كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

الْفِطْرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي ، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالنَّهَارِ شَاكًّا بِاللَّيْلِ ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَفِي طُلُوعِ الْفَجْرِ بِالْعَكْسِ .
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ ) ظَاهِرٌ .

( ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً } ( وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ : تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ ، وَالسِّوَاكُ } ( إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ ) وَمَعْنَاهُ تَسَاوِي الظَّنَّيْنِ ( الْأَفْضَلُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ ) تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَكَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اللَّيْلُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً أَوْ مُتَغَيِّمَةً .
أَوْ كَانَ بِبَصَرِهِ عِلَّةٌ وَهُوَ يَشُكُّ لَا يَأْكُلُ ، وَلَوْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ .
وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ إلَّا بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ ( وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النَّهَارُ ( وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّهَارُ .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ التَّسَحُّرُ ) السَّحَرُ آخِرُ اللَّيْلِ ، عَنْ اللَّيْثِ قَالُوا : هُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ ، وَالسَّحُورُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً } أَيْ فِي أَكْلِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ زِيَادَةُ الْقُوَّةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَيْلُ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ ، ثُمَّ تَأْخِيرُ أَكْلَ السُّحُورِ مُسْتَحَبٌّ فِي مُسْتَحَبٍّ ، فَإِنَّ نَفْسَ التَّسَحُّرِ مُسْتَحَبٌّ .
وَتَأْخِيرَهُ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا ، فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا فِي مُسْتَحَبٍّ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ : تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ ، وَالسِّوَاكُ } فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ جَعْلِ تَأْخِيرِ السُّحُورِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السَّحُورِ } .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى السُّحُورِ فِي حَقِّهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ .
وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانَ لَهُمْ سُحُورٌ ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يَتَسَحَّرُونَ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ) هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ اللَّيْلَ هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ ، وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( رِوَايَةً وَاحِدَةً ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، لِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ ،

وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : رِوَايَةً وَاحِدَةً احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ ، لِأَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .

( وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ) لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَعَلِمَهُ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ ، وَكَذَا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فَلَا شُبْهَةَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا ) ظَاهِرٌ ( لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ ) لِأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الصَّوْمُ بِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا ، فَإِذَا أَكَلَ بَعْدَهُ عَامِدًا لَمْ يُلَاقِ فِعْلَهُ الصَّوْمَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ ) يَعْنِي إذَا عُلِمَ الْحَدِيثُ عُلِمَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ ، وَالْمَتْرُوكُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فَلَا شُبْهَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي عَدَمَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ( قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ ) وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ هِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ ، وَهِيَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ قَائِمٌ يَنْفِي حُرْمَةَ الْأَكْلِ الثَّانِي سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ( كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَوْ لَا .

( وَلَوْ احْتَجَمَ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ) لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ بِالْفَسَادِ لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ ، وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ .
( وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ ) لِأَنَّ الْفِطْرَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ ، وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ احْتَجَمَ ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ) فَإِنَّ الْحِجَامَةَ كَالْفَصْدِ فِي خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الْعُرُوقِ وَالْفَصْدُ لَا يُفْسِدُ ، فَكَذَا الْحِجَامَةُ .
لَا يُقَالُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وُصُولُ شَيْءٍ إلَى بَاطِنِهِ وَلَا قَضَاءُ شَهْوَةٍ .
وَمَعَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَالِاسْتِقَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْتَكُنْ الْحِجَامَةُ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } .
أُجِيبَ { بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ } رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَرَوَى أَيْضًا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ } فَكَانَ الْحَدِيثُ مُعَارَضًا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ .
لَا يُقَالُ : مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِكَايَةُ فِعْلٍ وَالْقَوْلُ رَاجِحٌ ، لِأَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا يَكُونُ رَاجِحًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَوَّلًا وَهَذَا مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ ) يَعْنِي حِينَئِذٍ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ .
وَالْمُرَادُ بِهِ فَقِيهٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفِقْهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ فِي الْبَلَدِ ، هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ( لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ ) فَتَصِيرُ شُبْهَةً ( وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } رُوِيَ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهِ بِنَصْبِ الْمَحْجُومِ ( وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ( لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُ ذَلِكَ ) يَعْنِي لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ ( لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ

الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَنْسُوخًا ( وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ ) وَهُوَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ مَعَ حَاجِمِهِ وَهُمَا يَغْتَابَانِ آخَرَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } أَيْ ذَهَبَ بِثَوَابِ صَوْمِهِمَا الْغِيبَةُ .
وَقِيلَ : { إنَّهُ غُشِيَ عَلَى الْمَحْجُومِ فَصَبَّ الْحَاجِمُ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ الْمَحْجُومَ } أَيْ فَطَّرَهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ الرَّاوِي أَنَّهُ قَالَ : { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } ( تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ ) لِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَقَدْ زَالَ بِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ ذَلِكَ وَحْدَهُ بَلْ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ بِذَلِكَ مُنْشَأٌ لَهَا أَيْضًا .
أَجَابَ : بِأَنَّ قَوْلَ الْأَوْزَاعِيِّ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ ، فَإِنَّ الْفِطْرَ مِمَّا يَدْخُلُ لَا مِمَّا يَخْرُجُ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي أَكْلِ النَّاسِي .
لَا يُقَالُ فِي عِبَارَتِهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَالَ : إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ ، وَفَتْوَاهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَوْلِهِ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ : لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ، وَأَيْضًا الْفَتْوَى فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَكُونُ إلَّا مُخَالَفَةً لِلْقِيَامِ فَكَيْفَ تَكُونُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ الْأَوْزَاعِيِّ دُونِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ عَرَفَ التَّأْوِيلَ ( وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ ) أَيْ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ ، عَرَفَ تَأْوِيلَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ ، أَفْتَاهُ مُفْتٍ أَوْ لَمْ يُفْتِ ( لِأَنَّ الْفِطْرَ بِهَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْحَدِيثَ ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْغِيبَةُ

تُفَطِّرُ الصَّائِمَ } ( مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ ) بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَهَابُ الثَّوَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الدَّلِيلُ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ شُبْهَةً ، بِخِلَافِ حَدِيثِ الْحِجَامَةِ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ .

( وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي ، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ .
وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ ) أَمَّا صَوْمُ النَّائِمَةِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي صِحَّةِ صَوْمِهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَامِعُ الْجُنُونَ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَمَّا قَرَأَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قُلْت لَهُ : كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ ؟ فَقَالَ لِي : دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ .
فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : كَأَنَّهُ كُتِبَ فِي الْأَصْلِ مَجْبُورَةٌ فَظَنَّ الْكَاتِبُ مَجْنُونَةً ، وَلِهَذَا قَالَ : دَعْ فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ ، وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا : تَأْوِيلُهُ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّتْ فَجَامَعَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَفَاقَتْ وَعَلِمَتْ بِمَا فَعَلَ بِهَا الزَّوْجُ ( وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا إلْحَاقًا بِالنَّاسِي ، لِأَنَّ الْعُذْرَ فِيهِمَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ ) وَلَنَا أَنَّ الْإِلْحَاقَ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيُفْضِي إلَى الْحَرَجِ ( وَهَذَا ) جِمَاعُ الْمَجْنُونَةِ وَالنَّائِمَةِ ( نَادِرٌ ) فَالْقَضَاءُ لَا يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ ( وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ ) لِعَدَمِ الْقَصْدِ .

( وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى ) : فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
هُمَا يَقُولَانِ : إنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ .
وَلَنَا أَنَّهُ نَذَرَ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ .
( وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) يَعْنِي .
إذَا أَفْطَرَ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ : إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ .
كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ نَذْرًا ، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا ، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ، كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .

فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا بِإِيجَابِ اللَّهِ ( وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ ، أَفْطَرَ وَقَضَى ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ ( لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ } الْحَدِيثَ ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ } ( وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ ) لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ كَفًّا لِلنَّفْسِ الَّتِي هِيَ عَدُوُّ اللَّهِ عَنْ شَهَوَاتِهَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَ يَوْمٍ وَيَوْمٍ ، فَكَانَ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ حَسَنًا مَشْرُوعًا ، وَالنَّذْرُ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ جَائِزٌ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ النَّهْيِ فَإِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِهِ الْمُجَاوِرِ ( وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى ) لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَإِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ لَا يُمْنَعُ صِحَّتُهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْإِمْسَاكُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ أَلْبَتَّةَ ، وَتَرْكُ الْإِجَابَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبِيحٌ فَمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَذَلِكَ ؟ وَالْجَوَابُ : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ حَمِيَّةً أَوْ لِضَعْفٍ أَوْ لِعَدَمِ مَا يَأْكُلُهُ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْإِجَابَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِمْسَاكُ عِبَادَةٌ تَسْتَلْزِمُهُ .
قُلْنَا : كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْوَجْهِ وَالِاعْتِبَارِ .
وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ فَلَنَا أَنْ نَقُولَ هَذَا الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرْكُ إجَابَةِ

دَعْوَةِ اللَّهِ قَبِيحٌ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَهْرٌ لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ حَسَنٌ ، ( فَيَصِحُّ النَّذْرُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجْ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ ) فَإِنَّ مَا وَجَبَ نَاقِصًا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَدَّى نَاقِصًا .
فَإِنْ قُلْت : سَمَّى الْمُصَنِّفُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقُبْحِ مُجَاوِرًا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاطِبَةً ، فَإِنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِالْمُتَّصِلِ وَصْفًا ، وَأَمَّا الْمُجَاوِرُ جَمْعًا فَمِثْلُ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ .
قُلْت : سُؤَالٌ حَسَنٌ .
وَالتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ جَوَابِهِ مُشْكِلٌ ، وَتَقْرِيرُنَا كَافِلٌ كَافٍ لِتَقْرِيرِهِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ فَإِنَّهُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ .
قَالَ ( وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ ، وَالْجَمِيعُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ ، فَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَهِيَ : مَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرُ ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا ، يَكُونَ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي الْوَاحِدِ يَكُونُ يَمِينًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ مَا إذَا نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا ، وَفِي الِاثْنَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَهُمَا أَوْ نَوَى الْيَمِينَ لَا غَيْرُ يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَوَّلِ نَذْرٌ وَفِي الْيَمِينِ يَمِينٌ ، ثُمَّ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ظَاهِرَةٌ ، وَكَفَى بِعَدَمِ الْمُنَازِعِ دَلِيلًا ، وَأَمَّا وَجْهُ الْبَاقِينَ فَلِأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ ( حَقِيقَةٌ ) لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى النِّيَّةِ ( وَالْيَمِينَ مَجَازٌ ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهَا ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَنْتَظِمُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ .
فَإِذَا نَوَاهُمَا وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ فَلَا يَكُونُ

الْمَجَازُ مُرَادًا ، وَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ تَعَيَّنَ الْمَجَازُ بِنِيَّتِهِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً ( وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ ) يَعْنِي : أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ وَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْوُجُوبِ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ الْوُجُوبِ أَيْضًا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ، نَشَأَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ النَّذْرِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إذَا تَرَكَهُ ، وَالْأُخْرَى مِنْ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْهَتْكِ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بَلْ الْكَفَّارَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْشَأَيْنِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ أَمْكَنَ ، وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ) هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَلِلنَّاسِ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنْوَاعٌ مِنْ التَّوْجِيهَاتِ ، فَمَنْ تَشَوَّفَ إلَيْهَا طَالَعَ التَّقْرِيرَ .

( وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا ) لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَكِنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَعْرَى عَنْهَا لَكِنْ يَقْضِيهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَوْصُولَةً تَحْقِيقًا لِلتَّتَابُعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَيَتَأَتَّى فِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ وَالْعُذْرَ عَنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ الْكَمَالُ ، وَالْمُؤَدَّى نَاقِصٌ لِمَكَانٍ النَّهْيِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمُلْتَزَمِ .
قَالَ ( وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا ) وَقَدْ سَبَقَتْ وُجُوهُهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ عَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ : هَذِهِ السَّنَةَ ، أَوْ أَطْلَقَهَا بِأَنْ قَالَ : سَنَةً ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ صَوْمُ السَّنَةِ إلَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ وَقَضَاهَا ( لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ ) وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ لِأَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَجِبْ بِهَذَا النَّذْرِ ، وَلَوْ صَامَ الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ جَازَ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّتَابُعَ أَوْ لَا ، فَإِنْ شَرَطَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُعَيَّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا خَمْسَةً لِلْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا لِرَمَضَانَ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَمَبْنَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ أَنَّ مَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا ، وَمَا وَجَبَ نَاقِصًا جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى نَاقِصًا .

( وَمَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ) لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ ، وَصَارَ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ يُسَمَّى صَائِمًا حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّوْمِ فَيَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ ، فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِنَفْسِ النَّذْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ ، وَلَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً ، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا ، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَقَوْلُهُ ( وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ) يَعْنِي عَنْهُمَا بَيْنَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ ، وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ، فَإِنَّ فِي النَّذْرِ يَلْزَمُ الْقَضَاءُ وَفِي الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ ، وَفِي الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ إذَا أَفْسَدَهَا .
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ أَنَّ الشُّرُوعَ إحْدَاثُ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الصِّيَانَةِ ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَإِنَّمَا هُوَ إيجَابٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ وَجَازَ لِلْعَقْلِ أَنْ يُجَرِّدَ الْأَصْلَ عَنْ الْوَصْفِ فَلَمْ يَكُنْ مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّمَا صَارَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ ، لِأَنَّ مَا شُرِعَ فِيهِ لَا يَكُونُ صَلَاةً حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً ، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَكُنْ الشُّرُوعُ فِي الِابْتِدَاءِ إحْدَاثًا لِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْخَارِجِ فَكَانَ كَالنَّذْرِ فِي الِانْفِصَالِ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ وَالْقَضَاءُ بِتَرْكِهَا ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ ( الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ ( وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، هُوَ يَقُولُ : إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ } وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ .
وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ .
لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ .
وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا .
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ : يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ .

بَابُ الِاعْتِكَافِ ) : وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَبَيَّنَ صِفَتَهُ قَبْلَ بَيَانِ تَفْسِيرِهِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ عِلْمُ الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُوَاظَبَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ } .
أُجِيبَ : بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَنْكَرَ ، فَكَانَتْ الْمُوَاظَبَةُ بِلَا تَرْكٍ مُعَارِضًا بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ ، وَتَفْسِيرُهُ لُغَةً الِاحْتِبَاسُ ، لِأَنَّهُ مِنْ الْعُكُوفِ وَهُوَ الْحَبْسُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا } وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ شَرِيعَةً فَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رُكْنُهُ وَهُوَ اللُّبْثُ لِأَنَّهُ يُنْبِي عَنْهُ لُغَةً كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبَعْضُ شَرَائِطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ ، أَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ : الصَّوْمُ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ ، فَمَا فَرَضْنَاهُ أَصْلًا لَا يَكُونُ أَصْلًا ، هَذَا خَلْفٌ بَاطِلٌ .
( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ } رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ( وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الِاعْتِكَافَ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَاشْتِرَاطُ الصَّوْمِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ نَسْخٌ لَا يَجُوزُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَحَقَّقُ

فِي اللَّيَالِي وَالصَّوْمُ فِيهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَفِي ذَلِكَ تَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ : بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْجِمَاعِ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ بِهَذَا النَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ فَأُلْحِقَ بِهِ الرُّكْنُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ بِالدَّلَالَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، كَمَا أُلْحِقَ الْجِمَاعُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا فِي حَقِّ بَقَاءِ الصَّوْمِ بِالدَّلَالَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ عَنْ الشَّهْوَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ صَوْمًا .
وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّ الشُّرُوطَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ ، وَالصَّوْمُ فِي اللَّيَالِي غَيْرُ مُمْكِنٍ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ) أَيْ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ .
فَمَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ رَجُلٌ تَطَوُّعًا ثُمَّ قَالَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ : عَلَيَّ اعْتِكَافُ هَذَا الْيَوْمِ .
لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ صَوْمَهُ انْعَقَدَ تَطَوُّعًا فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ وَاجِبًا بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ) قَالُوا : هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا ) يُفْهَمُ مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مُتَطَوِّعًا حَيْثُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْآخَرَيْنِ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ ، وَالصَّلَاةَ بِرَكْعَتَيْنِ .

، ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ " وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ ) هَذَا أَيْضًا مِنْ شُرُوطِ جَوَازِهِ ، وَمَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ أُدِّيَتْ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَوْ لَا ( لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ : لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ، وَ ) رَوَى الْحَسَنُ ( عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ) هَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا اعْتِكَافَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاعْتِكَافِ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ فَيَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ مُعَظَّمَةٍ شَرْعًا وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي مَسَاجِدِ الْبُيُوتِ .
وَلَنَا أَنَّ مَوْضِعَ الِاعْتِكَافِ فِي حَقِّهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي تَكُونُ صَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلَ كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ ، فَكَانَ مَوْضِعُ الِاعْتِكَافِ مَسْجِدَ بَيْتِهَا .

( وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى ، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا ، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا ، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ( وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَقَالَا : لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً .

قَالَ : ( وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ دُونَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَكَفَ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ شَاءَ ، وَإِنْ كَانَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْخُرُوجِ .
وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ صَحَّتْ الضَّرُورَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْخُرُوجِ إلَيْهَا لِأَنَّ تَرْكَهَا صِيَانَةً لِلِاعْتِكَافِ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ دُونَهَا فِي الْوُجُوبِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إسْقَاطُ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ بِإِيجَابِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يُتِمُّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ عَنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ) قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ثَمَّةَ ضَرُورَةٌ مِثْلُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ فَيَنْهَدِمُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانَ عَفْوًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْقِيَاسُ ) لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجُ مُفَوِّتٌ لَهُ ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءً كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ .
وَالْحَدَثِ فِي الطَّهَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً ) بَيَانُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ .
وَلَهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى التُّؤَدَةِ فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا وَالْكَثِيرُ لَيْسَ بِعَفْوٍ .
فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا الْأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ .
إذَا وُجِدَتْ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ .
لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ .

قَالَ ( وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ .وَقَوْلُهُ ( لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدُ ) يَعْنِي فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ فِيهِ حِينَئِذٍ .

( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ } .وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ ) يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ ( وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ ) فَإِذَا كَانَ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ مَكْرُوهًا فَمَا ظَنُّك بِالْمُعْتَكِفِ .

قَالَ ( وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ ) يَعْنِي أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالشَّرِّ فِي الْمُعْتَكِفِ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُ فِي غَيْرِهِ ، فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } فَإِنَّ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا مُطْلَقًا لَكِنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْأَشْهُرِ لِأَنَّهُ فِيهَا أَشَدُّ حُرْمَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ ) قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنْ يَنْذِرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا كَمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا .
وَقِيلَ : أَنْ يَصْمُتَ وَلَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ سَابِقٍ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ الْمَعْهُودَ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ زِيَادَةِ نِيَّةِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ صَوْمَ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ ) فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَصَوْمِ الصَّمْتِ } فَقَالَ الرَّاوِي وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ : قُلْت لِأَبِي حَنِيفَةَ : مَا صَوْمُ الصَّمْتِ ؟ قَالَ : أَنْ يَصُومَ وَلَا يُكَلِّمَ أَحَدًا فِي يَوْمِ الصَّوْمِ .
وَقَوْلُهُ ( يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا ) أَيْ إثْمًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ .
لَا يُقَالُ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ : وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ ، يَقْتَضِي حَصْرَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ بِخَيْرٍ .
وَقَوْلُهُ ( يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا ) يَقْتَضِي جَوَازَ التَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ مُبَاحٌ ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ .
لِأَنَّا نَقُولُ مَا لَيْسَ بِمَأْثَمٍ فَهُوَ خَيْرٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْخَيْرَ عِبَارَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ لِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا لَهُ إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا .
وَالتَّكَلُّمُ بِالْمُبَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ .

( وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ( وَ ) كَذَا ( اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ ( فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ ( وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ .

وَقَوْلُهُ ( وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ ) يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ ، لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْوَطْءُ ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْحَاجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ ، لِأَنَّ اسْمَ الْمُعْتَكِفِ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ .
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ وَيَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ فَيَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَكَذَا اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ ( مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ ، إذْ هُوَ ) أَيْ الْجِمَاعُ ( مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ ، كَمَا أَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ ) فَكَانَتْ الدَّوَاعِي مُحَرَّمَةً .
فَإِنْ قِيلَ : الْجِمَاعُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْكَفَّ ) أَيْ عَنْ الْجِمَاعِ ( رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ ، فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ ) وَلَا زَالَ فِي تَحْقِيقِهِ اصْطَكَّتْ الرُّكَبُ ، وَأَقْصَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ الْقَدْرُ أَنْ قَالُوا : الْوَطْءُ مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ مَحْظُورَ الشَّيْءِ مَا نُهِيَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِهِ مِمَّا يُفْسِدُهُ ، وَالْوَطْءُ فِي الِاعْتِكَافِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ اللُّبْثُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ ، هَذَا حَقِيقَتُهُ .
ثُمَّ نُهِيَ الْمُعْتَكِفُ أَنْ يَرْتَكِبَ الْوَطْءَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ بِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } مَقْصُودًا فَتَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي ؛ لِأَنَّ الشُّبُهَاتِ فِي بَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْرَامِ : إنَّ حَقِيقَتَهُ التَّلْبِيَةُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ ، ثُمَّ بَعْدَمَا وُجِدَ ذَلِكَ صَارَ الْوَطْءُ حَرَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَتَعَدَّتْ

الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالْوَطْءُ لَيْسَ بِمَحْظُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمَحْظُورِ ، فَإِنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ الْوَطْءِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ } بَعْدَ قَوْلِهِ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } الْآيَةَ .
وَثَبَتَ إذْ ذَاكَ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ الْمُفَوِّتِ لِلرُّكْنِ وَهُوَ الْكَفُّ بِالنَّهْيِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ ضِمْنًا لَا مَقْصُودًا ، ضَرُورَةَ بَقَاءِ الرُّكْنِ ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يَتَعَدَّى عَنْ مَحَلِّهِ فَبَقِيَتْ الدَّوَاعِي عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلِّ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الضِّمْنِيَّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ الدَّوَاعِي وَالْقَصْدِيَّ يَقْتَضِيهَا ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ ، فَإِنَّهُ قَصَدَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَلَمْ تَحْرُمْ الدَّوَاعِي .
وَأُجِيبَ : بِأَنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ فِيهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْحَرَجِ بِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَيْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ مَبْنَى الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَى مَا عَرَفْت مِنْ تَفْسِيرِهِ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى ، وَالْوَطْءُ حَالَةَ الْحَيْضِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، هَذَا ، وَلَيْسَ وَرَاءَ عَبَّادَانَ قَرْيَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ) يَعْنِي أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ( بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ اعْتِكَافٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ) فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاعْتِكَافُ فَرْعٌ عَنْ الصَّوْمِ وَالْفَرْعُ مُلْحَقٌ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ ، وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ فَكَيْفَ يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ ) بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مُذَكِّرَ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَفْسُدَ

بِالْأَكْلِ نَاسِيًا كَالْجِمَاعِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ بَلْ لِأَجْلِ الصَّوْمِ حَتَّى اُخْتُصَّتْ بِوَقْتِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ نَصًّا فَكَانَ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَاصِدُ وَغَيْرُهُ ( وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَلِهَذَا فَسَدَ بِهِ الصَّوْمُ ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ ، وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ ) فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَعَلْت نَفْسَ الْمُبَاشَرَةِ مُفْسِدَةً مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } وَتِلْكَ تَتَحَقَّقُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْمَجَازَ وَهُوَ الْجِمَاعُ لَمَّا كَانَ مُرَادًا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَنَفْسُهَا لَمْ تُفْسِدْ الصَّوْمَ فَكَذَا الِاعْتِكَافُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي ، يُقَالُ : مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ ( مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ ( وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ ) أَيْ : وَمَنْ قَالَ : عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ( تَلْزَمُهُ بِلَيَالِيِهَا مُتَتَابِعَةً ) أَمَّا لُزُومُهَا بِلَيَالِيِهَا فَلِمَا ذَكَرَ ( أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي ) عُرْفًا ( يُقَالُ : مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا أَوْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ { أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } وَقَالَ { أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَدْفَعُ مَا يُقَالُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ خَاصَّةً ، وَالِاعْتِكَافُ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَيَّامِ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِيِ وَإِلَّا لَانْتُقِضَ الْقَاعِدَةُ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، حَتَّى لَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا اُخْتُصَّ بِبَيَاضِ النَّهَارِ ، كَذَا فِي التُّحْفَةِ ، وَأَمَّا التَّتَابُعُ فَلِمَا ذَكَرَ أَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ إلَخْ ( وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ ) فَإِنْ قِيلَ : الْحَقِيقَةُ مُنْصَرَفُ اللَّفْظِ بِدُونِ قَرِينَةٍ أَوْ نِيَّةٍ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ ؟ قُلْت : كَأَنَّهُ اخْتَارَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ أَنَّ الْيَوْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ بَيَاضِ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ ، وَأَحَدُ مَعْنَيْ الْمُشْتَرَكِ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِتَعْيِينِ الدَّلَالَةِ لَا لِنَفْسِ الدَّلَالَةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارُهُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ ، وَهُوَ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ صَارِفٌ لَهُ عَنْ

الْحَقِيقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ دَفْعًا لِلصَّارِفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا .

( وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا ) .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجْهُ الظَّاهِرِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ ) ظَاهِرٌ .
وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَفْظُ الْمُثَنَّى وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا لَمْ تَدْخُلْ لَيْلَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَا فِي التَّثْنِيَةِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْوُسْطَى تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ اتِّصَالِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ الْمُثَنَّى غَيْرَ الْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِي الْجُمُعَةِ بِالِاثْنَيْنِ سِوَى الْإِمَامِ وَقَدْ اكْتَفَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرْت هَاهُنَا لِأَنَّ فِيهِ الْعَمَلَ بِأَوْضَاعِ الْوُحْدَانِ وَالْجَمْعِ إلَّا أَنِّي وَجَدْت فِي الْجُمُعَةِ مَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهَا ، وَهُوَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً لِمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ ، وَفِي الْجَمَاعَةِ وَالتَّثْنِيَةِ كَذَلِكَ ، فَكَانَتْ التَّثْنِيَةُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ كَالْجَمْعِ فَاكْتَفَيْت بِهَا ( وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ ) لِاجْتِمَاعِ فَرْدٍ وَفَرْدٍ فِيهِ ( فَيُلْحَقُ بِالْجَمْعِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ ) وَفِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّهُمَا إنَّمَا لَمْ يُلْحِقَا الْمُثَنَّى بِالْجَمْعِ فِي الْجُمُعَةِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ ، وَذَلِكَ فِي الْإِلْحَاقِ غَيْرُ يَقِينٍ ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي كَوْنِ التَّثْنِيَةِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ تَرَدُّدٌ لِجَاذِبِ الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ إذْ هِيَ بَيْنَهُمَا ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْجَمْعِ لَا تَرَدُّدَ فِي الْخُرُوجِ فَكَانَ شَرْطًا ، وَأَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ

فَفِي إلْحَاقِهِ بِالْجَمْعِ خُرُوجٌ عَنْهَا بِيَقِينٍ ، لِأَنَّ إيجَابَ لَيْلَتَيْنِ مَعَ يَوْمَيْنِ أَحْوَطُ مِنْ إيجَابِ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ .

كِتَابُ الْحَجِّكِتَابُ الْحَجِّ لَمَّا رَتَّبَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ لِمَعَانٍ ذُكِرَتْ عِنْدَ كُلِّ كِتَابٍ تَأَخَّرَ الْحَجُّ إلَى هَاهُنَا ضَرُورَةً ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَالْعِبَادَاتُ مُتَقَدِّمَةٌ .
وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ : زِيَارَةُ الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ .

( الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ الْأَصِحَّاءِ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا )ثُمَّ إنَّهُ فُرِضَ عَلَى كُلِّ حُرٍّ بَالِغٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ إذَا قَدَرَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، وَإِنَّمَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْإِفْرَادِ إلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ

( وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ لَهُ { الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ } وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ( وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ لَهُ يَعْنِي لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ لَهُمْ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ حُجُّوا الْبَيْتَ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ } ، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ ) لِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ ، يُقَالُ حَجُّ الْبَيْتِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ ( وَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ ) الْبَيْتُ ( فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ )

ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمْرِ فَكَانَ الْعُمْرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ .

، ( ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) حَتَّى إنْ أَخَّرَ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ أَثِمَ ، رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرٌ وَالْمُعَلَّى ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ ؟ فَقَالَ : بَلْ يَحُجُّ بِهِ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ .
وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي التَّزْوِيجِ تَحْصِينَ النَّفْسِ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ يُفَوِّتُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَمَرَ بِمَا يُفَوِّتُ الْوَاجِبَ مَعَ إمْكَانِ حُصُولِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِمَا أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ فَكَانَ الْعُمُرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ ) فَكَمَا أَنَّهَا جَازَتْ فِي آخِرِ وَقْتِهَا يَجُوزُ الْحَجُّ فِي آخِرِ الْعُمُرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ مُكَيَّفٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ ، فَإِنْ فَوَّتَهُ أَثِمَ ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ ، وَإِنْ مَاتَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، وَكُلُّ مَا اُخْتُصَّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ ، وَقَدْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ ، وَذَلِكَ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْحَيَاةُ وَالْمَمَاتُ ( لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ) مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَضَادَّةِ الْمِزَاجِ ( غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا ) لَا تَحْقِيقًا ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَضَيِّقًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْعَامِ الْأَوَّلِ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ التَّضَيُّقَ إذَا

كَانَ احْتِيَاطًا لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَوْضِيحُهُ بِقَوْلِهِ ( وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الْإِثْمِ خَاصَّةً ، وَأَمَّا أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَدَاءٌ كَمَا فِي الْأَوَّلِ ، وَأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ جَائِزٌ فَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ ، وَتَمَامُ هَذَا الْبَحْثِ مَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ

وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ } وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ بِأَسْرِهَا مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِوَإِنَّمَا شُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ } وَلَوْ { عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ } وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ : أَنَّ الْحَجَّ يَحْتَاجُ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا ، وَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لَيْسَا كَذَلِكَ ، وَأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْحَجِّ يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، فَقُدِّمَ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .

وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ .
وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْعَجْزَ دُونَهَا لَازِمٌ .وَقَوْلُهُ ( وَالْعَقْلُ ) لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ ) لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الصِّحَّةِ ( لِأَنَّ الْعَجْزَ بِدُونِهَا لَازِمٌ )

وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَوَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْمُقْعَدُ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى يُؤَدِّي بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الضَّالَّ عَنْهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ ، وَقَدْرَ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا ، { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عَقَبَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَتَعَاقَبَانِ لَمْ تُوجَدْ الرَّاحِلَةُ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَعَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْمَرْأَةِ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ .
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ ، لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ .
ثُمَّ قِيلَ : هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقِيلَ : هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرُ .

وَقَوْلُهُ ( وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ ) يَعْنِي أَنَّ الْأَعْمَى إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِمْ ، وَهَلْ يَجِبُ الْإِحْجَاجُ بِالْمَالِ ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ ) لَا يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ ، وَعَنْ صَاحِبَيْهِ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَرْقًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ ، وَقَالَا : وُجُودُ الْقَائِدِ إلَى الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِنَادِرٍ بَلْ هُوَ غَالِبٌ فَتَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَائِدُ إلَى الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الْمُقْعَدُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ بِمَا لَهُمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ : إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَيَعْنِي بِهِ الْقُدْرَةَ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِئْجَارِ بِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى ( مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي أَيْ جَانِبَهُ ، لِأَنَّ لِلْمَحْمَلِ جَانِبَيْنِ ، وَيَكْفِي لِلرَّاكِبِ أَحَدُ جَانِبَيْهِ .
وَالزَّامِلَةُ الْبَعِيرُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرُ مَتَاعَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ زَمَلَ الشَّيْءَ حَمَلَهُ ، يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ : سرباري .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْرُ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا ) يَعْنِي بَعْدَ الرَّاحِلَةِ نَفَقَةُ وَسَطٍ بِغَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ، وَهَذَا { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً ) أَيْ مَا يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ فَرْسَخًا بِفَرْسَخٍ أَوْ مَنْزِلًا مَنْزِلًا ( فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ ) لِعَدَمِ الرَّاحِلَةِ إذْ ذَاكَ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ) أَيْ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ( فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ فَاضِلًا ، وَهُوَ هُنَاكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَقَيَّدَ بِالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَثَاثُ الْبَيْتِ ) يَعْنِي كَالْفُرُشِ وَالْبُسُطِ وَآلَاتِ الطَّبْخِ ( وَثِيَابُهُ ) أَيْ ثِيَابُ بَدَنِهِ وَفَرَسُهُ وَسِلَاحُهُ ( لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ) وَالْمَشْغُولُ بِهَا كَالْمَعْدُومِ .
وَقَوْلُهُ ( وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ) ظَاهِرٌ ( وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةَ ، وَتَوَسُّطُ الْبَحْرِ عُذْرٌ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِهِ الِاسْتِطَاعَةُ وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الْأَمْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ شَرْطُ نَفْسِ الْوُجُوبِ ، أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِهِ ( وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ ) وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى الثَّانِي ( لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرُ ) وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْإِيصَاءِ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ

آمِنًا ؛ فَعِنْدَ الْأَوَّلَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ ، وَعِنْدَ الْآخَرَيْنِ تَلْزَمُهُ .

قَالَ ( وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ أَوْ زَوْجٌ ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ بِغَيْرِهِمَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ لَهَا الْحَجُّ إذَا خَرَجَتْ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ بِالْمُرَافَقَةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ } وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا ، وَلِهَذَا تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .
( وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ .
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ وَالْحَجُّ مِنْهَا ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا قَالُوا : لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ ( وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا ) لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ مُنَاكَحَتِهَا ، وَلَا عِبْرَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمَا الصِّيَانَةُ ، وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ حَتَّى لَا يُسَافَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ ، وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْحَجِّ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ

قَالَ ( وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ ) الِاخْتِلَافُ الْمَارُّ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ فِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ ، أَوْ شَرْطَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ مُنَاكَحَتُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهَارَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، شَابَّةً كَانَتْ أَوْ عَجُوزًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّزَوُّجُ لِلْحَجِّ ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ اكْتِسَابُ الْمَالِ لِأَجْلِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهَا أَنْ تَحُجَّ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ مِنْ الْفِتْنَةِ بِالْمُرَافَقَةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحُجَّن امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ } وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا ) فَضْلًا عَنْ حُصُولِ الْأَمْنِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ تَخْرُجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِدُونِهِمَا ، وَالْهِجْرَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ فَلَأَنْ تَخْرُجَ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ مِنْهَا أَوْلَى .
وَأُجِيبَ : بِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُسَافِرَ بِدُونِ الْمَحْرَمِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَحْرَمَ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ ذَلِكَ حُجَّةُ مَنْ جَعَلَهُ شَرْطَ الْأَدَاءِ ، وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطَ الْوُجُوبِ قَالَ : لَمْ يَذْكُرْهُ ، لِأَنَّ السَّائِلَ كَانَ رَجُلًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِتْنَةَ تَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا ، فَإِنَّ الْمَبْتُوتَةَ إذَا اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ بِحَيْلُولَةِ ثِقَةٍ جَازَ .
وَلَمْ يَكُنْ

انْضِمَامُهَا إلَيْهَا فِتْنَةً .
أُجِيبَ : بِأَنَّ انْضِمَامَ الْمَرْأَةِ إلَيْهَا يُعِينُهَا عَلَى مَا تُرَاوِدُ بِمُشَاوَرَتِهَا ، وَتَعْلِيمُ مَا عَسَى تَعْجِزُ عَنْهُ بِفِكْرِهَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُعْتَدَّةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مَوْضِعُ أَمْنٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يُعَدُّ ثِقَةً وَالْكَلَامُ فِيهَا ، وَلِأَنَّ جَوَابَ السَّنَدِ يُنَاقِضُ جَوَابَ الْمَنْعِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُنَّ نَاقِصَاتُ دِينٍ وَعَقْلٍ ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْخَدِعَ فَتَكُونُ عَلَيْهَا فِي الْإِفْسَادِ وَتَتَوَسَّطُ فِي التَّوْطِينِ وَالتَّمْكِينِ فَتَعْجِزُ هِيَ عَنْ دَفْعِهَا فِي السَّفَرِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْحَضَرِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغَاثَةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ : إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا ( وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالصَّلَاةِ ( وَالْحَجُّ مِنْهَا ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ) وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ سَاعَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا ) ظَاهِرٌ

( وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَمَضَيَا لَمْ يُجِزْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ) لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ( وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ ، وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ، أَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ لَازِمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ ) يَعْنِي بَعْدَمَا أَحْرَمَ ( فَمَضَيَا لَمْ يُجْزِهِمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ ) لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَشَرْطِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمَا ( فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ كَالطَّهَارَةِ ، وَالشَّرْطُ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ بَلَغَ بِالسِّنِّ فَصَلَّى بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ ، فَمَا بَالُ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَبِهَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَصَارَ كَصَبِيٍّ تَوَضَّأَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَبَلَغَ بِالسِّنِّ فَنَوَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصَّلَاةُ فَرْضًا لَا تَنْقَلِبُ إلَيْهَا ( وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ) وَلِهَذَا لَوْ تَنَاوَلَ مَحْظُورًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ الْفَسْخُ وَالشُّرُوعُ فِي غَيْرِهِ ( وَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ فَلَازِمٌ ) لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ صَيْدًا كَانَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ( فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ ) وَإِنَّمَا طَرِيقُ خُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ ، فَسَوَاءٌ جَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْهَا ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .

( فَصْلٌ ) : ( وَالْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا خَمْسَةٌ : لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ .
وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ ) هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ .
وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ عَنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهَا ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ ، ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا

فَصْلٌ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَذَكَرَ شُرُوطَ الْوُجُوبِ .
وَمَا يَتْبَعُهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَوَّلِ أَمْكِنَةٍ يُبْتَدَأُ فِيهَا بِأَفْعَالِ الْحَجِّ .
وَهِيَ ( الْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا ) وَالْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ فَاسْتُعِيرَ لِلْمَكَانِ كَمَا اُسْتُعِيرَ الْمَكَانُ لِلْوَقْتِ فِي قَوْله تَعَالَى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ } وَالْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ ) قِيلَ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ التَّوْقِيتُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إيمَانَهُمْ فَوَقَّتَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ ) قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْتَ لَمَّا كَانَ مُعَظَّمًا مُشَرَّفًا جُعِلَ لَهُ حِصْنٌ وَهُوَ مَكَّةُ ، وَحِمًى وَهُوَ الْحَرَمُ ، وَلِلْحَرَمِ حَرَمٌ ، وَهُوَ الْمَوَاقِيتُ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إلَّا بِالْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِحْرَامٍ ، وَمَنْ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ حَلَّ لَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ .
بَيَانُهُ .
أَنَّ .
مَنْ أَتَى مِيقَاتًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ دُخُولِ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَا يَجُوزُ .
دُخُولُهُ .
إلَّا بِالْإِحْرَامِ ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتَيْنِ مِيقَاتِ أَهْلِ الْآفَاقِ ، وَمِيقَاتِ أَهْلِ الْحِلِّ .
وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ الْآفَاقِيِّ دُخُولَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ أَنْ يَقْصِدَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْحِلِّ فَلَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ .
وَقَوْلُهُ ( عِنْدَنَا

) إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَجِبُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِقِتَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ قَوْلًا وَاحِدًا ، { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } ، وَلَهُ فِي الدَّاخِلِ لِلتِّجَارَةِ قَوْلَانِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ ) لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْحَجِّ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَتَعْظِيمُهَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَاجِّ وَغَيْرِهِ ( فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا ) وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَمِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، كَمَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ { إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }

( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ ) لِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُ مَكَّةَ ، وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ أَدَاءَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَحْيَانًا فَلَا حَرَجَ ( فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ جَازَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ ) ظَاهِرٌ ، وَالْأَصْلُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ( فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ ) ظَاهِرٌ .
قِيلَ : إنَّمَا صَغَّرَ الدُّوَيْرَةَ تَعْظِيمًا لِلْكَعْبَةِ ( كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ ) يَعْنِي أَنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ ، وَقِيلَ إتْمَامُهُمَا أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفَرًا كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ " ( وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْإِتْمَامَ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَدَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) ظَاهِرٌ .

( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ ) مَعْنَاهُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ ( وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ ، وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ فِي عَرَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَتَحَقَّقَ نَوْعُ سَفَرٍ ، وَأَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِهَذَا ، إلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ ) أَيْ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ ( الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ ) لَا الْحِلُّ الَّذِي هُوَ خَارِجُ الْمِيقَاتِ ( لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ) لِمَا تَلَوْنَا ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحِلِّ مَا هُوَ خَارِجَ الْمِيقَاتِ لَمَا جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَحَيْثُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحِلِّ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ : وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ .

( بَابُ الْإِحْرَامِ ) ( وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ } إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا فَيَقُومَ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ، لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ .
قَالَ ( وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَذَلِكَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ ، وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ .
قَالَ ( وَمَسَّ طِيبًا إنْ كَانَ لَهُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ .
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ } " وَالْمَمْنُوعُ عَنْهُ التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِهِ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ .

بَابُ الْإِحْرَامِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ ، ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الْإِحْرَامِ الَّذِي يُفْعَلُ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ .
وَالْإِحْرَامُ لُغَةً مَصْدَرُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَأَشْتَى إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ .
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمُ الْمُبَاحَاتِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا لَهَا تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ ( وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ } وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ، وَكَأَنَّهُ يَدْفَعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْغُسْلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَقَالَ إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا ) رُوِيَ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نُفِسَتْ فَقَالَ : مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ فَكَانَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ ، وَكُلُّ غُسْلٍ كَانَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ يَقُومُ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ ( كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ) وَالْعِيدَيْنِ ( لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ ) أَيْ آثَرَهُ عَلَى الْوُضُوءِ وَضَعْفُ تَرْكِيبِهِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ ( وَلُبْسُ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً ) وَفِي ذِكْرِ الْجَدِيدِ نَفْيٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الْجَدِيدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْحِقْوِ إلَى الْخَصْرِ ، وَالرِّدَاءُ مِنْ الْكَنَفِ ( لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى ) أَيْ لَبِسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ .
وَيُدْخِلُ الرِّدَاءَ تَحْتَ يَمِينِهِ

وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَيَبْقَى كَتِفُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا وَلَا يَزُرُّهُ وَلَا يَعْقِدُهُ وَلَا يُخَلِّلُهُ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُرِهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ ) لِأَنَّهُ لَمْ تُصِبْهُ النَّجَاسَةُ ظَاهِرٌ ( وَمَسَّ طِيبًا إنْ وَجَدَ ) أَيَّ طِيبٍ كَانَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَ ) رَوَى الْمُعَلَّى ( عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ) كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ : كُنْت لَا أَرَى بَأْسًا بِذَلِكَ حَتَّى رَأَيْت قَوْمًا أَحْضَرُوا طِيبًا كَثِيرًا وَرَأَيْت أَمْرًا شَنِيعًا فَكَرِهْته ( وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ) قِيلَ : لِأَنَّهُ إذَا عَرِقَ يَنْتَقِلُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي ، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى أَعْرَابِيًّا عَلَيْهِ خَلُوقٌ فَقَالَ : اغْسِلْ عَنْك هَذَا الْخَلُوقَ } ( وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ } وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الطِّيبُ مِمَّا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَالْمَكْرُوهُ ذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ { وَلَقَدْ رَأَيْت وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ } وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِهِ ( وَلِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْمُحْرِمِ التَّطَيُّبُ وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِبَدَنِهِ ) وَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ ( بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمَخِيطِ ) إذَا لُبِسَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا ، وَيَكُونُ كَاللَّابِسِ

ابْتِدَاءً حَتَّى يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ ( لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ ) فَلَا يَكُونُ تَابِعًا ، وَعَنْ هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَطَيَّبُ فَدَامَ عَلَى طِيبٍ كَانَ بِجَسَدِهِ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَدَامَ عَلَى لُبْسِهِ حَنِثَ ، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ لَا عَلَى بَدَنِهِ

قَالَ ( وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ قَالَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي } لِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فَلَا يُعَرَّى عَنْ الْمَشَقَّةِ عَادَةً فَيَسْأَلُ التَّيْسِيرَ ، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّ مُدَّتَهَا يَسِيرَةٌ وَأَدَاءَهَا عَادَةً مُتَيَسِّرٌ .
قَالَ ( ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ } .
وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ جَازَ ، وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا

قَالَ ( وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ) أَيْ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ } وَرَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ : لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } وَيَقْرَأُ فِيهِمَا مَا شَاءَ وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ أَفْضَلُ " ( قَالَ ) يَعْنِي مُحَمَّدًا ( وَقَالَ ) يَعْنِي الَّذِي يُرِيدُ الْحَجَّ ( اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ قَالَ الْأَوَّلُ ، وَأَلْحَقَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ : أَيْ { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ } ، وَقَالَ : أَيْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُثْبَتُ فِي الْكُتُبِ الْمُتْقَنَةِ عَنْ الْأَسَاتِذَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لَأَنْ أَدَّاهَا ) أَيْ أَدَاءُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ التَّيْسِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُلَبِّي ) يُرِيدُ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ ( عَقِيبَ صَلَاتِهِ ) اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { لَبَّى دُبُرِ صَلَاتِهِ } وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ { لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ } وَذَكَرَ جَابِرٌ .
{ أَنَّهُ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ } وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَدَّ هَذَا ، فَقَالَ : يَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّمَا لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ } وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَيْفَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا حَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَقَالَ { لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ } فَسَمِعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ ، وَكَانَ الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَلَبَّى حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ فَظَنُّوهَا أَوَّلَ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ ، ثُمَّ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ ، فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَظَنُّوهَا أَوَّلَ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ وَاَيْمُ اللَّهِ مَا أَوْجَبَهَا إلَّا فِي مُصَلَّاهُ " فَقُلْنَا : بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَكَّدَ رِوَايَتَهُ بِالْيَمِينِ ، وَالْإِتْيَانُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ جَائِزٌ .

( فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ يَنْوِي بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ( وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَك ) وَقَوْلُهُ إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا لِيَكُونَ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى ، وَهُوَ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ ( وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ ( وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ .
هُوَ اعْتَبَرَهُ بِالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ .
وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ ) يَعْنِي إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ " اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ " ( وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ كَمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ سِوَى التَّلْبِيَةِ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ ، حَتَّى يُقَامَ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ

وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ) وَهُوَ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَجِبُ حَذْفُ فِعْلِهَا لِوُقُوعِهِ مُثَنَّى .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ : مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَبَ الرَّجُلُ إذَا أَقَامَ فِي مَكَان ، فَمَعْنَى لَبَّيْكَ أُقِيمُ عَلَى طَاعَتِك إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ هَاهُنَا لِلتَّكْرِيرِ ، وَالتَّكْرِيرُ يُرَادُ لِلتَّكْثِيرِ .
وَقِيلَ : مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ : امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ لِزَوْجِهَا فَمَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَك يَا رَبِّ .
وَقِيلَ : مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَلِبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا فَمَعْنَاهُ اتِّجَاهِي إلَيْك مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي صِفَةِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( لِيَكُونَ ابْتِدَاءً ) أَيْ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ لَا بِنَاءً إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى ) قِيلَ : مُرَادُهُ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ لَا الصِّفَةِ النَّحْوِيَّةِ ، وَتَقْدِيرُهُ : أُلَبِّي أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك ، أَيْ وَأَنَا مَوْصُوفٌ بِهَذَا الْقَوْلِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ التَّعْلِيلُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ لَبَّى لِأَنَّ الْحَمْدَ ، وَفِيهِ بُعْدٌ .
وَقِيلَ : مُرَادُهُ أَنَّهُ صِفَةُ التَّلْبِيَةِ أَيْ أُلَبِّي .
تَلْبِيَةً .
هِيَ أَنَّ الْحَمْدَ لَك ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ : مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ فَقَدْ عَمَّ وَمَنْ فَتَحَهَا فَقَدْ خَصَّ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ ) أَيْ ذِكْرُ التَّلْبِيَةِ ( إجَابَةٌ لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ ) وَهِيَ مَا رُوِيَ " أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْحَجِّ ، فَصَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَقَالَ : أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ لَهُ وَقَدْ بُنِيَ ، أَلَا

فَحُجُّوهُ فَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَهُ النَّاسَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِمْ يَحُجُّونَ " وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا } فَالتَّلْبِيَةُ إجَابَةٌ لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَالْعَرَبِيِّ وَالْفَارِسِيِّ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِتَجْوِيزِهِ ذَلِكَ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ .
وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ غَيْرَ الذِّكْرِ هَاهُنَا وَهُوَ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ قَامَ مَقَامَهُ فَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُومُ مَقَامَهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةِ ، وَلَكِنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَفْضَلُ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ : لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ .
فَمَنْ قَالَ : يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ قَالَ : يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا ، وَمَنْ قَالَ : لَا فَلَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ ؟ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ ، وَأَرَادَ بِالْعَهْدِ عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَزَادُوا فِي رِوَايَةٍ { لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ إلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مِنْ عَبْدٍ آبِقٍ لَبَّيْكَ } .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ ) ظَاهِرٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ التَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ أَنَّ التَّشَهُّدَ فِي تَعْلِيمِهِ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ { كَانَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ } فَالزِّيَادَةُ تُخِلُّ بِهِ ، بِخِلَافِ التَّلْبِيَةِ لِأَنَّهَا لِلثَّنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ فِي تَعْلِيمِ نَظْمِهِ فَلَا تُخِلُّ بِهَا الزِّيَادَةُ ، وَالْأَذَانُ لِلْإِعْلَامِ وَقَدْ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَلَا يَبْقَى إعْلَامًا بِغَيْرِهَا ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ كَبِيرُ خِلَافٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَنْقُولَ أَفْضَلَ فِي رِوَايَةٍ .
قَالَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ : لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَكُونُ مَكْرُوهًا ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ .
قَالَ ( وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ ) مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ إذَا نَوَى وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا لَا بِمُجَرَّدِ التَّلْبِيَةِ ، وَلَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقَدُّمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْ عَلَى أَدَاءِ عِبَادَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لِلشُّرُوعِ فِيهِ مِنْ ذِكْرٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ سَوَاءٌ كَانَ تَلْبِيَةً أَوْ غَيْرَهَا عَرَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُ فِي الْمَشْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَا ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ لِلدَّعْوَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَصِيرُ شَارِعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ .
وَالْجَوَابُ : إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي الْإِحْرَامِ الْتَزَمَ الْكَفَّ ، بَلْ الْتَزَمَ أَدَاءَ الْأَفْعَالِ وَالْكَفُّ ضِمْنِيٌّ لِأَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ

فَإِنَّ الْكَفَّ فِيهِ رُكْنٌ فَكَانَ الْتِزَامُهُ قَصْدِيًّا .

قَالَ ( وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ .
وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ أَوْ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ ، أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ حُرْمَةً ، وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ ، وَقِيلَ : مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِوَقَوْلُهُ ( وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ ) إنَّمَا قَالَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخُلْفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ لِوُجُودِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجِمَاعِ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِنَّ لَيْسَ مِنْ الرَّفَثِ ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي إحْرَامِهِ : وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا فَقِيلَ لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا الرَّفَثُ مَا كَانَ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ

( وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ( وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ أَشَرْتُمْ ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : لَا ، فَقَالَ : إذًا فَكُلُوا } وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِوَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ ) الْإِشَارَةُ تَقْتَضِي الْحَضْرَةَ ، وَالدَّلَالَةُ تَقْتَضِي الْغَيْبَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِعَانَةِ ( إزَالَةُ الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ ) وَهُوَ حَرَامٌ .

قَالَ ( وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِم هَذِهِ الْأَشْيَاءَ } وَقَالَ فِي آخِرِهِ { وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } وَالْكَعْبُ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ دُونَ النَّاتِئِ فِيمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَلَا يُغَطِّي وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةٌ فَالرَّجُلُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ .

وَقَوْلُهُ ( قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ الْجِرْذَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ وَالْوَقَصُ كَسْرُ الْعُنُقِ وَالْأَخَافِيقُ شُقُوقٌ فِي الْأَرْضِ ، وَالْجِرْذَانُ جَمْعُ جُرَذٍ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْفَأْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَتَمَسَّكُ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَمَذْهَبُنَا عَلَى خِلَافِ حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُحْرِمٍ يَمُوتُ فِي إحْرَامِهِ حَيْثُ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِالْكَفَنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ يَتَمَسَّكُ هُنَاكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُجِيبَ : بِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِحْرَامِ تَأْثِيرًا فِي تَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ لِتَرْكِ التَّغْطِيَةِ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا .
وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ وَوَجْهِهِ إذَا مَاتَ مَا رَوَى عَطَاءٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ مَاتَ فَقَالَ : خَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَلَا تُشَبِّهُوهُ بِالْيَهُودِ } .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ لِلْإِحْرَامِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَمَا أَمَرَ بِتَخْمِيرِهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ ) يَعْنِي إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا ( الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ) يَعْنِي الْفَرْقَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ لَا أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ فِي الْإِحْرَامِ .

قَالَ ( وَلَا يَمَسُّ طِيبًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } ( وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ ) لِمَا رَوَيْنَا ( لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا شَعْرَ بَدَنِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } الْآيَةَ ( وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ ) لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَمَسُّ طِيبًا ) الطِّيبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } وَالشَّعِثُ بِالْكَسْرِ نَعْتٌ ، وَبِالْفَتْحَةِ مَصْدَرٌ : وَهُوَ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَيُّرُهُ لِقِلَّةِ التَّعَهُّدِ وَالتَّفِلُ مِنْ التَّفْلِ وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ ( وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } .
قَالَ ( وَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ ) الْمُحْرِمُ لَا يَحْلِقُ شَعْرَهُ مُطْلَقًا ( لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } الْآيَةَ ) وَهُوَ بِعِبَارَتِهِ يَنْهَى عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ ، وَبِدَلَالَتِهِ عَنْ حَلْقِ شَعْرِ الْبَدَنِ لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُسْتَحِقُّ الْأَمْنِ عَنْ الْإِزَالَةِ لِكَوْنِهِ نَامِيًا يَحْصُلُ الِارْتِفَاقُ بِإِزَالَتِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي شَعْرِ الْبَدَنِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( قَضَاءُ التَّفَثِ ) يَعْنِي إزَالَةَ الْوَسَخِ ، .

قَالَ ( وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَلَا عُصْفُرٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ } قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يَنْفُضُ ) لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ .
وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً .وَالْوَرْسُ صَبْغٌ أَصْفَرُ ، وَقِيلَ : نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ، وَفِي الْقَانُونِ الْوَرْسُ شَيْءٌ أَحْمَرُ قَانِئٌ يُشْبِهُ سَحِيقَ الزَّعْفَرَانِ وَهُوَ مَجْلُوبٌ مِنْ الْيَمَنِ وَقَوْلُهُ ( لَا يَنْفُضُ ) أَيْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا يَتَعَدَّى أَثَرَ الصَّبْغِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ لَا تَفُوحَ مِنْهُ رَائِحَةُ الطِّيبِ .
وَالثَّانِي : مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ قَالَ ( لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ ) وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ يَنْفُضُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَفَضْت الثَّوْبَ أَنْفُضُهُ نَفْضًا إذَا حَرَّكْته لِيَسْقُطَ مَا عَلَيْهِ ، وَالثَّوْبُ لَيْسَ بِنَافِضٍ وَأَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقِيلَ : بَلْ هِيَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ، وَلَئِنْ كَانَتْ كَانَ إسْنَادًا مَجَازِيًّا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ ) فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ لِيُلْحَقَ بِهِ ، وَقُلْنَا حَدِيثُ الْوَرْسِ دَلِيلٌ فِي الْعُصْفُرِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْوَرْسِ فِي طِيبِ الرَّائِحَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌوَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ ) ظَاهِرٌ .

( وَ ) لَا بَأْسَ بِأَنْ ( يَسْتَظِلَّ بِالْبَيْتِ وَالْمُحْمَلُ ) وَقَالَ مَالِكٌ : يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يُشْبِه تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ .
وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ بَدَنَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ .
وَلَوْ دَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّتْهُ ، إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِظْلَالٌ

( وَ ) لَا بَأْسَ بِأَنْ ( يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ ( وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامّ الرَّأْسِ .وَالْهِمْيَانُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ .
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : هَلْ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْهِمْيَانَ ؟ فَقَالَتْ : اسْتَوْثِقْ فِي نَفَقَتِك بِمَا شِئْت ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ .
وَنُوقِضَ بِشَدِّ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَبِمَا إذَا عَصَبَ الْعِصَابَةَ عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ ، فَلَوْ فَعَلَهُ يَوْمًا كَامِلًا لَزِمَهُ الصَّدَقَةُ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ .
وَأُجِيبَ عَلَى الْأَوَّلِ : بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَدَّ فَوْقَ إزَارِهِ حَبْلًا ، فَقَالَ : أَلْقِ هَذَا الْحَبْلَ وَيْلَك } وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّ لُزُومَ الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَغْطِيَةِ بَعْضِ الرَّأْسِ بِالْعِصَابَةِ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ مَا يُغَطِّيهِ جُزْءٌ يَسِيرٌ يُكْتَفَى فِيهِ بِالصَّدَقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ ) قِيلَ : لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَإِنَّ لَهُ رَائِحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ .

قَالَ ( وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ ) لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُلَبُّونَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَالتَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، فَيُؤْتِي بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ( وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ } فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ إسَالَةُ الدَّمِ .قَالَ ( وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا ) الْمُحْرِمُ يُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَزَادَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ سَادِسًا وَهُوَ مَا إذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ) الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي الدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ الْإِخْفَاءُ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَانِهِ مَقْصُودٌ كَالْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ ، فَكَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا مُسْتَحَبًّا .

قَوْلُهُ ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَهُوَ فِيهِ ، وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا ( وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ : إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْأَصْلِ لِمَشَاهِدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا فَحَسَنٌ .وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ الدَّعَوَاتِ ( فَحَسَنٌ ) وَمِنْ الْمَنْقُولِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَك تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " وَعَنْ عَطَاءٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ } .

قَالَ ( ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ } ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ } قَالَ ( وَاسْتَلَمَهُ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ } وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّك رَجُلٌ أَيْدٍ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْت فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ " .
وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَاسْتَلَمَهُ ) يُقَالُ : اسْتَلَمَ الْحَجَرَ تَنَاوَلَهُ بِالْيَدِ أَوْ بِالْقُبْلَةِ أَوْ مَسَحَهُ بِالْكَفِّ ، مِنْ السَّلِمَةِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ الْحَجَرُ وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ } وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَقَفَ فَقَالَ : أَمَا إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَك مَا اسْتَلَمْتُك ، فَبَلَغَ مَقَالَتُهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَمَا إنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَمَا مَنْفَعَتُهُ يَا خَتَنَ رَسُولِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أَوْدَعَ إقْرَارَهُمْ الْحَجَرَ ، فَمَنْ يَسْتَلِمْ الْحَجَرَ فَهُوَ يُجَدِّدُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ ، وَالْحَجَرُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَوْلُهُ ( إنَّك رَجُلٌ أَيْدٍ ) أَيْ قَوِيٌّ .
وَالْعُرْجُونُ أَصْلُ الْكِبَاسَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ ) كَالْعُرْجُونِ وَغَيْرِهِ ( ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ فُعِلَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ } وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .وَقَوْلُهُ ( وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ ) يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ الْأَشْوَاطِ وَإِنَّمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا .
وَالْمِحْجَنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ : عُودٌ مُعْوَجُّ الرَّأْسِ كَالصَّوْلَجَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ ) قِيلَ : يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى الْحَجَرِ دُونَ السَّمَاءِ وَلَا يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ ، لِأَنَّ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِلَامِ يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى الْحَجَرِ هَكَذَا فِي الْبَدَلِ .

قَالَ ( ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ } ( وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ ) وَهُوَ سُنَّةٌ .
وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ ) بَيَانٌ لِمَبْدَإِ الطَّوَافِ وَهُوَ مِنْ الْحَجَرِ .
فَإِنْ افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الْبُدَاءَةِ فَالْتُحِقَ فِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا لَهُ ، فَتُفْتَرَضُ الْبُدَاءَةُ بِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقٌ لَكِنَّ السُّنَّةَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ الطَّوَافُ الْمَنْكُوسُ فَطَافَ كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ عِنْدَنَا ، وَيُعِيدُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ .
وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الصَّوَابُ بِرِدَائِهِ .
وَفِي الصِّحَاحِ : إنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الصَّنِيعُ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ وَهُوَ التَّأَبُّطُ أَيْضًا .

قَالَ ( وَيَجْعَلُ طَوَافَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ ) وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِيهِ الْمِيزَابُ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِّمَ مِنْ الْبَيْتِ : أَيْ كُسِرَ ، وَسُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حُجِرَ مِنْهُ : أَيْ مُنِعَ ، وَهُوَ مِنْ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ } فَلِهَذَا يُجْعَلُ الطَّوَافُ مِنْ وَرَائِهِ ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْفُرْجَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ وَحْدَهُ لَا تُجْزِيه الصَّلَاةُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ احْتِيَاطًا ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ .

وَقَوْلُهُ ( فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ) يَعْنِي مَا رُوِيَ { أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ إنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ وَقَالَ : صَلِّي هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت بِنَاءَ الْبَيْتِ وَأَظْهَرْت قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَدْخَلْت الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ ، وَأَلْصَقْت الْعَتَبَةَ بِالْأَرْضِ ، وَجَعَلْت لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا ، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَفْعَلَن ذَلِكَ } وَلَمْ يَعِشْ وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ ، وَأَدْخَلَ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ فَلَمَّا قُتِلَ كَرِهَ الْحَجَّاجُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَنَقَضَ بِنَاءَهَا وَأَعَادَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
وَإِذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِي الطَّوَافِ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْأَشْوَاطِ ) وَالرَّمَلُ أَنْ يَهُزَّ فِي مِشْيَتِهِ الْكَتِفَيْنِ كَالْمُبَارِزِ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَذَلِكَ مَعَ الِاضْطِبَاعِ .
وَكَانَ سَبَبُهُ إظْهَارَ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ حِينَ قَالُوا : أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْدَهُ .
قَالَ ( وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هَيِّنَتِهِ ) عَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ) هُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ رَمَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ .
فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا رَمَلَ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فَيَقِفُ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الِاسْتِلَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بَدَلٌ لَهُ .

قَالَ ( وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا رَمَلَ فِي الطَّوَافِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ .
وَهُوَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ .
فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَيَعْتَمِرَ وَيَخْرُجَ ، فَلَمَّا قَدِمَ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَخْلَوْا لَهُ الْبَيْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَصَعِدُوا الْجَبَلَ ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ ، فَسَمِعَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ لِبَعْضٍ : أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَلَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً } ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآنَ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمَلِ .
قُلْنَا : مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ سَبَبُهُ وَلَكِنَّهُ صَارَ سُنَّةً بِذَلِكَ السَّبَبِ وَبَقِيَ بَعْدَ زَوَالِهِ .
رَوَى جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ ، وَلَمْ يَبْقَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ } .
وَقَوْلُهُ ( وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هِينَتِهِ ) أَيْ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِعْلَةٌ مِنْ الْهَوْنِ ( وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ) أَيْ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ( فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ ) يَعْنِي وَقَفَ .
وَلَا يَطُوفُ بِدُونِ الرَّمَلِ فِي تِلْكَ الثَّلَاثِ .

قَالَ ( وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ ) لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَكَمَا يَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِالتَّكْبِيرِ يَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ .
وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ ) وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا ( وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ ) يَعْنِي اسْتِلَامَ الْحَجَرِ .وَقَوْلُهُ ( وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ ) وَالْيَمَنُ خِلَافُ الشَّامِ لِأَنَّهَا بِلَادٌ عَلَى يَمِينِ الْكَعْبَةِ ، وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا يَمَنِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَوْ يَمَانٌ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَعْوِيضِ الْأَلِفِ مِنْ إحْدَى يَاءَيْ النِّسْبَةِ .
وَقَوْلُهُ ( حَسَنٌ ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ

قَالَ ( ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ ) وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ( ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ } وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالِاسْتِلَامِ فَكَذَا السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ ) أَيْ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ ( وَهِيَ وَاجِبَةٌ ) أَيْ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْمَقَامِ وَاجِبَةٌ ( عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ .
وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ) وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
وَالثَّانِي أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَقَالَ لَهُ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ } يُعَارِضُهُ ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ ، فَكَيْفَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ .

قَالَ ( وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ ) وَيُسَمَّى طَوَافُ التَّحِيَّةِ ( وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ } وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ .
وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً ، وَهُوَ دَلِيلٌ الِاسْتِحْبَابِوَقَوْلُهُ ( وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ ) هَذَا الطَّوَافُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ : طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ ، وَطَوَافُ أَوَّلِ الْعَهْدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ سُنَّةٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحِيَّةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِإِكْرَامٍ يَبْتَدِئُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { أَكْرِمُوا الشُّهُودَ } .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا } وَارِدٌ بِلَفْظِ التَّحِيَّةِ ، وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْأَحْسَنُ ، وَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ التَّحِيَّةِ وَقَعَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ .

( وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الْقُدُومِ ) لِانْعِدَامِ الْقُدُومِ فِي حَقِّهِمْ .
قَالَ ( ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ .
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو اللَّهَ } وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالصَّلَاةَ يُقَدَّمَانِ عَلَى الدُّعَاءِ تَقْرِيبًا إلَى الْإِجَابَةِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الدَّعَوَاتِ .
وَالرَّفْعُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ .
وَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأًى مِنْهُ ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصُّعُودِ ، وَيَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ .
وَإِنَّمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ .وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ : تَأْخِيرُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْلَى ، لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فَجَعْلُهُ تَابِعًا لِلْفَرْضِ أَوْلَى ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ رَخَّصُوا فِي إتْيَانِ السَّعْيِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ ، لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمُ شُغْلٍ مِنْ الذَّبْحِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَكَانَ فِي جَعْلِهِ تَابِعًا لِلسُّنَّةِ ، وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ تَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ .

قَالَ ( ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ " فَإِذَا بَلَغَ بَطْنَ الْوَادِي يَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ سَعْيًا ، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عَلَيْهَا وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَزَلَ مِنْ الصَّفَا وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَسَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي ، حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ } قَالَ ( وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ) وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ لِمَا رَوَيْنَا ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ } ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا } .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ فِي الْإِيجَابِ .
وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ .
ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } الْآيَةَ .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَنْحَطُّ ) أَيْ يَنْزِلُ ( نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ ) أَيْ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ ( فَإِذَا بَلَغَ بَطْنَ الْوَادِي سَعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ ) رَوَى جَابِرٌ { لَمَّا صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ مِقْدَارَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا أُنْصِبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى الْتَوَى إزَارُهُ بِسَاقَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ } وَقَوْلُهُ ( وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ) أَيْ مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لِحَاجَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ : إنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا ، وَهُوَ لَا يَعْتَبِرُ رُجُوعَهُ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ شَوْطًا آخَرَ .
وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ يَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتَّى كَانَ مَبْدَأُ الطَّوَافِ هُوَ الْمُنْتَهَى دُونَ السَّعْيِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ دَوَرَانٌ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِحَرَكَةٍ دَوْرِيَّةٍ ، فَيَكُونُ الْمَبْدَأُ وَالْمُنْتَهَى وَاحِدًا بِالضَّرُورَةِ .
وَأَمَّا السَّعْيُ فَهُوَ قَطْعُ مَسَافَةٍ

بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ { وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي } وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا ) ظَاهِرٌ ( ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ) عِنْدَنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا } وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا ذَكَرَهُ أَنَّ مِثْلَهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } وَمَا يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ ( يَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ ) أَيْ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ ( فِي الْإِيجَابِ ) أَيْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِهَا فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا أَوْجَبَ الْعُدُولَ وَاخْتَلَفَ فِيهِ الشَّارِحُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : عَمَلًا بِمَا رَوَاهُ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ يُوجِبُ الْإِيجَابَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بِأَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } فَإِنَّ الشَّعَائِرَ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ ، وَذَلِكَ يَكُونُ فَرْضًا ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ ، وَآخِرُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ ، فَعَمِلْنَا بِهِمَا ، وَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِلْمًا وَهُوَ فَرْضٌ عَمَلًا ، فَكَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرْضِ وَالِاسْتِحْبَابِ .
وَقِيلَ : بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، وَمَا رَوَيْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ ) تَأْوِيلٌ لِلْحَدِيثِ .
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ ( كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } ) نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ ، فَكَانَ كُتِبَ دَالًّا عَلَى الْفَرْضِيَّةِ .

وَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ بَلْ يُجْمَعُ لِلْوَارِثِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، وَلِلْمَانِعِ يَكْفِيهِ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ الْمُصَنِّفِ أَعْرَضَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِهِ ، فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَدَلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ الرُّكْنِيَّةِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ لِأَنَّ .
رَاوِيَهُ .
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُؤَمَّلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَهُ النَّسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ أَحْمَدُ : أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ .

قَالَ ( ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا ) لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ ، قَالَ ( وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَهُ ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ .
وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ ، فَكَذَا الطَّوَافُ } إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا مَرَّةً .
وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَيُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا ) أَيْ مُحْرِمًا ( لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ ) لِشُرُوعِهِ فِيهِ .
وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ ( لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ ) وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَكَذَا الطَّوَافُ ) قِيلَ : إلَّا أَنَّ طَوَافَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لِلْغُرَبَاءِ .
وَصَلَاةَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ يَفُوتُهُمْ الطَّوَافُ وَلَا تَفُوتُهُمْ الصَّلَاةُ ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَفُوتُهُمْ الْأَمْرَانِ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مَرَّةً فَالتَّكْرَارُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّوَافِ ، وَلَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ .

قَالَ ( فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ الْإِمَامُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْخُرُوجَ إلَى مِنًى وَالصَّلَاةَ بِعَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفَ وَالْإِضَافَةِ ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ : أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْنَا ، وَالثَّانِيَةُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَالثَّالِثَةُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ خُطْبَتَيْنِ بِيَوْمٍ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَخْطُبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الْمَوْسِمِ وَمُجْتَمَعُ الْحَاجِّ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّعْلِيمُ .
وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ النَّحْرَ يَوْمَا اشْتِغَالٍ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعُوَقَوْلُهُ ( فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ ) وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ( خَطَبَ الْإِمَامُ ) يَعْنِي خُطْبَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُخْطَبُ بِمِنًى ، وَأَمَّا فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ فَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَهِيَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ ) ظَاهِرٌ .

( فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ) " لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ } ( وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ إقَامَةُ نُسُكٍ ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ بِتَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك بِذَبْحِ ابْنِك هَذَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَرَوَّى : أَيْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الرَّوَاحِ أَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْحُلْمُ أَمْ مِنْ الشَّيْطَانِ ؟ فَمِنْ ثَمَّةَ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ .
فَلَمَّا أَمْسَى رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ .
ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ الْيَوْمُ بِيَوْمِ النَّحْرِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ بِالْمَاءِ مِنْ الْعَطَشِ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَحْمِلُونَ الْمَاءَ بِالرَّوَايَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمِنًى .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ بِهِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ : أَعَرَفْت فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَطُوفُ ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَسْعَى ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَقِفُ ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَنْحَرُ وَتَرْمِي ؟ فَقَالَ عَرَفْت ، فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَسُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يُضَحُّونَ فِيهِ بِقَرَابِينِهِمْ .

