، وَقَدْ سَبَقَتْ الرَّجْعَةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةً فِي الْعِدَّةِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ لَا مَحَالَةَ ( وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ ) إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْبَارِهَا وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ ، وَالْإِخْبَارُ يَقْتَضِي سَبْقَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ( وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قَوْلِ الزَّوْجِ ) فَإِذَا صَادَفَتْ حَالَةَ الِانْقِضَاءِ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوِفَاقِ بَلْ عَلَى الْخِلَافِ ، وَلَئِنْ كَانَتْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ .

( وَإِذْ قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا : قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ) لِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ لِلزَّوْجِ فَشَابَهُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ ، وَهُوَ يَقُولُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى الْعِدَّةِ وَالْقَوْلُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا ، فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ، وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِهِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ فِي الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ ( وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ) لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ

( وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا ) وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى وَالْأَمَةُ أَوْ يُكَذِّبَاهُ ، أَوْ يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى وَتُكَذِّبَهُ الْأَمَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَصِحَّ بِالِاتِّفَاقِ إلَّا إذَا بَرْهَنَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ ( فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْبُضْعَ مَمْلُوكٌ ) لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَمَعْنَاهُ مَنَافِعُ الْبُضْعِ ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا لِلزَّوْجِ إقْرَارًا بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ فَلَا مَرَدَّ لَهُ ، وَكَانَ كَالْإِقْرَارِ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ ، بِأَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ زَوْجُ أَمَتِهِ مِنْ فُلَانٍ ( وَهُوَ ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ ( يَقُولُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى بَقَاءِ الْعِدَّةِ ) وَانْقِضَائِهَا ، وَكُلُّ مَا يُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَمِينًا ( وَالْقَوْلُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا ) فَحُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى قَوْلِهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّزْوِيجِ لِظُهُورِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فِي الرَّجْعَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي مَنَافِعِ بُضْعِهَا ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ إقْرَارٌ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالتَّزْوِيجِ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِذَلِكَ وَكَانَ الْفَرْقُ بَيِّنًا ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ وَعَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ خَالِصُ حَقِّهِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ ( وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ ) بِالِاتِّفَاقِ ، وَبِالِانْقِضَاءِ يَظْهَرُ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى وَهِيَ تُبْطِلُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ فِي

الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا .
أَيْ عِنْدَ الرَّجْعَةِ ، وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّزْوِيجِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي ) ظَاهِرٌ وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى الِانْقِضَاءِ .

.
( وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَعَشْرَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ ) لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الْعَشَرَةِ ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ ، وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الدَّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَضِدَ الِانْقِطَاعُ بِحَقِيقَةِ الِاغْتِسَالِ أَوْ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ زَائِدَةٌ فَاكْتَفَى بِالِانْقِطَاعِ ، وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا تَيَمَّمَتْ انْقَطَعَتْ ، وَهَذَا قِيَاسٌ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالِاغْتِسَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ ، وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ ، ثُمَّ قِيلَ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ عِنْدَهُمَا ، وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ

وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ قَالَ ( وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَقْتَ إذَا مَضَى صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ ) أَطْلَقَ الصَّلَاةَ لِتَنَاوُلِ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ ( حَتَّى يَثْبُتَ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ) يُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَإِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَسَجْدَةَ التِّلَاوَةِ .
وَقَوْلُهُ وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ ) يَعْنِي أَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَلِأَنَّهَا رُكْنُ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَلِأَنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقْرَأَ فِي صَلَاتِهَا آيَةَ السَّجْدَةِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْحَاصِلُ مِنْ دَلِيلِهِمَا أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَأَنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَا يَكُونُ قَبْلَهُ طَهَارَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ وَإِنْ صَلَّتْ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ مَتَى مَا ثَبَتَ ثَبَتَ بِجَمِيعِ لَوَازِمِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ثُبُوتِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ انْقِطَاعُ الْحَيْضِ ، وَمِنْ لَوَازِمِ انْقِطَاعِهِ مُضِيُّ الْمُدَّةِ ، وَمِنْ لَوَازِمِ مُضِيِّهَا انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ ، وَلَازِمُ لَازِمِ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَثْبُتُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَعْلِهِمَا التَّيَمُّمَ طَهَارَةً ضَرُورِيَّةً هَاهُنَا وَطَهَارَةً مُطْلَقَةً فِي بَابِ الْإِمَامَةِ وَجَعْلِ

مُحَمَّدٍ بِالْعَكْسِ فَقَدْ سَبَقَ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى .

.
( وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ ، فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ .
وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ تَبْقَى لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ ، فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا ، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ عَادَةً فَافْتَرَقَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ .
وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ .

( وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ كَأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ انْقَطَعَتْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ) اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِي كُتُبِهِ مَوْضِعَ الْقِيَاسِ هَلْ هُوَ عُضْوٌ فَمَا فَوْقَهُ أَوْ هُوَ مَا دُونَهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعُضْوِ فَمَا فَوْقَهُ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ أَكْثَرَ الْبَدَنِ ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَأَنَّهَا أَصَابَ الْمَاءُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَنْقَطِعُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِيمَا دُونَهُ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ تَنْقَطِعَ لِأَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ ، وَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ وَبِقَوْلِهِ وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ لَا تَبْقَى لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَذَكَرَ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعُضْوِ الْكَامِلِ وَمَا دُونَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ فَقُلْنَا بِانْقِطَاعِهَا ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَتْ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ بِأَنْ مَنَعَتْ قَصْدًا لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْسَانِ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ ( بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ ) فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَبْلُولًا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ لِعَدَمِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ عَادَةً فَلَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْسَانِ

أَبِي يُوسُفَ ، فَانْظُرْ حِذْقَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْإِدْرَاجِ اللَّطِيفِ الَّذِي قَلَّمَا وَقَعَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ ) وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ بَاقٍ لِكَوْنِهِمَا فَرْضَيْنِ فِي الْجَنَابَةِ ( وَ ) فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ( عَنْهُ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ( هُوَ ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( بِمَنْزِلَةِ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا ) فَإِنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ سُنَّتَانِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ ( بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ ) فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي فَرْضِيَّتِهِ .

( وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ ) لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكِّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ أَوْلَى .
وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ .

قَالَ ( وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ أَرَادَ الرَّجْعَةَ ) فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِهِ لَمْ أُجَامِعْهَا لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْحَبَلُ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضُوعَةً فِي ذَلِكَ ، وَمَتَى ظَهَرَ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } " ) الْحَدِيثَ ( وَذَلِكَ ) أَيْ جَعْلُ الْحَمْلِ مِنْهُ ( دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ ، وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا ) لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ ( وَإِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ ، وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكَّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ ) أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا ( بِتَكْذِيبِ الشَّارِعِ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ دَلَالَةً ، وَقَوْلُهُ لَمْ أُجَامِعْهَا صَرِيحٌ ، وَالصَّرِيحُ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَوْلِهِ لَمْ أُجَامِعْهَا لِسُقُوطِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ ، وَتَكْذِيبُ الشَّارِعِ لَا يَرُدُّهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ وَصَلَتْ إلَيْهِ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ وَإِنْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ الشَّارِعِ وَالصَّرِيحَ مِنْ الْعَبْدِ وَدَلَالَةَ الشَّارِعِ أَقْوَى لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ الشَّارِعِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ هَاهُنَا بِإِقْرَارِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَالْمُوجِبُ لِلرَّجْعَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لِثُبُوتِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ فَإِنَّ الْمَانِعَ ثَمَّ مَوْجُودٌ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَلَا تَرَى ) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكَّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَبَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَهُ

مَدْخَلٌ فِي وُجُودِ الْعُقُوبَةِ وَمَعَ هَذَا يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ ( فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ ) الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ ( أَوْلَى ) وَقَوْلُهُ ( وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ : ( فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى الْقَبْضِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .( فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا ) عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِكَلِمَةِ أَوْ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَرْخَى سِتْرًا بِالْوَاوِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ( ثُمَّ قَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ ) فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا لِوُجُوبِ كَمَالِ الْمَهْرِ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ كَامِلًا إلَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى الْقَبْضِ ) وَمَعْنَاهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُكَذَّبًا شَرْعًا أَنْ لَوْ كَانَ كَمَالُ الْمَهْرِ مُسْتَلْزِمًا لِلْقَبْضِ وَهُوَ الْوَطْءُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ وَقَدْ حَصَلَ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ ، إذْ التَّسْلِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَوَانِعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَالتَّسْلِيمُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْقَبْضِ فَلَا يَلْزَمُ التَّكْذِيبُ ( بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّ الْحَمْلَ وَثُبُوتَ النَّسَبِ يَسْتَلْزِمُ الْقَبْضَ فَيَلْزَمُ التَّكْذِيبُ .

( فَإِنْ رَاجَعَهَا ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ( ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذْ هِيَ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَأُنْزِلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ( فَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا ( ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ ) أَيْ الرَّجْعَةُ السَّابِقَةُ ( لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ) وَلِاحْتِمَالِ الْمُدَّةِ ( فَإِنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالدُّخُولِ فَأَنْزَلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا بَعْدَهُ ) لِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ : يَعْنِي إلَّا إلَى عِدَّةٍ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَدَمُ الْوَطْءِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَهُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةً قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَلِكَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ فَكَانَتْ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً .

( فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ فَهِيَ رَجْعَةٌ ) مَعْنَاهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ عَلُوقٍ حَادِثٍ مِنْهُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًاقَالَ ( فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ) وَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِوِلَادَتِهَا فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْوِلَادَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرَّجْعَةِ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي ، وَمَا ثَمَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَهِيَ رَجْعَةٌ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ الثَّانِيَةَ رَجْعَةٌ ، وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ) إنْ لِلْوَصْلِ : أَيْ لِمَا كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَا تَفَاوُتَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ مُضَافٌ إلَى عُلُوقٍ حَادِثٍ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَكَانَ رَجْعَةً .

( وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ طَلَاقٌ وَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ وَكَذَا الثَّالِثُ ) لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَصَارَتْ مُعْتَدَّةً ، وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ ، وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَتَقَعُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَةِ الثَّالِثِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا حَائِلٌ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ حِينَ وَقَعَ الطَّلَاقُ( وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ إلَخْ .

( وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ ) لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ الرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ لَهُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا ( وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا أَوْ يُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَوْضِعٍ يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : لَهُ ذَلِكَ لِقِيَامِ النِّكَاحِ ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا عِنْدَنَا .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } الْآيَةَ ، وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمَلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَلِهَذَا تُحْتَسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ الْإِخْرَاجَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلُ الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الزَّوْجِ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا مَعْنَاهُ الِاسْتِحْبَابُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ

وَقَوْلُهُ ( وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ ) التَّشَوُّفُ خَاصٌّ فِي الْوَجْهِ وَالتَّزَيُّنُ عَامٌّ تَفَعُّلٌ مِنْ شُفْت الشَّيْءَ جَلَوْته وَدِينَارٌ مَشُوفٌ : أَيْ مَجْلُوٌّ وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَ خَدَّيْهَا .
وَقَوْلُهُ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ) يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّوَارُثَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ قَائِمٌ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَهُمَا لَجَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا كَالَّتِي فِي نِكَاحِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ امْتَنَعَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أَيْ لَعَلَّهُ يَبْدُو لَهُ فَيُرَاجِعَهَا وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا إخْرَاجٌ مِنْ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَا لَا يَكُونُ نَفْسُ الْمُسَافَرَةِ دَلِيلًا عَلَى الرَّجْعَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالرَّجْعَةَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ ، وَتَقْرِيرُهُ تَرَاخِي عَمَلِ الْمُبْطِلِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِحَاجَةِ الزَّوْجِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهَا فَلَا تَرَاخِيَ .
أَمَّا أَنَّ التَّرَاخِيَ كَذَلِكَ فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا عَدَمُ حَاجَتِهِ إلَيْهَا فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافَرَةَ لَا تَجُوزُ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُرَاجِعْهَا ، وَأَمَّا إذَا سَافَرَ بِهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ وَالْكَلَامِ فِيهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا

يَرِدُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُدَّةِ الْعِدَّةَ .
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ فَلَا يَرِدُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُبْطِلِ أُخِّرَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ دُونَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ أَيْضًا يَثْبُتُ بِالتَّبْيِينِ كَعَمَلِ الْمُبْطِلِ ؛ وَإِذَا ظَهَرَ عَدَمُ الْحَاجَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمَلُ عَمَلِهِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ ؛ وَلِهَذَا يَحْتَسِبُ الْأَقْرَاءَ مِنْ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُ الْمُبْطِلِ مُقْتَصِرًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمَا احْتَسَبَ الْأَقْرَاءَ الْمَاضِيَةَ مِنْ الْعِدَّةِ كَمَا لَمْ تُحْتَسَبْ فِي قَوْلِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ غَيْرُ مُحْتَسَبَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَمَلُ الْمُبْطِلِ عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَلْ كَانَ مِنْ وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبْتُوتَةِ تَقْدِيرًا حِينَ لَمْ يُرِدْ الرَّجْعَةَ فَكَأَنَّمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ الْمَبْتُوتَةِ إلَى السَّفَرِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلَ الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ النِّكَاحِ .
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ

( وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ .
وَلَنَا أَنَّهَا قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ اسْتِبْدَادَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً إذْ الدَّلِيلُ يُنَافِيهِ وَالْقَاطِعُ أَخَّرَ عِلْمَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةُ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ .
وَلَنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا ) بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ كَانَتْ زَائِلَةً لَكَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَلَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ بِدُونِ رِضَاهَا ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ كَانَ كَافِيًا فِي الِاسْتِدْلَالِ لَكِنَّهُ اسْتَظْهَرَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ يَثْبُتُ نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى : أَيْ ثُبُوتُهُ نَظَرًا لَهُ يُوجِبُ اسْتِبْدَادَهُ بِهِ : أَيْ بِالرَّجْعَةِ بِتَأْوِيلِ الرُّجُوعِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِدًّا بِهِ لَمَا تَمَّ النَّظَرُ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِالرَّجْعَةِ فَحَقُّ الرَّجْعَةِ يُوجِبُ اسْتِبْدَادَ الزَّوْجِ بِالرَّجْعَةِ ( وَاسْتِبْدَادُهُ بِذَلِكَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً ) إذْ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِيَاسِ يُنَافِي أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ إنْشَاءً لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَسْتَبِدُّ بِهِ وَالِاسْتِدَامَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْقَائِمِ وَكَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقَاطِعُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ الْقَاطِعِ لَا يُنَافِي قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ : يَعْنِي قَوْلَهُ يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ نَظَرًا لَهُ فَكَانَ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ تَأَخَّرَ عَمَلُ الْبَيْعِ فِي اللُّزُومِ إلَى مُدَّةٍ نَظَرًا لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ .

( وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا ) لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ بَاقٍ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَيَنْعَدِمُ قَبْلَهُ ، وَمَنْعُ الْغَيْرِ فِي الْعِدَّةِ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ

( فَصْلٌ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ذَكَرَ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الطَّلْقَاتِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ ) وَهُوَ كَوْنُهَا آدَمِيَّةً لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( بَاقٍ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ عِنْدَنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَعْدُومٌ بِعَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ إذْ الْعِلَّةُ لَمْ تَصِرْ عِلَّةً بَعْدُ ، وَإِذَا كَانَ حِلُّ الْمَحَلِّ بَاقِيًا جَازَ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } نَهَى عَنْ الْعَزْمِ عَلَى نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُطْلَقًا ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَتِهِ بَاطِلٌ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَمَنْعُ الْغَيْرِ فِي الْعِدَّةِ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَنْعُ الْغَيْرِ عَنْ الْعَزْمِ عَلَى نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ اشْتِبَاهُ النَّسَبِ وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ : أَيْ فِي تَجْوِيزِ نِكَاحِ مُعْتَدَّتِهِ ، إذْ الِاشْتِبَاهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِيَاهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمُعْتَدَّةِ الصَّبِيِّ وَالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَإِنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ فِي الْعِدَّةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ وَحِكْمَةُ الْحُكْمِ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ ، لَا بَيَانُ الْعِلَّةِ لِوُجُودِ التَّخَلُّفِ فِيمَا

ذُكِرَ مِنْ الصُّوَرِ .
وَأَقُولُ كَمَا ذَكَرْت : اشْتِبَاهُ النَّسَبِ مَانِعٌ عَنْ جَوَازِ النِّكَاحِ فِي عِدَّةِ الْغَيْرِ وَهَذَا صَادِقٌ .
وَأَمَّا أَنَّهُ مُلْزَمٌ جَوَازُهُ إذَا عُدِمَ هَذَا الْمَانِعُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ

( وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَالْمُرَادُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ ، وَالثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ، لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ الْغَايَةُ نِكَاحُ الزَّوْجِ مُطْلَقًا ، وَالزَّوْجِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ ، وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى الْوَطْءِ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ إذْ الْعَقْدُ اُسْتُفِيدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّوْجِ أَوْ يُزَادَ عَلَى النَّصِّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ } رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ ، وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ دُونَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّهُ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ وَالْكَمَالُ قَيْدٌ زَائِدٌ

( وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ) وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ( وَالثِّنْتَانِ فِي الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ ) لِكَوْنِهِ نِعْمَةً وَالْعُقْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَمُلَتْ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْغَايَةَ نِكَاحُ زَوْجٍ آخَرَ مُطْلَقًا حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِصِحَّةٍ وَلَا فَسَادٍ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَالزَّوْجِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ ) أَيْ الْكَامِلَةُ ( إنَّمَا تَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ ) وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ بِهَا إمَّا بِإِشَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى تَنْكِحَ } عَلَى الْوَطْءِ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ اُسْتُفِيدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّوْجِ فِي قَوْلِهِ { زَوْجًا غَيْرَهُ } ، فَلَوْ حَمَلْنَا النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ كَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ ، وَأَمَّا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَظِيِّ " { طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَمِيمَةُ ، وَقِيلَ عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ فَتَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي ، وَإِنِّي نَكَحْت بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ ،

وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ، لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } " وَقَدْ رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْخِطَابِ كَمَا رُوِيَتْ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَنُسَخِ إطْلَاقِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ ( وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ ) أَيْ فِي اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ .
وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ) لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَلِهَذَا ( إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ ) أَيْ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ( لَا يَنْفُذُ ، وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ دُونَ الْإِنْزَالِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ ) أَيْ فِي الدُّخُولِ ، وَالْكَمَالُ قَيْدٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعُسَيْلَةَ وَهِيَ تَصْغِيرُ الْعَسِيلَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ إصَابَةِ حَلَاوَةِ الْجِمَاعِ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْإِيلَاجِ ، وَكَانَ التَّصْغِيرُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الشِّبَعِ بِالْإِنْزَالِ .

( وَالصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فِي التَّحْلِيلِ كَالْبَالِغِ ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ ، وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِيهِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ : غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ يُجَامِعُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ وَأَحَلَّهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنْ تَتَحَرَّك آلَتُهُ وَيَشْتَهِي ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا لِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ مَائِهَا وَالْحَاجَةِ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَقِّهَا ، أَمَّا لَا غُسْلَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ تَخَلُّقًا قَالَ ( وَوَطْءُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لَا يُحِلُّهَا ) لِأَنَّ الْغَايَةَ نِكَاحُ الزَّوْجِ( وَمَالِكٌ يُخَالِفُنَا فِيهِ ) أَيْ فِي اشْتِرَاطِ الْإِيلَاجِ دُونَ الْإِنْزَالِ ، وَيَشْتَرِطُ الْإِنْزَالَ وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَالِغِ فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ كَالْبَالِغِ فِي إفَادَةِ التَّحْلِيلِ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ ) أَنَّ الْإِنْزَالَ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ وَهُوَ قَيْدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ ( فَسَّرَهُ ) أَيْ الْمُرَاهِقُ ( فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ : غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ إلَخْ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَوَطْءُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لَا يُحِلُّهَا ) إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً ثِنْتَيْنِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ غَايَةَ الْحُرْمَةِ نِكَاحُ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى لَا يُسَمَّى زَوْجًا .
قَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ : رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ وَزَيْدٌ وَقَالَا : هُوَ زَوْجٌ ، فَقَامَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا كَارِهًا لِمَا قَالَا وَقَالَ : لَيْسَ بِزَوْجٍ .

( وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ مَكْرُوهٌ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُهُ ( فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُؤَقَّتِ فِيهِ وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ فَيُجَازَى بِمَنْعِ مَقْصُودِهِ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُوَرِّثِ

( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ ) بِأَنْ قَالَ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُحِلَّك أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ ( فَالنِّكَاحُ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } " ) فَإِنَّ مَحْمَلَهُ اشْتِرَاطُ التَّحْلِيلِ فِي الْعَقْدِ كَمَا ذَكَرْنَا ، إذْ لَوْ أَضْمَرَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ .
وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ هُوَ مَحْمَلُهُ الْكَرَاهَةُ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ لِإِفْسَادِهِ ( فَإِنْ طَلَّقَهَا ) يَعْنِي الَّذِي شَرَطَ التَّحْلِيلَ ( بَعْدَمَا وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُوَقَّتِ ) كَأَنَّهُ قَالَ تَزَوَّجْتُك إلَى وَقْتِ كَذَا ( وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ ) فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّحْلِيلِ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ( وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ ) لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ الْعُمُرِ فَيَقْتَضِي الْحِلَّ عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ مَوْتِ الثَّانِي ، فَبِشَرْطِ التَّحْلِيلِ يَصِيرُ مُسْتَعْجِلًا لِلْحِلِّ ( فَيُجَازَى بِمَنْعِ مَقْصُودِهِ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُورَثِ ) وَذُكِرَ فِي رَوْضَةِ الزَّنْدَوَسْتِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ حَتَّى إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا الثَّانِي بَعْدَ وَطْئِهِ إيَّاهَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ ، وَتَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إذَا طَلَّقَهَا الثَّانِي بِرَأْيِهِ أَوْ بِأَمْرِ الْقَاضِي إيَّاهُ .
قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ : هَذَا الْبَيَانُ لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ .

( وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا ، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثَبِّتُ لِلْحِلِّ

( وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ، وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي ) التَّطْلِيقَةَ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ يَعْنِي أَنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْبَاقِيَ مِنْ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَا تَحْرُمُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ إلَّا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جَمْعًا أَوْ فُرَادَى ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ ( لَا يَهْدِمُ ) وَيَبْقَى الزَّوْجُ مَالِكًا بِمَا بَقِيَ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَتَحْرُمُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ إذَا انْتَهَى ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَأَخَذَ الشُّبَّانُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الْمَشَايِخِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الشُّبَّانِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَكُلُّ مَا كَانَ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَهُوَ مِنْهُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُغَيَّا يَنْتَهِي بِالْغَايَةِ فَيَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ ، وَلَا انْتِهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهَا ، وَلَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ قَبْلَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ ( وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } " ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَوْرَدُوهُ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الزَّوْجِ الثَّانِي ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْمُحَلِّلِ الزَّوْجَ الثَّانِيَ ( سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ ) ثُمَّ الْحِلُّ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحِلَّ السَّابِقَ ، أَوْ حِلًّا جَدِيدًا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ فَتَعَيَّنَ

الثَّانِي ، وَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ غَيْرَ الْأَوَّلِ ، وَالْأَوَّلُ حِلٌّ نَاقِصٌ وَكَانَ الْجَدِيدُ كَامِلًا ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ ، فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِلًّا جَدِيدًا لَكِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مَحْمَلَهُ هُوَ شَرْطُ التَّحْلِيلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ ثَابِتٌ فَيُصْرَفُ إلَى مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ وَهُوَ مَحْمَلُهُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدَهُمَا مَا ذَكَرْت وَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ .
وَالثَّانِيَ أَنَّ مَحْمَلَهُ الْكَرَاهَةُ لَا الْفَسَادُ ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ ، فَإِنَّ الْحِلَّ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَكِنَّ إطْلَاقَ الْمُحَلِّلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَلِّلًا ، فَصَرْفُهُ إلَى بَعْضِ الصُّوَرِ تَقْيِيدٌ بِلَا دَلِيلٍ ، وَالثَّابِتُ بِهِ غَيْرُ الثَّابِتِ قَبْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَكَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَغَيْرَهَا سَوَاءً وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْأَمْرُ الثَّانِي .

( وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَدِّقَهَا إذَا كَانَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ ) .
لِأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ أَوْ أَمْرٌ دِينِيٌّ لِتَعَلُّقِ الْحِلِّ بِهِ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا مَقْبُولٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَسَنُبَيِّنُهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ .

( وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصْدُقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تَصْدُقُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَتَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ ، وَحَيْضُهَا أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ ، وَطُهْرُهَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَالثَّلَاثَةُ إذَا كَانَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَتْ تِسْعَةً وَالطُّهْرَانِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، فَلِذَلِكَ صَدَقَتْ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ تَحَرُّزًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ فَقَدَّرْنَاهُ بِأَقَلِّهِ ، وَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ لِأَنَّ مِنْ النَّادِرِ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَلَّ الْحَيْضِ ، أَوْ يَمْتَدَّ إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَيُعْتَبَرُ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كُلُّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضٍ خَمْسَةٌ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ .
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَاجِبٌ ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي آخِرِ الطُّهْرِ أَقْرَبُ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ثُمَّ حَيْضُهَا عَشَرَةٌ ، لِأَنَّا لَمَّا قَدَّرْنَا طُهْرَهَا بِأَقَلِّ الْمُدَّةِ نَظَرًا لَهَا يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ نَظَرًا لِلزَّوْجِ ، وَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ ثَلَاثُونَ ، وَطُهْرَانِ كُلُّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا .
وَقَوْلُهُ وَسَنُبَيِّنُهَا

فِي بَابِ الْعِدَّةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَوَالَةُ حَوَالَةً غَيْرَ رَابِحَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهِ .
وَرُدَّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُسَمَّى وَعْدًا لَا حَوَالَةً ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَعْدٌ غَيْرُ مُنَجَّزٍ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي بَابِ الْعِدَّةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعْدُهُ مُنَجَّزًا فِي بَابِ الْعِدَّةِ مِنْ كِتَابٍ آخَرَ .
وَأَقُولُ : الْأَوَّلُ ظَاهِرٌ ، وَالثَّانِي خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ الْإِيلَاءِ ) : قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْهُ : التَّحْرِيمَاتُ الَّتِي تَنْفُذُ مِنْ الزَّوْجِ بِحُكْمِ مِلْكِ النِّكَاحِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : الطَّلَاقُ ، وَالْإِيلَاءُ ، وَاللِّعَانُ ، وَالظِّهَارُ .
ثُمَّ قَالَ : فَيَبْدَأُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمُبَاحُ لِلزَّوْجِ فِي وَقْتِهِ .
ثُمَّ أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنْهُ فِي الْإِبَاحَةِ الْإِيلَاءُ ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمِينٌ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الظُّلْمِ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَكَانَ أَدْنَى مِنْهُ فِي الْإِبَاحَةِ .
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ .
يُقَالُ آلَى يُولِي إيلَاءً : إذَا حَلَفَ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ قُرْبَانِ الْمَنْكُوحَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ ، وَسَبَبُهُ سَبَبُ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ ، وَهُمَا مُتَشَابِهَانِ فِي أَنَّ الْإِبَانَةَ فِيهِمَا مُؤَقَّتَةٌ إلَى وَقْتٍ ، لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لِأَنَّ التَّدَارُكَ فِيهِ لَا يَسْتَعْقِبُ مَكْرُوهًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْإِيلَاءَ لِمَا أَنَّ التَّدَارُكَ فِيهِ غَيْرُ مُتَضَمِّنٍ نُقْصَانَ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ .
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَهُمَا فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي مُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا .
وَرُكْنُهُ أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنَحْوَهُ ، أَوْ يَقُولَ : إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ وَأَمْثَالَهُ .
وَحُكْمُهُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِالْقُرْبَانِ فِي الْأَوَّلِ وَلُزُومُ الْجَزَاءِ فِي الثَّانِي ، وَوُقُوعُ تَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ فَهُوَ يَمِينٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِنْثِ وَالْبِرِّ فِيهِ شَيْءٌ ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ الْمُولِي هُوَ مَنْ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمَكْرُوهَيْنِ

( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } الْآيَةُ ( فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ ( وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ تَرْتَفِعُ بِالْحِنْثِ( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ، أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } الْآيَةَ ، فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَعْدُ الْمَغْفِرَةِ ، وَالْمَغْفُورُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ .
قُلْنَا : وَعْدُ الْمَغْفِرَةِ فِي الْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا ( وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ ) عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَرْتَفِعُ بِالْحِنْثِ ) .

( وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ مَانِعُ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَحَكَمَ الشَّرْعُ بِتَأْجِيلِهِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ( فَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ ) لِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِهِ ( وَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى الْأَبَدِ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ ) لِأَنَّهَا مُطْلَقَةً وَلَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ لِتَرْتَفِعَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَنْعُ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ( فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا عَادَ الْإِيلَاءُ ، فَإِنْ وَطِئَهَا وَإِلَّا وَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى ) لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِإِطْلَاقِهَا ، وَبِالتَّزَوُّجِ ثَبَتَ حَقُّهَا فَيَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءُ هَذَا الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ .
( فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ثَالِثًا عَادَ الْإِيلَاءُ وَوَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا ) لِمَا بَيِّنَاهُ ( فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ الْإِيلَاءِ طَلَاقٌ ) لِتَقَيُّدِهِ بِطَلَاقِ هَذَا الْمِلْكِ وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ الْخِلَافِيَّةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ( وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ ) لِإِطْلَاقِهَا وَعَدَمِ الْحِنْثِ ( فَإِنْ وَطِئَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ ) لِوُجُودِ الْحِنْثِ

( وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ ) لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ عِنْدَنَا : إنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أُجَامِعْك فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَلَكِنَّهُ تَوَقَّفَ بَعْدَ الْمُدَّةِ عَلَى أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا أَوْ يُفَارِقَهَا ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ ( تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي ) بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ التَّفْرِيقُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً لِأَنَّهُ مَانِعٌ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا ) وَهُوَ الْوَطْءُ فِي الْمُدَّةِ ( فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ ) تَخْلِيصًا لَهَا عَنْ ضَرَرِ التَّعْلِيقِ ، وَلَا يَحْصُلُ التَّخْلِيصُ بِالرَّجْعِيِّ فَوَقَعَ بَائِنًا ( وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ) وَهُمْ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُمْ أَرْبَعَةٌ : ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا يَكُونُ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا مَرَّةً ، وَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَقَّهَا سَقَطَ بِالْجِمَاعِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْقَضَاءِ ، وَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ ، وَكَانَ الْجَزَاءُ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمَنْعِهِ حَقَّهَا دِيَانَةً ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْكُمَ الْقَاضِي بِوُقُوعِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمٍ عِنْدَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ مَرَّةً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ) عَلَى الْفَوْرِ بِحَيْثُ لَا يَقْرَبُهَا الشَّخْصُ بَعْدَ الْإِيلَاءِ أَبَدًا ( فَحَكَمَ الشَّرْعُ بِتَأْجِيلِهِ إلَى

انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ) فَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ إلَّا بِالتَّأْجِيلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَطْلِيقَةٍ أَوْ تَفْرِيقِ الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ حَلَفَ ) يَعْنِي إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فَلَا يَخْلُو .
إمَّا إنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَى الْأَبَدِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ سَقَطَ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُوَقَّتَةً بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُطْلَقَةٌ وَلَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ لِتَرْتَفِعَ بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَنْعُ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ إذْ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَهَا ، وَهَذَا اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ .
وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو سَهْلٍ الشَّرَغِيُّ يَقُولُ : يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ بِتَكَرُّرِ الْمُدَّةِ : يَعْنِي إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ : كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ فَدَلَّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ ، وَالْأَصَحُّ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا ) بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ( عَادَ الْإِيلَاءُ ، فَإِنْ وَطِئَهَا ) فِي الْمُدَّةِ ( وَإِلَّا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِإِطْلَاقِهَا ، وَبِالتَّزَوُّجِ حَدَثَ حَقُّهَا فَيَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ ) فَيُزَالُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ هَذَا الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ ) قِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْإِيلَاءَ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا مِنْ

وَقْتِ التَّزَوُّجِ ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ ( فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ثَالِثًا وَلِكُلٍّ وَجْهٌ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِالنَّظَرِ إلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ الْإِيلَاءِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَبِالنَّظَرِ إلَى التَّزَوُّجِ قَبْلَ الْإِيلَاءِ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ( عَادَ الْإِيلَاءُ وَوَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِإِطْلَاقِهَا ، وَبِالتَّزَوُّجِ ثَبَتَ حَقُّهَا فَيَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ الْإِيلَاءِ طَلَاقٌ ( فَإِنْ وَطِئَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ ) أَمَّا عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلِتَقَيُّدِهِ بِطَلَاقِ هَذَا الْمِلْكِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِعَدَمِ الْقُرْبَانِ ، وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ يَنْحَصِرُ فِي طَلَاقِ ذَلِكَ الْمِلْكِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ التَّعْلِيقُ ( وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ الْخِلَافِيَّةِ ) فَإِنَّهُ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ( وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ لَا يَقْرَبُهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا ، وَكَذَا لَوْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا إلَّا عِنْدَ زُفَرَ ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْوَطْءِ فَلِبَقَاءِ الْيَمِينِ لِإِطْلَاقِهَا وَوُجُودِ الْحِنْثِ .

( فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ بِلَا مَانِعٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يُثْبِتُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِيهِ ( وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ ) لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَجَمْعِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ( وَلَوْ مَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِأَنَّ الثَّانِيَ إيجَابٌ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا بَعْدَ الْيَمِينِ الْأُولَى شَهْرَيْنِ وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا مَكَثَ فِيهِ فَلَمْ تَتَكَامَلْ مُدَّةُ الْمَنْعِ .

