كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ؛ فَإِنَّ أَدْنَى مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ وقَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ إذَا زَالَ الْإِحْرَامُ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَلَوْ ذَكَرَ مَكَانَهُ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } كَانَ أَنْسَبَ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يُرْوَ خِلَافٌ لِأَحَدٍ فِي إبَاحَتِهِ فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ ، وَالِاكْتِسَابُ مُبَاحٌ كَالِاحْتِطَابِ ) اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْقُولِ .

( فَصْلٌ فِي الْجَوَارِحِ ) : قَالَ ( وَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وَالْجَوَارِحُ : الْكَوَاسِبُ قَالَ فِي تَأْوِيلِ الْمُكَلِّبِينَ : الْمُسَلَّطِينَ ، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْأَسَدُ وَالدُّبُّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِغَيْرِهِمَا الْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ ، وَأَلْحَقَ بِهِمَا بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ لِخَسَاسَتِهَا ، وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ ؛ لِأَنَّ مَا تَلُونَا مِنْ النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثِ بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ آلَةً بِالتَّعْلِيمِ لِيَكُونَ عَامِلًا لَهُ فَيَتَرَسَّلُ بِإِرْسَالِهِ وَيُمْسِكُهُ عَلَيْهِ .

فَصْلُ فِي الْجَوَارِحِ ) قَدَّمَ فَصْلَ الْجَوَارِحِ عَلَى فَصْلِ الرَّمْيِ لِمَا أَنَّ آلَةَ الصَّيْدِ هَاهُنَا حَيَوَانٌ وَفِي الرَّمْيِ جَمَادٌ ، وَلِلْفَاضِلِ تَقَدُّمٌ عَلَى الْمَفْضُولِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ إلَخْ ) يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْفَهْدِ الْمُعَلَّمِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ ، وَهَذَا بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْأَسَدَ وَالذِّئْبَ وَالدُّبَّ وَالْخِنْزِيرَ ، لَكِنَّ الْخِنْزِيرَ لِكَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمْ يَسْتَثْنِهِ ، وَالْبَاقِيَةُ إنْ أَمْكَنَ تَعْلِيمُهَا جَازَ الِاصْطِيَادُ بِهَا ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا : لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْأَسَدِ وَالدُّبِّ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا إذَا أَمْسَكَا صَيْدًا لَا يَأْكُلَانِهِ فِي الْحَالِ ، وَالتَّعَلُّمُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ تَرَكَ عَادَةً أَوْ تَعَلُّمًا ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ لَأَنْ يُمْسِكَ لِلْغَيْرِ وَالْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ ، وَلِهَذَا اسْتَثْنَاهُمَا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ بِالدُّبِّ لِمَعْنَى الْخَسَاسَةِ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَوْلِهِ : وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ : أَيْ فِيمَا سِوَى الْمُعَلَّمَةِ مِنْ ذِي النَّابِ وَالْمِخْلَبِ ، فَإِنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرُ ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمِيعًا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِالْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى

الْقِرَانِ وَهَاهُنَا قَدْ دَلَّ ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } فَإِنْ لَمْ يَكُنْ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ شَرْطِيَّةً ، وَجَوَابُهُ { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى .
وَالْجَوَارِحُ : الْكَوَاسِبُ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } وَإِنَّمَا قَالَ فِي تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلٍ آخَرَ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ مِنْ الْجِرَاحَةِ ، وَالْمُكَلِّبِينَ بِمَعْنَى الْمُسَلَّطِينَ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّأْدِيبُ غَالِبًا فِي الْكِلَابِ اُشْتُقَّ مِنْ لَفْظِهِ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ إلَّا بِالْكَلْبِ مُسْتَدِلِّينَ بِلَفْظِ مُكَلِّبِينَ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ .
وَقَالَ : وَاسْمُ الْكَلْبِ يَقَعُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي دُعَائِهِ " { اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك } " فَافْتَرَسَهُ الْأَسَدُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ

قَالَ ( تَعْلِيمُ الْكَلْبِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَتَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ يَرْجِعَ وَيُجِيبَ إذَا دَعَوْتَهُ ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ بَدَنَ الْبَازِيِّ لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ ، وَبَدَنُ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُهُ فَيُضْرَبُ لِيَتْرُكَهُ ، وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ أَلُوفٌ عَادَةً ، وَالْبَازِيُّ مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ فَكَانَتْ الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ وَأَمَّا الْكَلْبُ فَهُوَ مَأْلُوفٌ يَعْتَادُ الِانْتِهَابَ فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ مَأْلُوفِهِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ ثُمَّ شُرِطَ تَرْكُ الْأَكْلِ ثَلَاثًا وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَهُ مَزِيدَ الِاحْتِمَالِ فَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ شِبَعًا ، فَإِذَا تَرَكَهُ ثَلَاثًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَادَةً لَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِلِاخْتِبَارِ وَإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَفِي بَعْضِ قَصَصِ الْأَخْيَارِ : وَلِأَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ أَمَارَةً عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَلِيلِ ، وَالْجَمْعُ هُوَ الْكَثِيرُ وَأَدْنَاهُ الثَّلَاثُ فَقُدِّرَ بِهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ : لَا يَثْبُتُ التَّعْلِيمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الصَّائِدِ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ ، وَلَا يُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ اجْتِهَادًا بَلْ نَصًّا وَسَمَاعًا وَلَا سَمْعَ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فِي جِنْسِهَا وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى عِنْدَهُ يَحِلُّ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِ وَقَبْلَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ، فَكَانَ الثَّالِثُ صَيْدَ كَلْبٍ جَاهِلٍ وَصَارَ كَالتَّصَرُّفِ الْمُبَاشِرِ فِي سُكُوتِ الْمَوْلَى وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ تَعْلِيمِهِ عِنْدَهُ فَكَانَ هَذَا صَيْدَ جَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ دُونَ

عِلْمِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ آيَةَ تَعْلِيمِهِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً ) .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْبَازِي لَا غَيْرُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِذَا أُرِيدَ الْفَرْقُ عُمُومًا فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي بَعْضِ قَصَصِ الْأَخْيَارِ ) قِيلَ أَرَادَ بِهِ حِكَايَةَ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ فِي الْكَرَّةِ الثَّالِثَةِ { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِك } وَقَوْلُهُ ( كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فِي جِنْسِهَا ) أَيْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِنْسِ الْمَقَادِيرِ نَحْوُ حَبْسِ الْغَرِيمِ وَحَدِّ التَّقَادُمِ وَتَقْدِيرِ مَا غَلَبَ فِي نَزْحِ مَاءِ الْبِئْرِ الْمُعَيَّنَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ تَعْلِيمِهِ عِنْدَهُ ) أَيْ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ عَلَامَةُ تَعْلِيمِهِ عِنْدَ الثَّالِثِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا بِطَرِيقِ تَعْيِينِ إمْسَاكِهِ الثَّالِثِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِذَا حَكَمْنَا أَنَّهُ يُمْسِكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَقَدْ أَخَذَهُ بَعْدَ إرْسَالِ صَاحِبِهِ فَيَحِلُّ

قَالَ ( وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ أَوْ بَازِيَهُ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إرْسَالِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَجَرَحَهُ فَمَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِي آلَةٌ ، وَالذَّبْحُ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْآلَةِ إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ فِيهِمَا بِالْإِرْسَالِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الرَّمْيِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهُ وَلَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا حَلَّ أَيْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَحُرْمَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي الذَّبَائِحِ وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِيَتَحَقَّقَ الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيُّ وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ بِانْتِسَابِ مَا وُجِدَ مِنْ الْآلَةِ إلَيْهِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } مَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ بِمَعْنَى الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبُ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا تَنَافِيَ ، وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ رُجُوعًا إلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .

وَقَوْلُهُ ( فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ) يُرِيدُ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ قَتَلَ الْكَلْبُ أَوْ الْبَازِي الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ جَرْحٍ لَا يَحِلُّ ، وَأَشَارَ فِي الْأَصْلِ إلَى أَنَّهُ يَحِلُّ ، وَالْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي تَأْوِيلٍ ) يَعْنِي غَيْرَ مَا أَوَّلْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ فِي تَأْوِيلٍ .
وَذَلِكَ مَا يَكُونُ جَارِحًا حَقِيقَةً بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ : يَعْنِي يُجْمَعُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ النَّصَّ إذَا أُورِدَ وَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يَثْبُتُ الْجَمِيعُ أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } قِيلَ أُرِيدَ بِهِ الْحَبَلُ ، وَقِيلَ الْحَيْضُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مُرَادَانِ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ هَاهُنَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْجَرْحَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْجَرْحِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْجِرَاحَةُ ، أَوْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } فَإِنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ بِالتَّوَاطُؤِ وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ ) أَيْ فِي الْجَارِحِ الْكَاسِبِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ .
وَقَوْلُهُ ( رُجُوعًا إلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي مَا سَبَقَ مِنْ الْكَوَاسِبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ

قَالَ ( فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ ) وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ ( وَلَوْ أَنَّهُ صَادَ صُيُودًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ هَذَا الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ الْجَهْلِ ، وَلَا مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الصُّيُودُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قَبْلُ فَمَا أَكَلَ مِنْهَا لَا تَظْهَرُ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ صَاحِبُهُ بَعْدَ تَثَبُّتِ الْحُرْمَةِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَا هُوَ مُحْرَزٌ فِي بَيْتِهِ يَحْرُمُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا هُمَا يَقُولَانِ : إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ قَدْ تُنْسَى ، وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَائِهِ صَيْدًا مِنْ وَجْهٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَحَرَّمْنَاهُ احْتِيَاطًا وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ جَهْلِهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ لَا يُنْسَى أَصْلُهَا ، فَإِذَا أَكَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَرَكَ الْأَكْلَ لِلشِّبَعِ لَا لِلْعِلْمِ ، وَتَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ فَصَارَ كَتَبَدُّلِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَضَاءِ

وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ ) يَعْنِي حَدِيثَ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ : كُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ } " وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لَهُمَا أُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُعَارِضُ قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ " { فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } " وَقَوْلُهُ ( عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا ابْتِدَاءً ) أَرَادَ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا إلَخْ ، وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الصَّيُودُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قَبْلُ ) وَاضِحٌ ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ فِي الْمُحْرَزِ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَحْكُمُ بِجَهْلِهِ مُسْتَنِدًا ، وَهُمَا يَقُولَانِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا أُكِلَ ، لِأَنَّ مَا أَحْرَزَهُ الْمَالِكُ حَكَمَ بِإِبَاحَتِهِ بِاجْتِهَادٍ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهُوَ الْإِحْرَازُ فَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ مِثْلِهِ بَعْدَهُ .
وَالْجَوَابُ مَا قَالَ ، وَتَبَدُّلُ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَكْلُ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ كَتَبَدُّلِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَضَاءِ .
وَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ صُوَرِهِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ إذَا تَصَادَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى جَهَالَةِ الْكَلْبِ .

( وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ صَادَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا صَارَ بِهِ عَالِمًا فَيُحْكَمُ بِجَهْلِهِ كَالْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِوَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ صَادَ ) يَعْنِي بَعْدَمَا رَجَعَ إلَى صَاحِبِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَأَمَّا قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَلَا شُبْهَةَ فِي حُرْمَةِ مَا صَادَهُ لِانْتِفَاءِ الْإِرْسَالِ ، وَمَسْأَلَةُ الْوَثْبَةِ فِي الْكِتَابِ مَعْلُومَةٌ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا وَثَبَ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَكَلَ وَبَيْنَ مَا أَكَلَ بَعْدَمَا قَتَلَ ، فَإِنَّ الصَّيْدَ كَمَا خَرَجَ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ جَازَ أَنْ يَخْرُجَ أَيْضًا بِقَتْلِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالْأَكْلِ حَتَّى أَخَذَهُ صَاحِبُهُ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى صَاحِبِهِ وَانْتِهَاسُهُ مِنْهُ وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي خَلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ ، أَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ الْأَخْذِ فَقَدْ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى نَفْسِهِ .

( وَلَوْ شَرِبَ الْكَلْبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لِلصَّيْدِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ عِلْمِهِ حَيْثُ شَرِبَ مَا لَا يَصْلُحُ لِصَاحِبِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ

( وَلَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ مِنْ الْمُعَلَّمِ ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ قِطْعَةً وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَى إلَيْهِ طَعَامًا غَيْرَهُ ، وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَكَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ ، وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ جِهَةُ الصَّيْدِيَّةِ

( وَلَوْ نَهَسَ الصَّيْدَ فَقَطَعَ مِنْهُ بِضْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ كَلْبٍ جَاهِلٍ حَيْثُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدَ

( وَلَوْ أَلْقَى مَا نَهَسَهُ وَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِضْعَةِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ، فَإِذَا أَكَلَ مَا بَانَ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ فِي حَالَةِ الِاصْطِيَادِ فَكَانَ جَاهِلًا مُمْسِكًا لِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ نَهْسَ الْبِضْعَةِ قَدْ يَكُونُ لِيَأْكُلَهَا وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً فِي الِاصْطِيَادِ لِيَضْعُفَ بِقَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ فَيُدْرِكَهُ ، فَالْأَكْلُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَبَعْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ ، وَإِنْ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَكَذَا الْبَازِيُّ وَالسَّهْمُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، إذْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ ، وَهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ أَمَّا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدَرَ اعْتِبَارًا ؛ لِأَنَّهُ ثَبَّتَ يَدَهُ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي أَمْرِ الذَّبْحِ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ مِثْلُ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا إذَا وَقَعَ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمُذْبَحٍ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِيهَا تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِفَقْدِ الْآلَةِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِضِيقِ الْوَقْتِ لَمْ يُؤْكَلْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَبَطَلَ حُكْمُ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ ، أَمَّا إذَا شَقَّ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَلَّ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا وَقَعَتْ شَاةٌ فِي الْمَاءِ بَعْدَمَا ذُبِحَتْ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُؤْكَلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ رُدَّ إلَى الْمُتَرَدِّيَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا

الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا تَرَكَ التَّذْكِيَةَ ، فَلَوْ أَنَّهُ ذَكَّاهُ حَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَاَلَّذِي يَبْقُرُ الذِّئْبُ بَطْنَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ خَفِيَّةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } اسْتَثْنَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ بِالذَّبْحِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ( وَلَوْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَوْ أَخَذَهُ أَمْكَنَهُ ذَبْحُهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الذَّبْحِ لَمْ يُوجَدْ ( وَإِنْ أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ حَلَّ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَالذَّكَاةُ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ وُجِدَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى الذَّبْحِ

قَالَ ( وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ إلَخْ ) الْمُرْسِلُ إنْ أَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ وَلَمْ يَذْبَحْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَيَاةُ فِيهِ بَيِّنَةً أَوْ خَفِيَّةً ، وَإِنْ ذَبَحَ حَلَّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْبَازِيِّ وَالسَّهْمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَدَلِ إبَاحَةُ الْأَكْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ مَوْتِهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ ذَلِكَ تُبْطِلُ الْبَدَلَ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ لِعَدَمِ الْآلَةِ أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْكَلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الذَّبْحِ فَصَارَ كَمَنْ رَأَى الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ حَقِيقَةً فَقَدْ قَدَرَ اعْتِبَارًا لِأَنَّهُ تَثْبُتُ يَدُهُ عَلَى الْمَذْبُوحِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ : أَيْ اعْتِبَارُ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُدَّةٍ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي أَمْرِ الذَّبْحِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَكَّنُ فِي سَاعَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ فِي أَكْثَرَ .
وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ فَأُدِيرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْمَذْبَحِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَيَاةُ فِيهِ فَوْقَ مَا تَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ بَلْ كَانَتْ بِمِقْدَارِ مَا يَكُونُ فِيهِ وَلَمْ يَذْبَحْ حَتَّى مَاتَ أُكِلَ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ

حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَحْرُمُ كَمَا إذَا وَقَعَ وَهُوَ مَيِّتٌ ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَذْبَحٍ : أَيْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلذَّبْحِ فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى الذَّبْحِ لِيُقَامَ مَقَامَ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ .
وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ فِيهِ فَوْقَ مَا تَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَدَمُ التَّمَكُّنِ لِفَقْدِ الْآلَةِ لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ ، وَإِنْ كَانَ لِضِيقِ الْوَقْتِ لَمْ يُؤْكَلْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ قَالُوا : لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ وَلَمْ يُفَرِّطْ فَكَانَ حَلَالًا .
وَقُلْنَا : وَقَعَ فِي يَدِهِ وَهُوَ حَيٌّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَبَطَلَ حُكْمُ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا تَكُونُ الْحَيَاةُ فِيهِ فَوْقَ مَا تَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ضِيقُ الْوَقْتِ عَنْ الذَّبْحِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ لِكَوْنِ الصَّيْدِ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ لَا يَسَعُ الذَّبْحَ فَكَانَ عَدَمُ التَّمَكُّنِ مُتَصَوَّرًا ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إقَامَةِ ثُبُوتِ الْيَدِ مَقَامَ التَّمَكُّنِ حَتَّى لَا يَحِلَّ بِدُونِ الذَّكَاةِ فِيمَا إذَا كَانَ بَقَاؤُهُ مُتَوَهَّمًا .
أَمَّا إذَا شَقَّ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُدْرِكْهُ حَلَّ ، لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ مَذْبُوحٍ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا وَقَعَتْ شَاةٌ فِي الْمَاءِ بَعْدَ مَا ذُبِحَتْ ( وَقِيلَ ) هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ ( هَذَا قَوْلُهُمَا .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُؤْكَلُ هَذَا أَيْضًا لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ رَدًّا إلَى الْمُتَرَدِّيَةِ ) أَيْ اعْتِبَارًا بِهَا ( هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا ) أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُ إذَا شَقَّ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ إذَا تَرَكَ

التَّذْكِيَةَ ، فَأَمَّا إذَا ذَكَّاهُ فَقَدْ حَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، ( وَكَذَا الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَاَلَّذِي بُقِرَ ) أَيْ شَقَّ ( الذِّئْبُ بَطْنَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ خَفِيَّةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ ) إذَا ذُبِحَ حَلَّ عِنْدَهُ ( وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } اسْتَثْنَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ) وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا بُدَّ مِنْ حَيَاةٍ بَيِّنَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ بِالذَّبْحِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا بُدَّ مِنْ حَيَاةٍ بَيِّنَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ حَلَّ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلَا ( لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا ، وَقِيلَ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ) يُرِيدُ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِيمَا أَخَذَهُ الصَّائِدُ وَهَاهُنَا أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا

( وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ وَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ ) وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إرْسَالٍ ؛ إذْ الْإِرْسَالُ مُخْتَصٌّ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَنَا أَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حُصُولُ الصَّيْدِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَعْلِيمُهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْخُذُ مَا عَيَّنَهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ ) يَعْنِي صَيْدًا مُعَيَّنًا ( فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ حَلَّ ) يَعْنِي مَا دَامَ فِي وَجْهِ إرْسَالِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّهُ ) أَيْ شَرْطَ التَّعْيِينِ ( شَرْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حُصُولُ الصَّيْدِ ) وَالْجَمِيعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ صَيْدًا مُعَيَّنًا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ ، إذْ لَا يَقْدِرُ الصَّائِدُ أَوْ الْكَلْبُ عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْخُذُ مَا عَيَّنَهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ

( وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ كَثِيرٍ وَسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً حَالَةَ الْإِرْسَالِ ، فَلَوْ قَتَلَ الْكُلَّ يَحِلُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْوَاحِدَةِ ) ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَقَعُ بِالْإِرْسَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ فَيَكْفِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، بِخِلَافِ ذَبْحِ الشَّاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَصِيرُ مَذْبُوحَةً بِفِعْلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى ، حَتَّى لَوْ أَضْجَعَ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ، وَذَبَحَهُمَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ تَحِلَّانِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍوَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الذَّبَائِحِ حَيْثُ قَالَ : تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ الْإِرْسَالِ

( وَمَنْ أَرْسَلَ فَهْدًا فَكَمَنْ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ ) ؛ لِأَنَّ مُكْثَهُ ذَلِكَ حِيلَةٌ مِنْهُ لِلصَّيْدِ لَا اسْتِرَاحَةٌ فَلَا يَقْطَعُ الْإِرْسَالَ ( وَكَذَا الْكَلْبُ إذَا اعْتَادَ عَادَتَهُ )

( وَلَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ فَقَتَلَهُ وَقَدْ أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أُكِلَا جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَأَصَابَ آخَرَ ( وَلَوْ قَتَلَ الْأَوَّلَ فَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا مِنْ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ صَيْدٌ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ الثَّانِي ) لِانْقِطَاعِ الْإِرْسَالِ بِمُكْثِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَةً مِنْهُ لِلْأَخْذِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرَاحَةً ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ

( وَلَوْ أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَمْكُثْ زَمَانًا طَوِيلًا لِلِاسْتِرَاحَةِ ، وَإِنَّمَا مَكَثَ سَاعَةً لِلتَّمْكِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلْبِ

( وَلَوْ أَنَّ بَازِيًا مُعَلَّمًا أَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَلَا يُدْرَى أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ أَمْ لَا لَا يُؤْكَلُ ) لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْإِرْسَالِ ، وَلَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِدُونِهِ .

قَالَ ( وَإِنْ خَنَقَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ شَرْطُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ جِرَاحَةٌ بَاطِنَةٌ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ الظَّاهِرَةِ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جُرْحٌ يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكَسْرِ فَأَشْبَهَ التَّخْنِيقَ

قَالَ ( وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ ) لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحْرِمُ فَيَغْلِبُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ نَصًّا أَوْ احْتِيَاطًا ( وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ الثَّانِي وَلَمْ يَجْرَحْهُ مَعَهُ وَمَاتَ بِجُرْحِ الْأَوَّلِ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ) لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَخْذِ وَفَقْدِهَا فِي الْجُرْحِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ الْمَجُوسِيُّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ وَتَتَحَقَّقُ بَيْنَ فِعْلَيْ الْكَلْبَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ ( وَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ الْكَلْبُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ أَشَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى الصَّيْدِ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَثَرٌ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ حَيْثُ ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَدَّهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ تَبَعًا فَيُضَافُ إلَيْهِمَا .

وَقَوْلُهُ ( فَيَغْلِبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ نَصًّا ) أَيْ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } " .
وَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : أَحَدُهَا مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْكَلْبَانِ فِي الْأَخْذِ وَالْجَرْحِ ، وَفِيهِ الْحُرْمَةُ لِمَا رَوَيْنَاهُ .
وَالثَّانِي مَا اشْتَرَكَا فِيهِ فِي الْأَخْذِ دُونَ الْجَرْحِ ، وَفِيهِ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ جِهَةَ الْحِلِّ أَرْجَحُ ، لِأَنَّ الْمُعَلَّمَ تَفَرَّدَ بِالْجَرْحِ .
وَالثَّالِثُ مَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي شَيْءٍ لَكِنَّ الثَّانِي أَشَدُّ : أَيْ حُمِلَ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى الصَّيْدِ ، وَفِيهِ الْإِبَاحَةُ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يُشَارِكْ الْأَوَّلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ فَكَانَ فِعْلُهُ تَبَعًا لِفِعْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ

قَالَ ( وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ ) وَالْمُرَادُ بِالزَّجْرِ الْإِغْرَاءُ بِالصِّيَاحِ عَلَيْهِ ، وَبِالِانْزِجَارِ إظْهَارُ زِيَادَةِ الطَّلَبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ قَالَ ( وَلَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ ، وَكُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ ذَكَاتُهُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْمُحْرِمِ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِيِّ ( وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ نَاسِخًا ( وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَدْرَكَهُ فَضَرَبَهُ وَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ أُكِلَ ، وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعْلِيمِ فَجُعِلَ عَفْوًا ( وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبًا فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا وَقَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَالْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِجُرْحِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ إلَخْ ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِالْأَقْوَى وَالْمُسَاوِي دُونَ الْأَدْنَى ، فَإِذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ وَزَجَرَهُ : أَيْ أَغْرَاهُ الْمَجُوسِيُّ حَلَّ أَكْلُهُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الزَّجْرِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِ الزَّجْرِ دُونَهُ لِبِنَائِهِ عَلَيْهِ .
وَنُوقِضَ بِالْمُحْرِمِ إذَا زَجَرَ كَلْبَ حَلَالٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْمُحَرَّمِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ بِمَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الدَّلَالَةُ فَوَجَبَ بِالزَّجْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَإِذَا أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ لَمْ يُؤْكَلْ كَذَلِكَ وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ ( لَمْ يَثْبُتْ بِهِ ) أَيْ بِالزَّجْرِ ( شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ ) يَعْنِي فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ أَسْرَعُ ثُبُوتًا لِغَلَبَةِ الْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ دَائِمًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ : يَعْنِي بِزَجْرِ الْمُسْلِمِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي حِلِّ الصَّيْدِ بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ ) يَعْنِي أَنَّ الِانْزِجَارَ إنْ كَانَ دُونَ الِانْفِلَاتِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ الزَّجْرُ نَاسِخًا وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَذَهُ ) أَيْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً أَثْخَنَتْهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْجَرْحِ بَعْدَ الْجَرْحِ ) دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ الضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَتَلَ الْكَلْبُ بِهَا الصَّيْدَ إنَّمَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْإِثْخَانِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الصَّيْدِيَّةِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَحِلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ مُلْحَقٌ بِالدَّوَاجِنِ فَيَحِلُّ الذَّبْحُ لَا بِضَرْبِ الْكَلْبِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَفْعُهُ ، وَمَا

تَعَذَّرَ رَفْعُهُ تَقَرَّرَ عَفْوُهُ .
وَقَوْلُهُ ( بِجَرْحِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ كَانَتْ ذَكَاتُهُ بَعْدَ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ .
لَا بِجَرْحِ الْكَلْبِ فَجَرْحُ الْكَلْبِ فِي مِثْلِهِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ غَلَبَ الْحُرْمَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ ) : ( وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا عَلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ حَلَّ الْمُصَابُ ) أَيَّ صَيْدٍ كَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرَ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ السِّبَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثَرُ فِي جِلْدِهَا وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ فَوَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ تَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَتَثْبُتُ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ لَحْمًا وَجِلْدًا ، وَقَدْ لَا تَثْبُتُ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ ، وَإِذَا وَقَعَ اصْطِيَادًا صَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ ( وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ ) ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ ( وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ رَمَى إلَى طَائِرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَمَرَّ الطَّائِرُ وَلَا يَدْرِي وَحْشِيٌّ هُوَ أَوْ غَيْرُ وَحْشِيٍّ حَلَّ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّوَحُّشُ ( وَلَوْ رَمَى إلَى بَعِيرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَا يَدْرِي نَادٌّ هُوَ أَمَّ لَا لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الِاسْتِئْنَاسُ ( وَلَوْ رَمَى إلَى سَمَكَةٍ أَوْ جَرَادَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يَحِلُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهِمَا ( وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ وَقَدْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ يَحِلُّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ ( فَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أُكِلَ مَا أَصَابَ إذَا جَرَحَ السَّهْمُ فَمَاتَ ) ؛ لِأَنَّهُ ذَابِحٌ بِالرَّمْيِ لِكَوْنِ

السَّهْمِ آلَةً لَهُ فَتُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ مَحَلٌّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الذَّكَاةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَالَ ( وَإِذَا أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهَا بِوُجُوهِهَا ، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَا نُعِيدُهُ

( فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْجَمَادِيَّةِ .
وَالْحِسُّ : الصَّوْتُ الْخَفِيُّ ( وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازِيَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا ) ظَبْيًا مَثَلًا ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ آدَمِيٌّ أَوْ بَقَرٌ أَوْ شَاةٌ لَمْ يَحِلَّ الظَّبْيُ الْمُصَابُ مَثَلًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى غَيْرِ صَيْدٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى آدَمِيٍّ عَالِمًا بِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ ( وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ صَيْدٌ حَلَّ الْمُصَابُ أَيَّ صَيْدٍ كَانَ ) الْمَسْمُوعُ حِسُّهُ : يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ( لِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ إذَا ظَهَرَ خِنْزِيرًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ الصَّيْدِ الْمُصَابِ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ سَائِرِ السِّبَاعِ ) لِأَنَّهُ أَيْ الِاصْطِيَادُ ( يُؤَثِّرُ فِي جِلْدِهَا ، وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسْمُوعِ حِسُّهُ ( مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ ) فَكَانَ هُوَ وَالْآدَمِيُّ سَوَاءً ( وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْمَأْكُولُ وَغَيْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ فَإِذَا قَصَدَ بِفِعْلِهِ الِاصْطِيَادَ وَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا ، إذْ الِاصْطِيَادُ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ يُفِيدُ إبَاحَةَ الْمُصَابِ بِشَرْطِ قَبُولِهِ الْإِبَاحَةَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا كَمَا إذَا كَانَ خِنْزِيرًا لَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ عَنْ كَوْنِهِ اصْطِيَادًا مُبَاحًا .
وَإِذَا قَتَلَهَا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ تَثْبُتُ إبَاحَةُ تَنَاوُلِهِ لِغَيْرِ السِّبَاعِ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ تَثْبُتُ إبَاحَةُ جِلْدِهِ

فَثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ اصْطِيَادًا ، وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا وَقَعَ اصْطِيَادًا كَانَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ ) قَدَّمْنَاهُ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ ) إذْ الِاصْطِيَادُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ مُتَوَحِّشٍ ، وَعَلَى هَذَا فَالدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ ، وَالظَّبْيُ الْمُوثَقُ : أَيْ الْمَشْدُودُ بِالْوَثَاقِ بِمَنْزِلَتِهِ : أَيْ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ ، ثُمَّ إذَا جَهِلَ تَوَحُّشَ الْمَقْصُودِ بِرَمْيِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَصْلُ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمَسْأَلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهِمَا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ كَوْنَ مَا تَبَيَّنَ حِسُّهُ مِنْ الصَّيُودِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ حَلَّ أَكْلُهُ مَشْرُوطًا بِالذَّبْحِ ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ ظَبْيًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ سَمَكَةٌ لَمْ يُؤْكَلْ الصَّيْدُ ، وَلَوْ سَمِعَ حِسًّا وَظَنَّهُ آدَمِيًّا وَرَمَاهُ فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ وَهُوَ صَيْدٌ حَلَّ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِ كَوْنِهِ صَيْدًا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ صَيْدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ رَمْيَ الْآدَمِيِّ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَصَدَ رَمْيِ الْآدَمِيِّ وَرَمْيُ الْآدَمِيِّ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ وَقَدْ حَلَّ الْمُصَابُ .
وَالْقِيَاسُ إمَّا شُمُولُ الْحِلِّ أَوْ شُمُولُ عَدَمِهِ أَوْ انْعِكَاسُ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الْمُصَابُ مَعَ اقْتِرَانِ ظَنِّهِ بِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَفِيمَا إذَا اقْتَرَنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ صَيْدٌ أَوْلَى ،

أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِعْلُهُ اصْطِيَادًا نَظَرًا إلَى قَصْدِهِ فَلَا يَحِلُّ الْمُصَابُ هَاهُنَا ، وَحَلَّ هُنَاكَ لِذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ : أَيْ تَعَيُّنِ كَوْنِهِ صَيْدًا .
وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَصَابَ سَهْمُهُ غَيْرَ الْمَسْمُوعِ حِسُّهُ وَالْمَسْمُوعُ حِسُّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَكَانَ فِعْلُهُ مُتَوَجِّهًا إلَى غَيْرِ الصَّيْدِ نَظَرًا إلَى فِعْلِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ لِلْمَسْمُوعِ حِسُّهُ وَهُوَ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ اصْطِيَادًا ، وَحِلُّ الصَّيْدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ فَلَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِانْعِدَامِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ .
وَأَمَّا هَاهُنَا فَسَهْمُهُ أَصَابَ عَيْنَ الْمَسْمُوعِ حِسُّهُ وَعَيْنُهُ صَيْدٌ فَكَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا عَلَى الصَّيْدِ وَهُوَ الِاصْطِيَادُ بِحَقِيقَتِهِ ، فَلَمَّا وَجَدَ الِاصْطِيَادَ بِحَقِيقَتِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ظَنُّهُ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ لِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ اصْطِيَادٌ بِحَقِيقَتِهِ ، وَالظَّنُّ إذَا وَقَعَ مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ فِعْلِهِ كَانَ الظَّنُّ لَغْوًا فَيَحِلُّ أَكْلُ الْمُصَابِ لِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْجَوَارِحِ بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ الْجَرْحِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَخْ .

قَالَ ( وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ) ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي وَقَالَ : لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ } وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ قَائِمٌ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِمَا رَوَيْنَا ، إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَعْرَى الِاصْطِيَادُ عَنْهُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ ، وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا تَوَارَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ فَإِذَا بَاتَ لَيْلَةً لَمْ يَحِلَّ ( وَلَوْ وُجِدَ بِهِ جِرَاحَةٌ سِوَى جِرَاحَةِ سَهْمِهِ لَا يَحِلُّ ) ؛ لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُحَرَّمًا ، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ وَالْجَوَابُ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي الرَّمْيِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ .

وَقَوْلُهُ ( فَتَحَامَلَ ) التَّحَامُلُ فِي الْمَشْيِ أَنْ يَتَكَلَّفَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَإِعْيَاءٍ يُقَالُ تَحَامَلْت فِي الْمَشْيِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ ) قِيلَ إذَا وَجَدَهُ وَفِيهِ جِرَاحَةُ سَهْمِهِ لَا غَيْرُ ، وَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ وَفِيهِ جِرَاحَةٌ أُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ تَرَكَ الطَّلَبَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ كَمَا سَيَجِيءُ ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحِلَّ ، وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبٌ وَهُوَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الرَّمْيِ ، وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ يُجْعَلُ قَاتِلًا .
قُلْنَا : لَمَّا وُجِدَ فِيهِ جَرْحُ غَيْرِهِ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُ مَوْهُومًا : وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ } " قَالَهُ حِينَ { أَهْدَى رَجُلٌ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَيْدًا فَقَالَ مَنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ قَالَ كُنْت رَمَيْته بِالْأَمْسِ وَكُنْت فِي طَلَبِهِ حَتَّى حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ ثُمَّ وَجَدَتْهُ الْيَوْمَ مَيِّتًا وَفِيهِ مِزْرَاقِي ، وَهُوَ الرُّمْحُ الصَّغِيرُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا أَدْرِي لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ } " الْحَدِيثَ ، وَهُوَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ مَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الِاحْتِمَالُ بَاقٍ إذَا كَانَ فِي طَلَبِهِ أَيْضًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاصْطِيَادَ لَا يَعْرَى عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي

قَوْلِهِ إنَّ مَا تَوَارَى عَنْهُ مَا إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ ) يَعْنِي وَإِنْ رَأَى فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ كَذَلِكَ وَكَأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْغَالِبِ ، لِأَنَّهُ إذَا بَاتَ عَنْهُ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ غَالِبًا .
وَوَجْهُ كَوْنِ مَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةً عَلَيْهِ أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَرَاهَتِهِ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي حُجَّةً عَلَيْهِ ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ } حُجَّةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قِصَّتِهِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ لِمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّيْدِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَاعْتِبَارُ قَتْلِ الْهَوَامِّ عِنْدَ الْغَيْبَةِ مَوْجُودٌ فَيَكُونُ حَرَامًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ وَجَدَ بِهِ جِرَاحَةً ) قَدَّمْنَاهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ) لِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يَخْلُو عَنْ رَمْيِ الْغَيْرِ مُحَرَّمًا ، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الصَّيْدَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْهَا فَلَا يُجْعَلُ مُحَرَّمًا إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ الطَّلَبِ .

قَالَ ( وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَرَدِّيَةُ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْمَوْتَ بِغَيْرِ الرَّمْيِ ؛ إذْ الْمَاءُ مُهْلِكٌ وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَإِنْ وَقَعَتْ رَمِيَّتُك فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُك } ( وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَفِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الِاصْطِيَادِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ إذَا اجْتَمَعَا وَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَمَّا هُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ تُرَجَّحُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ جَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، فَمِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى شَجَرٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ آجُرَّةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ رَمَاهُ ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ حَتَّى تَرَدَّى إلَى الْأَرْضِ ، أَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ عَلَى رُمْحٍ مَنْصُوبٍ أَوْ عَلَى قَصَبَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ عَلَى حَرْفِ آجُرَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَتَلَهُ ، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهُ كَجَبَلٍ أَوْ ظَهْرِ بَيْتٍ أَوْ لَبِنَةٍ مَوْضُوعَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَرْضِ سَوَاءٌ وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَفَى : لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَحُمِلَ مُطْلَقُ الْمَرْوِيِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ ، وَحَمَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا

أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ ، وَحَمَلَ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجُرَّةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ عَفْوٌ وَهَذَا أَصَحُّ وَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ مَائِيًّا ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ لَا تَنْغَمِسُ فِي الْمَاءِ أُكِلَ ، وَإِنْ انْغَمَسَتْ لَا يُؤْكَلُ كَمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ

قَالَ ( وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْجَرْحُ مُهْلِكًا فِي الْحَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
قَوْلُهُ ( وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ ) وَهُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ عُلْوٍ ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي الْأَوَّلِ مَضْمُومًا وَمَفْتُوحًا وَمَكْسُورًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( وَقَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى ) يُرِيدُ بَيَانَ مَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَوْ صَخْرَةً فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى وَحَمَلَ الْمُطْلَقَ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ وَحَمَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى عَلَى مَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لِذَلِكَ وَحُمِلَ الْمَرْوِيُّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجِرَةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ عَفْوٌ كَمَا إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَانْشَقَّ بَطْنُهُ .
وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، وَهَذَا : أَيْ مَا فَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ يُحْوِجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَبَلِ وَالْأَرْضِ فِي الِانْشِقَاقِ ، فَإِنَّهُ لَوْ انْشَقَّ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ أُكِلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا وَقَعَ ) أَيْ غَيْرُ الْمَائِيِّ ( فِي الْمَاءِ ) .

قَالَ ( وَمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ جَرَحَهُ يُؤْكَلُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ } وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ ) الْمِعْرَاضُ سَهْمٌ لَا رِيشَ لَهُ يَمْضِي عَرْضًا فَيُصِيبُ بِعَرْضِهِ لَا بِحَدِّهِ ، وَالْبُنْدُقَةُ طِينَةٌ مُدَوَّرَةٌ يُرْمَى بِهَا .

قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ فَمَاتَ بِهَا ) ؛ لِأَنَّهَا تَدُقُّ وَتَكْسِرُ وَلَا تَجْرَحُ فَصَارَ كَالْمِعْرَاضِ إذَا لَمْ يَخْزِقُ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ ، وَكَذَا إنْ جَرَحَهُ قَالُوا : تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ يَحِلُّ لِتَعَيُّنِ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا ، وَجَعَلَهُ طَوِيلًا كَالسَّهْمِ وَبِهِ حِدَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِجُرْحِهِ ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَرْوَةِ حَدِيدَةٍ وَلَمْ تُبْضِعْ بِضْعًا لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا ، وَكَذَا إذَا رَمَاهُ بِهَا فَأَبَانَ رَأْسَهُ أَوْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَنْقَطِعُ بِثِقَلِ الْحَجَرِ كَمَا تَنْقَطِعُ بِالْقَطْعِ فَوْقَ الشَّكِّ أَوْ لَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ ، وَلَوْ رَمَاهُ بِعَصًا أَوْ بِعُودٍ حَتَّى قَتَلَهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ ثِقَلًا لَا جُرْحًا ، اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ حِدَةٌ يُبْضِعُ بِضْعًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَوْتَ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الْجُرْحِ بِيَقِينٍ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا ، وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الثِّقَلِ بِيَقِينٍ كَانَ حَرَامًا ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ وَلَا يَدْرِي مَاتَ بِالْجُرْحِ أَوْ بِالثِّقَلِ كَانَ حَرَامًا احْتِيَاطًا ، وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ بِسِكِّينٍ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ فَجَرَحَهُ حَلَّ ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السَّيْفِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا ، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَوْ رَمَاهُ فَجَرَحَهُ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ ، إنْ كَانَ الْجُرْحُ مُدْمِيًا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ بِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ } شَرَطَ الْإِنْهَارَ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً حَلَّ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ ، وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً وَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَا تَحِلُّ وَقِيلَ تَحِلُّ وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ أَوْ قَرْنَهُ ، فَإِنْ أَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُوَقَوْلُهُ ( إذَا لَمْ يَخْزِقْ ) بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ خَزَقَ الْمِعْرَاضُ : أَيْ نَفَذَ ، وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ خَطَأٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إنْ جَرَحَهُ ) يَعْنِي إذَا رَمَاهُ بِحَجَرٍ فَجَرَحَهُ ، فَإِنْ كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ ، قَالُوا لَا يُؤْكَلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ قَتْلَهُ بِثِقَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ أُكِلَ .
وَالْمَرْوَةُ : حَجَرٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ كَالسِّكِّينِ يُذْبَحُ بِهِ ، وَاَللَّهُمَّ يُسْتَعْمَلُ عَقِيبَهُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى عَزِيزًا نَادِرًا إيذَانًا بِأَنَّهُ بَلَغَ فِي النُّدْرَةِ حَدَّ الشُّذُوذِ .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ لَا يَحِلُّ ) هُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ النَّجِسَ لَمْ يَسِلْ فَلَا يَكُونُ بِمَعْنَى الذَّبْحِ .
وَقِيلَ يَحِلُّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ لِوُجُودِ الذَّكَاةِ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ ، وَالدَّمُ قَدْ يُحْتَبَسُ لِغِلَظِهِ أَوْ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ فَإِنَّهُ شَرَطَ سَيَلَانَ الدَّمِ .

