كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ ) ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَلَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَلَهٌ ابْنٌ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ فَإِنَّ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ مَكَانَ الِابْنِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ مَعَ الْبِنْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلَا بِنْتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْأَخِ لِأَبٍ لَا يَرِثُهُ ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ .

وَالْهِبَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ ) لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى تَنْفُذَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ ) وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ ؛ وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ وَرَدَّ بَعْضٌ تَجُوزُ عَلَى الْمُجِيزِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبَطَلَ فِي حَقِّ الرَّادِّ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ ) أَيْ : عَلَى عَكْسِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ أَوْ الْمَذْكُورِ : أَيْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ .
ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ دُونَ وَقْتِ الْمَوْتِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الْمَوْتِ أَيْضًا .
ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَرِيضٍ أَقَرَّ لِابْنِهِ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ فَمَاتَ الْأَبُ حَيْثُ صَحَّ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُ ثَبَتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَقَبْلَهُ كَانَ عَبْدًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ فَهَذَا الْإِقْرَارُ فِي الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَةِ الِابْنِ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ .
وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَارِثًا بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ .
وَأَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ التَّطْوِيلِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِوَارِثٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ ؛ لِكَوْنِهِ مَحْرُومًا فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا لِلْوَارِثِ وَكَلَامُنَا فِيهِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمَحْرُومٍ فَيَكُونُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُوبًا ، وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
وَقَوْلُهُ ( ؛ وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ ) أَيْ لِحَقِّهِمْ الَّذِي هُوَ تَأَذِّيهمْ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ

دُونَ الْبَعْضِ ، وَبِالتَّفْسِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَوْ كَانَ الِامْتِنَاعُ لِحَقِّهِمْ لَجَازَ فِيمَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ أَجَازُوا أَوْ لَمْ يُجِيزُوا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الثُّلُثِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ قَوْلُهُ ( وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ ) فَالْأُولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .
وَالثَّانِي لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ ) وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ الذِّمِّيِّ وَعَكْسُهَا جَائِزَةٌ ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ ، نَفْيُ النَّهْيِ عَنْ الْبَرِّ إلَيْهِمْ ، وَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِرٌّ إلَيْهِمْ فَكَانَتْ غَيْرَ مَنْهِيَّةٍ .
وَأَمَّا الثَّانِيَ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَاطِلَةٌ ، وَقَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنَّهُ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ .
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ، وَإِنْ فُعِلَ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْحَرْبِيِّ بَعْدَمَا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَمْلِيكِ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، خَلَا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ وَصِيَّتِهِ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمُسْلِمِ عَمَّا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ الْإِبْطَالِ وَوَرَثَةُ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .

قَالَ ( وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ .وَقَوْلُهُ ( وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، وَالْقَبُولُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَالْوَصِيَّةُ شَبَهٌ بِالْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ ، وَشَبَهٌ بِالْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُمْلَكُ بِتَمْلِيكِ الْغَيْرِ ، فَاعْتَبَرْنَا شَبَهَ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْقَبُولِ مَا دَامَ مُمْكِنًا مِنْ الْمُوصَى لَهُ فَقُلْنَا : لَا تُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، وَاعْتَبَرْنَا شَبَهَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ الْقَبُولِ فَقُلْنَا إنَّهُ يَمْلِكُهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَقَبُولٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ قِيَاسًا ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ وَرَثَةَ الْمُوصَى لَهُ رَدُّوا أَوْ قَبِلُوا فِي الِاسْتِحْسَانِ

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ ، لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ تَمَامِ حَقِّهِ فَلَا صِلَةَ وَلَا مِنَّةَ ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا ؟ قَالُوا : إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْقَرَابَةِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُخَيَّرُ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى فَضِيلَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ فَيُخَيِّرُ بَيْنَ الْخَيْرَيْنِ .
قَالَ ( وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ : الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافَةٌ لِمَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ ، ثُمَّ الْإِرْثُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ ، أَمَّا الْوِرَاثَةُ فَخِلَافَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَيَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ .
قَالَ ( إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ ) اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُولِ

فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبُولِهِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ ، فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ ) وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّقْلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ { إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَكَ } الْحَدِيثَ ، وَمَعْنَاهُ وَرَثَتُكَ أَقْرَبُ إلَيْكَ مِنْ الْأَجَانِبِ ، فَتَرْكُ الْمَالِ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَا : لَأَنْ يُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ ، وَلَأَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ .
وَالْكَاشِحُ : الْعَدُوُّ الَّذِي وَلِيَ كَشْحَهُ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ ، وَقِيلَ الْكَاشِحُ : الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ فِي كَشْحِهِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا التَّصَدُّقَ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ ) وَاضِحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَيْهِ قُبَيْلَ هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ ) صُورَتُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ شَيْئًا وَيُوصِيَ بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَجِدُهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ ( وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ) صُورَتُهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا لَا يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لَثَبَتَ وِلَايَةُ الرَّدِّ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا فِي الْوَارِثِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ ) ؛ لِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِمَنْفَعَةِ الْمُوصَى لَهُ وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِرُبَّمَا تَضَرَّرَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ أَعْمَى وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ بِلَا مَنْفَعَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُوصَى

بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ : يَعْنِي إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِدُونِ الْقَبُولِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ ) لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ ، وَأَبَدًا يُبْدَأْ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ .
( إلَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ الْغُرَمَاءُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا .وَقَوْلُهُ ؛ ( لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ ) يَعْنِي فِي الْحُكْمِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا التَّقَدُّمُ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُخْتَصَرِ الضَّوْءِ فِي الْفَرَائِضِ .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَصِحُّ إذَا كَانَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ يَفَاعٍ أَوْ يَافَاعٍ وَهُوَ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ ، وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى ، وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَلْزُومٍ وَفِي تَصْحِيحِ وَصِيَّتِهِ قَوْلٌ بِإِلْزَامِ قَوْلِهِ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا إلَى مَا يَتَّفِقُ بِحُكْمِ الْحَالِ اعْتَبَرَهُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا وَصِيَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا أَدْرَكْت فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتِمَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِهِ .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ تَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ ) يَعْنِي إذَا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِهَا نَيْلُ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَةِ الْعُلْيَا ، وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى مَالُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ الْوَصِيَّةُ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ ) يَعْنِي كَانَ بَالِغًا لَمْ يَمْضِ عَلَى بُلُوغِهِ زَمَانٌ كَثِيرٌ ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ، أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ ، وَأَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّأْوِيلُ بِكَوْنِهِ يَافِعًا مَجَازًا أَوْ بِكَوْنِ الْوَصِيَّةِ فِي التَّجْهِيزِ وَأَمْرِ الدَّفْنِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ مَعْنَى الْيَافِعِ حَقِيقَةً فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَقَلَهُ بِمَعْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ ) لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : وَالِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْأَثَرِ لَا يَصِحُّ مِنْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ عُمَرَ وَابْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ ، وَعِنْدَنَا الْمُرْسَلُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَكِنَّ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ } وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَلَمِ التَّكْلِيفُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } الْآيَةَ ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَمْنُوعٌ عَنْ مَالِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ

فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ إلَخْ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ إمَّا أَفْضَلِيَّةَ التَّرْكِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ ) تَنْزِلُ فِي الْجَوَابِ كَأَنَّهُ يَقُولُ : سَلَّمْنَا أَنَّ بِالْوَصِيَّةِ يَحْصُلُ الثَّوَابُ دُونَ تَرْكِهَا ، لَكِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ هُوَ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ دُونَ الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ نَافِعًا بِأَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَةً مُعْسِرَةً شَوْهَاءَ وَيَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا الْمُوسِرَةِ الْحَسْنَاءِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَارِضِ ، وَالْوَصِيَّةُ فِي الْأَصْلِ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ إذَا أُعْتِقْت فَثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ يَصِحُّ ( لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتَمَّةٌ ) أَيْ تَامَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِ الْمَانِعِ .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً ) لِأَنَّ مَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبَرُّعَ ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ رَدًّا لَهَا إلَى مُكَاتَبٍ يَقُولُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ ) يَعْنِي تَنْجِيزَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِتْقِ صَحِيحَةٌ كَمَا مَرَّ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) يَعْنِي فِي بَابِ الْحِنْثِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ مِنْ أَيْمَانِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، وَمَا عُرِفَ ثَمَّةَ هُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ فَمَلَكَ لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَتَقَ عِنْدَهُمَا ، لَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْمِلْكِ يَنْصَرِفُ إلَى مِلْكٍ كَامِلٍ قَابِلٍ لِلْإِعْتَاقِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ نَوْعَيْنِ مِنْ الْمِلْكِ : أَحَدَهُمَا ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ ، وَالثَّانِيَ : غَيْرُ ظَاهِرٍ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى الظَّاهِرِ دُونَ غَيْرِ الظَّاهِرِ .

قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وُضِعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ وَالْجَنِينُ صَلَحَ خَلِيفَةً فِي الْإِرْثِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُهُ ، إلَّا أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَعَجْزِهِ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ كَالثَّمَرَةِ فَلَأَنْ تَصِحَّ فِي الْمَوْجُودِ أَوْلَى .

وَقَوْلُهُ ( وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ ( وَبِالْحَمْلِ ) كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَوْلَى إذَا عَلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُ أَوْ بِهِ ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ الْإِسْبِيجَابِيِّ فِي شَرْحِ الْكَافِي ، وَمِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ ( فَلِأَنَّهَا اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ ) بَعْدَ مَوْتِهِ لَا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِخْلَافُ يَصْلُحُ لَهُ الْجَنِينُ إرْثًا فَكَذَا وَصِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ لَمَا جَازَ رَدُّهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّهُ ) أَيْ فِعْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِيصَاءِ ( يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّمْلِيكِ ) دُونَ الْمِيرَاثِ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْهِبَةِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ : يَعْنِي أَنَّ الْهِبَةَ لِلْحَمْلِ لَا تَصِحُّ ( ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ ) وَالْجَنِينُ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ ( وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا ) يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِيهِ بِالْقَبْضِ .
وَأَمَّا الثَّانِي ) وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ ( فَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْحَمْلَ ( بِعَرْضِيَّةِ الْوُجُودِ ) ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمَوْتِ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ وُجُودُ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ ؛

لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ شَيْءٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا ؛ وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِعَرْضِ الْوُجُودِ بِعَرْضِ وُجُودٍ يَصْلُحُ لِوُرُودِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ تَحَقُّقُهُ وَكَوْنُهُ فِي بَطْنِ الْأُمِّ فَانْدَفَعَ التَّنَاقُضُ .
وَقَوْلُهُ ( وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ إلَخْ ) وَإِنْ اخْتَلَجَ فِي ذِهْنِك تَنَاقُضٌ آخَرُ بَيْنَ سَعْيِهِ لِإِثْبَاتِ الْوُجُودِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَتَوْضِيحِهِ لِلْجَوَازِ بِصِحَّتِهَا فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ ، فَالْجَوَابُ سَتَسْمَعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ ) لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ ) يَعْنِي مَنْ قَالَ أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِفُلَانٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا ( ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَوْضُوعِ ، وَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَارِيَةِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ كَقَمِيصِهَا وَسَرَاوِيلِهَا مِمَّا يَتَلَبَّسُ بِهَا ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يُقَالُ الْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ قَبْلَ الِانْفِصَالِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَلَوْ اسْتَثْنَى الْيَدَ أَوْ الرِّجْلَ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْحَمْلُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ لَا يَرِدُ عَلَى مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ ؛ فَالْجَوَابُ أَنَّ صِحَّتَهُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُوصَى فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا فَرَسًا ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْأَلْفِ صَحِيحَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَيْضًا صَحِيحٌ فِي تَقْرِيرِ مِلْكِهِ فِي الْفَرَسِ لَا بِاعْتِبَارِ خُرُوجِهِ عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ اسْتَحَقَّهُ الْمُوصَى لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمَا اسْتَحَقَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا : يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِالْعُمُومِ بَلْ يَسْتَحِقُّ إذَا أَطْلَقَ الْمُوصِي عَنْ قَيْدِ الْإِفْرَادِ فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا بَلْ تَقَيَّدَتْ الْأُمُّ بِالْإِفْرَادِ فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا مُفْرَدَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ ) قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبُيُوعِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْإِيجَابُ يَصِحُّ إبْطَالُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ رُجُوعًا ) أَمَّا الصَّرِيحُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِ قَدْ أُبْطِلَتْ ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ ، ثُمَّ كُلُّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا ، وَقَدْ عَدَدْنَا هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَكُلُّ فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَّا بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إذَا فَعَلَهُ ، مِثْلُ السَّوِيقِ يَلُتُّهُ بِالسَّمْنِ وَالدَّارِ يَبْنِي فِيهِ الْمُوصِي وَالْقُطْنِ يَحْشُو بِهِ وَالْبِطَانَةِ يُبَطِّنُ بِهَا وَالظِّهَارَةِ يُظَهِّرُ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ جِهَتِهِ ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الدَّارِ الْمُوصَى بِهَا وَهَدْمِ بِنَائِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي التَّابِعِ ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ ، كَمَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ تَمَّ رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِلْكِهِ ، فَإِذَا أَزَالَهُ كَانَ رُجُوعًا .
وَذَبْحُ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ لِلصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ عَادَةً ، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا أَيْضًا ، وَغَسْلُ الثَّوْبِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ ثَوْبَهُ غَيْرَهُ يَغْسِلُهُ عَادَةً فَكَانَ تَقْرِيرًا .

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ ) الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِمَوْتِ الْمُوصِي وَالتَّبَرُّعُ التَّامُّ كَالْهِبَةِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ فَفِيمَا لَمْ يَتِمَّ أَوْلَى .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ ، وَالْإِيجَابُ الْمُفْرَدُ يَجُوزُ إبْطَالُهُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَفِي التَّبَرُّعِ أَوْلَى ، ثُمَّ الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَجَعْتُ عَمَّا أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً وَلَهُ أَنْوَاعٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَهَا فِي الْكِتَابِ ضَوَابِطَ هِيَ جَامِعَةٌ وَاضِحَةٌ .

قَالَ ( وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ رُجُوعًا ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا ، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا ، أَوْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْت بِهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَرِبًا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ) لِأَنَّ الْوَصْفَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَ الْأَصْلِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّهُ الذَّاهِبُ الْمُتَلَاشِي ( وَلَوْ قَالَ أَخَّرْتهَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَيْسَ لِلسُّقُوطِ كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَرَكْت ) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ( وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ رُجُوعًا ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ ) لِأَنَّ الْمَحِلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَاللَّفْظَ صَالِحٌ لَهَا ( وَكَذَا إذَا قَالَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِي يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ ) لِمَا بَيَّنَّا وَيَكُونُ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ ( وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ الْآخَرُ مَيِّتًا حِينَ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى إنَّمَا تَبْطُلُ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا لِلثَّانِي وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ لِلْأَوَّلِ ( وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ حِينَ قَالَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ لِلْوَرَثَةِ ) لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَى بِالرُّجُوعِ وَالثَّانِيَةِ بِالْمَوْتِ .

.
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ ) اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ رُجُوعٌ ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ عَلَى الْجُحُودِ فِي غَيْبَةِ الْمُوصَى لَهُ ، وَهُوَ لَيْسَ بِرُجُوعٍ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنَّمَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إذَا صَحَّ الْإِنْكَارُ ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ مُعَارِضًا ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُحُودِ بِحَضْرَةِ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ رُجُوعٌ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا لِصِحَّةِ الْإِنْكَارِ حِينَئِذٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ عَلَى صُورَةِ الْجُحُودِ لَا عَلَى الْجُحُودِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ قَالَ لِقَوْمٍ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ لَا بِقَلِيلٍ وَلَا بِكَثِيرٍ لَا يَكُونُ هَذَا رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ طَلَبُ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُمْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ قَدْ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا ، إلَّا أَنِّي سَأَلْتُكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا لِي بِالْبَاطِلِ ، وَطَلَبُ شَهَادَةٍ بِالْبَاطِلِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُحُودٍ حَقِيقَةً ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى الْجُحُودِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ رُجُوعٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ جَوَابُ الْقِيَاسِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : هُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّى قَالَ فِي نَوَادِرِهِ : قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ جَحَدَ ،

قَالَ : يَكُونُ رُجُوعًا ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا قَالَ : لَا يَكُونُ الْجُحُودُ رُجُوعًا ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَاسْتَدَلَّ لِأَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ ، وَإِذَا كَانَ نَفْيُ الْحَالِ وَحْدَهُ رُجُوعًا فَنَفْيُ الْمَاضِي وَالْحَالِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا ( وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ أَوْ مَا أَوْصَيْت لَهُ ( نَفْيٌ فِي الْمَاضِي ) لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ ، وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ لِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ مَا لَمْ يُغَيَّرْ ، وَإِذَا كَانَ الْكَذِبُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي جُحُودِهِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي بَاطِلًا فَيَبْطُلُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ فَكَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جُعِلَ اسْمُ كَانَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ الْوَصِيَّةَ وَفِي بَعْضِهَا الْحَقَّ وَكِلَاهُمَا مُصَادَرَةٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ ، وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ ) دَلِيلٌ آخَرُ تَحْقِيقُهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُرَكَّبٌ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْآخَرُ مُجَرَّدُ النَّفْيِ ، فَلَا يَكُونُ الْجُحُودُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلَا الْعَكْسُ أَيْضًا .
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ : إنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ ، وَهَاهُنَا قَالَ : وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالُ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الْجُحُودِ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَدَمُ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَجَازًا صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالُ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَضْعًا وَحَقِيقَةً ، وَفِي الْحَالِ ضَرُورَةً لَا وَضْعًا وَهُوَ الْأَوَّلُ فَلَا

تَنَافِيَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الرُّجُوعَ وَالْجُحُودَ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَاضِي مُتَضَادَّانِ ، وَالتَّضَادُّ لَيْسَ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً : يَعْنِي مُسْتَعَارًا لِلطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ يَقْتَضِي عَدَمَ النِّكَاحِ فِي الْمَاضِي وَالطَّلَاقُ يَقْتَضِي وُجُودَهُ فَكَانَا مُتَقَابِلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ .
وَقَوْله ( وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا ) وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ) قِيلَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا حَرْفَ الِاشْتِرَاكِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بِعَيْنِهَا لِغَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ ) يُرِيدُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّوَقُّفِ عَلَى إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ أَجَازُوا جَازَ وَإِلَّا فَلَا

( بَابُ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ ) قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ يَضِيقُ الثُّلُثُ عَنْ حَقِّهِمَا إذْ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْمَحِلُّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ( وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالسُّدُسِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ حَقَّيْهِمَا فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا كَمَا فِي أَصْحَابِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ سَهْمًا وَالْأَكْثَرُ سَهْمَيْنِ فَصَارَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ وَسَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ ( وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِلْآخَرِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَا يَضْرِبُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا فِي الْمُحَابَاةِ وَالسِّعَايَةِ وَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ ) لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْمُوصِي قَصَدَ شَيْئَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَ وَالتَّفْضِيلَ ، وَامْتَنَعَ الِاسْتِحْقَاقُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّفْضِيلِ فَيَثْبُتُ كَمَا فِي الْمُحَابَاةِ وَأُخْتَيْهَا .
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، إذْ لَا نَفَاذَ لَهَا بِحَالٍ فَيَبْطُلُ أَصْلًا ، وَالتَّفْضِيلُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الِاسْتِحْقَاقِ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لَهَا نَفَاذًا فِي الْجُمْلَةِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَالِ سَعَةٌ فَتُعْتَبَرُ فِي التَّفَاضُلِ لِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ ) .
لَمَّا كَانَ أَقْصَى مَا يَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْوَصَايَا عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ثُلُثَ الْمَالِ ذَكَرَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ ذِكْرِ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ إلَخْ ) وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ أَيْضًا بِذَلِكَ فَالْوَرَثَةُ إمَّا أَنْ يُجِيزُوهُمَا أَوْ لَا ، فَإِنْ أَجَازُوا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، إذْ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ حِينَئِذٍ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَتَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالتَّسَاوِي فِيهِ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ جُعِلَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَرَجُلَيْنِ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا ، وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالسُّدُسِ ) وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَضْرِبُ أَبُو حَنِيفَةَ ) أَيْ لَا يَجْعَلُ مَنْ ضَرَبَ فِي مَالِهِ سَهْمًا : أَيْ جَعَلَ مَفْعُولَ لَا يَضْرِبُ مَحْذُوفًا : أَيْ لَا يَضْرِبُ شَيْئًا وَصُورَةُ الْمُحَابَاةِ عَبْدَانِ لِرَجُلٍ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ سِتُّمِائَةٍ وَأَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا لِفُلَانٍ بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ لِفُلَانٍ بِمِائَةٍ فَإِنَّهُ حَصَلَتْ الْمُحَابَاةُ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْكُلُّ وَصِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُمَا وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يُضْرَبُ الْمُوصَى لَهُ بِالْأَلْفِ بِحَسَبِ وَصِيَّتِهِ وَهِيَ الْأَلْفُ وَالْمُوصَى لَهُ الْآخَرُ بِحَسَبِ وَصِيَّتِهِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا كَسَائِرِ الْوَصَايَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَبَ أَنْ لَا يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْأَلْفِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ .

وَصُورَةُ السِّعَايَةِ أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا عَتَقَا مِنْ الثُّلُثِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتِهِمَا ثُلُثَا الْأَلْفِ لِلَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي وَالثُّلُثُ لِلَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي .
وَصُورَةُ الدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ : أَيْ الْمُطْلَقَةِ هِيَ أَنْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِأَلْفَيْنِ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَخْرَجِهَا صَحِيحَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَخْرُجُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ أَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي مَخْرَجِهِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لَوْ كَثُرَ أَوْ خَرَجَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَدْخُلُ فِيهِ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ( لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ ) وَهِيَ مَا إذَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ ( أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ شَيْئَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَ ) عَلَى الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَتَفْضِيلَ بَعْضِ أَهْلِ الْوَصَايَا عَلَى بَعْضٍ ( وَقَدْ امْتَنَعَ الِاسْتِحْقَاقُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّفْضِيلِ فَيَثْبُتُ كَمَا فِي الْمُحَابَاةِ ) وَالسِّعَايَةِ وَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّفْضِيلَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ ؛ وَإِذَا بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بَطَلَ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ ( كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ ) تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا بَطَلَتْ بَقِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ وَفِي ذَلِكَ يَتَسَاوَيَانِ

فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ( بِخِلَافِ مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ ) يَعْنِي الْمُحَابَاةَ وَأُخْتَيْهَا وَهُوَ وَاضِحٌ .

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ وَقِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَزِيدَ الْمَالُ فَيَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ وَاسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، وَفِي الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ لَوْ هَلَكَتْ التَّرِكَةُ تَنْفُذُ فِيمَا يُسْتَفَادُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ .
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ جَازَ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْغَيْرِ ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مَا يُصِيبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالثَّانِيَ وَصِيَّةٌ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّرُ بِهِ فَيَجُوزُ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فَيُنْظَرُ إلَى الْحَالِ وَالْكُلُّ مَالُهُ فِيهِ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .

وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ ) صُورَةُ نَقْضٍ تَرِدُ عَلَى الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَزِيدَ الْمَالُ فَيَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ) يَعْنِي بِأَنْ كَانَ عَبْدًا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى الْعَبْدِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَكْتَسِبَ هَذَا الْعَبْدُ مَالًا فَتَصِيرُ رَقَبَتُهُ مُسَاوِيَةً لِثُلُثِ الْمَالِ أَوْ يَظْهَرُ لَهُ مَالٌ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ ثُلُثَ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ ) يَعْنِي أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ يَنْفُذُ فِيمَا يُسْتَفَادُ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُهُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ ) وَمَنْ أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ صَحَّتْ ( وَإِنْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ جَازَ ) كَانَ لَهُ ابْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ( ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مَا يُصِيبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) بِنَصِّ الْكِتَابِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِمَالِ الْغَيْرِ لَا تَجُوزُ ( وَالثَّانِي وَصِيَّةٌ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : جَازَتْ الْأُولَى كَالثَّانِيَةِ نَظَرًا إلَى حَالِ الْوَصِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ لِكَوْنِهِ حَيًّا بَعْدُ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ ( وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصِيَّةٌ بِمَالِ

الْغَيْرِ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ) لِأَنَّ السَّهْمَ يُرَادُ بِهِ أَحَدَ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عُرْفًا لَا سِيَّمَا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ، إلَّا إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ .
وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يُرْوَى ، وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ ، فَإِنَّ إيَاسًا قَالَ : السَّهْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا ، قَالُوا : هَذَا كَانَ فِي عُرْفِهِمْ ، وَفِي عُرْفِنَا السَّهْمُ كَالْجُزْءِ .

قَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ ) مَعْنَاهُ فَلَهُ السُّدُسُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَخَسُّ الْأَنْصِبَاءِ أَقَلُّهُ وَالثَّمَنُ أَقَلُّ مِنْ السُّدُسِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى السُّدُسِ ، قُلْت : جَعَلَهُ بِمَعْنَاهُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَثَرِ وَاللُّغَةِ ، أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرْوَى أَنَّ { السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ } .
وَأَمَّا اللُّغَةُ فَإِنَّ إيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَاضِي الْبَصْرَةِ قَالَ : السَّهْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَةَ الْمَشَايِخِ وَالشَّارِحِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا لَا يَكَادُ يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ فِي الْكَافِي : فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ مِنْ السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ ، وَرِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ تُخَالِفُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ) لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَإِمَّا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا ، وَإِمَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ( وَقَالَا : لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ ) وَمَفْزَعُهُمَا الْعُرْفُ ( فَإِنَّ السَّهْمَ يُرَادُ بِهِ أَحَدُ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عُرْفًا لَا سِيَّمَا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ) إلَّا إذَا زَادَ : أَيْ الْأَقَلُّ ( عَلَى الثُّلُثِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي جَوَابِ السُّؤَالِ مِنْ أَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ

وَقَوْلِ إيَاسٍ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ إلَخْ ) مُشْكِلٌ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا ، وَفِي بَعْضِهَا فَيُعْطَى الْأَقَلَّ مِنْهُمَا .
وَفَسَّرَ الْأُولَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَقَالَ : يَعْنِي إنْ كَانَ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ أَقَلَّ مِنْ السُّدُسِ يُعْطَى السُّدُسَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَكْثَرَ مِنْهُ يُعْطَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَخَسَّ السِّهَامِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، فَإِنَّ فِيهِ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ السُّدُسَ فَمَا ثَمَّ عَمَلٌ بِالدَّلِيلَيْنِ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيُعْطَى الْأَقَلَّ مِنْهُمَا يُؤَدِّي إلَى النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ وَفِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيُتِمَّ لَهُ السُّدُسَ .
وَأَيْضًا قَوْلُهُ ( مَا ذَكَرْنَا ) إنْ أَرَادَ بِهِ السُّدُسَ فَلَا تَعَلُّقَ لِقَوْلِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ بِالدَّلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِقَوْلِ إيَاسٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا عَادَ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْأَدَاءُ إلَى النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ ، وَأَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا لِيَكُونَ مَعْنَى النُّسْخَتَيْنِ وَاحِدًا ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمُّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَيْسَ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ فَهُوَ كَمَا تَرَى تَعْمِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ

ذَلِكَ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ، وَجَهْدُ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ .
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا أَوْصَتْ الْمَرْأَةُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهَا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُعْطَى السُّدُسَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُعْطَى الرُّبُعَ : أَيْ مِثْلَ الرُّبُعِ فَيُعْطَى الْخُمُسَ تُجْعَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى سِتَّةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى السُّدُسِ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ بَقِيَتْ خَمْسَةٌ لِلزَّوْجِ مِنْهُ الرُّبُعُ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ فَيُضْرَبُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَخْرَجُ الْكَسْرِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ يُضْرَبُ فِي أَرْبَعَةٍ فَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَهُوَ سُدُسُ الْمَالِ بَقِيَ عِشْرُونَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا الرُّبُعُ ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَلَى خَمْسَةٍ يُزَادُ مِثْلُ أَخَسِّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ عَلَى الْفَرِيضَةِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ سَهْمًا وَالزَّوْجُ سَهْمًا وَهُوَ رُبُعُ الْبَاقِي بَعْدَ نَصِيبِ الْمُوصَى لَهُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْبِنْتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الزَّوْجِ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَيُزَادُ مِثْلُ الرُّبُعِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ لِيَكُونَ الْمَزِيدُ مَثَلًا لِلرُّبُعِ ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَتَخْرِيجُهُ كَتَخْرِيجِهِمَا ، وَعَلَى هَذَا قِسْ أَمْثَالَهَا وَخَرَّجَهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) أَيْ مَشَايِخُنَا كَانَ هَذَا فِي عُرْفِهِمْ وَفِي عُرْفِنَا السَّهْمُ كَالْجُزْءِ

قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ ) لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، غَيْرَ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مُقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ .( وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ غَيْرَ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ ) وَلَوْ أَوْصَى بِبَعْضٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِطَائِفَةٍ أَوْ بِنَصِيبٍ أَوْ بِشَيْءٍ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَهُ ثُلُثُ مَالِي وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَيَدْخُلُ السُّدُسُ فِيهِ ، وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ فَلَهُ سُدُسٌ وَاحِدٌ ) لِأَنَّ السُّدُسَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَالِ ، وَالْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللُّغَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ ) فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَائِدَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ حَقُّهُ الثُّلُثُ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ ؛ لِأَنَّ السُّدُسَ يَدْخُلُ فِي الثُّلُثِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ زِيَادَةَ السُّدُسِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ الثُّلُثُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إيجَابَ الثُّلُثِ عَلَى السُّدُسِ فَيُجْعَلُ السُّدُسُ دَاخِلًا فِي الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وَحَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَعْرِفَةُ مَتَى أُعِيدَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي عَيْنُ الْأَوَّلِ ) قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَا ذَلِكَ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ يُتْوَى مَا تُوِيَ مِنْهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً .
وَلَنَا أَنَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يُمْكِنُ جَمِيعُ حَقِّ أَحَدِهِمْ فِي الْوَاحِدِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَفِيهِ جَمْعٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فَجَمَعْنَاهَا فِي الْوَاحِدِ الْبَاقِي وَصَارَتْ الدَّرَاهِمُ كَالدِّرْهَمِ ، بِخِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا جَبْرًا فَكَذَا تَقْدِيمًا .
قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثِيَابِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَاهَا وَبَقِيَ ثُلُثُهَا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثِّيَابِ ، قَالُوا : هَذَا ) إذَا كَانَتْ الثِّيَابُ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ ، وَكَذَلِكَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ بِمَنْزِلَتِهَا لِأَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الْجَمْعُ جَبْرًا بِالْقِسْمَةِ ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ مِنْ رَقِيقِهِ فَمَاتَ اثْنَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي ، وَكَذَا الدُّورُ الْمُخْتَلِفَةُ ) وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهَا .
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَجْمَعَ وَبِدُونِ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِلْفِقْهِ الْمَذْكُورِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ بِثُلُثِ غَنَمِهِ ) وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ بِثُلُثِ غَنَمِهِ ( فَهَلَكَ ثُلُثَا ذَلِكَ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ ، وَقَالَ زُفَرَ : لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الْهَالِكِ وَالْبَاقِي ( مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ يَتْوَى مَا تَوَى مِنْهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَيْهَا ، وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ) وَهُوَ الْقِيَاسُ ( وَلَنَا أَنَّ هَذَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَالْجِنْسُ الْوَاحِدُ يُمْكِنُ فِيهِ جَمْعُ حَقِّ أَحَدِهِمْ فِي الْوَاحِدِ ) أَيْ يُمْكِنُ جَمْعُ حَقٍّ شَائِعٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي ( فَرْدٍ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ) مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ جَمْعًا حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا بَقِيَ تَقْدِيمًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِرْثِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ جَعَلَ حَاجَتَهُ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ الْمُوصَى بِهِ ، فَكَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ كَالتَّبَعِ وَحَقُّ الْمُوصِي لَهُ كَالْأَصْلِ ، وَالْأَصْلُ فِي مَالٍ اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ إذَا هَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ أَنْ يُجْعَلَ الْهَالِكُ مِنْ التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ وَهَلَكَ بَعْضُهُ يُصْرَفُ الْهَالِكُ إلَى الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ ( وَصَارَتْ الدَّرَاهِمُ ) أَيْ صَارَتْ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ كَالْوَصِيَّةِ بِالدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ .
وَلَوْ أَوْصَى بِدِرْهَمٍ وَلَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَهَلَكَ دِرْهَمَانِ وَبَقِيَ دِرْهَمٌ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ الدِّرْهَمُ فَكَذَلِكَ هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ كَمَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ أَجْنَاسًا ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَمْعَ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَهَا وَطَلَبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْقِسْمَةَ وَأَبَى

الْبَاقُونَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْقِسْمَةِ الِانْتِفَاعُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُعَادَلَةِ وَهِيَ فِيهَا مُتَعَذِّرَةٌ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ تَعَذَّرَ التَّقْدِيمُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ فَبَقِيَ الْكُلُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ أَثْلَاثًا ، فَمَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا بَقِيَ بَقِيَ عَلَيْهَا أَثْلَاثًا ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثِيَابِهِ ، وَأَمَّا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ مِنْ رَقِيقِهِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ مِنْ الدُّورِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ الْبَاقِي لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ ، هَكَذَا أَجَابَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ ( فَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ ) فِيهَا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالدُّورُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الْعَبْدُ الْبَاقِي وَالدَّارُ الْبَاقِيَةُ ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَيَجْمَعَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي عَبْدٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ .
وَقِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقِسْمَةُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ ( أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَجْمَعَ وَبِدُونِ ذَلِكَ ) أَيْ بِدُونِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي وَجَمْعِهِ ( يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ ) وَإِذَا هَلَكَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِعْلٌ مِنْ الْقَاضِي فَكَانَ الْمَالُ عَلَى الشَّرِكَةِ مَا بَقِيَ وَمَا هَلَكَ ( وَالْأَوَّلُ ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ ( أَشْبَهَ لِلْفِقْهِ الْمَذْكُورِ ) وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ فِي الرَّقِيقِ وَالدُّورِ الْمُخْتَلِفَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ، وَهُمَا يَرَيَانِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِهَا جِنْسًا وَاحِدًا .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَهُ مَالٌ عَيْنٌ وَدَيْنٌ ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ دُفِعَ إلَى الْمُوصَى لَهُ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إيفَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ دُفِعَ إلَيْهِ ثُلُثُ الْعَيْنِ ، وَكُلَّمَا خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ أَخَذَ ثُلُثَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَلْفَ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْعَيْنِ بَخْسٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ لِلْعَيْنِ فَضْلًا عَنْ الدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي مُطْلَقِ الْحَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ) وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ( وَلَهُ مَالٌ عَيْنٌ وَدَيْنٌ فَإِنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ ) بِأَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ نَقْدًا ( دُفِعَ ) الْأَلْفُ مِنْهُ ( إلَى الْمُوصَى لَهُ ) وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَإِنْ كَانَ النَّقْدُ أَلْفًا دُفِعَ مِنْهُ إلَيْهِ ثُلُثُهُ ( وَكُلَّمَا خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ أُخِذَ ثُلُثُهُ حَتَّى يُسْتَوْفَى الْأَلْفُ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ ) وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنْ يُوَفِّيَ حَقَّ كُلٍّ مِنْ الشُّرَكَاءِ بِلَا بَخْسٍ ، وَلَا بَخْسَ فِي حَقِّ أَحَدٍ بِتَخْصِيصِ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ فِي الْأَوَّلِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بَخْسٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِ الْمُوصَى لَهُ بِأَلْفَيْنِ ( ؛ لِأَنَّ لِلْعَيْنِ فَضْلًا عَلَى الدَّيْنِ ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَكَانَ فِيمَا ذَكَرْنَا تَعْدِيلُ النَّظَرِ لِلْجَانِبَيْنِ .
قِيلَ الْمُوصَى بِهِ أَلْفٌ مِنْ الْمَالِ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ ، فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِدُيُونٍ لَهُ عَلَى النَّاسِ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَارِثِ ، وَلَوْ كَانَ شَرِيكًا لَهُ لَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ حِصَّةُ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُوصَى بِهِ أَلْفٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا فِي الْحَالِ ، أَوْ فِي الْمَآلِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ وَكِلَاهُمَا تَرِكَةٌ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ إذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ .
وَأَمَّا فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ الْوَارِثَ كَالْمُودَعِ لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِذَا عَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِزَيْدٍ ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجِدَارٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ لِعَمْرٍو فَلَمْ يَرْضَ لِلْحَيِّ إلَّا نِصْفَ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ لَغْوٌ فَكَانَ رَاضِيًا بِكُلِّ الثُّلُثِ لِلْحَيِّ ، وَإِنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَزَيْدٌ مَيِّتٌ كَانَ لِعَمْرٍو نِصْفُ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ قَضِيَّةَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ وَسَكَتَ كَانَ لَهُ كُلُّ الثُّلُثِ ، وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَسَكَتَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الثُّلُثَ ..
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ ) وَاضِحٌ ، وَانْدَفَعَ بِقَوْلِهِ ( فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ ) مَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ لِلْبَاقِي نِصْفَ الثُّلُثِ ؛ لِوُجُودِ الْمُزَاحَمَةِ بَيْنَهُمَا حَالَ الْمِلْكِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَوْتِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عِلْمِ الْمُوصِي بِحَيَاتِهِ وَعَدَمِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَيِّ مِنْهُمَا لِجَمِيعِ الثُّلُثِ بِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ إيجَابِ الْمُوصِي ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُ لِلْمُوصِي وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ وَاكْتَسَبَ مَالًا اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ مَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدُ اسْتِخْلَافٍ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدُ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا لِمَا بَيَّنَّا .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ) ظَاهِرٌ .

وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ الْغَنَمُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فِي الْأَصْلِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُهُ حِينَئِذٍ ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ فَتَبْطُلُ بِفَوَاتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَاسْتَفَادَ ثُمَّ مَاتَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْمَالِ تَصِحُّ ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ بِاسْمِ نَوْعِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَضْلٌ وَالْمُعْتَبَرُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ؛ وَلَوْ قَالَ لَهُ شَاةٌ مِنْ مَالِي وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ يُعْطِي قِيمَةَ شَاةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَصِيَّةُ بِمَالِيَّةِ الشَّاةِ إذْ مَالِيَّتُهَا تُوجَدُ فِي مُطْلَقِ الْمَالِ ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَالِهِ وَلَا غَنَمَ قِيلَ لَا يَصِحّ لِأَنَّ الْمُصَحَّحَ إضَافَتُهُ إلَى الْمَالِ وَبِدُونِهَا تُعْتَبَرُ صُورَةُ الشَّاةِ وَمَعْنَاهَا ، وَقِيلَ تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الشَّاةَ وَلَيْسَ فِي مِلْكَهُ شَاةٌ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْمَالِيَّةُ ؛ وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي وَلَا غَنَمَ لَهُ فَالْوَصِيَّة بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْغَنَمِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ حَيْثُ جَعَلَهَا جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ .

وَقَوْلُهُ ( فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى مَالٍ خَاصٍّ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الشَّاةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ مَلَكَ فَإِنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : هَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى غُنْمٍ مُرْسَلٍ بِغَيْرِ تَعْيِينٍ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ إضَافَتِهِ إلَى ثُلُثِ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ) فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ لَوْ قَالَ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ مِنْ مَالِي وَبِثَوْبٍ مِنْ مَالِي فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْإِيجَابُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَنْ حِنْطَتِي أَوْ مِنْ ثِيَابِي فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَاهُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لَهُنَّ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ فَرِيقٍ سَهْمَانِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ جَائِزَةٌ وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ جِنْسَانِ ، وَفَسَّرْنَاهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَأَدْنَاهُ فِي الْمِيرَاثِ اثْنَانِ نَجِد ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ مِنْ كُلِّ فَرِيقِ اثْنَانِ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ ثَلَاثٌ فَلِهَذَا يُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةٍ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ ، وَأَنَّهُ بِتَنَاوُلِ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى الْكُلِّ فَيُعْتَبَرُ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ وَاحِدٌ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَالثَّلَاثَةُ لِلثَّلَاثِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ فَنِصْفُهُ لِفُلَانِ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَهُمَا ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ثُلُثُهُ لِفُلَانٍ وَثُلُثَاهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ لَهُ صَرْفُهُ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ لَا يُصْرَفُ إلَّا إلَى مِسْكِينَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ ) مَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ صُورَةً وَتَعْلِيلًا ، خَلَا قَوْلِهِ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ جَائِزَةٌ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَعْضِ بَيَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُنَّ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا وَذَلِكَ حَالَ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا فَالْعِتْقُ يُحِلُّهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَتَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَهِيَ أَمَةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ لِأَمَتِهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ رَقَبَتِهَا بَاطِلَةٌ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا لَا حَالَ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَقْصِدَ وَصِيَّةً صَحِيحَةً لَا بَاطِلَةً ، وَالصَّحِيحَةُ هِيَ الْمُضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ لِعَبْدِهِ جَائِزَةٌ وَلَمْ يَعْتِقْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ أَقَلَّ حَالًا مِنْهُ فَكَيْفَ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهَا قِيَاسًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ لِلْعَبْدِ إنَّمَا جَازَتْ لِتَنَاوُلِهِ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ فَكَانَ وَصِيَّةً بِرَقَبَتِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهِ إعْتَاقٌ وَهُوَ يَصِحُّ مُنَجَّزًا وَمُضَافًا ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَهَا بِذَلِكَ لَيْسَتْ إعْتَاقًا ؛ لِأَنَّهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيَّةٌ أَصْلًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ إمَّا أَنْ صَادَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا كَالْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى ، فَلَوْ كَانَ بِالْوَصِيَّةِ أَيْضًا تَوَارَدَ عِلَّتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ

وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ ثُلُثُ رَقَبَتِهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَدْنَاهُ فِي الْمِيرَاثِ ) قَيَّدَ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ فَصْلِ الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ هُنَاكَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْوَاحِدِ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ فِي الْمِيرَاثِ مَصْرُوفًا إلَى الِاثْنَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ الْجَمْعُ هُنَاكَ أَيْضًا مُنْصَرِفًا إلَى الِاثْنَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( نَجِدُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وَالْمُرَادُ بِهَا الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ ) .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لِلْمُسَاوَاةِ لُغَةً ، وَقَدْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بَيْنَ الْكُلِّ بِمَا قُلْنَاهُ لِاتِّحَادِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَا مِائَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ كَانَ الْإِشْرَاكُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ لِتَفَاوُتِ الْمَالَيْنِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُسَاوَاتِهِ كُلَّ وَاحِدٍ بِتَنْصِيفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ وَدَلِيلُهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِشْرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَقَدْ أَشْرَكَ الثَّالِثَ فِيمَا أَوْصَى بِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِائَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَالْمُسَاوَاةُ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْمِائَةِ مُقْتَضَى إشْرَاكِهِ إيَّاهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا بِأَخْذِ نِصْفِ كُلِّ مِائَةٍ لَوْ كَانَ اشْتِرَاكُهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ كَانَ الْإِشْرَاكُ ) أَيْ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَإِنَّ لَهُ نِصْفَ كُلِّ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُسَاوَاةِ فِيهِمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ ( لِتَفَاوُتِ الْمَالَيْنِ ) فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ لَفْظِ الْإِشْرَاكِ ( فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِكُلِّ ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ وَجْهُ الْقِيَاسِ ( عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ) .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ ( فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إلَى الثُّلُثِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ وَقَوْلُهُ فَصَدَّقُوهُ صَدَرَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ إقْرَارًا مُطْلَقًا فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ قَصْدِهِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ قَصْدِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَعْلَمُ بِأَصْلِ الْحَقِّ عَلَيْهِ دُونَ مِقْدَارِهِ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَبِجَعْلِهَا وَصِيَّةً جَعَلَ التَّقْدِيرَ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي مَا شَاءَ ، وَهَذِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا يُصَدَّقُ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ الزِّيَادَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ يُعْزَلُ الثُّلُثُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ ) لِأَنَّ مِيرَاثَهُمْ مَعْلُومٌ .
وَكَذَا الْوَصَايَا مَعْلُومَةٌ وَهَذَا مَجْهُولٌ فَلَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ فَيُقَدَّمُ عَزْلُ الْمَعْلُومِ ، وَفِي الْإِفْرَازِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ هَذَا الْحَقِّ وَأَبْصَرَ بِهِ ، وَالْآخَرُ أَلَدُّ خِصَامًا ، وَعَسَاهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْفَضْلِ إذَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ وَبَعْدَ الْإِفْرَازِ يَصِحُّ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ ( وَإِذَا عَزَلَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ وَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ ) لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ وَصِيَّةً فِي حَقِّ التَّنْفِيذِ ، فَإِذَا أَقَرَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِشَيْءٍ ظَهَرَ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ دَيْنًا شَائِعًا فِي النَّصِيبَيْنِ ( فَيُؤْخَذُ أَصْحَابُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ مَا أَقَرُّوا وَالْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ مَا أَقَرُّوا )

تَنْفِيذًا لِإِقْرَارِ كُلِّ فَرِيقٍ فِي قَدْرِ حَقِّهِ وَعَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ ) يَعْنِي لِوَرَثَتِهِ ( عَلَيَّ لِفُلَانٍ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ ) يُصَدَّقُ إلَى الثُّلُثِ اسْتِحْسَانًا ( وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ ) وَالْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنْ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ بَيَانٌ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ ، وَقَوْلُهُ فَصَدَّقُوهُ : يَعْنِي فِيمَا قَالَ لَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِكَوْنِهِ ( صَدَرَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ إقْرَارًا مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ قَصَدَ بِهَذَا الْكَلَامِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ ) وَهُوَ مَالِكٌ لِذَلِكَ فِي الثُّلُثِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَيَنْفُذُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْوَصِيَّةَ لَصَرَّحَ بِهَا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَقَدْ يَحْتَاجُ ) أَيْ : الْمُقِرُّ إلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ ( لِعِلْمِهِ بِأَصْلِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُونَ مِقْدَارِهِ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَبِجَعْلِهَا ) أَيْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ ( وَصِيَّةً جُعِلَ التَّقْدِيرُ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي مَا شَاءَ وَهَذِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا يُصَدَّقُ إلَى الثُّلُثِ دُونَ الزِّيَادَةِ ) وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ إلَخْ ) وَاضِحٌ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ لَفْظًا وَيُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ تَنْفِيذًا فَبِاعْتِبَارِ شِبْهِ الْوَصِيَّةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ ، وَبِاعْتِبَارِ شِبْهِ الْإِقْرَارِ يُجْعَلُ شَائِعًا فِي الْأَثْلَاثِ وَلَا يُخَصَّصُ بِالثُّلُثِ الَّذِي لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَلِوَارِثِهِ فَلِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ ) لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ بِهِ وَبِمَا لَا يَمْلِكُ فَصَحَّ فِي الْأَوَّلِ وَبَطَلَ فِي الثَّانِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يَصْلُحُ مُزَاحِمًا فَيَكُونُ الْكُلُّ لِلْحَيِّ وَالْوَارِثُ مِنْ أَهْلِهَا وَلِهَذَا تَصِحُّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَافْتَرَقَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى لِلْقَاتِلِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ وَالشَّرِكَةَ تُثْبِتُ حُكْمًا لَهُ فَتَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِوَصْفِ الشَّرِكَةِ فِي الْمَاضِي ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَلَهَا إلَى إثْبَاتِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْوَارِثُ فِيهِ شَرِيكًا وَلِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ الْأَجْنَبِيُّ شَيْئًا كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيَبْطُلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَقْبِضُ وَيُشَارِكُهُ الْوَارِثُ حَتَّى يَبْطُلَ الْكُلُّ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَفِي الْإِنْشَاءِ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا مُمْتَازَةٌ عَنْ حِصَّةِ الْآخَرِ بَقَاءً وَبُطْلَانًا .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَلِوَارِثِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ هَذَا الْإِيصَاءُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ) كَمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ ( ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ ) أَيْ ابْتِدَاءُ تَمْلِيكٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ قَبْلَهَا ، وَالشَّرِكَةُ إنَّمَا تُثْبِتُ حُكْمًا لَهُ عَقِيبَهُ فَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ التَّمْلِيكُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ صَحِيحًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فَكَانَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُفْرَزًا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِحَسَبِ صِحَّةِ السَّبَبِ وَعَدَمِهَا .
وَأَمَّا فِي الْإِقْرَارِ فَسَبَبُ الشَّرِكَةِ غَيْرُهُ وَهُوَ مَا كَانَ سَبَبُهَا قَبْلَهَا ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَقْتَضِي سَبْقَ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا .
وَفِي ذَلِكَ : أَيْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى ذَلِكَ أَوْ جَحَدَ الْأَجْنَبِيُّ أَوْ الْوَارِثُ ذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَاهُ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا صَحَّ فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مُقِرٌّ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَبِبُطْلَانِ حَقِّ شَرِيكِهِ فَيَبْطُلُ فِي نَصِيبِهِ وَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ، وَقَالَا : إثْبَاتُهُ مُشْتَرَكًا هُوَ الْمُبْطِلُ وَقَدْ وُجِدَ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْإِقْرَارُ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْوَارِثِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ جِهَةِ الْفَسَادِ بِحَيْثُ تَعَدَّى إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ وَهِيَ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حِصَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ مُمْتَازَةٍ عَنْ غَيْرِهَا ، فَفِي كُلِّ جُزْءٍ فَرَضْته يَشْتَرِكَانِ فَيَثْبُتُ لِلْأَجْنَبِيِّ الْمِلْكُ فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى صِحَّةِ

الْإِقْرَارِ لَهُ وَلَا يَثْبُتُ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَارِثِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ .
وَقَوْلُهُ ( بَقَاءً وَبُطْلَانًا ) أَيْ : بَقَاءً فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَبُطْلَانًا فِي حَقِّ الْوَارِثِ يَعْنِي تَبْقَى الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَتَبْطُلُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ لِامْتِيَازِ حِصَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ حِصَّةِ الْآخَرِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ جَيِّدٌ وَوَسَطٌ وَرَدِيءٌ فَأَوْصَى بِكُلِّ وَاحِدٍ لِرَجُلٍ فَضَاعَ ثَوْبٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّهَا هُوَ وَالْوَرَثَةُ تَجْحَدُ ذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ) وَمَعْنَى جُحُودَهُمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَجْهُولًا وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ فَبَطَلَ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْوَرَثَةُ الثَّوْبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ ، فَإِنْ سَلَّمُوا زَالَ الْمَانِعُ وَهُوَ الْجُحُودُ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْجَيِّدِ ثُلُثَا الثَّوْبِ الْأَجْوَدِ ، وَلِصَاحِبِ الْأَوْسَطِ ثُلُثُ الْجَيِّدِ وَثُلُثِ الْأَدْوَنِ فَثَبَتَ الْأَدْوَنُ ، وَلِصَاحِبِ الْأَدْوَنِ ثُلُثَا الثَّوْبِ الْأَدْوَنِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَيِّدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرَّدِيءِ بِيَقِينٍ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا أَوْ رَدِيئًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا ، وَصَاحِبَ الرَّدِيءِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْجَيِّدِ الْبَاقِي بِيَقِينٍ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّدِيءُ هُوَ الرَّدِيءُ الْأَصْلِيُّ فَيُعْطَى مِنْ مَحِلِّ الِاحْتِمَالِ ، وَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا الْجَيِّدِ وَثُلُثَا الْأَدْوَنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا ثُلُثُ الْجَيِّدِ وَثُلُثُ الرَّدِيءِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ صَاحِبِ الْوَسَطِ فِيهِ بِعَيْنِهِ ضَرُورَةً .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ جَيِّدٍ وَوَسَطٍ وَرَدِيءٍ إلَخْ ) رَجُلٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ جَيِّدٍ وَوَسَطٍ وَرَدِيءٍ ، تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَأَوْصَى بِكُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهَلَكَ أَحَدُ الْأَثْوَابِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهَا هُوَ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ قَدْ هَلَكَ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِكَوْنِ الْمُسْتَحِقِّ مَجْهُولًا وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إتْمَامُ غَرَضِ الْمُوصِي ( إلَّا أَنْ تُسَلِّمَ لَهُمْ الْوَرَثَةُ الثَّوْبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ ) فَإِنَّ الْمَانِعَ حِينَئِذٍ قَدْ زَالَ فَيُقْسَمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ إذَا ابْتَدَأَ بِتَعْلِيلِ جَانِبِ صَاحِبِ الْجَيِّدِ وَصَاحِبِ الرَّدِيءِ ، وَإِنْ ابْتَدَأَ بِتَعْلِيلِ جَانِبِ صَاحِبِ الْوَسَطِ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْهَالِكُ إنْ كَانَ أَرْفَعَ مِنْ الْبَاقِيَيْنِ فَحَقُّ صَاحِبِ الْوَسَطِ فِي الْجَيِّدِ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْهَالِكُ أَرْدَأَ مِنْ الْبَاقِيَيْنِ فَحَقُّ صَاحِبِ الْوَسَطِ فِي الرَّدِيءِ مِنْهُمَا ، فَحَقُّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَرَّةً وَبِذَلِكَ أُخْرَى ، وَإِنْ كَانَ الْهَالِكُ هُوَ الْوَسَطُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْبَاقِيَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ حَقُّهُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاقِيَيْنِ فِي حَالٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ فِي حَالَيْنِ فَيَأْخُذُ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدٍ فَبَقِيَ صَاحِبُ الْجَيِّدِ وَصَاحِبُ الرَّدِيءِ فَصَاحِبُ الْجَيِّدِ يَدَّعِي الْجَيِّدَ وَلَا يَدَّعِي الرَّدِيءَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَطْعًا ، وَصَاحِبُ الرَّدِيءِ يَدَّعِي الرَّدِيءَ دُونَ الْجَيِّدِ فَيُسَلَّمُ ثُلُثَا الْجَيِّدِ لِصَاحِبِ الْجَيِّدِ وَثُلُثَا الرَّدِيءِ لِصَاحِبِ الرَّدِيءِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَوْصَى أَحَدَهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَإِنَّهَا تُقْسَمُ ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصْفُهُ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِلْوَصِيِّ لَهُ مِثْلُ دِرْعِ الْبَيْتِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مِثْلُ ذَرْعِ نِصْفِ الْبَيْتِ لَهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِمِلْكِهِ وَبِمِلْكِ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الدَّارَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مُشْتَرَكَةٌ فَيَنْفُذُ الْأَوَّلُ وَيُوقَفُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنَّ مِلْكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ الَّتِي هِيَ مُبَادَلَةٌ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ السَّالِفَةُ ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِمِلْكِ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، ثُمَّ إذَا اقْتَسَمُوهَا وَوَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي عَيْنِ الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبَيْتِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ لَهُ مِثْلُ ذَرْعِ نِصْفِ الْبَيْتِ تَنْفِيذًا لِلْوَصِيَّةِ فِي بَدَلِ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَ فَوَاتِهِ كَالْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا إذَا قُتِلَتْ خَطَأً تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي بَدَلِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ حَيْثُ لَا تَتَعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِثَمَنِهِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تَبْطُلُ بِالْقِسْمَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بِقَصْدِ الْإِيصَاءِ بِمِلْكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُشَاعِ قَاصِرٌ وَقَدْ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ فِي جَمِيعِ الْبَيْتِ إذَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْإِفْرَازِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْبَيْتَ مِلْكُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ .

وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَنْفُذُ فِي قَدْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ ، إمَّا لِأَنَّهُ عِوَضُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، أَوْ لِأَنَّ مُرَادَ الْمُوصِي مِنْ ذِكْرِ الْبَيْتِ التَّقْدِيرُ بِهِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ مَا أَمْكَنَ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْبَيْتُ إذَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ التَّقْدِيرِ وَالتَّمْلِيكِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ عَمِلْنَا بِالتَّقْدِيرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّقْدِيرَ عَلَى اعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّمْلِيكَ بِعَيْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْآخَرِ ، كَمَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَ الْوَلَدِ وَطَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِأَوَّلِ وَلَدٍ تَلِدُهُ أَمَتُهُ ، فَالْمُرَادُ فِي جَزَاءِ الطَّلَاقِ مُطْلَقُ الْوَلَدِ وَفِي الْعِتْقِ وَلَدٌ حَيٌّ ثُمَّ إذَا وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ غَيْرِ الْمُوصِي وَالدَّارُ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَالْبَيْتُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ يُقْسَمُ نَصِيبُهُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ : تِسْعَةٌ مِنْهَا لِلْوَرَثَةِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ نِصْفِ الْبَيْتِ وَهُمْ بِنِصْفِ الدَّارِ سِوَى الْبَيْتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ عَشَرَةً ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَضْرِبُ بِالْعَشَرَةِ وَهُمْ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَتَصِيرُ السِّهَامُ أَحَدَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَلَهُمْ تِسْعَةٌ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْوَصِيَّةِ إقْرَارٌ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِيهِ لِمُحَمَّدٍ .
وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا تَصِحُّ ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ثُمَّ مَاتَ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَلَا تَنْفُذُ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ) ظَاهِرٌ إلَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ ( هَذَا ) فَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ : وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمُوزِنَاتِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعُرُوضِ فَكَيْفَ كَانَتْ الْمُبَادَلَةُ فِيهِ تَابِعَةً ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْعُرُوضِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أُجْبِرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَكَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ تَابِعًا كَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُبَادَلَةِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَاكَ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ ؛ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهِ ) وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( إمَّا ؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي فِي الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّقْدِيرَ عَلَى اعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي فِي وُقُوعِهِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ ( وَالتَّمْلِيكُ بِعَيْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْآخَرِ ) يَعْنِي فِي وُقُوعِهِ فِي نَصِيبِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَتَصِيرُ السِّهَامُ أَحَدَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَلَهُمْ تِسْعَةٌ ) فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ نَصِيبَ الْمُوصِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَأَرْبَعَةٍ لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُمَا فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ بَقِيَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعِينَ .
قُلْنَا : زَعَمَ الْوَرَثَةُ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي خَمْسَةٍ تَمَسُّكًا بِمَذْهَبِ

مُحَمَّدٍ وَزَعَمَ الْمُوصَى لَهُ أَنَّ حَقَّهُ فِي عَشَرَةٍ وَحَقَّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعِينَ فَيُعْتَبَرُ زَعْمُ كُلِّ فَرِيقٍ ، فَجَعَلْنَا كُلَّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَصَارَ الْكُلُّ أَحَدَ عَشَرَ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِيهِ لِمُحَمَّدٍ ) بَلْ قَوْلُهُ فِي الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى مِنْ مَالِ رَجُلٍ لِآخَرَ بِأَلْفٍ بِعَيْنِهِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنْ دَفَعَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ) لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَإِذَا أَجَازَ يَكُونُ تَبَرُّعًا مِنْهُ أَيْضًا فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَخْرَجِهَا صَحِيحَةٌ لِمُصَادِفَتِهَا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالِامْتِنَاعِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا أَجَازُوهَا سَقَطَ حَقُّهُمْ فَنَفَذَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي .قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى مِنْ مَالِ رَجُلٍ لِآخَرَ بِأَلْفٍ ) وَمَنْ أَوْصَى مِنْ مَالِ رَجُلٍ لِآخَرَ بِأَلْفٍ بِعَيْنِهَا فَبَلَغَهُ فَإِمَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَصِيَّةَ أَوْ لَا ؛ فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ بَطَلَتْ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ جَازَتْ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ تَمَّتْ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ وَإِنْ أَجَازَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ بِمَالِ الْغَيْرِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ إلَى

قَالَ ( وَإِذَا اقْتَسَمَ الِابْنَانِ تَرِكَةَ الْأَبِ أَلْفًا ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ أَنَّ الْأَبَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالثُّلُثِ لَهُ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي إعْطَاءِ النِّصْفِ لِيَبْقَى لَهُ النِّصْفُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي التَّرِكَةِ وَهِيَ فِي أَيْدِيهمَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِتَقْدِيمِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَرُبَّمَا يُقِرُّ الِابْنُ الْآخَرُ بِهِ أَيْضًا فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ نِصْفَ التَّرِكَةِ فَيُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ .قَوْلُهُ ( فَيَكُونُ مُقِرًّا بِتَقَدُّمِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ) فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ دَفَعَهُ إلَيْهِ كُلَّهُ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ فَوَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا وَكِلَاهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَهُمَا لِلْمُوصَى لَهُ ) لِأَنَّ الْأُمَّ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ أَصَالَةً وَالْوَلَدُ تَبَعًا حِينَ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْأُمِّ ، فَإِذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالتَّرِكَةُ قَبْلَهَا مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُقْضَى بِهَا دُيُونُهُ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَكُونَانِ لِلْمُوصِي لَهُ ( وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ ضَرَبَ بِالثُّلُثِ وَأَخَذَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ الْوَلَدِ ) .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَيَّنَ صُورَةً وَقَالَ : رَجُلٌ لَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَمَةٌ تُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلِلْمُوصَى لَهُ الْأُمُّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَهُ ثُلُثَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
لَهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا بِالِانْفِصَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْأُمِّ .
وَلَهُ أَنَّ الْأُمَّ أَصْلٌ وَالْوَلَدُ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ ، فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِيهِمَا جَمِيعًا تَنْتَقِضُ الْوَصِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ فِي التَّبَعِ لَا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِهِ فِي الْأَصْلِ بَلْ يَبْقَى تَامًّا صَحِيحًا فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ ضَرُورَةَ مُقَابِلَتِهِ بِالْوَلَدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَلَكِنَّ الثَّمَنَ تَابِعٌ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِدُونِ ذِكْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ( هَذَا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ خَالِصِ مِلْكِهِ

لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ .

وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا بِالِانْفِصَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ) يَعْنِي تَسْرِي الْوَصِيَّةُ إلَى الْوَلَدِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا يَسْرِي الْبَيْعُ إلَى الْوَلَدِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِذَا سَرَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى الْوَلَدِ صَارَ كَأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَوْجُودًا فَأَوْصَى بِهِمَا وَقِيمَتُهُمَا مِثْلُ نِصْفِ الْمَالِ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَلِكَ هَاهُنَا ( وَلَهُ أَنَّ الْأُمَّ أَصْلُ ) يَعْنِي فِي الْوَصِيَّةِ ( وَلَدٍ تَبِعَ فِيهِ ) أَيْ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْأُمُّ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَهَا قَصْدًا ثُمَّ سَرَى حُكْمُ الْإِيجَابِ إلَى الْوَلَدِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِالْأُمِّ ثُمَّ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْوَلَدِ قَدْرُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمِّ كَانَ مُسْتَحَقًّا قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى نَقْصِهَا فِي بَعْضِ الْأَصْلِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْأَصْلِ بِالتَّبَعِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ فِي التَّبَعِ لَا يُؤَدِّي إلَى نَقْصِهِ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ نَقْضٌ لَهُ بِحِصَّتِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ ضَرُورَةَ مُقَابَلَتِهِ بِالْوَلَدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ؛ فَإِنَّ الْعِوَضَ الْوَاحِدَ لَا يُقَابَلُ بِعِوَضَيْنِ لَكِنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ النَّقْضَ فِي الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ تَابِعٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ بَعْضِ الثَّمَنِ بِالْوَلَدِ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ مَقْبُوضًا بِالْأَصْلِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بَلْ يَأْخُذُ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ ) قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِشَيْءٍ أَوْ وَهَبَ لَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ جَازَ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عِنْدَ صُدُورِهِ ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يُؤَخَّرُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً صُورَةً فَهِيَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَهَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ ؛ أَلَّا تَرَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ وَعِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ .

( فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِثُلُثِ الْمَالِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِثُلُثِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأُصُولِ وَالْأَصْلِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَارِضِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةِ ) وَاضِحٌ مَبْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَفَسَادُهَا كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا وَغَيْرَ وَارِثٍ يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فَسَادِ الْإِقْرَارِ وَجَوَازِهِ كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ ، فَمَتَى كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا يَوْمَ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَرِيضًا .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ ) فِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى رَدِّ قَوْلِ زُفَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُثْبِتُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ كَالْمَوْتِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ ، وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يُؤَخَّرُ عَنْهُ ) أَيْ تَنْفِيذُ حُكْمِ الْإِقْرَارِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ يُؤَخَّرُ عَنْ تَنْفِيذِ حُكْمِ الْإِقْرَارِ الَّذِي فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ ( بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ ) يَعْنِي الْوَصِيَّةَ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَابْنُهُ نَصْرَانِيٌّ أَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ فَأَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ ) .
أَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ وَارِثٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُمَا إيجَابَانِ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ ، وَالْإِقْرَارُ وَإِنْ كَانَ مُلْزِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ فِي إيرَاثِ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ طَارِئَةٌ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِقِيَامِ السَّبَبِ حَالَ صُدُورِهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَصِحُّ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لَهُ وَهُوَ ابْنُهُ ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا وَقْتُ الْمَوْتِ .
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرْوَى أَنَّهَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَقِيقٌ ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ هِيَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تَصِحُّ .
قَالَ ( وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ وَالْأَشَلُّ وَالْمَسْلُولُ إذَا تَطَاوَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَفْ مِنْهُ الْمَوْتُ فَهِبَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ صَارَ طَبْعًا مِنْ طِبَاعِهِ وَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالتَّدَاوِي ، وَلَوْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَرَضٍ حَادِثٍ ( وَإِنْ وَهَبَ عِنْدَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ أَيَّامِهِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ) لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَلِهَذَا يَتَدَاوَى فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ ) يَعْنِي لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا .
( وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ ( دَيْنٌ يَصِحُّ ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ ) الْمُقْعَدُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَالْمَفْلُوجُ مَنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَطَلَ عَنْ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ ( وَالْأَشَلُّ ) مَنْ شُلَّتْ يَدُهُ ( وَالْمَسْلُولُ ) هُوَ الَّذِي بِهِ مَرَضُ السُّلِّ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ الْمُرَّةِ فِي الصَّدْرِ وَنَفْثِهَا ، وَقَوْلُهُ ( صَارَ طَبْعًا مِنْ طِبَاعِهِ ) يَعْنِي : خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ( فَلَوْ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ كَمَرَضٍ حَادِثٍ ) فَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ عِنْدَمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ وَصَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَمَاتَ مِنْ أَيَّامِهِ ( ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ ؛ وَلِهَذَا يَتَدَاوَى فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .

( بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ) .
قَالَ : وَمَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا أَوْ بَاعَ وَحَابَى أَوْ وَهَبَ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ ، وَيُضْرَبُ بِهِ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مَكَانَ قَوْلِهِ جَائِزٌ ، وَالْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ مِنْ الثُّلُثِ وَالضَّرْبُ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا لَا حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ ، وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَأَ الْمَرِيضُ إيجَابَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْإِضَافَةِ دُونَ حَالَةِ الْعَقْدِ ، وَمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَمِنْ الثُّلُثِ ، وَكُلُّ مَرَضٍ صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ كَحَالِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ بِالْبُرْءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي مَالِهِ .

( بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ) .
الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ مَخْصُوصَةٌ أَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَأَخَّرَهُ عَنْ صَرِيحِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ الْأَصْلُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ مِنْ الثُّلُثِ ) أَيْ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَهُوَ وَصِيَّةُ الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ لَا حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُتَطَوِّعًا .
وَقَوْلُهُ ( كَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ ) غَايَرَ بَيْنَهُمَا بِالْعَطْفِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ أَعَمُّ مِنْ الْكَفَالَةِ ، فَإِنَّ مِنْ الضَّمَانِ مَا لَا يَكُونُ كَفَالَةً بِأَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ خَالِعْ امْرَأَتَكَ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ ، فَإِنَّ بَدَلَ الْخُلْعِ يَكُونُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَالْخَمْسُمِائَةِ عَلَى الضَّامِنِ دُونَ الْمُشْتَرِي .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ ) أَيْ : نَجَّزَهُ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ( فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَكُلُّ مَرَضٍ صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ كَحَالِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْبُرْءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْ مَالِهِ ) .

قَالَ ( وَإِنْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا ) فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى فَهُمَا سَوَاءٌ ، ( وَقَالَا : الْعِتْقُ أَوْلَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصَايَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ فَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِهَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِي الثُّلُثِ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا الْمُوقَعُ فِي الْمَرَضِ ، وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِمَوْتِ الْمُوصِي كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ وَالْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْوَصَايَا قَدْ تَسَاوَتْ ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْعِتْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لِأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ، وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ .
وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ، وَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ مِنْ سِوَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا ، وَلَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمُحَابَاةُ يَلْحَقُهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى ، لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ تَبَرُّعًا بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ ، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صِيغَةً وَمَعْنًى ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُحَابَاةُ أَوَّلًا دُفِعَ الْأَضْعَفُ ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ أَوَّلًا وَثَبَتَ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْمُزَاحَمَةُ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ

ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَالْمُحَابَاةِ نِصْفَيْنِ ، وَمَا أَصَابَ الْعِتْقَ قُسِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي ، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ) صُورَتُهُ رَجُلٌ بَاعَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَأَعْتَقَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا ( فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى ) وَإِنْ ابْتِدَاءً بِالْعِتْقِ تَحَاصَّا فِيهِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) فَفِي الْأَوَّلِ يُسَلَّمُ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَتَحَاصَّانِ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ ( وَقَالَا : الْعِتْقُ أَوْلَى ) سَوَاءٌ قَدَّمَ الْمُحَابَاةَ أَوْ أَخَّرَهَا فَيَعْتِقُ مَجَّانًا ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْعَبْدَ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْعَقْدَ وَأَدَّى كَمَالَ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا الْعِتْقَ الْمُوَقَّعَ ) أَيْ الْمُنَجَّزَ لَا الْمُفَوَّضَ إلَى إعْتَاقِ الْوَرَثَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَعْتِقُوهُ أَوْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَا يُقَدَّمُ وَقَوْلُهُ ( كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْفَاسِدِ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ كَمَا سَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ ) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا الْعِتْقَ الْمُوَقَّعَ .
وَقَوْلُهُ ( وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ ) أَيْ : غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُوَقَّعِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سِوَاهُمَا ) أَيْ : سِوَى الْعِتْقِ ، وَالْمُحَابَاةِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ ) وَهِيَ الَّتِي قَدَّمَ فِيهَا الْمُحَابَاةَ عَلَى الْعِتْقِ وَقَوْلُهُ ( لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَلَا عِبْرَةَ بِالْبُدَاءَةِ

فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ) يَعْنِي : وَبِالْمَرَضِ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْهَا ( فَكَانَ تَبَرُّعًا بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ ، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صِيغَةً وَمَعْنًى ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ وَبِالْمَرَضِ يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِّمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ ) فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ ، وَالْمُحَابَاةُ الثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا ، فَالْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا ، وَهُوَ يُنَاقِضُ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ جَانِبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَيْضًا لَوْ حَابَى ثُمَّ حَابَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ تَحَاصَّا ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ يَسْتَدْعِي أَنْ تَنْفُذَ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ شَرْطَ الْإِنْتَاجِ أَنْ يَلْزَمَ النَّتِيجَةَ الْقِيَاسُ لِذَاتِهِ ، وَقِيَاسُ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ إنَّمَا تَحَاصَّا ؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنْ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ يَنْفُذُ ثُمَّ يَنْقُضُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَفَّذْنَاهُ جَمِيعًا ثُمَّ نَقَضْنَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَثْبُتُ لَهُمَا بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَهُمَا نَافِذَتَانِ فَاسْتَوَيَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَالْمُحَابَاةِ ، وَمَا أَصَابَ الْعِتْقَ قُسِّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي ) فَإِنْ قُلْت : لِمَ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْعِتْقِ ثُمَّ بَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي وَالْمُحَابَاةِ ؟ قُلْت : لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهَا ،

وَالْعِتْقُ الْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُحَابَاةِ فَيُزَاحِمُهَا فِي الثُّلُثِ ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ شَارَكَهُ فِيهِ الْعِتْقُ الْآخَرُ لِلْمُجَانَسَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ كَمَالُ حَقِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِدَّ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ مَا أَخَذَ صَاحِبُ الْعِتْقِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ مُقَدَّمٌ عَلَى صَاحِبِ الْعِتْقِ الثَّانِي كَمَا لَوْ كَانَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا عِتْقٌ آخَرُ وَتَقَدَّمَتْ الْمُحَابَاةُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ لَاسْتَرَدَّ مِنْهُ صَاحِبُ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ ، وَحَقَّ الْمُحَابَاةِ سَوَاءٌ فِي الثُّلُثِ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ ، وَإِنْ نَقَضَ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ الْبَيْعَ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ عَبْدٌ فَهَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمٌ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِحَجَّةٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ مِنْهَا وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحَجَّةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ .
وَقَالَا : يُعْتَقُ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ ) لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِنَوْعِ قُرْبَةٍ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ .
وَلَهُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ لِعَبْدٍ يَشْتَرِي بِمِائَةٍ وَتَنْفِيذُهَا فِيمَنْ يَشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْهُ تَنْفِيذٌ لِغَيْرِ الْمُوصَى لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَحَقُّ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ فَهَلَكَ بَعْضُهَا يَدْفَعُ الْبَاقِيَ إلَيْهِ ، وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمَا حَتَّى تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلَمْ يَتَبَدَّلْ الْمُسْتَحَقُّ ، وَعِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْتَحَقُّ وَهَذَا أَشْبَهُ .قَالَ ( وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ عَبْدٌ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحُجَّةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ ) قَالَ الْإِمَامُ الْكِنَانِيُّ : إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي جَعَلَ الْفَضْلَ لِلَّذِي حَجَّ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا أَشْبَهُ ) يَعْنِي إلَى الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ فَيَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ إذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَتُرَدُّ الْمِائَةُ إلَى وَرَثَتِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ فَأَجَازَ الْوَارِثَانِ ذَلِكَ لَمْ يَسْعَ فِي شَيْءٍ ) لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ وَقَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهَا تَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَحِقَهُمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَجَنَى جِنَايَةً وَدَفَعَ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ) لِأَنَّ الدَّفْعَ قَدْ صَحَّ لِمَا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُوصِي ، فَكَذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالدَّفْعِ فَإِذَا خَرَجَ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمُوصِي أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ فَدَاهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي مَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ الْتَزَمُوهُ ، وَجَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ) أَيْ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ( إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ ) أَيْ : مِلْكَ الْمُوصِي ( بَاقٍ ) فِيهِ لِحَاجَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْمَيِّتِ فِيهِ بَاقٍ بَعْدُ لِحَاجَتِهِ ( وَإِنَّمَا يَزُولُ ) مِلْكُهُ ( بِالدَّفْعِ فَإِذَا خَرَجَ بِهِ ) أَيْ بِالدَّفْعِ عَنْ مِلْكِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمُوصِي أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ .
( فَإِنْ فِدَاهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي أَمْوَالِهِمْ ) أَيْ : كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا فَدَوْهُ بِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ فَأَقَرَّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ الْمُوصَى لَهُ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ الْوَارِثُ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ ) لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْوَارِثُ يُنْكِرُ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ وَصِيَّةٌ ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ فَكَانَ مُنْكِرًا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ وَالْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِلتَّيَقُّنِ بِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ ، إلَّا أَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِيهِ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً وَهُوَ خَصْمٌ فِي إقَامَتِهَا لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ ) وَاضِحٌ

قَالَ ( وَمَنْ تَرَكَ عَبْدًا فَقَالَ لِلْوَارِثِ أَعْتَقَنِي أَبُوك فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ، وَقَالَا : يَعْتِقُ وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ ظَهَرَا مَعًا بِتَصْدِيقِ الْوَارِثِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا ، وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَالْأَقْوَى يَدْفَعُ الْأَدْنَى ، فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ فَيُدْفَعُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ أَسْبَقُ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ الِاسْتِنَادِ فَيَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّة ، وَلَا يُمْكِنُ إسْنَادُ الْعِتْقِ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْعِتْقَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ مَجَّانًا فَتَجِبُ السِّعَايَةُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَقَالَ الْآخَرُ كَانَ لِي عِنْدَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَعِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ أَقْوَى وَعِنْدَهُمَا سَوَاءٌ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَسْعَ الْعَبْدُ فِي شَيْءٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ إنَّمَا يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْآخَرِ فَيَمْنَعُ الْمُتَقَدِّمُ الْمُتَأَخِّرَ ، وَهَاهُنَا لَمَّا حَصَلَا مَعًا بِتَصْدِيقٍ وَاحِدٍ بِقَوْلِهِ صَدَقْتُمَا جُعِلَ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا وَثَبَتَا بِالْبَيِّنَةِ فَيَثْبُتَانِ مَعًا كَذَلِكَ .
( وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ أَقْوَى عَلَى مَا ذُكِرَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ إسْنَادُهُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ ثَبَتَ الدَّيْنُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ يَرُدُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وُجُوبَ السِّعَايَةِ ، وَصَارَ تَصْدِيقُ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ تَصْدِيقِ الْمَيِّتِ .
وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ الْمَرِيضِ أَعْتَقْتَنِي فِي صِحَّتِك وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَقَالَ الْمَرِيضُ صَدَقْتُمَا عَتَقَ الْعَبْدُ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَخْ ) لَهُمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمْ تَظْهَرْ إلَّا وَالدَّيْنُ ظَاهِرٌ مَعَهَا فَيَتَحَاصَّانِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ الْوَدِيعَةِ ؛ إذْ الْإِقْرَارُ مِنْ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ يَتَنَاوَلُ التَّرِكَةَ لَا الذِّمَّةَ فَقَدْ وَقَعَا مَعًا ، بِخِلَافِ الْمُورَثِ .
وَلَهُ أَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي عَيْنِ الْأَلْفِ مُقَارِنًا لِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَعِنْدَ انْتِقَالِهَا مِنْهَا إلَى الْأَلْفِ كَانَ الْأَلْفُ مُسْتَحَقًّا الْوَدِيعَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُورَثُ حَيًّا وَقَالَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقْتُمَا ، وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذُكِرَ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي عَامَّةِ

الْكُتُبِ .