قَالَ ( ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيُقِيمُ بِهَا ) لَا رَوَيْنَا ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ .
أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ حُكْمٌ .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ تَجَبُّرٌ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى .
وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ ) أَيْ يَتَوَجَّهُ مِنْ مِنًى بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى عَرَفَاتٍ ( فَيُقِيمُ بِهَا لِمَا رَوَيْنَا ) { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ } ( وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ ) أَيْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهَذَا إضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى يَصِحَّ بِنَاءُ قَوْلِهِ وَهَذَا : أَيْ التَّوَجُّهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .
وَقَوْلُهُ أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ .
عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : تَرْكُ هَذَا الْقَيْدِ سَهْوٌ مِنْ الْكَاتِبِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ ) يَعْنِي مِنًى ( حُكْمٌ ) مِنْ الْمَنَاسِكِ فَيَجُوزُ الذَّهَابُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَاتٍ لِلْوُقُوفِ فِيهَا وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ .
لَا يُقَالُ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْثُ نَفْسُهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْمَنَاسِكِ كَالْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ مَنْقُولٍ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَنْزِلُ بِهَا ) أَيْ بِعَرَفَةَ ( مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ ) أَيْ الِانْفِرَادَ ( تَجَبُّرٌ ) وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ مُرَادُهُ ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ مَعَ النَّاسِ ( أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ )

قَالَ ( وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالنَّحْرَ وَالْحَلْقَ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ ، يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ) هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهَا خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ فَأَشْبَهَ خُطْبَةَ الْعِيدِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ وَالْجَمْعِ مِنْهَا .
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ : إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ .
قَالَ ( وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ ) وَقَدْ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِاتِّفَاقٍ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَفِيمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ } ، ثُمَّ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْعَصْرَ يُؤَدَّى قَبْلَ وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا لِلنَّاسِ ( وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوُقُوفِ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ ، فَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا وَأَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ

لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُهُ لِلْعَصْرِ ( فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ) يَعْنِي فِي عَرَفَاتٍ ( لِيُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً ) يَعْنِي قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَفْظُ يَبْتَدِئُ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ لِلنَّاسِ ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ } وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ) مِنْ الْفُسْطَاطِ ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ خَرَجَ الْإِمَامُ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ( وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ ) قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ ( لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ) وَوَجْهُ الصِّحَّةِ أَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ تَقْتَضِي الْأَذَانَ بَعْدَ خُطْبَةٍ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِيهِ قَبْلَهَا فَتَعَارَضَتَا فَصِرْنَا إلَى مَا بَعْدَهُمَا مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ ( وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ ) قَالَ ( وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ ) أَيْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ ( بِأَذَانٍ

وَإِقَامَتَيْنِ ) أَمَّا نَفْسُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَلِوُرُودِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ فَلِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ) يَعْنِي لَا الْإِمَامُ وَلَا الْقَوْمُ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ) فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يُعِيدُ الْأَذَانَ لِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ جَمَعَهُمَا فَيُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْعِشَاءِ مَعَ الْوِتْرِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ ( أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ ) وَقَطْعُ فَوْرِ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ إعَادَتَهُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ وَكُلُّ صَلَاةٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا اسْتَغْنَيَا عَنْ الْإِعْلَامِ ، وَإِذَا قُطِعَ عَادَ حُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَا : يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ وَالْمُنْفَرِدِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَ مَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَوْقِفِ لَا لِمَا ذَكَرَاهُ إذْ لَا مُنَافَاةَ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدًّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ تَقْدِيمًا لِلْإِحْرَامِ عَلَى وَقْتِ الْجَمْعِ ، وَفِي أُخْرَى يَكْتَفِي بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ ) أَيْ فِي مَنْزِلِهِ ( وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : الْمُنْفَرِدُ وَغَيْرُهُ سِيَّانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ) وَمَبْنَى الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ لِأَجْلِ مُحَافَظَةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لِامْتِدَادِ الْوُقُوفِ ، فَعِنْدَهُ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمَا لِلثَّانِي .
لَهُمَا أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا جَمْعَ عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ ، وَأَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إلَى الدُّعَاءِ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ ، فَشُرِعَ الْجَمْعُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ الدُّعَاءِ .
وَالْمُنْفَرِدُ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْحَاجَةِ سَوَاءٌ فَيَسْتَوِيَانِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ ، وَذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ وُفُورِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْجَمْعِ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ بِالتَّقْدِيمِ لِامْتِدَادِ الْوُقُوفِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا لِأَنَّ الْمَوْقِفَ مَوْضِعٌ وَاسِعٌ ذُو طُولٍ وَعَرْضٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَادَةِ فَعَجَّلُوا الْعَصْرَ لِئَلَّا تَفُوتَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِحَقِّ الْوُقُوفِ ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَفُوتُ لَا إلَى خَلْفٍ ، وَحَقُّ الْوُقُوفِ يَتَأَدَّى قَبْلُ وَبَعْدُ وَمَعَهُ ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ ، لَا

يَنْقَطِعُ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ كَمَا لَا يَنْقَطِعُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّوَضُّؤِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَفِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ حَيْثُ قَالَ : وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ ، وَهَاهُنَا جَعَلَ عِلَّتَهُ صِيَانَةَ الْجَمَاعَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوُقُوفِ صِيَانَةَ الْجَمَاعَةِ صَحَّ الْكَلَامُ ، لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَدَاءُ أَعْظَمِ رُكْنَيْ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوُقُوفِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا عَاجِلٌ وَالثَّانِي آجِلٌ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ امْتِدَادُ الْمُكْثِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ لِمَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ .
وَالثَّانِي أَدَاءُ الرُّكْنِ وَصِيَانَةُ الْجَمَاعَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ مَعْلُولًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ ، وَلِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّانِي ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ وَتَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ الِامْتِدَادُ فِي الْمُكْثِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُودِ غَيْرِهِ فَقَالَا : مَا ثَمَّةَ غَيْرُهُ ، وَفِيهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْجَمَاعَةُ سَوَاءٌ ، وَقَالَ : بَلْ ثَمَّةَ غَيْرُهُ ، وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ صِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ ، وَلَيْسَ الْمُنْفَرِدُ فِيهِ كَالْجَمَاعَةِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَالَ زُفَرُ : فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ ) وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ لِلتَّغَيُّرِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ) وَكُلُّ مَا كَانَ شَرْعُهُ عَلَى

خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِحْرَامُ شَرْطٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَقَالَ زُفَرُ : هُوَ شَرْطٌ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَلَالٍ مَكِّيٍّ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ ، أَوْ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَ زُفَرَ تَجُوزُ ( ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ ) لِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْجَمْعِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ ، وَجَوَازُ الْجَمْعِ يَتَحَقَّقُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مُقَارِنًا ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَقَارِنَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآخَرِ ( وَفِي ) رِوَايَةٍ ( أُخْرَى يُكْتَفَى بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ )

قَالَ ( ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمَوْقِفِ فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ ، وَالْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ .قَالَ ( ثُمَّ يَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إلَى الْمَوْقِفِ ) أَيْ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إلَى الْمَوْقِفِ ( فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ) وَقَوْلُهُ ( وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ } .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ ( وَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ جَازَ ) وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا بَيَّنَّا ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ كَذَلِكَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اُسْتُقْبِلَتْ بِهِ الْقِبْلَةُ } ( وَيَدْعُو وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُو يَوْمَ عَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكَيْنِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ } وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا تَفْصِيلَهَا فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمُ [ بِعُدَّةِ النَّاسِكِ فِي عِدَّةٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ ] بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَقَوْلُهُ ( بَطْنُ عُرَنَةَ ) وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ .
قِيلَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الشَّيْطَانَ ، فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّاعَاتِ الثَّلَاثِ .
( وَالْمُزْدَلِفَةُ ) إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ } أَيْ جَمَعْنَاهُمْ ، وَقِيلَ مِنْ الِازْدِلَافِ بِمَعْنَى التَّقَرُّبِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } أَيْ قُرِّبَتْ ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِاقْتِرَابِ النَّاسِ إلَى مِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ ( وَوَادِي مُحَسِّرٍ ) بِكَسْرِ السِّينِ وَتَشْدِيدِهَا هُوَ بَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَاتٍ .
وَقَوْلُهُ ( كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ ) فِي تَقْدِيمِ الصِّفَةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمُدِّ ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَحْصُلُ بِحَالَةِ الِاسْتِطْعَامِ وَهِيَ حَالَةُ الِاحْتِيَاجِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ ) عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ أَكْثَرَ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا .
اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ .
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي الْبَحْرِ وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ } .

قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ ) لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ فَيَعُوا وَيَسْمَعُوا ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ ) لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَيَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ ) أَمَّا الِاغْتِسَالُ فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَوْ اكْتَفَى بِالْوُضُوءِ جَازَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ .
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ ( وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ .

وَقَوْلُهُ ( إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ ) أَيْ إلَّا فِي حَقِّ الدَّمِ الَّذِي وَجَبَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قِصَاصًا وَعَجَزُوا عَنْ اسْتِيفَائِهِ ، وَفِي حَقِّ الْمَظْلِمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَعَجَزُوا عَنْ الِانْتِصَافِ .
وَقِيلَ : قَدْ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمُزْدَلِفَةِ وَقَوْلُهُ ( وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ ) يَعْنِي يَسْتَدِيمُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ أَوَّلَ حَصَاةٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ( وَقَالَ مَالِكٌ : يَقْطَعُهَا كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ إجَابَةٌ بِاللِّسَانِ ، وَالْإِجَابَةُ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ ) كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ } ، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ) فِي كَوْنِهِ ذِكْرًا مَفْعُولًا فِي افْتِتَاحِ الْعِبَادَةِ وَيَتَكَرَّرُ فِي أَثْنَائِهَا ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الرَّمْيِ .
وَقِيلَ : كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إلَى آخِرِهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ تُرِكَ فِيمَا بَعْدَ الرَّمْيِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .

قَالَ ( فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَيِّنَتِهِمْ حَتَّى يَأْتُوا الْمُزْدَلِفَةَ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَيِّنَتِهِ ، فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِهِ كَيْ لَا يَكُونَ آخِذًا فِي الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِهَا ، وَلَوْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ ثُمَّ أَفَاضَتْ .

وَقَوْلُهُ ( وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هِينَتِهِمْ ) إنَّمَا هُوَ اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ وَفِي إيضَاعِ الْإِبِلِ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ } ( وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ) وَمَشَى عَلَى هِينَتِهِ فِي الطَّرِيقِ ( وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ ) فَإِنَّهُ رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا تَعَمَّمَتْ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ كَعَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَإِنَّ هَدْيَنَا لَيْسَ كَهَدْيِهِمْ ، فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ } فَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَرَ بِهِ إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ ) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْإِمَامِ وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ ، وَلَكِنْ إنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ دَفَعَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ .
وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ .

قَالَ ( وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ يُقَالُ لَهُ قُزَحَ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ ، وَكَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَحَرَّزُ فِي النُّزُولِ عَنْ الطَّرِيقِ كَيْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ فَيَنْزِلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
قَالَ ( وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ .
وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ } وَلِأَنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهِ فَلَا يُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا ، بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ فَأَفْرَدَ بِهَا لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ ( وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْجَمْعِ ، وَلَوْ تَطَوَّعَ أَوْ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ أَعَادَ الْإِقَامَةَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِعَرَفَةَ ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِإِعَادَةِ الْإِقَامَةِ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ } .
وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ) أَيْ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ تَعَشَّى ) أَيْ أَكَلَ الْعَشَاءَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ ) أَيْ لِجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا ) وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ مَوْرِدِ النَّصِّ ، فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَمَاعَةِ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُرَاعَى لِذَلِكَ فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَانَتْ شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْجَمْعِ بِعَرَفَاتٍ .

قَالَ ( وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُجْزِيه وَقَدْ أَسَاءَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا صَلَّى بِعَرَفَاتٍ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا فَلَا تَجِبُ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ .
وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ : الصَّلَاةُ أَمَامَك } مَعْنَاهُ : وَقْتُ الصَّلَاةِ .
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِيُمْكِنَهُ الْجَمْعَ بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ .

وَقَوْلُهُ ( مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ ) أَيْ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ وَحْدَهُ ( لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُجْزِيهِ وَقَدْ أَسَاءَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّاهَا بِعَرَفَاتٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا ( لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا ) وَمَنْ أَدَّى صَلَاةً فِي وَقْتِهَا ( لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ .
وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ وَمَالَ إلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ ، وَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي الصَّلَاةَ أَمَامَك } يَعْنِي وَقْتُ الصَّلَاةِ أَمَامَك ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلُ الْمُصَلِّي فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ أَمَامَهُ وَلَكِنَّهَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ : مَكَانُ الصَّلَاةِ أَمَامَك وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحَالِ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ .
( وَهَذَا ) أَيْ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ الْقَضَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَجِبُ النَّظَرُ فِي سَبَبِهِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُ السَّيْرِ أَوْ إمْكَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَيْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الشِّعْبِ وَقَضَاءَ حَاجَتِهِ يَأْبَاهُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، فَمَهْمَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ ، وَالْإِمْكَانُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ ، وَأَمَّا

إذَا طَلَعَ فَقَدْ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ الْآحَادِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } وَأَجَابَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَمِلُوا بِهِ فَجَازَ أَنْ يُزَادَ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَقُولُ : قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ } الْآيَةَ وَنَحْوَهَا لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ لِلصَّلَاةِ أَوْقَاتًا ، وَتَعْيِينُهَا ثَبَتَ إمَّا بِخَبَرِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْآحَادِ ، أَوْ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ ، ثُمَّ يُعْمَلُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتُهُ ، وَشُكِّكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ إمَّا أَنْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَتْ فِيهِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ مَوْقُوفٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ .

قَالَ ( وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ ) لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا يَوْمئِذٍ بِغَلَسٍ } وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعَ حَاجَةِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ

قَالَ ( وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ ) أَيْ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ وَالْغَلَسُ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ نَاقِلًا عَنْ الدِّيوَانِ آخِرُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ .
قَوْلُهُ ( لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ) قَالَ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِوَقْتِهَا إلَّا بِجَمْعٍ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ الْغَدِ قَبْلَ وَقْتِهَا } .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الدَّلِيلُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ غَيْرُ مُطَابِقَيْنِ لِلْمَدْلُولِ .
أَمَّا الْمَنْقُولُ فَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا بِغَلَسٍ ، وَالْمَدْلُولُ قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ تَقْرِيرَهُ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعُ حَاجَةِ الْوُقُوفِ ، وَدَفْعُ الْحَاجَةِ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ كَانَ عَلَى وَقْتِهِ ، فَيَكُونُ هَاهُنَا كَذَلِكَ تَصْحِيحًا لِلتَّشْبِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَطْلُوبِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ قَالَ : { خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ وَقْتِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّاوِيَ لَا يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مَا رُوِيَ .
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحُ } وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ : لَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى

وَقْتِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ وَهِيَ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى .

( ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ وَدَعَا ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { فَاسْتُجِيبَ لَهُ دُعَاؤُهُ لِأُمَّتِهِ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ } ثُمَّ هَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرُ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَمَارَةً لِلْوُجُوبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى الدِّمَاءُ وَالْمَظَالِمُ ) بِالرَّفْعِ : أَيْ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْمُسْتَجَابِ بِأَنْ يَرْضَى الْخُصُومُ بِالِازْدِيَادِ فِي مَثُوبَاتِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا خُصُومَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَنِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَيْهِ سَهْوٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ سُنَّةٌ .
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ عَلْقَمَةَ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ ، وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَالِكًا مَكَانَ الشَّافِعِيِّ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى نَقْلٍ مِنْ مَذْهَبِهِ وَاسْتَدَلَّ ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ وَالْوُقُوفِ فِيهِ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ( وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ } ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ) لِأَنَّ مَا هُوَ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرَ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الذِّكْرُ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ ، فَكَذَا مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَيْهِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْوُقُوفُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ } فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَعْلِيقِ تَمَامِ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ } إلَخْ مِنْ حَيْثُ الْكَمَالُ

وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ لَا مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ .

قَالَ ( وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .
قَالَ ( فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتُوا مِنًى ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَهَذَا غَلَطٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَسْفَرَ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ } .
وَقَوْلُهُ ( هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ) أَيْ فِي نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ( وَهَذَا غَلَطٌ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .
رَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ قَالَا { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ دَفَعَ إلَى مِنًى } .
وَأَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ : إذَا قَرُبَتْ إلَى الطُّلُوعِ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ الْمَسْأَلَةِ .