قَالَ ( وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ أُكِلَ الصَّيْدُ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أُكِلَا إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَانٌ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فَيَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمُتْ ؛ لِأَنَّهُ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ } ذِكْرُ الْحَيِّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، وَكَذَا حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ تُتَوَهَّمُ سَلَامَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ وَلِهَذَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَيًّا ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ وَقَوْلُهُ أُبِينَ بِالذَّكَاةِ قُلْنَا حَالَ وُقُوعِهِ لَمْ يَقَعْ ذَكَاةً لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي ، وَعِنْدَ زَوَالِهِ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُبَانِ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، وَلَا تَبَعِيَّةَ لِزَوَالِهَا بِالِانْفِصَالِ فَصَارَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا يَحِلُّ ، وَالْمُبَانُ مِنْ الْحَيِّ صُورَةً لَا حُكْمًا يَحِلُّ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى فِي الْمُبَانِ مِنْهُ حَيَاةٌ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ فَإِنَّهُ حَيَاةٌ صُورَةً لَا حُكْمًا ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَبِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ لَا يَحْرُمُ فَتُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ ، فَنَقُولُ : إذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ الْمُبَانُ وَيَحِلُّ الْمُبَانُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي ( وَلَوْ قَدَّهُ بِنِصْفَيْنِ أَوْ قَطَّعَهُ أَثْلَاثًا وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ أَوْ قَطَعَ نِصْفَ رَأْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ يَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ ) ؛

لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ صُورَةً لَا حُكْمًا ؛ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ بَعْدَ هَذَا الْجُرْحِ ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تَنَاوَلَ السَّمَكَ وَمَا أُبِينَ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ ، إلَّا أَنَّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ

قَالَ ( وَإِنْ رَمَى صَيْدًا إلَخْ ) إذَا قَطَعَ بِالرَّمْيِ عُضْوًا مِنْ الصَّيْدِ أُكِلَ الصَّيْدُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمْيَ مَعَ الْجَرْحِ مُبِيحٌ وَقَدْ وُجِدَ ، وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ إنْ أَمْكَنَ حَيَاتُهُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَكْلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ أُكِلَ لِأَنَّهُ مُبَانٌ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ حَلَّ الْمُبَانُ ( وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ قَطْعَ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ كَقَطْعِ الرَّأْسِ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، وَالرَّأْسُ يُؤْكَلُ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ فَكَذَا الْعُضْوُ الْمُبَانُ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ ، وَالْكَامِلُ هُوَ الْحَيُّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ : يَعْنِي أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، أَمَّا حَقِيقَةً فَلِقِيَامِ الْحَيَاةِ بِهِ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ حَيَاتُهُ بَعْدَ إبَانَةِ هَذَا الْعُضْوِ ، وَلِهَذَا : أَيْ وَلِكَوْنِهِ حَيًّا حُكْمًا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُؤْكَلْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( أُبِينَ بِالذَّكَاةِ ) ذَكَرَهُ لِيُجِيبَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْنَا وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ يُؤْكَلُ وَلَكِنْ لَا ذَكَاةَ هَاهُنَا لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَهُوَ إبَانَةُ الْعُضْوِ حَالَ وُقُوعِهِ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ الْحَيَاةُ بَعْدَهُ إذْ الْفَرْضُ ذَلِكَ ، وَالْجَرْحُ يُعْتَبَرُ ذَكَاةً إذَا مَاتَ مِنْهُ ، أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْحَيَاةُ بَعْدَهُ ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَهُ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا فِي الْمَذْبُوحِ لَا بُدَّ

مِنْ ذَبْحِهِ وَعِنْدَ زَوَالِ الرُّوحِ وَإِنْ كَانَ ذَكَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّيْدِ ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِذَكَاةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُبَانِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي مَوْتِهِ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ فِيهِ حِينَئِذٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَكُنْ ذَكَاةً لِلْمُبَانِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَكْثَرِ إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا تَبَعِيَّةَ : يَعْنِي : الْأَقَلُّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ إذَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ ، وَهَاهُنَا قَدْ انْفَصَلَ فَزَالَتْ التَّبَعِيَّةُ ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَ الْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ الْأَكْثَرُ لَا غَيْرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوْدَاجَ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ ، فَإِنْ أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ ذَكَاةً لِعَدَمِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِمَوْتِهِ ، وَالْجُزْءُ مُبَانٌ عِنْدَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ وَقَعَ الذَّكَاةُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ نَفْسِهِ ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْجُزْءُ مُبَانًا ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ

( وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا يَحِلُّ لِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ ) وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ لِإِبْلَاغِهِ النُّخَاعَ ، وَإِنْ ضَرَبَهُ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا ، إنْ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى قَطَعَ الْأَوْدَاجَ حَلَّ ( وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَلَمْ يُبِنْهُ ؛ إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الِالْتِئَامُ وَالِانْدِمَالُ فَإِذَا مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ حَلَّ مَا سِوَاهُ لِوُجُودِ الْإِبَانَةِ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي .

قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْوَثَنِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الذَّبَائِحِ ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ اخْتِيَارًا فَكَذَا اضْطِرَارًا .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ ) مَبْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ .

قَالَ ( وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ يُثْخِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي وَيُؤْكَلُ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ } ( وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يُؤْكَلْ ) لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِالثَّانِي ، وَهُوَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِلْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ ، كَمَا إذَا أَبَانَ رَأْسَهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُضَافُ إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ ، وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ بِأَنْ كَانَ يَعِيشُ يَوْمًا أَوْ دُونَهُ ؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْرُمُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فَصَارَ الْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ سَوَاءٌ فَلَا يَحِلُّ قَالَ ( وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالرَّمْيِ الْمُثْخِنِ وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِجِرَاحَتِهِ ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَأْوِيلُهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ مِنْهُ وَالثَّانِي بِحَالٍ لَا

يَسْلَمُ الصَّيْدُ مِنْهُ لِيَكُونَ الْقَتْلُ كُلُّهُ مُضَافًا إلَى الثَّانِيَ وَقَدْ قَتَلَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ مَنْقُوصًا بِالْجِرَاحَةِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَمَلًا ، كَمَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مَرِيضًا إنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : يَضْمَنُ الثَّانِي مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ يُضَمِّنُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ ثُمَّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ لَحْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ وَقَدْ نَقَصَهُ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهُ أَوَّلًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِالْجِرَاحَتَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مَا كَانَتْ بِصُنْعِهِ ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِنَهَا مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهَا ثَانِيًا وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ صَارَ بِحَالٍ يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ لَوْلَا رَمْيُ الثَّانِي ، فَهَذَا بِالرَّمْيِ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ نِصْفَ اللَّحْمِ فَيَضْمَنُهُ ، وَلَا يَضْمَنُ النِّصْفَ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ مَرَّةً فَدَخَلَ ضَمَانُ اللَّحْمِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي غَيْرَهُ ، وَيَصِيرُ كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فَأَنْزَلَهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَرَّمٌ ، كَذَا هَذَا .

قَالَ ( وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ يُثْخِنْهُ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا رَمَيَا صَيْدًا فَذَاكَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يَرْمِيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا .
وَالْأَوَّلُ عَلَى أَوْجُهٍ : فَإِنَّهُ إذَا رَمَيَاهُ مَعًا فَإِمَّا أَنْ يُصِيبَا مَعًا أَوْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ، فَإِنْ أَصَابَ فَإِمَّا أَنْ يُثْخِنَهُ قَبْلَ إصَابَةِ الثَّانِي أَوَّلًا .
وَالثَّانِي كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إمَّا إنْ رَمَاهُ الثَّانِي قَبْلَ إصَابَةِ السَّهْمِ الْأَوَّلِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يُثْخِنَهُ الْأَوَّلُ أَوْ لَمْ يُثْخِنْهُ ، وَالْأَوَّلُ بِوُجُوهِهِ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ ، وَأَنَا أَذْكُرُ ذَلِكَ تَكْمِلَةً لِلْإِفَادَةِ ، فَإِنْ رَمَيَا مَعًا وَأَصَابَا مَعًا فَقَتَلَاهُ فَهُوَ لَهُمَا جَمِيعًا ، وَيُؤْكَلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمَى إلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الرَّمْيِ ، فَإِنَّهُ كَانَ صَيْدًا حَالَ رَمْيِهِمَا فَيَقَعُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَاةً وَأَصَابَتْ الرَّمْيَتَانِ مَعًا فَاسْتَوَيَا فِي السَّبَبِيَّةِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِلْكِ ، وَإِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ سَهْمُ أَحَدِهِمَا أَوَّلًا فَأَثْخَنَهُ : أَيْ أَضْعَفَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ ثُمَّ أَصَابَ سَهْمُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ، وَحَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الِاتِّصَالِ وَالسَّهْمُ الثَّانِي أَصَابَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَمَى شَاةً ، وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ لِلْحِلِّ حَالَةَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْمَحَلِّ تُبِيحُهُ وَلِهَذَا تَعَيَّنَ التَّسْمِيَةُ حَالَةَ الْإِرْسَالِ وَالْإِرْسَالُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمَا وَالْمَحَلُّ صَيْدٌ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالثَّانِي حَظْرٌ ، وَلِلْمِلْكِ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ ، وَسَهْمُ الْأَوَّلِ أَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَمَلَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يُثْخِنْهُ فَهُوَ لِلثَّانِي

وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ رَمَاهُ الثَّانِي بَعْدَمَا رَمَاهُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ سَهْمُهُ وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ رَمَيَاهُ مَعًا هُوَ لَهُمَا وَحَلَّ أَكْلُهُ .
وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَقَدْ أَمْعَنَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِهِ ، وَنُشِيرُ إلَى بَعْضِ أَلْفَاظِهِ إنْ خَفِيَ .
فَقَوْلُهُ ( هَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يُؤْكَلْ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ إلَخْ ) بَيَانٌ لِحُكْمِ الضَّمَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْحِلِّ .
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّ إحْدَى الرَّمْيَتَيْنِ تَعَلَّقَ بِهَا حَظْرٌ وَالْأُخْرَى تَعَلَّقَ بِهَا الْإِبَاحَةُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ ضَمَانِ اللَّحْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ حُكْمُ صُوَرِهِ الْجَهَالَةَ وَهِيَ أَنْ لَا يَدْرِيَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِأَيِّهِمَا كَصُورَةِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ ظَاهِرًا فَيُضَافُ إلَيْهِمَا .
قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ نُقْصَانِ الْجِرَاحَةِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ ضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْجِرَاحَةِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبٍ قَبْلَ سَبَبِ ضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا ) يَعْنِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي الثَّانِي غَيْرَ الرَّامِي الْأَوَّلِ ، وَهَذَا فِيمَا إذَا رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا .
قَوْلُهُ ( فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ إلَخْ ) يَعْنِي لَا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِفِعْلِهِ لِنَفْسِهِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ

قَالَ ( وَيَجُوزُ اصْطِيَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ ) لِإِطْلَاقِ مَا تَلُونَا وَالصَّيْدُ لَا يَخْتَصُّ بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ قَالَ قَائِلُهُمْ : صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِب وَثَعَالِب وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ وَلِأَنَّ صَيْدَهُ سَبَبٌ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشَةِ أَوْ لِاسْتِدْفَاعِ شَرِّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ .

( كِتَابُ الرَّهْنِ ) الرَّهْنُ لُغَةً : حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وَفِي الشَّرِيعَةِ : جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ } وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ قَالَ ( الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ ) قَالُوا : الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ وَلَنَا مَا تَلَوْنَا ، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْضَائِهِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ ، ثُمَّ يَكْتَفِي فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

كِتَابُ الرَّهْنِ ) وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الرَّهْنِ لِكِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمَا سَبَبَيْنِ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ حُصُولُ النَّظَرِ لِجَانِبِ الدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ .
وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَشَرْطُ جَوَازِهِ وَتَفْسِيرُهُ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ وَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ ، وَسَنَذْكُرُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا .
أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَمَا ذَكَرَهُ ( الرَّهْنُ لُغَةً حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ ) أَيْ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الرَّهْنِ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ ( كَالدُّيُونِ ) وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ ارْتِهَانِ الْخَمْرِ وَعَنْ الرَّهْنُ عَنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ كَعِبَادٍ فِي جَمْعِ عَبْدٍ ، وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ } وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ لِلدَّيْنِ طَرَفَيْنِ : طَرَفُ الْوُجُوبِ وَطَرَفُ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يُسْتَوْفَى الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْوَثِيقَةُ لِطَرَفِ الْوُجُوبِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالذِّمَّةِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ ، فَكَذَا الْوَثِيقَةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَالِ ، بَلْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْوُجُوبُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ .
قَالَ ( الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ) رُكْنُ الرَّهْنِ الْإِيجَابُ ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاهِنِ رَهَنْتُك هَذَا الْمَالَ بِدَيْنٍ لَك عَلَيَّ وَمَا أَشْبَهَهُ .
وَالْقَبُولُ : وَهُوَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ قَبِلْت ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ( قَالُوا ) أَرَادَ بِهِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ

زَادَهْ ( الرُّكْنُ بِالْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِهِ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ ) فَالرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ ، أَمَّا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ مَا أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ الْيَدِ شَيْئًا عَلَيْهِ ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّبَرُّعِ إلَّا ذَلِكَ .
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِيجَابِ مَا يَكُونُ ابْتِدَاءً وَالرَّهْنُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
قَوْلُهُ ( وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ ) كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَيَتِمُّ الْقَبْضُ فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا وَبِهِ يَلْزَمُ ، وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا .
وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا مُفَرَّغًا مَحُوزًا .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْسِ الْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا كَالْكَفَالَةِ ( وَلَنَا مَا تَلَوْنَا ) مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ فَلْيَصُمْ ، وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أَيْ فَلْيُحَرِّرْ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : وَإِذَا

كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَارْهَنُوا وَارْتَهِنُوا ، لَكِنْ تَرَكَ كَوْنَهُ مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ الرَّهْنُ عَلَى الْمَدْيُونِ وَلَا قَبُولُهُ عَلَى الدَّائِنِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ فِي شَرْطِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } بِالنَّصْبِ : أَيْ بِيعُوا ، فَلَمْ يَعْمَلْ الْأَمْرُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ فَصُرِفَ إلَى شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَكَذَا هَذَا .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ مَا قِيلَ إنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الرِّهَانَ مَصْدَرًا وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ بِقَرِينَةِ الْإِجْمَاعِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الرَّهْنِ لَا إلَى الْقَبْضِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَبْضَ إنْ كَانَ شَرْطًا لِلْجَوَازِ أَوْ لِلُّزُومِ وَسُلِّمَ ذَلِكَ فَقَدْ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّلِيلِ .
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا يَكُونُ فِي السَّفَرِ كَمَا قَالَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَدْ تُرِكَ ، وَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ لِأَنَّهُ جَمْعُ رَهْنٍ وَالرَّهْنُ مَصْدَرٌ فَجَمْعُهُ كَذَلِكَ ، وَإِسْنَادُ " مَقْبُوضَةٌ " إلَى ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا فِي : سَيْلٌ مُفْعَمٌ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ كَمَا عُرِفَ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِلْمَجَازِ لِأَنَّ الْمَجَازَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِقَرِينَةٍ وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَكُنْ حَالَ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَإِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصُرِفَ إلَى الْقَبْضِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الدَّلِيلَ لِإِلْزَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ لَا يَجْعَلُهُ شَرْطَ اللُّزُومِ وَلَا الْجَوَازِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ

كَمَا وَصَفَ التِّجَارَةَ بِالتَّرَاضِي ، وَالتَّرَاضِي وَصْفٌ لَازِمٌ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَا الْقَبْضُ فِي الرَّهْنِ .
لَا يُقَالُ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَهُ ، وَإِمَّا لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ تَكُنْ الصِّفَةُ مَقْصُودَةً ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الْوُجُوبَ انْصَرَفَ إلَيْهَا .
وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِدَلِيلٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُؤَوَّلَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ وَهِيَ عَامَّةُ الدَّلَائِلِ ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( ثُمَّ يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ ) يُرِيدُ بِهَا رَفْعَ الْمَانِعِ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً ) لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى يَنْتَقِلَ الضَّمَانُ مِنْهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَكُلُّ قَبْضٍ هَذَا شَأْنُهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِدُونِ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَمْ يُعْهَدْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَبَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَنْتَفِي التَّبَرُّعُ فَلَا يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَعَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الْكُتُبِ كَالْمُنْتَقَى وَالْمُحِيطِ وَغَيْرِهِمَا ( بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ وَجْهِ الظَّاهِرِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الشِّرَاءِ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي لِكَوْنِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَبِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ

يَنْتَقِلُ الضَّمَانُ مِنْهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ ابْتِدَاءً .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ ) أَيْ وَجْهُ الظَّاهِرِ ( أَصَحُّ ) لِأَنَّ الرَّهْنَ تَوْثِقَةٌ لِجِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَحَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِالتَّخْلِيَةِ بِأَنْ يُخْلِيَ الرَّاهِنُ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَدَيْنِهِ فَكَذَلِكَ جِهَتُهُ ، إذْ الْحَقِيقَةُ أَقْوَى مِنْ الْجِهَةِ ، وَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَقْوَى يَثْبُتُ بِهِ الْأَدْنَى .
وَأَمَّا الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فِي وَجْهِ غَيْرِ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ نَاقِلًا لِلضَّمَانِ وَفِي الرَّهْنِ مُثْبِتًا لَهُ ابْتِدَاءً فَلَا يَكَادُ يُبَيِّنُ .

قَالَ ( وَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ ) لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِكَمَالِهِ فَلَزِمَ الْعَقْدُ ( وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَنْ الرَّهْنِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ بِالْقَبْضِ إذْ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ إلَخْ ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ الْمَنْصُوصَ مُعْتَنًى بِشَأْنِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَمَالَ ، وَالْكَامِلُ فِي الْقَبْضِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا فَيَجِبُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ مَحُوزًا احْتِرَازٌ عَنْ رَهْنِ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِدُونِهَا .
وَقَوْلُهُ ( مُفَرَّغًا ) احْتِرَازٌ عَنْ عَكْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( مُتَمَيِّزًا ) احْتِرَازٌ عَنْ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَمَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَعَدَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ أَوْ الْجَوَازَ بِالْقَبْضِ ، إذْ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ : أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } قَالَهَا أَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ ثَلَاثًا { لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ } : أَيْ زَوَائِدُهُ { وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } أَيْ هَلَاكُهُ .
قَالَ : وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ : أَيْ الرَّهْنُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ لِيَزْدَادَ بِهِ الصِّيَانَةُ ، فَلَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ .
وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَمَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ ذَهَبَ حَقُّك } وَحَقُّهُ الدَّيْنُ فَيَكُونُ ذَاهِبًا .
لَا يُقَالُ : الْمُرَادُ بِهِ ذَهَبَ حَقُّك مِنْ الْإِمْسَاكِ أَوْ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِرَهْنٍ آخَرَ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُشَاهَدٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَقَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مُنَكَّرًا { أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ : ذَهَبَ حَقُّك } فَذَكَرَ الْحَقَّ مُنَكَّرًا ، ثُمَّ أَعَادَهُ مُعَرَّفًا .
وَفِي ذَلِكَ يَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَلَامُ الرَّاوِي وَالْآخَرُ كَلَامُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُنَكَّرَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ الْمُرْتَهِنِ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ } مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالُوا : إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا هَلَكَ : يَعْنِي إذَا قَالَ الرَّاهِنُ لَا أَدْرِي كَمْ كَانَ قِيمَتُهُ وَالْمُرْتَهِنُ كَذَلِكَ قَالَ : يَكُونُ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ ، حُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ .

قَالَ ( وَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَبَضَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ ، قَالَهَا ثَلَاثَةً ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } قَالَ : وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ اعْتِبَارًا بِهَلَاكِ الصَّكِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ إذَا لَحِقَ بِهِ يَصِيرُ بِعَرْضِ الْهَلَاكِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّيَانَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ مَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ { ذَهَبَ حَقُّك } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ } مَعْنَاهُ : عَلَى مَا قَالُوا إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا هَلَكَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَضْمُونٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ ، وَالْقَوْلُ بِالْأَمَانَةِ خَرْقٌ لَهُ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } عَلَى مَا قَالُوا الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّمَكُّنُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وَقَالَ قَائِلُهُمْ : وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُوصِلَةً إلَيْهِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ

الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ ، وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ ، فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَا يَتَكَرَّرُ ، وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي بِدُونِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ أَمَّا الْعَيْنُ فَأَمَانَةٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فَلَا تَنُوبُ عَنْ قَبْضِ ضَمَانٍ ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا يُحَقِّقُ الصِّيَانَةَ ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَنَا حُكْمَ الرَّهْنِ صَيْرُورَةُ الرَّهْنِ مُحْتَبِسًا بِدَيْنِهِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ اسْتِيفَاءً مِنْهُ عَيْنًا بِالْبَيْعِ ، فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَدَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى جُمْلَةً : مِنْهَا أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ مُوجَبُهُ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ عَلَى الدَّوَامِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي مُوجِبَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَسَيَأْتِيك الْبَوَاقِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَوْلُهُ ( مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ ) يَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا : الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ .
وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ أَمَانَةً خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } عَلَى مَا قَالُوا : الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ : أَيْ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ كَطَاوُوسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا يُرَى أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ بِالشَّيْءِ وَفِي الرَّهْنِ فَضْلٌ عَمَّا رَهَنَ بِهِ ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إنْ جِئْتُك بِحَقِّك إلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا فِيهِ ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَحِلُّ ، وَهَذَا الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُك بِمَا فِيهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ لَهُ .
وَقَوْلُهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ : ذَهَبُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا إلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ بِثَمَنٍ فِيهِ نَقْصٌ عَنْ الدَّيْنِ غَرِمَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ النَّقْصَ ، وَإِنْ بِيعَ بِفَضْلٍ عَنْ الدَّيْنِ أَخَذَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ الْفَضْلَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وَتَقْرِيرُهُ : الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ ، وَيَدُ الِاسْتِيفَاءِ هُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسُ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لُغَةً يُنْبِئُ عَنْ

الْحَبْسِ الدَّائِمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أَيْ مَحْبُوسَةٌ بِوَبَالِ مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ الْمَعَاصِي .
وَقَالَ زُهَيْرٌ : وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلَقَا أَيْ ارْتَهَنَتْ الْمَحْبُوبَةُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ وَاحْتَبَسَ قَلْبُهُ عِنْدَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فِكَاكُهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَمَانٌ وَلَا هَلَاكٌ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى الْحَبْسِ الدَّائِمِ .
قِيلَ الدَّوَامُ إنَّمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ لَا فِكَاكَ لَهُ لَا مِنْ لَفْظِ الرَّهْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا دَامَ وَتَأَبَّدَ بِنَفْيِ الْفِكَاكِ دَلَّ أَنَّهُ عَنْ الدَّوَامِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَلِكَ لَمَا دَامَ بِنَفْيِ مَا يَعْتَرِضُهُ بَلْ كَانَ الدَّوَامُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ مَا يُوجِبُهُ ، فَثَبَتَ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى إنْبَاءِ الرَّهْنِ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ ، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ فَيَكُونُ لَفْظُ الرَّهْنِ فِي الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مُنْبِئًا عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ وَلَا مُقْتَضَى لِلْعُدُولِ عَنْهُ ، وَلِتَكُنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عِنْدَك ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَمَعْنَاهُ : أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مُوَصِّلًا إلَيْهِ : أَيْ إلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَذَلِكَ : أَيْ كَوْنُهُ مُوَصِّلًا إلَيْهِ ثَابِتٌ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ جُحُودِ الرَّهْنِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ .
وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْحَبْسَ يُفْضِي إلَى أَدَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يُخْشَى إنْ جَحَدَ الدَّيْنَ أَنْ يَجْحَدَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ ، لِأَنَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إيفَاءِ الْأَقَلِّ لِتَخْلِيصِ الْأَكْثَرِ أَوْ لِضَجَرِهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ ، وَهَذِهِ أَيْضًا قَضِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَالْحَبْسِ فَتُضَمُّ إلَيْهِمَا .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) أَيْ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَدُلُّ عَلَى الْيَدِ

وَالْحَبْسِ ثَبَتَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ ، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّقَبَةِ وَقَدْ حَصَلَ بَعْضُهُ ، وَتَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ النَّقْضِ ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ وَاسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا أَدَّى إلَى تَكْرَارِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْيَدِ وَهُوَ رِبًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ قَائِمًا لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءُ : أَيْ لِلدَّيْنِ بِالْحَبْسِ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْأَدَاءُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَاجْعَلْ الْهَلَاكَ كَالرَّدِّ فِي نَقْضِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِتَقْرِيرِ الِاسْتِيفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّرُ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ بَلْ يُنْقَضُ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا أَمْكَنَ رَدُّ الْعَيْنِ إلَى الْمَالِكِ كَالثَّمَنِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي هَلَاكِ الرَّهْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَسْتَوْفِ الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ رَقَبَةً لَا يَدًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِدُونِ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْيَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءٌ لَكَانَ إمَّا لِعَيْنِ الدَّيْنِ أَوْ لِبَدَلِهِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الرَّهْنَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ جَائِزٌ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّا نَخْتَارُ الْأَوَّلَ .
وَقَوْلُهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ .
قُلْنَا : لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ الْمَالِيَّةُ ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ ، وَلَيْسَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَمَانَةً ، حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ

عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إنْ اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَالِيَّةٌ وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَمُوجَبُ الْعَقْدِ ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ وَبَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ يُحَقِّقُ الصِّيَانَةَ لَا مَحَالَةَ ، وَفَرَاغُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ حَقِّ الطَّالِبِ ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لَا اللَّوَازِمِ الضِّمْنِيَّةِ .
وَنُوقِضَ بِنَقْضٍ إجْمَالِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بَعْدَ الْفَسْخِ مَحْبُوسٌ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ ، حَتَّى إذَا مَاتَ الْآجِرُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ إذَا هَلَكَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ فَسْخِهَا لَيْسَتْ بِيَدِ اسْتِيفَاءٍ ، لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ ، وَإِنَّمَا قَبَضَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ .
وَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ قَبْلَ الْفَسْخِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَبَعْدَ الْفَسْخِ يَبْقَى الِاخْتِصَاصُ فِي حَقِّ اسْتِرْدَادِ الْأُجْرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَالْحَاصِلُ إلَخْ ) وَاضِحٌ

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ دَيْنٌ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا ، وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ وَلَكِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِهِ بِهَلَاكِهِ ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ ، قَالَ ( وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَذَاكَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ( وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ وَقَالَ زُفَرُ : الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفٌ وَخَمْسمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ " وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مَرْهُونَةٌ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِهِ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً اعْتِبَارًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسْتَوْفِي كَمَا فِي

حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَالزِّيَادَةُ مَرْهُونَةٌ بِهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا يُرْوَى حَالَةَ الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ .

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ إلَخْ ) قِيلَ ذَكَرَ " مَضْمُونٍ " لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ مَضْمُونٌ ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ دَيْنٍ سَيَجِبُ كَمَا لَوْ رَهَنَ بِالدَّرْكِ وَهُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ : أَيْ حُكْمَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ فَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَدْخُلُ ) أَيْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ أَيْ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ صِحَّةُ جَوَازِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَقِيلَ قَوْلُهُ بِأَنْفُسِهَا احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّهْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنٍ مَضْمُونٍ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مَا يَجِبُ عِنْدَ هَلَاكِهِ الْمِثْلُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا ، أَوْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهَا وَهُوَ الْمَضْمُونُ بِغَيْرِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ .
وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ يُشْكِلُ عَلَيْهِ الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَا صَحِيحٌ وَلَا دَيْنَ ثَمَّةَ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ ، وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ وَالْقِيمَةُ دَيْنٌ ( وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا ) أَيْ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الْقِيمَةُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَجِبُ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ

قَبْضِ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْمَالِكِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا اخْتَارَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ الْمَشَايِخِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ قَدْ انْعَقَدَ فَكَانَ كَالْمَوْجُودِ فَصَحَّ الرَّهْنُ كَمَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الرَّهْنِ ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ كَمَا لَوْ قَالَ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَعَلَيَّ دُونَ الرَّهْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ مَا ذَابَ لَك إضَافَةٌ لِلْكَفَالَةِ لَا كَفَالَةٌ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَوْلُك دُونَ الرَّهْنِ يُرِيدُ بِهِ دَيْنًا مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ أَوْ دَيْنًا انْعَقَدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّخْرِيجَيْنِ .
أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَتَقْرِيرُهُ وَلِكَوْنِ الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ فِيهَا الْقِيمَةَ لَا تُبْطِلُ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ بِهَلَاكِهِ ، فَلَوْ أَحَالَ عَلَى الْغَاصِبِ فَهَلَكَ الْمَغْصُوبُ لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ لَمَّا كَانَ هَلَاكُ الْعَيْنِ كَلَا هَلَاكَ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَرَدُّ الْعَيْنِ كَانَ مُخَلِّصًا وَلَمْ يَحْصُلْ .
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَتَقْرِيرُهُ وَلِكَوْنِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ قَدْ انْعَقَدَ جُعِلَتْ كَالْمَوْجُودِ فَبِهَلَاكِ الْعَيْنِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ عَلَيْهَا لَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا لِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ هُنَاكَ لِلْقِيمَةِ وَلَا سَبَبَ لِلْوُجُوبِ .
قَالَ ( وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ إلَخْ ) الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ أَيْ بِمَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ : بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَرَّفِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَمَعْنَى الْمُنَكَّرِ

ثَالِثٌ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ ) يَعْنِي أَنَّ التَّرَادَّ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ ) مِثْلُ مَا إذَا أَوْفَاهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ وَحَقُّهُ فِي أَلْفٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا قَدْرَ الدَّيْنِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( ضَرُورَةُ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا ) لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَجْعَلْ الزِّيَادَةَ مَرْهُونَةً أَدَّى إلَى الشُّيُوعِ أَوْ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهَا عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ ) لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّهْنِ مَعَ عَدَمِ الضَّمَانِ مُمْكِنٌ بِأَنْ اسْتَعَارَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بَاقٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَمَا سَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا رُوِيَ حَالَةُ الْبَيْعِ ) يَعْنِي تَوْفِيقًا بَيْنَ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ { الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ } فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى حَالَةِ الْبَيْعِ : يَعْنِي إذَا بَاعَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ يُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ إلَى الرَّاهِنِ ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ زَائِدًا يَرُدُّ الرَّاهِنُ زِيَادَةَ الدَّيْنِ .

قَالَ ( وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِدَيْنِهِ وَيَحْبِسَهُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ لِزِيَادَةِ الصِّيَانَةِ فَلَا تَمْتَنِعُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ ، فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مَعَ قِيَامِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ( وَإِذَا أُحْضِرَ أُمِرَ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ أَوَّلًا ) لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الرَّاهِنِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ يُحْضَرُ الْمَبِيعُ ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا ( وَإِنْ طَالَبَهُ بِالدَّيْنِ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ ، إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا فِي حَقِّ التَّسْلِيمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَسْتَوْفِي دَيْنَهُ وَلَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ ، لَا النَّقْلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ .
( وَلَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ فَبَاعَهُ بِنَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةٍ جَازَ ) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ ( فَلَوْ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ ( وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ ، فَصَارَ كَأَنَّ

الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ ( وَلَوْ قَبَضَهُ يُكَلَّفُ إحْضَارَهُ لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ ) ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ ، وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ الْعَبْدَ الرَّهْنَ خَطَأً حَتَّى قَضَى بِهِ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ كُلَّ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّهَا كَمَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا ( وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ وَأُمِرَ أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَهِنُ يَطْلُبُ دَيْنَهُ لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ وُضِعَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهُ فِي قُدْرَتِهِ ( وَلَوْ وَضَعَهُ الْعَدْلُ فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَغَابَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ يَقُولُ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ إحْضَارَ الرَّهْنِ لَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا .
( وَكَذَلِكَ إذَا غَابَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ ) لِمَا قُلْنَا ( وَلَوْ أَنَّ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْعَدْلُ جَحَدَ الرَّهْنَ وَقَالَ هُوَ مَالِيٌّ لَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ رَهْنًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الرَّهْنَ فَقَدْ تَوَى الْمَالُ وَالْتَوَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ

وَقَوْلُهُ ( كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْحَبْسِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ ) قِيلَ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْمُبَادَلَةِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ قُلْنَا بِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إحْضَارِ الرَّهْنِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ تَسْلِيمُهُ ، وَبِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْمُبَادَلَةِ يَتَوَقَّفُ قَبْضُ الدَّيْنِ عَلَى إحْضَارِ الرَّهْنِ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ ) يَعْنِي الْمُرْتَهِنَ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَاكَ احْتِمَالُ تَكْرَارِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ ، فَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ ضَرَرٍ مُتَيَقَّنٍ وَهُوَ تَأَخُّرُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَهُ بِالنَّقْدِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ نَسِيئَةً .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ ) لِأَنَّ الرَّهْنَ بَيْعٌ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إحْضَارِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ ) يَعْنِي لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ، لِأَنَّهُ : أَيْ الرَّهْنَ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ ، فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ صَارَ كَأَنَّهُمَا تَفَاسَخَا الرَّهْنَ وَصَارَ الثَّمَنُ رَهْنًا بِتَرَاضِيهِمَا ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ انْتِقَالِ حُكْمِ الرَّهْنِ إلَى الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الرَّهْنَ بِأَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ بَلْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ

وَهُوَ دَيْنٌ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ عَدْلٍ لَكِنْ لَهُ ذَلِكَ .
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ عَاقِدًا وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ الْكُلِّ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ ) قِيلَ إذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الرَّهْنَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، فَإِذَا قَبَضَهُ وَجَبَ إحْضَارُهُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا أُمِرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ إلَى آخِرِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْإِحْضَارِ ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْأَدَاءِ بِدُونِ إحْضَارِ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّهْنِ خَطَأً حَتَّى قُضِيَ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
فَإِنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْمُرْتَهِنُ كُلَّ الْقِيمَةِ ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الْعَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّهَا كَمَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا تَكُونُ الْقِيمَةُ هَاهُنَا كَالثَّمَنِ ثَمَّةَ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْقَضَاءِ كَمَا كَانَ ثَمَّةَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَيْهَا الرَّهِينَةُ فَصَارَ كَالرَّهْنِ فِي يَدِ عَدْلٍ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الرَّهْنَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِهِ فَكَأَنَّهُمَا تَفَاسَخَا ، وَجُعِلَ الثَّمَنُ رَهْنًا ابْتِدَاءً كَمَا مَرَّ فَافْتَرَقَا .
وَفِي النِّهَايَةِ جَعَلَ قَوْلَهُ وَهَذَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ ، وَوَجْهُهُ هَكَذَا : أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ لَمْ يُجْبَرْ

الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْمُرْتَهِنُ كُلَّ الْقِيمَةِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ حَيْثُ يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ عِنْدَ كُلِّ نَجْمٍ يُؤَدِّيهِ الرَّاهِنُ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ كَمَا تَرَى مُتَعَسِّفٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الدَّيْنَ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَوْ قَضَاهُ الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَقِيَّةَ ) اعْتِبَارًا بِحَبْسِ الْمَبِيعِ ( فَإِذَا قَضَاهُ الدَّيْنَ قِيلَ لَهُ سَلِّمْ الرَّهْنَ إلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ( فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ تَفَاسَخَا الرَّهْنَ لَهُ حَبْسُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ أَوْ يُبْرِئْهُ ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا مَا بَقِيَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ ( وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ ) لِبَقَاءِ الرَّهْنِ ( وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ لَا بِاسْتِخْدَامٍ ، وَلَا بِسُكْنَى وَلَا لُبْسٍ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَالِكُ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْحَبْسِ دُونَ الِانْتِفَاعِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنْ الرَّاهِنِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيُعِيرَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا ، وَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ إلَخْ ) إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَ الرَّاهِنَ مِنْ بَيْعِهِ وَأَنْ لَا يُمَكِّنَ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَذَلِكَ حَقُّهُ فَلَهُ إسْقَاطُهُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَوْ هَلَكَ ) أَيْ الرَّهْنُ ( قَبْلَ الرَّدِّ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ ثُمَّ وَهَبَ الْمُرْتَهِنُ الْمَالَ لِلرَّاهِنِ أَوْ أَبْرَأَهُ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الرَّهْنَ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ ثَبَتَتْ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ فَصَيْرُورَتُهُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ حَقِيقَةً ، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةٌ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ يَرُدُّ الْمُسْتَوْفِي فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ اسْتِيفَاءٍ بِالْيَدِ وَالْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ الِاسْتِيفَاءُ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ ، فَالْقَضَاءُ بَعْدَ الْهَلَاكِ اسْتِيفَاءٌ بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ الرَّدُّ .
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ لِيَجِبَ رَدُّهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا رَدَّهُ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الرَّهْنَ ( يَبْقَى مَضْمُونًا مَا دَامَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ بَاقِيًا ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الرَّهْنَ سَقَطَ الضَّمَانُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا ، وَإِذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ سَقَطَ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ بَاقِيًا ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا

كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ يَعْدَمُ الْحُكْمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى مَضْمُونًا بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ فَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ احْتِمَالِ الْحَبْسِ بِاحْتِمَالِ اسْتِحْقَاقِ الْمُؤَدَّى يُوجِبُ بَقَاءَ الضَّمَانِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ لَا يُوجِبُ التَّحْقِيقَ لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ) .
يَعْنِي إذَا حَبَسَهُ بَعْدَ التَّفَاسُخِ فَهَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ ) مَعْنَاهُ انْتِفَاءُ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ وَالْإِنْفَاعِ بِهِ .

قَالَ ( وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ أَيْضًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ ( وَإِنْ حَفِظَهُ بِغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَوْدَعَهُ ضَمِنَ ) هَلْ يَضْمَنُ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ ( وَإِذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ ، وَالْأَمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي ( وَلَوْ رَهَنَهُ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ فِي خِنْصِرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالِاسْتِعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ بِالْحِفْظِ وَالْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ ( وَلَوْ جَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ كَانَ رَهْنًا بِمَا فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْبَسُ كَذَلِكَ عَادَةً فَكَانَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ إنْ لَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا ضَمِنَ ، وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَمْ يَضْمَنْ ( وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الثَّلَاثَةِ وَضَمِنَ فِي السَّيْفَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ الشُّجْعَانِ بِتَقَلُّدِ السَّيْفَيْنِ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تَجْرِ بِتَقَلُّدِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ ، إنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ خَاتَمَيْنِ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ فَهُوَ حَافِظٌ فَلَا يَضْمَنُ

قَالَ ( وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعِيَالِ لِلْمُسَاكَنَةِ لَا لِلنَّفَقَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَهَنَتْ وَسَلَّمَتْ الرَّهْنَ إلَى الزَّوْجِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَالِابْنُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي نَفَقَتِهِ إذَا سَاكَنَ الْأَبَ وَخَرَجَ الْأَبُ عَنْ الْمَنْزِلِ وَتَرَكَ الْمَنْزِلَ عَلَى الِابْنِ لَمْ يَضْمَنْ .