( فَصْلٌ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ) قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ) لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ ( فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُمَا وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْفَرِيضَةِ فَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَكَانَ أَوْلَى .
وَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالزَّكَاةُ بِالْمَالِ قَصْرًا عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ ، إذْ قَدْ جَاءَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْقُرْآنِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ .

( فَصْلٌ ) قَدَّمَ بَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ لِقُوَّةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ .
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ صَدَقَةِ فِطْرٍ ، فَإِمَّا أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَمْ تُجْبَرْ الْوَرَثَةُ عَلَى إخْرَاجِهَا لَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عِنْدَنَا .
ثُمَّ الْوَصَايَا إمَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ كُلُّهَا لِلْعِبَادِ أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، فَمَا لِلْعِبَادِ خَاصَّةً تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَمَا لِلَّهِ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فَرَائِضَ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، أَوْ وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، أَوْ كُلُّهُ تَطَوُّعًا كَالْحَجِّ التَّطَوُّعُ ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا .
أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ وَهِيَ فَرَائِضُ كُلُّهَا أَوْ وَاجِبَاتٌ كُلُّهَا أَوْ تَطَوُّعٌ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ ، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ يُبْدَأُ بِالْفَرَائِضِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ : يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا كَمَا ذَكَرْنَا بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ .
فَإِنْ قِيلَ : أَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ فَإِنَّهُ لَا

يُوجِبُ التَّقْدِيمَ فِي الثُّبُوتِ ، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَاحِدًا ، وَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَ الْمُسْتَحِقُّ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِآخَرَ .
وَقَوْلُهُ ( فَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ ) يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفَقِيرَ حَقُّهُ فِي الْقَبْضِ ثَابِتٌ فَكَانَ مُمْتَزِجًا بِحَقَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا جَاءَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الْكَفَّارَاتِ ) أَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الْآيَةَ ، وَأَمَّا فِي الْحَجِّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } مَكَانَ قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إنْ شَاءَ مَاتَ يَهُودِيًّا } الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ ) تَرَكَ كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَثُبُوتِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِآثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ ) فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَقَدُّمَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى النَّذْرِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الشَّرْعِ وَالنَّذْرُ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ ، وَالنُّذُورُ تُقَدَّمُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ ؛ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا دُونَ وُجُوبِ النُّذُورِ .

قَالَ ( وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي ) لِمَا بَيَّنَّا وَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ .
قَالُوا : إنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ ، فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْقُرَبِ وَلَا يُجْعَلُ الْجَمِيعُ كَوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِجَمِيعِهَا رِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ وَاحِدَةٍ فِي نَفْسِهَا مَقْصُودٌ فَتَنْفَرِدُ كَمَا تَنْفَرِدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ يَحُجُّ رَاكِبًا ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ بَلَدِهِ وَالْوَصِيَّةُ لِأَدَاءِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ رَاكِبًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْوَصِيَّةُ النَّفَقَةَ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحُجُّ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْحَجَّةِ عَلَى صِفَةٍ عَدِمْنَاهَا فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ وَالْمُمْكِنُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهَا رَأْسًا ، وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِنْ قَبْلُ .

( وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ وَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ وَقَالَ { ابْدَءُوا بِمَا بَدَأْت بِهِ } ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَزِمَ تَقْدِيمُ مَا قَدَّمَ فَكَذَا هَذَا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ يُبْدَأُ بِالصَّدَقَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ بِالْعِتْقِ مَثَلًا سَوَاءٌ رَتَّبَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَوْ لَمْ يُرَتِّبْ ، وَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَالُوا : إنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ ، وَتُجْعَلُ كُلَّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرْبَةِ مُفْرَدَةً بِالضَّرْبِ وَيُقْسَمُ عَلَى عَدَدِهَا ، فَإِذَا قَالَ ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِزَيْدٍ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا وَهُوَ رِضَا اللَّهِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ فِي نَفْسِهَا مَقْصُودَةٌ فَتُفْرَدُ كَمَا تُفْرَدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّ الْجَمِيعَ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقُرْبَةَ إذَا أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ لَكِنْ يُجْعَلُ لِكُلِّ جِهَةٍ سَهْمٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ : وَلَهُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى بِمِائَةٍ إلَخْ .

قَالَ ( وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ .
لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَبْتَدِئُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ ، بِخِلَافِ سَفَرِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً فَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ ) وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا ) قَيَّدَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَسَيَذْكُرُهُ بُعَيْدَ هَذَا .
قِيلَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَطَنٌ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَجَهَّزَ بِنَفْسِهِ لَتَجَهَّزَ مِنْ حَيْثُ هُوَ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً إلَخْ ) مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةً } فَإِنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ لَيْسَ مِنْهُ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُكَفِّرَ إذَا أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ وَمَاتَ فَأَوْصَى وَجَبَ الْإِكْمَالُ بِمَا بَقِيَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ ، ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ ، فَمَا هُوَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ الْحَجِّ .
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْآمِرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَوَّلَ إذَا بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنْ لَا يَحُجَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَمَا مَشَى بَعْضَ الطَّرِيقِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى غَيْرِهِ بِرِضَا الْوَصِيِّ لَمْ يَجُزْ وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَنْفَقَهُ ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّجْزِيءَ ، حَتَّى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِطْعَامِ إذَا أَطْعَمَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَرَكَ الْبَعْضَ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ فِي الِانْقِطَاعِ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ : التَّجْزِيءَ فِي الْإِطْعَامِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ أَصْلًا ، حَتَّى لَوْ جَامَعَ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ مَثَلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا سَبَقَ ، وَالْكِتَابُ أَقْوَى وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً فَعَمِلَ بِهِ وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الْحَدِيثِ فَعَمِلَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى

مَا قَرَّرْنَاهُ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ قُبَيْلَ هَذَا : وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا إلَخْ .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ ) قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُمْ الْمُلَاصِقُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَقَوْلُهُ قِيَاسٌ لِأَنَّ الْجَارَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا الْجِوَارِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَرَفَهُ إلَى الْجَمِيعِ يُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ جِيرَانًا عُرْفًا ، وَقَدْ تَأَيَّدَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } " وَفَسَّرَهُ بِكُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ وَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْجِوَارُ إلَى أَرْبَعِينَ دَارًا بَعِيدٌ ، وَمَا يُرْوَى فِيهِ ضَعِيفٌ .
قَالُوا : وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ الذِّمِّيُّ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ السَّاكِنُ عِنْدَهُ لِإِطْلَاقِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ ) إنَّمَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَمَّا تَقَدَّمَهُ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْبَابِ ذِكْرَ أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَهُ ذِكْرُ أَحْكَامِهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ ، وَالْخُصُوصُ أَبَدًا يَتْلُو الْعُمُومَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ ) كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّمَ وَصِيَّةَ الْأَقَارِبِ نَظَرًا إلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَأَنْ يُقَالَ فَعَلَ ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِأَمْرِ الْجَارِ ( قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ ) يَعْنِي لِعَدَمِ دُخُولِ جَارِ الْمَحَلَّةِ وَجَارِ الْقَرْيَةِ وَجَارِ الْأَرْضِ صُرِفَ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ ) قِيلَ : حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْمَحَلَّةِ مَسْجِدَانِ صَغِيرَانِ مُتَقَارِبَانِ فَالْجَمِيعُ جِيرَانٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا يُرْوَى فِيهِ ضَعِيفٌ ) يَعْنِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْجَارُ أَرْبَعُونَ دَارًا ، هَكَذَا وَهَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ } إشَارَةً إلَى الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا خَبَرٌ لَا يُعْرَفُ رَاوِيهِ ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : هَذَا إنْ صَحَّ كَانَ نَصًّا فِي الْبَابِ وَقَدْ طَعَنَ فِي رَاوِيهِ ( قَالُوا : وَيَسْتَوِيَ فِيهِ السَّاكِنُ ، وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ ) قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ : وَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَدْخُلَ السُّكَّانُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْجِيرَانِ الْمُتَلَاصِقِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ الْمَسْكَنَ ، وَمَنْ كَانَ مَالِكًا وَلَمْ يَكُنْ سَاكِنًا لَا يَدْخُلُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ شَاهْوَيْهِ : هَذِهِ كرخدانية مِنْ مُحَمَّدٍ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بَنَى هَذَا الْحُكْمَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَهُوَ الْمُلَّاكُ .
وَأَقُولُ : يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا يَدْخُلَ الذِّمِّيُّ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا

يَضُمُّهُ إلَّا إذَا أُرِيدَ بِاتِّحَادِ الْمَسْجِدِ سَمَاعُ الْأَذَانِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ ) لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ أَعْتَقَ كُلَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إكْرَامًا لَهَا } " وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْهَارَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَهَذَا التَّفْسِيرُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْكُلَّ أَصْهَارٌ .
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمَرْأَةُ فِي نِكَاحِهِ أَوْ فِي عِدَّتِهِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَالصِّهْرُ يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِن لَا يَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّ بَقَاءَ الصِّهْرِيَّةِ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَوْتِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ ) أَيْ : لِأَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ .
قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الْأَصْهَارُ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : وَهَذَا التَّفْسِيرُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ ؛ لِأَنَّ الصِّهْرَ فِي اللُّغَةِ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْخَتْنِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا ) يَعْنِي : وَإِنْ وَرِثَتْ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَخْتَانِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجِ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَكَذَا مَحَارِمُ الْأَزْوَاجِ ) لِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى خَتَنًا .
قِيلَ هَذَا فِي عُرْفِهِمْ .
وَفِي عُرْفِنَا لَا يَتَنَاوَلُ الْأَزْوَاجُ الْمَحَارِمَ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ .
لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَخْتَانِهِ ) يَعْنِي : أَنَّ الْأَخْتَانَ تُطْلَقُ عَلَى أَزْوَاجِ الْمَحَارِمِ كَزَوْجِ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَغَيْرِهَا ، وَعَلَى مَحَارِمِ الْأَزْوَاجِ ، فَيَكُونُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَزْوَاجِ الْمَحَارِمِ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كُلُّهُمْ فِي قِسْمَةِ الثُّلُثِ سَوَاءً .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ فَهِيَ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ : الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ ) وَهُوَ أَوَّلُ أَبٍ أَسْلَمَ أَوْ أَوَّلُ أَبٍ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ .
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُسْلِمْ .
لَهُمَا أَنَّ الْقَرِيبَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ فَيَنْتَظِمُ بِحَقِيقَةِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ .
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ اثْنَانِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَلَاقِي مَا فَرَطَ فِي إقَامَةِ وَاجِبِ الصِّلَةِ وَهُوَ يَخْتَصُّ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ أَقْرِبَاءَ ، وَمَنْ سَمَّى وَالِدَهُ قَرِيبًا كَانَ مِنْهُ عُقُوقًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرِيبَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ غَيْرِهِ ، وَتَقَرُّبُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ ، فَعِنْدَهُ يُقَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَعِنْدَهُمَا بِأَقْصَى الْأَبِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْأَبِ الْأَدْنَى .
.

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ ) يَعْنِي تَصَرَّفَ إلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَارِثِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي آلِ أَبِي طَالِبٍ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُوصِيَ إذَا كَانَ عَلَوِيًّا فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقْصَى الْأَبِ عَلِيٌّ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْلَادُ عَقِيلٍ وَجَعْفَرٍ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَقْصَى الْأَبِ أَبُو طَالِبٍ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ عَقِيلٍ وَجَعْفَرٍ ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ الْقَرِيبَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَتْرُوكًا بِالْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِ ( فَإِنَّ عِنْدَهُ ) أَيْ : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( يُقَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ بِالْقُيُودِ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( وَعِنْدَهُمَا بِأَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْأَبِ الْأَدْنَى ) وَمَا كَانَ مَتْرُوكًا بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ لَا مَحَالَةَ .

قَالَ ( وَإِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَلَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ فَالْوَصِيَّةُ لِعَمَّيْهِ ) عِنْدَهُ اعْتِبَارٌ لِلْأَقْرَبِ كَمَا فِي الْإِرْثِ ، وَعِنْدَهُمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا إذْ هُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْأَقْرَبَ ( وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَخَالَيْنِ فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمِيعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِذِي قَرَابَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْعَمِّ كُلُّ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَرْدِ فَيُحْرِزُ الْوَاحِدُ كُلَّهَا إذْ هُوَ الْأَقْرَبُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ الثُّلُثُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَعَمَّةً وَخَالًا وَخَالَةً فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ قَرَابَتِهِمَا وَهِيَ أَقْوَى ، وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَرِيبُ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقْرِبَائِهِ أَوْ لِأَنْسِبَائِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَفْظُ جَمْعٍ ، وَلَوْ انْعَدَمَ الْمَحْرَمُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا الْوَصْفِ .
قَالَ : وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَهِيَ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَعُولُهُمْ وَتَضُمُّهُمْ نَفَقَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } وَلَهُ أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ حَقِيقَةٌ فِي الزَّوْجَةِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ .
قَالَ : وَلَوْ أَوْصَى لِآلِ فُلَانٍ فَهُوَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْآلُ الْقَبِيلَةُ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلُ الْبَيْتِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ نَسَبِهِ أَوْ لِجِنْسِهِ فَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ

يُنْسَبُ إلَيْهِ ، وَالنَّسَبُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ ، وَجِنْسُهُ أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ ، بِخِلَافِ قَرَابَتِهِ حَيْثُ تَكُونُ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ وَالْأَبِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ بَنِي فُلَانٍ أَوْ لِعُمْيَانِهِمْ أَوْ لِزَمْنَاهُمْ أَوْ لِأَرَامِلِهِمْ إنْ كَانُوا قَوْمًا يُحْصَوْنَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فُقَرَاؤُهُمْ وَأَغْنِيَاؤُهُمْ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّمْلِيكِ فِي حَقِّهِمْ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ .
وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ فِي الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ الْقُرْبَةُ وَهِيَ فِي سَدِّ الْخَلَّةِ وَرَدِّ الْجَوْعَةِ .
وَهَذِهِ الْأَسَامِي تُشْعِرُ بِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِشُبَّانِ بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أَوْ لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ حَيْثُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَتَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصَايَا عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْإِنَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ خَاصَّةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْمِ لِلذُّكُورِ وَانْتِظَامُهُ لِلْإِنَاثِ تَجَوُّزٌ وَالْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَنُو فُلَانٍ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ فَخِذٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرَادُ بِهَا أَعْيَانُهُمْ إذْ هُوَ مُجَرَّدُ الِانْتِسَابِ كَبَنِي آدَمَ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَحُلَفَاؤُهُمْ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَلَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ ) يَعْنِي : وَلَهُ وَلَدٌ يُحْرَزُ مِيرَاثُهُ فَالثُّلُثُ لِعَمَّيْهِ ، وَهَذَا إلَى آخِرِهِ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ مِنْ الْقُيُودِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْعَمُّ اثْنَيْنِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا إذَا انْفَرَدَ كَانَ لَهُ النِّصْفُ أَيْضًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي هَذَا جَعَلَ عَدَمَ الْمُزَاحِمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُزَاحِمِ حَيْثُ قَالَ : إذَا كَانَ مَعَهُ عَمٌّ آخَرُ كَانَ لَهُ النِّصْفُ ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَمٌّ آخَرُ .
وَحِينَئِذٍ كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ عَمٌّ وَاحِدٌ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَمَّانِ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ : يَجِبُ لَهُ الرُّبُعُ أَوْ الْخُمُسُ عِنْدَ انْفِرَادِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَعْمَامٍ وَهَلُمَّ جَرًّا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجُمُوعِ كُلِّهَا سَاقِطٌ لِتَعَذُّرِهِ ، فَتَعَيَّنَ أَدْنَى مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ وَهُوَ الِاثْنَانِ لِتَيَقُّنِهِ ، وَالْعَمُّ الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ مَالِهِمَا ، وَإِذَا أَخَذَ الْعَمُّ النِّصْفَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ الثُّلُثِ لِلْخَالَيْنِ وَفِي قَوْلِهِمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ أَقْوَى ) أَيْ قَرَابَةُ الْعُمُومَةِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْخُئُولَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْعَمَّةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْعُصُوبَةَ وَيُقَدَّمُ الْعَمُّ عَلَى الْأَخْوَالِ بِسَبَبِهَا فَلَمْ تَكُنْ قَرَابَتُهَا أَقْرَبَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلْوَصِيَّةِ وَمُسَاوِيَةٌ لِلْعَمِّ فِي