قَالَ ( فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ ) لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا } وَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْهُ جَازَ لِحُصُولِ الرَّمْيِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ كَيْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ ( وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّ مَا حَوْلَهَا مَوْضِعُ النُّسُكِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لِمَا رَوَيْنَاوَقَوْلُهُ ( فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ) الْكَلَامُ فِي الرَّمْيِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا : أَحَدُهَا الْوَقْتُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ ، وَالثَّانِي فِي مَوْضِعِ الرَّمْيِ وَهُوَ بَطْنُ الْوَادِي ، يَعْنِي مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى أَعْلَاهُ ، وَالثَّالِثُ فِي مَحَلِّ الرَّمْيِ إلَيْهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ : جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَمَسْجِدُ الْخَيْفِ وَالْوُسْطَى ، وَالرَّابِعُ فِي كَمْيَّةِ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ سَبْعَةٌ عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ ، وَالْخَامِسُ فِي الْمِقْدَارِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ ، وَالسَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَقِيلَ يَأْخُذُ الْحَصَى بِطَرَفِ إبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ ، وَالسَّابِعُ مِقْدَارُ الرَّمْيِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَالثَّامِنُ فِي صِفَةِ الرَّامِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَالتَّاسِعُ فِي مَوْضِعِ وُقُوعِ الْحَصَيَاتِ ، وَالْعَاشِرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَجَرُ وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي الْكِتَابِ ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ فِيمَا يَرْمِي بِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَا غَيْرُ وَفِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ يَرْمِي الْجِمَارَ كُلَّهَا .
وَكَلَامُهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .

( وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ) كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ ) لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ ( وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا ( وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ ) لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرَوَى جَابِرٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } .

ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ الْيُمْنَى وَيَسْتَعِينُ بِالْمِسْبَحَةِ .
وَمِقْدَارُ الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَوْضِعِ السُّقُوطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَصَاعِدًا ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا .
وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى قَدَمَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ ، وَلَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ ، وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَا يُجْزِيه لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ

وَلَوْ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَفْعَالِ ، وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ ، هَكَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ ، وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ .
وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا .

وَقَوْلُهُ ( فَيُتَشَاءَمُ بِهِ ) وَلَا يُتَبِّرُك ، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ ؟ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ مَنْ يُقْبَلُ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ تُرِكَ حَصَاهُ ، حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ : لَمَّا سَمِعْت هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَعَلْت عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً ثُمَّ تَوَسَّطْت الْجَمْرَةَ فَرَمَيْته مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْت فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا مِنْ الْحَصَى .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالْفَيْرُوزِ وَالْيَاقُوتِ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِمَا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ بِهِمَا حَتَّى لَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِمَا فِي الرَّمْيِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِهَانَةِ بِرَمْيِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرَمْيِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ إلَّا بِالْحَجَرِ اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَعْقُولًا .
وَقُلْنَا : سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَجَرِ لَهُ بِعَيْنِهِ مَقْصُودٌ إنَّمَا مَقْصُودُهُ فِعْلُ الرَّمْيِ إمَّا إعَادَةً لِلْكَبْشِ أَوْ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ ، فَقُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ فِعْلُ الرَّمْيِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا يَرِدُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا الْجَوَاهِرِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا

قَالَ ( ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ } وَلِأَنَّ : الْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ ، وَكَذَا الذَّبْحُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ الْمُحْصَرُ فَيُقَدِّمَ الرَّمْيَ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ الْحَلْقُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الذَّبْحَ بِالْمَحَبَّةِ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُفْرِدُ تَطَوُّعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمُفْرِدِ ( وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ } الْحَدِيثَ ، ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَكْمَلُ فِي قَضَاءِ التَّفَثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَفِي التَّقْصِيرِ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فَأَشْبَهَ الِاغْتِسَالَ مَعَ الْوُضُوءِ .
وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ ، وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ .
قَالَ ( وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِلَّا الطِّيبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ } وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ .
وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ

قَالَ ( ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ ) أَيْ كَرَّرَ التَّرَحُّمَ عَلَى الْمُحَلِّقِينَ .
وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ فَقَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { كَرَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعِ : وَالْمُقَصِّرِينَ } وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ .
وَقَوْلُهُ ( مِقْدَارُ الْأُنْمُلَةِ ) قِيلَ هَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خِلَافٌ ، وَمَنْ لَا شَعْرَ لَهُ أَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ ، لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ ) يُعَضِّدُهُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الطِّيبُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَالْجِمَاعُ بِدَوَاعِيهِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ كَالْقُبْلَةِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ .
وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ { إذَا حَلَقَ الْحَاجُّ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ } وَقَالَتْ : { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ وَلِإِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } وَهَذَا لَا يُشَكُّ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقِيَاسِ ( وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) قَالَ : الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ ( وَلَنَا أَنَّهُ قَضَاءُ شَهْوَةٍ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ ) بِالطَّوَافِ ، وَهَذَا لِأَنَّ دَوَاعِيَ الْجِمَاعِ مُلْحَقَةٌ بِهِ فِي الْمَحْظُورَاتِ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ .

( ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْحَلْقِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي التَّحْلِيلِ .
وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلَّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا ) يَعْنِي إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَا يَتَحَلَّلُ عِنْدَنَا حَتَّى يَحْلِقَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَتَحَلَّلُ وَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ ( هُوَ يَقُولُ إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحَلِّلٌ كَالْحَلْقِ ( وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلِّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ) وَنُوقِضَ بِدَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ وَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا كَانَ مُحَلِّلًا فِي الْأَصْلِ وَدَمُ الْإِحْصَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا صِيرَ إلَيْهِ لِضَرُورَةِ الْمَنْعِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الطَّوَافِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الطَّوَافُ مُحَلِّلٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا هُوَ رُكْنٌ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوَافِ بَلْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ .

قَالَ ( ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى } .
وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ { فَكُلُوا مِنْهَا } ثُمَّ قَالَ { وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا .
وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا كَمَا فِي التَّضْحِيَةِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا } ( فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ يَرْمُلْ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا سَعْيَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقَدِّمْ السَّعْيَ رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَسَعَى بَعْدَهُ ) لِأَنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا مَرَّةً وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ( وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ ) لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ لِلطَّوَافِ أَوْ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَقَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ ) وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ إذْ هُوَ الْمُحَلَّلُ لَا بِالطَّوَافِ ، إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ .

قَوْلُهُ ( ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ) يَعْنِي أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ ) أَيْ وَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا ) أَيْ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ وَوَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَّا أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَمْ تُشْرَعْ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَالطَّوَافُ مَشْرُوعٌ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى مَا يَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَوَّلُ وَقْتِهِ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ طَوَافٌ بَعْدَهُ سَعْيٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِهِ لِلْوُجُوبِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ بَيَّنَّا أَشْمَلَ وَأَعَمَّ مِنْ قَوْلِهِ رَوَيْنَا ، وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَ الْحَلْقُ السَّابِقُ مُحَلِّلًا فَكَيْفَ بَقِيَتْ النِّسَاءُ مُحْرِمَةً .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ عَمَلَهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِيَقَعَ الطَّوَافُ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهِ .

قَالَ ( وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ ) وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ ( وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهَا ( وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَسَنُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ وَمَوْضِعُهُ بِمِنًى ( فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَيَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ عِنْدَهَا ، ثُمَّ يَرْمِي الَّتِي تَلِيهَا مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهَا ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَذَلِكَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ) هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُفَسِّرًا ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ .
وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ } ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ يَقِفُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٍ لَا

يَقِفُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ انْتَهَتْ ، وَلِهَذَا لَا يَقِفُ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَيْضًا .وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا الطَّوَافُ ) أَيْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ( هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ ) وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى ) يَعْنِي بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ( فَيُقِيمُ بِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى } وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ ) يَعْنِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى وَالْوُسْطَى ( فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ ) وَهُوَ أَعْلَى الْوَادِي وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ } حَدِيثٌ مَشْهُورٌ ، وَالْمَوَاطِنُ هِيَ : عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ ، وَفِي الْعِيدَيْنِ ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَبِعَرَفَاتٍ ، وَجَمْعٍ ، وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ .
وَذِكْرُ الْجَمْرَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ لَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ يُنَافِي السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ فَيُسَنُّ فِي مَوْضِعٍ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَيُتْرَكُ فِي الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ .

قَالَ ( فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ إلَى مَكَّةَ نَفَرَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى } وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَبَرَ حَتَّى رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ } .
وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لِدُخُولِ وَقْتِ الرَّمْيِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنْ قَدَّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ) يَعْنِي الْيَوْمَ الرَّابِعَ ( قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَقَالَا لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي رُخْصَةِ النَّفْرِ ، فَإِذْ لَمْ يَتَرَخَّصْ اُلْتُحِقَ بِهَا ، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِمَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَرْوِيِّ .
فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوَّلُهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا } .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ } وَيَرْوِي { حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ }

فَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوَقْتِ بِالْأَوَّلِ وَالْأَفْضَلِيَّةُ بِالثَّانِي .
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَقْتُهُ بَعْدَهُ ضَرُورَةً .
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْتَدُّ هَذَا الْوَقْتُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الرَّمْيُ } ، جَعَلَ الْيَوْمَ وَقْتًا لَهُ وَذَهَابَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .
وَإِنْ أَخَّرَ إلَى اللَّيْلِ رَمَاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ الدُّعَاءِ .
وَإِنْ أَخَّرَ إلَى الْغَدِ رَمَاهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِنْسِ الرَّمْيِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ .

قَالَ ( فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الزَّوَالِ ) يَعْنِي إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ مِثْلَ مَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ( وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ ) أَيْ الذَّهَابَ وَالْخُرُوجَ مِنْ مِنًى ( إلَى مَكَّةَ ) فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَ ذَلِكَ ( وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } أَيْ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَمَنْ تَأَخَّرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ( لِمَنْ اتَّقَى ) وَقَوْلُهُ { لِمَنْ اتَّقَى } يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جَمِيعًا : أَيْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ وَنَفْيُ الْإِثْمِ فِي الْحَالَيْنِ لِأَجْلِ الْحَاجِّ الْمُتَّقِي لِئَلَّا يُتَخَالَجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَيُحْسَبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا يُؤَثِّمُ صَاحِبَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمُتَّقِي لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاجُّ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ خِيَارُ النَّفْرِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ وَهُوَ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَقُلْنَا : اللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ ثَابِتًا فِيهِ كَقَبْلِ الْغُرُوبِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الرَّمْيِ فَلَا يَبْقَى خِيَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ ) أَرَادَ بِالْأَيَّامِ الْيَوْمَيْنِ : أَعْنِي الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ ، ( لِأَنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ ) .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ) يَعْنِي الْأَوَّلَ

وَالثَّانِيَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ ، لَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ ) احْتِزَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ إذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَصِلُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَيُحْرَجُ فِي تَحْصِيلِ مَوْضِعِ النُّزُولِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَرْمِ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) حَاصِلُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ وَمَا بَعْدَهُ إلَى الزَّوَالِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ إسَاءَةٍ وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالْإِسَاءَةِ ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْتَدُّ ) أَيْ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ( إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ) لِأَنَّ الْوَقْتَ يُعْرَفُ بِتَوْقِيتِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِالرَّمْيِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا لَهُ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ } .

قَالَ ( فَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهُ ) لِحُصُولِ فِعْلِ الرَّمْيِ ( وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا وَإِلَّا فَيَرْمِيهِ رَاكِبًا ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ وَدُعَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَرْمِيهِ مَاشِيًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّضَرُّعِ ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .وَقَوْلُهُ ( وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) يَعْنِي بِهِ مَا حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ : دَخَلْت عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ : الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا ؟ فَقَالَ : أَخْطَأْتَ ، فَقُلْت رَاكِبًا ، فَقَالَ : أَخْطَأْتَ ، ثُمَّ قَالَ : كُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ مَاشِيًا أَفْضَلُ ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ رَاكِبًا أَفْضَلُ ، فَقُمْت مِنْ عِنْدِهِ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْت الصُّرَاخَ بِمَوْتِهِ ، فَتَعَجَّبْت مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ .
وَاَلَّذِي رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجِمَارَ كُلَّهَا رَاكِبًا } فَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِلنَّاسِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْهُ .

وَيُكْرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاتَ بِمِنًى ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَقَامِ بِهَا .
وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الْجَابِرَ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهِ ) أَيْ فِي غَيْرِ مِنًى ( مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ قَالَ : إنْ تَرَكَ الْبَيْتُوتَةَ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ ، وَإِنْ تَرَكَهَا لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَاسَ تَرْكَ الْبَيْتُوتَةِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ : وَلَنَا ( أَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيْتُوتَةِ غَيْرُهَا وَهُوَ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ فِي الْغَدِ مِنْ النُّسُكِ وَهُوَ الرَّمْيُ ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَمْ يُوجِبْ تَرْكَهَا جَابِرًا كَالْبَيْتُوتَةِ بِمِنًى لَيْلَةَ الْعِيدِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثِقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ ( وَإِذَا نَفَرَ إلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ ) وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نُزُولُهُ قَصْدًا هُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ النُّزُولُ بِهِ سُنَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ { إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ } يُشِيرُ إلَى عَهْدِهِمْ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِم فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ إرَاءَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ ، فَصَارَ سُنَّةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ .قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثَقَلَهُ إلَى مَكَّةَ ) الثَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ : مَتَاعُ الْمُسَافِرِ وَحَشَمُهُ وَالْجَمْعُ أَثْقَالٌ ، وَالْمُحَصَّبُ : اسْمُ مَوْضِعٍ وَيُسَمَّى الْأَبْطُحَ وَهُوَ مَوْضِعٌ ذُو حَصًى بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ سُنَّةً .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الْأَصَحُّ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ النُّزُولَ بِهِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ ، لَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّفَاقًا .
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ وَنَزَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا ( عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ بِمِنًى : إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ } إلَخْ ) وَالْخَيْفُ بِسُكُونِ الْيَاءِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ ، وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ هُوَ الْمُحَصَّبُ .

قَالَ ( ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَرْمُلُ فِيهَا وَهَذَا طَوَافُ الصَّدْرِ ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافٌ آخَرُ عَهِدَهُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ وَيَصْدُرُ بِهِ ( وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ } وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَهُ .
قَالَ ( إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ) لِأَنَّهُمْ لَا يُصْدَرُونَ وَلَا يُوَدِّعُونَ ، وَلَا رَمَلَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَهُ لِمَا قَدَّمْنَا

وَقَوْلُهُ ( وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ ) الْوَدَاعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمٌ لِلتَّوْدِيعِ كَسَلَامٍ وَكَلَامٍ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ عِنْدَهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْتِي بِهِ الْآفَاقِيُّ دُونَ الْمَكِّيِّ وَمَا هُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَالْآفَاقِيُّ وَالْمَكِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ ( وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ } وَأَنَّهُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحَيْضَ ) وَذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرُّخْصَةِ بِالْحَيْضِ فَائِدَةٌ وَالْمَكِّيُّ وَالْآفَاقِيُّ فِي وَاجِبَاتِ الْحَجِّ سَوَاءٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُشْتَرَكَةً وَهَاهُنَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ عِلَّةَ هَذَا الطَّوَافِ التَّوْدِيعُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْمَكِّيِّ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِيمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ .
لَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِلْوَدَاعِ لَوَجَبَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ الْآفَاقِيِّ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مِثْلَ رُكْنِهِ تَبَعًا لَهُ ؟ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قَدَّمْنَا ) يَعْنِي فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ الطَّوَافُ أَوْ نَفْلًا .

( ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقَى دَلْوًا بِنَفْسِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ } وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ ( ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ إلَى الْبَابِ فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِالْأَسْتَارِ سَاعَةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ ) هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ بِالْمُلْتَزَمِ ذَلِكَ .
قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فِرَاقِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ .وَقَوْلُهُ ( وَيَأْتِي زَمْزَمَ ) أَيْ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَإِتْيَانِهِ الْمُلْتَزَمَ وَإِلْصَاقِهِ خَدَّهُ بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ يَأْتِي زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْ مَائِهِ وَيَصُبُّ مِنْهُ عَلَى جَسَدِهِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ .
وَقَوْلُهُ ( فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ ) يَعْنِي الْحَجَّ الَّذِي أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .

( فَصْلٌ ) ( فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا ) عَلَى مَا بَيَّنَّا ( سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ ) لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ ، فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ سُنَّةً ( وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ ) لِأَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ لَا يَجِبُ الْجَابِرُفَصْلٌ ) لَمَّا ذَكَرَ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَتَمَّهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَحْكَامِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ( سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .

( وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ) فَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَهَذَا بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ .
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ : إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا ( ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَجْزَأَهُ ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَإِنَّهُ قَالَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ قَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَهِيَ كَلِمَةُ التَّخْيِيرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ( وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ : إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَجُّ عَرَفَةَ ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا رَوَيْنَا ) أَنَّهُ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَانَ مُبَيِّنًا وَقْتَ الْوُقُوفِ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ ) ظَاهِرٌ ( وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ) وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ إفَاضَتُهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } وَقُلْنَا : هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ : { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } وَفِيمَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ .

( وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ جَازَ عَنْ الْوُقُوفِ ) لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ كَرُكْنِ الصَّوْمِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْإِغْمَاءِ ، وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا إخْلَالٌ بِالْحَجِّ لِكَوْنِهَا شَرْطًا ، وَتَقْرِيرُهُ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْجَهْلَ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِخْلَالَ بِهَا إخْلَالٌ بِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِكُلِّ رُكْنٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَصْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً اُسْتُغْنِيَ عَنْهَا عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ رُكْنٍ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ صَارِفٌ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ صَارِفٌ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ هَارِبٌ أَوْ طَالِبُ غَرِيمٍ وَلَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ عَنْ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ قَصْدَهُ الْهُرُوبُ أَوْ اللُّحُوقُ ، وَذَلِكَ صَارِفٌ لَهُ عَنْ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهَا لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً بِالِاسْتِصْحَابِ ضَعِيفَةً تَنْصَرِفُ بِصَارِفٍ .

( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ ) بِالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ .
لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا .
وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ .
وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً ، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ ) اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ حَتَّى لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَفَعَلَ صَحَّ عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَيْسَ بِنُسُكٍ فَاسْتَقَامَ النِّيَابَةُ بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ وَهُوَ خُرُوجُهُ لِحَجِّ الْبَيْتِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ اسْتِنَابَةٌ كَالْإِذْنِ بِهِ أَوْ لَا ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ اسْتِنَابَةٌ كَالْإِذْنِ بِهِ وَقَالَا : لَيْسَ بِاسْتِنَابَةٍ .
وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ الرُّفَقَاءُ نِيَابَةً مَعَ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا فَيَصِيرُ الرَّفِيقُ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَمُحْرِمًا عَنْهُ أَيْضًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ كَالْأَبِ يُحْرِمُ عَنْ ابْنٍ صَغِيرٍ مَعَهُ فَكَانَ الْمُحْرِمُ حُكْمًا فِي إحْرَامِ النِّيَابَةِ هُوَ الْمَنُوبَ لَا النَّائِبَ ، وَعِبَادَةُ النَّائِبِ فِيهِ كَعِبَادَةِ الْمَنُوبِ ، حَتَّى لَوْ أَصَابَ النَّائِبُ صَيْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ مِنْ قِبَلِ إهْلَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّفِيقَ إذَا كَانَ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ فَبِإِحْرَامِهِ عَنْ غَيْرِهِ يَلْزَمُ تَدَاخُلُ الْإِحْرَامَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ شَبَّهُوا الْإِحْرَامَ بِالْوُضُوءِ فِي قَبُولِ النِّيَابَةِ ، وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَوَضَّأَ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ بِهِ مُتَوَضِّئًا وَإِنْ نَوَى التَّوَضُّؤَ عَنْهُ ، وَهَاهُنَا يَصِيرُ غَيْرُهُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّدَاخُلَ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُحْرِمُ هُوَ النَّائِبَ فِي الْإِحْرَامَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُحْرِمُ فِي إحْرَامِهِ النِّيَابَةُ هُوَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا النَّائِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْوُضُوءِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا شَرْطٌ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ ، وَلَكِنَّ النِّيَابَةَ فِي الْوُضُوءِ بِالتَّوْضِئَةِ بِأَنْ يُجْرِيَ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْمَنُوبِ فَيَصِحُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ ، وَفِي هَذَا يَتَوَلَّى النَّائِبُ الْإِحْرَامَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ فَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ ( إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ ) عِنْدَهُ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِهِ ( لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ ) وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ لَا مَحَالَةَ ، أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِغَيْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَهُوَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ إذْ هُوَ الْمَفْرُوضُ ، وَمَا ثَمَّةَ دَلَالَةٌ لِأَنَّهَا تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِجَوَازِ الْإِذْنِ بِالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِجَوَازِهِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ ( وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ دَلَالَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ) وَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَكَانَ مُسْتَعِينًا بِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ ، وَالِاسْتِعَانَةُ إذْنٌ بِالْإِعَانَةِ لَا مَحَالَةَ ( فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً ) وَقَوْلُهُ ( وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ شَرْطَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ عَقْدُ الرُّفْقَةِ ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ فَيَثْبُتُ الْإِذْنُ دَلَالَةً ، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ .
فَإِنْ قُلْت : هَذَا حُكْمُ الْإِحْرَامِ فَمَا حُكْمُ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ ؟ قُلْت : الْأَصَحُّ أَنَّ نِيَابَتَهُمْ عَنْهُ فِي

أَدَائِهِ صَحِيحَةٌ ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطُوفُوا بِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ مُفِيقًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ : إنَّمَا صَحَّتْ النِّيَابَةُ فِي الْإِحْرَامِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي الْأَفْعَالِ ، لِأَنَّهُمْ إذَا أَحْضَرُوهُ الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ .
فَإِنْ قُلْت : هَلْ لِتَقْيِيدِ الْإِهْلَالِ بِالرُّفَقَاءِ فَائِدَةٌ ؟ قُلْت .
اُخْتُلِفَ فِيهِ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ : كَانَ يَقُولُ الْجَصَّاصُ : لَا يَجُوزُ إحْرَامُ غَيْرِ الرُّفَقَاءِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : الرُّفَقَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي الْجَوَازِ سَوَاءٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَالرُّفَقَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .

قَالَ ( وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ ( غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا ) لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ ( وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } ( وَلَوْ سَدَلَتْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهَا وَجَافَتْهُ عَنْهُ جَازَ ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالْمُحْمَلِ ( وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ ( وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ ) لِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ ( وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ } وَلِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ( وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا ) لِأَنَّ فِي لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ .
قَالُوا : وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ ، لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا .قَالَ ( وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ ) الْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَالرَّجُلِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فَتَفْعَلُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ إلَّا أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ : لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ ، وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ ، وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ ، وَتَلْبَسُ مَا بَدَا لَهَا مِنْ الْمَخِيطِ مِنْ الْقَمِيصِ وَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقُفَّازَيْنِ ، وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا .
وَوَجْهُ جَمِيعِ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ .

قَالَ ( وَمَنْ قُلِّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ } وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ .
وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَى عُنُقِ بَدَنَتِهِ قِطْعَةَ نَعْلٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ ( فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَسْقِهَا لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا ) لِمَا رُوِيَ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا } ( فَإِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُلْحِقَهَا ) لِأَنَّ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدَ النِّيَّةِ ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ، فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ سَاقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ .
قَالَ ( إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ حِينَ تَوَجَّهَ ) مَعْنَاهُ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْهَدْيَ مَشْرُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ نُسُكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَضْعًا لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ ، وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ فَلِهَذَا اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ ، وَفِي غَيْرِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْفِعْلِ

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ ) يَعْنِي صَيْدًا قَتَلَهُ فِي إحْرَامٍ مَاضٍ ( أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ ) كَبَدَنَةِ الْمُتْعَةِ أَوْ الْقِرَانِ ( وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ } وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهَا كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ ، وَتَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ ( وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ إجَابَةِ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ) قِيلَ قَوْلُهُ وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إنَّ إنْ قُرِئَ مَنْصُوبًا ، وَعَلَى مَحَلِّهِ إنْ قُرِئَ مَرْفُوعًا ، فَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى كَوْنِ السَّوْقِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ .
وَأَقُولُ : هُوَ مِنْ تَمَامِ الْأَوَّلِ .
وَتَقْرِيرُهُ : الْمَقْصُودُ مِنْ التَّلْبِيَةِ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ يَا فُلَانُ فَإِجَابَتُهُ تَارَةً تَكُونُ بِلَبَّيْكَ وَتَارَةً بِالْحُضُورِ وَالِامْتِثَالِ بَيْنَ يَدَيْهِ ( فَيَصِيرُ بِهِ ) أَيْ بِالسَّوْقِ ( مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ ) فَحَصَلَ الْإِجَابَةُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ ، وَإِنَّمَا قَالَ بَدَنَةً لِأَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْلِيدَ لِئَلَّا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ ، وَهَذَا فِيمَا يَغِيبُ عَنْ صَاحِبِهِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُهُ يَضِيعُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا ) ظَاهِرٌ وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا قَلَّدَهَا صَارَ مُحْرِمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا تَوَجَّهَ فِي أَثَرِهَا صَارَ مُحْرِمًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا ، فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَقُلْنَا إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا ) رَدَّدَ بَيْنَ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ .
شَرَطَ فِي الْمَبْسُوطِ السَّوْقَ مَعَ اللُّحُوقِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ السَّوْقَ بَعْدَ اللُّحُوقِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ ) أَمَّا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ وَلَمْ يَسُقْ وَسَاقَ غَيْرُهُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَهَا .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَاهُنَا قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّوَجُّهِ إذَا حَصَلَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنْ حَصَلَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يُدْرِكْ الْهَدْيَ وَيَسِرْ مَعَهُ ، هَكَذَا فِي الرُّقَيَّاتِ لِأَنَّ تَقْلِيدَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتْعَةِ ، وَأَفْعَالُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَيَكُونُ تَطَوُّعًا ، وَفِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ مَا لَمْ يُدْرِكْ وَيَسِرْ مَعَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ إلَخْ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى الِابْتِدَاءِ ) احْتِزَازٌ عَمَّا وَجَبَ جَزَاءً .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ

) دَلِيلُ كَوْنِهِ نُسُكًا .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ ) بَيَانُ اخْتِصَاصِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَكَّةَ فَكَانَ هَدْيُ الْمُتْعَةِ مُخْتَصًّا بِمَكَّةَ ( وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ ) بِأَنْ أَصَابَ صَيْدًا قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَكَّةَ .

( فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا أَوْ قَلَّدَ شَاةً لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ) لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالذُّبَابِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ .
وَالْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ .
وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ حَسَنًا فَقَدْ يُفْعَلُ لِلْمُعَالَجَةِ ، بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْهَدْيِ ، وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ أَيْضًا .وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا ) التَّجْلِيلُ : إلْبَاسُ الْجَلِّ ، وَإِشْعَارُ الْبَدَنَةِ : إعْلَامُهَا بِشَيْءٍ أَنَّهَا هَدْيٌ ، مِنْ الشِّعَارِ : وَهُوَ الْعَلَامَةُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَالْبُدْنُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ { فَالْمُتَعَجِّلُ مِنْهُمْ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ، وَاَلَّذِي يَلِيه كَالْمُهْدِي بَقَرَةً } فَصَلَ بَيْنَهُمَا .
وَلَنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِهَذَا يُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ { كَالْمُهْدِي جَزُورًا } وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ { كَالْمُهْدِي جَزُورًا } يَعْنِي فِي مَوْضِعِ الْبَدَنَةِ : وَلَئِنْ ثَبَتَتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي رَوَاهَا .
قُلْنَا : التَّمْيِيزُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ بِالْعَطْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّةِ ، وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِاسْمٍ خَاصٍّ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ تَحْتَ اسْمِ الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }

( الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْقِرَانُ رُخْصَةٌ } وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرَ وَالْحَلْقَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ .
وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَلَا تَرْجِيحَ بِمَا ذُكِرَ .
وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ .
وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .
ثُمَّ فِيهِ تَعْجِيلُ الْإِحْرَامِ وَاسْتِدَامَةُ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمَا ، وَلَا كَذَلِكَ التَّمَتُّعُ فَكَانَ الْقِرَانُ أَوْلَى مِنْهُ .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا سَعْيًا وَاحِدًا .

بَابُ الْقِرَانِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمُفْرَدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ ، إلَّا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ فَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ .
اعْلَمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ : مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَمُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مَنْ يَنْوِي الْعُمْرَةَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَأْتِي بِأَفْعَالِهَا ، وَقَارِنٌ وَهُوَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَيَنْوِيهِمَا وَيَقُولُ : لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَيَأْتِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَحَلُّلٍ بَيْنَهُمَا ، وَمُتَمَتِّعٌ وَهُوَ مَنْ يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ بِأَكْثَرِ طَوَافِهَا ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِ الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا .
وَالْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عِنْدَنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِفْرَادُ ) أَيْ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِإِحْرَامٍ عَلَى حِدَةٍ أَفْضَلُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } ( وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ ) وَلِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ عَائِشَةَ : { إنَّمَا أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } وَإِنَّمَا الْقِرَانُ رُخْصَةٌ وَالْإِفْرَادُ عَزِيمَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى ( وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ الْإِحْرَامِ وَالسَّفَرِ وَالْحَلْقِ ) فَإِنَّ الْقَارِنَ يُؤَدِّي النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ وَيُلَبِّي لَهُمَا تَلْبِيَةً وَاحِدَةً وَيَحْلِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالْمُفْرِدُ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالْأَخْذُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ أَوْلَى ( وَلَنَا ) مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْآثَارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ { يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ ) وَذَلِكَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47