قَالَ ( وَأُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الرَّهْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَافِظِ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ وَتَبْقِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَكُونُ إصْلَاحُهُ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ النَّفَقَةِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ ، وَأُجْرَةُ الرَّاعِي فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَفُ الْحَيَوَانِ ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ كِسْوَةُ الرَّقِيقِ وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ ، وَسَقْيُ الْبُسْتَانِ ، وَكَرْيُ النَّهْرِ وَتَلْقِيحُ نَخِيلِهِ وَجُذَاذُهُ ، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ أُجْرَةِ الْحَافِظِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَقٌّ لَهُ وَالْحِفْظُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ الرَّهْنُ فِيهِ ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي تَبْقِيَتِهِ ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ جُعْلُ الْآبِقِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إعَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ لِيَرُدَّهُ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَلْزَمُهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَعَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَالرَّدُّ لِإِعَادَةِ الْيَدِ ، وَيَدُهُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُ الْمَالِكِ إذْ هُوَ كَالْمُودِعِ فِيهَا فَلِهَذَا يَكُونُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْبَيْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ

؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْحَبْسِ ، وَحَقُّ الْحَبْسِ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ لَهُ فَأَمَّا الْجُعْلُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَمُدَاوَاةُ الْجِرَاحَةِ وَالْقُرُوحِ وَمُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْفِدَاءُ مِنْ الْجِنَايَةِ تَنْقَسِمُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ ، وَالْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ، وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ ) فَإِنْ أَبَى فَالْقَاضِي يَأْمُرُ الْمُرْتَهِنَ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا قَضَى الدَّيْنَ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ النَّفَقَةَ ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ فِي قَوْلِ زُفَرَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : النَّفَقَةُ دَيْنٌ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ ) كَجُعْلِ الْآبِقِ ( أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ ) كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحِفْظُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ عَلَيْهِ ) قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ شَرَطَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْئًا عَلَى الْحِفْظِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ ) يَعْنِي بِخِلَافِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنَّ حَقَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ ، وَالْعَيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ الْعُشْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ كَاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنًا وَرُدَّ عَلَيْهِ عَقْدُ الرَّهْنِ فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا ارْتَهَنَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً مَعَ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ فِيهَا فَأَخَذَ الْعُشْرَ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ يُبْطِلُ الرَّهْنَ لِظُهُورِ الشُّيُوعِ فِيهِ فَكَذَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُشْرِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ وُجُوبَهُ ) أَيْ وُجُوبَ الْعُشْرِ ( لَا يُنَافِي مِلْكَهُ ) فِي جَمِيعِ مَا رَهَنَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ جَازَ ، وَلَوْ أَدَّى الْعُشْرَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ جَازَ فَصَحَّ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ خَرَجَ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ لَا مُقَارِنًا وَلَا طَارِئًا ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَحَقَّ

مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ فِيهِ ، وَكَذَا فِيمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّهُ مُشَاعٌ ( قَوْلُهُ وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ ) يَعْنِي مِنْ أُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا ( فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ( وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ ) فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالتَّنْصِيصِ ، لِأَنَّ أَمْرَهُ هَاهُنَا لَيْسَ لِلْإِلْزَامِ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِنْفَاقِ حِسْبَةً وَدَيْنًا ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ ) فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلِي عَلَى الْحَاضِرِ وَعِنْدَهُمَا يَلِي عَلَيْهِ .
يَعْنِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَمَّا نَفَذَ حَجْرُ الْقَاضِي عَلَى الْحُرِّ كَانَ نَافِذًا حَالَ غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ نَفَذَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْقَاضِي حَالَ حُضُورِهِ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَرَاهُ بِخِلَافِ حَالِ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ فِيهَا ضَرُورَةً

( بَابُ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ ) قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ، وَلَنَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَبْتَنِي عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمُشَاعُ وَعِنْدَهُ الْمُشَاعُ يَقْبَلُ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ ، أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ ، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا قَالَ رَهَنْتُك يَوْمًا وَيَوْمًا لَا ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ حَيْثُ يَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْهِبَةِ غَرَامَةُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ فِيمَا يُقَسَّمُ ، أَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالْمُشَاعُ يَقْبَلُهُ ، وَهَا هُنَا الْحُكْمُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَسْكُنُ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ، فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ يَقْبَلُ حُكْمَهَا وَهُوَ الْمِلْكُ

، وَاعْتِبَارُ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ لِنَفْيِ الْغَرَامَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِ الْهِبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي بَعْضِ الرَّهْنِ

( بَابُ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ ) لَمَّا ذَكَرَ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الرَّهْنِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ تَفْصِيلَ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ ، إذْ التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ إلَخْ ) رَهْنُ الْمُشَاعِ الْقَابِلِ لِلْقِسْمَةِ وَغَيْرِهِ فَاسِدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ إذَا قُبِضَ ؛ وَقِيلَ بَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْبَاطِلَ مِنْهُ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ جَائِزٌ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ فِي الْكِتَابِ دَلِيلًا لِأَنَّ أَصْلَ دَلِيلِهِ ، وَمُعْظَمَهُ قَدْ عُلِمَ فِي ضِمْنِ ذِكْرِ دَلِيلِنَا عَلَى مَا سَيَظْهَرُ ، وَدَلِيلُنَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ أَنَّ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِأَحْكَامِهَا ، فَإِذَا فَاتَ الْحُكْمُ كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ ، وَتَقْرِيرُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِفْتَاءِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ وَثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمُشَاعُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَالْمَرْهُونُ مِنْ الْمُشَاعِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَتَكُونُ الْيَدُ ثَابِتَةً عَلَى غَيْرِ الْمَرْهُونِ وَفِيهِ فَوَاتُ حُكْمِهِ .
وَأَدْرَجَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَلِيلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَعِنْدَهُ الْمُشَاعُ يَقْبَلُ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ ، فَيَكُونُ تَقْرِيرُ كَلَامِهِ حُكْمُ الرَّهْنِ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَالْمُشَاعُ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، فَحُكْمُ الرَّهْنِ يَجُوزُ فِي الْمُشَاعِ ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَصَوَّرًا كَانَ الْعَقْدُ مُقَيَّدًا ، وَتَقْرِيرُ الثَّانِي

أَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ : أَيْ مُوجَبَ حُكْمِهِ : يَعْنِي لَازِمَهُ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ : يَعْنِي مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ ( وَكُلُّ ذَلِكَ ) أَيْ كُلُّ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ ( يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ ) أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالدَّوَامِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ فَظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ رُبَّمَا جَحَدَ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا فَيَفُوتُ الِاسْتِيثَاقُ .
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِّ فَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَبْضُ ابْتِدَاءً وَجَبَ بَقَاءً ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّة فِي النِّكَاحِ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ عِنْدَنَا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَقْتَضِي الدَّوَامَ فَكَانَ دَوَامُ الْحَبْسِ لَازِمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ وَيَفُوتُ فِي الْمُشَاعِ ، وَالدَّاعِي إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَخْلِيصُ الْكَلَامِ عَنْ التَّكْرَارِ فَإِنَّهُ قَالَ : أَحَدُهُمَا يَنْبَنِي عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ ، وَالثَّانِي عَلَى مُوجَبِ الرَّهْنِ فَلَوْ كَانَ الْمُوجَبُ مُفَسَّرًا بِالْحُكْمِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ تَكَرَّرَ كَلَامُهُ وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ ) أَيْ إلَى دَوَامِ الْحَبْسِ مِنْ تَمَامِ الدَّلِيلِ : يَعْنِي ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الدَّوَامِ ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلْحَبْسِ فِي الْمُشَاعِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُهَايَأَةِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ رَهَنْتُك يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْحَبْسِ سِوَى يَوْمٍ فَيَفُوتُ الدَّوَامُ الْوَاجِبُ تَحَقُّقُهُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الدَّوَامَ يَفُوتُ

فِي الْمُشَاعِ تَسَاوَى مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا فِي الرَّهْنِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ( وَقَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ ) أَيْ الرَّهْنُ ( مِنْ شَرِيكِهِ ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا .
أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ حُكْمَهُ .
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ دَوَامُ الْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَصُورَةُ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ أَنْ يَرْهَنَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يَتَفَاسَخَا فِي الْبَعْضِ ، أَوْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ كَيْفَ شَاءَ فَبَاعَ نِصْفَهُ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَلَا رَهْنُ ثَمَرَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ ، وَلَا زَرْعِ الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ ، وَلَا رَهْنُ النَّخِيلِ فِي الْأَرْضِ دُونَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ خِلْقَةً فَكَانَ فِي مَعْنَى الشَّائِعِ ( وَكَذَا إذَا رَهَنَ الْأَرْضَ دُونَ النَّخِيلِ أَوْ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرِ ) ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُ الْمَرْهُونِ وَحْدَهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَهْنَ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّجَرِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ اسْمٌ لِلنَّابِتِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْأَشْجَارِ بِمَوَاضِعِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الدَّارَ دُونَ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ اسْمٌ لِلْمَبْنَى فَيَصِيرُ رَاهِنًا جَمِيعَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِمِلْكِ الرَّاهِنِ ( وَلَوْ رَهَنَ النَّخِيلَ بِمَوَاضِعِهَا جَازَ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُجَاوِرَةٌ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ ( وَلَوْ كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِاتِّصَالِهِ بِهِ فَيَدْخُلُ تَبَعًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ النَّخِيلِ بِدُونِ الثَّمَرِ جَائِزٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَبِخِلَافِ الْمَتَاعِ فِي الدَّارِ حَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بِوَجْهٍ مَا ، وَكَذَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالرَّطْبَةُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّمَرَةِ ( وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالْقَرْيَةِ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ رَهَنَ الدَّارَ بِمَا فِيهَا جَازَ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ ، إنْ كَانَ الْبَاقِي يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَقِيَ رَهْنًا بِحِصَّتِهِ وَإِلَّا بَطَلَ كُلُّهُ ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ جُعِلَ كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ إلَّا عَلَى الْبَاقِي ، وَيَمْنَعُ التَّسْلِيمَ كَوْنُ الرَّاهِنِ أَوْ مَتَاعِهِ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ ، وَكَذَا مَتَاعُهُ فِي

الْوِعَاءِ الْمَرْهُونِ ، وَيَمْنَعُ تَسْلِيمَ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فَلَا يَتِمُّ حَتَّى يُلْقِيَ الْحِمْلَ ؛ لِأَنَّهُ شَاغِلٌ لَهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الْحِمْلَ دُونَهَا حَيْثُ يَكُونُ رَهْنًا تَامًّا إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ مَشْغُولَةٌ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَهَنَ مَتَاعًا فِي دَارٍ أَوْ فِي وِعَاءٍ دُونَ الدَّارِ وَالْوِعَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ سَرْجًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لِجَامًا فِي رَأْسِهَا وَدَفَعَ الدَّابَّةَ مَعَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ حَيْثُ لَا يَكُونُ رَهْنًا حَتَّى يَنْزِعَهُ مِنْهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرَةِ لِلنَّخِيلِ حَتَّى قَالُوا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ .

قَالَ ( وَلَا رَهْنُ ثَمَرَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ دُونَ النَّخِيلِ ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ وَعِلَّتُهُ عِلَّتُهُ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْجَامِعَ أَنَّ اتِّصَالَ الْمَرْهُونِ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ فِي الْمَرْهُونِ وَحْدَهُ لِاخْتِلَاطِهِ بِغَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمَتَاعِ فِي الدَّارِ ) يَعْنِي إذَا رَهَنَ دَارًا مَشْغُولَةً بِأَمْتِعَةِ الرَّاهِنِ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ تَابِعَةً لِلدَّارِ بِوَجْهٍ لَمْ تَدْخُلْ فِي رَهْنِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَانْتَفَى الْقَبْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الدَّارَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا لَمْ تَدْخُلْ الْأَمْتِعَةُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ النَّخِيلَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا فَإِنَّهُ تَدْخُلُ الثِّمَارُ فَتَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ لِاتِّصَالِهَا بِهَا خِلْقَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ ) يَعْنِي بَعْضَ الرَّهْنِ بِأَنْ رَهَنَ دَارًا أَوْ أَرْضًا فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي غَيْرَ مُشَاعٍ بِأَنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا مُعَيَّنًا غَيْرَ مُشَاعٍ أَوْ كَانَ مُشَاعًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَحَّ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَانَ مَا بَقِيَ وَهُوَ غَيْرُ مُشَاعٍ وَكَانَ جَائِزًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ الْأَوَّلِ مُشَاعٌ وَهُوَ مَانِعٌ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى قَالُوا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ) يَعْنِي قَالَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إذَا رَهَنَ دَابَّةً عَلَيْهَا لِجَامٌ أَوْ سَرْجٌ دَخَلَ ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ تَبَعًا .

قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِالْأَمَانَاتِ ) كَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْمُضَارَبَاتِ ( وَمَالِ الشِّرْكَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الرَّهْنِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمَانٍ ثَابِتٍ لِيَقَعَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا وَيَتَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ ( وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ الْعَيْنُ لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ شَيْئًا لَكِنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَهُوَ حَقُّ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مُتَقَرِّرٌ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا تَجِبُ قِيمَتُهُ فَكَانَ رَهْنًا بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ فَيَصِحُّ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِالْأَمَانَاتِ ) قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

قَالَ ( وَالرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْنَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَلَا اسْتِيفَاءَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَجُوزُ أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ ، وَالْتِزَامُ الْأَفْعَالِ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمَآلِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ ، فَلَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ حَيْثُ وَقَعَ بَاطِلًا ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَهَنْتُك هَذَا لِتُقْرِضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْعُودَ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الرَّهْنِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِهِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَيَضْمَنُهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَالرَّهْنُ بِالدَّرْكِ بَاطِلٌ ) قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الدَّرْكَ هُوَ رُجُوعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ .
وَصُورَةُ الرَّهْنِ بِذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَخَافَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ فَيَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ رَهْنًا بِالثَّمَنِ لَوْ اسْتَحَقَّهُ أَحَدٌ وَهُوَ بَاطِلٌ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَ الرَّهْنِ ، إنْ قَبَضَهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ أَوَّلًا .
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِذَلِكَ فَهِيَ جَائِزَةٌ ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَذَكَرَ فِي فَائِدَةِ ضَمَانِ الدَّرْكِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ رُجُوعِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ ضَمِنَ الْبَائِعُ دَرْكَهُ أَوَّلًا ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَضْمَنْ لَا يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الرُّجُوعِ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِنَقْضِ الْبَيْعِ ، وَأَمَّا إذَا ضَمِنَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَضَى الْقَاضِي بِنَقْضِ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يَقْضِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا اُسْتُحِقَّ لَمْ يَنْتَقِضْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي ، لِأَنَّ احْتِمَالَ إقَامَةِ الْبَائِعِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَوْ التَّلَقِّي مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ قَائِمٌ ، أَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي ثَبَتَ الْعَجْزُ وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَهْلِكُ أَمَانَةً ، وَصُورَتُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَوْعُودَ ) يَعْنِي مِنْ الدَّيْنِ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِقْرَاضِ شَيْءٍ وَصَاحِبُ الْمَالِ لَا يُعْطِيهِ قَبْلَ قَبْضِ الرَّهْنِ فَيَجْعَلُ الدَّيْنَ الْمَوْعُودَ مَوْجُودًا احْتِيَالًا لِلْجَوَازِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ عَنْ الْمُسْتَقْرِضِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيُجْعَلْ الْمَعْدُومُ فِي الدَّرْكِ مَوْجُودًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحَاجَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ يُجْعَلُ مَوْجُودًا إذَا كَانَ عَلَى شَرَفِ

الْوُجُودِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ إنْجَازُ وَعْدِهِ ، وَالدَّرْكُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ لَا يُقْدِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الرَّهْنِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِهِ ) أَيْ وُجُودِ الدَّيْنِ وَلِلْمَقْبُوضِ بِجِهَةِ الشَّيْءِ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ( فَيُعْطَى لَهُ ) أَيْ لِلَّذِي قَبَضَ بِجِهَةِ الرَّهْنِ ( حُكْمُ الرَّهْنِ ) حَتَّى يَهْلِكَ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُقْرِضِ إيفَاءُ مَا وَعَدَهُ ، وَهَذَا إذَا سَاوَى قِيمَةَ مَا اسْتَقْرَضَهُ ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ جَرْيًا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْغَالِبَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يُسَاوِيَ الدَّيْنَ .
فَإِنْ قِيلَ : قِيَاسُ هَذَا بِالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْمَوْعُودُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَاعْتِبَارُهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا لَا أَمَانَةً .
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْقِيمَةِ وَالْمَوْعُودُ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَحَيْثُ جُعِلَ الدَّيْنُ مَوْجُودًا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، وَضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ضَمَانٌ مُبْتَدَأٌ يَجِبُ بِالْعَقْدِ إذْ لَيْسَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْءٌ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيُجْعَلُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى كَضَمَانِ الْغَصْبِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَضْمَنُهُ ) أَيْ فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ مَا قَبَضَ رَهْنًا عَنْ الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ .

قَالَ ( وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبِثَمَنِ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الِاسْتِيفَاءُ ، وَهَذَا اسْتِبْدَالٌ لِعَدَمِ الْمُجَانِسَةِ ، وَبَابُ الِاسْتِبْدَالِ فِيهَا مَسْدُودٌ وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ وَهُوَ الْمَضْمُونُ عَلَى مَا مَرَّ قَالَ ( وَالرَّهْنُ بِالْمَبِيعِ بَاطِلٌ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ ( فَإِنْ هَلَكَ ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْبَاطِلِ فَبَقِيَ قَبْضًا بِإِذْنِهِ ( وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بِثَمَنِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ حُكْمًا ) لِتَحَقُّقِ الْقَبْضِ حُكْمًا ( وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بَطَلَا ) لِفَوَاتِ الْقَبْضِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ( وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بَطَلَ السَّلَمُ بِهَلَاكِهِ ) وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ السَّلَمُ ( وَلَوْ تَفَاسَخَا السَّلَمَ وَبِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنٌ يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا بِرَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْبِسَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ فَصَارَ كَالْمَغْصُوبِ إذَا هَلَكَ وَبِهِ رَهْنٌ يَكُونُ رَهْنًا بِقِيمَتِهِ ( وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ التَّفَاسُخِ يَهْلِكُ بِالطَّعَامِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِغَيْرِهِ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَخْذِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلَهُ ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا ؛ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا وَأَدَّى ثَمَنَهُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ، ثُمَّ لَوْ هَلَكَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ فَكَذَا هَذَا

قَالَ ( وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إلَخْ ) قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : حُكْمُ الرَّهْنِ الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَهَذَا ) أَيْ أَخْذُ الرَّهْنِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ فَكَانَ اسْتِبْدَالًا ، وَبَابُ الِاسْتِبْدَالِ فِيهَا مَسْدُودٌ .
قُلْنَا : هُوَ اسْتِيفَاءٌ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ فِي الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ .
وَأَمَّا عَيْنُ الرَّهْنِ فَهُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ كَمَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَمَاتَ كَانَ كَفَنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَالْأَعْيَانُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ الِاسْتِبْدَالُ فِي رَأْسِ الْمَالِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّا إنَّمَا اعْتَبَرْنَا التَّجَانُسَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فِي الرَّهْنِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مَضْمُونًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَعَلَى تَعَذُّرِ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ لِكَوْنِهِ أَمَانَةً وَفِي الِاسْتِبْدَالِ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَمَلُّكِ الْعَيْنِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( لِفَوَاتِ الْقَبْضِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ) أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ إنَّمَا يَصِيرُ قَابِضًا بِالْهَلَاكِ وَكَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ .
وَقَوْلُهُ ( يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا بِرَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْبِسُهُ ) بِالرَّفْعِ لِكَوْنِ حَتَّى بِمَعْنَى الْفَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ بَدَلُهُ ) أَيْ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ بَدَلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالرَّهْنِ بِالْمَغْصُوبِ إذَا هَلَكَ فَإِنَّهُ رَهْنٌ بِقِيمَتِهِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّهْنَ كَانَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَقَدْ سَقَطَ ، وَرَأْسُ الْمَالِ دَيْنٌ آخَرُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ آخَرَ هُوَ وَالْقَبْضُ فَلَا يَكُونُ رَهْنًا بِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ

دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فَرَهَنَ بِالدَّنَانِيرِ رَهْنًا ثُمَّ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ الدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِالدَّرَاهِمِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ الدَّنَانِيرِ بِخِلَافِ السَّلَمِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ إلَخْ ) أَيْ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ بَعْدَ التَّفَاسُخِ هَلَكَ بِالطَّعَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِرَبِّ السَّلَمِ مُطَالَبَةُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ رَهَنَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِغَيْرِهِ : أَيْ بِغَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( هَلَكَ بِالطَّعَامِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ بِرَأْسِ الْمَالِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَيَأْخُذَ رَأْسَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ صَارَتْ مَالِيَّتُهُ مَضْمُونَةً بِطَعَامِ السَّلَمِ ، وَقَدْ بَقِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ إلَى أَنْ هَلَكَ فَصَارَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا طَعَامَ السَّلَمِ ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً قَبْلَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ تَقَايَلَا أَوْ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَزِمَهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى وَاسْتِرْدَادُ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ، فَهَلَاكُ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ الْإِقَالَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : ذِمَّةُ رَبِّ السَّلَمِ اشْتَغَلَتْ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الطَّعَامِ وَلَهُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ جِنْسِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّ الطَّعَامِ .
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَالِيَّةَ الرَّهْنِ هَاهُنَا مِنْ الدَّرَاهِمِ ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ مَالِيَّةِ الْأَشْيَاءِ بِالنُّقُودِ لَيْسَ بِحَتْمٍ ، وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ بِهَا تَيْسِيرًا فَلَا يَقْتَضِي الْحَجْرَ عَلَى التَّقْدِيرِ بِغَيْرِهَا ، وَلَمَّا جَعَلَا الرَّهْنَ بِالطَّعَامِ مَعَ عِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ عَقْدُ

اسْتِيفَاءٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَقْدِيرَ الْمَالِيَّةِ بِالطَّعَامِ تَحْقِيقًا لِغَرَضِهِمَا ، فَكَانَ الرَّهْنُ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ تَقْدِيرًا ، فَعِنْدَ هَلَاكِهِ اشْتَغَلَتْ الذِّمَّةُ بِالطَّعَامِ دُونَ الدَّرَاهِمِ ، فَلَا يَكُونُ مَا عَلَيْهِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا قِصَاصًا ، بَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِ الطَّعَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمُسْلَمَ فِيهِ ، وَالْإِقَالَةُ مُتَقَرِّرَةٌ لِمَا مَرَّ آنِفًا أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَدَّى ثَمَنَهُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ ) يَعْنِي أَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ أَرَادَ فَسْخَهُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ مِنْ الْبَائِعِ ، فَإِنْ هَلَكَ الْمُشْتَرَى بَعْدَ الْحَبْسِ فِي يَدِهِ هَلَكَ بِقِيمَتِهِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ هَؤُلَاءِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ فِي الْحُرِّ وَقِيَامِ الْمَانِعِ فِي الْبَاقِينَ ، ( وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ، وَكَذَا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا ) لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ الرَّهْنِ مُمْكِنٌقَالَ ( وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيَامُ الْمَانِعِ فِي الْبَاقِينَ ) يَعْنِي حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ، وَلِهَذَا لَوْ طَرَأَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ أَبْطَلَتْهُ ، فَإِذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً مَنَعَتْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ) لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ الرَّهْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ وَهُمَا جَارِيَانِ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ .
وَأَمَّا لَوْ رَهَنَ عَنْ بَدَلِ الصُّلْحِ فِيهِمَا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ الرَّهْنِ مُمْكِنٌ ، وَلَوْ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى عَيْنٍ ثُمَّ رَهَنَ بِهَا رَهْنًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ فَكَانَ كَالْمَبِيعِ .

( وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي ( وَلَا بِالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمَدْيُونِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ( وَلَا بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ ، حَتَّى لَوْ ضَاعَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مَضْمُونٌوَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ بِالشُّفْعَةِ ) صُورَتُهُ أَنْ يَطْلُبَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ وَيَقْضِيَ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَيَقُولُ لِلْمُشْتَرِي أَعْطِنِي رَهْنًا بِالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَوْ ضَاعَ ) يَعْنِي الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مَضْمُونٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ الْمُسْتَأْجِرَ بِتَسْلِيمِ الْأَجْرِ .

( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَرْهَنَ خَمْرًا أَوْ يَرْتَهِنَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ) لِتَعَذُّرِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ الرَّاهِنُ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَالْخَمْرُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِلذِّمِّيِّ كَمَا إذَا غَصَبَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا لَمْ يَضْمَنْهَا لِلْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَضْمَنُهَا بِالْغَصْبِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَى ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ فِي حَقِّهِمْ ، أَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَيْسَتْ بِمَالٍ عِنْدَهُمْ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهَا وَارْتِهَانُهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ ( وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَرَهَنَ بِثَمَنِهِ عَبْدًا أَوْ خَلًّا أَوْ شَاةً مَذْبُوحَةً ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ الْخَلُّ خَمَرًا أَوْ الشَّاةُ مَيْتَةً فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ ) ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ ظَاهِرًا ( وَكَذَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا وَرَهَنَ بِقِيمَتِهِ رَهْنًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حُرٌّ ) وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى إنْكَارٍ وَرَهَنَ بِمَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَهْنًا ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُهُ ، وَكَذَا قِيَاسُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِنْسِهِ .

وَقَوْلُهُ ( فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ ) يَعْنِي بِالْأَقَلِّ وَمِنْ قِيمَتِهِ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ ( لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ ظَاهِرًا ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ لَوْ اخْتَصَمَا إلَى الْقَاضِي قَبْلَ ظُهُورِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فَالْقَاضِي يَقْضِي بِالثَّمَنِ ، وَوُجُوبُ الدَّيْنِ ظَاهِرًا يَكْفِي لِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَلِصَيْرُورَتِهِ مَضْمُونًا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ ) أَيْ الْعَبْدَ الْمَقْتُولَ ( حُرٌّ ) وَقَدْ هَلَكَ الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَبْضٌ بِمَالٍ مَضْمُونٍ ظَاهِرًا فَكَانَ كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ حَقِيقَةً .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافُهُ : يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى عَدَمِ الضَّمَانِ ، وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا وَالِاسْتِيفَاءُ بِدُونِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا قِيَاسُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِنْسِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَحْفُوظَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارٍ وَالْمَشَايِخُ قَالُوا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسَائِلِ الْبَاقِيَةِ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ وَالْخَلِّ وَالشَّاةِ كَذَلِكَ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ عَبْدًا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ ، وَهَذَا أَنْظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُرْتَهِنِ بِحِفْظِهِ أَبْلَغُ خِيفَةَ الْغَرَامَةِ ( وَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا ، الْوَدِيعَةُ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ) فِي هَذَا الْبَابِ لِمَا بَيَّنَّا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ إزَالَةَ مِلْكِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ فِي الْحَالِ ، وَفِي هَذَا نَصْبٌ حَافِظٌ لِمَالِهِ نَاجِزًا مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ ( وَإِذَا جَازَ الرَّهْنُ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَيَصِيرُ الْأَبُ ) أَوْ الْوَصِيُّ ( مُوفِيًا لَهُ وَيَضْمَنُهُ لِلصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِمَالِهِ ، وَكَذَا لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْبَيْعِ وَهُمَا يَمْلِكَانِهِ قَالُوا : أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَيْعُ ، فَإِنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا بَاعَ مَالَ الصَّبِيِّ مِنْ غَرِيمِ نَفْسِهِ جَازَ وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَيَضْمَنُهُ لِلصَّبِيِّ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَكَذَا وَكِيلُ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ ، وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ نَظَرًا إلَى عَاقِبَتِهِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الضَّمَانِ ( وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ أَوْ عَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ أُنْزِلَ مَنْزِلَةَ شَخْصَيْنِ وَأُقِيمَتْ عِبَارَتُهُ مَقَامَ عِبَارَتَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِهِ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ فَتَوَلَّى طَرَفِي الْعَقْدِ ( وَلَوْ ارْتَهَنَهُ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ هَذَيْنِ أَوْ رَهْنًا عَيْنًا لَهُ مِنْ الْيَتِيمِ بِحَقٍّ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ ،

وَالْوَاحِدُ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ كَمَا لَا يَتَوَلَّاهُمَا فِي الْبَيْعِ ، وَهُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ ، وَالرَّهْنِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَعَبْدِهِ التَّاجِرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ مِنْ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ ابْنِهِ الْكَبِيرِ وَأَبِيهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَاحِدًا .
( وَإِنْ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ فَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالرَّهْنُ يَقَعُ إيفَاءً لِلْحَقِّ فَيَجُوزُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ اتَّجَرَ لِلْيَتِيمِ فَارْتَهَنَ أَوْ رَهَنَ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى لَهُ التِّجَارَةُ تَثْمِيرًا لِمَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الِارْتِهَانِ وَالرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ ( وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ فَأَدْرَكَ الِابْنُ وَمَاتَ الْأَبُ لَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ ) لِوُقُوعِهِ لَازِمًا مِنْ جَانِبِهِ ؛ إذْ تَصَرُّفُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ( وَلَوْ كَانَ الْأَبُ رَهَنَهُ لِنَفْسِهِ فَقَضَاهُ الِابْنُ رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْأَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْيَاءِ مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ مُعِيرَ الرَّهْنِ ( وَكَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ( وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ ( فَإِنْ هَلَكَ ضَمِنَ الْأَبُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَلَدِ ) لِإِيفَائِهِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ ( وَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ

مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ عَلَيْهِ وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ اسْتَعَارَهُ الْوَصِيُّ لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ فَضَاعَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَهَلَكَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ وَالْحُكْمُ فِيهِ هَذَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَى الْوَصِيِّ ) مَعْنَاهُ هُوَ الْمُطَالِبُ بِهِ ( ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ ؛ إذْ هِيَ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ ( وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ضَمِنَهُ لِلصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ غَصَبَهُ الْوَصِيُّ بَعْدَ مَا رَهَنَهُ فَاسْتَعْمَلَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ، فَيُقْضَى بِهِ الدَّيْنُ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ ( فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَدَّاهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْيَتِيمِ ) ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْيَتِيمِ فَالْتَقَيَا قِصَاصًا ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ ) مِنْ الدَّيْنِ ( أَدَّى قَدْرَ الْقِيمَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَدَّى الزِّيَادَةَ مِنْ مَال الْيَتِيمِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ قَدْرُ الْقِيمَةِ لَا غَيْرَ ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ أَدَّى قَدْرَ الدَّيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَالْفَضْلُ لِلْيَتِيمِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَالْقِيمَةُ رَهْنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ الْمُحْتَرَمِ فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ، ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ ( وَلَوْ أَنَّهُ غَصَبَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُهُ لِحَقِّ

الْمُرْتَهِنِ ، وَلَا يَضْمَنُهُ لِحَقِّ الصَّغِيرِ ) ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ لَيْسَ بِتَعَدٍّ ، وَكَذَا الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ : إذَا أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِغَصْبِ مَالِ الصَّغِيرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ لِمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْأَخْذِ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُهُ لِلْمُرْتَهِنِ يَأْخُذُهُ بِدَيْنِهِ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ ، وَيَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، ثُمَّ إذَا حَلَّ الدَّيْنُ يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنْهُ وَيَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا

وَقَوْلُهُ ( لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الِابْنِ الْكَبِيرِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْهَنَ عَبْدَهُ بِدَيْنِ نَفْسِهِ إلَّا بِإِذْنِ الِابْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَهَذَا أَنْظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ هَلَكَ بِمَا فِيهِ وَيَضْمَنُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ لِلصَّغِيرِ قِيمَةَ الرَّهْنِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ ضَمِنَا مِقْدَارَ الدَّيْنِ دُونَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُمَا فِيهَا مُودَعٌ وَلَهُمَا الْوِلَايَةُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ) بَلْ يَبْقَى دَيْنُ الْغَرِيمِ عَلَى الْأَبِ كَمَا كَانَ وَيَصِيرُ لِلصَّغِيرِ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ ) يُرِيدُ بَيَانَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ رَاهِنًا وَمُرْتَهِنًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَيَأْخُذَ شَيْئًا رَهْنًا مِنْ مَتَاعِهِ فَيَكُونَ رَاهِنًا مِنْ جِهَةِ ابْنِهِ وَمُرْتَهِنًا لِذَاتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ عَبْدٌ لَهُ تَاجِرٌ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ) قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْوَصِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ مِنْ الْأَبِ أَوْلَى ، فَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ مِنْ عَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَجْعَلُ رَهْنَهُ مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَرَهْنِهِ مِنْ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ الْأَبُ مِنْ نَفْسِهِ جَازَ فَكَذَا إذَا رَهَنَ مِنْ عَبْدِهِ ، وَالْوَصِيُّ لَوْ رَهَنَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَا مِنْ عَبْدِهِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَبِ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ بِأَنْ بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَا جَازَ رَهْنُهُ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْوَصِيِّ

مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَكَذَا رَهْنُهُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَابْنِهِ الْكَبِيرِ وَعَبْدِهِ لِلْوَصِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَاحِدًا ) يُرِيدُ كَوْنَهُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ الْقِيمَةِ وَالدَّيْنِ ، سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَوْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَاتَ الْأَبُ ) قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ .
ثُمَّ إذَا قَضَى الِابْنُ دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ لِنَفْسِهِ فَذَاكَ ، وَإِنْ كَانَ لِوَالِدِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ وَالِدِهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ ) يُرِيدُ بِهِ رَهْنَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ مَتَاعَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَرَهْنُهُمَا ذَلِكَ بِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَلَكَ بِدَيْنِهِمَا ، لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكُلِّ دُونَ الْعَكْسِ .
وَقَوْلُهُ ( كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ) أَيْ كَفِعْلِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحُكْمُ فِيهِ هَذَا ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْيَتِيمُ بَالِغًا فَرَهَنَ مَتَاعَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ اسْتَعَارَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ ، لِأَنَّ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُسْتَوْفِيًا ، لِدَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْمَدْيُونِ ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْوَصِيِّ بِالدَّيْنِ كَمَا كَانَ يَرْجِعُ بِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْوَصِيُّ عَلَى الْيَتِيمِ وَقَدْ ضَاعَتْ الْعَيْنُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ، لِأَنَّهُ

إنَّمَا اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ .
وَقَوْلُهُ ( يَضْمَنُهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ) يَعْنِي قَدْرَ الدَّيْنِ ، وَلَا يَضْمَنُهُ لِحَقِّ الصَّغِيرِ : يَعْنِي قَدْرَ الزِّيَادَةِ عَلَى الدَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ يَأْخُذُهُ بِدَيْنِهِ ) أَيْ يَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ مَا ضَمِنَهُ الْوَصِيُّ بِمُقَابَلَةِ دَيْنِهِ .
فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِلِاسْتِئْنَافِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ فَكَانَ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ ( فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ هَلَكَتْ بِمِثْلِهَا مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَإِنْ رَهَنَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَضَاعَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَهِيَ مِثْلُ الدَّيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي فَيَصِيرُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مُسْتَوْفِيًا ( فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ) الْمَذْكُورِ لَهُمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الِاسْتِيفَاءِ بِالْوَزْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمُرْتَهِنِ ، وَلَا إلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَصِرْنَا إلَى التَّضْمِينِ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ لِيَنْتَقِضَ الْقَبْضُ وَيُجْعَلَ مَكَانَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكَهُ وَلَهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، وَاسْتِيفَاءُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ كَمَا إذَا تَجَوَّزَ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْضِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ مِنْ مُطَالِبٍ وَمُطَالَبٍ ، وَكَذَا الْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَبِتَعَذُّرِ التَّضْمِينِ يَتَعَذَّرُ النَّقْضُ ، وَقِيلَ : هَذِهِ فُرَيْعَةُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ فَهَلَكَتْ ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ يُمْنَعُ

الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَصِحُّ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي هَذَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَبَضَ الزُّيُوفَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ عَيْنِهَا ، وَالزِّيَافَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ ، وَقَدْ تَمَّ بِالْهَلَاكِ وَقَبْضِ الرَّهْنِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْضِ الْقَبْضِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ عِنْدَهُ بِالتَّضْمِينِ ، وَلَوْ انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْفِكَاكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِالْجَوْدَةِ عَلَى الِانْفِرَاد ، وَلَا إلَى أَنْ يَفْتَكَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فَخَيَّرْنَاهُ ، إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِمَا فِيهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْمَكْسُورُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْفِكَاكُ مَجَّانًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ ، وَفِي الْهَلَاكِ الْحَقِيقِيِّ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ قُلْنَا : الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْمَالِيَّةِ ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَفِي جَعْلِهِ بِالدَّيْنِ إغْلَاقُ الرَّهْنِ وَهُوَ حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ فَكَانَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ أَوْلَى وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةً يَضْمَنُ قِيمَتَهُ جَيِّدًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ أَوْ رَدِيئًا مِنْ جِنْسِهِ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ ، وَالْهَلَاكُ

عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوَزْنِ عِنْدَهُ لَا لِلْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ كُلِّهِ مَضْمُونًا يُجْعَلُ كُلُّهُ مَضْمُونًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فَبَعْضُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَابِعَةٌ لِلذَّاتِ ، وَمَتَى صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ التَّابِعُ أَمَانَةً وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ ، وَيَكُونُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْإِبْرِيقِ لَهُ بِالضَّمَانِ وَسُدُسُهُ يُفْرَزُ حَتَّى لَا يَبْقَى الرَّهْنُ شَائِعًا ، وَيَكُونُ مَعَ قِيمَتِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَكْسُورِ رَهْنًا ؛ فَعِنْدَهُ تُعْتَبَرُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ ، وَتُجْعَلُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ كَزِيَادَةِ الْوَزْنِ كَأَنَّ وَزْنَهُ اثْنَا عَشَرَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا حَتَّى تُعْتَبَرَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ ، بِخِلَافِ جِنْسِهَا ، وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا سَمْعًا فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا ، وَفِي بَيَانِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ نَوْعُ طُولٍ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالزِّيَادَاتِ مَعَ جَمِيعِ شُعَبِهَا

( قَالَ : وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ) قَدْ عَلِمْت أَنَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ جَازَ أَنْ يُرْهَنَ بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيَجُوزُ رَهْنُهَا ، فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا وَهَلَكَتْ هَلَكَتْ بِمِثْلِهَا مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ لِسُقُوطِهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ، وَأَتَى بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى تَفْصِيلِ ذِكْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَهُوَ بِمَا فِيهِ ) يَعْنِي فَذَلِكَ الرَّهْنُ يُبَاعُ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ كُلِّهِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْوَجْهَيْنِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا يَكُونُ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ ) يَعْنِي الرَّاهِنُ يَتَمَلَّكُ الرَّهْنَ الَّذِي جُعِلَ مَكَانَ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاسْتِيفَاءُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنْ يُقَالَ : وَاسْتِيفَاءُ الرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا أَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا تَجَوَّزَ بِهِ أَيْ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يُؤْذِنُ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ يُقَالَ : وَاسْتِيفَاءُ الرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ ، لِأَنَّ التَّجَوُّزَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا إذَا أَخَذَ الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ اسْتِيفَاءِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ لَا شُبْهَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ .
وَالثَّانِي الِاسْتِدْلَال بِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ بِعَشَرَتِهِ قِيمَةَ إبْرِيقٍ هِيَ أَقَلُّ

مِنْ الْعَشَرَةِ لِرَدَاءَتِهِ فَكَانَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا الرَّدِيءَ بِمُقَابَلَةِ جَيِّدِهِ .
وَأَرَى أَنَّ مَا فِي النُّسَخِ حَقٌّ وَيُفِيدُ مَا يَرُومُهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِجْمَاعِ ) لِمَا عُرِفَ أَنَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِالرَّدِّ ، وَالْفَرْضُ عَدَمُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُطَالِبٍ وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مُتَعَنِّتًا لِطَلَبِهِ مَا يَضُرُّهُ ، وَلَا الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مُطَالِبٌ فَلَا يَكُونُ مُطَالَبًا ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَضْمِينُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ نَقْضُهُ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَا إذَا إلَخْ ) إنَّمَا يُتَصَوَّرُ جَعْلُهَا فُرَيْعَةَ تِلْكَ بِنَاءً عَلَى مَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ .
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي هَذِهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ ) يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَيْ رَبَّ الدَّيْنِ قَبَضَ الزُّيُوفَ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْ عَيْنِهَا : أَيْ أَنْ يَكُونَ عَيْنُهَا مَقَامَ مَا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَالزِّيَافَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ وَقَدْ تَمَّ بِالْهَلَاكِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْنِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَكَانَ قَابِلًا لِرَدِّهِ بِالضَّمَانِ وَأَخْذِ مِثْلِ حَقِّهِ فَيَنْتَقِضُ الْقَبْضُ .
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ مَا قِيلَ إنَّ الزَّيْفَ مَقْبُوضٌ لِلِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ لِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَهُنَاكَ الْمُسْتَوْفِي إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْهَلَاكِ يَسْقُطُ حَقُّهُ وَلَا يَرْجِعُ

بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَكَانِ الْجَوْدَةِ فَكَذَا فِي الرَّهْنِ ، وَعِنْدَهُمَا هُنَاكَ يَضْمَنُ مِثْلَ الْمُسْتَوْفَى وَيُقَامُ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَ رَدِّ الْعَيْنِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ فِي الْجَوْدَةِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَبْسُوطِهِ : وَلَكِنْ جَعْلُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُبْتَدَأَةً أَوْلَى ، لِأَنَّهُ وَجَدَ هَاهُنَا لِلْمُرْتَهِنِ الرِّضَا بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الرَّهْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لِعِلْمِهِ أَنَّ بِالْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ثَمَّةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ ) كَانَ الْكَلَامُ فِيمَا مَرَّ مِنْ حَيْثُ هَلَاكُ الرَّهْنِ وَهَاهُنَا مِنْ حَيْثُ انْكِسَارُهُ ، وَلَوْ انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ لِأَنَّهُ إنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ مَعَ كَمَالِهِ وَهُوَ نُقْصَانٌ مِنْ جِهَةِ الرَّهْنِ ، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ : أَيْ الْمُرْتَهِنُ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِالْجَوْدَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ الدَّيْنِ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَ مِنْ جَوْدَةِ الْإِبْرِيقِ بِالْكَسْرِ وَذَلِكَ رِبًا ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالرَّاهِنِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَبَضَ الرَّهْنَ سَلِيمًا عَنْ الْعَيْبِ وَبِالِانْكِسَارِ صَارَ مَعِيبًا فَيَصِلُ إلَيْهِ حَقُّهُ نَاقِصًا إذْ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ فَخَيَّرْنَاهُ بَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّهُ بِمَا فِيهِ : أَيْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي الْمَكْسُورِ وَهُوَ جَمِيعُ الدَّيْنِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ مَصُوغًا فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَيَمْلِكُ الْمَكْسُورَ بِالضَّمَانِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا

لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْفِكَاكُ مَجَّانًا : يَعْنِي لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا أَنْ يَفْتَكَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ بَقِيَ أَنْ يَفْتَكَّهُ مَجَّانًا وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ فِي تَعَذُّرِ الْفِكَاكِ وَفِي الْحَقِيقِيِّ مِنْ الْهَلَاكِ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ .
وَقُلْنَا : الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءٌ بِالْمَالِيَّةِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ اسْتِيفَاءٌ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْمَالِيَّةِ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ لِفَوَاتِ عَيْنِهِ ، ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ ، وَفِي جَعْلِهِ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ إغْلَاقُ الرَّهْنِ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ بِأَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَمْلُوكًا كَالْمُرْتَهِنِ وَهُوَ حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ فَكَانَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ أَوْلَى .
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ ، وَالْحَقُّ فَكَانَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ وَاجِبًا أَوْ صَوَابًا أَوْ الصَّحِيحُ أَوْ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ) بِأَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عَشَرَةً كَالدَّيْنِ وَقِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ لِوُجُودِ عَشَرَةٍ فِيهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ جَيِّدًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا أَوْ رَدِيئًا مِنْ جِنْسِهِ ، وَيَكُونُ الْمَضْمُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ وَيَكُونُ الْمَكْسُورُ لَهُ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ كَمَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ فِي حَالَةِ الِانْكِسَارِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الِانْكِسَارُ بِالْهَلَاكِ ، وَالْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ : يَعْنِي فِي هَذَا الْفَصْلِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْإِبْرِيقِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ لَا بِالدَّيْنِ فَكَذَا الِانْكِسَارُ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْوَجْهَ الثَّالِثَ عَلَى الثَّانِي لِاحْتِيَاجِ الثَّانِي إلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فِيهِ طُولٌ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا

كَانَ وَزْنُهُ عَشَرَةً كَالدَّيْنِ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ لِجَوْدَةٍ وَصِنَاعَةٍ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ وَيَمْلِكُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْإِبْرِيقِ وَيُفْرِزُ سُدُسَهُ حَذَرًا عَنْ طَرَيَانِ الشُّيُوعِ ، فَإِنَّ الطَّارِئَ مِنْهُ فِيهِ كَالْمُقَارِنِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّقْصَ بِالِانْكِسَارِ إنْ كَانَ دِرْهَمًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يُجْعَلَ الرَّهْنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِ .
أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لِلْوَزْنِ لَا لِلْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ كُلِّهِ مَضْمُونًا كَمَا إذَا كَانَ وَزْنُ الرَّهْنِ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ جُعِلَ الرَّهْنُ كُلُّهُ مَضْمُونًا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا كَمَا إذَا كَانَ وَزْنُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِ الدَّيْنِ فَبَعْضُهُ مَضْمُونٌ وَهُوَ مِقْدَارُ الدَّيْنِ لَا الزَّائِدُ عَلَيْهِ .
وَتَنْقَسِمُ الْجَوْدَةُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ ، فَحِصَّةُ الْمَضْمُونِ مَضْمُونَةٌ وَغَيْرُهَا أَمَانَةٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَابِعَةٌ لِلذَّاتِ ، وَمَتَى صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ التَّابِعُ أَمَانَةً ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا كَانَ كُلُّهُ مَضْمُونًا مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ وَزْنَ الرَّهْنِ مِثْلُ وَزْنِ الدَّيْنِ فَيَكُونُ كُلُّهُ مَضْمُونًا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ لِئَلَّا يَكُونَ حُكْمُ الْبَيْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَالَةِ الْهَلَاكِ أَنَّ حَالَةَ الْهَلَاكِ حَالَةُ اسْتِيفَاءٍ فَيَقَعُ الْفَضْلُ أَمَانَةً ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ عِنْدَهُ بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ

الْغَصْبِ فِي كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ رِضَا الرَّاهِنِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ ، لَكِنْ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الضَّمَانَ وَالْأَمَانَةَ يَشِيعُ فِي الْوَزْنِ وَالْجَوْدَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ ( بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ ) فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ قَلْبًا وَزْنُهُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِهْدَارُهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا لِكَوْنِهَا هَدَرًا فِي ذَاتِهَا فَكَانَتْ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ بِالْجَوْدَةِ كَالزِّيَادَةِ فِي الْوَزْنِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا ، وَيَصِيرُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْإِبْرِيقِ مَضْمُونًا لِجَوْدَتِهِ وَصَنْعَتِهِ وَسُدُسُهُ أَمَانَةٌ ، فَالتَّغَيُّرُ بِالِانْكِسَارِ فِيمَا هُوَ أَمَانَةٌ لَا يُعْتَبَرُ وَفِيمَا هُوَ مَضْمُونٌ يُعْتَبَرُ .
وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ لَيْسَتْ بِحَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ أَيْضًا فَيَضْمَنُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَزْنَ مَضْمُونٌ وَالْجَوْدَةَ أَمَانَةٌ لِلْمُنَاسَبَةِ ، لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَابِعَةٌ لِلْوَزْنِ لَا تَنْفَصِلُ عَنْهُ ، وَصِفَةُ الْأَمَانَةِ فِي الْمَرْهُونِ كَذَلِكَ فَيُجْعَلُ الْأَصْلُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَصْلِ وَالتَّبَعُ بِمُقَابِلَةِ التَّبَعِ ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فَإِنْ زَادَ النُّقْصَانُ عَلَى الدِّرْهَمَيْنِ وَقَعَ النُّقْصَانُ فِي الْمَضْمُونِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ بِالِانْكِسَارِ ، وَالِانْكِسَارُ عِنْدَهُ كَالْهَلَاكِ ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِانْكِسَارِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ وَيَتَخَيَّرُ الرَّاهِنُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى الدِّرْهَمَيْنِ وَقَعَ النُّقْصَانُ فِي الْأَمَانَةِ وَالرَّهْنِ ، وَالْمَضْمُونُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّرْهَمَ

وَالدِّرْهَمَيْنِ لَيْسَا بِحَدٍّ فَاصِلٍ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْفَاصِلُ نُقْصَانُ مِقْدَارِ الصِّنَاعَةِ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الدِّرْهَمَانِ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَفْرُوضَةٌ بِذَلِكَ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إذَا بَاعَ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا مُعَيَّنًا حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقُبِلَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا ، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ لِلِاسْتِيثَاقِ وَأَنَّهُ يُلَائِمُ الْوُجُوبَ ، فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ وَالرَّهْنُ مُعَيَّنًا اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى وَهُوَ مُلَائِمٌ فَصَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَلَا الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلْجَهَالَةِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِعَيْنِهِ فَيَفْسُدُ ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا فَحَضَرَ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ صَحَّ ( وَلَوْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ كَالْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الرَّهْنِ فَيَلْزَمُهُ بِلُزُومِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ : الرَّهْنُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ مِنْ جَانِبِ الرَّاهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا جَبْرَ عَلَى التَّبَرُّعَاتِ ( وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَرْكِ الرَّهْنِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ) ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَمَا رَضِيَ إلَّا بِهِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ ( إلَّا أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ حَالًّا ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ( أَوْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الرَّهْنِ رَهْنًا ) ؛ لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِعَيْنِهِ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَمْ يَبْقَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلْجَهَالَةِ ) يَعْنِي أَنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى مَعْنَاهُ ، وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَالْكَفِيلُ غَائِبًا فَاتَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رُبَّمَا يَأْتِي بِشَيْءٍ يُسَاوِي عُشْرَ حَقِّهِ أَوْ يُعْطِي كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوَثُّقِ شَيْءٌ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِعَيْنِ الشَّرْطِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فَقَالَ لِلْبَائِعِ أَمْسِكْ هَذَا الثَّوْبَ حَتَّى أُعْطِيَك الثَّمَنَ فَالثَّوْبُ رَهْنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ إلَى وَقْتِ الْإِعْطَاءِ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي حَتَّى كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً ، وَالْحَوَالَةُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ كَفَالَةٌ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَكُونُ رَهْنًا ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَمْسِكْ يَحْتَمِلُ الرَّهْنَ وَيَحْتَمِلُ الْإِيدَاعَ ، وَالثَّانِي أَقَلُّهُمَا فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَمْسِكْهُ بِدَيْنِك أَوْ بِمَالِك ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَابَلَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ عَيَّنَ جِهَةَ الرَّهْنِ قُلْنَا : لَمَّا مَدَّهُ إلَى الْإِعْطَاءِ عَلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الرَّهْنُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فَقَالَ لِلْبَائِعِ أَمْسِكْ هَذَا الثَّوْبَ حَتَّى أُعْطِيَك الثَّمَنَ ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ ثَوْبًا غَيْرَ الْمُشْتَرَى .
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ ، وَلَوْ قَالَ أَمْسِكْهُ بِدَيْنِك أَوْ قَالَ أَمْسِكْهُ رَهْنًا حَتَّى أُعْطِيَك ثَمَنَك فَهُوَ رَهْنٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَقَوْلُهُ ( عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الرَّهْنُ ) لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهَذَا عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الرَّهْنُ .

( وَمَنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ فَقَضَى حِصَّةَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَاقِيَ الدَّيْنِ ) وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ إذَا قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُبَالَغَةً فِي حَمْلِهِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَصَارَ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الرَّهْنِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ الَّذِي رَهَنَهُ بِهِ ، فَكَذَا الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ : وَفِي الزِّيَادَاتِ : لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ إذَا أَدَّى مَا سَمَّى لَهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَقْدَ مُتَّحِدٌ لَا يَتَفَرَّقُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ وَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الِاتِّحَادِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ لَا يَصِيرُ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ .

( فَصْلٌ ) وَجْهُ الْفَصْلِ كَوْنُ الرَّهْنِ مُتَعَدِّدًا وَلَا خَفَاءَ فِي تَأَخُّرِ التَّعَدُّدِ عَنْ الْإِفْرَادِ .
قَوْلُهُ ( وَصَارَ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ) فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَدَّى حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مِنْ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَاقِي الثَّمَنِ ، فَإِذَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الرَّهْنِ شَيْئًا كَمَا لَوْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ كُلَّ عَبْدٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَفِي الزِّيَادَاتِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ إذَا أَدَّى مَا سَمَّى ، وَوَجْهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( أَلَا يُرَى ) تَوْضِيحٌ لِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ تَفْرِيقِ الْقَبُولِ فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الرَّاهِنُ مِنْ تَفْرِيقِ الْقَبْضِ فِي الِانْتِهَاءِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الرَّهْنِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ فَكَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ عَبْدٍ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَتَفَرَّقُ فِيهِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ كَمَا فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ وَالْهَلَاكُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُهُ ، فَبَعْدَمَا نَقَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَدَّى إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ بِأَنْ يَهْلِكَ مَا بَقِيَ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ بِالْهَلَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ ، كَمَا أَنَّ بِالِافْتِكَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْبَعْضِ عِنْدَ قَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَهْلِكَ مَا بَقِيَ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ

مَوْجُودٌ .
قُلْنَا : نَعَمْ ، وَلَكِنْ حِصَّةُ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الدَّيْنِ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِيَقِينٍ ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ أَكْثَرَ قِيمَةً مِثْلُ أَنْ يُسَاوِيَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا وَالْآخَرُ أَلْفَيْنِ وَرَهَنَهُمَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا مِنْ ذَاكَ وَأَرَادَ الرَّاهِنُ فِكَاكَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَأَدَّى أَلْفًا وَيَقُولُ هَذَا الَّذِي رَهَنْته بِأَلْفٍ وَالْمُرْتَهِنُ يَقُولُ بَلْ هَذَا رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ ، فَكَانَ ذَلِكَ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
فَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ فَحِصَّةُ كُلِّ عَبْدٍ مَعْلُومَةٌ بِالتَّسْمِيَةِ لَا جَهَالَةَ هُنَاكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَلِهَذَا تَمَكَّنَ مِنْ فِكَاكِ الْبَعْضِ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ .

قَالَ ( فَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جَازَ ، وَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ ، وَمُوجِبُهُ صَيْرُورَتُهُ مُحْتَبِسًا بِالدَّيْنِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّيِ فَصَارَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( فَإِنْ تَهَايَآ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ كَالْعَدْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ ) قَالَ ( وَالْمَضْمُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ ؛ إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِمَّا يَتَجَزَّأُ قَالَ ( فَإِنْ أَعْطَى أَحَدُهُمَا دَيْنَهُ كَانَ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ رَهْنٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ وَعَلَى هَذَا حَبْسُ الْمَبِيعِ إذَا أَدَّى أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ .

قَالَ ( فَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ إلَخْ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِهِمَا شَرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَا لِكَوْنِ الدَّيْنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَدَيْنُ الْآخَرِ دَنَانِيرُ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الرَّهْنَ أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ ) قِيلَ هُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا بَاعَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ الشُّيُوعُ حَتَّى كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمَوْهُوبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى اثْنَيْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِيمَا يَكُونُ الْعَقْدُ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِشَخْصَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَتُجْعَلُ شَائِعَةً تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا لِلْجَوَازِ ، وَالرَّهْنُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمِلْكِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الِاحْتِبَاسَ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ مُحْتَبِسَةً لِحَقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيَمْتَنِعُ الشُّيُوعُ فِيهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ لِكَوْنِ الْقَبْضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الرَّهْنِ ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ عَنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَعْلِ ذَلِكَ شَائِعًا مَانِعًا عَنْ الْهِبَةِ دُونَ الرَّهْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ كَالْعَدْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ ارْتِهَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلْ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ رَهْنٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ انْتَهَى مَقْصُودُهُ مِنْ الرَّهْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى

الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نِيَابَةٍ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَرِدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لَكِنَّهُ يَسْتَرِدُّهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ارْتِهَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلْ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ نِصْفِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ ، فَإِنَّ فِيهِ وَفَاءً بِدِينِهِمَا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ ثَانِيًا .

قَالَ ( وَإِنْ رَهَنَ رَجُلَانِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا رَجُلًا رَهْنًا وَاحِدًا فَهُوَ جَائِزٌ وَالرَّهْنُ رَهْنٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ يَحْصُلُ فِي الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ ( فَإِنْ أَقَامَ الرَّجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُ عَبْدَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ وَقَبَضَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ رَهَنَهُ كُلَّ الْعَبْدِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ رَهْنًا لِهَذَا وَكُلُّهُ رَهْنًا لِذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِكُلِّهِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَتَعَيَّنَ التَّهَاتُرُ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ يَكُونُ رَهْنًا لَهُمَا كَأَنَّهُمَا ارْتَهَنَاهُ مَعًا إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا ، وَجُعِلَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا عَمَلٌ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ حَبْسًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مِثْلِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَبِهَذَا الْقَضَاءِ يَثْبُتُ حَبْسٌ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى شَطْرِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلًا عَلَى وَفْقِ الْحُجَّةِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا لَكِنَّ مُحَمَّدًا أَخَذَ بِهِ لِقُوَّتِهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بَاطِلًا فَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ أَمَانَةً ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ قَالَ ( وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْعَبْدُ فِي أَيْدِيهِمَا فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ رَهْنًا يَبِيعُهُ بِحَقِّهِ اسْتِحْسَانًا ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَفِي الْقِيَاسِ : هَذَا بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ

لِلِاسْتِيفَاءِ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لِعَقْدِ الرَّهْنِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِعَقْدِ الرَّهْنِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ لِلشُّيُوعِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُرَادُ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِحُكْمِهِ ، وَحُكْمُهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ الْحَبْسُ وَالشُّيُوعُ يَضُرُّهُ ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ الِاسْتِيفَاءُ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ وَالشُّيُوعُ لَا يَضُرُّهُ ، وَصَارَ كَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَوْ ادَّعَتْ أُخْتَانِ النِّكَاحَ عَلَى رَجُلٍ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ تَهَاتَرَتْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَيُقْضَى بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْمَمَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِنْ رَهَنَ رَجُلَانِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا رَجُلًا رَهْنًا إلَخْ ) هَذِهِ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَهِيَ وَاضِحَةٌ .
وَمِنْ شُعَبِهَا مَا إذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهُ رَجُلٌ أَنَّهُ رَهَنَهُ عَبْدَهُ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ وَقَبَضَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَادَّعَاهُ آخَرُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ فِيهَا ، وَجُمْلَتُهَا أَنَّ الْعَبْدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا أَوَّلًا فِي يَدِ وَاحِدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي السَّبْقِ وَهُوَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ .
وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنْ عُلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : وَبِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ ، وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَّةَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ ، حَتَّى إذَا قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ رَهْنٌ كُلُّهُ عِنْدَ الْآخَرِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ فِي الْحَبْسِ مَعَهُ ، وَهَاهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى هَذَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا عَمَلٌ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ إلَخْ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( قَالَ وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ جَازَ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ ) ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ يَدُ الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَانْعَدَمَ الْقَبْضُ وَلَنَا أَنَّ يَدَهُ عَلَى الصُّورَةِ يَدُ الْمَالِكِ فِي الْحِفْظِ ؛ إذْ الْعَيْنُ أَمَانَةٌ ، وَفِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ ضَمَانٍ وَالْمَضْمُونُ هُوَ الْمَالِيَّةُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الشَّخْصَيْنِ تَحْقِيقًا لِمَا قَصَدَاهُ مِنْ الرَّهْنِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى الْمَالِكِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ كَالْمُودَعِ قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَا لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ بِيَدِهِ وَأَمَانَتِهِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ اسْتِيفَاءً فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ ( فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ ) ؛ لِأَنَّ يَدَهُ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ وَهِيَ الْمَضْمُونَةُ ( وَلَوْ دَفَعَ الْعَدْلُ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُودَعُ الرَّاهِنِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَمُودَعُ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ وَأَحَدُهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْآخَرِ ، وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ ( وَإِذَا ضَمِنَ الْعَدْلُ قِيمَةَ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَدْفُوعُ عَلَيْهِ أَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ الْقِيمَةَ رَهْنًا فِي يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ ، لَكِنْ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَاهَا مِنْهُ وَيَجْعَلَاهَا رَهْنًا عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَوْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا يَرْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَى الْقَاضِي لِيَفْعَلَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ وَقَدْ ضَمِنَ الْعَدْلُ الْقِيمَةَ بِالدَّفْعِ إلَى الرَّاهِنِ فَالْقِيمَةُ سَالِمَةٌ لَهُ لِوُصُولِ الْمَرْهُونِ إلَى الرَّاهِنِ وَوُصُولِ

الدَّيْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ ( وَإِنْ كَانَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَالرَّاهِنُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ يَأْخُذُهَا إذَا أَدَّى الدَّيْنَ ، فَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مَا قَامَ مَقَامَهَا ، وَلَا جَمْعَ فِيهِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ

بَابُ الرَّهْنِ يُوضَعُ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إلَى نَفْسِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ذَكَرَ مَا يَرْجِعُ إلَى نَائِبِهِمَا وَهُوَ الْعَدْلُ ، لِأَنَّ حُكْمَ النَّائِبِ يَقْفُو حُكْمَ الْأَصْلِ ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدْلِ هَاهُنَا مَنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِوَضْعِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ وَرَضِيَا بِبَيْعِهِ الرَّهْنَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَهُوَ وَكِيلُ الرَّاهِنِ بِبَيْعِهِ ، لَكِنَّهُ يُخَالِفُ الْمُفْرَدَ فِي مَسَائِلَ ذَكَرَهَا فِي النِّهَايَةِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالتُّمُرْتَاشِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ ( وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطَيْنِ وَشَرْحِ الْأَقْطَعِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى بَدَلَ مَالِكٍ ، وَكَأَنَّهُ شَكَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ ، فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَانَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا يَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الرَّاهِنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ .
يَعْنِي إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَضَمِنَ الْعَدْلُ قِيمَتَهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ الرَّاهِنِ لَمَّا رَجَعَ ، وَهُوَ كَالْمُودَعِ إذَا ضَمِنَ قِيمَةَ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ الْهَلَاكِ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُودَعِ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ مُودَعِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ كَالْمُودَعِ ) يُشِيرُ إلَى دَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ ، كَمَا أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الرَّاهِنِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فَلِمَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدْلَ يَضْمَنُ لِلْمُسْتَحِقِّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ، وَالْغَصْبُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ،

وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الْمَالِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَيْسَ بِقَائِلٍ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَبْضُ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُرْتَهِنِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا حُكْمًا لِأَنَّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ أَمْرُهُ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَاقَى حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْآمِرِ ، وَبِعَقْدِ الرَّهْنِ لَمْ يَصِرْ الْقَبْضُ حَقًّا لَهُ حَتَّى كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ مُوَافَقَةُ الرَّاهِنِ إيَّاهُ فِي الْوَضْعِ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى قَبْضِ الرَّاهِنِ لَمْ يَتِمَّ ، فَكَذَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى قَبْضِ الْعَدْلِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَابِضٌ مِنْ حَيْثُ أَمْرُهُ الْعَدْلَ بِالْقَبْضِ وَهُوَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ الْمَنْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، وَالرَّاهِنُ يَنْفَرِدُ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَالْقَبْضُ حَقُّهُ مَا دَامَ الْعَقْدُ بَاقِيًا .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ الْقِيمَةَ ) أَيْ الْعَدْلُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا يُرْفَعُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ يَرْفَعُ الْعَدْلُ أَحَدَهُمَا إلَى الْقَاضِي ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ : يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي أَحَدُهُمَا إمَّا الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ وَهُوَ أَظْهَرُ ( وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ) أَيْ جَعَلَ الْقِيمَةَ فِي يَدِ الْعَدْلِ رَهْنًا ثُمَّ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ وَالْحَالُ أَنَّ الْعَدْلَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالدَّفْعِ إلَى الرَّاهِنِ ، فَالْقِيمَةُ سَالِمَةٌ لَهُ : أَيْ لِلْعَدْلِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ وَصَلَ إلَى حَقِّهِ : الرَّاهِنُ إلَى الرَّهْنِ وَالْمُرْتَهِنُ إلَى الدَّيْنِ ، فَلَوْ أَخَذَهَا أَحَدُهُمَا اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ وَبَدَلُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فِي

حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَالرَّاهِنُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ أَخَذَهُ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ ، فَكَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَلَا جَمْعَ فِيهِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ، وَهَلْ يَرْجِعُ الْعَدْلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْعَدْلُ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَرْجِعُ ، وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَدْلَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مَلَكَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعَارَ أَوْ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ دَفَعَ إلَى الْمُرْتَهِنِ رَهْنًا بِأَنْ قَالَ هَذَا رَهْنُك خُذْهُ بِحَقِّك وَاحْبِسْهُ بِدَيْنِك رَجَعَ الْعَدْلُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ .

قَالَ ( وَإِذَا وَكَّلَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ أَوْ الْعَدْلَ أَوْ غَيْرَهُمَا بِبَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِبَيْعِ مَالِهِ ( وَإِنْ شُرِطَتْ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ ، وَإِنْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ ) ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا شُرِطَتْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ صَارَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ وَحَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لِزِيَادَةِ الْوَثِيقَةِ فَيَلْزَمُ بِلُزُومِ أَصْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَفِي الْعَزْلِ إتْوَاءُ حَقِّهِ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِطَلَبِ الْمُدَّعِي ( وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا حَتَّى مَلَكَ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ نَسِيئَةً لَمْ يَعْمَلْ نَهْيُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ بِأَصْلِهِ ، فَكَذَا بِوَصْفِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا إذَا عَزَلَهُ الْمُرْتَهِنُ لَا يَنْعَزِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ وَإِنَّمَا وَكَّلَهُ غَيْرُهُ ( وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَنْعَزِلْ ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُقَدَّمٌوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا وَكَّلَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ ) يَعْنِي بِدُونِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ وَقَوْلُهُ ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ ) أَيْ أَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ ( لِزِيَادَةِ الْوَثِيقَةِ فَيَلْزَمُ بِلُزُومِ أَصْلِهِ ) أَيْ عَقْدِ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ عَقْدُ الْوَكَالَةِ ( لَازِمٌ بِأَصْلِهِ فَكَذَا بِوَصْفِهِ ) وَهُوَ الْإِطْلَاقُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ

قَالَ ( وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ كَمَا يَبِيعُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَبْقَى بِحُقُوقِهِ وَأَوْصَافِهِ ( وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ وَلَا يَقُومُ وَارِثُهُ وَلَا وَصِيُّهُ مَقَامَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا يَجْرِي فِيهَا الْإِرْثُ ، وَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ وَصِيَّ الْوَكِيلِ يَمْلِكُ بَيْعَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَازِمَةٌ فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ ، كَالْمُضَارِبِ إذَا مَاتَ بَعْدَمَا صَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَعْيَانًا يَمْلِكُ وَصِيُّ الْمُضَارِبِ بَيْعَهَا لِمَا أَنَّهُ لَازِمٌ بَعْدَ مَا صَارَ أَعْيَانًا قُلْنَا : التَّوْكِيلُ حَقٌّ لَازِمٌ لَكِنْ عَلَيْهِ ، وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِيمَا لَهُ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا حَقُّ الْمُضَارِبِ ( وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَهُ إلَّا بِرِضَا الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ وَمَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ ( وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَهُ إلَّا بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِمَالِيَّتِهِ مِنْ الرَّاهِنِ فَلَا يَقْدِرُ الرَّاهِنُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِالْبَيْعِ

وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْعَقْدَ ) أَيْ عَقْدَ الرَّهْنِ ( لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَبْقَى بِحُقُوقِهِ ) الَّتِي هِيَ الْحَبْسُ وَالِاسْتِيفَاءُ وَالْوَكَالَةُ ( وَأَوْصَافُهُ ) الَّتِي هِيَ اللُّزُومُ وَجَبْرُ الْوَكِيلِ وَحَقُّ بَيْعِ وَلَدِ الرَّهْنِ وَحَقُّ صَرْفِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ ) يَعْنِي وَالرَّهْنُ بَاقٍ كَمَا كَانَ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَمَاتَ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِهِ ، فَلَأَنْ لَا يَبْطُلَ بِمَوْتِ الْعَدْلِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِيمَا لَهُ ) أَيْ لَا فِيمَا عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجِبُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ وَرِثُوهُ

قَالَ ( فَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ وَأَبَى الْوَكِيلُ الَّذِي فِي يَدِهِ الرَّهْنُ أَنْ يَبِيعَهُ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي لُزُومِهِ ( وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِالْخُصُومَةِ وَغَابَ الْمُوَكِّلُ فَأَبَى أَنْ يُخَاصِمَ أُجْبِرَ عَلَى الْخُصُومَةِ ) لِلْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ فِيهِ إتْوَاءَ الْحَقِّ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَتْوِي حَقَّهُ ، أَمَّا الْمُدَّعِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّعْوَى وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّوْكِيلُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِنَّمَا شُرِطَ بَعْدَهُ قِيلَ لَا يُجْبَرُ اعْتِبَارًا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَقِيلَ يُجْبَرُ رُجُوعًا إلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَهَذَا أَصَحُّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي الْأَصْلِ

وَقَوْلُهُ ( أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ ) يَعْنِي يُحْبَسُ أَيَّامًا حَتَّى يَبِيعَهُ ، فَإِنْ لَجَّ بَعْدَمَا حَبَسَهُ أَيَّامًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَبِيعُ قِيَاسًا عَلَى مَالِ الْمَدْيُونِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : يَبِيعُهُ لِأَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ تَعَيَّنَتْ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ ) أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِهِ وَالْآخَرُ أَنَّ فِيهِ إتْوَاءَ حَقِّهِ .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ لَا يُجْبَرُ اعْتِبَارًا لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فِيمَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي الرَّهْنِ وَفِيمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ( وَاحِدٌ ) أَيْ يُجْبَرُ فِيهِمَا ( وَيُؤَيِّدُهُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إذَا أَتَى الْوَكِيلُ يُجْبَرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مُطْلَقًا

( وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ ، وَالثَّمَنُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَانَ رَهْنًا ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ ) لِقِيَامِهِ مَقَامَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا ، وَإِذَا تَوَى كَانَ مَالَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَبِيعِ الْمَرْهُونِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ وَغَرِمَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَإِنْ كَانَ بَدَلَ الدَّمِ فَأَخَذَ حُكْمَ ضَمَانِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ فَبَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ عَبْدٌ فَدُفِعَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا قَالَ ( وَإِنْ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ فَأَوْفَى الْمُرْتَهِنَ الثَّمَنَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الرَّهْنُ فَضَمِنَهُ الْعَدْلُ كَانَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الثَّمَنَ الَّذِي أَعْطَاهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ غَيْرَهُ ) وَكَشْفُ هَذَا أَنَّ الْمَرْهُونَ الْمَبِيعَ إذَا اُسْتُحِقَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ هَالِكًا أَوْ قَائِمًا فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْعَدْلَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ نَفَذَ الْبَيْعُ وَصَحَّ الِاقْتِضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعِ مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَإِذَا ضَمَّنَ الْعَدْلَ فَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَنَفَذَ الْبَيْعُ وَصَحَّ الِاقْتِضَاءُ فَلَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّمَنَ

بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَنَفَذَ بَيْعُهُ عَلَيْهِ فَصَارَ الثَّمَنُ لَهُ ، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ عَلَى حُسْبَانِ أَنَّهُ مِلْكُ الرَّاهِنِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ فَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ حَيْثُ وَجَبَ بِالْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ الْعَدْلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ صَحَّ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ سُلِّمَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ بَطَلَ الثَّمَنُ وَقَدْ قَبَضَهُ ثَمَنًا فَيَجِبُ نَقْضُ قَبْضِهِ ضَرُورَةً ، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ وَانْتُقِضَ قَبْضُهُ عَادَ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ عَامَلَ لِلرَّاهِنِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا قَبَضَ وَلَمْ يَقْبِضْ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ كَانَ التَّوْكِيلُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِي الْعَقْدِ فَمَا لَحِقَ الْعَدْلَ مِنْ الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ قَبَضَ الثَّمَنَ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا التَّوْكِيلِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَلَا رُجُوعَ ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنْ الرَّهْنِ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى مَنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ ثُمَّ لَحِقَهُ عُهْدَةٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى

الْمُقْتَضَى ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ لِحَقِّهِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ لَا يَرَى جَبْرَ هَذَا الْوَكِيلِ عَلَى الْبَيْعِ

وَقَوْلُهُ ( فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ ) لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَمِلْكُهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا ( وَإِذَا تَوَى كَانَ مَالَ الْمُرْتَهِنِ ) بِنَصَبِ مَالٍ عَلَى مَا صَحَّحَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَغَرِمَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ ) يَعْنِي تَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَقَامَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَهُوَ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّهُ : أَيْ هَذَا الضَّمَانُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَإِنْ كَانَ مُقَابَلًا بِالدَّمِ حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ ( فَأَخَذَ حُكْمَ ضَمَانِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ ) وَهُوَ الْمَوْلَى فَيَبْقَى عَقْدُ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ غَيْرَهُ ) أَيْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُرْتَهِنَ غَيْرَ الثَّمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ وَكَلَامُهُ مَكْشُوفٌ بِكَشْفِهِ وَإِيضَاحِهِ شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ سِوَى أَلْفَاظٍ وَضَمَائِرَ نُوَضِّحُهَا زِيَادَةَ إيضَاحٍ .
فَقَوْلُهُ ( وَصَحَّ الِاقْتِضَاءُ ) أَيْ صَحَّ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ دَيْنِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ ) أَيْ الْعَدْلُ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ ) أَيْ مِلْكُ الْعَدْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ ) أَيْ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَهُ ) أَيْ فَلِلْعَدْلِ .
وَقَوْلُهُ ( بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ ) أَيْ بَطَلَ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّمَا أَدَّاهُ ) أَيْ إنَّمَا أَدَّى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْعَدْلِ لِيُسَلِّمْ لِلْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ .
وَقَوْلُهُ ( رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ ) أَيْ بِالثَّمَنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ سَلَّمَ لَهُ ) أَيْ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْعَدْلِ سُلِّمَ لِلْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ) أَيْ وَإِنْ شَاءَ الْعَدْلُ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَرْجِعُ بِهِ ) أَيْ فَيَرْجِعُ

الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ الَّذِي هُوَ دَيْنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُقْتَضِي ) أَيْ عَلَى الْقَابِضِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ الْبَيْعُ لِحَقِّهِ ) فَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ لِحَقِّهِ وَسَلَّمَ لَهُ جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ لَا يَرَى جَبْرَ هَذَا الْوَكِيلِ عَلَى الْبَيْعِ : أَيْ الْوَكِيلِ الَّذِي لَمْ تَكُنْ وَكَالَتُهُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ وَبَيْنَ الْوَكَالَةِ الَّتِي بَعْدَ الْعَقْدِ فَقَالَ فِي الْوَكِيلِ الَّذِي كَانَتْ وَكَالَتُهُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ : يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا التَّوْكِيلِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ

قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فَلَهُ الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ أَوْ بِالْقَبْضِ ( فَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ فَقَدْ مَاتَ بِالدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَصَحَّ الْإِيفَاءُ ( وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْقِيمَةِ وَبِدَيْنِهِ ) أَمَّا بِالْقِيمَةِ فَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ ، وَأَمَّا بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّهُ انْتَقَضَ اقْتِضَاؤُهُ فَيَعُودُ حَقُّهُ كَمَا كَانَ فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ يَثْبُتُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا ضَمَّنَ الْمُسْتَحِقُّ الرَّاهِنَ ابْتِدَاءً قُلْنَا : هَذَا طَعْنُ أَبِي خَازِمٍ الْقَاضِي وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ وَالْغُرُورُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، أَوْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ ، وَالْمِلْكُ بِكُلِّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَضْمَنُهُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ السَّابِقِ عَلَى الرَّهْنِ فَيَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَقَدْ طَوَّلْنَا الْكَلَامَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى

( وَقَوْلُهُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ أَوْ بِالْقَبْضِ ) يَعْنِي الرَّاهِنَ بِالتَّسْلِيمِ وَالْمُرْتَهِنَ بِالْقَبْضِ فَكَانَ كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ وَقَوْلُهُ ( فَلِأَنَّهُ انْتَقَضَ اقْتِضَاؤُهُ ) أَيْ قَبْضُهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ الرَّاهِنِ حَتَّى يَكُونَ بِهَلَاكِهِ مُسْتَوْفِيًا .
وَقَوْلُهُ ( طَعْنُ أَبِي خَازِمٍ ) يَعْنِي هَذَا السُّؤَالَ طَعَنَ بِهِ أَبُو خَازِمٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَأَبُو خَازِمٍ هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ بِبَغْدَادَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْغُرُورُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الرَّاهِنِ ( كَأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ ) أَيْ كَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ وَكِيلٌ عَنْ الرَّاهِنِ مِنْ حَيْثُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ مِنْهُ إلَيْهِ كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ الْوَكِيلِ إلَى الْمُوَكِّلِ ( وَالْمِلْكُ بِكُلِّ ذَلِكَ ) أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالِانْتِقَالِ ( مُتَأَخِّرٌ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ ) أَمَّا بِالتَّسْلِيمِ فَظَاهِرٌ ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ غَيْرَ مِلْكِهِ .
وَأَمَّا بِالِانْتِقَالِ فَلِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ غَاصِبٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ ، فَإِذَا ضَمِنَ مَلَكَ الْمَضْمُونَ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُرْتَهِنُ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِهِ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ بَعْد ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ مِلْكُ الرَّهْنِ مُتَأَخِّرًا عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ فَكَأَنَّهُ رَهَنَ غَيْرَ مِلْكِهِ ، وَلَا يُشْكِلُ إذَا اسْتَحَقَّ رَأْسَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَضَمِنَهُ الْمُضَارِبُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارَبَةُ نَافِذَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مُتَأَخِّرًا عَنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لِمَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ الرُّجُوعَ بِالْغُرُورِ وَالْغُرُورَ

بِالتَّسْلِيمِ أَوْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ إلَيْهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْعَقْدَ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَيَتَقَدَّرُ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ لَيْسَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي مَا إذَا ضَمِنَ الْمُسْتَحِقُّ الرَّاهِنَ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَضْمَنُهُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ السَّابِقِ عَلَى الرَّهْنِ فَيَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَيْهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ طَوَّلْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) قِيلَ مُرَادُهُ مَسْأَلَةَ الْمُضَارَبَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ .
وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَأَبَقَ وَضَمَّنَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ وَبِالدَّيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ لِلرَّاهِنِ لِقَرَارِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ رَهْنًا لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بَطَلَ الرَّهْنُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلرَّاهِنِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ وَعَقْدُ الرَّهْنِ كَانَ سَابِقًا عَلَى ذَلِكَ

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ ( فَإِنْ أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ ( وَإِنْ قَضَاهُ الرَّاهِنُ دَيْنَهُ جَازَ أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ النُّفُوذِ وَالْمُقْتَضِي مَوْجُودٌ وَهُوَ التَّصَرُّفُ الصَّادِرُ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ ( وَإِذَا نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إلَى بَدَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ ، وَالْبَدَلُ لَهُ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ الْمَأْذُونِ إذَا بِيعَ بِرِضَا الْغُرَمَاءِ يَنْتَقِلُ حَقُّهُمْ إلَى الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالِانْتِقَالِ دُونَ السُّقُوطِ رَأْسًا فَكَذَا هَذَا ( وَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ وَفَسَخَهُ انْفَسَخَ فِي رِوَايَةٍ ، حَتَّى لَوْ افْتَكَّ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ لَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْمَالِكِ لَهُ أَنْ يُجِيزَ وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ ( وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لَهُ إنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ حَقِّهِ ، وَحَقُّهُ فِي الْحَبْسِ لَا يَبْطُلُ بِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي صَبَرَ حَتَّى يَفْتَكَّ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ ؛ إذْ الْعَجْزُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْسَخَ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَوِلَايَةُ الْفَسْخِ إلَى الْقَاضِي لَا إلَيْهِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِمَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ هَذَا ( وَلَوْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ مِنْ

رَجُلٍ ثُمَّ بَاعَهُ بَيْعًا ثَانِيًا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْمُرْتَهِنُ فَالثَّانِي مَوْقُوفٌ أَيْضًا عَلَى إجَازَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَنْفُذْ وَالْمَوْقُوفُ لَا يَمْنَعُ تَوَقُّفَ الثَّانِي ، فَلَوْ أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ الثَّانِي جَازَ الثَّانِي

( بَابُ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ) التَّصَرُّفُ فِي الرَّهْنِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ كَوْنِهِ رَهْنًا فَكَانَ مُتَأَخِّرًا طَبْعًا فَأَخَّرَهُ وَضْعًا .
قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ إلَخْ ) إذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَأْذَنْ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ عِبَارَةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ .
فِي مَوْضِعٍ قَالَ بَيْعُ الْمَرْهُونِ فَاسِدٌ ، وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ جَائِزٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ .
وَقَوْلُهُ فَاسِدٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَجُزْ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُفْسِدُهُ إذَا خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي التَّسْلِيمَ .
وَقَوْلُهُ جَائِزٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجَازَهُ وَسَلَّمَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي مَالٍ لَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ جَازَ مَوْقُوفًا كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، فَإِنْ أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ تَمَّ الْعَقْدُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ رَاضِيًا ، وَكَذَا لَوْ قَضَاهُ الرَّاهِنُ دَيْنَهُ فَإِنْ أَجَازَ يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إلَى بَدَلِهِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ شَرَطَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا كَانَ رَهْنًا وَإِلَّا فَلَا ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَلَكَ الثَّمَنَ بِنُفُوذِ الْبَيْعِ بِإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ فَلَا يَصِيرُ رَهْنًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَإِنْ فَسَخَهُ فَفِي الِانْفِسَاخِ رِوَايَتَانِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوِلَايَةُ الْفَسْخِ إلَى الْقَاضِي لَا إلَيْهِ ) أَيْ لَا إلَى الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ هَذَا الْفَسْخَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ إلَى الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ .
قَوْلُهُ ( وَلَوْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ إلَخْ ) يَعْنِي لَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47