قَالَ ( فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرًا وَهُوَ وَضْعُ الْمَبْسُوطِ ، أَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : هُوَ مُولٍ إنْ تَرَكَ وَطْأَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ، وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا ، فَلَمَّا بَلَغَهُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ النَّصِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أَطْلَقَ الْإِيلَاءَ وَقَيَّدَ التَّرَبُّصَ بِمُدَّةٍ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَلَوْ مُدَّةً يَسِيرَةً كَيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ يَلْزَمُهُ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَالتَّقْيِيدُ بِمُدَّةٍ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَيْفَ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ قَوْلِهِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَعَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ ، وَالرَّأْيُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَانَ مَسْمُوعًا ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافُهُ فَيُجْعَلُ تَفْسِيرًا لِلنَّصِّ لَا تَقْيِيدًا ، وَتَقْرِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، تُرِكَ الْأَوَّلُ بِدَلَالَةِ الثَّانِي فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى وَضْعِ الْمَبْسُوطِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَطْلَعِ هَذَا الْبَحْثِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا : أَيْ عَنْ قُرْبَانِ مَنْ آلَى مِنْهَا زَوْجُهَا شَهْرًا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ حَاصِلٌ بِلَا مَانِعٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ يَمِينٌ ، وَبِمِثْلِهِ : أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الْحَلِفِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى شَهْرٍ لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِخُلُوِّ الزَّائِدِ عَنْ

الْيَمِينِ فَكَانَ كَمَنْ لَمْ يَقْرَبْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ بِلَا يَمِينٍ ، فَإِنَّهُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ قِيلَ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الِامْتِنَاعِ وَقِيلَ إلَى الْحَلِفِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ وَبِمِثْلِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ .
وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ بَدَلٌ فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ كَانَ أَشْمَلَ لِتَنَاوُلِهِ وَضْعَ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرَهُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ ) وَهُوَ الْوَاوُ ( فَصَارَ كَجَمْعِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ) كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَتَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً حَيْثُ لَمْ يُفْرِدْ الْمُدَّةَ الثَّانِيَةَ بِنَفْيٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
( وَلَوْ مَكَثَ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّ الثَّانِيَ إيجَابٌ مُبْتَدَأٌ ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعِدْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَعْطُوفِ وَلَا حَرْفَ النَّفْيِ وَلَمْ يَمْكُثْ بَيْنَهُمَا سَاعَةً دَخَلَ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَأَمَّا إذَا فَاتَ أَحَدُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فَقَدْ كَانَ إيجَابًا مُبْتَدَأً ، وَعَلَى هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِفَوَاتِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْمُكْثِ يَوْمًا وَإِعَادَةِ اسْمِ اللَّهِ وَحَرْفِ النَّفْيِ فَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا بَعْدَ الْيَمِينِ الْأُولَى شَهْرَيْنِ وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ مُضَافًا إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا مَكَثَ فِيهِ فَلَمْ يَتَكَامَلْ مُدَّةُ الْمَنْعِ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا ، وَيَكُونُ كَلَامُهُ يَمِينَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ

كَفَّارَتَانِ .
وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَلَا شَهْرَيْنِ لَا يَصِيرُ مُولِيًا لِأَنَّهُ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ صَارَ إيجَابًا آخَرَ وَصَارَا أَجَلَيْنِ وَتَدَاخَلَا ، كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ أَنَّ الْيَمِينَ تَنْقَضِي بِيَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ أَعَادَ كَلِمَةَ النَّفْيِ فَصَارَ الثَّانِي مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَوَّلِ فَتَدَاخَلَ وَقْتُهُمَا بَعْدَ الِانْفِرَادِ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ يَصْلُحُ وَقْتًا لِأَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا وَلَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا وَلَا آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ شَهْرًا فَمَضَى شَهْرٌ وَاحِدٌ تَنْتَهِي الْأَيْمَانُ كُلُّهَا ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا إذَا مَضَى شَهْرَانِ فَقَدْ مَضَتْ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْيَمِينَيْنِ فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ فَلَا يَصِيرُ مُولِيًا ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفْرِدْ مُدَّةَ الثَّانِيَةِ بِنَفْيٍ عَلَى حِدَةٍ كَانَ الْكُلُّ مُدَّةً وَاحِدَةً فَكَانَ مُولِيًا

( وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) خِلَافًا لَزُفَرَ ، هُوَ يَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءَ إلَى آخِرِهَا اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ فَتَمَّتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمَ مُنْكَرٌ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْآخِرِ لِتَصْحِيحِهَا فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ التَّنْكِيرِ وَلَا كَذَلِكَ الْيَمِينُ ( وَلَوْ قَرِبَهَا فِي يَوْمٍ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ صَارَ مُولِيًا ) لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ .( وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، خِلَافًا لِزُفَرَ هُوَ يَقُولُ يُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى آخِرِهَا كَمَا لَوْ قَالَ آجَرْت دَارِي هَذِهِ سَنَةً إلَّا يَوْمًا فَتَمَّتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ ) وَهَذَا لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ ( إذْ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ مُنَكَّرٌ ) فَمَا مِنْ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَّا وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى فَيَقْرَبَهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فَكَانَ تَغْيِيرًا لِكَلَامِهِ مِنْ الْمُنَكَّرِ إلَى الْمُعَيَّنِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى الصَّرْفِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لِتَصْحِيحِهِ : أَيْ لِتَصْحِيحِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّنْكِيرِ لِلْجَهَالَةِ ( وَلَوْ قَرِبَهَا فِي يَوْمٍ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ صَارَ مُولِيًا لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ ) .

( وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الْكُوفَةَ وَامْرَأَتُهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُوفَةِ ( قَالَ : وَلَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ بِصَوْمٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مُولٍ ) لِتَحَقُّقِ الْمَنْعِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ ذِكْرُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَهَذِهِ الْأَجْزِيَةُ مَانِعَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ .
وَصُورَةُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُعَلِّقَ بِقُرْبَانِهَا عِتْقَ عَبْدِهِ ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ ثُمَّ الْقُرْبَانُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهُمَا يَقُولَانِ الْبَيْعُ مَوْهُومٌ فَلَا يَمْنَعُ الْمَانِعِيَّةَ فِيهِ ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَنْ يُعَلِّقَ بِقُرْبَانِهَا طَلَاقَهَا أَوْ طَلَاقَ صَاحِبَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مَانِعٌ .

( وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الْكُوفَةَ وَامْرَأَتُهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُوفَةِ ) وَلَا يُشْكِلُ بِمَنْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا يَقْرَبُهُنَّ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُنَّ إنْ لَمْ يَقْرَبْهُنَّ جَمِيعًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِنَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، مَعَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ لِمَا أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِجْزَاءِ الْمَحْلُوفِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكُلِّ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدُّورَ الْأَرْبَعَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْكُلَّ ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِنَفْيِ الْقُرْبَانِ مُولِيًا فِي الْحَالِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عُلِمَ أَنَّ إمْكَانَ الْقُرْبَانِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُولِيًا مَعَ إمْكَانِ الْقُرْبَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْحَالِفَ ظَالِمٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ ، كَمَا لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِقُرْبَانِ بَعْضِهِنَّ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُتِمَّ شَرْطَهُ ، وَلَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِقُرْبَانِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ بَلْ بِقُرْبَانِهِنَّ جَمِيعًا .
وَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْإِيلَاءِ فَبِاعْتِبَارِ الْبِرِّ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلِهَذَا بِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ بِصَوْمٍ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِأَنْ يُعَلِّقَ قُرْبَانَهَا

بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا لِتَحَقُّقِ الْمَنْعِ بِالْيَمِينِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ الْبَيْعُ مَوْهُومٌ ) يَعْنِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ ( فَلَا يَمْنَعُ الْمَانِعِيَّةَ فِيهِ ) أَيْ فِي الْإِيلَاءِ ، وَلَكِنْ إنْ بَاعَ الْعَبْدُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْهُ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ لَزِمَهُ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَهَا بَعْدَمَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ سَقَطَتْ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ بَعْدَ بَيْعِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ .

( وَإِنْ آلَى مِنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَانَ مُولِيًا ، وَإِنْ آلَى مِنْ الْبَائِنَةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَمَحَلُّ الْإِيلَاءِ مَنْ تَكُونُ مِنْ نِسَائِنَا بِالنَّصِّ ، فَلَوْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِوَقَوْلُهُ ( وَإِنْ آلَى مِنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِيلَاءَ جَزَاءُ الظُّلْمِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَقٌّ فِي الْجِمَاعِ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ حَتَّى كَانَ الْمُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا بِدُونِ الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ ظَالِمًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ جَزَاءُ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ الْإِيلَاءُ .
وَأَجَابَ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيُّ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ مُضَافٌ إلَى النَّصِّ لَا إلَى الْمَعْنَى ، وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ نِسَائِنَا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وَالْبَعْلُ هُوَ الزَّوْجُ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ ، وَكَانَ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى نِسَاءِ الْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } مُرَتَّبًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ .

( وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَلَا مُظَاهِرًا ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِهِ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ ( وَإِنْ قَرِبَهَا كَفَّرَ ) لِتَحَقُّقِ الْحِنْثِ إذْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِ( وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَلَا مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِهِ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ ) إذْ الْمَحَلُّ نِسَاؤُنَا بِالنَّصِّ فَكَانَ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا ( فَلَا يَنْقَلِبُ بَعْدَ ذَلِكَ صَحِيحًا ، فَإِنْ قَرِبَهَا كَفَّرَ لِتَحَقُّقِ الْحِنْثِ إذْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَعْتَمِدُ تَصَوُّرَ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حِسًّا وَلَا يَعْتَمِدُ حِلَّهُ وَحُرْمَتَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَشْرَبْ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ حَرَامًا مَحْضًا .

( وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ ) لِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ فَتَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ .( وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مُدَّةُ إيلَائِهَا كَمُدَّةِ إيلَاءِ الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِظْهَارِ الظُّلْمِ بِمَنْعِ الْحَقِّ فِي الْجِمَاعِ ، وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ( وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ فَتَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ ) .

( وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً لَا تُجَامَعُ أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَفَيْؤُهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ فِئْت إلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ سَقَطَ الْإِيلَاءُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا .
وَلَنَا أَنَّهُ آذَاهَا بِذِكْرِ الْمَنْعِ فَيَكُونُ إرْضَاؤُهَا بِالْوَعْدِ بِاللِّسَانِ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الظُّلْمُ لَا يُجَازَى بِالطَّلَاقِ ( وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ ذَلِكَ الْفَيْءُ وَصَارَ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ ) لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْحَلِفِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ وَبَقِيَ بَعْدَ إيلَائِهِ صَحِيحًا مِقْدَارًا يَسْتَطِيعُ فِيهِ أَنْ يُجَامِعَهَا ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَفَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ آخِرُ الْمُدَّةِ وَهُوَ عَاجِزٌ عِنْدَهُ فَكَانَ كَوَاجِدِ الْمَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ حَتَّى عَدِمَ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ .
وَقُلْنَا : لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ جِمَاعِهَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الظُّلْمُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعُهُ إلَّا بِإِبْقَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ آلَى وَهُوَ مَرِيضٌ وَتَمَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ وَفَيْؤُهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ فِئْت إلَيْهَا ؛ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ سَقَطَ الْإِيلَاءُ عِنْدَنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا ) لِأَنَّ الْفَيْءَ يَسْتَلْزِمُ حُكْمَيْنِ : وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ وَانْتِفَاءَ الْفُرْقَةِ .
ثُمَّ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَا يُعْتَبَرُ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ ( وَلَنَا أَنَّهُ آذَاهَا بِذِكْرِ الْمَنْعِ ) لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْجِمَاعِ حَالَ الْإِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْإِضْرَارَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ إذْ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْإِيحَاشُ بِاللِّسَانِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ ظُلْمٌ يَرْتَفِعُ بِاللِّسَانِ ، وَإِذَا أَرْضَاهَا بِاللِّسَانِ ارْتَفَعَ الظُّلْمُ لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فَلَا يُجَازَى بِالطَّلَاقِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ فَيْئًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْحِنْثِ ، وَالْحِنْثُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْفَيْءِ بِاللِّسَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا وَقْتَ الْإِيلَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْإِيلَاءُ لِعَدَمِ الظُّلْمِ بِمَنْعِ حَقِّهَا إذْ لَيْسَ لَهَا حَقٌّ فِي الْجِمَاعِ إذْ ذَاكَ ،

فَالْجَوَابُ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ آلَى وَهُوَ مَرِيضٌ وَقَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ وَفَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ فَاءَ إلَيْهَا فِي مَرَضِهِ بِالْقَوْلِ أَوْ لَمْ يَفِئْ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَفِئْ فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا فَاءَ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْحَلِفِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْمُولِي إذَا كَانَ مَرِيضًا حَالَ الْإِيلَاءِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي فَيْئِهِ الْجِمَاعُ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُ آذَاهَا بِذِكْرِ الْمَنْعِ فَيَكُونُ إرْضَاؤُهَا بِالْوَعْدِ بِاللِّسَانِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَقْصُرَ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْجِمَاعِ صَارَ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَصْدَهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْعُ الْحَقِّ بِالْجِمَاعِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْفَيْءِ حِينَئِذٍ الْجِمَاعُ ، وَلَكِنْ فِي إطْلَاقِ الْحَلِفِ بَعْضُ تَسَامُحٍ عَلَى قَوَدِ كَلَامِهِ فَتَأَمَّلْ .

( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ ) ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَذِبَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِنَايَاتِ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ بِظِهَارٍ لِانْعِدَامِ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ وَفِي الظِّهَارِ نَوْعُ حُرْمَةٍ وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ إنَّمَا هُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَصْرِفُ لَفَظَّةَ التَّحْرِيمِ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِحُكْمِ الْعُرْفِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لَا يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ إلَّا بِالْإِرَادَةِ ( فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَذِبَ فَهُوَ كَمَا قَالَ ) لَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ إيلَاءً وَلَا ظِهَارًا ( لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ ، فَقَوْلُهُ أَنْتِ حَرَامٌ خَبَرٌ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَيَكُونُ كَذِبًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَذِبَ إذَا كَانَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِ ، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ أَوْ نِيَّةٍ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ( وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ) ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرَيْهِمَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ فِي إبْطَالِ الْإِيلَاءِ ( لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا ) لِكَوْنِهِ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ كَمَا نَذْكُرُهُ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ ) فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا مِنْ الْعَدَدِ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ ( فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهَا ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ بِظِهَارٍ ) نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ النَّوَادِرِ .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ وَلَا تَشْبِيهَ هَاهُنَا فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا ( وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ ) وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا ، وَالظِّهَارُ نَوْعٌ مِنْهَا فَيَكُونُ مِنْ مُحْمَلَاتِ مُطْلَقِ الْحُرْمَةِ ، وَمَنْ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ صُدِّقَ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا ) فَإِنْ قَرِبَهَا كَفَّرَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ .
أَمَّا إذَا أَرَادَ التَّحْرِيمَ ( فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ إنَّمَا هُوَ

الْيَمِينُ عِنْدَنَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَأَمَّا إذَا لَمْ يُرِدْ شَيْئًا فَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْيَمِينِ أَدْنَى الْحُرُمَاتِ لِأَنَّ فِي الْإِيلَاءِ الْوَطْءَ حَلَالٌ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَفِي الظِّهَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْإِيلَاءِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ مَا لَمْ تَنْقَضِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَفِي الظِّهَارِ تَثْبُتُ فِي الْحَالِ .
وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَعَ بَائِنًا وَيُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَالْإِيلَاءُ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ ، فَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ الْيَمِينِ أَدْنَى الْحُرُمَاتِ تَعَيَّنَتْ لِتَيَقُّنِهَا ، وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَصْرِفُ لَفْظَ التَّحْرِيمِ إلَى الطَّلَاقِ بِدُونِ النِّيَّةِ ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ : قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : وَبِهِ نَأْخُذُ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الْخُلْعِ ) : ( وَإِذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ يَخْلَعُهَا بِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ( فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ } وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ ، وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ بَائِنٌ إلَّا أَنْ ذِكْرَ الْمَالِ أَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ هُنَا ، وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ .

بَابُ الْخُلْعِ ) : أَخَّرَ الْخُلْعَ عَنْ الْإِيلَاءِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيلَاءَ لِتَجَرُّدِهِ عَنْ الْمَالِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَبْنَى الْإِيلَاءِ نُشُوزٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، وَالْخُلْعُ نُشُوزٌ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ غَالِبًا فَقَدَّمَ مَا بِالرَّجُلِ عَلَى مَا بِالْمَرْأَةِ ، وَالْخُلْعُ بِالضَّمِّ اسْمٌ مِنْ قَوْلِهِمْ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَالِهَا .
وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ مَالٍ مِنْ الْمَرْأَةِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ .
وَشَرْطُهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ .
وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ .
وَصِفَتُهُ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَمِينٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ ( إذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ ) أَيْ تَخَاصَمَا وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ : أَيْ جَانِبٍ ( وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) أَيْ مَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ ( فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَفْتَدِيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ ) تَبْذُلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أَيْ فَلَا جُنَاحَ عَلَى الرَّجُلِ فِيمَا أَخَذَ وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا أَعْطَتْ ، سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَتْهُ فِدَاءً مِنْ فَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ : إذَا اسْتَنْقَذَهُ لِمَا أَنَّ النِّسَاءَ عَوَانٌ عِنْدَ الْأَزْوَاجِ بِالْحَدِيثِ وَكَانَ الْمَالُ الَّذِي يُعْطَى فِي تَخْلِيصِهِنَّ فِدَاءً ( فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ } ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ ) فَإِذَا قَالَ خَالَعْتُكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ وَنَوَى بِهِ

الطَّلَاقَ وَقَعَ ( وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ بَائِنٌ ) فَإِذَا قِيلَ لَوْ صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَكَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ أَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ هَاهُنَا ) وَقَدْ قِيلَ فِي بَيَانِهِ إنَّ الْخُلْعَ يَحْتَمِلُ الِانْخِلَاعَ عَنْ اللِّبَاسِ أَوْ عَنْ الْخَيْرَاتِ أَوْ عَنْ النِّكَاحِ ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْعِوَضَ تَعَيَّنَ الِانْخِلَاعُ عَنْ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ ( وَلِأَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ ) .

( وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِوَضًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } إلَى أَنْ قَالَ { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَزِيدُ فِي وَحْشَتِهَا بِأَخْذِ الْمَالِ ( وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا ) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَابَ الْفَضْلُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا .
وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ { أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا } وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا ( وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ ) وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَا شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا وَالْإِبَاحَةُ ، وَقَدْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي .

قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ ) يُقَالُ نَشَزَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فَهِيَ نَاشِزَةٌ : إذَا اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ أَوْ أَبْغَضَتْهُ .
وَعَنْ الزَّجَّاجِ : النُّشُوزُ يَكُونُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ( يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } ) فَإِنْ قِيلَ : النَّهْيُ وَرَدَ عَنْ فِعْلٍ حِسِّيٍّ وَهُوَ الْأَخْذُ وَمِثْلُهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةِ ، ثُمَّ هُوَ مُؤَكَّدٌ بِتَوَاكِيدَ هِيَ قَوْلُهُ { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } .
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } فَكَيْفَ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَإِنْ وَرَدَ عَنْ فِعْلٍ حِسِّيٍّ وَلَكِنَّهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْإِيحَاشِ فَلَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا الدَّوَابَّ كَرَاسِيَّ } وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِدَلِيلِهِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَزِيدُ فِي وَحْشَتِهَا بِأَخْذِ الْمَالِ ( وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : طَابَ الْفَضْلُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا ) : أَيْ أَوَّلًا ، يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } فَإِنَّهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَضْلِ وَغَيْرِهِ ( وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ) أَيْ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي الْأَصْلِ ( قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ " أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا " ) وَقِصَّتُهَا مَا رُوِيَ { أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : لَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا فِي خُلُقٍ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ بُغْضِي إيَّاهُ ، فَقَالَ : أَتَرُدِّينَ إلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا } ( وَكَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا ) بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ " أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا " يَنْفِي إبَاحَةَ أَخْذِ الْفَضْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَإِذَا انْتَفَى الْإِبَاحَةُ كَانَ مَكْرُوهًا ( وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَا ) مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ( شَيْئَانِ : الْجَوَازُ حُكْمًا ) أَيْ جَوَازُ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي الْقَضَاءِ ( وَالْإِبَاحَةُ ) أَيْ إبَاحَةُ أَخْذِ الزِّيَادَةِ هَكَذَا فَسَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ بِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ جَائِزٌ دُونَ الْعَكْسِ ، لِأَنَّ الْجَوَازَ ضِدُّ الْحُرْمَةِ وَالْإِبَاحَةَ ضِدُّ الْكَرَاهَةِ .
فَإِذَا انْتَفَى الْجَوَازُ ثَبَتَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فَتَنْتَفِي الْإِبَاحَةُ أَيْضًا ، وَإِذَا انْتَفَتْ الْإِبَاحَةُ ثَبَتَ ضِدُّهَا وَهُوَ الْكَرَاهَةُ ، وَلَا يَنْتَفِي بِهِ الْجَوَازُ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ ( وَقَدْ تُرِكَ ) يَعْنِي مَا تَلَوْنَا ( فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا " لِكَوْنِهِ نَهْيًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْإِيحَاشِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ ( فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي ) وَهُوَ الْجَوَازُ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ الرَّدِّ ، وَكَلَامُنَا فِي كَرَاهِيَةِ الْأَخْذِ فَلَيْسَ الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرُ وَاحِدٍ وَهُوَ لَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ

الرَّدَّ إذَا كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ وَهِيَ نَاشِزَةٌ فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْهَا وَهُوَ غَيْرُ نَاشِزٍ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُبَاحًا فَكَانَ مُتَّصِلًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُعَارِضَ لِلْكِتَابِ إذَا أَخَذَ أَبَانَ وَهُوَ نَاشِزٌ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } وَالْكِتَابُ يَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَ الْكِتَابَ ، وَإِذَا عُورِضَ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ جَازَ بَعْدَهُ أَنْ يُعَارَضَ بِالْخَبَرِ فَكَانَ الْحَدِيثُ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ بَعْدَ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَكَانَتْ جَائِزَةً .

( وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ) لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا ، وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الْتِزَامَ الْمَالِ لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَمِلْكِ النِّكَاحِ مِمَّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالْقِصَاصِ ( وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ) لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فَتَمْلِكُ هِيَ الْآخَرَ وَهِيَ النَّفْسُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ .( وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ ) مِثْلَ أَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ( فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَ الْمَالُ ) لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفَ مُعَاوَضَةٍ يَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ وَصَلَاحِيَةَ الْمَحَلِّ وَالْكُلُّ حَاصِلٌ ، أَمَّا أَهْلِيَّةُ الزَّوْجِ فَلِأَنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا بِدَلَالَةِ مَقَامِ الْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبُولِ ، وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْمَرْأَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ الْتِزَامَ الْمَالِ لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَأَمَّا صَلَاحِيَةُ الْمَحَلِّ فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مِمَّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ وَالْجَامِعُ وُجُودُ الْتِزَامٍ مِنْ أَهْلِهِ ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ ( وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ كَانَ بَائِنًا لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا ( وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ الْبَدَلَ الْآخَرَ وَهُوَ النَّفْسُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ ) .

قَالَ ( وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْلَ أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الطَّلَاقِ كَانَ رَجْعِيًّا ) فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِلتَّعْلِيقِ بِالْقَبُولِ وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْعِوَضُ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْأَوَّلِ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ، وَفِي الثَّانِي الصَّرِيحُ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا حَتَّى تَصِيرَ غَارَّةٌ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِلْإِسْلَامِ وَلَا إلَى إيجَابِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ خَمْرٌ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا فَصَارَ مَغْرُورًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوَّمٌ وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا ، أَمَّا مِلْكُ الْبِضْعِ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبِضْعَ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ مُتَقَوِّمٌ ، وَالْفِقْهُ أَنَّهُ شَرِيفٌ فَلَمْ يَشْرَعْ تَمَلُّكَهُ إلَّا بِعِوَضٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهِ ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ .

( قَالَ : وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ ) إذَا خَالَعَ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ لِبُطْلَانِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ ، أَمَّا الِاشْتِرَاكُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا وَقَدْ قَبِلَتْ ، وَأَمَّا الِافْتِرَاقُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْنُونَةِ وَالرَّجْعَةِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْعِوَضُ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْأَوَّلِ لَفْظَ الْخُلْعِ وَهُوَ كِنَايَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَيْسَتْ مِنْهَا ، وَفِي الثَّانِي الصَّرِيحُ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ فَلِأَنَّهَا مَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِتَصِيرَ غَارَّةً لَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِلْزَامِ الْمُسَمَّى لِامْتِنَاعِ الْمُسْلِمِ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَتَسَلُّمِهِ وَلَا إلْزَامِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ بِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ فَظَهَرَ خَمْرًا ) فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا كَيْلٌ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ ، وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا وَغَرَّتْهُ بِذَلِكَ فَكَانَتْ ضَامِنَةً لِأَنَّ التَّغْرِيرَ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَكُونُ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً وَإِنْ أَدَّاهَا عَتَقَ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَتُهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ ) أَيْ فِي الْعَبْدِ ( مُتَقَوِّمٌ ) حَتَّى لَوْ غُصِبَ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الْغَاصِبِ ( وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا ) فَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ

لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِ لَزِمَ قِيمَةُ الْمُبْدَلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ الْمُتَقَوِّمَةُ ( أَمَّا مِلْكُ الْبُضْعِ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ فَغَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عَلَى مَا يُذْكَرُ ) بُعَيْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ " وَالْفِقْهُ " فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمَّا كَانَ فِيهِ مُتَقَوِّمًا لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ بِلَا بَدَلٍ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْبَدَلُ فَسَدَتْ الْكِتَابَةُ ، وَأَمَّا مِلْكُ الْبُضْعِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ بُطْلَانِ الْبَدَلِ فَسَادُ الْخُلْعِ ، وَإِنَّمَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ إذَا أَدَّى الْخَمْرَ الْمُسَمَّاةَ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمُسَمَّى وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الْمَشْرُوطُ .
قِيلَ وَفِي قَوْلِهِ عَلَى خَمْرٍ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ فَالْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ ، حَتَّى لَوْ أَدَّى لَمْ يَعْتِقْ وَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ ) لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُلْعِ حَيْثُ صَحَّ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَالْخُلْعُ صَحَّ وَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ( لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ مُتَقَوِّمٌ ) وَلِهَذَا إذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ( وَالْفِقْهُ ) مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ ) لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ .قَالَ ( وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ ) كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ وَلَا يَنْعَكِسُ ( لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِلْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِهِ ) وَلَا يَنْعَكِسُ ، فَإِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهَا جَازَ ، وَلَهُ مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهَا وَقْتَ الْخُلْعِ دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهِ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِكَوْنِ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِالِانْفِصَالِ لَكِنَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ تَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِضَافَةِ أَوْ التَّعْلِيقِ ، وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ .
وَأَمَّا الْخُلْعُ فَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَسْمِيَةِ مَا فِي الْبَطْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ ، وَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَلَهُ الْمُسَمَّى إنْ وُجِدَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهَا مَا غَرَّتْهُ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَقَدْ يَكُونُ رِيحًا .

( فَإِنْ قَالَتْ لَهُ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرُّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ ( وَإِنْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ مَالٍ فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا ) لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ إلَّا بِعِوَضٍ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى وَقِيمَتِهِ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبِضْعِ : أَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ فَتَعَيَّنَ إيجَابُ مَا قَامَ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ( وَلَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَفَعَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ) لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ، وَكَلِمَةُ مِنْ هَاهُنَا لِلصِّلَةِ دُونَ التَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلُّ بِدُونِهِ .

( فَإِنْ قَالَتْ لَهُ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدَيَّ فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَا " ) عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ ( وَإِنْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدَيَّ مِنْ مَالٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ مَجَّانًا ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى وَقِيمَتِهِ لِلْجَهَالَةِ ) أَيْ جَهَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ جَهَالَةً ( وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبُضْعِ : أَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ ) كَمَا تَقَدَّمَ ( فَتَعَيَّنَ إيجَابُ مَا قَامَ الْبُضْعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدَيَّ مِنْ دَرَاهِمَ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ وَكَلِمَةُ " مِنْ " هَاهُنَا لِلصِّلَةِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا يُقَالُ إذَا كَانَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دِرْهَمَانِ أَوْ دِرْهَمٌ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكَوْنِهِ صِلَةً أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ عَلَى اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَ فَقَالَ : كُلُّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ فِيهِ بِدُونِهِ فَهُوَ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ بِدُونِهِ فَهُوَ صِلَةٌ زِيدَتْ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهَا لَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدَيَّ دَرَاهِمَ اخْتَلَّ الْكَلَامُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّبْعِيضِ كَانَ الْجَمْعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ فَيَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِلَالِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ قَوْلَهَا دَرَاهِمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ

قَوْلِهَا مَا فِي يَدَيَّ وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ خَالِعْنِي عَلَى دَرَاهِمَ وَقَوْلُهَا الدَّرَاهِمُ يَكُونُ بَدَلًا أَيْضًا وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ خَالِعْنِي عَلَى الدَّرَاهِمِ وَاللَّامُ إذَا دَخَلَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْهُودٌ يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ ، فَلَوْ كَانَ فِي يَدِهَا وَاحِدٌ وَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ وَلَا يَلْزَمُهَا الزِّيَادَةُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَقْدِيرُ كَلَامِهَا خَالِعْنِي عَلَى دَرَاهِمَ يَلْزَمُهَا ثَلَاثَةٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَعَنْ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَعْهُودَ ثَمَّ بَلْ مَا فِي يَدِهَا مَعْهُودٌ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا .

( فَإِنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ لَهَا آبِقٍ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ تَبْرَأْ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إنْ قَدَرَتْ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ إنْ عَجَزَتْ ) لِأَنَّهُ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ ، وَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَعَلَى هَذَا النِّكَاحِ

( فَإِنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ لَهَا آبِقٍ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ ضَمَانِهِ ) يَعْنِي أَنْ لَا تُطَالَبَ بِتَحْصِيلِهِ وَتَسْلِيمِهِ ، بَلْ إنْ حَصَلَ تُسَلِّمُهُ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ( وَلَمْ تَبْرَأْ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إنْ قَدَرَتْ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ إنْ عَجَزَتْ ) لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ شَرْطًا فَاسِدًا لِأَنَّهُ لَا تَقْتَضِيهِ الْعُقْدَةُ فَيَبْطُلُ دُونَ الْخُلْعِ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِهَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ التَّسْمِيَةُ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى ، وَإِذَا فَسَدَتْ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِمَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ كَمَا إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى دَابَّةٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ صَحِيحًا كَانَ مَا يُنَاقِضُهُ مِنْ الشَّرْطِ سَاقِطًا ، وَالسَّاقِطُ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ فِيمَا إذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى دَابَّةٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَقْبَحَةِ لِكَوْنِهَا تَنْتَظِمُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنْ الْحَيَوَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْخُلْعُ كَمَا يُوجِبُ تَسَلُّمَ الْمُسَمَّى يُوجِبُ تَسْلِيمَهُ بِوَصْفِ كَوْنِهِ سَلِيمًا وَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ وَصْفِ السَّلَامَةِ صَحِيحٌ فَلْيَصِحَّ اشْتِرَاطُهَا عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى أَيْضًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّسْلِيمِ فَوْقَ اسْتِحْقَاقِ السَّلِيمِ ، فَإِنَّ بَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ لَا يَجُوزُ ، وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعُيُوبِ صَحِيحٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْأَدْنَى جَوَازُ الْأَعْلَى ، وَلِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي تَمَلُّكِ الشَّيْءِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَبِاشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ يَفُوتُ الْمَقْصُودُ ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعُيُوبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا النِّكَاحُ ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ آبِقٍ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ يَبْرَأْ وَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ

عَيْنِهِ إلَخْ .

( وَإِذَا قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ ) لِأَنَّهَا لَمَّا طَلَبَتْ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْإِعْوَاضَ وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ ( وَإِنْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ .
وَقَالَا هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ ، حَتَّى إنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ سَوَاءٌ .
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا } وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ شَرْطًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةً ، وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْجَزَاءَ ، وَإِذْ كَانَ لِلشَّرْطِ فَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ لِلْعِوَضِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ كَانَ مُبْتَدَأً فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ( وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا رَضِيَ بِالْبَيْنُونَةِ إلَّا لِتُسْلِمَ لَهُ الْأَلْفَ كُلَّهَا ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِالْبَيْنُونَةِ بِأَلْفٍ كَانَتْ بِبَعْضِهَا أَرْضَى ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَلْفٍ بِعِوَضِ أَلْفٍ يَجِبُ لِي عَلَيْك ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى أَلْفٍ عَلَى شَرْطِ أَلْفٍ يَكُونُ لِي عَلَيْك ، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ بِدُونِ قَبُولِهِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا

يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِهِ .
وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِمَا قُلْنَا .

( وَإِذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ( وَإِنْ قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةٌ ( وَكَلِمَةُ عَلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ ، حَتَّى إنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ وَعَلَى دِرْهَمٍ سَوَاءٌ ) وَإِذَا كَانَ مُعَاوَضَةً انْقَسَمَ أَجْزَاءُ الْعِوَضِ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ ) أَيْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ مَجَازًا ( قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا } ) أَيْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ ( وَمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ شَرْطًا ) وَيُجَوِّزُ الْمَجَازَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ اُسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْجَزَاءَ فَكَانَتْ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ ( وَإِذَا كَانَ لِلشَّرْطِ فَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ جَعْلَهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مَجَازٌ وَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجَازٌ آخَرُ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْمَجَازَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَإِنَّ اللُّزُومَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَالَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَابِعٌ لِلطَّلَاقِ فَجَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ تَبَعًا لِمَتْبُوعِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ مُسْتَقِلًّا ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ اللُّزُومَ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ بِالتَّضَايُفِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِالذَّاتِ وَكَانَ جَعْلُهُ لِلشَّرْطِ مَجَازًا أَقْرَبَ إلَى

حَقِيقَتِهِ ، وَالْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ ( وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ كَانَ طَلَاقًا مُبْتَدَأً ) غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى سُؤَالِهَا ( فَوَقَعَ وَلَهُ الرَّجْعَةُ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا ) ظَاهِرٌ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ ) أَوْ بِأَلْفٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا فِي الْمَجْلِسِ ، وَهَذَا يَمِينٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ إنْ كَانَتْ غَائِبَةً لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالَ وَهُوَ مِنْ جِهَتِهَا مُبَادَلَةٌ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَإِضَافَتُهَا ، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَلْفٍ بِعِوَضٍ يَجِبُ لِي عَلَيْك نَظَرًا إلَى الْبَاءِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى أَلْفٍ عَلَى شَرْطِ أَلْفٍ يَكُونُ لِي عَلَيْك إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ ( وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ بِدُونِ قَبُولِهِ ) ظَاهِرٌ ( وَقَوْلُهُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِهِ ) يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ وَبِوُجُودِهِ يَكُونُ الْأَلْفُ عَلَيْهَا وَكَوْنُهَا عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ ، فَإِذَا قَبِلَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ عَلَيْهَا الْأَلْفُ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِمَا قُلْنَا : يَعْنِي فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ } وَمِنْ الْمَعْقُولِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا .

( وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَ عَتَقَ الْعَبْدُ وَطَلُقَتْ الْمَرْأَةُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَكَذَا إذَا لَمْ يَقْبَلَا ( وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفُ إذَا قَبِلَ ) وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ .
لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُعَاوَضَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ وَلَك دِرْهَمٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بِدِرْهَمٍ .
وَلَهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ فَلَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، إذْ الْأَصْلُ فِيهَا الِاسْتِقْلَالُ وَلَا دَلَالَةَ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ دُونَهُ .

( وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ لَمْ يَقْبَلَا .
وَقَالَا : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفُ إذَا قَبِلَا ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ) وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ أَوْ الْعَبْدَ إذَا قَبِلَ الْمَالَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مَجَّانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَبُولِهِمَا ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَالُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَقْبَلَا الْمَالَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا قَبِلَا ، وَعِنْدَهُمَا إذَا لَمْ يَقْبَلَا لَمْ يَقَعَا ( لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُعَاوَضَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ وَلَك عَلَيَّ دِرْهَمٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بِدِرْهَمٍ ) وَالْخُلْعُ مُعَاوَضَةٌ فَيُحْمَلُ الْوَاوُ عَلَى مَعْنَى الْبَاءِ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُعَاوَضَةِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ .
وَلَهُمَا هَاهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ الْوَاوُ لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ مَا يَجِبُ لِي عَلَيْك أَلْفٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ قَبُولِهَا ، فَإِذَا قَبِلَتْ وَجَبَ الْأَلْفُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَيْك أَلْفٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، إذْ الْأَصْلُ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ الِاسْتِقْلَالُ وَلَا دَلِيلَ هَاهُنَا ( لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَالِ ) بَلْ عَادَةُ الْكِرَامِ فِيهِمَا الِامْتِنَاعُ عَنْ قَبُولِ عِوَضٍ ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ دُونَهُ ) أَيْ دُونَ الْمَالِ لِكَوْنِهِمَا مُعَاوَضَةً مَحْضَةً فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُعَاوَضَةِ دَلِيلًا

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبِلَتْ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ ، وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ ، فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ طَلُقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَا : الْخِيَارُ بَاطِلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ ، وَالتَّصَرُّفَانِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ وَمِنْ جَانِبِهَا شَرْطُهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُهَا ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، أَمَّا فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ حَتَّى لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ، وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ ، وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ مِثْلُ جَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ .

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبِلَتْ ) طَلُقَتْ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ ( إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ ، وَجَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ ، فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ أَجَازَتْ ) الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ تَرُدَّ الْخِيَارَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ ( وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : الْخِيَارُ بَاطِلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ ، وَلَا فَسْخَ بَعْدَ الِانْعِقَادِ هَاهُنَا لِأَنَّ التَّصَرُّفَيْنِ ) يَعْنِي إيجَابَ الزَّوْجِ وَقَبُولَ الْمَرْأَةِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، أَمَّا مِنْ جَانِبِهِ فَلِأَنَّهُ يَمِينٌ لِأَنَّهُ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ مَعْنًى وَالْيَمِينُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ .
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِهَا فَلِأَنَّ قَبُولَ الْمَرْأَةِ شَرْطُ تَمَامِ الْيَمِينِ فَإِنَّ يَمِينَ الزَّوْجِ تَتِمُّ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ فَأَخَذَ قَبُولُهَا حُكْمَ الْيَمِينِ فِي عَدَمِ احْتِمَالِ الْفَسْخِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ) أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ صَحَّ ، وَلَوْ قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، وَأَمَّا فِي جَانِبِهِ فَيَمِينٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ، وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِهَا شَرْطُ الْيَمِينِ وَشَرْطُ الْيَمِينِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهُ شَرْطَ يَمِينٍ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكًا فِي نَفْسِهِ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا فَعَبْدِي هَذَا الْآخَرُ حُرٌّ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْمُعَاوَضَةِ وَلَمْ يَمْنَعْ كَوْنَهُ مُعَاوَضَةً أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِلْيَمِينِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ ، ثُمَّ لَمَّا بَطَلَ الْقَبُولُ بِالرَّدِّ

بِحُكْمِ الْخِيَارِ بَطَلَ كَوْنُهُ شَرْطًا لِأَنَّ كَوْنَهُ شَرْطًا قَائِمٌ بِهَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ ( وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ مِثْلُ جَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ ) يَعْنِي يَصِحُّ الْخِيَارُ مِنْ الْعَبْدِ إذَا خَيَّرَهُ الْمَوْلَى فِي الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ كَمَا يَصِحُّ الْخِيَارُ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ .

( وَمِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ : قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرْطِ لِصِحَّتِهِ بِدُونِهِ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ فَإِنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعٌ مِنْهُ .( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ ) فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالَ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهُ ( وَالْإِقْرَارُ بِهِ ) أَيْ بِالْيَمِينِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَلِفِ أَوْ الْمَذْكُورِ ( لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّتِهِ ) أَيْ لِصِحَّةِ الْيَمِينِ ( بِدُونِهِ ) أَيْ بِدُونِ الشَّرْطِ ( أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ ) وَلِهَذَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْقَبُولِ ( فَالْإِقْرَارُ بِهِ ) أَيْ بِالْبَيْعِ ( إقْرَارٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ ، فَإِنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعٌ مِنْهُ ) عَنْ الْإِقْرَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ .

قَالَ ( وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ كِلَاهُمَا يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا إلَّا مَا سَمَّيَاهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي الْخُلْعِ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُهُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ وَقَدْ حَصَلَ فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ وَمِنْهُ خَلَعَ النَّعْلَ وَخَلَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ .

قَالَ ( وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ ) الْمُبَارَأَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ بَارَأَ شَرِيكَهُ : إذَا أَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَتَرْكُ الْهَمْزَةِ خَطَأٌ ، وَكَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ وَالْخُلْعَ ( كِلَاهُمَا يُسْقِطُ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ ) كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِأَنَّ لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَةِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ بِهِ صَرَّحَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي وَهَذَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا إلَّا مَا سَمَّيَاهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي الْخُلْعِ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ ) فَلَوْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفًا فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَهْرِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ غَيْرُ الْمِائَةِ فِي قَوْلِهِ وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ النِّصْفِ ، وَإِذَا خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ مَعْرُوفٍ سِوَى الصَّدَاقِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَإِنَّهَا تُسَلِّمُ إلَى الزَّوْجِ وَلَا يَتْبَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَالْمَرْأَةُ تُسَلِّمُ إلَى الزَّوْجِ بَدَلَ الْخُلْعِ وَلَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ مِنْهَا بَدَلَ الْخُلْعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ بِسَبَبِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مَقْبُوضًا يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْهَا بَدَلَ الْخُلْعِ وَهِيَ لَا تَرْجِعُ عَلَى

زَوْجِهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
وَأَمَّا إذَا بَارَأَهَا بِمَالٍ مَعْلُومٍ سِوَى الْمَهْرِ فَالْجَوَابُ فِيهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَالْجَوَابِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ مُعَاوَضَةٌ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَيْنٌ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ آخَرَ أَوْ عَيْنٌ فِي يَدِهِ لَا يَسْقُطُ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَنَفَقَةُ عِدَّتِهَا لَا تَسْقُطُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ ) وَالْمُفَاعَلَةُ تَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ ( وَأَنَّهُ ) أَيْ لَفْظُ الْبَرَاءَةِ عَلَى مَا قِيلَ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ ( مُطْلَقٌ ) ، وَقَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ وَهُوَ وُقُوعُ الْبَرَاءَةِ عَمَّا وَقَعَتْ الْبَرَاءَةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ النُّشُوزُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ ، وَانْقِطَاعُ الْمُنَازَعَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ .
وَقِيلَ الْغَرَضُ هُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ النَّاشِئَةِ بِالنِّكَاحِ فَتَتَقَيَّدُ الْبَرَاءَةُ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ ، أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ وَقَدْ حَصَلَ فِي نَفْسِ النِّكَاحِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ يُنْبِئُ عَنْ الْفَصْلِ ، وَمِنْهُ خَلْعُ النَّعْلِ وَخَلْعُ الْعَمَلِ ) وَهُوَ انْفِصَالُ الْعَامِلِ عَنْهُ ، وَالْفَصْلُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وَصْلٍ وَلَا وَصْلَ إلَّا بِالنِّكَاحِ وَحُقُوقُهُ لَازِمَةٌ لَهُ وَقَدْ صَدَرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالنِّكَاحِ ( كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِالْإِطْلَاقِ كَمَا فِي الْمُبَارَأَةِ فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ ) قَوْلًا بِكَمَالِ الْفَصْلِ ، وَنَفَقَةُ

الْعِدَّةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عِنْدَ الْخُلْعِ فَتَسْقُطُ بِهِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا .

قَالَ ( وَمَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةً بِمَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ إذَا الْبِضْعُ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبِضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنْ الثُّلُثِ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا ، ثُمَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقَعُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ قَبُولِهِ فَيَعْتَبِرُ بِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ ( وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَبِ ) لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى .
وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ ( وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ ( وَلَا يَجِبُ الْمَالُ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ عَنْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ( وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ الْمَهْرَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا ، فَإِنْ قَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ ) وَإِنْ قَبِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ( وَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَهْرَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَلُقَتْ ) لِوُجُودِ قَبُولِهِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ ، وَأَصْلُهُ فِي الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ زَائِدَةٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ عَادَةً حَاصِلُ مَا يَلْزَمُ لَهَا .

( وَمَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِمَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ : أَيْ فِي هَذَا الْخُلْعِ ( لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنْ الثُّلُثِ ) وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ وَمُقَابَلَةُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ النَّظَرِ فِي شَيْءٍ ( بِخِلَافِ النِّكَاحِ ) فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ امْرَأَةً بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَحَّ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَةَ الدُّخُولِ ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ نِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَكَانَ مُقَابَلَةَ الْمُتَقَوِّمِ بِالْمُتَقَوِّمِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْخُلْعُ لَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ مِنْ مَالِهَا بَدَلَ الْخُلْعِ ، وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ يَقَعُ ، وَفِي أُخْرَى لَا يَقَعُ .
وَمَنْشَأُ الرِّوَايَتَيْنِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الطَّلَاقِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إلَى لُزُومِ الْمَالِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ ، وَعَدَمَ الْجَوَازِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْمَالِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى فَقَالَ : لِأَنَّ لِسَانَ الْأَبِ كَلِسَانِهَا .
وَلَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَهْرِهَا فَقَبِلَتْ أَوْ قَالَتْ الصَّغِيرَةُ لِزَوْجِهَا اخْلَعْنِي عَلَى مَهْرِي فَفَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ .
وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ ( وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ قَبُولِهِ ) أَيْ قَبُولِ الْأَبِ ، فَيُعْتَبَرُ بِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَغَيْرَهُ ، وَفِي ذَلِكَ يَقَعُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْقَبُولُ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْخُلْعَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ ، وَلَوْ انْعَقَدَ مِنْ الْأَبِ انْعَقَدَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْوَى فَإِنَّ

الْأَبَ يُوجَدُ مِنْهُ شَرْطُ الْيَمِينِ لَا نَفْسُ الْيَمِينِ ، وَشَرْطُ الْيَمِينِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ( وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ) أَيْ الْأَبَ ( ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْأَبِ ، وَمَعْنَى الضَّمَانِ هَاهُنَا الْتِزَامُ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ لَا الْكَفَالَةُ عَنْ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا مَالًا حَتَّى يَتَكَفَّلَ عَنْهَا أَحَدٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ( أَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ ) لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْمُخْتَلِعَةِ فِي عَدَمِ دُخُولِ شَيْءٍ يُقَابِلُ الْبَدَلَ فِي مِلْكِهِ ( فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى ) وَذَكَرَ فِي وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ بَيْعًا وَشِرَاءً وَإِجَارَةً وَإِيدَاعًا وَإِبْضَاعًا ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ .
ثُمَّ اشْتِرَاطُ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى نَفْسِهِ تَصَرُّفٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ، فَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ عَامَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ مِنْ الْأَبِ وَلَهُ ذَلِكَ أَوْلَى وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ أَنْ لَوْ تَعَلَّقَ بَدَلُ الْخُلْعِ بِمَالِ الصَّغِيرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَكَانَ تِلْكَ الْوِلَايَةُ وَعَدَمُهَا سَوَاءً .
وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : الْخُلْعُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ أَوْ نَفْعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ عَلَى مَا قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْتِزَامُ بَدَلِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحًا مَعَ قُصُورِ الشَّفَقَةِ فَلَأَنْ يَصِحَّ مِنْ الْأَبِ مَعَ وُفُورِهَا أَوْلَى .
فَإِنْ قُلْت : عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ كَوْنِ الْأَجْنَبِيِّ فِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ دُخُولِ شَيْءٍ يُقَابِلُ الْبَدَلَ فِي مِلْكِهِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ إعْتَاقُ الرَّجُلِ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَصِحُّ عَلَى مَالِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ شَيْءٌ كَالْعَبْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ

.
قُلْت : تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ حُرِّيَّةُ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَمْلَاكِ ، وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ كَذَلِكَ .
لَا يُقَالُ : فِي الْخُلْعِ أَيْضًا تَحْصُلُ لِلْمَرْأَةِ الْحُرِّيَّةُ عَنْ رِقِّ النِّكَاحِ وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ كَذَلِكَ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْعِتْقُ يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ وَالْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْخُلْعُ يَرْفَعُ الْمَانِعَ لِتَعْمَلَ الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَمَلَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْبَاتُ شَيْءٍ بِخِلَافِ الْعِتْقِ ( قَوْلُهُ وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ يُسْقِطُهُ ( لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ وَوِلَايَتُهُ نَظَرِيَّةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ ) يَعْنِي أَنَّ الزَّوْجَ إنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَى الصَّغِيرَةِ ( تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ) بِأَنْ تَعْقِلَ الْعَقْدَ وَتُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهَا ( فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ عَنْهَا فَفِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا الْقَبُولِ ( رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ مَحْضٌ لِلصَّغِيرَةِ ) ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَتَخَلَّصُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِغَيْرِ مَالٍ فَصَحَّ مِنْ الْأَبِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا الْقَبُولَ بِمَعْنَى شَرْطِ الْيَمِينِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ ( وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ الْمَهْرَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا ، فَإِنْ قَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْقَبُولُ وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ ( وَإِنْ قَبِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ) فِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ وَفِي أُخْرَى لَا يَصِحُّ ، وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ( وَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَهْرَ ) أَيْ الْتَزَمَ بِمَعْنَى إذَا خَالَعَ الْأَبُ مَعَ الزَّوْجِ وَالْتَزَمَ الْمَهْرَ عَلَى

ذِمَّتِهِ ( وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَلًا طَلُقَتْ لِوُجُودِ قَبُولِهِ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَلْمُوسَةٍ وَكَانَ الْمَهْرُ أَلْفًا فَأَضَافَ الْخُلْعَ إلَى مَهْرِهَا وَمَهْرُهَا مَا يَجِبُ لَهَا بِالنِّكَاحِ ، وَالْوَاجِبُ لَهَا بِالنِّكَاحِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَكَأَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ صَرِيحًا ( وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ ) بِحُكْمِ الضَّمَانِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَمَانَ الْأَبِ بِالْمَهْرِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ إذَا صَحَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَلِلزَّوْجِ عَلَى الْأَبِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِأَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلِلزَّوْجِ عَلَى الْأَبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِحُكْمِ الضَّمَانِ فِي الْقِيَاسِ .
وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَلِلزَّوْجِ عَلَى الْأَبِ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَلَامَةُ الْأَلْفِ وَقَدْ حَصَلَتْ ، إذْ النِّصْفُ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي تَرْجِعُ بِهِ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ فَهُوَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ وَهُوَ الْأَبُ ، هَذَا إذَا لَمْ تَقْبِضْ الْمَهْرَ ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَتْ الْمَهْرَ كُلَّهُ فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِالنِّصْفِ عَلَيْهَا وَبِالنِّصْفِ الْآخَرِ عَلَى الضَّامِنِ فَيَسْلَمُ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ ( وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ ) وَلَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا ( فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ ) لِلزَّوْجِ لِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْمَهْرِ سَقَطَتْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ الْتَزَمَتْ الْمَرْأَةُ الْأَلْفَ وَنِصْفُ الْأَلْفِ سَقَطَ عَنْ ذِمَّتِهَا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ لَهَا عَلَى

الزَّوْجِ خَمْسَمِائَةٍ بَاقِيَةً بَعْدَ سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ .
فَوَجَبَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَلْفِ تَتْمِيمًا لِلْأَلْفِ الَّتِي الْتَزَمَتْهَا ( وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ سُقُوطُ كُلِّ الْمَهْرِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَقَدْ حَصَلَ فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ فَعَلَى الْقِيَاسِ تَرُدُّ الْمَرْأَةُ الْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةِ الْأَلْفِ بَدَلَ الْخُلْعِ وَخَمْسَمِائَةِ نِصْفِ الْمَهْرِ لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : تَرُدُّ الْأَلْفَ لَا غَيْرُ خَمْسَمِائَةٍ بَدَلَ الْخُلْعِ وَخَمْسَمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَقَوْلُهُ ( زَائِدَةٍ ) بِالْجَرِّ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَتْبَعُ الْمُضَافَ إلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَقَالَ : هَكَذَا أَفَادَ شَيْخِي مِرَارًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.

قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَرْتِيبِ الْحُرُمَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ بَابٍ مِنْهَا ، وَيُحْتَاجُ إلَى وَجْهِ تَقْدِيمِ الظِّهَارِ عَلَى اللِّعَانِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ سَبَبِ اللِّعَانِ ، فَإِنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ عِنْدَ إضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ مَنْكُوحَتِهِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَمُوجِبُ الْحَدِّ مَعْصِيَةٌ مَحْضَةٌ بِغَيْرِ شَائِبَةِ الْإِبَاحَةِ .
وَالظِّهَارُ فِي اللُّغَةِ : قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ : تَشْبِيهُ الْمَنْكُوحَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ اتِّفَاقًا بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ اتِّفَاقًا احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ وَهِيَ أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا أَوْ ابْنَتُهَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ .
وَسَبَبُهُ سَبَبُ الْخُلْعِ وَهُوَ النُّشُوزُ ، فَإِنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ وَكَانَتْ نَاشِزَةً .
وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُظَاهِرِ عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا وَالْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِنَا .
وَرُكْنُهُ قَوْلُهُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ .
وَحُكْمُهُ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَالدَّوَاعِي مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ إلَى غَايَةِ الْكَفَّارَةِ .

( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا مَسُّهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } إلَى أَنْ قَالَ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } .
وَالْظَ هَارُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُوَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرِ مُزِيلٍ لِلنِّكَاحِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَيُنَاسِبُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهَا بِالْحُرْمَةِ ، وَارْتِفَاعُهَا بِالْكَفَّارَةِ .
ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُمَا ، فَلَوْ حَرُمَ الدَّوَاعِي يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ وَلَا كَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْإِحْرَامُ .

( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا مَسُّهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَالظِّهَارُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُوَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرِ مُزِيلٍ لِلنِّكَاحِ ) وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ جَعَلَهَا فِي التَّحْرِيمِ عَلَى نَفْسِهِ كَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهِ كَالْفَخِذِ وَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ ، ثُمَّ نَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَوْضِعًا أَحْسَنَ فِي الذِّكْرِ وَلَا أَسْتَرَ مِنْ الظَّهْرِ مَعَ إصَابَةِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادُوهُ فَاسْتَعْمَلُوهُ دُونَ غَيْرِهِ .
ثُمَّ إنَّ { خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ : كُنْت تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَقَدْ سَاءَ خُلُقُهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ ، فَرَاجَعْته فِي بَعْضِ مَا أَمَرَنِي بِهِ فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ فَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي ، فَقُلْت وَاَلَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَصِلُ إلَيَّ وَقَدْ قُلْت مَا قُلْت حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي ذَلِكَ ، فَوَقَعَ عَلَيَّ فَدَفَعْته بِمَا تَدْفَعُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ ، وَخَرَجْت إلَى بَعْضِ جِيرَانِي فَأَخَذْت ثِيَابًا فَلَبِسْتهَا وَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِي : زَوْجُك وَابْنُ عَمِّك وَقَدْ كَبِرَ فَأَحْسِنِي إلَيْهِ ، فَجَعَلْت أَشْكُو إلَى اللَّهِ مَا أَرَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي زَوْجِك بَيَانًا ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي

تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } إلَى آخِرِ آيَاتِ الظِّهَارِ ، ثُمَّ قَالَ : مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً ، فَقُلْت : لَا يَجِدُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ مُرِيهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَقُلْت : هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ ، فَقَالَ : مُرِيهِ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقُلْت : مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : إنَّا سَنُعِينُهُ بِعِرْقٍ ، فَقُلْت : وَأَنَا أُعِينُهُ بِعِرْقٍ أَيْضًا ، فَقَالَ : افْعَلِي وَاسْتَوْصِي بِهِ خَيْرًا } وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَادُ مِنْ الْعَوْدِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمُرَادُ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى نَقْلِ حُكْمِ الظِّهَارِ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى التَّحْرِيمِ الْمُوَقَّتِ بِالْكَفَّارَةِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الظِّهَارَ جِنَايَةٌ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } وَالْمُنْكَرُ مَا يُنْكِرُهُ الْحَقِيقَةُ وَالشَّرْعُ ، وَالزُّورُ هُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ ، وَالْجِنَايَةُ تُنَاسِبُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهَا بِالْحُرْمَةِ وَارْتِفَاعُهَا بِالْكَفَّارَةِ ( ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حُرِّمَ حُرِّمَ بِدَوَاعِيهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تُحَرَّمُ الدَّوَاعِي لِأَنَّ التَّحْرِيمَ عُرِفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَالتَّمَاسُّ فِي الْقُرْآنِ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ .
وَأَجَابَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ بِأَنَّ التَّمَاسَّ حَقِيقَةٌ فِي الْمَسِّ بِالْيَدِ وَالْكَلَامُ لِلْحَقِيقَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ ( بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمِ ) حَيْثُ لَا تُحَرَّمُ الدَّوَاعِي فِيهِمَا ( لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُمَا ، فَلَوْ حُرِّمَ الدَّوَاعِي أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ ، وَلَا كَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْإِحْرَامُ ) وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَثُرَ وُجُودُهُمَا كَانَ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ مِنْ

الظِّهَارِ ، فَلِمَ انْعَكَسَ الْأَمْرُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ أَوْقَاتِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَكِنَّ أَوْقَاتِ الطُّهْرِ وَالْإِفْطَارِ أَكْثَرُ ، فَلَمَّا كَثُرَ أَوْقَاتُ الطُّهْرِ كَانَ الْجِمَاعُ مَوْجُودًا فِيهَا ظَاهِرًا فَيُوجِبُ ذَلِكَ فُتُورَ رَغْبَةٍ فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَلِيقُ فِيهِ إيجَابُ الزَّاجِرِ لِأَنَّ إيجَابَ الزَّاجِرِ لِمَنْعِ وُجُودِ الْجِمَاعِ ، وَبِفُتُورِ الرَّغْبَةِ كَانَ مُمْتَنِعًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إيجَابِ الزَّاجِرِ .

( فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى وَلَا يَعُودُ حَتَّى يُكَفِّرَ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي وَاقَعَ فِي ظِهَارِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ } وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ( وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ ) لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ( فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى ) أَيْ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ بِالظِّهَارِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَنْصُوصِ ، وَلَا يُعَاوِدُ الْوَطْءَ حَتَّى يُكَفِّرَ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي ثُمَّ أَبْصَرْت خَلْخَالَهَا فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ فَوَاقَعْتهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفِرْ رَبَّك وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ } " وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَهَذَا اللَّفْظُ ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي : يَعْنِي هَذَا اللَّفْظَ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا الظِّهَارُ ، فَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الْإِيلَاءَ أَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ بِهِ شَيْئًا يَكُونُ ظِهَارًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ كَوْنَهُ طَلَاقًا ( مَفْسُوخٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرَ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ

( وَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَفَخْذِهَا أَوْ كَفَرْجِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ ) لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي عُضْوٍ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ ( وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ مَحَارِمِهِ مِثْلَ أُخْتِهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ) لِأَنَّهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ ( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ رَأْسُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ بَدَنُك ) لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الشَّائِعِ ثُمَّ يَتَعَدَّى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَفَخِذِهَا أَوْ كَفَرْجِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ ) اللَّامُ فِي الْمُحَلَّلَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ لِلْعَهْدِ : أَيْ الْمُحَلَّلَةِ نِكَاحًا لَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِالْمُحَرَّمَةِ تَأْبِيدًا لَا تَوْقِيتًا ( وَهَذَا الْمَعْنَى ) أَيْ التَّشْبِيهُ ( يَتَحَقَّقُ فِي عُضْوٍ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ ) كَالْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالشِّعْرِ وَالظُّفْرِ لِأَنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ وَالْمَسُّ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّشْبِيهِ بِهَا .
وَقَوْلُهُ وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا ) ظَاهِرٌ وَإِنْ قَالَ رَأْسُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجُك أَوْ رَقَبَتُك كَانَ مُظَاهِرًا ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَيَكُونُ تَشْبِيهُهَا مِنْ الْمَرْأَةِ كَتَشْبِيهِ ذَاتِ الْمَرْأَةِ ( وَلَوْ قَالَ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ رُبُعُك كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْرِي إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ )

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ ) لِيَنْكَشِفَ حُكْمُهُ ( فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَرَامَةَ فَهُوَ كَمَا قَالَ ) لِأَنَّ التَّكْرِيمَ بِالتَّشْبِيهِ فَاشٍ فِي الْكَلَامِ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِجَمِيعِهَا ، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ بِالْعُضْوِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ عَلَى الْكَرَامَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَكُونُ ظِهَارًا لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمَّا كَانَ ظِهَارًا فَالتَّشْبِيهُ بِجَمِيعِهَا أَوْلَى .
وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ إيلَاءٌ لِيَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ تَخْتَصُّ بِهِ .

وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي احْتَمَلَ وُجُوهًا فَيُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ لِيَنْكَشِفَ ذَلِكَ ) ؛ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَالِي : إذَا قَالَ هَذَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الْبِرَّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ ظِهَارٌ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إيلَاءٌ لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَقَلُّ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْكَرَامَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ بِالنِّيَّةِ وَالْفَرْضُ عَدَمُهَا .
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ( التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمَّا كَانَ ظِهَارًا فَالتَّشْبِيهُ بِجَمِيعِهَا أَوْلَى .
وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ إيلَاءٌ لِيَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ ) فَإِنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِيلَاءِ أَدْنَى مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالظِّهَارِ ، إذْ حُرْمَةُ الْإِيلَاءِ لِغَيْرِهَا وَهُوَ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُرْمَةُ الظِّهَارِ لِعَيْنِهَا وَهُوَ أَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ ، وَالثَّابِتَةَ بِالْإِيلَاءِ تَرْتَفِعُ بِدُونِهَا وَهُوَ الْحِنْثُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ يَخْتَصُّ بِهِ ) .

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي وَنَوَى ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ .
الظِّهَارُ لِمَكَانِ التَّشْبِيهِ وَالطَّلَاقُ لِمَكَانِ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ ، وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي وَنَوَى ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ ) فَحَسْبُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِالْحُرْمَةِ لَمْ يَبْقَ كَلَامُهُ مُحْتَمِلًا لِلْكَرَامَةِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ ، وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِيَكُونَ الثَّابِتُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ ، وَقَوْلَهُ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ يَخْتَصُّ بِهِ

( وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً لَمْ يَكُنْ إلَّا ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ عَلَى مَا نَوَى ) لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا وَقَدْ عُرِفَ مَوْضِعُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ ، ثُمَّ هُوَ مُحْكَمٌ فَيُرَدُّ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ .

( وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَكَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ( وَقَالَا : هُوَ عَلَى مَا نَوَى ) إنْ نَوَى ظِهَارًا فَظِهَارٌ ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا فَطَلَاقٌ ، وَإِنْ نَوَى إيلَاءً فَإِيلَاءٌ ، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ فِي شَرْحَيْهِمَا لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مُحْتَمَلٌ ) وَنِيَّةُ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ ( غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا ) يَعْنِي يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنِيَّتِهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّصْرِيحِ بِالظِّهَارِ ، وَلَا يَصْدُقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ قَضَاءً فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ وَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى وَإِيَّاهَا عَنَيْت يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى تِلْكَ بِنِيَّتِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالظَّاهِرِ .
وَضَعَّفَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ الطَّلَاقَ إنْ وَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَفْظِ الظِّهَارِ بَعْدَ مَا بَانَتْ ، وَالظِّهَارُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ قَالَ الظِّهَارُ مَعَ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ .
قُلْنَا اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .
وَأَجَابَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ عَنْ هَذَا فَقَالَ : يَصِحُّ ظِهَارُ الْمُبَانَةِ عَلَى قَوْلِهِ ، وَكَانَ هَذَا رِوَايَةً مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ ظِهَارِ الْمُبَانَةِ وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ ظِهَارًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حُكْمِ الظِّهَارِ وَيُصَدَّقُ فِي إرَادَةِ الطَّلَاقِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) يَعْنِي مَبْسُوطَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ ) وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إلَى

النِّيَّةِ ( فَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ مِنْ الطَّلَاقِ ) وَالْإِيلَاءِ ( ثُمَّ هُوَ مُحْكَمٌ ) لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْغَيْرِ ، وَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ وَغَيْرَهُ كَمَا مَرَّ ( فَيُرَدُّ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الظِّهَارِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي رَدِّ الْمُحْتَمَلِ عَلَى الْمُحْكَمِ .

قَالَ ( وَلَا يَكُونُ الظِّهَارُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ ، حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ نِسَائِهِمْ } وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْأَمَةِ تَابِعٌ فَلَا تُلْحَقُ بِالْمَنْكُوحَةِ ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَنْقُولٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْمَمْلُوكَةِ .قَالَ ( وَلَا يَكُونُ الظِّهَارُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ ، حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْمَمْلُوكَةِ تَابِعٌ ) بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَمَةً فَوَجَدَهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ الرَّدِّ بِسَبَبِ الْحُرْمَةِ فَلَا تَكُونُ الْأَمَةُ فِي مَعْنَى الْمَنْكُوحَةِ حَتَّى تَلْحَقَ بِهَا ( وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَنْقُولٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْمَمْلُوكَةِ ) وَعُورِضَ بِأَنَّ الْأَمَةَ مَحَلُّ الظِّهَارِ بَقَاءً فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا ابْتِدَاءً ؛ كَمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهُ يَبْقَى حُكْمُ الظِّهَارِ ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي النِّكَاحِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ بَقَاءَ الظِّهَارِ فِيمَا ذَكَرْت لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَحَلٌّ لِلظِّهَارِ بَقَاءً ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حُرْمَةَ الظِّهَارِ إذَا صَادَفَتْ الْمَحَلَّ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ ، وَهَاهُنَا قَدْ صَادَفَتْ مَحَلًّا فَتَبْقَى إلَى أَنْ تُوجَدَ الْكَفَّارَةُ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ .

( فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَجَازَتْ النِّكَاحَ فَالظِّهَارُ بَاطِلٌ ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ ، وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ .( فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَجَازَتْ النِّكَاحَ فَالظِّهَارُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ صَادَقَ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ ) لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً قَبْلَ إجَازَتِهَا فَلَمْ يُوجَدْ رُكْنُ الظِّهَارِ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ .
وَقَوْلُهُ وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ ) أَيْ حُقُوقِ النِّكَاحِ جَوَابُ سُؤَالٍ .
تَقْرِيرُهُ الظِّهَارُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الظِّهَارُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ يُوقَفُ إعْتَاقُ الْمُشْتَرَى مِنْ الْغَاصِبِ عَلَى إجَازَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْبَيْعُ الصَّادِرُ مِنْ الْغَاصِبِ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَوَازِمِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَوَقُّفِ النِّكَاحِ عَلَى الْإِجَازَةِ تَوَقُّفُ الظِّهَارِ عَلَيْهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ أَنَّ النِّكَاحَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ ، وَالظِّهَارَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ ، وَمَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا لَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الْمَشْرُوعِ ( بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْغَاصِبِ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِعْتَاقَ ( مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ ) لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا لِلْمِلْكِ وَمُتَمِّمًا لَهُ .

( وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ فَصَارَ كَمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ ( وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةُ ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ لِإِنْهَاءِ الْحُرْمَةِ فَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا ، بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُ الِاسْمِ .( وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا ) وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ ) يَعْنِي أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْرَبْهُنَّ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ طَلُقْنَ جَمِيعًا ، وَإِنْ قَرِبَ الْكُلَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُ الِاسْمِ .

قَالَ ( وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ) فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ .
قَالَ ( وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ) وَهَذَا فِي الْإِعْتَاقِ ، وَالصَّوْمُ ظَاهِرٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ مَنْهِيَّةٌ لِلْحُرْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْوَطْءِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا قَالَ ( وَتَجْزِي فِي الْعِتْقِ الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ) لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ الْمَرْقُوقِ الْمَمْلُوكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الْكَافِرَةِ وَيَقُولُ : الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَالزَّكَاةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ، وَقَصْدُهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ التَّمَكُّنُ مِنْ الطَّاعَةِ ثُمَّ مُقَارَفَتُهُ الْمَعْصِيَةَ يُحَالُ بِهِ إلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِ

فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الظِّهَارِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ إلَى نِهَايَتِهِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا يَنْهَى تِلْكَ الْحُرْمَةَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ .
وَسَبَبُهَا الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَمِيعًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْعَوْدَ عَلَى الظِّهَارِ فِي بَيَانِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ ، ثُمَّ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ جِهَةُ إبَاحَةٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّ سَبَبَهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَضَمَّ إلَى ذَلِكَ الْعَوْدَ عَمَّا قَالَ لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْمُنْكَرِ وَهُوَ حَسَنٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَبَبٍ مُسْتَقِرٍّ لَهَا حَتَّى لَوْ عَادَ بِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ ثُمَّ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَلَوْ عَادَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا سَقَطَتْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ لِلْعَوْدِ مَدْخَلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ لَمَا جَازَ أَدَاءُ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الظِّهَارِ قَبْلَ الْعَوْدِ حَقِيقَةً لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ جَائِزٌ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ حَقِيقَةً إنْ كَانَ الْفِعْلَ فَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَزْمَ فَلَا نُسَلِّمُ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ .
نَعَمْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ إنْهَاءً لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالظِّهَارِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الْفِعْلِ حَلَالًا إلَّا بَعْدَ إنْهَاءِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ فَوَجَبَ التَّعْجِيلُ عَلَى الْفِعْلِ لِيَكُونَ الْفِعْلُ وَاقِعًا بِصِفَةِ الْحِلِّ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ النَّصُّ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( عِتْقُ رَقَبَةٍ ) إعْتَاقُ رَقَبَةٍ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ قَدْ لَا يَنُوبُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ أَبَاهُ وَنَوَى الْكَفَّارَةَ

لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمَرْقُوقِ دُونَ الْمَمْلُوكِ لِأَنَّ الْكَمَالَ فِي الرِّقِّ شَرْطٌ دُونَ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا صَحَّ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ رَقَّهُ حَتَّى يُشْتَقَّ مِنْهُ الْمَرْقُوقُ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ رَقَّ فُلَانٌ : إذَا صَارَ رَقِيقًا : أَيْ عَبْدًا .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَزْهَرِيَّ حَكَى عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ أَنَّهُ جَاءَ عَبْدٌ مَرْقُوقٌ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ تَذْكِيرَ الذَّاتِ لَا يَجُوزُ ، فَالصَّوَابُ ذَاتٌ مَرْقُوقَةٌ مَمْلُوكَةٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الذَّاتَ تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ فَتَذْكِيرُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الثَّانِي .
وَقَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا ) أَيْ لَا يُجَوِّزُ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي الْكَفَّارَةِ ( لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ اللَّهِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَالزَّكَاةِ وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ) وَقَوْلُهُ ( وَقَصْدُهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ التَّمَكُّنُ مِنْ الطَّاعَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَصْدَ الْمُكَفِّرِ بِالْإِعْتَاقِ هُوَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُعْتَقُ مِنْ الطَّاعَةِ بِخُلُوصِهِ عَنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى ( ثُمَّ مُقَارَفَتُهُ الْمَعْصِيَةَ ) أَيْ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ ( يُحَالُ بِهِ إلَى سُوءِ ) اعْتِقَادِهِ وَ ( اخْتِيَارِهِ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مُقَارَفَتُهُ الْمَعْصِيَةَ يُحَالُ بِهِ إلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِ ، لَكِنْ لِمَ لَا يَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ مِنْهُ مَانِعًا عَنْ الصَّرْفِ إلَيْهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ مُوَاسَاةَ عِبَادِ اللَّهِ ، لَكِنْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْهَا مِنْ

أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ } " أَخْرَجَهُمْ عَنْ الْمَصْرِفِ .

( وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ ) لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْبَصَرُ أَوْ الْبَطْشُ أَوْ الْمَشْيُ وَهُوَ الْمَانِعُ ، أَمَّا إذَا اخْتَلَّتْ الْمَنْفَعَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ ، حَتَّى يُجَوِّزَ الْعَوْرَاءَ وَمَقْطُوعَةَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَا فَاتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ اخْتَلَّتْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ ، وَيَجُوزُ الْأَصَمُّ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ ، لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ بَاقٍ ، فَإِنَّهُ إذَا صِيحَ عَلَيْهِ سَمِعَ حَتَّى لَوْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا بِأَنْ وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ لَا يَجْزِيه ( وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ ) لِأَنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهِمَا فَبِفَوَاتِهِمَا يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ( وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ) لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَكَانَ فَائِتَ الْمَنَافِعِ ( وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يَجْزِيه ) لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ غَيْرُ مَانِعٍ ، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةٍ فَكَانَ الرِّقُّ فِيهِمَا نَاقِصًا ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْمَالِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ يَكُونُ بِبَدَلٍ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْزِيه لِقِيَامِ الرِّقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا تَقْبَلُ الْكِتَابَةُ الِانْفِسَاخَ ، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الِانْفِسَاخَ ، فَإِنْ أَعْتَقَ مُكَاتَبًا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا جَازَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
لَهُ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ .
وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "

الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ " وَالْكِتَابَةُ لَا تُنَافِيه فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ بِعِوَضٍ فَيَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا يَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ إذْ هُوَ يَحْتَمِلُهُ ، إلَّا أَنَّهُ تَسْلَمُ لَهُ الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ ، أَوْ لِأَنَّ الْفَسْخَ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ

قَالَ ( وَلَا تُجْزَى الْعَمْيَاءُ ) أَيْ لَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْعَمْيَاءِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَالضَّابِطُ فِي تَخْرِيجِ مَا يَجُوزُ بِهِ الْإِعْتَاقُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّهُ مَتَى أَعْتَقَ رَقَبَةً كَامِلَةَ الرِّقِّ فِي مِلْكِهِ مَقْرُونًا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ ، وَجِنْسُ مَا يُبْتَغَى بِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ فِيهَا قَائِمٌ بِلَا بَدَلٍ جَازَ عَنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ .
فَقَوْلُهُ رَقَبَةً احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ فَجَامَعَهَا ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ قَبْلَ الْجِمَاعِ جَازَ .
وَقَوْلُهُ كَامِلَةَ الرِّقِّ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُدَبَّرِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ مَقْرُونًا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَلَمْ يَنْوِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْهَا ، وَإِنْ نَوَى عَنْهَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ وَجِنْسُ مَا يُبْتَغَى بِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ فِيهَا قَائِمٌ احْتِرَازٌ عَنْ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ وَمَا يُمَاثِلُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ بِلَا بَدَلٍ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى بَدَلٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ الْكَفَّارَةِ .
وَإِنَّمَا كَانَ فَوْتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ مَانِعًا لِأَنَّ الشَّخْصَ يَصِيرُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ كَالْهَالِكِ لِأَنَّ قِيَامَ الشَّخْصِ بِمَنَافِعِهِ .
وَقَوْلُهُ وَيَجُوزُ الْأَصَمُّ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهِمَا ) يُفِيدُ أَنَّ مَا يَزُولُ بِهِ تِلْكَ الْقُوَّةُ كَانَ مَانِعًا فَقَطْعُ أَكْثَرِ أَصَابِعِ كُلِّ يَدٍ كَقَطْعِ جَمِيعِهَا وَقَوْلُهُ ( وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يَجْزِيهِ ) يَعْنِي إذَا أَعْتَقَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ ( وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَرَقَبَةُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ ( لِاسْتِحْقَاقِهِمَا جِهَةَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ الرِّقُّ نَاقِصًا )

فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْقُوَّةِ الْحُكْمِيَّةِ زَالَ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الضَّعْفِ الْحُكْمِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ ) اسْتِدْلَالٌ بِمَا لَا يَقُولُ بِهِ ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَائِزٌ فَكَانَ هَذَا احْتِجَاجًا عَلَيْنَا بِمَذْهَبِنَا .
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِهَذَا تَقْبَلُ الْكِتَابَةُ الِانْفِسَاخَ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } " رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْكِتَابَةُ لَا تُنَافِيهِ ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ الْمُكَاتَبُ رَقِيقٌ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَمْ يَزُلْ رِقُّهُ بِهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَزُولُ إلَّا بِمُنَافِيهِ ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُنَافِي الرِّقَّ ( فَإِنَّهُ ) أَيْ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْ ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ ( فَكُّ الْحَجْرِ ) إذْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الْمُكَاتَبُ إلَّا الْمَنَافِعَ ، وَالْأَكْسَابُ كَالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَفَكُّ الْحَجْرِ لَا يُنَافِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ فَكَّ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لَاسْتَبَدَّ الْمَوْلَى بِالْفَسْخِ كَمَا فِي عَزْلِ الْمَأْذُونِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ : أَيْ عَقْدَ الْكِتَابَةِ فَكُّ الْحَجْرِ بِعِوَضٍ فَكَانَ لَازِمًا مِنْ جَانِبِهِ : أَيْ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ مَانِعًا ) جَوَابٌ بِطَرِيقِ التَّنَزُّلِ : يَعْنِي لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ مَانِعٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، لَكِنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ( يَنْفَسِخُ ) قَبْلَ الْإِعْتَاقِ ( مُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ إذْ هُوَ ) أَيْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ ( يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَحَّ إعْتَاقُهُ تَكْفِيرًا وَانْفَسَخَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ مُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ لَسَلِمَ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ لِلْمَوْلَى ، كَمَا

إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ بِجِهَةِ التَّكْفِيرِ وَلَهُ أَكْسَابٌ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ ) أَيْ لِلْمُكَاتَبِ ( الْأَكْسَابَ وَالْأَوْلَادَ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ ) يَعْنِي الْمُكَاتَبَ ( بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَوْ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَا الْمُكَاتَبِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صَرِيحًا فَيُقَدَّرُ دَلَالَةً ، وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا سَلِمَتْ لَهُ الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ ، فَجَعَلَ الْعِتْقَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ ، وَجَعَلَ الْإِعْتَاقَ لِلتَّكْفِيرِ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَصَدَهُ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ( أَوْ لِأَنَّ الْفَسْخَ ثَبَتَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ ) فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ وَالْأَكْسَابِ .

( وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِيك فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُوَقَوْلُهُ ( وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ ) وَاضِحٌ .

وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ مُوسِرٌ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّ الْعَبْدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَنْتَقِصُ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَوَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِالِاتِّفَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجِبُ أَنْ يَقَعَ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا مَدْيُونًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الدَّيْنِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ مَجَّانًا فَلَا يَقَعُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَنْتَقِصُ عَلَى مِلْكِهِ ) لِتَعَذُّرِ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهِ ( ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ ) مَا بَقِيَ مِنْهُ فَكَانَ فِي الْمَعْنَى إعْتَاقُ عَبْدٍ إلَّا شَيْئًا ، وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ بِصِفَةِ الِاسْتِنَادِ إلَى زَمَانِ وُجُودِ السَّبَبِ فَصَارَ نَصِيبُ السَّاكِتِ مِلْكَ الْمُعْتَقِ زَمَانَ الْإِعْتَاقِ وَكَانَ النُّقْصَانُ فِي مِلْكِهِ لَا فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِيهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ يَثْبُتُ بِصِفَةِ الِاسْتِنَادِ فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ الزِّيَادَاتِ وَالْكَفَّارَةُ غَيْرُهُمَا فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي حَقِّهَا مُسْتَنِدًا وَيَلْزَمُ النُّقْصَانَ الْمَانِعُ .

( فَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه عَنْهَا جَازَ ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِكَلَامَيْنِ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَكِّنٌ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَانِعٍ ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النُّقْصَانَ تَمَكَّنَ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقًا بِكَلَامَيْنِ .

( فَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيَهُ جَازَ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ بِكَلَامَيْنِ ) فَلَا مَحْظُورَ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَمَكَّنَ فِيهِ النُّقْصَانُ لِمَا مَرَّ وَالنُّقْصَانُ مَانِعٌ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَكِّنٌ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ ، فَإِنَّهُ أَعْتَقَ النِّصْفَ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْآخَرِ ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَانِعٍ ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا فَإِنَّ النُّقْصَانَ لَمَّا حَصَلَ بِفِعْلِ التَّضْحِيَةِ لَمْ يَمْنَعْ ، فَكَذَلِكَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِ الْكَفَّارَةِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النُّقْصَانَ تَمَكَّنَ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي مَصْرُوفًا إلَى الْكَفَّارَةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ وَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، فَإِذَا ضَمِنَ قِيمَةَ النِّصْفِ الْبَاقِي وَأَعْتَقَهُ فَقَدْ صُرِفَ إلَى الْكَفَّارَةِ وَهُوَ نَاقِصٌ وَصَارَ فِي الْحَاصِلِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا إلَّا قَدْرَ النُّقْصَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ جَعْلُهُ إعْتَاقًا بِكَلَامَيْنِ ( عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ) فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ ( أَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقًا بِكَلَامَيْنِ ) وَعَلَى هَذَا مَبْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ ، إلَّا أَنَّهُ اُعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ بِأَنَّ أَيَّ إعْتَاقٍ وُجِدَ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ كَانَ كَامِلًا فَهُوَ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَسِيسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ عَنْ الْكَفَّارَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ الثَّانِي فَصَارَ إعْتَاقُ نِصْفِ الْعَبْدِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَأَنَّهُ قَدْ جَامَعَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعَاوِدَ حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .

( وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالنَّصِّ ، وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا إعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَحَصَلَ الْكُلُّ قَبْلَ الْمَسِيسِ .

( وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَلَا يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ) أَمَّا التَّتَابُعُ فَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عَنْ الظِّهَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ الْكَامِلِ .قَالَ ( وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يُعْتِقُ ) إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ رَقَبَةً وَلَا ثَمَنَهَا يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَإِنْ صَامَ بِالْأَهِلَّةِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَهْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ صَامَ لِغَيْرِ الْأَهِلَّةِ فَأَفْطَرَ لِتَمَامِ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ ، وَكَذَا إنْ أَدْخَلَ فِي صِيَامِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .

( فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا اسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ ، إذْ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا فَفِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْبَعْضِ وَفِيمَا قُلْتُمْ تَأْخِيرُ الْكُلِّ عَنْهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْهُ ضَرُورَةً بِالنَّصِّ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِمُ بِهِ فَيَسْتَأْنِفُ ( وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْهَا يَوْمًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ ) لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ عَادَةً

( فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا اسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَسْتَأْنِفُ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِاَلَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لِأَنَّهُ إذَا جَامَعَ غَيْرَهَا فَإِنْ كَانَ وَطْئًا يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَالْجِمَاعِ بِالنَّهَارِ عَامِدًا قَطَعَ التَّتَابُعَ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْهُ بِأَنْ وَطِئَهَا بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أَوْ بِاللَّيْلِ كَيْفَمَا كَانَ لَمْ يَقْطَعْ التَّتَابُعَ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ فِي جِمَاعِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِالنَّهَارِ نَاسِيًا لِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فِيهِ عَامِدًا يَسْتَأْنِفُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْعَمْدِ فِيهِ فِي اللَّيْلِ فَقَدْ وَقَعَ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ فِي الْوَطْءِ بِاللَّيْلِ سَوَاءٌ ، فَعُرِفَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي وَطْءٍ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا وَطْءٌ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ فَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَائِمًا ، وَهُوَ الشَّرْطُ : أَيْ السَّبَبُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ الصَّوْمِ كَفَّارَةً وَقَدْ وُجِدَ .
فَإِنْ قِيلَ : تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْبَعْضِ وَفِيمَا قُلْتُمْ يَعْنِي الِاسْتِئْنَافُ تَأْخِيرُ الْكُلِّ عَنْهُ وَتَأْخِيرُ الْبَعْضِ أَهْوَنُ مِنْ تَأْخِيرِ الْكُلِّ ( وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ الْمَسِيسِ ضَرُورَةً بِالنَّصِّ ) وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدَهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّصَّ يَقْتَضِي شَرْطَيْنِ : كَوْنَ الصَّوْمِ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، وَكَوْنَ الصَّوْمِ خَالِيًا عَنْ الْمَسِيسِ وَالشَّرْطُ الثَّانِي مِنْ ضَرُورَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْمَسِيسِ يَسْتَلْزِمُ خُلُوَّ الصَّوْمِ عَنْهُ ( وَهَذَا الشَّرْطُ ) أَيْ الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ

الْخُلُوُّ عَنْهُ ( يَنْعَدِمُ بِهِ ) أَيْ بِالْمَسِيسِ فَيَنْعَدِمُ الْمَشْرُوطُ ، وَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ ، لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْإِتْيَانِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ خَالِيًا عَنْ الْمَسِيسِ ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ عَامَّةِ الشَّارِحِينَ .
وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ " وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْهُ ضَرُورَةً " تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ لِأَنَّ إيقَاعَهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ إخْلَاؤُهُ عَنْهُ بِالضَّرُورَةِ وَبِتَخَلُّلِ الْجِمَاعِ عُدِمَ الشَّرْطُ وَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ .
وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ وَتَرْكُ الْعَوْدِ إلَى الْكَفَّارَةِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ ، وَهَذَا أَوْلَى لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا إلَخْ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ فَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ أَنَّ عَدَمَ الْفَسَادِ فِي النِّسْيَانِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى قَطْعِ التَّتَابُعِ وَفِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ ( وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْهَا بِعُذْرٍ ) كَسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ( أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ عَادَةً ) وَهَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَأْنِفُ لِأَنَّهَا مَعْذُورَةٌ عَادَةً ، إذْ لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا .
وَلَوْ صَامَ الْمُظَاهِرُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَصَارَ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا لِاقْتِدَارِهِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُرُوبِ كَانَ الصَّوْمُ عَنْ كَفَّارَتِهِ .

( وَإِنْ ظَاهَرَ الْعَبْدُ لَمْ يَجُزْ فِي الْكَفَّارَةِ إلَّا الصَّوْمُ ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ( وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ لَمْ يَجْزِهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ .قَوْلُهُ ( وَإِنْ ظَاهَرَ الْعَبْدُ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْمُظَاهِرُ الصِّيَامَ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } ( وَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ : { لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ } وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيُعْتَبَرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَقَوْلُهُ أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ مَذْهَبُنَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ

وَقَوْلُهُ ( أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصَةِ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا فِي الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصَةِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قِيمَةً إذَا كَانَتْ أَقَلَّ قَدْرًا مِمَّا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ .
وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ مِثْلَهُ قِيمَةً ، حَتَّى لَوْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ جَيِّدٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا لَوْ أَدَّى أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ حِنْطَةً تَبْلُغُ قِيمَتُهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ لَا يَجُوزُ ، إذْ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ جِنْسٍ آخَرَ هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيمَةِ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِمَعْنَى النَّصِّ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ لَهُ فِي غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ ( فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ) هُوَ أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَأَوْسٌ هُوَ زَوْجُ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ ، وَهِيَ الْمُجَادِلَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا آيَةُ الظِّهَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا سَهْلُ بْنُ صَخْرٍ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُوَافِقٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الْمُسْتَغْفِرِيُّ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ قَالَ : سُهَيْلُ بْنُ صَخْرٍ اللَّيْثِيُّ .
وَقَوْلُهُ فَيُعْتَبَرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ) يَعْنِي فِي الْمِقْدَارِ ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ هَاهُنَا بِأَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا مَنًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَمَنًّا آخَرَ فَقِيرًا آخَرَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَكَانَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا كَالْمِقْدَارِ ، وَمَتَى فَرَّقَ لَمْ يُوجَدْ الْإِطْعَامُ الْمُعْتَادُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَأَمَّا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَدْرُ دُونَ الْعَدَدِ لِكَوْنِهِ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَكُونُ التَّفْرِيقُ جَائِزًا .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ ) ظَاهِرٌ

.

( فَإِنْ أَعْطَى مَنًّا مِنْ بُرٍّ وَمَنَوَيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ جَازَ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ ( وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ ظِهَارِهِ فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ اسْتِقْرَاضٌ مَعْنًى وَالْفَقِيرُ قَابِضٌ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَتَحَقَّقَ تَمَلُّكُهُ ثُمَّ تَمْلِيكُهُوَقَوْلُهُ ( لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْإِطْعَامُ وَسَدُّ الْجَوْعَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ الْإِطْعَامُ فَيَجُوزُ تَكْمِيلُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ كَمَا إذَا أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَالْكِسْوَةُ أَرْخَصُ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يُجِزْهُ لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِالْإِطْعَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي أَحَدِهِمَا تَجُوزُ دُونَ الْآخَرِ .
وَاسْتَشْكَلَ بِمَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَتَيْنِ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْهُمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ عَنْهَا وَإِنْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ مِنْ حَيْثُ الْإِعْتَاقُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَتَيْنِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ كَامِلَةٍ ، وَالشَّرِكَةُ فِي كُلِّ رَقَبَةٍ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ ظِهَارِهِ ) ظَاهِرٌ .

( فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَكَلُوا أَوْ كَثِيرًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُهُ إلَّا التَّمْلِيكُ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَهُ الْإِبَاحَةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطُّعْمِ وَفِي الْإِبَاحَةِ ذَلِكَ كَمَا فِي التَّمْلِيكِ ، أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الزَّكَاةِ الْإِيتَاءُ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَدَاءُ وَهُمَا لِلتَّمْلِيكِ حَقِيقَةً ( وَلَوْ كَانَ فِيمَنْ عَشَّاهُمْ صَبِيٌّ فَطِيمٌ لَا يُجْزِئُهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي كَامِلًا ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِدَامِ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الشِّبَعِ ، وَفِي خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ ) بِكَلِمَةِ الْوَاوِ لَا بِأَوْ لِأَنَّ التَّغْذِيَةَ وَحْدَهَا أَوْ التَّعْشِيَةَ وَحْدَهَا لَا تُجْزِئُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْكِينِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ ، إمَّا الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ ، وَإِمَّا غَدَاءَانِ أَوْ عَشَاءَانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ .
وَفِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا غَدَّى سِتِّينَ وَعَشَّى سِتِّينَ آخَرِينَ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( قَلِيلًا أَكَلُوا أَوْ كَثِيرًا ) يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الشِّبَعُ لَا الْمِقْدَارُ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ شَبْعَانَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ لِأَنَّهُ وُجِدَ إطْعَامُ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ وَقَدْ شَبِعُوا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ إشْبَاعُ السِّتِّينَ وَهُوَ مَا أَشْبَعَهُمْ .
وَقَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ وَهُوَ لَا يُجَوِّزُ فِي الْكَفَّارَةِ إلَّا التَّمْلِيكُ قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ( وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الْإِبَاحَةِ ( لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَهُ الْإِبَاحَةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِطْعَامُ ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطَّعْمِ ) لِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَيْرَ طَاعِمًا ( وَفِي إبَاحَةِ ذَلِكَ ) أَيْ التَّمْكِينِ ( كَمَا فِي التَّمْلِيكِ ) فَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا بِالتَّمْكِينِ فَلِمُرَاعَاةِ عَيْنِ النَّصِّ ، وَأَمَّا بِالتَّمْلِيكِ فَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى فَلِذَلِكَ يُقَامُ التَّمْلِيكُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الزَّكَاةِ فَهُوَ الْإِيتَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَدَاءُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ } " وَهُمَا

لِلتَّمْلِيكِ حَقِيقَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ فِيمَنْ عَشَّاهُمْ صَبِيٌّ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْزِهِ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَالْحَاجَةُ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، فَالدَّفْعُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا فِي الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ .
وَأَمَّا التَّمْلِيكُ مِنْ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَفَعَاتٍ ، فَقَدْ قِيلَ لَا يُجْزِئُهُ ، وَقَدْ قِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ تَتَجَدَّدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ .

وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يُجِزْهُ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ : يَعْنِي إذَا دَفَعَ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سِتِّينَ مَرَّةً بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ فَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ الْخَلَّةِ .
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى الْغَنِيِّ ، وَبَعْدَمَا اسْتَوْفَى وَظِيفَةَ الْيَوْمِ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى سَدِّ الْخَلَّةِ بِصَرْفِ وَظِيفَةٍ أُخْرَى إلَيْهِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَعْدُومِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ مِثْلَهُ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا ( وَقَدْ قِيلَ يَجْزِيهِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ كَثِيرَةٌ تَتَجَدَّدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ) فَإِذَا فَرَّقَ بِدَفَعَاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ جَازَ كَمَا فِي الْأَيَّامِ ، بِخِلَافِ حَاجَةِ الْإِبَاحَةِ بِالْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوْفَى حَاجَتَهُ فِي يَوْمٍ تَنْتَهِي حَاجَتُهُ إلَى الطَّعَامِ وَلَا تَتَجَدَّدُ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ ، وَ ( بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْلُهُ { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَلَمْ يُوجَدْ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا فَلَا يَجُوزُ كَالْحَاجِّ إذَا رَمَى الْحَصَيَاتِ السَّبْعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً .

( وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ ) لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِي الْإِطْعَامِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْمَسِيسِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصَّوْمِ فَيَقَعَانِ بَعْدَ الْمَسِيسِ ، وَالْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي نَفْسِهِ .قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَرِبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ) يَعْنِي تَوَهُّمَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْتَاقِ لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ .

( وَإِذَا أَطْعَمَ عَنْ ظِهَارَيْنِ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ لَمْ يَجْزِهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ أَطْعَمَ ذَلِكَ عَنْ إفْطَارٍ وَظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا ) لَهُ أَنَّ بِالْمُؤَدَّى وَفَاءً بِهِمَا وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحِلٌّ لَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ أَوْ فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ وَفِي الْجِنْسَيْنِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَإِذَا لَغَتْ النِّيَّةُ وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ فَيَمْنَعُ النُّقْصَانَ دُونَ الزِّيَادَةِ فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا إذَا نَوَى أَصْلَ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ لِأَنَّهُ فِي الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي حُكْمِ مِسْكِينٍ آخَرَ

قَالَ ( وَإِذَا أَطْعَمَ عَنْ ظِهَارَيْنِ ) وَإِذَا أَطْعَمَ الْمُظَاهِرُ عَنْ ظِهَارَيْنِ ( سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ أَطْعَمَ ذَلِكَ عَنْ إفْطَارٍ وَظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا ) اتِّفَاقًا ( لَهُ أَنَّ بِالْمُؤَدَّى وَفَاءً بِهِمَا ) إذْ الْوَاجِبُ عَنْ كُلِّ ظِهَارٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَفِي الصَّاعِ وَفَاءٌ بِهِمَا لَا مَحَالَةَ ( وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحَلٌّ لَهُمَا ) لِأَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَخْرُجُ بِأَخْذِ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ عَنْ كَوْنِهِ مَصْرِفًا لِبَقَاءِ الْخَلَّةِ وَالنِّيَّةُ مُعَيَّنَةٌ ( فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ ) يَعْنِي أَطْعَمَ ذَلِكَ عَنْ إفْطَارٍ وَظِهَارٍ ( أَوْ فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْفَرْضُ عَدَمُهَا فَلَغَتْ النِّيَّةُ ( وَإِذَا لَغَتْ وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ ، وَالْمَقَادِيرُ تَمْنَعُ النُّقْصَانَ دُونَ الزِّيَادَةِ فَيَقَعُ عَنْهَا ، كَمَا إذَا نَوَى أَصْلَ الْكَفَّارَةِ ) فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنْ إحْدَاهُمَا بِالِاتِّفَاقِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ لِأَنَّهُ فِي الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي حُكْمِ مِسْكِينٍ آخَرَ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ ظِهَارٍ وَجَبَ لِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَكَانَا بِمَنْزِلَةِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَنْهُمَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ أَحَدِ الظِّهَارَيْنِ بِعَيْنِهِ صَحَّ نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَلَمْ تَلْغُ وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا وَلِهَذَا حَلَّ وَطْءُ الَّتِي عَيَّنَهَا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجِنْسَيْنِ لَا فِيمَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسَيْنِ وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ يَصْلُحُ كَفَّارَةً عَنْ أَحَدِ

الظِّهَارَيْنِ قَدْرًا وَمَحَلًّا فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ .
فَأَمَّا إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا .
فَإِنْ صَلُحَ عَنْ الظِّهَارَيْنِ قَدْرًا لَمْ يَصْلُحْ لَهُمَا مَحَلًّا لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِسْكِينًا عِنْدَ عَدَمِ التَّفْرِيقِ ، فَإِذَا زَادَ فِي الْوَظِيفَةِ وَنَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ قَدْرَ الْمَحَلِّ احْتِيَاطًا ، كَمَا لَوْ أَعْطَى ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا كُلَّ وَاحِدٍ صَاعًا .

( وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ لَا يَنْوِي عَنْ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا جَازَ عَنْهُمَا ، وَكَذَا إذَا صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَطْعَمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا جَازَ ) لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ( وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا رَقَبَةً وَاحِدَةً أَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقُتِلَ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجْزِيه عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ كُلِّ ظِهَارٍ نِصْفَ الْعَبْدِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا أَعْتَقَ عَنْهُمَا لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ .
وَلَنَا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَتَلْغُو ، وَفِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ مُفِيدَةٌ ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ .
نَظِيرُ الْأَوَّلِ إذَا صَامَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ عَنْ يَوْمَيْنِ يَجْزِيه عَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ وَاحِدٍ .
وَنَظِيرُ الثَّانِي إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ) جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ ( وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُجْزِيهِ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ ) يَعْنِي فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ وَمُخْتَلِفِهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ السَّتْرُ ( جِنْسٌ وَاحِدٌ ) وَالنِّيَّةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَبَقِيَ نِيَّةُ أَصْلِ الْكَفَّارَةِ ، وَلَوْ نَوَى أَصْلَ الْكَفَّارَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ فَكَذَا هَذَا ( وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ مِنْ كُلِّ ظِهَارٍ نِصْفَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ .
وَلَنَا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ لَغْوٌ ) قِيلَ مَعْنَاهُ نَوَى التَّوْزِيعَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَكَانَ لَغْوًا ، وَإِذَا لَغَتْ صَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ الظِّهَارَيْنِ وَلَمْ يَنْوِ عَنْهُمَا ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ نَوَى التَّوْزِيعَ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ وَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَلَا يَكُونُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ .
فَإِنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِالْإِعْتَاقِ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَاحِدٌ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ ) فَإِنَّ الْقَتْلَ يُخَالِفُ الظِّهَارَ لَا مَحَالَةَ ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَلْزُومُ السَّبَبِ ، وَاخْتِلَافُ اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَلْزُومَاتِ .
وَلَمَّا اخْتَلَفَ

الْجِنْسُ صَحَّتْ النِّيَّةُ فَكَانَ إعْتَاقَ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الرَّقَبَةِ فَلَا يَجُوزُ ، ثُمَّ نَظَرَ الْمُصَنِّفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَّحِدِ وَالْمُخْتَلِفِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فَقَالَ ( نَظِيرُ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي الْجِنْسَ الْمُتَّحِدَ ( إذَا صَامَ يَوْمًا قَضَاءَ رَمَضَانَ عَنْ يَوْمَيْنِ يَجْزِيهِ عَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ وَاحِدٍ ) بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ إلْغَاءِ نِيَّةِ التَّوْزِيعِ وَبَقَاءِ أَصْلِ النِّيَّةِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ ( وَنَظِيرُ الثَّانِي ) يَعْنِي الْجِنْسَ الْمُخْتَلِفَ ( إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ ) فَإِنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا عَنْهُمَا كَانَتْ النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً وَلَا يَصِيرُ صَائِمًا إذْ الْجِنْسُ مُخْتَلِفٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا إذَا نَوَى عَنْ قَضَاءِ ظُهْرَيْنِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِلَّا لَا يَقَعُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اتِّحَادَ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْخِطَابِ وَالسَّبَبِ ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَبَبًا وَخِطَابًا عَلَى حِدَةٍ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ الْجَمِيعَ ثَابِتٌ بِخِطَابٍ فَلْيَصُمْهُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَخْ .

( بَابُ اللِّعَانِ ) : قَالَ ( إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا وَطَالَبَتْهُ بِمُوجِبِ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } نَصٌّ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَقُلْنَا الرُّكْنُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ قَرَنَ الرُّكْنَ فِي جَانِبِهِ بِاللَّعْنِ لَوْ كَانَ كَاذِبًا وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا بِالْغَضَبِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا ، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا ، وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى وَلَدَهَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا ظَاهِرًا وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ شُبْهَةٍ ، كَمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِهِ .
فَنَفْيُهُ عَنْ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ قَذْفٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُلْحَقُ بِهِ

بَابُ اللِّعَانِ : قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي أَوَّلِ الظِّهَارِ .
وَاللِّعَانُ فِي اللُّغَةِ : الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ ، يُقَالُ لَاعَنَهُ مُلَاعَنَةً وَلِعَانًا ، ثُمَّ لُقِّبَ الْبَابُ بِاللِّعَانِ دُونَ الْغَضَبِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْغَضَبُ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّعْنَ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ شَهَادَاتٌ تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ ، وَسَبَبُهُ قَذْفُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَشَرْطُهُ النِّكَاحُ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ لَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا .
وَرُكْنُهُ الشَّهَادَاتُ الْمَخْصُوصَةُ الَّتِي تَجْرِي بِكَلِمَاتٍ مَعْرُوفَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ .
وَحُكْمُهُ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ كَمَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ) أَيْ مِنْ أَهْلِ أَدَائِهَا وَلِهَذَا لَا يُجْرَى بَيْنَ الْمَمْلُوكَيْنِ ( وَالْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا ) حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَدَخَلَ بِهَا أَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا ( أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا وَطَالَبَتْهُ بِمُوجِبِ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ) فَإِنْ قِيلَ : اللِّعَانُ يَجْرِي بَيْنَ الْأَعْمَيَيْنِ وَالْفَاسِقَيْنِ وَلَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَتَخْصِيصُ الْمَرْأَةِ بِكَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا غَيْرُ مُفِيدٍ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لَا يَجْرِي وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ جَازَ ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِئَلَّا يَخْلُوَ الْقَذْفُ عَنْ إيجَابِ حُكْمٍ ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الرَّجُلَ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ لِأَنَّ

اللِّعَانَ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ يَقْتَضِي إحْصَانَهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ وَقَذَفَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَلَمْ يَخْلُ الْقَذْفُ عَنْ إيجَابِ حُكْمٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصْلُ ) اعْلَمْ أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ كَانَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إذْ دَخَلَ أَنْصَارِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا ، فَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ افْتَحْ ، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ } " وَلِأَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ : ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا تُجْلَدُ عَلَى ظَهْرِك فَقَالَ الصَّحَابَةُ : الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ } ، فَثَبَتَ أَنَّ مُوجِبَ الْقَذْفِ فِي الزَّوْجَةِ كَانَ الْحَدَّ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ ، فَنَظَرْنَا فِي آيَةِ اللِّعَانِ فَوَجَدْنَاهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَ شَهَادَاتٍ مُؤَكَّدَاتٍ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةً بِاللَّعْنِ قَائِمَةً مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْأَزْوَاجَ مِنْ الشُّهَدَاءِ .
وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجِنْسِ ، وَلَا شُهَدَاءَ إلَّا بِالشَّهَادَةِ وَلَا شَهَادَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا كَلِمَاتُ اللِّعَانِ فَدَلَّ أَنَّهَا شَهَادَاتٌ أُكِّدَتْ بِالْأَيْمَانِ

نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } نَصَّ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ ، فَقُلْنَا : الرُّكْنُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ قَرَنَ الرُّكْنَ فِي جَانِبِهِ بِاللَّعْنِ لَوْ كَانَ كَاذِبًا تَأْكِيدًا وَهُوَ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا بِالْغَضَبِ لِأَنَّهُنَّ يَسْتَعْمِلْنَ اللَّعْنَ فِي كَلَامِهِنَّ كَثِيرًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّهُنَّ يُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ } " وَسَقَطَتْ حُرْمَةُ اللَّعْنِ عَنْ أَعْيُنِهِنَّ فَعَسَاهُنَّ يَجْتَرِئْنَ عَلَى الْإِقْدَامِ لِكَثْرَةِ جَرْيِ اللَّعْنِ عَلَى أَلْسِنَتِهِنَّ وَسُقُوطِ وَقْعِهِ عَنْ قُلُوبِهِنَّ فَقَرَنَ الرُّكْنَ فِي جَانِبِهَا بِالْغَضَبِ رَدْعًا لَهُنَّ عَنْ الْإِقْدَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا مَعْنَى إقَامَةِ الشَّهَادَةِ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الطَّرَفَيْنِ وَمَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالشَّهَادَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ زَاجِرٌ ، وَالِاسْتِشْهَادَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا مَقْرُونًا بِاللَّعْنِ عَلَى نَفْسِهِ سَبَبُ الْهَلَاكِ ، وَفِي ذَلِكَ زَجْرٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى سَبَبِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ اللِّعَانُ قَائِمًا فِي حَقَّةِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ يَجْرِي كَجَرَيَانِهِ فِي الِاتِّحَادِ وَالتَّعَدُّدِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ لَهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي كَلَامٍ مُتَفَرِّقٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ ، وَإِنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّاتٍ فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُنَّ مَرَّةً وَاحِدَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ لَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ صَارَ بَدَلًا عَمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِقَذْفِهَا فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْأَجْنَبِيَّاتُ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ دَفْعُ عَارِ الزِّنَا عَنْهُنَّ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ ، وَهَاهُنَا لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ لِتَعَذُّرِ

الْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ بِكَلِمَاتِ اللِّعَانِ ، فَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، وَالْمَقْصُودُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِلِعَانِ بَعْضِهِنَّ فَيُلَاعِنُ كُلًّا مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ كَانَ عَلَيْهِ لَهُنَّ حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّ مُوجَبَ قَذْفِهِنَّ الْحَدُّ حِينَئِذٍ ، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ اللِّعَانَ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالشَّهَادَةِ ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ كَانَ أَهْلًا لِلِّعَانِ .
قَالَ ( إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ نَقُولُ ( لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَلَاعِنَانِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الشَّهَادَةُ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِحْصَانِ ، وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى وَلَدَهَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا ) كَمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَ وَلَدٍ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا لِلْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا ( وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِهِ ، فَنَفْيُهُ عَنْ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ قَذْفٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُلْحَقُ بِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِيرُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ قَاذِفًا لَهَا مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّهُ مِنْ الزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي وَلَدْته مِنْ زَوْجِك فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا مَا لَمْ يَقُلْ وُلِدَ مِنْ الزِّنَا بِالِاتِّفَاقِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِضَرُورَةٍ فِي اللِّعَانِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ بِأَنْ لَمْ

يَطَأْهَا أَوْ عَزَلَ عَنْهَا عَزْلًا بَيِّنًا وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِزِنًا أَوْ بِوَطْءٍ عَنْ شُبْهَةٍ فَاكْتَفَى بِنَفْيِ الْوَلَدِ حَتَّى يَنْتَفِيَ عَنْهُ نَسَبُ الْوَلَدِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مَعْدُومَةٌ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ .

وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ( فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ فَيُحْبَسُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ ( وَلَوْ لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ ) لِمَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ إلَّا أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي ( فَإِنْ امْتَنَعَتْ حَبَسَهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ فَتُحْبَسُ فِيهِ .

( وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا بِمُوجَبِ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ حَقُّهَا ) لِأَنَّهُ بِاللِّعَانِ يَنْدَفِعُ عَارُ الزِّنَا عَنْهَا ( فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ اللِّعَانِ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ فَيُحْبَسُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ ) وَفِي نُسْخَةٍ : لِيَرْتَفِعَ الشَّيْنُ ، وَمَعْنَى النُّسْخَةِ الْأُولَى لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ : أَيْ سَبَبُ اللِّعَانِ : أَيْ عِلَّتُهُ وَهُوَ التَّكَاذُبُ لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَكْذَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ فِيمَا يَدَّعِيهِ بَعْدَ قَذْفِ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا ؛ وَأَمَّا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَلَمْ يَبْقَ التَّكَاذُبُ بَلْ وَافَقَ الْمَرْأَةَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَزْنِ وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا النُّسْخَةُ الْأُخْرَى فَقِيلَ إنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عَلَى زَعْمِ أَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ لَا يَرْتَفِعُ بِالْإِكْذَابِ بَلْ يَتَقَرَّرُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْإِكْذَابِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَذْفِ لَكِنْ يَرْتَفِعُ الشَّيْنُ بِالتَّكَاذُبِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِالسَّبَبِ الشَّرْطَ لِأَنَّ التَّكَاذُبَ شَرْطُ اللِّعَانِ : قِيلَ قَوْلُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إيفَائِهِ فَلَا يُحْبَسُ ( وَلَوْ لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ لِمَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ وَالْمُطَالِبُ بِهَا هُوَ الْمُدَّعِي وَالِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى لَكِنَّ كَأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ الْمَتْلُوُّ مِنْ النَّصِّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَبْدُوءِ بِهِ فَقَالَ إلَّا أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47