الدَّرَجَةِ ، وَعَدَمُ اسْتِحْقَاقِهَا الْعُصُوبَةَ وَصْفٌ قَامَ بِهَا وَهُوَ الْأُنُوثَةُ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مُسَاوَاتِهَا الْعَمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كَالْعَمِّ الرَّقِيقِ أَوْ الْكَافِرِ لِمَا أَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ لِوَصْفٍ قَامَ بِهِ لَا لِضَعْفٍ فِي الْقَرَابَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنْسِبَائِهِ ) الْأَنْسِبَاءُ جَمْعُ النَّسِيبِ وَهُوَ الْقَرِيبُ كَالْأَنْصِبَاءِ فِي جَمْعِ النَّصِيبِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي مِنْ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَهِيَ عَلَى زَوْجَتِهِ ) الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ فُلَانٍ تَنْصَرِفُ إلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَضُمُّ نَفَقَةَ فُلَانٍ مِنْ الْأَحْرَارِ عِنْدَهُمَا اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ الْمُؤَيَّدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الزَّوْجَ خَاصَّةً ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلَّا امْرَأَتَهُ } وَلَهُ أَنَّ الْأَهْلَ فِي الزَّوْجَةِ حَقِيقَةً يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } فَلَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهَا مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا .
قِيلَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ { اُمْكُثُوا } " وَالْمَرْأَةُ لَا تُخَاطَبُ بِذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ ، أَوْ أَقَارِبِهَا مِمَّنْ ضَمَّتْهُمْ نَفَقَتُهُ ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَرِقَّاءِ أَحَدٌ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
عَلَى أَنَّ الْحَقَائِقَ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهَا السَّمَاعُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَإِنَّمَا اُسْتُشْهِدَ بِالْآيَةِ تَأْنِيسًا .
فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ مَا فِي لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْحَقِيقَةِ لَا يُنَافِي مَطْلُوبَهُ كَالْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّا بِهَا ، وَقَوْلُهُ فُلَانٌ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا هُوَ الْمَسْمُوعُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ

يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ ) فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ جِنْسِ قُرَيْشٍ ، وَأَوْلَادُ الْخُلَفَاءِ صَلَحُوا لِلْخِلَافَةِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ الْإِمَاءِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ دُونَ عَشِيرَةِ الْأُمِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ فُلَانٍ ) الْيَتِيمُ اسْمُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ الْحُلُمِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } وَالْعُمْيَانُ وَالزَّمْنَى مَعْرُوفَةٌ ، وَالْأَرْمَلُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، مِنْ أَرْمَلَ إذَا افْتَقَرَ مِنْ الرَّمَلِ كَأَدْقَعَ مِنْ الدَّقْعَاءِ وَهِيَ التُّرَابُ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : الْأَرْمَلُ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ هُوَ الْأَوَّلُ حَيْثُ قَالَ : ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّعْبِيِّ .
فَإِذَا أَوْصَى لِهَؤُلَاءِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا يُحْصَوْنَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وُجِدَ الْإِحْصَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي الْإِحْصَاءِ إلَى كِتَابٍ وَلَا حِسَابٍ ، فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَهُوَ الْأَيْسَرُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فُقَرَاؤُهُمْ وَأَغْنِيَاؤُهُمْ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَتَحْقِيقُ التَّمْلِيكِ فِيهِمْ مُمْكِنٌ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِشُبَّانِ بَنِي فُلَانٍ وَهْم لَا يُحْصَوْنَ ، أَوْ لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهْم لَا يُحْصَوْنَ حَيْثُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ ، وَالْفَقِيرِ وَهَلْ يَدْخُلُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي الْأَيَامَى دُخُولَهُ فِي الْأَرَامِلِ أَوْ لَا ؟ قَالَ الْكَرْخِيُّ .

يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّ الْأَيِّمَ هِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا أَوْ يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ أَيْضًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْأَيِّمُ هِيَ الثَّيِّبُ خَاصَّةً ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مُحْتَمَلٌ ، وَالظَّاهِرُ دُخُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَرَامِلِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الشُّبَّانِ وَالْأَيَامَى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَقِيرِ حَتَّى يُصْرَفَ إلَى الْفُقَرَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ فَبَطَلَتْ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : الْغُلَامُ مَا كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَالْفَتَى مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفَوْقَ ذَلِكَ .
وَالْكَهْلُ إذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَزَادَ عَلَيْهِ ، وَمَا بَيْنَ خَمْسِينَ إلَى سِتِّينَ إلَى أَنْ يَغْلِبَ الشَّيْبُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شَيْخًا .
وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْجَمْعِ ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصَايَا عَلَى مَا مَرَّ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ ) يَعْنِي إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ مَفْهُومَهُ الْإِضَافِيَّ أَوْ يَكُونَ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ فَخِذٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْإِنَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَدْخُلُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْإِنَاثُ مُنْفَرِدَاتٍ فَلَا تَدْخُلُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الِاسْمِ وَانْتِظَامَهُ الْإِنَاثَ تَجُوزُ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الِانْتِسَابِ لِبَنِي آدَمَ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَحُلَفَاؤُهُمْ يَقْسِمُ الْوَصِيُّ بَيْنَ مَنْ يَقْدِرُ

عَلَيْهِمْ مِنْ فُقَرَائِهِمْ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُ الْكُلَّ انْتِظَامًا وَاحِدًا .قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ ) وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَبًا خَاصًّا أَوْ فَخِذًا ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتْ الْأَوْلَادَ دُونَ أَوْلَادِهِمْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالِاخْتِلَاطِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الصُّلْبِيَّ كُلَّهُ انْتِظَامًا وَاحِدًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ مَجَازًا لَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مِنْ الصُّلْبِ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ ، وَأَوْلَادُ الْأَبْنَاءِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ رِوَايَتَانِ ، هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِوَلَدِ فُلَانٍ تَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ وَوَلَدَ الْوَلَدِ ، فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } قَالَ الْقُدُورِيُّ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ وَذَكَرَ فِيهِ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ يَدْخُلُونَ وَإِنْ كَانَ الصُّلْبِيُّ قَائِمًا ؛ لِأَنَّ فُلَانًا إذَا كَانَ فَخِذًا فَبَنُوهُ وَبَنَاتُهُ لَا تَخْلُو عَنْ الْأَوْلَادِ عَادَةً فَتَكُونُ مُرَادَةً فَتَدْخُلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَبًا خَاصًّا فَإِنَّ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ قَدْ تَخْلُو عَنْ الْأَوْلَادِ فَلَا تَكُونُ مُرَادَةً .

( وَمَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى لَفْظِ الْوَرَثَةِ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ قَصْدَهُ التَّفْضِيلَ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ .
وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : إنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ جَمِيعًا ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى يُصَالِحُوا .
لَهُ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُسَمَّى مَوْلًى فَصَارَ كَالْإِخْوَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِي فِيهِ ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَنْ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْمِ قَبْلَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَازِمٌ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عَبْدٌ قَالَ لَهُ مَوْلَاهُ إنْ لَمْ أَضْرِبْك فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عِنْدَ تَحَقُّقِ عَجْزِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ وَأَوْلَادُهُ مَوَالٍ وَمَوَالِي مُوَالَاةٍ يَدْخُلُ فِيهَا مُعْتَقُوهُ وَأَوْلَادُهُمْ دُونَ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَيْضًا وَالْكُلُّ شُرَكَاءُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ .
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ ، فِي الْمُعْتَقِ الْإِنْعَامُ ، وَفِي الْمَوَالِي عَقْدُ الِالْتِزَامِ وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ فَكَانَ الِاسْمُ لَهُ أَحَقَّ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَوَالِي الْمَوَالِي لِأَنَّهُمْ مَوَالِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً ، بِخِلَافِ مَوَالِيهِ

وَأَوْلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِإِعْتَاقٍ وُجِدَ مِنْهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقٍ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، وَإِنَّمَا يُحْرِزُ مِيرَاثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ ) مَبْنَاهُ عَلَى جَوَازِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ ، وَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُ ذَلِكَ فَأَجَازَ هَذَا ، وَأَصْحَابُنَا مَا جَوَّزُوهُ وَكَذَلِكَ هَذَا ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَكِنْ لَا عَلَى جَوَازِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مُتَوَاطِئٍ كَالْإِخْوَةِ عَلَى بَنِي الْأَعْيَانِ وَبَنِي الْعِلَّاتِ وَبَنِي الْأَخْيَافِ ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِخْوَةِ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ اشْتِمَالُ صُلْبِ الْأَبِ أَوْ الرَّحِمِ عَلَيْهِمْ ، وَمَعْنَى الْمَوْلَى لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ مَعْنَى الْأَعْلَى مُنْعِمٌ وَمَعْنَى الْأَسْفَلِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ ، فَكَانَ فِي أَحَدِهِمَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَفِي الْآخَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ إنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ) احْتِرَازٌ عَنْ صُورَةِ النَّفْيِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا ، عَلَى أَنْ لَا عُمُومَ لِلْمُشْتَرَكِ لَا فِي النَّفْيِ وَلَا فِي الْإِثْبَاتِ .
وَأَجَابُوا عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِتَرْكِ الْكَلَامِ مَعَ الْمَوْلَى مُطْلَقًا لَيْسَ لِوُقُوعِهِ فِي النَّفْيِ بَلْ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ بُغْضُهُ وَهُوَ غَيْرُهُ مُخْتَلِفٌ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى كَالشَّيْءِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ لَكِنَّ حُكْمَهُ التَّوَقُّفُ فَكَيْفَ قَالَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ الْبَيَانِ وَالتَّوَقُّفُ فِي مِثْلِهِ لَا يُفِيدُ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّرْجِيحُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مُمْكِنٌ وَهُوَ أَنْ تُصْرَفَ الْوَصِيَّةُ إلَى الْمَوْلَى الَّذِي أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ وَأَمَّا فَضْلُ الْإِنْعَامِ فِي حَقِّ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ فَمَنْدُوبٌ ،

وَالصَّرْفُ إلَى الْوَاجِبِ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْمَنْدُوبِ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِهَذَا الْمَعْنَى .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِجِهَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِوَصِيَّةِ ثُلُثِ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ ، وَالْغَالِبُ فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ الْفَقْرُ ، وَفِي الْأَعْلَى الْغِنَى ، وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِهَذَا الْمَعْنَى .
وَلَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْمَوْلَى الْأَعْلَى فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ .
وَيَدْخُلُ فِيهَا الْمُعْتَقُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الشَّيْءِ لَا بِالْعِلِّيَّةِ يَعْقُبُهُ وُجُودًا ، وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثُ كَذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ اسْمِ الْمَوْلَى قَبْلَ الْمَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ ( لَازِمٌ ) أَيْ : ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ بِالْإِحْيَاءِ الْحَاصِلِ بِالْعِتْقِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ ( وَيَدْخُلُ فِيهِ ) أَيْ : فِي هَذَا الْإِيصَاءِ : يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ عَبْدٌ قَالَ لَهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَلَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ وَأَوْلَادُ الْمَوَالِي وَمَوَالِي الْمُوَالَاةِ دَخَلَ مُعْتَقُوهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَأَوْلَادُهُمْ ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُمْ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ الَّذِي بَاشَرَ فِي آبَائِهِمْ ، وَالْفُرُوعُ أَجْزَاءُ الْأُصُولِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةً فِيهِمْ كَمَا فِي أُصُولِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْمَوْلَى عَنْهُمْ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَأَوْلَادِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَنْ الْفُرُوعِ صَحِيحٌ حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَيْسُوا بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّمَا

هُمْ بَنُو بَنِيهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ : يَعْنِي مَوَالِي الْمُوَالَاةِ يَدْخُلُونَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : لَمَّا كَانَتْ الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةً وَجَبَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ كَالْمَوْلَى الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا إذَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهَاهُنَا قَرِينَةٌ تُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا ، وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْإِعْتَاقِ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَسَبَبُهُ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مَوَالِي مُوَالَاةٍ كَانَ الثُّلُثُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا لَمْ تُمْكِنْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ ( وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ) وَحُكْمُ وَلَدِ الْمُعْتَقِ حُكْمُ الْمُعْتَقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْمَوَالِي لِأَوْلَادِ الْمَوَالِي حَقِيقَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ ) أَيْ : فِيمَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ ( مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ) هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُطَابِقُ ذَلِكَ دُونَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هُوَ أَنْ يُبَاشِرَ إعْتَاقَ مَمْلُوكٍ فَيَصِيرَ بِهِ مَوْلًى عَنْهُ ، وَالْمَجَازَ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِإِعْتَاقِ مَمْلُوكٍ فَيُعْتِقُ ذَلِكَ الْمُعْتِقُ مَمْلُوكًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأَبِ وَالِابْنِ فِعْلُ الْإِعْتَاقِ وَلَا تَسْبِيبُهُ ، فَقُلْنَا : إنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَرَى لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ مَوَالٍ لَهُ حَقِيقَةً

.
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يُحْرَزُ مِيرَاثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَوَالِيَ أَبِيهِ تَدْخُلُ إذَا مَاتَ أَبُوهُ وَوَرِثَ وَلَاءَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مَوَالِيهِ حُكْمًا وَلِهَذَا يُحْرِزُ مِيرَاثَهُمْ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إحْرَازَهُ الْمِيرَاثَ مَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ مَوَالٍ لَهُ ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ عَصَبَةَ الْمُعْتَقِ مَقَامَ الْمُعْتَقِ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَا يُورَثُ ، نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ قَالَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ } وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الِانْتِقَالِ فَكَانَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْمُعْتَقِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِيضَاحِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ مَوَالٍ الْمَوَالِي وَبَيْنَ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ أَبُوهُ ، أَوْ ابْنُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّسْخَةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ أَيْضًا ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْمُعْتَقِ ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ بَعْدُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمَوْلَى عِنْدَ قِيَامِ الْكِتَابَةِ .
وَعِنْدَهُمَا إنْ نُسِبَ إلَيْهِ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ حَقِيقَةً فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ النُّسْخَةَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ بِإِثْبَاتِ لَفْظَةِ ابْنِهِ ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ فَجَعَلَهُ مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ابْنُهُ ، وَمَعْنَاهُ فَإِنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَاهُ حَقِيقَةً ، بِخِلَافِ مَوَالِي الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَوَالِيَهُ أَصْلًا ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا ؛ لِأَنَّ مُعْتَقَ

الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمَوْلَى عِنْدَ تَمَامِ الْكِتَابَةِ ، وَهَذَا فِيهِ تَصْحِيحُ نُسْخَةِ الْكِتَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ الْإِيرَادُ عَلَى مَذْهَبِهَا خَاصَّةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً وَتَجُوزُ بِذَلِكَ أَبَدًا ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِبَدَلٍ وَغَيْرِ بَدَلٍ ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ ، وَيَكُونُ مَحْبُوسًا عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ ، وَتَجُوزُ مُؤَقَّتًا وَمُؤَبَّدًا كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ عَلَى أَصْلِنَا ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ خِلَافُهُ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُوَرِّثُ وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرْضٌ لَا يَبْقَى ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا وَالْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا .
قَالَ ( فَإِنْ خَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ إلَيْهِ لِيَخْدُمَهُ ) لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الثُّلُثِ لَا يُزَاحِمُهُ الْوَرَثَةُ ( وَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثُّلُثِ وَحَقَّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَلَا تُمْكِنُ قِسْمَةُ الْعَبْدِ أَجْزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصِرْنَا إلَى الْمُهَايَأَةِ إيفَاءً لِلْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الدَّارِ إذَا كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ حَيْثُ تُقَسَّمُ عَيْنُ الدَّارِ ثَلَاثًا لِلِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ أَعْدَلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا زَمَانًا وَذَاتًا ، وَفِي الْمُهَايَأَةِ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا زَمَانًا .
وَلَوْ اقْتَسَمُوا الدَّارَ مُهَايَأَةً مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ تَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ أَوْلَى ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ثُلُثَيْ الدَّارِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ

لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِمْ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَكَذَا لَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ إذَا خَرِبَ مَا فِي يَدِهِ .
وَالْبَيْعُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ ذَلِكَ فَمَنَعُوا عَنْهُ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إلَى الْوَرَثَةِ ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ مَرْضَاتِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَنَافِعِ ، وَأَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْأَعْيَانِ وُجُودًا فَأَخَّرَهَا عَنْهَا وَضْعًا .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَيُفِيدُ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِرْثِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعْتَمِدُ التَّمْلِيكَ وَالْمَنَافِعُ تَقْبَلُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ ( فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُزِيلُهَا وَالْإِرْثُ خِلَافُهُ ( فِيمَا يَمْلِكُهُ الْمُورَثُ وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى ) وَإِذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ جَازَتْ بِغَلَّتِهِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهَا فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا ( وَالْمَعْنَى ) وَهُوَ الْحَاجَةُ ( يَشْمَلُهَا ) يَعْنِي الْمَنْفَعَةَ وَالْغَلَّةَ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ خَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ ) فِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِشَخْصٍ فَإِمَّا أَنْ قَالَ أَبَدًا أَوْ جَعَلَ ذَلِكَ زَمَانًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ، وَخَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ تَخْرُجْ وَلَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ يُسَلَّمُ إلَيْهِ لِيَخْدُمَهُ وَإِنْ لَمْ تُجِزْهُ الْوَرَثَةُ خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا أَنَّ عَيَّنَ سَنَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ ، فَإِنْ عَيَّنَ وَمَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ مُضِيِّ الْبَعْضِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّهَا ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَى الْمُوصَى لَهُ

حَتَّى يَسْتَوْفِيَ وَصِيَّتَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ أَوْ لَا يَخْرُجُ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ يُسَلَّمُ الْعَبْدُ إلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَخْدِمَهُ سَنَةً كَامِلَةً ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى خِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ سَنَةً فَإِنَّ لَهُ ثُلُثَ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إلَى الْوَرَثَةِ ) إذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ الْمُوصَى بِهِ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، فَلَوْ انْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ( ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمِيرَاثَ خِلَافُهُ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُورَثُ ، وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ مُرَاضَاةِ الْمَالِكِ لَا يَجُوزُ .

( وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ ) لِأَنَّ إيجَابَهَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ فَاسْتَخْدَمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ سَكَنَهَا بِنَفْسِهِ قِيلَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ كَعَيْنِهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا ، وَهَذَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَمُتَفَاوِتَانِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ يُمْكِنُهُمْ أَدَاؤُهُ مِنْ الْغَلَّةِ بِالِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ بَعْدَ اسْتِغْلَالِهَا وَلَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا بِعَيْنِهَا ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا مِنْ غَيْرِهِ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ لِأَنَّهَا كَالْأَعْيَانِ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ بِبَدَلٍ اعْتِبَارًا بِالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ عَلَى أَصْلِنَا ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ ، كَذَا هَذَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ لَازِمٌ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ وَالْأَكْثَرَ بِالْأَقَلِّ ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ غَيْرُ لَازِمٍ إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ لِلْمُتَبَرِّعِ لَا لِغَيْرِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَلِهَذَا انْقَطَعَ ، أَمَّا هُوَ فِي وَضْعِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا وَفِي تَمْلِيكِهَا بِالْمَالِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ

الْوِلَايَةُ لِمَنْ يَمْلِكُهَا تَبَعًا لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، أَوْ لِمَنْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا ، أَمَّا إذَا تَمَلَّكَهَا مَقْصُودَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَلَّكَهُ مَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَأَهْلُهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَيُخْرِجُهُ إلَى أَهْلِهِ لِلْخِدْمَةِ هُنَالِكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مَقْصُودِ الْمُوصِي ، فَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ فِيهِ بِدُونِ أَنْ يَلْزَمَهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ ، وَإِذَا كَانُوا فِي غَيْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدُمَهُمْ .

وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ ( فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ ) الْوَصِيَّةُ ( لِأَنَّ إيجَابَهَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي فَصْلِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ جَوَازِ الْإِقْرَارِ وَبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ ( وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ ) فَاسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ الْمُوصِي بِغَلَّتِهِ الْمُوصَى لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ سَكَنَ الدَّارَ الْمُوصِي بِغَلَّتِهَا بِنَفْسِهِ .
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ ) وَاضِحٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا ( قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الْمَعْنَى رَاجِعٌ إلَى الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مَا فَوْقَهُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ لِلْمُتَبَرِّعِ لَا لِغَيْرِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ ابْتِدَاءً لَكِنَّهَا تَصِيرُ لَازِمَةً بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ قَبُولِهَا الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْوَصِيَّةُ فِي وَضْعِهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ، وَانْقِطَاعُ الرُّجُوعِ بِمَوْتِ الْمُوصِي مِنْ الْعَوَارِضِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا لَا يَجُوزُ ) يَعْنِي بِنَاءً عَلَى مَا قَالَ ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِإِجَارَةِ الْحُرِّ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ رَقَبَتِهِ لَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِبَدَلٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَصِيَّةِ ، فَمُرَادُهُ بِالْمَنْفَعَةِ مَنْفَعَةٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا ، وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ ( إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا لَمْ يَخْرُجْ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِخْرَاجُ إلَى أَهْلِهِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانُوا فِي غَيْرِهِ ) أَيْ فِي غَيْرِ مِصْرِ الْمُوصِي .

وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ ، كَيْفَ وَأَنَّهُ عَيْنٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَغِلُّ ثُلُثَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ وَلِلشَّرِيكِ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ : الْمُطَالَبَةُ بِالْقِسْمَةِ تُبْتَنَى عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُوصَى لَهُ فِيمَا يُلَاقِيهِ الْقِسْمَةُ إذْ هُوَ الْمُطَالِبُ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ الدَّارِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْغَلَّةِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِقِسْمَةِ الدَّارِ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا عَطْفًا مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ .
ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ، فَلَوْ لَمْ يُوصِ فِي الرَّقَبَةِ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ مَعَ كَوْنِ الْخِدْمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ ، إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَلَهَا نَظَائِرُ ، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلِآخَرَ بِفَصِّهِ ، أَوْ قَالَ هَذِهِ الْقَوْصَرَةُ لِفُلَانٍ وَمَا فِيهَا مِنْ التَّمْرِ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا أَوْصَى ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الظَّرْفِ فِي الْمَظْرُوفِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ

كُلِّهَا ، أَمَّا إذَا فَصَلَ أَحَدُ الْإِيجَابَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِيهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِيجَابِهِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إيجَابُ الْأَمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا دُونَ الْوَلَدِ ، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي فَكَانَ الْبَيَانُ الْمَفْصُولُ فِيهِ وَالْمَوْصُولُ سَوَاءً كَمَا فِي وَصِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ .
وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا .
وَاسْمُ الْقَوْصَرَةِ كَذَلِكَ ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي مُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ بِإِيجَابٍ عَلَى حِدَةٍ فَيُجْعَلُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ لِلثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلثَّانِي بِالْخَاتَمِ ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ مَعَ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ بِحُكْمِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِذَا أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ لِغَيْرِهِ لَا يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ ) قَدْ عُلِمَ جَوَازُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ ) يَعْنِي إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ عَبْدِهِ سَنَةً ، وَتَذْكِيرُ الضَّمَائِرِ إمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَالِ أَوْ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ تُعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِهِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخِدْمَةِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ صِرْنَا إلَى قِسْمَةِ اسْتِيفَاءِ الْخِدْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ إلَى مَا يُسْتَوْفَى خِدْمَتُهُ سَنَةً كَامِلَةً كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ ) ظَاهِرٌ إلَى قَوْلِهِ ( عَطْفًا مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ) وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ قَوْلَهُ ، وَالْآخَرُ بِرَقَبَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ ( فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَالَةُ ) يُرِيدُ حَالَةَ الْعَطْفِ ( بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ ) أَيْ بِحَالَةِ انْفِرَادِ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ) كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ : يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ مُنْفَرِدَةً كَانَتْ الرَّقَبَةُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ ( وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ ) مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ ( فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ ) تَكُونُ الرَّقَبَةُ لَهُ وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا ( إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) ثُمَّ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِشَخْصٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ حَدَّ

الْخِدْمَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ ؛ لِأَنَّ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ تَنْمُو الْعَيْنُ وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْخِدْمَةَ صَارَ كَالْكَبِيرِ ، وَالنَّفَقَةُ فِي الْكَبِيرِ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِدْمَةُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ ، إذْ الْعَبْدُ لَا يَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ إلَّا بِهِ ، وَإِنْ أَبَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ رَدَّهُ إلَى مَنْ لَهُ الرَّقَبَةُ كَالْمُسْتَعِيرِ مَعَ الْمُعِيرِ ، وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَالْفِدَاءُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِدْمَةُ ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ بِالتَّطْهِيرِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّطْهِيرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهَا ) أَيْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( نَظَائِرُ ) وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ وَاضِحَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الظَّرْفِ ) وَهُوَ الْأَمَةُ وَالْخَاتَمُ وَالْقَوْصَرَّةُ ( فِي الْمَظْرُوفِ ) يَعْنِي الْوَلَدَ وَالْفَصَّ وَالتَّمْرَ ( فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا ) أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْإِيجَابَيْنِ مَوْصُولًا بِالْآخَرِ فَالِاتِّفَاقُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي وَصِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ ) فَإِنَّ الْمَوْصُولَ وَالْمَفْصُولَ فِيهِمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، وَتَأْخِيرُ تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِي الْكِتَابِ وَالْمَبْسُوطِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَحْدَهَا ، وَإِنْ قَالَ لَهُ ثَمَرَةُ بُسْتَانِي أَبَدًا فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَثَمَرَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَا عَاشَ ، وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الْغَلَّةُ الْقَائِمَةُ وَغَلَّتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الثَّمَرَةَ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ عُرْفًا فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ إلَّا بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ ، مِثْلُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبَدِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَبَّدُ إلَّا بِتَنَاوُلِ الْمَعْدُومِ وَالْمَعْدُومُ مَذْكُورٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا ، أَمَّا الْغَلَّةُ فَتَنْتَظِمُ الْمَوْجُودَ وَمَا يَكُونُ بِعَرَضِ الْوُجُودِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عُرْفًا ، يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَمِنْ غَلَّةِ أَرْضِهِ وَدَارِهِ ، فَإِذَا أُطْلِقَتْ يَتَنَاوَلُهُمَا عُرْفًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى .
أَمَّا الثَّمَرَةُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا الْمَوْجُودُ فَلِهَذَا يَفْتَقِرُ الِانْصِرَافُ إلَى دَلِيلٍ زَائِدٍ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ ) الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُوصِي بِهِ وَالتَّعَدِّي إلَى مَا يَحْدُثُ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : فِي وَجْهٍ : يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ مَا عَاشَ الْمُوصَى لَهُ ذَكَرَ الْأَبَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ كَالْوَصِيَّةِ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ أَوْ أَرْضِهِ أَوْ سُكْنَى دَارِهِ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدِهِ ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ فِيهَا جَارٍ عَلَى الْأَبَدِ ، وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَفِي وَجْهٍ : يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ دُونَ الْحَادِثِ ذَكَرَ الْأَبَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، كَالْوَصِيَّةِ بِالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالْوَلَدِ فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ بِوَجْهٍ مَا .
وَفِي وَجْهٍ : أَنَّ ذِكْرَ الْأَبَدِ يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ كَالْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَوْتِ تَنَاوَلَهَا ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقَعُ عَلَى الْحَادِثِ إلَى أَنْ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فَتَبْطُلُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْمُوصِي عَنْ الْإِلْغَاءِ ، وَالْمُصَنِّفُ حَمَلَ الْفَرْقَ بَيْنَ الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ عَلَى الْعُرْفِ فِيهِمَا ، ثُمَّ السَّقْيُ وَالْخَرَاجُ وَمَا فِيهِ صَلَاحُ الْبُسْتَانِ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْبُسْتَانِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ فِي فَصْلِ الْخِدْمَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ ) لِأَنَّهُ إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَئِذٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ ، إلَّا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ .
أَمَّا الْوَلَدُ الْمَعْدُومُ وَأُخْتَاهُ فَلَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَصْلًا ، وَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدٍ مَا ، فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ تَبَعًا وَبِعَقْدِ الْخُلْعِ مَقْصُودًا ، فَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا ) إلَى آخِرِ الْبَابِ وَاضِحٌ ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْمُصَنِّفِ مَا أَجْزَلَ تَرْكِيبَهُ وَأَحْسَنَ تَرْتِيبَهُ لَا يَرَى مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرٍ إلَّا وَتَرْكِيبُهُ أَوْفَى تَأْدِيَةً لَهُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِعَقْدِ الْخُلْعِ ) صُورَتُهُ أَنْ نَقُولَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِي أَوْ غَنَمِي صَحَّ وَلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَطْنِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَمْ يَضُرَّهُ ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ عَلَى حَمْلِ جَارِيَتِي وَلَيْسَ لَهَا حَمْلٌ تَرُدُّ الْمَهْرَ .

( بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ ) قَالَ ( وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ ) لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا .
قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ مُسَمِّينَ فَهُوَ الثُّلُثُ ) مَعْنَاهُ إذَا أَوْصَى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ .بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ أَعْقَبَ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِوَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ لِكَوْنِ الْكُفَّارِ مُلْحَقِينَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ ( وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ بِيعَةً أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ ) بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى اخْتِلَافِ التَّرْجِيحِ ، أَمَّا عِنْدَهُ ؛ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ ، فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ فَهَذَا أَوْلَى ( وَأَمَّا عِنْدَهُمَا ؛ فَلِأَنَّ هَذِهِ ) الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ فَلَا ( تَصِحُّ وَلَوْ أَوْصَى ) بِذَلِكَ أَيْ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُعْمَلَ بِيعَةٌ أَوْ كَنِيسَةٌ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ ( فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ ) وَلِلذِّمِّيِّ وِلَايَةُ التَّمْلِيكِ ( فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ ) أَيْ : تَصْحِيحُ إيصَائِهِ ( عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ ) يَعْنِي الِاسْتِخْلَافَ وَالتَّمْلِيكَ فَجَعَلْنَاهُ مِنْ الثُّلُثِ نَظَرًا إلَى الِاسْتِخْلَافِ فَجَوَّزْنَا ذَلِكَ نَظَرًا إلَى التَّمْلِيكِ ، وَإِذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ صَنَعُوا بِهِ مَا شَاءُوا

قَالَ ( وَإِنْ أَوْصَى بِدَارِهِ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَتَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً مَعْصِيَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ فَكَذَا عَكْسُهُ .
ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي .
وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُحَرَّرًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُورَثُ الْمَسْجِدُ أَيْضًا لِعَدَمِ تَحَرُّرِهِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَبَقِيَ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ فَلَا يُورَثُ .
ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا تَكُونَ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمَا إذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَنْ تُذْبَحَ خَنَازِيرُهُ وَتُطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهَذِهِ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ أَوْ

بِأَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِأَنْ يُسْرَجَ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ ، إلَّا إذَا كَانَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَمْلِيكًا لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ .
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُسْرَجَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يُغْزَى التَّرْكُ وَهُوَ مِنْ الرُّومِ ، وَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ أَيْضًا .
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَكُونُ قُرْبَةً لَا فِي حَقِّنَا وَلَا فِي حَقِّهِمْ ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلْمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَصِحُّ تَمْلِيكًا وَاسْتِخْلَافًا ، وَصَاحِبُ الْهَوَى إنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ فَهُوَ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ .

( وَإِنْ أَوْصَى أَنْ تُجْعَلَ دَارُهُ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ ) يَعْنِي قَوْمًا غَيْرَ مَحْصُورِينَ ( جَازَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هِيَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ ) فِي الْحَقِيقَةِ ( مَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ ؛ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِمُعْتَقَدِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَوْصَوْا بِالْحَجِّ لَمْ يُعْتَبَرْ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَوْا بِمَا هُوَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ عِبَادَةٌ صَحَّ وَإِنْ كَانَ عِنْدَنَا مَعْصِيَةً ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ .
قَالُوا : هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي الْقُرَى ، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ ، وَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ حَقِيقَةً ) بَلْ تُحَرَّرُ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ ( فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ ) وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيرِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ وَضْعٌ ) وَفِي قَوْلِهِ ( ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ ) وَقَوْلُهُ ( فَبَقِيَ عَلَى مُقْتَضَاهُ ) كُلُّهَا رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ .
وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ ، إلَّا أَنَّ لَفْظَهَا تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي مُعْتَقَدِهِمْ ، فَأَمَّا إذَا لَاقَتْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ فِيهِ عَمِلَتْ عَمَلَهَا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ إلَخْ ) وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يُرِيدُ بِهِ الْوَصِيَّةَ بِبِنَاءِ الْبِيعَةِ أَوْ

الْكَنِيسَةِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ الْخِلَافِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ ) أَيْ : مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ اعْتِقَادُهُمْ ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ .
( قَوْلُهُ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ ) يَعْنِي أَنَّ كَلَامَهُ فِي صَرْفِ الْمَالِ الْمُوصِي بِهِ إلَى اسْتِضَاءَةِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهَا خَرَجَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ وَقَوْلُهُ ( عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ ) يَعْنِي أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ وَإِلَّا فَلَا .

وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ .
قَالَ ( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلِهَذَا تَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِمْ ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذْ هُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّنَا ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أُخِذَتْ الْوَصِيَّةُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُسْتَأْمَنٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذْ هُوَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ وَيُمَكَّنُ مِنْهُ ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ زِيَادَةِ الْمُقَامِ عَلَى السَّنَةِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ .
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ .

وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ ) وَصَارَتْ كَالذِّمِّيَّةِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ عَلَى خِلَافِ هَذَا ، وَقَالَ : قَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَا يَصِحَّ مِنْهَا وَصِيَّةٌ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّمِّيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا ، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ الصَّحِيحُ وَهَاهُنَا الْأَصَحُّ وَهُمَا يَصْدُقَانِ ، وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْتَأْمَنٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ ) قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْوَرَثَةُ مَعَهُ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِمْ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) وَقَوْلُهُ ( وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا ) جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَرُدَّ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ قُلْت : لَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ الْبَاقِي .
وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَيْضًا مُرَاعَاةً لَحِقَ الْمُسْتَأْمَنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ تَسْلِيمَ مَالِهِ إلَى وَرَثَتِهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ مَا أَوْصَى بِهِ فَارِغٌ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .

وَلَوْ أَوْصَى لِخِلَافِ مِلَّتِهِ جَازَ اعْتِبَارًا بِالْإِرْثِ إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ .
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنَعٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) دَارُ الْإِسْلَامِ ظَرْفٌ لِأَوْصَى لَا لِقَوْلِهِ حَرْبِيٍّ : أَيْ لَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ : أَيْ لِلْمُسْتَأْمَنِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ ) قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَقَبِلَ الْوَصِيُّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي وَرَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فَلَيْسَ بِرَدٍّ ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَضَى مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَرَدٌّ رَدَّهُ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ( فَإِنْ رَدَّهَا فِي وَجْهِهِ فَهُوَ رَدٌّ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِهِ التَّصَرُّفَ ، وَلَا غُرُورَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ ( وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا ، فَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولُ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ لِصُدُورِهِ مِنْ الْوَصِيِّ ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْوِصَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّوْكِيلِ فَبَاعَ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِحَالِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوِرَاثَةِ .
أَمَّا التَّوْكِيلُ إنَابَةٌ لِثُبُوتِهِ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُنِيبِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ .
( وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَقَالَ لَا أَقْبَلُ ثُمَّ قَالَ أَقْبَلُ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا أَقْبَلُ لَا يَبْطُلُ الْإِيصَاءُ ، لِأَنَّ فِي إبْطَالِهِ

ضَرَرًا بِالْمَيِّتِ وَضَرَرُ الْوَصِيِّ فِي الْإِبْقَاءِ مَجْبُورٌ بِالثَّوَابِ ، وَدَفْعُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَعْلَى أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، إذْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ دَفْعِ الضَّرَرِ ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِبَقَاءِ الْوِصَايَةِ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي الضَّرَرَ عَنْهُ وَيُنَصِّبُ حَافِظًا لِمَالِ الْمَيِّتِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا يَنْفُذُ إخْرَاجُهُ ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْقَاضِي إيَّاهُ أَقْبَلُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ بَعْدَ بُطْلَانِ الْوِصَايَةِ بِإِبْطَالِ الْقَاضِي .

بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى إلَيْهِ وَهُوَ الْوَصِيُّ لِمَا أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا يَشْمَلُهُ ، لَكِنْ قَدَّمَ أَحْكَامَ الْمُوصَى لَهُ لِكَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا أَمَسَّ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ ) أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا ( فَقَبِلَ الْوَصِيُّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي ) أَيْ بِعِلْمِهِ ( وَرَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ ) أَيْ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوصِي ، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ ، إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ عِلْمُ الْمُوصِي لِيَتَدَارَكَ عِنْدَ رَدِّ الْمُوصِي ( فَلَيْسَ بِرِدَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَضَى لِسَبِيلِهِ ) أَيْ الْمُوصِي مَاتَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ بِغَيْرِهِ عَلِمَهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ إضْرَارٌ لَا يَجُوزُ فَيَرِدُ رَدُّهُ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْمُوصَى إلَيْهِ فِي أَنَّ قَبُولَ الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ قَبِلَهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي ثُمَّ رَدَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ صَحِيحًا ، بِخِلَافِ الثَّانِي عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْعَ الْأَوَّلِ بِالْوَصِيَّةِ لِنَفْسِهِ وَنَفْعَ الثَّانِي لِلْمُوصِي فَكَانَ فِي رَدِّهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ إضْرَارٌ بِهِ فَلَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ يَرْجِعُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَلَا ضَرَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَيُشِيرُ إلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ ) أَيْ : فِي غَيْبَتِهِ وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ ( ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ) فَإِنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ جَوَازِهِ عَدَمَ الضَّرَرِ كَمَا فِي رَدِّ الْمُوصَى لَهُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ مِنْ التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ

لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، وَنَقَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ ، حَتَّى لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيمَا نَقَلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : رِوَايَةُ عَامَّةِ الْكُتُبِ فِيمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، وَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ قِيلَ : وَسَبَبُهُ الْإِضْرَارُ بِتَغْرِيرِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا ) يَعْنِي كَمَنْ وَكَّلَ حَالَ حَيَاتِهِ ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَكِيلِ قَبُولٌ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً كَانَ بِالْخِيَارِ .
قِيلَ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَيَّرًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْإِيصَاءُ وَلَمْ يَرُدَّهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْمُوصِي وَلَمْ يُوصِ إلَى غَيْرِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِهِ وَالضَّرَرُ مَرْفُوعٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُوصِيَ مُغْتَرٌّ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ فَلَا يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ ثُمَّ رَدَّ فِي غَيْبَتِهِ فَإِنَّهُ غَارٌّ فَيَبْطُلُ اخْتِيَارُهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ ) بَيَانُهُ أَنَّ الْقَبُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحٌ يُخَالِفُهُ لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ )

مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ : وَمَنْ أَعْلَمَهُ النَّاسُ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ ، وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ : أَيْ الْوَاحِدُ فِيهِمَا يَكْفِي .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَقَالَ لَا أَقْبَلُ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا سَكَتَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ثُمَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ قَالَ لَا أَقْبَلُ ثُمَّ قَبِلَ فَهُوَ وَصِيٌّ إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ الْقَاضِي حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا أَقْبَلُ لَا يَبْطُلُ الْإِيصَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ؛ لِأَنَّ فِي إبْطَالِهِ مَضَرَّةً بِالْمَيِّتِ وَفِي إبْقَائِهِ ضَرَرٌ لِلْوَصِيِّ ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَعْلَى لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَجْبُورٍ بِشَيْءٍ وَالثَّانِي مَجْبُورٌ بِالثَّوَابِ ، وَدَفْعُ الْأَعْلَى مِنْ الضَّرَرِ أَوْلَى لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ : يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْهَا حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يَصِحُّ قَبُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَعْلِيلِ صِحَّةِ هَذَا الْإِخْرَاجِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْقَاضِي حَكَمٌ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ لَوْ صَحَّتْ بِقَبُولِهِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ وَيَصِحُّ الْإِخْرَاجُ فَهُنَا أَوْلَى ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ أَخْرَجَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ وَنَصَّبَ غَيْرَهُمْ ) وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يَكُونُ بَعْدَهَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ .
قِيلَ مَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ سَتَبْطُلُ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي الْعَبْدِ بَاطِلٌ حَقِيقَةً لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ ، وَفِي غَيْرِهِ مَعْنَاهُ سَتَبْطُلُ ، وَقِيلَ فِي الْكَافِرِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ .
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ ثُمَّ الْإِخْرَاجُ أَنَّ الْأَصْلَ النَّظَرُ ثَابِتٌ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ حَقِيقَةً ، وَوِلَايَةُ الْفَاسِقِ عَلَى أَصْلِنَا وَوِلَايَةُ الْكَافِرِ فِي الْجُمْلَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ النَّظَرُ لِتَوَقُّفِ وِلَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَجْرِ بَعْدَهَا وَالْمُعَادَاةِ الدِّينِيَّةِ الْبَاعِثَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاتِّهَامِ الْفَاسِقِ بِالْخِيَانَةِ فَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْوِصَايَةِ وَيُقِيمُ غَيْرَهُ مُقَامَهُ إتْمَامًا لِلنَّظَرِ .
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ مَخُوفًا عَلَيْهِ فِي الْمَالِ ، وَهَذَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي إخْرَاجِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ إلَخْ ) وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ أَوْ كَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ حَرْبِيٍّ أَوْ فَاسِقٍ أَخْرَجَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْوَصِيَّةِ وَنَصَّبَ غَيْرَهُمْ ، وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ يُشِيرُ إلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يَكُونُ بَعْدَ الصِّحَّةِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ أَصْلًا أَوْ مَعْنَاهُ سَيَبْطُلُ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّ مَعْنَاهُ سَيَبْطُلُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلُ التَّصَرُّفِ وَلِهَذَا جَازَ تَوْكِيلُهُ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَجْزُهُ عَنْ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الْمَيِّتِ مَظْنُونًا لِكَوْنِ مَنَافِعِهِ لِلْمَوْلَى وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بِهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْجِزُ الْعَبْدُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِالْوِصَايَةِ .
قُلْنَا : إنَّهَا سَتَبْطُلُ بِإِخْرَاجِ الْقَاضِي إيَّاهُ عَنْهَا ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ لَوْ قَاسَمَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ الْقَاضِي جَازَ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيصَاءَ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَا يَتَوَقَّى الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةَ فَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْعَبْدِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ ، فَقَوْلُهُ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا قَبْلَ الْإِجَازَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاسْتِبْدَادُهُ إلَى مَا بَعْدَهَا ) ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ مِنْهُ لِلْعَبْدِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا بَاطِلٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ .
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ ثَمَّ الْإِخْرَاجُ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ

ذَكَرْنَا بَعْضًا مِنْهُ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي إخْرَاجِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنَّمَا أَوْصَى إلَيْهِ لِيَنْظُرَ فِي مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَهُ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ ، وَبِالْخِيَانَةِ تَرْتَفِعُ الصِّيَانَةُ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْوِصَايَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ ) لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فَيَمْنَعَهُ الْمُشْتَرِي فَيَعْجِزُ عَنْ الْوَفَاءِ بِحَقِّ الْوِصَايَةِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا كُلُّهُمْ فَالْوَصِيَّةُ إلَيْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ، يَرْوِي مَرَّةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوِلَايَةَ مُنْعَدِمَةٌ لِمَا أَنَّ الرِّقَّ يُنَافِيهَا ، وَلِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذَا قَلْبُ الْمَشْرُوعِ ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ الصَّادِرَةَ مِنْ الْأَبِ لَا تَتَجَزَّأُ ، وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ تَجْزِئَتُهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ وَهَذَا نَقْضُ الْمَوْضُوعِ .
وَلَهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوِصَايَةِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ ، وَإِيصَاءُ الْمَوْلَى إلَيْهِ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ نَاظِرًا لَهُمْ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَالْوِصَايَةُ قَدْ تَتَجَزَّأُ عَلَى مَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ نَقُولُ : يُصَارُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ أَصْلِهِ ، وَتَغْيِيرِ الْوَصْفِ لِتَصْحِيحِ الْأَصْلِ أَوْلَى .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ ) أَيْ : هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَهِيَ وَصِيَّةُ عَبْدِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ ( تَجْزِئَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ ) وَقَوْلُهُ وَهَذَا نَقْضُ الْمَوْضُوعِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ إنَّمَا يَمْلِكُ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمُوصِي وَوِلَايَتُهُ لَا تَتَجَزَّأُ إذْ لَا يُقَالُ وِلَايَتُهُ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، فَلَوْ ثَبَتَ التَّجْزِيءُ فِي وِلَايَةِ الْوَصِيِّ ثَبَتَ فِي وِلَايَةِ الْمُوصِي لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَكَانَ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّهُ مُخَاطَبٌ ) احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَقَوْلُهُ ( مُسْتَبِدٌّ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِيصَاءِ إلَى عَبْدِ الْغَيْرِ وَعَمَّا إذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ .
وَقَوْلُهُ ( لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ ) قِيلَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ فَيَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ وَالْمُنَافَاةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْإِيصَاءُ لَمْ يَبْقَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ بِكَوْنِهِ نَاظِرًا لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ الْمَرْقُوقَ دُونَ الْأَحْرَارِ كَافَّةً إلَّا إذَا وَثِقَ بِدِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْإِيصَاءَ إلَيْهِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ هَذَا .
قَوْلُهُ ( وَالْوِصَايَةُ قَدْ تَتَجَزَّأُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ تَجْزِئَتُهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْعَيْنِ وَإِلَى الْآخَرِ فِي الدَّيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَصِيًّا فِيمَا أَوْصَى إلَيْهِ خَاصَّةً ، أَوْ نَقُولُ : يُصَارُ إلَيْهِ أَيْ : إلَى التَّجْزِيءِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهُوَ نَصْبُ عَبْدِهِ وَصِيًّا عَلَى الصِّغَارِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُفْضِي إلَى تَغْيِيرِ وَصْفِهِ وَهُوَ جَعْلُهُ مُتَجَزِّئًا بَعْدَمَا لَمْ يَكُنْ .
قُلْنَا : يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِتَصْحِيحِ

الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ .

قَالَ ( وَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ ضَمَّ إلَيْهِ الْقَاضِي غَيْرَهُ ) رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَكْمِيلَ النَّظَرِ يَحْصُلُ بِضَمِّ الْآخَرِ إلَيْهِ لِصِيَانَتِهِ وَنَقْصِ كِفَايَتِهِ فَيَتِمُّ النَّظَرُ بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ شَكَا إلَيْهِ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ حَتَّى يَعْرِفَ ذَلِكَ حَقِيقَةً ، لِأَنَّ الشَّاكِيَ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا تَخْفِيفًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي عَجْزُهُ أَصْلًا اسْتَبْدَلَ بِهِ رِعَايَةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ أَمِينًا فِيهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ غَيْرَهُ كَانَ دُونَهُ لِمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ وَمَرْضِيَّهُ فَإِبْقَاؤُهُ أَوْلَى وَلِهَذَا قُدِّمَ عَلَى أَبِي الْمَيِّتِ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَا إذَا شَكَا الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ مِنْهُ خِيَانَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمَيِّتِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا نَصَّبَهُ وَصِيًّا لِأَمَانَتِهِ وَقَدْ فَاتَتْ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَأَخْرَجَهُ مِنْهَا ، فَعِنْدَ عَجْزِهِ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَأَنَّهُ لَا وَصِيَّ لَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ ) مَعْنَى قَوْلِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوِصَايَةِ .
اعْلَمْ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ ثَلَاثَةٌ : عَدْلٌ كَافٍ ، وَفَاسِقٌ .
وَزَادَ الْمُصَنِّفُ الْعَاجِزَ أَصْلًا إذَا ظَهَرَ لِلْقَاضِي عَجْزُ وَصِيٍّ عَنْ الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ عَدْلٌ ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا ، وَإِذَا عَلِمَ صِيَانَةَ الْوَصِيِّ وَنَقْصَ كِفَايَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَكْمِيلُ النَّظَرِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَكِنْ شَكَا إلَيْهِ الْوَصِيُّ ذَلِكَ : أَيْ : عَدَمَ الِاسْتِبْدَادِ بِعَجْزِهِ لَا يُجِيبُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ عَجْزٌ أَصْلًا اسْتَبْدَلَ غَيْرَهُ بِهِ رِعَايَةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ : أَيْ جَانِبِ الْمُوصِي وَالْوَصِيِّ ، يَقُومُ الْمَنْصُوبُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِ الْمُوصِي وَالْعَاجِزِ الْمَعْزُولِ بِقَضَاءِ حُقُوقِ نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ عَدْلًا كَافِيًا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ إلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ وَإِنْ شَكَاهُ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ إلَيْهِ ، إذَا ظَهَرَ مِنْهُ خِيَانَةٌ فَإِنَّهُ يَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دُونَ صَاحِبِهِ ) إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ سَبِيلُهَا الْوِلَايَةُ وَهِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا تَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ لِلْأَخَوَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي وَقَدْ كَانَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ إيَّاهُمَا يُؤْذِنُ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّفَقَةِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَرَابَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ بِالتَّفْوِيضِ فَيُرَاعَى وَصْفُ التَّفْوِيضِ وَهُوَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ إذْ هُوَ شَرْطٌ مُقَيَّدٌ ، وَمَا رَضِيَ الْمُوصِي إلَّا بِالْمُثَنَّى وَلَيْسَ الْوَاحِدُ كَالْمُثَنَّى ، بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِنْكَاحِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَالِكَ الْقَرَابَةُ وَقَدْ قَامَتْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا ، وَلِأَنَّ الْإِنْكَاحَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَى الْوَلِيِّ ، حَتَّى لَوْ طَالَبَتْهُ بِإِنْكَاحِهَا مِنْ كُفُؤٍ يَخْطُبُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَهَاهُنَا حَقُّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ ، وَلِهَذَا يَبْقَى مُخَيَّرًا فِي التَّصَرُّفِ ، فَفِي الْأَوَّلِ أَوْفَى حَقًّا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَحَّ ، وَفِي الثَّانِي اسْتَوْفَى حَقًّا لِصَاحِبِهِ فَلَا يَصِحُّ أَصْلُهُ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، وَمَوَاضِعُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ أَبَدًا ، وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَأَخَوَاتِهَا .
فَقَالَ ( إلَّا فِي شِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ فَسَادَ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْجِيرَانُ عِنْدَ ذَلِكَ ( وَطَعَامِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتِهِمْ ) لِأَنَّهُ يَخَافُ

مَوْتَهُمْ جُوعًا وَعُرْيًا ( وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمَالِكُ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ( وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ) لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ( وَالْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهَا أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ ( وَقَبُولِ الْهِبَةِ ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خِيفَةَ الْفَوَاتِ ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ الْأُمَّ وَاَلَّذِي فِي حِجْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ( وَبَيْعِ مَا يَخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفَ ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لَا تُخْفَى ( وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ كُلَّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَقَاضَى ، وَالْمُرَادُ بِالتَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ ، كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا فِي الْقَبْضِ ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ قِيلَ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ فَقَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ .
وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَعَاقَبُ ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِيَ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا

فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَضُمُّ الْقَاضِي إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ عَجْزِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَالْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَهُ مُتَصَرِّفًا فِي حُقُوقِهِ ، وَذَلِكَ مُمْكِنُ التَّحَقُّقِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ مَكَانَ الْمَيِّتِ .

قَوْلُهُ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ إلَخْ ) رُوِيَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ أَنَّهُ قَالَ : هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا أَوْصَى إلَيْهِمَا جَمِيعًا مَعًا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِلَا خِلَافٍ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : هَذَا أَصَحُّ وَبِهِ نَأْخُذُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وَكَّلَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ أَنَّهُ قَالَ : الْخِلَافُ فِيهِمَا جَمِيعًا سَوَاءٌ أَوْصَى إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا .
وَجَعَلَ فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا الْأَصَحَّ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا مَعًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِافْتِرَاقِ وَالِاجْتِمَاعِ ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ كَمِّيَّتَهَا لِاخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا ، فَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ سِتَّةً ، وَهُوَ مَا عَدَا تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ ، وَقَبُولَ الْهِبَةِ ، وَجَمْعَ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ مِنْ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ بِجِنْسِ حَقِّهِ ، وَشِرَاءَ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ ، وَبَيْعَ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، وَرَدَّ الْغَصْبِ ، الْوَدِيعَةِ وَالْخُصُومَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ ثَمَانِيَةً وَهِيَ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَسْرَارِ ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ ، وَقَبُولُ الْهِبَةِ .
وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا جَمْعَ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ، قِيلَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْهِبَةِ مِنْ جِنْسِ جَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ فَيُعَدَّانِ وَاحِدًا كَيْ لَا يَزْدَادَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَانِيَةِ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( سَبِيلُهَا الْوِلَايَةُ ) يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ لِمَنْ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِالتَّوْلِيَةِ كَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا لَيْسَتْ

مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ) أَيْ : الْوِلَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْمُوصِي لِتَحَقُّقِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ أَنَّ اقْتِضَاءَ الدَّيْنِ : أَيْ قَبْضَهُ لَيْسَ كَقَضَائِهِ بَلْ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ) ذَكَرْنَاهُ فِي مَطْلَعِ الْكَلَامِ مَعَ ذِكْرِ صَاحِبِ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ) مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ .

وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ فَلِلْحَيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى شَخْصٍ آخَرَ .
وَلَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ يَخْلُفُهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى كَمَا رَضِيَهُ الْمُتَوَفَّى .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ ) ظَاهِرٌ .

وَإِذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالتَّوْكِيلِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ، الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ إلَى الْوَصِيِّ فِي الْمَالِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ ، ثُمَّ الْجَدُّ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ فِيمَا لَهُ وِلَايَتُهُ ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا .
وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعْتَرِيهِ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَلَافِي مَا فَرَّطَ مِنْهُ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ ) يَعْنِي إذَا مَاتَ الْأَبُ كَانَ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ وَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْجَدِّ ، فَكَذَا الْوَصِيُّ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَوَّلِ ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ يُجْعَلُ الْأَوَّلُ قَائِمًا حُكْمًا .
وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ ) أَيْ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ : أَيْ فِي تَرِكَةِ نَفْسِهِ سَمَّاهُ تَرِكَةً بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ ، وَتَرِكَةِ مُوصِيهِ .
أَمَّا فِي تَرِكَتِهِ ؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ .
وَأَمَّا فِي تَرِكَةِ مُوصِيهِ ؛ فَبِاعْتِبَارِ الْوِصَايَةِ إلَيْهِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ ) أَيْ : لَا يَرْضَى الْمُوَكِّلُ بِأَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلَهُ غَيْرَهُ أَوْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ .

قَالَ ( وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ وَمُقَاسَمَتُهُ الْوَرَثَةَ عَنْ الْمُوصَى لَهُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَرُدَّ بِالْعَيْبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ بِهِ وَيَصِيرَ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ وَالْوَصِيُّ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَارِثِ إذَا كَانَ غَائِبًا فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَقَدْ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْمُوصَى لَهُ ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُوصِي فَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ خَلِيفَةً عَنْهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا أَفْرَزَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيِّ كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَنْفُذْ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَيَتْوَى مَا تَوِيَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَأَخَذَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ فَضَاعَ رَجَعَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ) لِمَا بَيَّنَّا .

قَالَ ( وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ ) رَجُلٌ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ غُيَّبٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ الْمُوصَى لَهُ نَائِبًا عَنْ الْوَرَثَةِ وَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَالْقِسْمَةُ نَافِذَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي الْمَنْقُولِ ، وَالْعَقَارِ إنْ كَانُوا صِغَارًا ، وَفِي الْمَنْقُولِ إنْ كَانُوا كِبَارًا ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ لَمْ تَرْجِعْ الْوَرَثَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا حَاضِرًا وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ غَائِبًا فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ مَعَ الْوَارِثِ عَنْ الْمُوصَى لَهُ فَأَعْطَى الْوَرَثَةَ حَقَّهُمْ وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ لِلْمُوصَى لَهُ لَمْ تَنْفُذْ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فِي الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ مَا أَفْرَزَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَرَثَةِ بِثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا صِغَارًا كَانَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ نَصِيبِ الصِّغَارِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا ، أَمَّا إذَا كَانُوا كِبَارًا فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ عَلَيْهِمْ وَلَهُ وِلَايَةُ بَيْعِ الْمَنْقُولِ ، فَكَذَا الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ بَيْعٍ ، وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْوَرَثَةَ وَالْوَصِيَّ كِلَاهُمَا خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ خَصْمًا عَنْهُمْ ، وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ .
وَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ بِكُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ ، وَبَيْن الْوَصِيِّ مُنَاسَبَةٌ حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا عَنْهُ ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ فِي نُفُوذِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ حَتَّى يَرُدَّ بِالْعَيْبِ ) أَيْ : فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورَثُ ( وَيُرَدُّ عَلَيْهِ ) أَيْ : فِيمَا بَاعَهُ الْمُورَثُ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورَثِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47