كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

الضَّعِيفُ : وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً .
وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ .
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ عَمَلًا بِالتَّقْيِيدِ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ وَالْحِنْطَةُ مِثْلُ الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرُ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ إذَا كَانَ كَيْلًا .
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ .
وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ ، فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ .
وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ ، حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ .

وَقَوْلُهُ ( وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِالْقَبْضِ بَلْ بِالْعَقْدِ ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً جُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ ، إذْ الْمَالِكُ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ مَجَّانًا ، وَلِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ نَظَرًا لَهُ ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ هُوَ الْقِيمَةُ لِكَوْنِهَا مِثْلًا كَامِلًا ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الثَّمَنِ عِنْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ حَقِيقَةً وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ صُيِّرَ إلَى الْأَصْلِ ، وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ نَسْخَ طَرِيقَةِ الْحَلَّافِ ، وَقِيلَ كِتَابُ الْإِجَارَاتِ مِنْ الْمَبْسُوطِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ إلَخْ ) وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ الْمُسْتَعَارَ ، فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَى الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَانْعِقَادُهُ غَيْرَ لَازِمٍ عَكْسُ الْمَوْضُوعِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطِ الْمُعِيرِ وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الْعَارِيَّةِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَيَكُونُ عَقْدُ الْإِعَارَةِ لَازِمًا ، وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ فَأَبْطَلْنَاهَا ، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً كَانَ

بِالتَّسْلِيمِ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ حِينَ سَلَّمَ وَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لِكَوْنِهِ الْغَاصِبَ .
ثُمَّ إنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ رَجَعَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ .
وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ الْمُسْتَعَارَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ كَالْحَمْلِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ .
وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الْإِعَارَةِ إبَاحَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ فِي الْإِعَارَةِ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّمْلِيكِ .
وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ جَازَ أَنْ يُعِيرَ لِتَمَلُّكِهِ الْمَنْفَعَةَ ( قَوْلُهُ وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةً ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ .
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ فِي الْإِعَارَةِ كَذَلِكَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَقَدْ مَرَّ لَنَا الْكَلَامُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَمَا تَفَاوَتَ الْحُكْمُ فِي الصِّحَّةِ بَيْنَ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ وَبَيْنَ مَا لَا يَخْتَلِفُ كَالْمَالِكِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ ، وَقَالَ هَذَا ) أَيْ مَا

ذُكِرَ مِنْ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ ( إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً ) فَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ أَقْسَامَهَا فَقَالَ ( وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ) وَهِيَ قِسْمَةٌ عَقْلِيَّةٌ ( أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ .
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا .
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ .
وَالرَّابِعُ بِالْعَكْسِ ) فَلِلْمُسْتَعِيرِ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ .
وَفِي الثَّانِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ مِنْ الْوَقْتِ وَالْمَنْفَعَةِ ( إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ ) كَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى ( أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ ) كَمَا إذَا حَمَلَ مِثْلَ ذَلِكَ شَعِيرًا اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ ، فَإِنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ الْحِنْطَةِ ، إذْ مَقْصُودُهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَنْ دَابَّتِهِ ، وَمِثْلُ كَيْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ أَخَفُّ عَلَى الدَّابَّةِ وَالتَّقْيِيدِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا ( وَفِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ مِنْ الْوَقْتِ وَالنَّوْعِ ) وَعَلَى هَذَا ( فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يُحْمَلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ .
وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ كَانَ لَهُ التَّعْيِينُ ، حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ تَعَيَّنَ الرُّكُوبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ وَبِالْعَكْسِ كَذَلِكَ ، فَلَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَ لِتَعَيُّنِ الرُّكُوبِ فِي الْأَوَّلِ وَالْإِرْكَابِ

فِي الثَّانِي ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ : غَيْرُهُ : لَهُ أَنْ يَرْكَبَ بَعْدَ الْإِرْكَابِ وَيَرْكَبَ بَعْدَ الرُّكُوبِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ .

قَالَ : ( وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَاقْتَضَى تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَذَلِكَ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا فَيَثْبُتُ .
أَوْ ؛ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ .
قَالُوا : هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ .قَالَ ( وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ إلَخْ ) إذَا اسْتَعَارَ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ لَهُ أَعَرْتُك دَرَاهِمِي هَذِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ أَقْرَضْتُك ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ اقْتِضَاءً ، وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ إمَّا بِالْهِبَةِ أَوْ الْقَرْضِ ، وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ .
قِيلَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْمُعْطِي لِأَنَّهُ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ ، وَمَا هُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا فَهُوَ الثَّابِتُ يَقِينًا ، وَلِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ .
قَالَ الْمَشَايِخُ : هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ .

وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ .وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ ، فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً لِيَتَجَمَّلَ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ ، يُقَالُ عَايَرْت الْمَكَايِيلَ أَوْ الْمَوَازِينَ إذَا قَايَسْتهَا ، وَالْعِيَارُ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ وَيُسَوَّى

قَالَ ( وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا جَازَ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ) أَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ .
وَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ الْوَعْدُ وَإِنْ كَانَ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ ( وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِالْقَلْعِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
قَالُوا : إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ ؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً ، وَفِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحُقَّيْنِ ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ .

وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ جَازَ وَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَتَكْلِيفُ قَلْعِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ .
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ .
وَأَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا ، يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ } وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَلِأَنَّ الرُّجُوعَ إذَا كَانَ صَحِيحًا بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا ، ثُمَّ إنَّ الْمُعِيرَ إمَّا أَنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ ، فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ مِنْ جَانِبِ الْمُعِيرِ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ وَظَنَّ أَنَّهُ يَتْرُكُهَا فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ الْوَعْدُ ، وَإِنْ كَانَ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَيَرْجِعُ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ ، إذْ الظَّاهِرُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْغُرُورُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَمَا مَرَّ وَالْإِعَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْقِيتَ مِنْ الْمُعِيرِ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إنْ أَرَادَ إخْرَاجَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْنًى .
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ ابْنِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ بِنَفْسِك عَلَى أَنْ أَتْرُكَهَا فِي يَدِك إلَى مُدَّةِ كَذَا ، فَإِنْ لَمْ أَتْرُكْهَا فَأَنَا ضَامِنٌ لَك بِقَرِينَةِ حَالِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَائِدَةِ مَا أَمْكَنَ ، وَحَيْثُ كَانَتْ الْإِعَارَةُ بِدُونِ التَّوْقِيتِ صَحِيحَةً شَرْعًا لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةٍ لِذِكْرِ

الْوَقْتِ وَذَلِكَ مَا قُلْنَا .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ أَنْ يَنْظُرَكُمْ تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إذَا بَقِيَ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ : يَعْنِي إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا ، وَإِذَا قَلَعَ فِي الْحَالِ تَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ يَرْجِعُ بِهِمَا ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرِيدُ بِهِ ضَمَانَ مَا نَقَصَ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّ الْمُعِيرَ يُضَمِّنُ الْمُسْتَعِيرَ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَيَكُونَانِ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
قَالُوا : يَعْنِي الْمَشَايِخَ إذَا كَانَ بِالْأَرْضِ ضَرَرٌ بِالْقَلْعِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ .
قِيلَ مَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ مَا قَالَ الْقُدُورِيُّ إنَّ الْمُعِيرَ يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَلْحَقْ الْأَرْضَ بِالْقَلْعِ ضَرَرٌ ، أَمَّا إذَا لَحِقَ فَالْخِيَارُ فِي الْإِبْقَاءِ بِالْقِيمَةِ مَقْلُوعًا وَتَكْلِيفُ الْقَلْعِ وَضَمَانُ النُّقْصَانِ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ : وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَلْعِ وَتَرْكِ الضَّمَانِ إذَا لَمْ تَتَضَرَّرْ الْأَرْضُ بِالْقَلْعِ ، وَأَمَّا إذَا تَضَرَّرَتْ فَالْخِيَارُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ .
وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يُحْصَدَ الزَّرْعُ بَلْ تُتْرَكُ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ ، لِأَنَّ الزَّرْعَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَفِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّرْكُ بِأَجْرٍ لَمْ تَفُتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِهِ مَجَّانًا وَلَا زَرْعُ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ

دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ .

قَالَ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَالْأُجْرَةُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَتَكُونُ عَلَيْهِ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَتَكُونَ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ .قَالَ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إلَخْ ) أُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ أَجْرُهُ ، وَالرَّدُّ فِي الْعَارِيَّةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَالْغُرْمُ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَيْسَ الرَّدُّ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةً لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَيَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ انْتَفَعَ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ وَمَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ ، وَالْعَيْنُ لِكَوْنِهِ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ أُجْرَةُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أُتِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْمَرْبِطِ .وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ ، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لَا رَدٌّ ، وَصَارَ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ إلَى دَارِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَيْهِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَعَلَى الْمُودَعِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لَا إلَى دَارِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَى بِالرَّدِّ إلَى عِيَالِهِ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْعَارِيَّةِ عُرْفًا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا ، وَهُوَ أَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ ، فَإِنَّهُ لَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ لَرَدَّهَا الْمَالِكُ إلَى الْمَرْبِطِ .

( وَإِنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ ، الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي الْعِيَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَاهُ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ ، بِخِلَافِ الْعَوَارِيّ ؛ لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عُقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ ؛ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعُرْفِ فِيهِ .وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ اسْتَعَارَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا إلَى الْمُعِيرِ لِلْعُرْفِ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمِهِ فِي الثَّانِي .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ .
( وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ ، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ دَائِمًا يُدْفَعُ إلَيْهِ أَحْيَانًا ( وَإِنْ رَدّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ ) وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ ، وَأَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِإِنْهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ .

وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَعَبْدِهِ وَأَجِيرِهِ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ وَلَهُ حِفْظُهَا عَلَى يَدِهِمْ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ لِوُجُودِ الرِّضَا بِهِ مِنْ الْمَالِكِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهَا إلَى عَبْدِهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ هَذَا الْعَبْدِ مِمَّنْ يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ فَقِيلَ بِهِ ، وَقِيلَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوُجُودِ الدَّفْعِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْكَرْخِيُّ .
وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ وَهُوَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ أَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِانْتِهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا فَكَانَ إذْ ذَاكَ مُودَعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ ، فَإِذَا أَوْدَعَهُ وَفَارَقَهُ ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .

قَالَ : ( وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ إنَّك أَطْعَمْتنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : يَكْتُبُ إنَّك أَعَرْتنِي ) ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ .
وَلَهُ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهَا تَخُصُّ الزِّرَاعَةَ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُهَا وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

الْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ( وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ) أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ ، وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمَلِكِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ الْجَوَازَ بِدُونِهِ ثَابِتٌ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا إلْزَامَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ ، وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا .

( كِتَابُ الْهِبَةِ ) : قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَدِيعَةِ ، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا جَلْبُ الْمَحَبَّةِ .
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا } وَفِي الشَّرِيعَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ ( وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ .
وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ كَافٍ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ يَهَبُ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بِدُونِ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ( وَقَالَ مَالِكٌ : يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } أَيْ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ إذْ الْجَوَازُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ) بِالِاتِّفَاقِ ( وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ) وَعَقْدُ التَّبَرُّعِ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يُتَبَرَّعْ بِهِ ( وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ ذَلِكَ إذْ فِيهِ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ ) .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِهِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِهِ ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ مُحْدِثٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ ، وَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُغَالَطَةٌ ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا كَمَا ذَكَرْت مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ أَوْ الشُّرُوعِ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ .
وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، فَإِنَّهُ

لَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَيْفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجِبُ مَا يَتِمُّ بِهِ ( بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ) فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهَا بِدُونِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ ثُمَّ زِيَادَةً عَلَى مَا تَبَرَّعَ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَحِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِلْزَامُ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ ) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ كَالْوَصِيَّةِ ، أَلْحَقَ الْهِبَةَ بِالْوَصِيَّةِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَمَّا كَانَ تَبَرُّعًا كَانَ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْوَاهِبِ كَانَ قَوِيًّا فَلَا يَزُولُ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ ، وَهُوَ فِي الْهِبَةِ التَّسْلِيمُ وَفِي الْوَصِيَّةِ مَوْتُ الْمُوصِي لِكَوْنِ الْمَوْتِ يُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَصَحَّ الْإِلْحَاقُ ( قَوْلُهُ وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوصِيَ فِي مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَقَّفَ مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَارِثِ إلَيْهِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً لَهُ فِيهَا لِيُقَامَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَسْلِيمِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا قَامَ مَقَامَ الْمَالِكِ فِيهَا

قَالَ : ( فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاهِبِ جَازَ ) اسْتِحْسَانًا ( وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ ، إذْ مِلْكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ إذْنِهِ ، وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتَنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ ، وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ ، فَكَذَا مَا يُلْحَقُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ .

( فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ جَازَ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ الْقَبْضَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ ) بِالِاتِّفَاقِ ( وَالتَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِدُونِ الْإِذْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَلَنَا ) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْأَوَّلِ ( أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ ) فِي الْبَيْعِ ( مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ) فِيهَا كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِيهِ ، فَقَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ " أَنَّ الْقَبْضَ " لَا بِقَوْلِهِ " الْقَبُولُ " .
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ) أَيْ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ ( إثْبَاتُ الْمِلْكِ ) لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ فَكَانَ إذْنًا دَلَالَةً ( وَلَا كَذَلِكَ الْقَبْضُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لِلْقَبْضِ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَا مَا قَامَ مَقَامَهُ ) فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا نَهَى عَنْ الْقَبْضِ فَإِنَّ التَّسْلِيطَ مَوْجُودٌ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبْضُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ ) يَعْنِي صَرِيحًا ( فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ ) وَفِيهِ بَحْثَانِ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ لَمَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْمَبِيعُ حَاضِرٌ لَمْ يُجْعَلْ إيجَابُ الْبَائِعِ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ إذْنِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ

وَيَحْبِسَهُ لِلثَّمَنِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ شَطْرُ الْعَقْدِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ، وَفِي الْهِبَةِ وَحْدَهُ عَقْدٌ تَامٌّ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بَلْ مَقْصُودُهُ مِنْهُ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ لَا غَيْرُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ ضِمْنِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ .

قَالَ : ( وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت وَأَعْطَيْت ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَكُلَّ أَوْلَادِك نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا ؟ } وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ ، يُقَالُ : أَعْطَاك اللَّهُ وَوَهَبَك اللَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ( وَكَذَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَكْلَ غَلَّتِهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ } وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ عَارِيَّةً لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ ، يُقَالُ حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ .

قَالَ ( وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت إلَخْ ) هَذَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْهِبَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ ، وَكَلَامُهُ وَافٍ بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا ( قَوْلُهُ أَكُلُّ أَوْلَادِك نَحَلْت مِثْلَ هَذَا ) رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ ، فَأَبَتْ أُمِّي إلَّا أَنْ تُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَلَك وَلَدٌ سِوَاهُ ؟ فَقَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ : أَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْت مِثْلَ هَذَا ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ هَذَا جَوْرٌ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ) أَيْ وَلِوَرَثَةِ الْمُعْمَرِ لَهُ مِنْ بَعْدِ الْمُعْمَرِ لَهُ : يَعْنِي تَثْبُتُ بِهِ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ شَرْطِ الرُّجُوعِ ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ الرُّجُوعَ صَرِيحًا يَبْطُلُ شَرْطُهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ ، وَقَوْلُهُ ( فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً ) يَعْنِي أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنَافِعِ ( فَيَكُونُ عَارِيَّةً ) إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَرَدْت الْهِبَةَ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ ، فَإِذَا نَوَى مُحْتَمَلَ لَفْظِهِ فِيمَا فِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ .
لَا يُقَالُ : هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ مَجَازًا لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ هُنَالِكَ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ : يَعْنِي فِي الْعُرْفِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَنَافِعِ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً : يَعْنِي فِي اللُّغَةِ ،

فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ

( وَلَوْ قَالَ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ يَكُونُ هِبَةً ) ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } وَيُقَالُ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا ثَوْبًا : أَيْ مَلَّكَهُ مِنْهُ ( وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .( وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ } .

( وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً فَهِيَ عَارِيَّةٌ ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحْكَمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةُ تَحْتَمِلُهَا وَتَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ نَحْلِي سُكْنَى أَوْ سُكْنَى صَدَقَةً أَوْ صَدَقَةٌ عَارِيَّةً أَوْ عَارِيَّةٌ هِبَةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
( وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةُ سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةٍ ) إنَّمَا هُوَ بِنَصْبِ هِبَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إمَّا عَلَى الْحَالِ أَوْ التَّمْيِيزِ لِمَا فِي قَوْلِهِ دَارِي لَك مِنْ الْإِبْهَامِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحَكَّمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ ) كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّ سُكْنَى مُحَكَّمٍ فِي تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ إذْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : سُكْنَى لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْعَارِيَّةَ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَارِيَّةِ ( وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ ) أَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ عُمْرَهُ لِيَسْكُنَهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ التَّمْلِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هَذَا الطَّعَامُ لَك تَأْكُلُهُ وَهَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ ، فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَفَعَلَ مَا قَالَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ( بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ سُكْنَى اسْمٌ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ تَفْسِيرًا لِاسْمٍ آخَرَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَسْكُنُهَا لِكَوْنِهِ فِعْلًا ، وَقِيلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ فَلَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ .

قَالَ : ( وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقَسَّمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً ، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ جَائِزَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ ، وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ فَيُشْتَرَطُ كَمَالُهُ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ ، وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَوَازُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ التَّسْلِيمُ ، بِخِلَافِ مَا لَا يُقَسَّمُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْقَاصِرَ هُوَ الْمُمْكِنُ فَيُكْتَفَى بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ .
وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَالْهِبَةُ لَاقَتْ الْعَيْنَ ، وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ ، وَكَذَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَالْقَبْضُ فِيهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا عُقُودُ ضَمَانٍ فَتُنَاسِبُ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ، وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ وَعَقْدُ ضَمَانٍ مِنْ وَجْهٍ ، فَشَرَطْنَا الْقَبْضَ الْقَاصِرَ فِيهِ دُونَ الْقِسْمَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَلَوْ وَهَبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ .
قَالَ ( وَمَنْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ، فَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ ) وَكَذَا السَّمْنُ فِي اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ ، وَلِهَذَا لَوْ

اسْتَخْرَجَهُ الْغَاصِبُ بِمِلْكِهِ ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا ، فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ مَحَلٌّ لَلتَّمْلِيكِ ، وَهِبَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْرِ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً إلَخْ ) الْمَوْهُوبُ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا .
وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَيُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَهُوَ يَحْتَمِلُهَا ، فَالثَّانِي كَالْعَبْدِ وَالْحَيَوَانِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ ، وَالْأَوَّلُ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ الْكَبِيرِ ، وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً ، وَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا وَهَبَ التَّمْرَ عَلَى النَّخِيلِ دُونَ النَّخِيلِ أَوْ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ دُونَهَا ، فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَيْسَ بِمَحُوزٍ : أَيْ لَيْسَ بِمَقْبُوضٍ ، وَالثَّانِي عَنْ الْمُشَاعِ .
فَإِنَّهُ إذَا جَزَّ وَقَبَضَ التَّمْرَ الْمَوْهُوبَ عَلَى النَّخِيلِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ التَّمْرَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْسُومٍ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً ، لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي نَفْسِهَا فِيمَا يُقْسَمُ تَقَعُ جَائِزَةً وَلَكِنْ غَيْرَ مُثْبِتَةٍ لِلْمِلْكِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ مُفْرَزًا ، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ مُشَاعًا فِيمَا يُقْسَمُ ثُمَّ أَفْرَزَهُ وَسَلَّمَ صَحَّتْ وَوَقَعَتْ مُثْبَتَةً لِلْمِلْكِ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَقَعَتْ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا ، وَلَكِنْ تُوقَفُ إثْبَاتُهَا الْمُمَلِّكُ عَلَى الْإِفْرَازِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْعَقْدِ الْمُتَوَقِّفِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى الْإِفْرَازِ وَالتَّسْلِيمِ لَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ جَائِزَةٌ ، وَمَعْنَاهُ هِبَةُ مُشَاعٍ لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ الْمُشَاعَ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا ، وَهِبَةُ النَّصِيبِ الْغَيْرِ الْمَقْسُومِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ جَائِزَةٌ ، وَذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَتَصْحِيحُهُ بِمَا ذُكِرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِبَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مَعْنَاهُ مُثْبِتَةٌ

لِلْمِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَعَقْدُ التَّمْلِيكِ يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ : يَعْنِي الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ وَالصَّرْفَ وَالسَّلَمَ ، فَإِنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِذَا بَاعَ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَدَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَالْخُرُوجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَالدُّخُولُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَبْضِ وَكَذَا يَصْلُحُ الْمُشَاعُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلَ الصَّرْفِ ، وَالْقَبْضُ شَرْطٌ فِيهِمَا ، وَهَذَا : أَيْ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ : أَيْ لِحُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِرْثِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لِحُكْمِ عَقْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهُ ، لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ عَيْنُ الْقَابِلِيَّةِ أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا فَكَانَ الْعَقْدُ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ، وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ فَكَانَ جَائِزًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مُبْطِلًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا : يَعْنِي لَمْ يُعْهَدْ ذَلِكَ مُبْطِلًا فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِأَنْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ قَرْضًا عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِشَرِكَتِهِ وَبِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يُبْطِلُ التَّبَرُّعَ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا .
وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ يُشْتَرَطُ كَمَالُهُ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِوُجُودِهِ ، وَقَبْضُ الْمُشَاعِ نَاقِصٌ لِأَنَّهُ لَا

يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ : أَيْ بِضَمِّ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ إلَى الْمَوْهُوبِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُهُمَا وَالْغَيْرُ غَيْرُ مَوْهُوبٍ وَغَيْرُ مُمْتَازٍ عَنْ الْمَوْهُوبِ .
فَكُلُّ جُزْءٍ فَرَضْته يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَجِبُ قَبْضُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فَكَانَ مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَفِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ النَّافِيَةِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ ، وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَ الْوَاهِبِ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ .
فَإِنْ قِيلَ هَذَا ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ ، لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى هِبَةِ الْمُشَاعِ يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِهِ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ وَالضَّائِرِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَرَضِيًّا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْضِيَّ مِنْهُ لَيْسَ الْقِسْمَةَ وَلَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْمِلْكِ الْمُشَاعِ وَهُوَ لَيْسَ بِقِسْمَةٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا ، وَلِهَذَا : أَيْ وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِ هَذَا الْعَقْدِ إلْزَامَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ امْتَنَعَ جَوَازُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ التَّسْلِيمُ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَا يُقْسَمُ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ هُوَ الْقَبْضُ الْقَاصِرُ فَيُكْتَفَى بِهِ ضَرُورَةً ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَزِمَهُ الْمُهَايَأَةُ ، وَفِي إيجَابِهَا إلْزَامُ مَا لَمْ يَلْزَمْ بِالْعُقْدَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزٌ فَلْتَكُنْ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ وَالْمُتَبَرَّعُ بِهِ هُوَ الْعَيْنُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ إلْزَامَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ الْوَاهِبُ بِعَقْدِ الْهِبَةِ إنْ كَانَ مَانِعًا عَنْ جَوَازِهَا فَقَدْ وُجِدَ ، وَإِنْ خَصَصْتُمْ بِعَوْدِهِ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ كَانَ تَحَكُّمًا .
وَالْجَوَابُ بِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ .
وَيُدْفَعُ التَّحَكُّمُ بِأَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى ذَلِكَ إلْزَامَ زِيَادَةِ عَيْنٍ هِيَ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعَيْنِ

الْمَوْهُوبَةِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا أَتْلَفَ الْوَاهِبُ الْمَوْهُوبَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَفِي ذَلِكَ إلْزَامُ زِيَادَةِ عَيْنٍ عَلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْإِتْلَافِ لَا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ ( قَوْلُهُ وَالْوَصِيَّةُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ فِيمَا يَكُونُ الْقَبْضُ مِنْ شَرْطِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الْمُشَاعِ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا لِلْمِلْكِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا يَكُونُ الْقَبْضُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَفِي الصَّرْفِ لِبَقَائِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، وَلِأَنَّهَا عُقُودُ ضَمَانٍ فَيُنَاسِبُ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ مِنْ الشَّرِيكِ لَمْ تَلْزَمْ الْقِسْمَةُ ، وَمَا جَازَتْ فَالْجَوَابُ سَيَأْتِي ، وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ ، وَعَقْدُ ضَمَانٍ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الْمُقْرِضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ ، فَلِشَبَهِهِ بِالتَّبَرُّعِ شَرَطْنَا الْقَبْضَ فِيهِ ، وَلِشَبَهِهِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَمْ نَشْتَرِطْ فِيهِ الْقِسْمَةَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُرَاعَى عَلَى الْكَمَالِ ( وَلَوْ وَهَبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ ) وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ ( لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ ) فَإِنَّهُ مَانِعٌ عَنْ كَمَالِ الْقَبْضِ فِيمَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ ، فَكَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَى ذَلِكَ قِيلَ الْوَجْهُ الثَّانِي غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي جَمِيعِ

الصُّوَرِ وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ عِلَّةُ النَّوْعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ نَوْعِ الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاطِّرَادَ فِي كُلِّ شَخْصٍ ( وَمَنْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ) أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْجِيهِ قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً ، وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ ذَلِكَ ، لَكِنْ أَعَادَهَا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ ( فَإِنْ قَسَمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ ) وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الشُّيُوعِ مَا كَانَ عِنْدَ الْقَبْضِ ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ لِرَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى وَهَبَ لَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَسَلَّمَهَا جُمْلَةً جَازَتْ .
قَالَ ( وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ إلَخْ ) بَنِي كَلَامَهُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْمَحَلَّ إذَا كَانَ مَعْدُومًا حَالَةَ الْعَقْدِ لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُشَاعًا فَإِنَّهُ بَعْدَ الْإِفْرَازِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّجْدِيدِ ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لِصَلَاحِيَّةِ الْمُشَاعِ لِلْمَحَلِّيَّةِ دُونَ الْمَعْدُومِ ، وَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُك أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ وَقَوْلُهُ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ هُوَ عَدَمُ إفَادَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَاحْتَاجَ إلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِفْرَازِ فِي الْمُشَاعِ كَمَا فِي الْمَعْدُومِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الرَّهْنُ فِي السِّمْسِمِ وَالدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ مَعْدُومًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِالْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْعَصْرِ وَالطَّحْنِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا بِالْقُوَّةِ لِأَنَّ عَامَّةَ الْمُمْكِنَاتِ كَذَلِكَ وَلَا تُسَمَّى مَوْجُودَةً .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي قَبْضِهِ وَالْقَبْضُ هُوَ الشَّرْطُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ ، أَمَّا قَبْضُ الْهِبَةِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ .وَإِذَا كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الْقَبْضِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ أَمَانَةً جَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَجَانُسَ الْقَبْضَيْنِ يَجُوزُ نِيَابَةُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، وَتَغَايُرُهُمَا يَجُوزُ نِيَابَةُ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى دُونَ الْعَكْسِ ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ وَدِيعَةً فِي يَدِ شَخْصٍ أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ ، لِأَنَّ كِلَا الْقَبْضَيْنِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ فَكَانَا مُتَجَانِسَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى فَيَنُوبُ عَنْ الضَّعِيفِ ، وَلَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَبَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ ضَعِيفٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ ، وَمَعْنَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ الْعَيْنُ وَيَمْضِيَ وَقْتٌ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ قَبْضِهَا

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودِعِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا مِثْلُ الْهِبَةِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ .
( وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهِ الدَّائِرَ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّائِرِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَنَافِعَ .
قَالَ ( وَإِذَا وَهَبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةً فَقَبَضَهَا لَهُ وَلِيُّهُ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ جَدُّ الْيَتِيمِ أَوْ وَصِيُّهُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ ( وَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ .
وَهَذَا مِنْ بَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَّا بِالْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ وِلَايَةِ التَّحْصِيلِ ( وَكَذَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ مَا يَتَمَحَّضُ نَفْعًا فِي حَقِّهِ ( وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ جَازَ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا ؛ لِأَنَّهُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَفِيمَا وَهَبَ لِلصَّغِيرَةِ يَجُوزُ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّفَافِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ

، وَمَعَ حُضُورِهِ لَا ضَرُورَةَ .

( وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ ) وَالْقَبْضُ فِيهِ بِإِعْلَامِ مَا وَهَبَهُ لَهُ ، وَلَيْسَ الْإِشْهَادُ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جُحُودِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ جُحُودِهِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْوَلَدِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ ( فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ ) وَيَدُ مُودَعِهِ كَيَدِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ ) يَعْنِي فِي الْأَوَّلَيْنِ ( أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ) يَعْنِي فِي الْأَخِيرِ ( وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا كَالْهِبَةِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ الْأُمُّ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ ) وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا لِيَكُونَ لَهَا عَلَيْهِ نَوْعُ وِلَايَةٍ ، وَقُيِّدَ بِمَوْتِ الْأَبِ وَعَدَمِ الْوَصِيِّ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِهِمَا لَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْقَبْضِ ( وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ ) نَحْوُ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ جَازَ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ لِأَجْلِ الْيَتِيمِ .
قِيلَ : أَطْلَقَ جَوَازَ قَبْضِ هَؤُلَاءِ ، وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ بَعْدَ الْأَبِ وَوَصِيُّهُ ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، فَقِيَامُ وِلَايَةِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ قَبْضُ مَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِهِ لِثُبُوتِ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ حِينَئِذٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ ، فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ يُطْلِقُ حَقَّ الْقَبْضِ لِلْهِبَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْفَعَةِ ، وَأَرَى

أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّقْيِيدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمَعْطُوفِ أَيْضًا ، لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَدَّ الصَّحِيحَ مِثْلُ الْأَبِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، وَوَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْأَبِ ( وَإِنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرِ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ) الْأَمْرَ ( الدَّائِرَ بَيْنَ الضَّرِّ وَالنَّفْعِ فَالنَّفْعُ الْمَحْضُ أَوْلَى بِذَلِكَ ) قَالَ ( وَإِذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةٌ إلَخْ ) إذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَالْقَبْضُ إلَى مَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ جَدُّ الْيَتِيمِ أَوْ وَصِيُّهُ ، لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَى الْيَتِيمِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ : أَيْ فِي كَنَفِهَا وَتَرْبِيَتِهَا فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ لِأَنَّ لَهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا آخَرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَزْعِهِ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ مَا تَمَحَّضَ نَفْعًا فِي حَقِّهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عَاقِلٌ جَازَ لِأَنَّهُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ : أَيْ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ مَا يَتَضَمَّنُ نَفْعًا لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : عَقْدُ الصَّبِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ قَبْضُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ اعْتِبَارُ الْحَلِفِ مَعَ وُجُودِ أَهْلِيَّتِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ عَقْلَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ مُعْتَبَرٌ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَفِي اعْتِبَارِ الْحَلِفِ تَوْفِيرُهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ بِهِ بَابٌ آخَرُ

لِتَحْصِيلِهَا فَكَانَ جَائِزًا نَظَرًا لَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ فِي الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرِّ سَدًّا لِبَابِ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ عَقْلَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ نَاقِصٌ فَلَا يَتِمُّ بِهِ النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَبْرِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ ، وَإِذَا وُهِبَ لِلصَّغِيرِ هِبَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ فَأَمَّا إنْ زُفَّتْ إلَيْهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ فَوَّضَ أُمُورَهَا إلَيْهِ وَهِيَ حِينَ زَفَّهَا إلَيْهِ صَغِيرَةٌ وَأَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا ، وَقَبْضُ الْهِبَةِ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ ، لَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ وِلَايَةُ الْأَبِ حَتَّى لَوْ قَبَضَهَا جَازَ ، وَكَذَا لَوْ قَبَضَتْ بِنَفْسِهَا وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ عَنْ كَوْنِهَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لِأَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُجَامِعُ لَا يَصِحُّ قَبْضُ الزَّوْجِ لَهَا وَحُضُورُ الْأَبِ لَا يَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ حَضَرَ الْأَبُ فِي الصَّحِيحِ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ لَهَا إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يُمَلِّكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْحُضُورِ .
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ كَمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَإِنَّمَا قُلْت هَذَا لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَيْسَتْ رِوَايَةً أُخْرَى حَتَّى يَقَعَ قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا وَأَنَّ لَهُ عَلَيْهَا يَدًا مُسْتَحَقَّةً وَذَلِكَ لَا

يُوجَدُ قَبْلَ الزِّفَافِ .

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَهُوَ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ ( وَإِنْ وَهَبَهَا وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَصِحُّ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا ، إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ .
وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ فَقِبَلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ ، وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا ، إذْ لَا تَضَايُفَ فِيهِ فَلَا شُيُوعَ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا تَصَدَّقَ عَلَى مُحْتَاجِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا جَازَ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَنِيَّيْنِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَا : يَجُوزُ لِلْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا ) جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا عَنْ الْآخَرِ ، وَالصَّلَاحِيَّةُ ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ فِي الْحُكْمِ .
وَفِي الْأَصْلِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ : وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ فِي الْفَصْلَيْنِ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى الْقَبْضِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاحِدٌ ، وَالْهِبَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ .
وَقِيلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ .

قَالَ ( وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ إلَخْ ) وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ دَارًا مِنْ وَاحِدٍ جَازَ لِانْتِفَاءِ الشُّيُوعِ ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّسْلِيمِ أَوْ الْقَبْضِ وَهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ التَّمْلِيكِ وَلَا شُيُوعَ فِي هِبَةِ الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ دُونَ الْهِبَةِ ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ جَازَ فَالْهِبَةُ أَوْلَى .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَ النِّصْفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ جَانِبِ التَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَازٍ فَكَانَ الشُّيُوعُ وَهُوَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ ، وَلَيْسَ مَنْعُ الشُّيُوعِ لِجَوَازِ الْهِبَةِ إلَّا لِذَلِكَ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مُشَاعًا وَهُوَ حُكْمُ التَّمْلِيكِ ثَبَتَ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ الشُّيُوعُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا وُجِدَ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا ، فَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يُؤَثِّرُ لِأَنَّهُ لَا يُلْحِقُ بِالْمُتَبَرِّعِ ضَمَانَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْمَانِعُ عَنْ جَوَازِهَا شَائِعًا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الشُّيُوعَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا وُجِدَ فِي الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الطَّرَفَيْنِ ، وَأَمَّا الْمَانِعُ هُوَ إلْحَاقُ ضَمَانِ الْقِسْمَةِ بِالْمُتَبَرِّعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حَالُهُ ، وَلَيْسَ

الْمَانِعُ مُنْحَصِرًا فِيهِ بَلْ الْحُكْمُ يَدُورُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ لِامْتِنَاعِ الْقَبْضِ بِهِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ الْحَبْسُ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ ، بَلْ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا ، وَلِهَذَا لَوْ قُضِيَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ فِي الصَّدَقَةِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ كَمَا كَانَ يَمْنَعُ عَنْ جَوَازِ الْهِبَةِ ، وَرِوَايَةُ الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي مَنْعِ الشُّيُوعِ فِيهِمَا عَنْ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا حَيْثُ عَطَفَ فَقَالَ : وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى الْقَبْضِ ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ الْقَبْضَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَقَعُ جَمِيعُ الْعَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَلَا شُيُوعَ فِيهَا ، وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغِنَى وَالْفَرْضُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ .
وَقِيلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ فَتَكُونُ مَجَازًا لِلْهِبَةِ ، وَيَجُوزُ الْمَجَازُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ .

وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ .
وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ مُرَّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ فَيَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ .

قَالَ ( وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي الْهِبَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ التَّفْصِيلُ بِالتَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ وَهَبْت لَك ثُلُثَيْهِ لِشَخْصٍ وَوَهَبْت لَك ثُلُثَهُ الْآخَرَ أَوْ بِالتَّسَاوِي كَقَوْلِهِ لِشَخْصٍ وَهَبْت لَك نِصْفَهُ وَلِآخَرَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَسَاوِيًا مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُفَاضَلَةِ ، فَفِي الْمُفَاضَلَةِ لَمْ يُجَوِّزْ فِي الْمُسَاوَاةِ جَوَّزَ فِي رِوَايَةٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، هَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ جَعَلَ قَوْلَهُ وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَفْصِيلًا ابْتِدَائِيًّا ، وَنُقِلَ عَنْ عَامَّةِ النَّسْخِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَطَفَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ ابْتِدَائِيًّا .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ فَيَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صُورَةِ التَّفْصِيلِ بِالتَّفْضِيلِ وَعَلَى صُورَتِهِ بِالتَّسَاوِي عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْجَوَازِ فَلِكَوْنِهَا غَيْرَ مَعْدُولَةٍ عَنْ أَصْلِهِ وَهُوَ أَصْلُ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجَةٍ إلَى دَلِيلٍ ، وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ يَظْهَرُ خَلَلُ مَا قِيلَ إنَّ فِي قَوْلِهِ إنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ نَوْعُ إخْلَالٍ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ بِمَا

ذُكِرَ مَوْضِعُ خِلَافِهِ مِنْ الْأَبْعَاضِ ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الْأَبْعَاضِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ بِالتَّنْصِيفِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَهَبْت لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ لَك نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا جَازَ ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْأَبْعَاضِ بِالتَّنْصِيفِ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ الْإِجْمَالُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا عَدَلَ فِيهِ عَنْ أَصْلِهِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا صُورَةُ الْجَوَازِ فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجَةٍ إلَى الدَّلِيلِ لِجَرَيَانِهَا عَلَى أَصْلِهِ ، وَوَضَحَ دَلَالَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ عَلَى تَحَقُّقِ الشُّيُوعِ فِي الْهِبَةِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ فِي الرَّهْنِ فَقَالَ : وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ ، خَلَا أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُفَاضَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنَى الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ فِي الْهِبَةِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّ التَّفْصِيلَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ مُقْتَضَى الْإِجْمَالِ كَانَ لَغْوًا كَمَا فِي التَّنْصِيفِ فِي الْهِبَةِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ تَمَلُّكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ ، وَلَمْ يَزِدْ التَّفْصِيلُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا فَكَانَ لَغْوًا ، وَإِذَا خَالَفَهُ كَمَا فِي التَّثْلِيثِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَيُفِيدُ تَفْرِيقَ الْعَقْدِ ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ حَمْلًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى الْإِفَادَةِ ، وَكَمَا فِي الرَّهْنِ فَإِنَّ حَالَةَ التَّفْصِيلِ فِيهِ تُخَالِفُ حَالَةَ الْإِجْمَالِ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِجْمَالِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ وَعِنْدَ التَّفْصِيلِ لَا يَثْبُتُ .

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا رُجُوعَ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ } وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ التَّمْلِيكَ ، وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِي مَا يُضَادُّهُ ، بِخِلَافِ هِبَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ ؛ لِكَوْنِهِ جُزْءًا لَهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا } أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ ، فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، إذْ الْعَقْدُ يَقْبَلُهُ ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ اسْتِبْدَادٍ وَالرُّجُوعُ وَإِثْبَاتُهُ لِلْوَالِدِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ لِلْحَاجَةِ وَذَلِكَ يُسَمَّى رُجُوعًا .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلَازِمَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ .

( بَابُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ الرُّجُوعُ صَحِيحًا ، وَقَدْ يَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ مَانِعٌ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِهِ ( وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ هَاهُنَا مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ .
فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ وَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَمَنْ كَانَ مَحْرَمًا لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ كَالْأَخِ الرَّضَاعِيِّ .
وَخَرَجَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ وَهَبَ وَأَجْنَبِيٌّ الزَّوْجَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَالثَّانِي وَلَمْ يَقْتَرِنْ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ شَيْءٌ حَالَ عَقْدِ الْهِبَةِ وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُمَا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا رُجُوعَ فِيهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ } ) رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ التَّمْلِيكَ وَالْعَقْدَ لَا يَقْتَضِي مَا يُضَادُّهُ ) ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ هِبَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي هِبَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَتِمَّ لِكَوْنِهِ جُزْءًا لَهُ ( قَوْلُهُ عَلَى أَصْلِهِ ) أَيْ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ ابْنِهِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ أَوْ كَسْبُهُ فَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ كَالتَّمْلِيكِ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَئِبْ مِنْهَا } أَيْ مَا لَمْ يُعَوِّضْ ) لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَقُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقًّا

وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَخَلَا قَوْلُهُ مَا لَمْ يَئِبْ مِنْهَا عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ هُوَ أَحَقُّ وَإِنْ شَرَطَ الْعِوَضَ قَبْلَهُ ( وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْهِبَةِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ ) لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدَى إلَى مَنْ فَوْقَهُ لَيَصُونَهُ بِجَاهِهِ ، وَإِلَى مَنْ دُونَهُ لِيَخْدُمَهُ ، وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ ، وَإِذَا تَطَرَّقَ الْخَلَلُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ يَتَمَكَّنُ الْعَاقِدُ مِنْ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا ( فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ إذْ الْعَقْدُ يَقْبَلُهُ ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ اسْتِبْدَادِ الرُّجُوعِ ) يَعْنِي لَا يَسْتَبِدُّ الْوَاهِبُ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ رِضًا إلَّا الْوَالِدُ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ رُجُوعًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ ( وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيِّ ( فَلَهُ الرُّجُوعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلَازِمَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ ) لَا لِتَحْرِيمِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ } حَيْثُ شَبَّهَهُ بِعَوْدِ الْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ ، وَفِعْلُهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ .

ثُمَّ لِلرُّجُوعِ مَوَانِعُ ذَكَرَ بَعْضَهَا فَقَالَ ( إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ( أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الرُّجُوعِ فِيهَا دُونَ الزِّيَادَةِ ؛ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعَقْدِ .
قَالَ : ( أَوْ يَمُوتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا انْتَقَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ إذْ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ .
قَالَ ( أَوْ تَخْرُجُ الْهِبَةُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطِهِ فَلَا يَنْقُضُهُ ، وَلِأَنَّهُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ .

( ثُمَّ لِلرُّجُوعِ مَوَانِعُ ذَكَرَ بَعْضَهَا ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ، وَقَدْ جَمَعَهَا الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ : مَوَانِعُ الرُّجُوعِ فِي فَصْلِ الْهِبَهْ يَا صَاحِبِي حُرُوفُ دَمْعِ خُزُقَهْ فَالدَّالُ الزِّيَادَةُ ، وَالْمِيمُ مَوْتُ الْوَاهِبِ أَوْ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَالْعَيْنُ الْعِوَضُ ، وَالْخَاءُ خُرُوجُ الْهِبَةِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَالزَّايُ الزَّوْجِيَّةُ ، وَالْقَافُ الْقَرَابَةُ ، وَالْهَاءُ هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ( فَقَالَ إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ) وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : تُورَثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ ، أَمَّا اشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ فَلِأَنَّ الْمُنْفَصِلَةَ لَا تَمْنَعُ ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْمَوْهُوبَةَ إذَا وَلَدَتْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ وَإِنَّمَا مَنَعَتْ الْمُتَّصِلَةَ ( لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلرُّجُوعِ فِيهَا دُونَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْفَصْلِ ، وَلَا مَعَهَا لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعَقْدِ ) وَأَمَّا اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عَادَتْ نُقْصَانًا ، فَرُبَّ زِيَادَةٍ صُورَةً كَانَتْ نُقْصَانًا فِي الْمَعْنَى كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ مَثَلًا ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ دُونَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ بِالْعَكْسِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَّ فِي الْمُنْفَصِلَةِ إمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا ، أَوْ عَلَى الْأَصْلِ وَحْدَهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً بِالرَّدِّ أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا وَالْفَسْخُ يَرِدُ عَلَى مَوْرِدِ الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَتْبَعُ الْأُمَّ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا إلَى الثَّانِي

لِأَنَّهُ تَبْقَى الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَجَّانًا وَهُوَ رِبًا ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ بَقِيَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَجَّانًا لَمْ تُفْضِ إلَى الرِّبَا ، وَأَمَّا فِي الْمُتَّصِلَةِ فَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إنَّمَا هُوَ مِمَّنْ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَكَانَ فِيهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ بِرِضَاهُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً عَنْهُ ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَإِنَّ الرُّجُوعَ لَيْسَ بِرِضَا ذَلِكَ وَلَا بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَتْ مَانِعَةً ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَ الرُّجُوعُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ وَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا انْتَقَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ إذْ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ الْهِبَةُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطِهِ وَلِأَنَّهُ تَجَدَّدَ الْمِلْكُ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ ) وَهُوَ التَّمْلِيكُ وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ ، وَفِي تَبَدُّلِ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَذَا فِي تَبَدُّلِ السَّبَبِ .

قَالَ : ( فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا أَوْ بَنَى بَيْتًا أَوْ دُكَّانًا أَوْ آرِيًّا وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ .
وَقَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا ؛ لِأَنَّ الدُّكَّانَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا حَقِيرًا لَا يُعَدُّ زِيَادَةً أَصْلًا ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ عَظِيمَةً يُعَدُّ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي قِطْعَةٍ مِنْهَا فَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِهَا .
قَالَ : ( فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي ) ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِقَدْرِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِهَا ) ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّهَا فَكَذَا فِي نِصْفِهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
قَالَ ( وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا } ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ ( وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الصِّلَةُ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَلَوْ أَبَانَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ فَلَا رُجُوعَ .

قَالَ ( فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ إلَخْ ) هَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَكَانَ حَقُّهَا التَّقْدِيمَ .
وَالْآرِي هُوَ الْمَعْلَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
وَعِنْدَ الْعَرَبِ الْآرِي : الْأَخِيَّةُ ، وَهِيَ عُرْوَةُ حَبْلٍ تُشَدُّ إلَيْهَا الدَّابَّةُ فِي مَحْبِسِهَا ، فَاعُولٌ مِنْ تَأَرَّى بِالْمَكَانِ : إذَا أَقَامَ فِيهِ ، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ ( وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا ) وَالْوَاوُ لِلْحَالِ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْ كَانَ وَلَكِنْ لِعِظَمِ الْمَكَانِ بَعْدَ زِيَادَةٍ فِي قِطْعَةٍ مِنْهَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِهَا ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا عَنْهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا فَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ سَقَطَ الرُّجُوعُ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا ( وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ بَطَلَ الرُّجُوعُ ) ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ : قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَهُ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْجِعُ ) وَقَالَ زُفَرُ : يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْعِوَضِ الْآخَرِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا عِوَضَ إلَّا هُوَ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ إلَّا لِيَسْلَمَ لَهُ كُلُّ الْعِوَضِ وَلَمْ يَسْلَمْ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ .
قَالَ ( وَإِنْ وَهَبَ دَارًا فَعَوَّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا ) رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُعَوِّضْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَصَّ النِّصْفَ .
قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ وَفِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَصْلِ بِالرِّضَا أَوْ بِالْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَفَذَ ، وَلَوْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِقِيَامِ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَهَذَا دَوَامٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ طَلَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى ، وَإِذَا رَجَعَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالتَّرَاضِي يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطُ قَبْضَ الْوَاهِبِ وَيَصِحُّ فِي الشَّائِعِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ جَائِزًا مُوجِبًا حَقَّ

الْفَسْخِ ، فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فَيَظْهَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ لَا فِي الْفَسْخِ فَافْتَرَقَا .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ ) بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْعِوَضِ عَنْ الْهِبَةِ لِيَقَعَ الْمَدْفُوعُ إلَى الْوَاهِبِ عِوَضًا يَبْطُلُ بِهِ الرُّجُوعُ ، وَأَمَّا إذَا وَهَبَ مِنْ الْوَاهِبِ شَيْئًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَاهِبُ أَنَّهُ عِوَضُ هِبَتِهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعِوَضِ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَوْهُوبَ بَلْ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ الْجِنْسُ وَخِلَافُهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الرِّبَا ، وَلَا أَنْ يَنْحَصِرَ الْعِوَضُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، بَلْ لَوْ عَوَّضَهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ مُتَبَرِّعًا صَحَّ ( وَإِذَا قَبَضَهُ الْوَاهِبُ بَطَلَ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ ) لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرَائِطُ الْهِبَةِ مِنْ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضُ بَعْضَ الْمَوْهُوبِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ دَارًا وَالْعِوَضُ بَيْتٌ مِنْهَا أَوْ الْمَوْهُوبُ أَلْفًا وَالْعِوَضُ دِرْهَمٌ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ قَصْدَ الْوَاهِبِ مِنْ هِبَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ : الْتَحَقَ ذَلِكَ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَبِالْقَلِيلِ مِنْ مَالِهِ يَنْقَطِعُ الرُّجُوعُ فَكَذَا بِهَذَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الرُّجُوعَ فِيهِ قَبْلَ الْعِوَضِ صَحِيحٌ دُونَ سَائِرِ أَمْوَالِهِ فَلَمْ يَلْتَحِقْ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ فِي قَوْلِهِ مُتَبَرِّعًا فَائِدَةٌ أَوْ ذَكَرَهُ اتِّفَاقًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْأُولَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَمَّا بَطَلَ بِتَعْوِيضِ الْمُتَبَرِّعِ كَانَ بِتَعْوِيضِ الْمَأْمُورِ بِذَلِكَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ ، لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُعَوِّضِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَتَعْوِيضِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ عَوَّضَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةٌ فِي بُطْلَانِ حَقِّ

الرُّجُوعِ ، فَكَذَلِكَ إذَا عُوِّضَ بِأَمْرِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعَوَّضَ عَنْهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا عُوِّضَ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مَا لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْهُوبُ لَهُ صَرِيحًا .
أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلِأَنَّ التَّعْوِيضَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ أَمْرًا بِالتَّبَرُّعِ بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ مَا لَمْ يَضْمَنْ ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَهُ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْجِعَ ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ( وَقَالَ زُفَرُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْعِوَضِ ) قَاسَ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابَلٌ بِالْآخَرِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ أَحَدِهِمَا يَكُونُ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُقَابِلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْبَاقِيَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ ) وَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْهُ فِي الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَلِأَنَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ فِي الِابْتِدَاءِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْهُ فِي الْبَقَاءِ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، إذْ بِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا عِوَضَ مِنْ الِابْتِدَاءِ إلَّا هُوَ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ عِوَضٌ وَأَجْزَاءُ الْعِوَضِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ ، فَإِذَا كَانَ الْكُلُّ فِي الِابْتِدَاءِ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ كَانَ النِّصْفُ فِي مُقَابَلَةِ النِّصْفِ فَكَانَ عِوَضًا عَنْ النِّصْفِ ابْتِدَاءً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُبَادَلَاتِ تَحْقِيقًا لَهَا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ مَعَ سَلَامَةِ جُزْءٍ مِنْ

الْعِوَضِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا لِأَنَّهَا تَتِمُّ مُبَادَلَةً فَيُوَزَّعُ الْبَدَلُ عَلَى الْمُبْدَلِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ أَنَّ الْمُعَوَّضَ يَمْلِكُ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَوْهُوبِ قَطْعًا فَاعْتَبَرَ الْمُقَابَلَةَ وَالِانْقِسَامَ ، وَأَمَّا الْوَاهِبُ فَيَمْلِكُ الْهِبَةَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ ، ثُمَّ أَخْذُ الْعِوَضِ عِلَّةٌ لِسُقُوطِ حَقِّ الرُّجُوعِ وَالْعِلَّةُ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْحُكْمِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ ) أَيْ إلَّا أَنَّ الْوَاهِبَ ( يَتَخَيَّرُ ) بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ وَيَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ( لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْعِوَضِ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ ، وَإِنْ وَهَبَ دَارًا فَعَوَّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا رَجَعَ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُعَوَّضْ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَصَّ النِّصْفَ ) غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الشُّيُوعُ لَكِنَّهُ طَارِئٌ فَلَا يَضُرُّ ، كَمَا لَوْ رَجَعَ فِي النِّصْفِ بِلَا عِوَضٍ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْكُلِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَجَزُّؤُ الْإِسْقَاطِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِسْقَاطٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ فَيَجُوزُ التَّجَزُّؤُ بِاعْتِبَارِهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ .
قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا إلَخْ ) لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا بِالرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
قِيلَ لِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ضَعِيفًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْفَسْخُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةٌ لِيَتَقَوَّى بِهَا كَالْهِبَةِ ، فَإِنَّهَا لَمَّا ضَعُفَتْ لِكَوْنِهَا تَبَرُّعًا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهَا مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا

الْقَبْضُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَالْمُخَلِّصُ حَمْلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ إنْ ثَبَتَ ( قَوْلُهُ وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ ) أَيْ فِي أَصْلِ الرُّجُوعِ ضَعْفٌ ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ .
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ مَدَّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ لَيْسَ بِخَطَأٍ ، وَتَخْطِئَةُ مَا لَيْسَ بِخَطَأٍ خَطَأٌ ( قَوْلُهُ وَفِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ ) لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْهَا إنْ كَانَ الثَّوَابُ فَقَدْ حَصَلَ ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ لَمْ يَحْصُلْ ( فَإِذَا تَرَدَّدَ ) لَا بُدَّ مِنْ الْفَصْلِ بِالرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَفَذَ ( وَلَوْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ ) قَبْلَهُ ( لَمْ يَضْمَنْ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَهُ لِأَنَّ أَوَّلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَهَذَا دَوَامٌ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ تَعَدِّي ، وَإِذَا رَجَعَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا كَانَ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ ) وَخَالَفَ زُفَرَ فِي الرُّجُوعِ بِالتَّرَاضِي وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَادَ إلَيْهِ بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِالْقَضَاءِ كَانَ فَسْخًا وَإِذَا كَانَ بِالرِّضَا فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّرَاضِيَ عَلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ أَوْ عَلَى رَفْعِ سَبَبٍ لَازِمٍ يَجْعَلُ الْعَقْدَ ابْتِدَائِيًّا ، وَهَاهُنَا تَرَاضَيَا عَلَى رَفْعِ سَبَبٍ غَيْرِ لَازِمٍ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ مِلْكًا مُبْتَدَأً بَلْ يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ ( حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْوَاهِبِ وَيَصِحُّ فِي الشَّائِعِ ) كَمَا إذَا وَهَبَ الدَّارَ ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا ، وَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَمَا صَحَّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَمَا فِي

الِابْتِدَاءِ ، فَصِحَّتُهُ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَالشُّيُوعُ طَارِئٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ ) هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ جَائِزُ الْفَسْخِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ ، وَمَا هُوَ جَائِزُ الْفَسْخِ يَقْتَضِي جَوَازَ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرِّضَا وَالْقَضَاءِ لِأَنَّهُمَا يَفْعَلَانِ بِالتَّرَاضِي مَا يَفْعَلُ الْقَاضِي وَهُوَ الْفَسْخُ فَيَظْهَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِيَشْمَلَ التَّرَاضِيَ وَالْقَضَاءَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الرَّدِّ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ إنَّمَا كَانَ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ خَاصَّةً ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ ، حَتَّى لَوْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ رَدِّ الْمَبِيعِ بَطَلَ الرَّدُّ لِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ لَا فِي الْفَسْخِ ، لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ الْفَسْخَ ، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى مَا لَمْ يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ مِنْ رَفْعِهِ كَانَ ذَلِكَ كَابْتِدَاءِ عَقْدٍ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَقْضِي أَوَّلًا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ مِنْ وَصْفِ السَّلَامَةِ ، فَإِنْ عَجَزَ الْبَائِعُ قُضِيَ بِالْفَسْخِ فَلَمْ يَكُنْ مَا ثَبَتَ بِالتَّرَاضِي عَيْنُ مَا ثَبَتَ بِالْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا ، وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ فَوَهَبَ الْمَوْهُوبَ لَهُ لِآخَرَ ثُمَّ رَجَعَ الثَّانِي فِي هِبَتِهِ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ سَوَاءٌ رَجَعَ الثَّانِي بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِي غَيْرِهِ ، وَإِذَا رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ كَذَلِكَ ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ إنْ كَانَ بِقَضَاءٍ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ

قَالَ : ( وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ وَاسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ وَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ السَّلَامَةَ ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ ، وَالْغُرُورُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ سَبَبُ الرُّجُوعِ لَا فِي غَيْرِهِ .قَالَ ( وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ إلَخْ ) وَإِذَا تَلِفَ الْمَوْهُوبُ فَاسْتُحِقَّ فَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ ، أَيْ لِلْوَاهِبِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُودِعِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُودَعِ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي ذَلِكَ الْقَبْضِ بِحِفْظِهَا لِأَجْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : غَرَّهُ بِإِيجَابِهِ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَالْغُرُورُ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْبَائِعِ إذَا غَرَّ الْمُشْتَرِيَ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْغُرُورَ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ سَبَبُ الرُّجُوعِ لَا مُطْلَقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْوَاهِبَ لَوْ ضَمِنَ سَلَامَةَ الْمَوْهُوبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ نَصًّا ، فَإِنْ ضَمِنَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ رَجَعَ عَلَى الْوَاهِبِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فَكَانَ سَبَبَ الرُّجُوعِ .
أَمَّا الْغُرُورُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْ بِالضَّمَانِ نَصًّا .

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ اُعْتُبِرَ التَّقَابُضُ فِي الْعِوَضَيْنِ ، وَتَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ ) ؛ لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً ( فَإِنْ تَقَابَضَا صَحَّ الْعَقْدُ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَتُسْتَحَقُّ فِيهِ الشُّفْعَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي ، وَلِهَذَا كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقًا .
وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ حُكْمِهَا تَأَخُّرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ ، وَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعُ مِنْ حُكْمِهِ اللُّزُومُ ، وَقَدْ تَنْقَلِبُ الْهِبَةُ لَازِمَةً بِالتَّعْوِيضِ فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ بَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْبَيْعِ فِيهِ ، إذْ هُوَ لَا يُصْلَحُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ .

فَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ وَهَبْتُك هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَهَبَ لِي هَذَا الْعَبْدَ لَا أَنْ يَقُولَ بِالْيَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً بِالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ عَلَيَّ فَإِنَّهُ يَكُونُ هِبَةً ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِي الْعِوَضَيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ الْقَبْضِ وَيَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ ، فَإِنْ تَقَابَضَا صَحَّ الْعَقْدُ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَتُسْتَحَقُّ الشُّفْعَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ : هُوَ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي ، وَلِهَذَا كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقًا وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ : جِهَةُ الْهِبَةِ لَفْظًا ، وَجِهَةُ الْبَيْعِ مَعْنًى ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَكُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَجَبَ إعْمَالُهُمَا لِأَنَّ إعْمَالَ الشَّبَهَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا .
أَمَّا أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْجِهَتَيْنِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إمْكَانُ الْجَمْعِ فَلِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ حُكْمِهَا تَأَخُّرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَالْبَيْعُ مِنْ حُكْمِهِ اللُّزُومُ ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ كَمَا إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ ، وَإِذَا انْتَفَى الْمُنَافَاةُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ لَا مَحَالَةَ ، فَعَمِلْنَا بِهِمَا وَاعْتَبَرْنَا ابْتِدَاءً بِلَفْظِهَا وَهُوَ لَفْظُ الْهِبَةِ وَانْتِهَاءً بِمَعْنَاهَا وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ ، كَالْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ فِي الْحَالِ صُورَةً وَوَصِيَّةٌ مَعْنًى ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ بِلَفْظِهِ حَتَّى يَبْطُلَ لِعَدَمِ الْقَبْضِ ، وَلَا يَتِمُّ بِالشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَانْتِهَاؤُهُ بِمَعْنَاهُ حَتَّى يَكُونَ

مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ قَوَالِبُ الْمَعَانِي فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ اللَّفْظِ وَإِنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى إلَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا إذَا بَاعَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْبَيْعِ فِيهِ إذْ هُوَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنَفْسِهِ .

قَالَ : ( وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَانْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِهَا .

فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُتَعَلِّقَةً بِالْهِبَةِ بِنَوْعٍ مِنْ التَّعَلُّقِ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ .
قَالَ ( وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْحَمْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ مِنْهَا مَا يَجُوزُ فِيهِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَقِسْمٌ مِنْهَا مَا يَبْطُلَانِ فِيهِ جَمِيعًا .
وَقِسْمٌ مِنْهَا مَا يَصِحَّانِ فِيهِ جَمِيعًا .
فَالْأَوَّلُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْهِبَةِ وَمِنْ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ الْجَارِيَةَ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا وَالْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَوْصَافِ مَقْصُودًا ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْحَمْلَ لِآخَرَ لَا يَصِحُّ ، فَكَذَا إذَا اسْتَثْنَى عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ عَامِلًا انْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا ، فَلَمَّا اُسْتُثْنِيَ الْحَمْلُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ الصُّوفَ عَلَى الظَّهْرِ وَأَمَرَهُ بِجَزِّهِ أَوْ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ وَحَلَبَهُ وَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا دُونَ الْحَمْلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَلَا يُعْلَمُ لَهُ وُجُودٌ حَقِيقَةً ، بِخِلَافِ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ ، وَبِأَنَّ إخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَطْنِ لَيْسَ إلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِي ذَلِكَ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ ، بِخِلَافِ الْجِزَازِ فِي الصُّوفِ وَالْحَلْبِ فِي اللَّبَنِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ صِحَّةُ أَصْلِ الْعَقْدِ وَبُطْلَانُ

الِاسْتِثْنَاءِ ( هُوَ الْحُكْمُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ) ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ ) إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي ( لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِهَا ) أَيْ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الثَّالِثَ وَهُوَ فِي الْوَصِيَّةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيهَا

وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْجَنِينُ عَلَى مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ شَبِيهَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهِ لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمَالِكِ .
قَالَ : ( فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهَا أَوْ أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ وَهَبَ دَارًا أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ) .
لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَتْ فَاسِدَةً ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِهَا ، أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعْمِرِ } بِخِلَافِ الْبَيْعِ { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } وَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي مَعْنَى الرِّبَا ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ .

( وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْجَنِينُ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ ) لِخُرُوجِهِ عَنْهُ بِالْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَكُنْ هِبَةَ مُشَاعٍ فَتَكُونُ جَائِزَةً ( فَأَشْبَهَ الِاسْتِثْنَاءَ ) فِي إمْكَانِ تَجْوِيزِ الْهِبَةِ ( وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يُشْبِهْ الِاسْتِثْنَاءَ ) فِي التَّجْوِيزِ لِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ بِإِبْطَالِهِ وَجُعِلَ الْحَمْلُ مَوْهُوبًا ( وَهَاهُنَا التَّدْبِيرُ يَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ ) وَهِيَ لَا تَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَبْ أَنَّهَا هِبَةُ مُشَاعٍ لَكِنَّهَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهِيَ جَائِزَةٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ عَرْضِيَّةَ الِانْفِصَالِ فِي ثَانِي الْحَالِ ثَابِتَةٌ لَا مَحَالَةَ فَأُنْزِلَ مُنْفَصِلًا فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ الْجَنِينَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ فَكَانَ فِي حُكْمِ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا اسْتَشْعَرَ هَذَا السُّؤَالَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ ( أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ ) فَهُوَ كَمَا إذَا وَهَبَ الْجَوَالِقَ وَفِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ الْحَقِيقِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَسْأَلَةُ التَّدْبِيرِ مُشَابِهَةً بِالِاسْتِثْنَاءِ وَمَسْأَلَةُ الْإِعْتَاقِ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ إذَا أُرِيدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ التَّكَلُّمُ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ يُورِثُ الشُّيُوعَ ، وَمَسْأَلَةُ التَّدْبِيرِ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ فَكَانَتَا مُتَشَابِهَتَيْنِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يُورِثُ ذَلِكَ فَلَمْ يُشَابِهْهُ ، وَالْمُصَنِّفُ أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ اسْتِثْنَاءَ الْحَمْلِ ، وَمَسْأَلَةُ الْإِعْتَاقِ تُشَابِهُهُ فِي جَوَازِ الْهِبَةِ وَالتَّدْبِيرُ لَمْ يُشَابِهْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ( فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا أَوْ أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ وَهَبَ دَارًا أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ

بِدَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ) وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِوَضًا ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عِوَضًا إنَّمَا هُوَ بِأَلْفَاظٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَإِنَّمَا بَطَلَ الشُّرُوطُ لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ مُطْلَقًا بِلَا تَوْقِيتٍ ، فَإِذَا شُرِطَ عَلَيْهِ الرَّدُّ أَوْ الْإِعْتَاقُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَمُقَيَّدٌ بِهَا ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعْمِرِ فِي رُجُوعِهَا إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعَمَّرِ لَهُ وَجَعَلَهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُعَمَّرِ لَهُ } ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } وَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي مَعْنَى الرِّبَا وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالْهِبَةُ لَيْسَتْ مِنْهَا .

قَالَ : ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ إذَا جَاءَ الْغَدُ فَهِيَ لَك أَوْ أَنْتَ مِنْهَا بَرِيءٌ .
أَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ النِّصْفَ فَلَكَ نِصْفُهُ أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهُوَ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ إسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ إبْرَاءٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ تَمْلِيكًا ، وَوَصْفٌ مِنْ وَجْهٍ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ إسْقَاطًا ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ .
وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ ) وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ لَك أَوْ أَنْتَ مِنْهَا بَرِيءٌ أَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ النِّصْفَ فَلَكَ نِصْفُهُ أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهُوَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ لِارْتِدَادِهِ بِالرَّدِّ ، إسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ ، وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ إبْرَاءٌ لِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فَكَانَ تَمْلِيكًا مِنْ وَجْهٍ إسْقَاطًا مِنْ وَجْهٍ .
وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا إلَى مَا فِيهِ تَمْلِيكٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُمْ هِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ مَنْقُوضٌ بِدَيْنِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَإِنَّ رَبَّ الدَّيْنِ إذَا أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى ذَلِكَ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ هِبَةُ الدَّيْنِ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الصَّرْفِ ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ ( قَوْلُهُ قُلْنَا إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ) يُفِيدُ بِإِطْلَاقِهِ أَنَّ عَمَلَ الرَّدِّ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ أَنْ يَرُدَّهُ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ مَا لَا يُحْلَفُ بِهَا : أَيْ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ مِنْهَا .
وَمِنْهَا مَا يُحْلَفُ بِهَا ( كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ) وَغَيْرِهِمَا

قَالَ : ( وَالْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ) لِمَا رَوَيْنَا .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ عُمُرَهُ .
وَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ التَّمْلِيكُ ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لِمَا رَوَيْنَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ( وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَائِزَةٌ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ .
وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ كَالْعُمْرَى .
وَلَهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى } وَلِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا إنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَكَ ، وَاللَّفْظُ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُ يُرَاقِبُ مَوْتَهُ ، وَهَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ .
وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ تَكُونُ عَارِيَّةً عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ .

( وَالْعُمْرَى ) وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لِشَخْصٍ عُمْرَهُ ، فَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ ( جَائِزَةٌ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِمَا رَوَيْنَا ) { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى } ( وَالشَّرْطُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ ( بَاطِلٌ لِمَا رَوَيْنَا ) { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعْمِرِ } ، وَبُطْلَانُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ دَارِي لَك هِبَةٌ ( وَالرُّقْبَى ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ دَارِي لَك رُقْبَى ( بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) لَا تُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَارِيَّةً عِنْدَهُ يَجُوزُ لِلْمُعَمِّرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَيَبِيعَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك هِبَةٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ ) لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِالْخَطَرِ إنْ كَانَ الرُّقْبَى مَأْخُوذًا مِنْ الْمُرَاقَبَةِ وَإِنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْإِرْقَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : رَقَبَةُ دَارِي لَك فَصَارَ كَالْعُمْرَى ( وَلَهُمَا ) مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ ( { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى } وَلِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا أَنْ يَقُولَ : إنْ مِتّ قَبْلَك فَهُوَ لَك أُخِذَتْ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُ يُرَاقِبُ مَوْتَهُ ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالْخَطَرِ فَيَكُونُ بَاطِلًا ) وَقَوْلُهُ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ بِجَوَازِهَا لَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ .
بَلْ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ الرَّقَبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَقِيلَ عَلَيْهِ أَنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَإِبْدَاعُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا لِأَجْلِ مَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا جَوَابُهُمَا عَنْ

حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى ؟ } أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الرُّقْبَى مُفَسَّرًا بِوَجْهٍ وَاضِحٍ صَحِيحٍ فَأَجَابَ بِجَوَازِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ : ( وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ ( فَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ ( وَلَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ .
وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ الثَّوَابَ .
وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْفَقِيرَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ .( فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ ) لَمَّا كَانَتْ الصَّدَقَةُ تُشَارِكُ الْهِبَةَ فِي الشُّرُوطِ وَتُخَالِفُهَا فِي الْحُكْمِ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَجَعَلَ لَهَا فَصْلًا .
قَالَ ( الصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ ) الصَّدَقَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا مَقْبُوضَةً لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ فَلَا تَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مُشَاعًا ، لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ أَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ ، وَلَا رُجُوعَ فِيهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ فَصَارَتْ كَهِبَةِ عِوَضٍ عَنْهَا ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّ حُصُولَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يُقْطَعُ بِحُصُولِهِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ بِهِ حُصُولُ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ فَإِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ بَطَلَ الرُّجُوعُ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْغَرَضَ ثَمَّةَ حُصُولُ الْعِوَضِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ قَدْ يُرَادُ بِهَا الثَّوَابُ ، وَإِذَا وَهَبَ لِفَقِيرٍ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ ، كَمَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ فِي عَدَمِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ قَالُوا : فِي ذِكْرِهِ لَفْظَ الصَّدَقَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ ، وَالتَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ لَا يُنَافِي الْقُرْبَةَ

( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ يَتَصَدَّقُ بِجِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ ) وَيُرْوَى أَنَّهُ وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ ( وَيُقَالُ لَهُ أَمْسِكْ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِكَ وَعِيَالِكَ إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَنْفَقَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .( قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ إلَخْ ) ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ وُجُوهِهَا فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ هَاهُنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( الْإِجَارَةُ : عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى مَا سَيُوجَدُ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهَا الْآثَارُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ ، ثُمَّ عَمَلُهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا حَالَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ .

( كِتَابُ الْإِجَارَاتِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ ، وَقَدَّمَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى الْإِجَارَةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً ، وَإِنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ذَاتُ أَفْرَادٍ ، فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي وَالدَّوَابِّ .
وَنَوْعٌ يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْمُحْتَرِفِينَ لِلْأَعْمَالِ نَحْوِ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا .
وَمِنْ مَحَاسِنِهَا دَفْعُ الْحَاجَةِ بِقَلِيلٍ مِنْ الْبَدَلِ ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا وَحَمَّامٍ يَغْتَسِلُ فِيهَا وَإِبِلٍ تَحْمِلُ أَثْقَالَهُ إلَى بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهُ إلَّا بِمَشَقَّةِ النَّفْسِ .
وَسَبَبُهَا مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ تَعَلُّقِ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا .
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمَعْلُومِيَّةُ الْبَدَلَيْنِ .
وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِلَفْظَيْنِ مَاضِيَيْنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ .
وَأَمَّا حُكْمُهَا وَدَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا فَسَيُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ إلَخْ ) بَيْنَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ اللُّغَوِيَّ هُوَ الشَّرْعِيُّ بِلَا مُخَالَفَةٍ وَهُوَ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا ، فَالشَّرْعِيُّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ .
وَلَمَّا كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْحَالِ لَمْ يَقْتَضِ الْقِيَاسُ جَوَازَهَا ، إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ ، وَمِنْ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } فَإِنَّ الْأَمْرَ بِإِعْطَاءِ

الْأَجْرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } فِيهِ وَزِيَادَةُ بَيَانِ أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الْأَجْرِ شَرْطُ جَوَازِهَا ( وَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ ) لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، فَالْمِلْكُ فِي الْبَدَلَيْنِ أَيْضًا يَقَعُ سَاعَةً فَسَاعَةً لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ يَقَعُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَكَذَا فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْأُجْرَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ فِيهَا ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ شَهْرًا مَثَلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِلَا عُذْرٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ ) إلْزَامًا لِلْعَقْدِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَمَلُ الْعَقْدِ وَأَثَرُهُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ ) يَعْنِي يَتَرَاخَى حُكْمُ اللَّفْظِ إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ ( مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا ) يَعْنِي يَثْبُتَانِ مَعًا ( حَالَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ ) بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ وَيَتَأَخَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ إلَى نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَجَازَ أَنْ يَنْفَصِلَ حُكْمُ الْعَقْدِ عَنْهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ

( وَلَا تَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً ، وَالْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ ( وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ ، فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ .
وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ .
فَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَنْفِي صَلَاحِيَّةَ غَيْرِهِ ؛ لِ أَنَّهُ عِوَضٌ مَالِيٌّ ( وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ ، لِلسُّكْنَى وَالْأَرْضِينَ لِلزِّرَاعَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَ قَدْرُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا مَعْلُومًا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ .
وَقَوْلُهُ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً وَلِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا عَسَى ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَوْقَافِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ كَيْ لَا يَدَّعِيَ الْمُسْتَأْجِرُ مِلْكَهَا وَهِيَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ هُوَ الْمُخْتَارُ .
قَالَ : ( وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِنَفْسِهِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى صَبْغِ ثَوْبِهِ أَوْ خِيَاطَتِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً ؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا أَوْ يَرْكَبَهَا مَسَافَةً سَمَّاهَا ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ الثَّوْبَ وَلَوْنَ الصَّبْغِ وَقَدْرَهُ وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ وَالْقَدْرَ الْمَحْمُولَ وَجِنْسَهُ وَالْمَسَافَةَ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، وَرُبَّمَا يُقَالُ : الْإِجَارَةُ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ .
قَالَ : ( وَتَارَةً تَصِيرُ

الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا ، لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا آرَاهَ مَا يَنْقُلُهُ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْمِلُ إلَيْهِ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ .

( وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَتَّى تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً وَالْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } فَإِنَّهُ كَمَا يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى كَوْنِ مَعْلُومِيَّةِ الْأُجْرَةِ شَرْطًا يَدُلُّ بِدَلَالَتِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ الْمَنَافِعِ ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ الْمَنَافِعُ وَهُوَ الْأَصْلُ ، وَالْمَعْقُودُ بِهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ كَالتَّبَعِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، فَإِذَا كَانَ مَعْلُومِيَّةُ التَّبَعِ شَرْطًا كَانَ مَعْلُومِيَّةُ الْأَصْلِ أَوْلَى بِذَلِكَ ( وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ ) وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَمَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ أُجْرَةً ، لِأَنَّ بَعْضَ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا كَالْأَعْيَانِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ مَثَلًا إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً صَلُحَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْعَيْنُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْعَيْنُ ثَمَنًا كَانَتْ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْمِثَالِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُنَاظِرِينَ ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا جَازَ أَنْ يُمَثَّلَ بِمِثَالٍ آخَرَ فَلْيُمَثِّلْ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ أُجْرَةً إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنَافِعِ ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ سُكْنَى دَارٍ بِرُكُوبِ دَابَّةٍ وَلَا تَصْلُحُ ثَمَنًا أَصْلًا ( قَوْلُهُ فَهَذَا اللَّفْظُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ إلَخْ ( لَا يَنْفِي صَلَاحِيَّةَ غَيْرِهِ ) كَمَا ذَكَرْنَا ( لِأَنَّهُ

عِوَضٌ مَالِيٌّ ) فَيَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمَالِ وَالْأَعْيَانُ وَالْمَنَافِعُ أَمْوَالٌ فَجَازَ أَنْ تَقَعَ أُجْرَةً .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الثَّمَنُ عِوَضٌ مَالِيٌّ إلَخْ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الثَّمَنَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ كَالنُّقُودِ وَالْمُقَدَّرَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الَّتِي تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ .
قَالَ ( وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً فِي الْإِجَارَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا تَكُونُ بِهِ مَعْلُومَةً ، فَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى وَالْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَكَائِنَةً مَا كَانَتْ ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَ مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا مَعْلُومًا فَتَصِحُّ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَفَاوِتَةٍ بِأَنْ سَمَّى مَا يَزْرَعُ فِيهَا .
فَإِنَّ مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ أَفْضَى إلَى النِّزَاعِ الْمُفْسِدِ لِلْعَقْدِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ طَوِيلِ الْمُدَّةِ وَقَصِيرِهَا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يَعِيشُ إلَيْهَا الْعَاقِدَانِ ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي جَوَّزَتْ الْإِجَارَةَ لَهَا قَدْ تَمَسُّ إلَى ذَلِكَ ، وَهِيَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَتْ صَحِيحَةً كَالْأَجَلِ فِي الْبَيْعِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَعِيشُ إلَيْهَا أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْبَقَاءِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ وَالظَّنُّ مِثْلُ التَّيَقُّنِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ فَصَارَتْ الْإِجَارَةُ مُؤَبَّدَةً مَعْنًى وَالتَّأْبِيدُ يُبْطِلُهَا .
وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْخَصَّافُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بِصِيغَةِ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّوْقِيتَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَوْتِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي مُدَّةٍ يَعِيشُ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ غَالِبًا وَلَمْ

يُعْتَبَرْ ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى مِائَةِ سَنَةٍ فَإِنَّهُ مُتْعَةٌ وَلَمْ يُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْبِيدِ لِيَصِحَّ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعِيشُ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا وَجُعِلَ ذَلِكَ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا اعْتِبَارًا لِلصِّيغَةِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ فِي الْأَوْقَافِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ : أَيَّ مُدَّةٍ كَانَتْ ، وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِي الْأَوْقَافِ الْإِجَارَةُ إلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَهِيَ مَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ هُوَ الْمُخْتَارُ كَيْ لَا يَدَّعِيَ الْمُسْتَأْجِرُ مِلْكَهَا ، هَذَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَاجِرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ، وَأَمَّا إذَا شَرَطَ فَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ تَقْتَضِي ذَلِكَ يُرْفَعُ إلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَحْكُمَ بِجَوَازِهَا .
( وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِنَفْسِهِ ) أَيْ بِنَفْسِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى صَبْغِ ثَوْبِهِ وَبَيَّنَ الثَّوْبَ وَلَوْنَ الصَّبْغِ وَقَدْرِهِ ، أَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبِهِ وَبَيْنَ الثَّوْبِ وَجِنْسِ الْخِيَاطَةِ ، أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ وَبَيَّنَ جِنْسَ الْمَحْمُولِ وَقَدْرِهِ وَالْمَسَافَةَ وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .

قَالَ : ( الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ، أَوْ بِالتَّعْجِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ .
وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ .
وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُثْبِتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ .

بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ ) لَمَّا كَانَتْ الْإِجَارَةُ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ بِلَا خِيَارِ شَرْطٍ وَجَبَ إفْرَادُهَا بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّمَلُّكِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ .
قَالَ ( الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ ؛ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَالْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ لَا تُمْلَكُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ ، وَمَا لَا يُمْلَكُ لَا يَجِبُ إيفَاؤُهُ .
فَإِنْ قُلْت : فَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيُ الْوُجُوبِ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ ، وَإِرَادَةُ الْأَخَصِّ لَيْسَ بِمَجَازٍ شَائِعٍ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْأَعَمِّ عَلَيْهِ أَصْلًا .
قُلْت : أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَنَفْيُ الْوُجُوبِ فِيهَا وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ لَا مَحَالَةَ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ يُسْتَحَقُّ بِمَعْنَى يَمْلِكُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مُتَّحِدًا ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَلَا يَتَعَدَّى مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إلَى إفَادَةِ الْمِلْكِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ إذَا ثَبَتَ يَسْتَتْبِعُ لَوَازِمَهُ ، وَإِفَادَةُ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالْعَقْدُ : أَيْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُعَاوَضَةً بِلَا خِلَافٍ ، وَمِنْ قَضِيَّةِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ .
فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ وَهُوَ الْأَجْرُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ .
وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِذَلِكَ .
وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ بِلَا شَرْطٍ ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَلَهُ مُطَالِبٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ إجَارَةً أَوْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ .
فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ .
وَعُورِضَ دَلِيلُنَا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ وَالِارْتِهَانِ عَنْهَا وَالْكَفَالَةُ .
بِهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْلَا الْمِلْكُ لَمَا صَحَّتْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعَةٌ ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ إذْ اللَّفْظُ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَعَدَمُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ ، وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَصِحَّةِ الرَّهْنِ ، لِأَنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ بِالتَّعْجِيلِ

أَوْ اشْتِرَاطُهُ فَكَذَا الرَّهْنُ بِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَيْنٍ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، عَلَى أَنَّهُ أُقِيمَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَكُنْ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَهَذَا طَرِيقٌ سَائِغٌ شَائِعٌ لِكَوْنِهِ إقَامَةَ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ ، وَأَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فَلَمْ يُعْهَدْ كَذَلِكَ

( وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا ) ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فَأَقَمْنَا تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ مَقَامَهُ إذْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَثْبُتُ بِهِ .
قَالَ : ( فَإِنْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ يَدِهِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ ) ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ إنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَإِذَا فَاتَ التَّمَكُّنُ فَاتَ التَّسْلِيمُ ، وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَسَقَطَ الْأَجْرُ ، وَإِنْ وَجَدَ الْغَصْبَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ .
إذْ الِانْفِسَاخُ فِي بَعْضِهَا .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً ( إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَقْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ ( وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرَاضِيِ ) لِمَا بَيَّنَّا .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ فَلِلْجَمَّالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ ) ؛ لِأَنَّ سَيْرَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مَقْصُودٌ .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا ، كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ سَاعَةً فَسَاعَةً لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِغَيْرِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَقَدَّرْنَا بِمَا ذَكَرْنَا .

قَوْلُهُ وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ ) لِبَيَانِ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ يَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ .
لَا يُقَالُ : فَعَلَى هَذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ بِأَحَدِ مَعَانٍ أَرْبَعَةٍ ، وَأَنْ يَقُولَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَهُ أَحْيَانًا ، وَبَدَلُ أَحَدِ الْأَقْسَامِ لَا يَكُونُ قِسْمًا بِذَاتِهِ ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ مَا اسْتَأْجَرَهُ وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ مَانِعٌ وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا وَجَبَ الْأَجْرُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْآجِرِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ لَا تَسْلِيمُ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، فَكَانَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ قَائِمًا مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ فَارِغَةً عَنْ مَتَاعِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْغَيْرِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ سُلْطَانٌ أَوْ غَاصِبٌ فَقَدْ حَصَلَ التَّمَكُّنُ وَتَرْكُ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَتَقْصِيرٌ مِنْهُ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأَجْرِ ، وَاعْتَبَرَ الْقُيُودَ ، فَإِنَّ بِزَوَالِ شَيْءٍ مِنْهَا زَوَالَ التَّمَكُّنِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ ، فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْعَيْنَ أَوْ سَلَّمَهَا مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِي غَيْرِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَذَهَبَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ بِالدَّابَّةِ وَلَمْ يَرْكَبْهَا أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِيهَا فِي غَيْرِ مَكَانِ الْعَقْدِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً فِي غَيْرِ بَغْدَادَ إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِيهَا فِي مَكَانِهِ لَكِنْ بِهَا عَرَجٌ فَاحِشٌ يَمْنَعُ الرُّكُوبَ ، أَوْ

سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِيهَا فِي مَكَانِهِ صَحِيحَةً لَا عُذْرَ فِيهَا لَكِنْ مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَكِنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ بَلْ لِفَوَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ أَكْثَرِ هَذِهِ الْقُيُودِ فَمَا وَجْهُهُ ؟ قُلْت : وَجْهُهُ الِاقْتِصَارُ لِلِاخْتِصَارِ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ وَالْعُرْفِ ، فَإِنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَالَّةٌ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدُ مِنْهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الِانْتِفَاعِ ، وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ فَارِغًا عَمَّا يَمْنَعُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَالْعُرْفُ فَاشٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ وَمَكَانِهِ فَكَانَ مَعْلُومًا عَادَةً ، وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْتَنِعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ فَاقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمَا ، وَوُجُودُ الْمَانِعِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ وَالْمَكَانُ يُسْقِطُ الْأَجْرَ بِقَدْرِهِ لِوُجُوبِ الِانْفِسَاخِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ .
قَالَ ( مَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا ) ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ مُطَالَبَةِ الْأَجْرِ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ مُبَيَّنًا بِالْعَقْدِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ شَهْرًا كَانَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ ، إذْ الِاسْتِحْقَاقُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ ، وَالتَّأْجِيلُ يُسْقِطُ اسْتِحْقَاقَ الْمُطَالَبَةِ إلَى انْتِهَاءِ الْأَجَلِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرَاضِي ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى

مَكَّةَ فَلِلْجَمَّالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ لِأَنَّ سَيْرَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مَقْصُودٌ ) كَسُكْنَى يَوْمٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا ( وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ ) وَمَا هُوَ جُمْلَةٌ فِي الْمُدَّةِ لَا تَكُونُ مُسَلَّمَةً فِي بَعْضِهَا لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْأَعْوَاضِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ الزَّمَانِ فَلَا يُسْتَحَقُّ الْمُؤَجَّلُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ جُمْلَةِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُسَلَّمْ جَمِيعُهُ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُ الثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ كَالْخِيَاطَةِ ، فَإِنَّ الْخَيَّاطَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ وَقَبْلَ الْفَرَاغِ كَمَا سَيَأْتِي .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ الْمُصَنِّفُ ( فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا ) يَعْنِي الْمَنَافِعَ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ أَجْزَاءَ الْعِوَضِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ وَقَاسَ الْمَنَافِعَ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، لِأَنَّ فِي الْمَنَافِعِ قَدْ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَهَا فَيَلْزَمُهُ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَمَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَلَّمْ مِنْ الْخَيَّاطِ شَيْئًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْعِوَضِ قَدْ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ وُجُوبًا ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ وَفِي ذَلِكَ لَا يَتَوَزَّعُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمُ فِي الْخَيَّاطِ وُجِدَ تَقْدِيرًا لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيَّاطِ لَمَّا اتَّصَلَ بِالثَّوْبِ كَانَ ذَلِكَ تَسْلِيمًا تَقْدِيرًا عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَلْتَزِمْ صِحَّةَ دَلِيلِ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا أَلْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلرُّجُوعِ عَنْهُ وَجْهٌ ( وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ

يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ سَاعَةً فَسَاعَةً تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ ) بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ ( إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِغَيْرِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ) بَلْ الْمُطَالَبَةُ حِينَئِذٍ تُفْضِي إلَى عَدَمِهِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجِّرِ فَيَمْتَنِعُ الِانْتِفَاعُ مِنْ جِهَتِهِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ ، وَمَا أَفْضَى وُجُودُهُ إلَى عَدَمِهِ فَهُوَ مُنْتَفٍ ( فَقَدَّرْنَا بِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ الْيَوْمِ فِي الدَّارِ وَالْمَرْحَلَةِ فِي الْبَعِيرِ

قَالَ : ( وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأَجْرِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ ، وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَازِمٌ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يُخْرِجَ الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ .
فَلَوْ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِلْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، ( فَإِنْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَضْعِ فِي بَيْتِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الْجِنَايَةُ .
قَالَ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بَعْدَ حَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامًا لِلْوَلِيمَةِ فَالْعُرْفُ عَلَيْهِ ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ إذَا أَقَامَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يُشْرِجَهَا ) ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيجَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ ، إذْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْفَسَادِ قَبْلَهُ فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ عُرْفًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ بِالْإِقَامَةِ ، وَالتَّشْرِيجُ عَمَلٌ زَائِدٌ كَالنَّقْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ التَّشْرِيجِ بِالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ

الْإِقَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ مُنْتَشِرٌ ، وَبِخِلَافِ الْخُبْزِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ .
قَالَ : ( وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَضَاعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْحَبْسِ فَبَقِيَ أَمَانَةً كَمَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَلَا أَجْرَ لَهُ لِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْعَيْنُ كَانَتْ مَضْمُونَةً قَبْلَ الْحَبْسِ فَكَذَا بَعْدَهُ ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ ، وَسَيُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ ) كُلِّهِ ( لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْأَجْرُ ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَا ثَوْبَيْنِ فَفَرَغَ مِنْ أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ يَطْلُبَ أُجْرَتَهُ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ( وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ( إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ التَّعْجِيلُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَازِمٌ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا وَقَعَ مُخَالِفًا لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ فِي الْمَبْسُوطِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، وَذُكِرَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ نَقْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا خَاطَهُ .
وَنُقِلَ عَنْ الذَّخِيرَةِ : يَجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا فِي الْجَمَّالِ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَكِنْ نُقِلَ فِي التَّجْرِيدِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ صَاحِبَ التَّجْرِيدِ أَبَا الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ .
وَأَقُولُ : كَلَامُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَيَّنَّا لِكُلِّ جُزْءٍ حِصَّةً مَعْلُومَةً ، إذَا لَيْسَ لِلْكَمِّ مَثَلًا أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لِلذَّوَائِلِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ عَادَةً فَلَمْ تَكُنْ الْحِصَّةُ مَعْلُومَةً إلَّا بِتَعْيِينِهِمَا وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَيَسْتَوْجِبُ أُجْرَةً كَمَا

فِي كُلِّ الثَّوْبِ ، وَلَعَلَّ هَذَا مُعْتَمَدُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ ) ذَكَرَ هَذَا الْبَيَانُ حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَيَّاطِ آنِفًا .
وَالثَّانِي أَنَّ فَرَاغَ الْعَمَلِ بِمَاذَا يَكُونُ ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزَ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَخْرُجَ الْخُبْزُ مِنْ التَّنُّورِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ بِتَمَامِ الْعَمَلِ وَتَمَامُ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ ( فَلَوْ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا أَجْرَ لَهُ لِلْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ) فَإِنْ قِيلَ : خَبَزَهُ فِي بَيْتِهِ يَمْنَعُ أَنْ يَخْبِزَ لِغَيْرِهِ ، وَمَنْ عَمِلَ لِوَاحِدٍ فَهُوَ أَجِيرُ وَحْدٍ ، وَاسْتِحْقَاقُهُ الْأُجْرَةَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ أَجِيرَ الْوَحْدِ مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْمُدَّةِ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُسْتَأْجَرٌ عَلَى الْعَمَلِ فَكَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا تَوَقَّفَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى فَرَاغِ الْعَمَلِ ( فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ التَّنُّورِ ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ ) لِأَنَّ عَمَلَهُ تَمَّ بِالْإِخْرَاجِ وَالتَّسْلِيمُ وُجِدَ بِالْوَضْعِ فِي بَيْتِهِ ( وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ تُوجِبُهُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهَذَا ) أَيْ قَوْلُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ( عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ) وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَمِينِ ( وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ ) لِأَنَّ الْعَيْنَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ ( وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِحَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ ) وَالْوَضْعُ فِي بَيْتِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ كَانَ صَاحِبُ الدَّقِيقِ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ،

وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَطَبِ وَالْمِلْحِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَحَالَ وُجُوبِهِ رَمَادًا لَا قِيمَةَ لَهُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَهْلَكْ مِنْ عَمَلِهِ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، وَهَذَا يَتِمُّ إنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي بَيْتِهِ تَسْلِيمًا ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامَ وَلِيمَةٍ فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ إلَى الْقِصَاعِ ) لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ عُرْفًا ، وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ فِي طَبْخِ قِدْرٍ خَاصَّةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْغَرْفُ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبَنًا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِإِقَامَتِهَا ) فَإِنْ أَفْسَدَهُ الْمَطَرُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ انْكَسَرَ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسَلِّمًا مَا لَمْ يَصِرْ لَبَنًا ، وَمَا دَامَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَصِرْ لَبَنًا ( وَقَالَا : لَا يَسْتَحِقُّهُ حَتَّى يُشَرِّجَهُ ) أَيْ يُنَضِّدَهُ بِضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ ( لِأَنَّ التَّشْرِيجَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ ) عُرْفًا ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ إلَخْ ) وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ جَازَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، فَالْوَصْفُ الْقَائِمُ فِي الثَّوْبِ جَازَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ ، وَالْوَصْفُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْعَيْنِ فَجَازَ حَبْسُهَا لِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ حَبْسُ الْعَيْنِ ضَرُورِيًّا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى عَدَمِ الضَّمَانِ ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَضَاعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ

لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ : يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَلْزَمُ إلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّي وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ، لَكِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ لِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعَيْنُ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَبْسِ فَكَذَا بَعْدَهُ ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَخِيرِ .

قَالَ : ( وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ حَيْثُ يَكُونُ لِلرَّادِّ حَقُّ حَبْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ ، وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَبِيعِ بِمِلْكِهِ فَيَسْقُطَ حَقُّ الْحَبْسِ .
وَلَنَا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ كَمَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ .

وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ ، بَلْ إنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْعَامِلِ أَوْ بِعَيْنٍ لَهُ ، وَالْحَبْسُ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ : يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ النَّشَا وَغَيْرِهِ سِوَى إزَالَةِ الْوَسَخِ بِالْمَاءِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَصَّارِ وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ .
وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَجَامِعِ قَاضِي خَانْ أَنَّ إحْدَاثَ الْبَيَاضِ فِي الثَّوْبِ بِإِزَالَةِ الدَّرَنِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلٍ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ .
قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّ الْبَيَاضَ كَانَ مُسْتَتِرًا وَقَدْ ظَهَرَ بِفِعْلِهِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْآبِقُ إذَا رَدَّهُ إنْسَانٌ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ قَائِمٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآبِقَ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ بِرَدِّهِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ( وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا ) يَعْنِي حَقَّ الْحَبْسِ لِلصَّانِعِ بِالْأَجْرِ فِيمَا إذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ هُوَ ( مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ ) قِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي فِي الَّذِي لِعَمَلِهِ فِيهِ أَثَرٌ وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ ( لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ ) وَالْمُسَلِّمُ إلَى صَاحِبِهِ لَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ كَمَا لَوْ عَمِلَ فِي بَيْتِ الصَّاحِبِ .
وَالْجَوَابُ ( أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْعَمَلِ ) وَذَلِكَ جِهَةُ غَيْرِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِالِاتِّصَالِ مِنْ حَيْثُ التَّسْلِيمُ ( فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ ) وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ

وَقَدْ تَقَدَّمَ ، فَصَارَ كَقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ ، فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ وَأَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرَى لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ .

قَالَ : ( وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ ( وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَمَلٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ .قَالَ ( وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ إلَخْ ) وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ نُقِلَ عَنْ حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنْ تَعْمَلَ بِنَفْسِك أَوْ بِيَدِك مَثَلًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ ، كَأَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا لِلْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرَهَا ، وَفِيهِ تَأَمَّلْ لِأَنَّهُ إنْ خَالَفَهُ إلَى خَيْرٍ بِأَنْ اسْتَعْمَلَ مَنْ هُوَ أَصْنَعُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ أَوْ سَلَّمَ دَابَّةً أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَمَلَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْعَمَلُ وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ ، وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءَ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِقَدْرِهِ ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ وَيَجِيءَ بِجَوَابِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ ) هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَمْلِ الْكِتَابِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَقْلُ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِهِ وَقَدْ نَقَضَهُ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ كَمَا فِي الطَّعَامِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ( وَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَادَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُنْتَقَضْ .

( فَصْلٌ ) لَمَّا ذَكَرَ اسْتِحْقَاقَ تَمَامِ الْأَجْرِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ تَمَامِ الْأَجْرِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَعَقَّبَهُ لِأَصْلِ الْبَابِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ تَمَامِ الْأَجْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالنُّقْصَانُ لِعَارِضٍ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضَهُمْ مَيِّتًا فَجَاءَ بِالْبَاقِي ) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جَمَاعَةٍ مَعْلُومِي الْعَدَدِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ( فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُسْتَحَقُّ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَمُرَادُهُ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ وَيَأْتِيَ بِالْجَوَابِ فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا ) فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ الْكِتَابَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي اسْتَحَقَّ أَجْرَ الذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ( فَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَطَعَ الْمَسَافَةَ أَوْ نَقَلَ الْكِتَابَ .
وَوَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَافَةَ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ دُونَ نَقْلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِذَهَابِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ الْمُقَابِلَ لَهُ ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ نَقَلَ الْكِتَابَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ عَلِمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ نَقَضَهُ بِرَدِّهِ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ

( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ عَلَى مَا مَرَّ .، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ بِهِ وَوَجَدَهُ مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَإِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ لِنَقْضِهِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ ، وَلَيْسَ بِنَاهِضٍ عَلَى مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عِنْدَهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَمْ يَنْقَضِ مَا قَطَعَهُ مِنْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ ( وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ ) لِلْإِطْلَاقِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا ) ؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً .

( بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِهَا وَوَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَ هُنَا مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَقْيِيدِهِ ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُعَدُّ خِلَافًا مِنْ الْأَجِيرِ لِلْمُؤَجِّرِ وَمَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا .
قَالَ ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى إلَخْ ) قِيلَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ : اسْتَأْجَرْت هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِكَذَا وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِنْ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا هُوَ السُّكْنَى وَبِهِ يُسَمَّى مَسْكَنًا .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ الِانْتِفَاعُ وَهُوَ مُتَنَوِّعٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ مَا لَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ) جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّكْنَى مُتَعَارَفٌ لَكِنْ قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكَّانُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ ، وَمَا لَا يَتَفَاوَتُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَيَصِحُّ ( وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ ) مِنْ السُّكْنَى وَالْإِسْكَانِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ لِلْوَقِيدِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى ( لِلْإِطْلَاقِ ) أَيْ لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا ) بِالْمَاءِ أَوْ الدَّابَّةِ دُونَ الْيَدِ إنْ لَمْ يُوهِنْ الْبِنَاءَ ، وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْبِنَاءُ جَازَ أَنْ يَعْمَلَهُ فِيهِ وَيَتَقَيَّدَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ لَا يَسْكُنُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ .
وَقَوْلُهُ حَدَّادًا يَكُونُ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ ، وَيَنْتَفِي بِهِ

الْإِسْكَانُ دَلَالَةً لِاتِّحَادِ الْمَنَاطِ وَهُوَ الضَّرَرُ بِالْبِنَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْمَنْصُوبَاتُ مَفْعُولٌ بِهِ ، وَيَنْتَفِي بِهِ سُكْنَاهُ دَلَالَةً لِاتِّحَادِ الْمَنَاطِ وَهُوَ الضَّرَرُ بِالْبِنَاءِ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا ( وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ ، وَلَا انْتِفَاعَ فِي الْحَالِ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعُقَدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالِ ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ( وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ ( أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْخِيَرَةَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ .( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّهَا تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُزْرَعُ فِيهَا لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَعَدَمِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ ، أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ ( وَيَدْخُلُ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ فِي الْعَقْدِ بِلَا تَنْصِيصٍ ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَلَا انْتِفَاعَ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ ) وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْحُقُوقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ

قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةُ ؛ لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ ؛ لِيَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا أَوْ شَجَرًا ) ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُقْصَدُ بِالْأَرَاضِيِ ( ثُمَّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْلَعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسْلِمَهَا إلَيْهِ فَارِغَةً ) ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا وَفِي إبْقَائِهِمَا إضْرَارًا بِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى زَمَانِ الْإِدْرَاكِ ؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ .
قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ ) وَهَذَا بِرِضَا صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأَرْضُ بِقَلْعِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ .
قَالَ : ( أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونَ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِهَذَا ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَهُ .
قَالَ : ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ، وَفِي الْأَرْضِ رُطَبَةٌ فَإِنَّهَا تُقْلَعُ ) ؛ لِأَنَّ الرِّطَابَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ .

( وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةَ ) وَهِيَ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ ( لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالْأَرَاضِيِ ) فَيَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ ( فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ قَلْعُهُمَا وَتَسْلِيمُهَا فَارِغَةً لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا ، فَفِي إبْقَائِهِمَا ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ ) هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ فَلِأَنَّ الْأَرْضَ إمَّا أَنْ تَنْقُصَ بِالْقَلْعِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ شَاءَ يَغْرَمُ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكُهُ رَضِيَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ لَا ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا فَيَكُونُ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِذَاكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَهُ أَنْ يَغْرَمَ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا لَكِنْ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ ( وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّرْعِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ ) وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ قَلَعْنَاهُ تَضَرَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ ، وَلَوْ تَرَكْنَا الْأَرْضَ بِيَدِهِ بِلَا أَجْرٍ تَضَرَّرَ الْمُؤَجِّرُ ، وَفِي تَرْكِهِ بِأَجْرٍ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فَصَيَّرَ إلَيْهِ .
وَأَوْرَدَ مَسْأَلَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ أَنَّ الرُّطَبَةَ كَالشَّجَرَةِ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعْهُودَةٌ ( فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ .
وَلَكِنْ إذَا رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ ( وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَأَطْلَقَ جَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا ) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ ( وَإِنْ قَالَ : عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا فُلَانٌ أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ فُلَانٌ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا ) ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ لِمَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا الْعَقَارُ وَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ ، وَاَلَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
قَالَ : ( وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ ) ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ وَالْحَدِيدِ ) لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قُطْنًا سَمَّاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا ) ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَضَرَّ بِالدَّابَّةِ فَإِنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ظَهْرِهَا وَالْقُطْنُ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِهَا .

قَالَ ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ إلَخْ ) إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْت لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، أَوْ زَادَ فَقَالَ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ مَنْ شَاءَ ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ فُلَانٌ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا ، فَإِنْ أَرْكَبَ شَخْصًا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَنْقَلِبُ جَائِزًا لِأَنَّ الْفَسَادَ كَانَ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ حَالَةُ الِاسْتِعْمَالِ فَكَأَنَّهَا ارْتَفَعَتْ مِنْ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ابْتِدَاءً ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ صَحَّ الْعَقْدُ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى ، وَيَتَعَيَّنُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا ، فَإِنْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ هُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُفِيدٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ ، فَإِنْ تَعَدَّاهُ كَانَ ضَامِنًا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِينَ كَالثَّوْبِ وَالْخَيْمَةِ ، وَحُكْمُ الْحَمْلِ كَحُكْمِ الرُّكُوبِ ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ جَازَ إسْكَانُ غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكَّانُ أَيْضًا ، فَإِنَّ سُكْنَى بَعْضٍ قَدْ يَتَضَرَّرُ بِهِ

كَالْحَدَّادِ وَنَحْوِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَاَلَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) وَاعْتَبِرْ مَا ذَكَرْت لَك تَسْتَغْنِ عَمَّا فِي النِّهَايَةِ مِنْ التَّطْوِيلِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ مَعْنَاهُ لِرُكُوبٍ مُعَيَّنٍ ، إمَّا نَصًّا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا ( وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَمِقْدَارًا مِنْ شَيْءٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الضَّرَرِ ) كَحِنْطَةٍ أُخْرَى غَيْرَهَا ( أَوْ ) مَا هُوَ ( أَقَلُّ ) ضَرَرًا ( كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ ) فَإِنَّهُمَا إذَا كَانَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ كَانَ أَقَلَّ وَزْنًا فَكَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا .
وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا ، فَإِنَّ الشَّعِيرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِثْلِ وَالسِّمْسِمُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ السِّمْسِمَ أَيْضًا مِثْلٌ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ) يَعْنِي بِهِ إذَا كَانَ مِثْلًا ( أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا ) يَعْنِي بِهِ إذَا كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ ) إذَا كَانَ مِثْلُهَا كَيْلًا لِأَنَّهُ أَثْقَلُ ( لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْقُطْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَضَرَّ عَلَى الدَّابَّةِ لِاجْتِمَاعِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الظَّهْرِ ، بِخِلَافِ الْقُطْنِ فَإِنَّهُ يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ ) وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا سَبَقَ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ نَظِيرَ الْمَكِيلِ وَهَذَا نَظِيرُ الْمَوْزُونِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ ) ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيَخِفُّ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْوَزْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ .( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) سَوَاءٌ كَانَ الرَّدِيفُ أَخَفَّ أَوْ أَثْقَلَ مِنْ الرَّاكِبِ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيَخِفُّ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْوَزْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ ) وَالْجُنَاةُ جَمْعُ جَانٍ كَالْبُغَاةِ جَمْعُ بَاغٍ ، فَإِنَّهُ إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ خَطَأً فَمَاتَ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا لِأَنَّ رَبَّ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ عَشْرِ جِرَاحَاتٍ .
قِيلَ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا لِأَنَّهُ إذَا أَرْدَفَ صَبِيًّا ضَمِنَ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ إذَا كَانَ لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ ) ؛ لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَالسَّبَبُ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا ( إلَّا إذَا كَانَ حَمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا ) لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ .

( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَسَبَبُ الْهَلَاكِ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا ) إذَا كَانَ مِثْلُهَا يُطِيقُ حَمْلَهُ ( وَأَمَّا إذَا كَانَ حَمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُهَا ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ ) كَمَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيُحَمِّلَهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ شَعِيرٍ فَحَمَّلَهَا مِثْلَ كَيْلَةِ حِنْطَةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي مِقْدَارِ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِي الزِّيَادَةِ فَيُوَزَّعُ الضَّمَانُ .
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ بِهِ عَشْرَةَ مَخَاتِيمِ حِنْطَةٍ فَطَحَنَ أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَهَلَكَ ضَمِنَ الْجَمِيعَ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْجِنْسِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الطَّحْنَ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا طَحَنَ الْعَشَرَةَ انْتَهَى الْإِذْنُ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ فِي الطَّحْنِ مُخَالِفٌ فِي اسْتِعْمَالِ الدَّابَّةِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ ، فَأَمَّا فِي الْحَمْلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَيُوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَهَا رَجُلًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ كُلِّ الْقِيمَةِ ، لِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ ضَمِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، فَإِذَا أَرْدَفَ فَقَدْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ وَرَكِبَ أَيْضًا فَرُكُوبُهُ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّهُ فِي الْإِرْكَابِ مُتَفَرِّدًا مُخَالِفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَفِي الْإِرْدَافِ مَأْذُونٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ يَقَعُ جُمْلَةً كَمَا مَرَّ .

قَالَ : ( وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا ) ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَكَانَ حَاصِلًا بِإِذْنِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ .قَالَ ( وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا إلَخْ ) وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا : أَيْ جَذَبَهَا إلَى نَفْسِهِ لِتَقِفَ وَلَا تَجْرِيَ أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا ، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ ، وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِهِ .
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مُرَادٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّامَ فِي الْمُتَعَارَفِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْكَبْحُ الْمُتَعَارَفُ أَوْ الضَّرْبُ الْمُتَعَارَفُ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا لَا مُرَادًا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ : أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَاصِلٌ بِالْإِذْنِ ، لَكِنَّ الْإِذْنَ فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَأْذُونُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إذَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ بِهَا ، وَهَاهُنَا مُمْكِنٌ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ فَصَارَ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ

قَالَ : ( وَإِنَّ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ ) وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا لَا جَائِيًا ؛ لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ بِالْعَوْدِ مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى .
وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ .
وَقِيلَ لَا ، بَلْ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُودَعَ بِأُمُورٍ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ فَحَصَلَ الرَّدُّ إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا أَصَحُّ .
قَالَ : ( وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ السَّرْجَ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَاثِلُ الْأَوَّلَ تَنَاوَلَهُ إذْنُ الْمَالِكِ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا ( وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ ) لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ ، وَهَذَا أَوْلَى ( وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحَمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ .

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَمْلِ ، وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ ، وَكَذَا يَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ .

( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَدِينَةٌ كَانَ يَسْكُنُهَا النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَهِيَ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ مِنْ الْكُوفَةِ ( فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ ) مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا ( ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ ضَمِنَهَا وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ ) وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَعْنَى هَذَا الْوَضْعِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا فَقَطْ لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَوْدِ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَيْهَا مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُودَعًا مَعْنًى فَهُوَ نَائِبُ الْمَالِكِ وَالرَّدُّ إلَى النَّائِبِ رَدٌّ إلَى الْمَالِكِ مَعْنًى .
أَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُودَعِ بِأَنَّ الْمُودَعَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يَبْقَى مَأْمُورًا بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ لِقُوَّةِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرَّدُّ رَدًّا إلَى نَائِبِ الْمَالِكِ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ مَأْمُورَانِ بِالْحِفْظِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُسَمَّى انْقَطَعَ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ الْحِفْظُ فَلَمْ يَبْقَ نَائِبًا لِيَكُونَ الرَّدُّ رَدًّا إلَيْهِ ، وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ .
وَنُوقِضَ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ أَلْبَتَّةَ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا لِجَوَازِ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ .

وَالسَّبَبُ فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدُّ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ ، فَإِنْ قِيلَ : الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ إزَالَةٌ لِلتَّعَدِّي وَهُوَ يَصْلُحُ مُتَبَرِّئًا عَنْ الضَّمَانِ ، وَالرَّدُّ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْغَاصِبِ رَدٌّ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ ، وَتَقَرُّرُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ غَاصِبِ الْغَاصِبِ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ .
قِيلَ إلْحَاقُ الْعَارِيَّةِ بِالْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ وَعَكْسُهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودَعِ ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَرْفَعُ التَّعَدُّدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِقَةٍ لِيَتَحَقَّقَ الْإِلْحَاقُ ، وَالِاتِّحَادُ فِي الْمَنَاطِ كَافٍ لِلْإِلْحَاقِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنْ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّيًا ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْحِفْظُ فِيهِ مَقْصُودًا وَذَلِكَ مَوْجُودًا فِيهِمَا لَا مَحَالَةَ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ الْإِجْرَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَصَحُّ ( وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ ) فَاسْتِعْمَالُهُ بِهِ مُوَافَقَةٌ ، فَإِنْ نَزَعَ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ بِسَرْجٍ آخَرَ وَإِكَافٍ .
وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يُسْرَجَ بِسَرْجٍ يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ أَوْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِكَافُ ، فَإِنْ أَسْرَجَ بِذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِثْلُهُ تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ : أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمَنْعُ : يَعْنِي لَا فَائِدَةَ فِي

الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يُسْرَجَ بِغَيْرِ هَذَا السَّرْجِ الَّذِي عَيَّنَهُ صَاحِبُهَا إذَا كَانَ غَيْرُهُ يُمَاثِلُهُ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي التَّقْيِيدِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الزَّائِدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الْمُسَمَّى غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الزِّيَادَةِ ، وَفِي مِثْلِهِ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَتُوضَعُ عَلَى الدَّابَّةِ دَفْعَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحِنْطَةِ ، وَإِنْ أَسْرَجَ بِمَا لَا يُسْرَجُ بِهِ مِثْلُهُ مِثْلُ أَنْ يُسْرِجَهُ بِسَرْجِ الْبِرْذَوْنِ ضَمِنَ الْقِيمَةَ كُلَّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا ( وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ ) إنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ ( وَهَذَا أَوْلَى ) لِأَنَّهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ( وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْمَضْمُونِ اتِّبَاعًا لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَلَكِنَّهُ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ .
وَذُكِرَ فِي الْإِجَارَاتِ يَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا زَادَ .
فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، وَإِنَّمَا الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُفَسَّرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهَا رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةِ الْإِجَارَاتِ يَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا زَادَ ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَهَذَا أَصَحُّ .
وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ الْمِسَاحَةُ حَتَّى إذَا كَانَ السَّرْجُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ قَدْرَ شِبْرَيْنِ وَالْإِكَافُ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَشْبَارٍ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ

قَالَ : مَعْنَاهُ بِحِسَابِهِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ حَتَّى إذَا كَانَ وَزْنُ السَّرْجِ مَنَوَيْنِ وَالْإِكَافُ سِتَّةَ أَمْنَاءٍ يَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّلِيلِ حَيْثُ قَالَ ( لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءً فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهَا فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحَمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ لِأَنَّهُ لِلْحَمْلِ وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ ، وَيَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى الظَّهْرِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ ) فَصَارَ كَمَا لَوْ سَمَّى حِنْطَةً وَحَمَلَ بِوَزْنِهَا شَعِيرًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ الشَّعِيرَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِنْ الْحِنْطَةِ ( فَكَانَ مُخَالِفًا ) وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ ) فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ عَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمِثَالِ ، إلَّا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ مِثَالًا لِلْمُخَالَفَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الِانْبِسَاطِ وَعَدَمِهِ

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ تَفَاوُتٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ تَفَاوُتٌ يَضْمَنُ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يُفَصِّلْ ( وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ فَصَارَ مُخَالِفًا ( وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى ، وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً .
قَالَ : ( وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ ) لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ( وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ مَعْنًى .

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَسَلَكَ غَيْرَهُ ) فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا سَلَكَهُ مِمَّا يَسْلُكُهُ النَّاسُ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ تَفَاوُتٌ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْعَرَ أَوْ أَخْوَفَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَمِنَ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا .
فَإِنْ قِيلَ : مُحَمَّدٌ أَطْلَقَ الرِّوَايَةَ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا أَخَذَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ النَّاسُ وَلَمْ يُقَيَّدْ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يَفْصِلْ ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي : أَعْنِي مَا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَصَارَ مُخَالِفًا ، وَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً ( وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) حَتَّى أَنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي طَرِيقِ الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ ( فَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعُ الْخِلَافِ مَعْنًى وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا ؛ لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رُطَبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا ) لِأَنَّ الرِّطَابَ أَضَرُّ بِالْأَرْضِ مِنْ الْحِنْطَةِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهَا فِيهَا وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى سَقْيِهَا فَكَانَ خِلَافًا إلَى شَرٍّ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا ( وَلَا أَجْرَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .قَالَ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً إلَخْ ) وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ فَزَرَعَ مِثْلَهُ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ يُوجِبُ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ مُوَافَقَةٌ أَوْ مُخَالَفَةٌ إلَى خَيْرٍ وَزَرَعَ مَا هُوَ أَضَرُّ بِهَا كَالرِّطَابِ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَهَا لِزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ فَخَالَفَهُ إلَى شَيْءٍ يَصِيرُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ ، وَيَسْقُطُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ إذْ الْأَجْرُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ يَسْتَلْزِمُهُ وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ

قَالَ : ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ دِرْهَمًا ) قِيلَ : مَعْنَاهُ الْقَرْطَفُ الَّذِي هُوَ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْقَمِيصِ ، وَقِيلَ هُوَ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ خِلَافُ جِنْسِ الْقَمِيصِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَسَطُهُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَا يُشَدُّ وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعُ الْقَمِيصِ فَجَاءَتْ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الدِّرْهَمَ الْمُسَمَّى كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ وَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبَاءِ قِيلَ يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ لِلِاتِّحَادِ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أُمِرَ بِضَرْبِ طَسْتٍ مِنْ شَبَّةٍ فَضَرَبَ مِنْهُ كُوزًا ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ { وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا } ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَيَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ يُرِيدُ بِهِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَدَفْعَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ) .
وَقَوْلُهُ ( لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى مُقَابَلًا بِخِيَاطَةِ الْقَمِيصِ دُونَ الْقَبَاءِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

قَالَ : ( الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ كَمَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ ( وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَيُكْتَفَى بِالضَّرُورَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْهَا ، إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَ تَبَعٌ لَهُ ، وَيُعْتَبَرُ مَا يُجْعَلُ بَدَلًا فِي الصَّحِيحِ عَادَةً ، لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ فَقَدْ أَسْقَطَا الزِّيَادَةَ ، وَإِذَا نَقَصَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَمْ يَجِبْ زِيَادَةُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ ، فَإِنْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا .

( بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ) : تَأْخِيرُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ عَنْ صَحِيحِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْذِرَةٍ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّهَا .
قَالَ ( الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ ) تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي فَسَادُ الْبَيْعِ بِهَا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبَلُ الْإِقَالَةَ وَالْفَسْخَ ، وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الَّتِي فَسَدَتْ بِالشُّرُوطِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى ، وَإِنَّمَا جَعَلْت اللَّامَ فِي قَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْعَهْدِ كَمَا رَأَيْت لِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَدَفْعًا لِمَا قِيلَ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَجْرِ وَالْمُسَمَّى إنَّمَا يَجِبُ إذَا فَسَدَتْ بِشَرْطٍ ، أَمَّا إذَا فَسَدَتْ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى أَوْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ إذَا فَسَدَ وَجَبَ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ كَالْأَعْيَانِ .
وَلَنَا أَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنَافِعِ ضَرُورَةُ دَفْعِ الْحَاجَةِ بِالْعَقْدِ ، وَالضَّرُورِيُّ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالصَّحِيحَةِ فَيُكْتَفَى بِهَا .
وَهَذَا كَمَا تَرَى يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِبَارِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَةَ تَبَعٌ لِلصَّحِيحَةِ فَيَثْبُتُ فِيهَا مَا يَثْبُتُ فِي الصَّحِيحَةِ عَادَةً وَهُوَ قَدْرُ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى بَالِغًا مَا بَلَغَ لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ سَقَطَتْ الزِّيَادَةُ وَهَذَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى بَالِغًا مَا بَلَغَ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً لَمْ يَجِبْ مِنْ الْمُسَمَّى مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ الْمِثْلِ فَاسْتَقَرَّ الْوَاجِبُ عَلَى مَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ

الْعَيْنَ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَيْ الْقِيمَةُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ ، فَإِنْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ مَعْلُومًا فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ( وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً .
قَالَ ( وَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ سَاعَةً ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْقِيَاسُ ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَوْمِهَا ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ .

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ الشُّهُورِ ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ ( لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلَّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ ) لِأَنَّ جُمْلَةَ الشُّهُورِ مَجْهُولَةٌ وَالْبَعْضُ مِنْهَا غَيْرُ مَحْصُورٍ كَذَلِكَ وَمَحْصُورًا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ( وَالْوَاحِدُ مِنْهَا مَعْلُومٌ ) مُتَيَقَّنٌ فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ ، وَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ) وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ بِمَحْضَرِ الْآخَرِ أَوْ لَا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِ صَاحِبِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَيَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ مَحْضَرِهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ ( فَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ ) أَيْضًا ( وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ ، وَكَذَا كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي أَوَّلِهِ ، إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ ( هُوَ الْقِيَاسُ ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَيَوْمِهَا مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي ، لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ ) وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفَسْخِ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَأْسَهُ عِبَارَةٌ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ ، فَكَمَا أَهَلَّ مَضَى رَأْسُ الشَّهْرِ وَالْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسْخٌ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَقِيلَ ذَلِكَ فَسْخٌ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ .
وَذَكَرُوا لِذَلِكَ طُرُقًا

ثَلَاثَةً : مِنْهَا أَنْ يَقُولَ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ الْفَسْخَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَسَخْت الْعَقْدَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ فَيَكُونُ هَذَا فَسْخًا مُضَافًا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ مُضَافًا فَكَذَا فَسْخُهُ

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ يَوْمٍ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّى وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يَهُلُّ الْهِلَالُ فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلِّهَا بِالْأَهِلَّةِ ) ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ ( وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا .
وَلَهُ أَنَّهُ مَتَى تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِيَ بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ .

( فَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّاهُ ) بِأَنْ يَقُولَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَثَلًا ( وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ سَوَاءٌ ) لِذِكْرِ الشَّهْرِ مَنْكُورًا وَفِي مِثْلِهِ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْتَقِبُ السَّبَبَ ( كَمَا فِي الْأَيْمَانِ ) كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقْصِدَ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَصِحَّتَهُ بِذَلِكَ لِتَعَيُّنِهِ بِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ) حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَتَعَقَّبُ نَذْرُهُ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا لَيْسَتْ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ ( لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَزِيمَةٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا لَا يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُبْصَرُ ( فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلُّهَا بِالْأَهِلَّةِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ ) فِي الشُّهُورِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَمَهْمَا كَانَ الْعَمَلُ بِهِ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ ( وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَوَّلَ بِالْأَيَّامِ وَالْبَاقِيَ بِالْأَهِلَّةِ ) فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ وَشَهْرٌ بِالْأَيَّامِ يُكْمِلُ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ ( لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا ) فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ

أَنَّ تَمَامَ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ ضَرُورَةَ تَسْمِيَتِهِ شَهْرًا ، وَتَمَامُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الثَّانِي ، فَإِذَا تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِي بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذِهِ حَوَالَةٌ غَيْرُ رَائِجَةٍ ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ الْأَشْهُرَ كُلَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْأَيَّامِ وَعِنْدَهُمَا الْبَاقِي بَعْدَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ بِالْأَشْهُرِ لَمْ يَمُرَّ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهُوَ سَهْوٌ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ : ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِالْأَهِلَّةِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَكْمُلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ ) أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِتَعَارُفِ النَّاسِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْجَهَالَةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ } وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ إلَخْ ) اسْتِئْجَارُ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ وَأَخْذُ أُجْرَتِهِمَا جَائِزٌ ، أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِلْجَهَالَةِ وَلَكِنَّهُ تُرِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ } وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ بِلَا مَانِعٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ كَوْنِهِ جَائِزًا لِأَنَّ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيهِ خِلَافًا ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ غَلَّةَ الْحَمَّامِ آخِذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَمَّامُ شَرُّ بَيْتٍ } وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ حَمَّامِ الرِّجَالِ وَحَمَّامِ النِّسَاءِ فَكَرِهَ اتِّخَاذَ الْحَمَّامِ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ نُهِينَ عَنْ الْبُرُوزِ وَأُمِرْنَ بِالْقَرَارِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ أُجْرَةَ الْحَجَّامِ ، وَكَرِهَ كَسْبَهُ عُثْمَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ وَمَهْرَ الْبَغِيِّ وَكَسْبَ الْحَجَّامِ } وَالصَّحِيحُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِلْحَاجَةِ ، وَالْحَاجَةُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِسَالِ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ تَمَكُّنَ الرِّجَالِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ } .
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ الْكَرَاهَةِ هُوَ أَنْ يَدْخُلَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ، فَأَمَّا

بَعْدَ التَّسَتُّرِ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّتِهِ كَمَا لَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّةِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ .
وَالنَّهْيُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ قَدْ انْتَسَخَ بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { فَآتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : إنَّ لِي نَاضِحًا وَحَجَّامًا أَفَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ : إنَّ لِي عِيَالًا وَحَجَّامًا أَفَأُطْعِمُ عِيَالِي مِنْ كَسْبِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ } " فَالرُّخْصَةُ بَعْدَ النَّهْيِ دَلِيلُ انْتِسَاخِ الْحُرْمَةِ

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ ) وَهُوَ أَنْ يُؤَجِّرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ } وَالْمُرَادُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ .( وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ الْفَحْلِ ) أَيْ ضِرَابِهِ ( وَهُوَ أَنْ يُؤَجِّرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ ) وَخَرَجَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِجَوَازِهِ وَجْهًا ، وَهُوَ أَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ وَلِهَذَا جَازَ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ فَكَانَ جَائِزًا كَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلْإِرْضَاعِ ، قُلْنَا هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( وَمُرَادُهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ ) ،

قَالَ : ( وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ ، وَكَذَا الْإِمَامَةُ وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ } وَفِي آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ { وَإِنْ اُتُّخِذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا } وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنْ الْعَامِلِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ .
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ .
فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .

( وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ ) وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ ) إشَارَةً إلَى الِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ تَعَيَّنَ الشَّخْصُ لِلْإِمَامَةِ وَالْإِفْتَاءِ وَالتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا ) يُرِيدُ بِهِ مَشَايِخَ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ ( اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ ) يَعْنِي فِي زَمَانِنَا ، وَجَوَّزُوا لَهُ ضَرْبَ الْمُدَّةِ وَأَفْتَوْا بِوُجُوبِ الْمُسَمَّى ، وَعِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ ضَرْبِ الْمُدَّةِ أَفْتَوْا بِوُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ ( لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ ) وَقَالُوا : إنَّمَا كَرِهَ الْمُتَقَدِّمُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لِلْمُعَلِّمِينَ عَطِيَّاتٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَمَّا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ مَعَاشِهِمْ ، وَقَدْ كَانَ فِي النَّاسِ رَغْبَةٌ فِي التَّعْلِيمِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَيْرَاخَرِيُّ : يَجُوزُ فِي زَمَانِنَا لِلْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْمُعَلِّمِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَلَاهِي ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ .( وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى سَائِرِ الْمَلَاهِي لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ ) فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّتْ بِهِ لَكَانَ وُجُوبُ مَا يَسْتَحِقُّ الْمَرْءُ بِهِ عِقَابًا مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ .

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ ، وَقَالَا : إجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ ) وَصُورَتُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ .
لَهُمَا أَنَّ لِلْمُشَاعِ مَنْفَعَةً وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَالتَّخْلِيَةُ اُعْتُبِرَتْ تَسْلِيمًا لِوُقُوعِهِ تَمْكِينًا وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ وَلَا تَمَكُّنَ فِي الْمُشَاعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ فِيهِ ، وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ ، وَحُكْمُ الْعَقْدِ يَعْقُبُهُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ الْعَقْدِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّهُ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ ، وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ الرَّجُلُ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ النَّصِيبُ مَعْلُومًا كَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ أَوْ مَجْهُولًا ( وَقَالَا : يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُشَاعَ لَهُ مَنْفَعَةٌ وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ) وَمَا لَهُ مَنْفَعَةٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ فَكَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا ( وَالْمَانِعُ ) وَهُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ( مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ) وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً ، وَتَقْرِيرُهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ( لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ ) سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ كَالدَّارِ أَوْ لَا كَالْعَبْدِ ( غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ) وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ لَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ دَلِيلًا مُبْتَدَأً مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِدَلِيلِ الْخَصْمِ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُمَانَعَةً وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَعَدَمُ التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّخْلِيَةُ ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّخْلِيَةَ لَمْ تُعْتَبَرْ تَسْلِيمًا لِذَاتِهَا حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ بَلْ لِكَوْنِهَا تَمْكِينًا ( وَهُوَ ) أَيْ التَّمْكِينُ هُوَ ( الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ ) فَكَأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ عِلَّةً وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّمَكُّنِ ( وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمُشَاعِ غَيْرُ حَاصِلٍ ) فَفَاتَ الْمَعْلُولُ وَإِذَا فَاتَ الْمَعْلُولُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْعِلَّةِ ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ )

فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ لَيْسَ الِانْتِفَاعَ بَلْ الرَّقَبَةَ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْجَحْشِ فَكَانَ التَّمَكُّنُ بِالتَّخْلِيَةِ فِيهِ حَاصِلًا .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا التَّهَايُؤُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ بِالتَّهَايُؤِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالتَّهَايُؤِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ ( فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ ) وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُيُوعٌ ؛ لَجَازَ الْهِبَةُ وَالرَّهْنُ مِنْ الشَّرِيكِ لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا شُيُوعَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْمَنْفِيُّ شُيُوعٌ مَوْصُوفٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مَانِعًا لِحُكْمٍ بِاعْتِبَارٍ دُونَ آخَرَ فَيَمْنَعُ عَنْ جَوَازِ الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ الْقَبْضُ فَإِنَّ الْقَبْضَ التَّامَّ لَا يَحْصُلُ فِي الشَّائِعِ ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرِيكَ وَالْأَجْنَبِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَيَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ لِانْعِدَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ لِأَنَّهُ فِي الشَّائِعِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَالشَّرِيكُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّهُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْكُلَّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ ، لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعَ النِّسْبَةِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بِنِسْبَةِ الْمِلْكِ وَبِنَصِيبِ شَرِيكِهِ بِالِاسْتِئْجَارِ فَيَكُونُ الشُّيُوعُ مَوْجُودًا .
وَوَجْهُ

ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي السَّبَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا اتَّحَدَ الْمَقْصُودُ ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ جَوَازَهُ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ فَكَانَ كَالرَّهْنِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ ) بِأَنْ آجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ تَبْقَى الْإِجَارَةُ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ شَائِعًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ ) لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ ، وَوُجُوبُهُ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الْبَقَاءِ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ ، لَكِنَّهُ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ نَبْوَةً عَنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ ذَلِكَ ، وَوَجْهُهُ مَا قَالَ ( إنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ ) فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ طَارِئٌ بَلْ هُوَ مُقَارِنٌ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ الْإِجَارَةِ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَكُونُ مُقَارِنًا ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْغَيْرَ اللَّازِمِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَقَاءِ فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ هَذَا ابْتِدَاءً وَبَقَاءً سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ ، وَإِنَّمَا الْخَصْمُ يَقُولُ : لَا بَقَاءَ لِلْعَقْدِ فِيهَا .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : الطَّرَيَانُ إنَّمَا هُوَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَا عَلَى الْعَقْدِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قِيلَ : إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ يُسْتَحَقُّ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ .
وَقِيلَ إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ ، وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ .
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً ؛ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا .
وَسَنُبَيِّنُ الْعُذْرَ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ الشَّاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إلَخْ ) اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَقِيلَ هُوَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ ، وَاللَّبَنُ تَبَعٌ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْمُصَنِّفِ .
وَقِيلَ هُوَ اللَّبَنُ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ تَبَعٌ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ وَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ ، وَاسْتَوْضَحَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجِهَةَ بِقَوْلِهِ : وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ ، وَبَيَّنَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ : وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا وَوَعَدَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ شَاةٍ .
وَتَعَجَّبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ ، وَهُوَ تَقْلِيدٌ صِرْفٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ، لِأَنَّ مَدَارَهُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَانْتِظَامُ أَمْرِ مَعَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ وَوَسَائِطَ مِنْهَا اللَّبَنُ ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ الْمَرْئِيَّةَ مَنْفَعَةً .
وَنَقْضُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ عَلَى إتْلَافِ

الْمَنَافِعِ مَعَ الْغِنَى عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَجْهٌ صَحِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ، وَلَا يَتَشَبَّثُ لَهُ بِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَئِنْ كَانَ فَنَحْنُ مَا مَنَعْنَا أَنْ يَسْتَحِقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ ( صَحَّتْ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِاسْتِئْجَارِ عَبْدٍ لِلْخِدْمَةِ مَثَلًا ) فَإِنْ قِيلَ : قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُهَا حَيْثُ صَدَرَ الْحُكْمُ فَاسْتَدَلَّ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ ؟ قُلْت : أَثْبَتَ جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى إثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ

قَالَ : ( وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ) ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلْخَبْزِ وَالطَّبْخِ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ ، بِخِلَافِ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ وَوَصَفَ جِنْسَ الْكِسْوَةِ وَأَجَلَهَا وَذَرْعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ .
وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعُ الطَّعَامَ مَكَانَهُ ، وَهَذَا لَا جَهَالَةَ فِيهِ ( وَلَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ جَازَ أَيْضًا ) لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ .
( وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ ( وَفِي الْكِسْوَةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْأَجَلِ أَيْضًا مَعَ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إذَا صَارَ مَبِيعًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَبِيعًا عِنْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي السَّلَمِ .

( وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا ) يَعْنِي جَازَتْ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَبِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا أَيْضًا ( اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ الْعَادَةَ الْجَارِيَةَ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ تَرْفَعُ الْجَهَالَةَ ، بِخِلَافِ مَا قَالَاهُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْإِجَارَاتِ كَالْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَجُوزُ بِطَعَامِ الطِّبَاخَةِ وَكِسْوَتِهَا وَذِكْرُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إشَارَةٌ إلَى مَا يَجْعَلُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الْجِنْسِ وَالْأَجَلِ وَالْمِقْدَارِ ، وَفَسَّرَ قَوْلَهُ فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ ( بِأَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعُ الطَّعَامَ مَكَانَهُ ) أَيْ مَكَانَ الْمُسَمَّى مِنْ الدَّرَاهِمِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : أَيْ سَمَّى الدَّرَاهِمَ الْمُقَدَّرَةَ بِمُقَابَلَةِ طَعَامِهَا ، ثُمَّ أَعْطَى الطَّعَامَ بِإِزَاءِ الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ وَهُوَ حَقٌّ ، وَلَكِنْ لَوْ قُدِّرَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفْظَةُ بَدَلًا بِأَنْ يُقَالَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ بَدَلًا آلَ إلَى ذَلِكَ ( وَهَذَا ) أَيْ جَعَلَ الْأُجْرَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( لَا جَهَالَةَ فِيهِ ، وَكَذَا لَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ ) أَيْ تَأْجِيلُ الطَّعَامِ الْمُسَمَّى أُجْرَةً ( لِأَنَّ أَوْصَافَهَا ) أَيْ أَوْصَافَ الطَّعَامِ بِتَأْوِيلِ الْحِنْطَةِ ( أَثْمَانٌ ) أَيْ أَوْصَافُ أَثْمَانٍ مِنْ وُجُوبِهِ فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ دَيْنًا ، وَالْأَثْمَانُ لَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ لِأَنَّهُ فِي السَّلَمِ مَبِيعٌ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَاشْتُرِطَ تَأْجِيلُهُ بِالسَّنَةِ ( وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ) إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ) وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ

قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْنَعُهُ عَنْ غِشْيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ ( فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا ) ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ الْفَسْخُ إذَا مَرِضَتْ أَيْضًا ( وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ ، فَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَسْلِ ثِيَابِ الصَّبِيِّ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ أَمَّا الطَّعَامُ فَعَلَى وَالِدِ الْوَلَدِ ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانَ عَلَى الظِّئْرِ فَذَلِكَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ .

قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا إلَخْ ) وَطْءُ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ إبْطَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ : أَيْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَشِينُهُ ظُئُورَةُ زَوْجَتِهِ أَوْ لَا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِ أَبَوَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ مَنْزِلِهِ وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ صَبِيِّ الْغَيْرِ فِي مَنْزِلِهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ غَشَيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ ، فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا ، لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ فَكَانَ الْخَوْفُ عُذْرًا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ ( قَوْلُهُ وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْعَمَلَ ) يَعْنِي الْعَمَلَ الرَّاجِعَ إلَى مَنْفَعَةِ الصَّبِيِّ ( عَلَى الظِّئْرِ ) وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الْإِرْضَاعُ ، فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا ، لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا وَهُوَ الْإِرْضَاعُ ، فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ ) دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ( فَإِنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ ) لَا لِانْتِفَاءِ اللَّبَنِ ، وَلِهَذَا لَوْ أُوجِرَ الصَّبِيُّ بِلَبَنِ الظِّئْرِ فِي الْمُدَّةِ لَمْ تُسْتَحَقَّ الْأُجْرَةُ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَالْعَمَلُ دُونَ الْعَيْنِ وَهُوَ اللَّبَنُ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَهُوَ أَنَّهُ وَفِي بَعْضِهَا " لِأَنَّهُ " فَإِنْ قِيلَ : الظِّئْرُ أَجِيرٌ خَاصٌّ أَوْ مُشْتَرَكٌ أُجِيبَ بِأَنَّهَا أَجِيرٌ خَاصٌّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَبْسُوطِ .
قَالَ فِيهِ : وَلَوْ ضَاعَ الصَّبِيُّ مِنْ يَدِهَا أَوْ وَقَعَ فَمَاتَ أَوْ سُرِقَ مِنْ حُلِيِّ الصَّبِيِّ أَوْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ لَمْ يَضْمَنْ الظِّئْرُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لَا عَيْنِهِ .
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَاصًّا وَمُشْتَرَكًا ، فَإِنَّهَا لَوْ آجَرَتْ نَفْسَهَا لِقَوْمٍ آخَرِينَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُونَ فَأَرْضَعَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفَرَغَتْ أَثِمَتْ ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهَا وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُهُمَا ، فَقُلْنَا بِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ مِنْهُمَا كَمَلًا تَشْبِيهًا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَتَأْثَمُ بِمَا فَعَلَتْ نَظَرًا إلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ .

قَالَ : ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهِ .
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ ، لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ .
إذْ حُصُولُهُ بِفِعْلِ الْأَجِيرِ فَلَا يُعَدُّ هُوَ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مَا سَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ .

قَالَ ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ إلَخْ ) وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ إذْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ طَعَامًا لَهُ بِقَفِيزٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ فِي جَعْلِ الْأُجْرَةِ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهَا ، } وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادٌ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ عُرْفُ دِيَارِنَا عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ؟ قُلْنَا : لَا ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، وَمِثْلُهُ لَا يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يُتْرَكُ بَلْ يُخَصَّصُ عَنْ الدَّلَالَةِ بَعْضُ مَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ بِالْعُرْفِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ مَشَايِخِ بَلْخِي فِي الثِّيَابِ لِجَرَيَانِ عُرْفِهِمْ بِذَلِكَ .
قُلْت : الدَّلَالَةُ لَا عُمُومَ لَهَا حَتَّى يُخَصَّ عُرْفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ( قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ ) يَعْنِي الْمَعْنَى الْفِقْهِيَّ فِي عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ هُوَ ( أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ لِأَنَّ حُصُولَهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَالشَّخْصُ لَا يُعَدُّ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ ) فَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ الْعَقْدِ كَانَ لِلْحَائِكِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ( وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ ) لَا الْمُسَمَّى وَلَا أَجْرُ الْمِثْلِ ( لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَّكَ الْأَجِيرَ ) الْأُجْرَةَ ( فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ ) لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْأُجْرَةِ بِحُكْمِ التَّعْجِيلِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْأُجْرَةِ ( فَصَارَ ) حَامِلًا طَعَامًا ( مُشْتَرَكًا .
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47