كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ ) لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيَّ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ عَلَيَّ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ : وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي الْخُلْعِ فِي مَسْأَلَةِ خُلْعِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي بَابِ الطَّلَاقِ كَالْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ شَيْءٍ لَهُمَا بِالطَّلَاقِ ، إذْ الثَّابِتُ بِهِ سُقُوطُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا لَا غَيْرُ ، فَكَمَا جَازَ الْتِزَامُ الْمَرْأَةِ بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ ، بِخِلَافِ الْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ قُوَّةً حُكْمِيَّةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَالُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ كَالْعَبْدِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ بِهِ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْبَدَلِ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ) أَيْ قَالَ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ ( قَسَمَتْ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرِ مِثْلِهَا ، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ ) وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا عُرِفَ ) يَعْنِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيهِ شُبْهَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِمَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ لَوْ قَسَمَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنَافِعِ بُضْعِهَا وَهُوَ فَاسِدٌ ، وَلِأَنَّهُ إدْخَالُ صَفْقَةِ النِّكَاحِ فِي صَفْقَةِ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا مِلْكَ هَاهُنَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الْعِتْقُ إذْ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا وَيَجِبُ فِيهِ الْعِوَضُ تَجِبُ قِيمَةُ الْمَبِيعِ كَامِلَةً ، وَالْقَوْلُ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ

إنَّمَا هُوَ مُوجِبُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَأَجَابَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّ الْأَمَةَ تَنْتَفِعُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ قَابِضَةً نَفْسَهَا أَدْنَى قَبْضٍ ، وَأَدْنَى الْقَبْضِ يَكْفِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مُنْدَرِجٌ فِي الْإِعْتَاقِ ، فَأَخَذَ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ) يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ( لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنِّي لِعَدَمِ صِحَّةِ الضَّمَانِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ عَنِّي ، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لِلْأَمَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ .

( بَابُ التَّدْبِيرِ ) : ( إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِمَمْلُوكِهِ إذْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ أَنْتِ مُدَبَّرٌ أَوْ قَدْ دَبَّرْتُك فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِي التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍبَابُ التَّدْبِيرِ : ذِكْرُ الْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَقِيبَ الْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ فِي الْحَيَاةِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ .
وَالتَّدْبِيرُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ النَّظَرُ إلَى عَاقِبَةِ الْأَمْرِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ إيجَابُ الْعِتْقِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ دَبَّرْتُكَ أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ دَلَالَةً كَقَوْلِهِ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي ، وَكَقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَك بِنَفْسِك أَوْ بِرَقَبَتِك أَوْ بِثُلُثِ مَالِي .
وَحُكْمُ التَّدْبِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ ، فَإِذَا مَاتَ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَسَعَى فِي ثُلُثَيْهِ

( ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ ) كَمَا فِي الْكِتَابَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَهِيَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ } وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا سَبَبَ غَيْرَهُ ؛ ثُمَّ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى لِوُجُودِهِ فِي الْحَالِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالُ بُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ قَبْلَ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ مَانِعٌ وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَأَنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ ؛ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا ؛ وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ كَالْوِرَاثَةِ وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُضَاهِيهِ ذَلِكَ .

( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ ) مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ وَغَيْرِهِمَا ( وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ ) فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ ( وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ ) حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْنَعُ الْمُوصِيَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ } ) رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ التَّدْبِيرُ ( سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ( وَلَا سَبَبَ غَيْرُهُ ) ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَالَ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مَوْجُودٌ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَعْدُومٌ لِكَوْنِ كَلَامِهِ عَرَضًا لَا يَبْقَى فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ : وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنَاقِضٌ لِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ حَيْثُ قَالَ : وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَأَقُولُ قَوْلُهُ ( ثُمَّ جَعْلُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ ، فَيُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ عَلَى غَيْرِ الْأَوْلَى فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ وَيَكُونُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ اخْتَارَ جَوَازَهُ بِاجْتِهَادِهِ وَجَعْلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : فِي التَّدْبِيرِ تَعْلِيقٌ ، وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيقِ شَيْءٌ مِنْ السَّبَبِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ ،

وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَمَا بَالُ التَّدْبِيرِ خَالَفَ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ وَهُوَ مُؤَدَّى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ فِيهِ قَبْلَ الشَّرْطِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ غُمُوضًا لَا يَنْكَشِفُ عَلَى وَجْهِ التَّحْصِيلِ إلَّا بِزِيَادَةِ بَيَانٍ فَلَا بُدَّ مِنْهَا ، فَنَقُولُ : الْمَانِعُ هُوَ مَا يَنْتَفِي بِهِ الشَّيْءُ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضِيهِ ، وَكُلُّ مَا يُنَافِي اللَّازِمَ يُنَافِي الْمَلْزُومَ ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ سَائِرُ التَّعْلِيقَاتِ أَسْبَابًا فِي الْحَالِ لَكِنْ الْمَانِعُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ وَهُوَ صِفَةُ كَوْنِ تَصَرُّفِ التَّعْلِيقِ يَمِينًا قَائِمٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَانِعٌ عَنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ اللَّازِمِ لِلْحُكْمِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ ، وَمَا كَانَ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ كَانَ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَإِنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَمَا كَانَ مَانِعًا لِلْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ فَصِفَةُ كَوْنِ تَصَرُّفِ التَّعْلِيقِ يَمِينًا تَمْنَعُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ يَكُونُ الْيَمِينُ يُعْقَدُ لِلْحَمْلِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ فَكَيْفَ قَالَ : وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ ؟ قُلْت : لَا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ إلَّا مَنْعُ الشَّرْطِ ، وَالشَّرْطُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ هُوَ النَّفْيُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ الْحَمْلُ .
فَإِنْ قُلْت : التَّدْبِيرُ يَمِينٌ أَوْ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، فَإِنْ كَانَ يَمِينًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِقِيَامِ

الْمَانِعِ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْلُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ إذْ السَّائِرُ بِمَعْنَى الْبَاقِي .
قُلْت : لَيْسَ بِيَمِينٍ لِتَعَلُّقِ عِتْقِهِ بِأَمْرٍ كَائِنٍ ، وَاسْتِقَامَةُ إطْلَاقِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْيَمِينُ أَخَصَّ مِنْ التَّعْلِيقِ .
وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ بِأَمْرٍ كَائِنٍ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إضَافَةٌ لَا تَعْلِيقٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ ) لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُمْكِنُ فِيهِ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ حِينَئِذٍ .
وَأَمَّا سَائِرُ التَّعْلِيقَاتِ فَتَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ مُمْكِنٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ جُنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّتِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ ابْتِدَاءً بِحَالِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي صُورَةِ الْمَجْنُونِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ شَرْطٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ خِلَافَةٌ فِي الْحَالِ ) فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَهُمَا .
وَتَقْرِيرُهُ : التَّدْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَصِيَّةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ سَبَبُ الْخِلَافَةِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَجْعَلُ الْمُوصَى لَهُ خَلَفًا فِي بَعْضِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوِرَاثَةِ فَإِنَّهَا سَبَبُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَصِيَّةً لَبَطَلَ إذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا ، وَلَجَازَ

الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُوصَى بِهِ وَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا جَمِيعًا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهَا الْوَصِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَالتَّدْبِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ أَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَجَوَازَ الْبَيْعِ وَكَوْنَهُ رُجُوعًا إنَّمَا يَصِحُّ فِي مُوصًى بِهِ يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَالْبُطْلَانَ وَالتَّدْبِيرَ لِكَوْنِهِ إعْتَاقًا لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ ) تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةُ وَمَا بَيْنَهُمَا لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَتَرْكِيبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ، هَكَذَا التَّدْبِيرُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ ، وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُشَابِهُهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِمْهَارِ ذَلِكَ أَيْ إبْطَالُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ .

قَالَ : ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ لَهُ وَبِهِ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِقَالَ ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ ) التَّدْبِيرُ لَا يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ الْمِلْكُ فِيهِ ثَابِتًا ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْمُدَبَّرُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ وِلَايَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْمِلْكِ وَهُوَ ثَابِتٌ

( فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ) لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ فَيَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ ؛ لِتَقَدُّمِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُ الْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ .فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ } " ( وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ لِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ) وَلَا نَعْنِي بِالْوَصِيَّةِ إلَّا ذَلِكَ ، وَالْحُكْمُ يَعْنِي الْعِتْقَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ رَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ .

( وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ ) وَعَلَى ذَلِكَ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْوَقَوْلُهُ ( وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ ) هَذِهِ هِيَ النُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَوَلَدُ الْمُدَبَّرِ مُدَبَّرٌ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْأَوَّلُ رَقِيقٌ لِمَوْلَاهَا ، وَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهِمَا دُونَ الْأَبِ .
وَأَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ نَقَلَ عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ فَقَضَى بِأَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ يُبَاعُ ، وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِثْلُهَا لَا يُبَاعُ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافٌ

( وَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا أَوْ مِنْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِتَرَدُّدٍ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ ) مَعْنَاهُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ؛ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ .
وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتُّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ ) بَيَانٌ لِلْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي أَوْ سَفَرِي أَوْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ فَرُبَّمَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَيَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ .
وَتَحْقِيقُهُ يُسْتَفَادُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهِ إذَا كَانَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَانَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ صِفَةَ كَوْنِهِ يَمِينًا يَمْنَعُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَمْرًا كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَكَانَ سَبَبًا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ فِي الْحَالِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَنْعَقِدُ إذَا انْعَقَدَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ بِحَالِ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ ، وَإِنْ انْعَقَدَ قَبْلَهُ كَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ عَاشَ بَطَلَ التَّدْبِيرُ وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرَةِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ ، وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُنْتَقَى ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ إلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : هَذَا مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ مُدَبَّرٌ لَا يَجُوزُ

بَيْعُهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ لَوْ مَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ فِي الثَّانِي عَتَقَ ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مَوَاجِبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمَيْزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ، إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدِ الْمَوْتِ ، وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ .
فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ ، حَتَّى إذَا مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ الزَّوْجُ الَّذِي مَلَكَتْهُ بِمَوْتِهَا ، وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ مُؤَجَّلٍ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُمْنَعُ جَوَازُ الْبَيْعِ وَإِخْرَاجُهَا لَا إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَيُوجِبُ عِتْقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنَّهُ فَرْعُ النَّسَبِ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ .

بَابُ الِاسْتِيلَادِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّدْبِيرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِيلَادِ عَقِيبَهُ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا .
وَالِاسْتِيلَادُ : طَلَبُ الْوَلَدِ ، فَأُمُّ الْوَلَدِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالصَّغِيرَةِ فِي الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ ( إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ) وَلَا هِبَتُهَا ( وَلَا تَمْلِيكُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ أَلَا تُعْتِقُهَا أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مُوجَبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ ) لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى تَنْجِيزِ الْحُرِّيَّةِ لَكِنْ عَارَضَهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ } فَعَلِمْنَا بِهِمَا جَمِيعًا وَمَنَعْنَا الْبَيْعَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالتَّنْجِيزَ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي .
وَلَا يُقَالُ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مَعْلُومَةٌ فِيهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُهُ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى عِتْقِهَا مِنْ الْمَشَاهِيرِ ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهَا الْإِجْمَاعُ اللَّاحِقُ فَرَفَعَتْهَا .
وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ) وَهِيَ تَمْنَعُ بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا لِأَنَّ بَيْعَ جُزْءِ الْحُرِّ وَهِبَتَهُ حَرَامٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَتَنَجَّزَ الْعِتْقُ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ تُوجِبُهُ وَلَسْتُمْ بِقَائِلِينَ بِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا

يَعْلَمُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ ( تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ) فَتَعَاضَدَ الْمَنْقُولُ بِالْمَعْقُولِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُؤَجَّلِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْعِتْقُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ الْجُزْئِيَّةُ بَاقِيَةً حُكْمًا لَعَتَقَ مَنْ مَلَكَتْهُ امْرَأَتُهُ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا ) وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَقَاءَ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ النَّسَبِ ، وَالْأَصْلُ فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ هُوَ الْأَبُ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَالْأُمُّ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ أُمُّ وَلَدِ فُلَانٍ ( فَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ ) .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ ) يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ فَرْعُ مَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ النَّسَبُ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ذَكَرَ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ وَالِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ إلَخْ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَتَجَزَّأُ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ مَعَ مِلْكِ نَصِيبِهِ فَيَكْمُلُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ بِضَمَانِ الْمُسْتَوْلِدِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَقَعَ فِي الْقِنَّةِ وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ تَجَزُّؤِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَهِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلنَّقْلِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ مُقْتَصِرًا عَلَى نَصِيبِهِ فَيَتَجَزَّأُ

الِاسْتِيلَادُ ضَرُورَةً فَكَانَ دَفْعُ التَّنَاقُضِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ وَالْمُحَالِ وَبِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الِاسْتِيلَادَ مَقِيسًا عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ .
ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ ، وَمِثْلُ هَذَا كَانَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .

قَالَ : ( وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا ) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَقَالَ ( وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا ، فَكَانَ الْمِلْكُ فِيهَا قَائِمًا كَالْمُدَبَّرَةِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَسْتَخْدِمَهَا وَيُؤَجِّرَهَا وَيُزَوِّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَائِهِ مُحْتَمَلٌ وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ يَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ جَوَازِ النِّكَاحِ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْوَطْءِ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهَا فَلَا تَرْتَفِعُ بِهِ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمَنْكُوحَةَ خَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ نِكَاحِ الْغَيْرِ فَلَا تَعُودُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ .

( وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَا ثَبَّتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى .
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا ) أَيْ وَلَدِ الْأَمَةِ رُجُوعٌ إلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ أَوَّلَ الْبَابِ بِقَوْلِهِ : إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا لِمَا أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ ، وَحُكْمُ الْمُدَبَّرَةِ كَحُكْمِ الْأَمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِدُونِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ ) أَيْ بِالْوَلَدِ وَالِاعْتِرَافُ بِالْوَطْءِ غَيْرُ مُلْزِمٍ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ ) أَيْ بِالنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ ( فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهِ وَهُوَ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى .
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ طَلَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ عِنْدَهُ وَنُقْصَانُ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا أَوْ عَدَمُ نَجَابَةِ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ عِنْدَهُمْ ( فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ ) فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ بِغَيْرِ الدَّعْوَةِ ( بِخِلَافِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ ) لَا يُقَالُ : النَّسَبُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْ بِمَا وُضِعَ لَهَا وَالْقَصْدُ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَدَارَهُ لَثَبَتَ مِنْ الزَّانِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْعَقْدُ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَةِ وَوَطْءُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهَا فَيَحْتَاجُ إلَيْهَا .

( فَإِنْ ) ( جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِ ) مَعْنَاهُ بَعْدَ اعْتِرَافٍ مِنْهُ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ ( إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَمْلِكَ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِنَفْيِهِ إلَّا بِاللِّعَانِ ؛ لِتَأَكُّدِ الْفِرَاشِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إبْطَالَهُ بِالتَّزْوِيجِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمٌ .
فَأَمَّا الدَّيَّانَةُ ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ وَيَدَّعِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .

فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ إذَا كَانَ قَدْ اعْتَرَفَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ ) مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ ، فَأَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ أَلْزَمَهُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّطَاوُلِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَنَحْوِهِ ، وَذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِقْرَارِ ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ التَّطَاوُلِ قَدْ سَبَقَ فِي اللِّعَانِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ ) وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) أَيْ عَدَمَ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ ( حُكْمُ ) قَضَاءِ الْقَاضِي ( فَأَمَّا الدِّيَانَةُ ) يَعْنِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالِاعْتِرَافُ بِهِ وَالدَّعْوَى إنْ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْصِينِ هُوَ أَنْ يَحْفَظَهَا عَمَّا يُوجِبُ رِيبَةَ الزِّنَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ ) وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ عِنْدَ التَّحْصِينِ وَعَدَمِ الْعَزْلِ ( يُقَابِلُهُ ) أَيْ يُعَارِضُهُ ( ظَاهِرٌ آخَرُ ) وَهُوَ الْعَزْلُ أَوْ تَرْكُ التَّحْصِينِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَخْرَوَانِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَقَوْلُهُ ( عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ ) قِيلَ فَائِدَةُ تَكْرَارِ " عَنْ " دَفْعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا بِاتِّفَاقِهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَةٌ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْآخَرِ ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ فَهِيَ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ ، حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحْصِنْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا وَحَمْلًا

لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ فَهِيَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُعْتِقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ اسْتِلْحَاقَ نَسَبٍ لَيْسَ مِنْهُ لَا يَحِلُّ شَرْعًا فَيُحْتَاطُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَدَّعِيَ النَّسَبَ ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْوَلَدُ وَيُعْتِقُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ .
وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُحْصِنْ أَوْ عَزَلَ فَقَدْ وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِرَافُ بِالشَّكِّ .

( فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الْقِنَّةِ رَقِيقٌ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا إذْ الْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ .

( فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ ) لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْقَارَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بَعْدَمَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْبَيْعِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقًا بِالصَّحِيحِ كَانَ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى ) مَعْنَاهُ إذَا زَوَّجَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا كَلَامَهُ بِذَلِكَ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ فَوَائِدِ مَوْلَانَا حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِيرَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَةِ الْوَلَدِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ مِنْهُ كَيْفَ يَثْبُتُ الْفَرْعُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيلَادِ كَافٍ لِثُبُوتِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِمُصَادَفَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَهَذَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى بِعُلُوقٍ سَبَقَ النِّكَاحَ أَوْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ النِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ النَّسَبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ النَّسَبِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْأُمِّ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ .

( وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ } .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ فَتُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالدَّيْنِ كَالتَّكْفِينِ ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِقَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا أَوْ لَا لِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَمَرَ حَكَمَ لَا الْأَمْرُ الْمُصْطَلَحُ فَإِنَّهُنَّ يُعْتَقْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا نَكَّرَ الدَّيْنَ نَفْيًا لِلسِّعَايَةِ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَلَا يُجْعَلُ مِنْ الثُّلُثِ تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ كَمَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ كَالتَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ ( بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ ) .

( وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ ) لَمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ ( فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ إلَخْ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِمَا رَوَيْنَا يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ " وَلَا يُبَعْنَ " دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَالِيَّةِ ، وَإِذَا عُدِمَتْ مَالِيَّتُهَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا سِعَايَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهَا ) يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ ( لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ) حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا رَجُلٌ وَمَاتَتْ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَالِيَّتَهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ( فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ ) فَإِنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ وَهُوَ مَدْيُونٌ لَيْسَ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ بِدَيْنِهِمْ وَيَسْتَوْفُوا مِنْهُ دُيُونَهُمْ بِمُقَابَلَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ مَدْيُونِهِمْ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى يَأْخُذُوا مِنْهُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا مُتَقَوِّمًا ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ الْمَدْيُونُ شَخْصًا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ مَدْيُونًا وَالْمَدْيُونُ قَدْ عَفَا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْمَدْيُونِ عَنْ الْعَفْوِ .

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا ) وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عُرِضَ عَلَى الْمَوْلَى الْإِسْلَامُ فَأَبَى ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا .
لَهُ أَنَّ إزَالَةَ الذُّلِّ عَنْهَا بَعْدَمَا أَسْلَمَتْ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فَتَعَيَّنَ الْإِعْتَاقُ .
وَلَنَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي جَعْلِهَا مُكَاتَبَةً ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ الذُّلُّ عَنْهَا بِصَيْرُورَتِهَا حُرَّةً يَدًا وَالضَّرَرُ عَنْ الذِّمِّيِّ لِانْبِعَاثِهَا عَلَى الْكَسْبِ نَيْلًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَصِلُ الذِّمِّيُّ إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ ، أَمَّا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ مُفْلِسَةٌ تَتَوَانَى فِي الْكَسْبِ وَمَالِيَّةُ أُمُّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ ، وَلِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ ، وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ .

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا ) وَهِيَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَاسْتَشْكَلَ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ قَوْلٌ بِالتَّقَوُّمِ إذْ السِّعَايَةُ بَدَلُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِيَّتِهَا .
قَوْلُهُ ( وَمَالِيَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ ) جَوَابٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهَا ) يَعْنِي مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ( إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُهَا مُحْتَرَمَةً ( يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ) جَوَابٌ آخَرُ لِذَلِكَ الْإِشْكَالِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الِاحْتِرَامَ لَوْ كَانَ كَافِيًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَوَجَبَ عَلَى غَاصِبِ أُمِّ الْوَلَدِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ مَالِيَّتِهَا لِانْتِفَاءِ تَقَوُّمِهَا وَبَيْنَ مَا يَضْمَنُ بِهِ مِنْ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِهِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَعَفَا أَحَدُهُمْ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَكِنَّهُ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِاحْتِبَاسِ نَصِيبِ الْآخَرِينَ عِنْدَهُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ .

( وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ ) ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً ؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ( وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا ) وَهُوَ النَّصْرَانِيُّ ( عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً ، لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ ) وَهُوَ إسْلَامُهَا مَعَ كُفْرِ مَوْلَاهَا .

( وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا ، وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ .
لَهُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا إذَا عَلِقْت مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ ، بِخِلَافِ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ .
نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ .
وَتَقْرِيرُ وَجْهِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ : وَمَنْ عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ عَلِقَتْ مِنْهُ ، لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ : أَيْ فِي حَالَةِ الْعُلُوقِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ .
وَفِي صُورَةِ النِّزَاعِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ رَقِيقَةٌ لِمَوْلَاهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ : أَيْ فِي حَالَةِ الْعُلُوقِ ، فَلَوْ انْعَلَقَ الْوَلَدُ حُرًّا كَانَ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي ) أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِكَوْنِ الْعُلُوقِ لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا ، قِيلَ فِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِيلَادِ كَوْنُ الْعُلُوقِ مِنْ مَوْلَاهَا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عِنْدَهُ لَيْسَ إلَّا ، وَفِي صُورَةِ الزِّنَا إنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْعَلَقَ رَقِيقًا لِأَنَّ الْمَزْنِيَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِلْكُ مَوْلَاهَا ( وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ) أَوَّلَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ بِالنِّكَاحِ فَثَبَتَتْ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْجُزْئِيَّةُ ثَبَتَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الزِّنَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا عَلِقَتْ بِالزِّنَا لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ

فِيهِ : أَيْ فِي الزِّنَا ( لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي ) فَلَا تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْبَابِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فَلَا تَثْبُتُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الزَّانِي فَعَلَامَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ الزِّنَا إذَا مَلَكَهُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ) ، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ وَالنِّسْبَةُ عَنْ الزَّانِي مُنْقَطِعَةٌ فَكَانَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا ( نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَخُ ( يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ ) وَالْمُرَادُ بِالْأَخِ الْأَخُ لِأَبٍ ، وَأَمَّا الْأَخُ لِأُمٍّ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ .

( وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا ) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرَّ الْأَصْلِ لِاسْتِنَادِ الْمِلْكِ إلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ ( وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا ثَبَتَ مِنْ الْجَدِّ كَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ ) ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ ، وَكُفْرُ الْأَبِ وَرِقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْوِلَايَةِ

( وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسُبُّهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ؛ لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْعُلُوقُ إذْ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ لَا يَنْعَلِقُ مِنْ مَاءَيْنِ .
( وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبَهُ إذْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ، إذْ الْمِلْكُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ فَصَارَ وَاطِئًا مِلْكَ نَفْسِهِ ( وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ : وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا ، وَلَكِنْ كَانَ ذِكْرُهَا هُنَاكَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِيلَادَ يُخْرِجُ الْأَمَةَ إلَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَى حَقِيقَتِهَا بَعْدَهُ ، وَذِكْرُهَا هُنَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَبَيَانُ مَا أُرِيدَ بِعَدَمِ تَجَزِّي الِاسْتِيلَادِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ وَتَمَلُّكِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَضَمَانِ نِصْفِ الْعُقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ فَلَا يُعَدُّ تَكْرَارًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ خَلَا مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فِي نِصْفِهِ إلَخْ ) يَرِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : لِمَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَثْبُتُ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَيُجَابُ عَنْهُ بِتَغْلِيبِ جَانِبِ الْمُثْبِتِ لِلنَّسَبِ احْتِيَاطًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَجِبُ الْعُقْرُ ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا عَلَى اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَأَمَّا الْأَصَحُّ مِنْ الْمَذْهَبِ فَالْحُكْمُ مَعَ عِلَّتِهِ يَفْتَرِقَانِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالتَّعَقُّبِ التَّعَقُّبَ الذَّاتِيَّ دُونَ الزَّمَانِيِّ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَارِدًا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ ) وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْوَالِدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الشَّرِيكِ فِي النِّصْفِ قَائِمٌ وَقْتَ الْعُلُوقِ ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الِاسْتِيلَادِ فَيَجْعَلُ

تَمَلُّكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ لَكِنَّهُ سَقَطَ بِشُبْهَةِ الشَّرِيكِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ ، وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا فَيَجْعَلُ مِلْكَهُ فِيهَا شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فِي مِلْكِهِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَالْوَطْءُ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ .
وَالْمُرَادُ بِالْعُقْرِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الشَّرِيكُ ضَامِنًا لِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا ، هَكَذَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ .
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُحِيطِ : الْعُقْرُ قَدْرُ مَا تُسْتَأْجَرُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَوْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ لِلزِّنَا حَلَالًا .
وَقَوْلُهُ ( فَلَمْ يَنْعَلِقْ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ ) لِأَنَّهُ كَمَا عَلِقَ انْعَلَقَ حُرُّ الْأَصْلِ لِأَنَّ نِصْفَهُ انْعَلَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الرِّقِّ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْجِيحِ مُثْبَتِ النَّسَبِ .

( وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ) مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ ، وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ : لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا ، هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ ، وَالنَّسَبُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخِرِ ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَفِي حَقِّ الْأَبِ وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي نَصِيبِ الِابْنِ ، وَسُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مُقْطِعًا لِطَعْنِهِمْ فَسُرَّ بِهِ ( وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا ) ؛ لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ فِي الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَالِدِهَا ( وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ ) ؛

لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ( وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ .

وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَمْلُ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا نِكَاحًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ وَآخَرُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَيْضًا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ ) وَهِيَ جَمْعُ الْقَائِفِ كَالْبَاعَةِ فِي جَمْعِ الْبَائِعِ ، وَهُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ ، مِنْ قَافَ أَثَرَهُ : إذَا اتَّبَعَهُ ، وَالْقِيَافَةُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ مِنْهُمْ الْمُجَزِّزُ ( لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ ) أَيْ مِنْ مَاءِ فَحْلَيْنِ ( مُتَعَذَّرٌ ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ ) رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَأَسَارِيرُ وَجْهِهِ تَبْرُقُ مِنْ السُّرُورِ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا تَحْتَ قَطِيفَةٍ قَدْ غَطَّيَا وُجُوهَهُمَا وَأَرْجُلُهُمَا بَادِيَةٌ فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالشَّبَهِ بَاطِلًا لَمَا جَازَ إظْهَارُ السُّرُورِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِنْكَارُ وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ : لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَا لَهُمَا ، هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثَانِهِ وَيَرِثُهُمَا ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ) أَيْ الْوَلَدُ يَكُونُ لِلْأَبِ الْبَاقِي مِنْ الْأَبَوَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَكُونَ كُلُّ الْمِيرَاثِ لِلْأَبِ الْحَيِّ دُونَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لِوَرَثَةِ الْأَبِ الْمَيِّتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ) يَرُومُ بِهِ إبْرَازُهُ فِي مُبْرَزِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ )

يَعْنِي الْمِلْكَ ، وَقِيلَ : الدَّعْوَةُ .
وَقَوْلُهُ ( أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ ) يُرِيدُ بِهَا مِثْلَ النَّفَقَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْحَضَانَةَ وَالْمِيرَاثَ ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ كَالْمِيرَاثِ يَثْبُتُ عَلَى التَّجْزِئَةِ فِي حَقِّهِمَا ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا كَثُبُوتِ النَّسَبِ وَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا .
وَقَوْلُهُ ( وَسُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ ، فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَنَفَاهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إلَى الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِقَضِيَّةِ عُمَرَ فَلَا يَتَعَدَّاهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الثَّلَاثَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ اثْنَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : سَبَبُ الْجَوَازِ الْمِلْكُ وَالدَّعْوَةُ وَقَدْ وُجِدَا .
وَقَوْلُهُ ( فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَلَدِهَا ) يَعْنِي تَخْدُمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قَبْلَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِاسْتِيلَادِ فِي إبْطَالِ مِلْكِ الْخِدْمَةِ ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ لِلشَّرِيكِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِعِتْقِهِمَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الْحَيِّ عِنْدَهُمَا ، وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ لِشَرِيكِهِ وَلَا سِعَايَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَ مُعْسِرًا ( وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ ) بِفَتْحِ اللَّامِ : أَيْ بِاَلَّذِي لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ ) يَعْنِي إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَإِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ابْنٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَكَذَا هَاهُنَا .

( وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ حَتَّى لَا يَتَمَلَّكَهُ وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِ الِابْنِ .
قَالَ : ( وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لَمَا نَذْكُرُهُ .
قَالَ : ( وَقِيمَةُ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ إنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ ( وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ( وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَكَاتِبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ ( فَلَوْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ) ؛ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ إذْ هُوَ الْمَانِعُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ بَلْ يَثْبُتُ ) نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى النَّسَبَ كَمَا فِي الْأَبِ .
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ جَارِيَةَ الْمُكَاتَبِ كَسْبُ كَسْبِ الْمَوْلَى ، وَجَارِيَةَ الِابْنِ كَسْبُ كَسْبُ الْأَبِ ( وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ ) بَيْنَ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ حَيْثُ يَثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ وَجَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّصْدِيقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ بِحَجْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالدَّعْوَةُ تَصَرُّفٌ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَوْلَى إلَّا بِتَصْدِيقِهِ ، وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَ مَالِ ابْنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِهِ ، وَإِنَّمَا لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ إذَا صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ ثَابِتٌ لَهُ فِي كَسْبِهِ ، وَذَلِكَ كَافٍ لِإِثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِعَجْزِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةَ مِلْكٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّمَلُّكِ ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ فِي مَالِ الْوَلَدِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا وَوَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى عُقْرُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَقَدَّمُ الْوَطْءَ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحَدَّ أَوْ الْعُقْرَ وَقَدْ سَقَطَ الْأَوَّلُ بِالشُّبْهَةِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا نَذْكُرُهُ )

أَيْ نَذْكُرُ الْحَقَّ الَّذِي لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ ، قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ ثُبُوتُ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَنْصُوصُ فِي الْكُتُبِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ نَفْسُهُ يُصَرِّحُ بِهَذَا بَعْدَ خَطَّيْنِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ : أَيْ لِلْمَوْلَى ، فَإِذَا لَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ الِاسْتِيلَادُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ لَفْظِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى طَلَبِ نَسَبِ الْوَلَدِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِصِحَّةِ نَسَبِ الْوَلَدِ بِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي سَطْرَيْنِ تَنَاقُضٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيمَةُ وَلَدِهَا ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عُقْرُهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ أَنَّهُ ) قِيلَ أَيْ الْوَلَدُ : يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ حَصَلَ لَهُ ( مِنْ كَسْبِ كَسْبِهِ ) فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ كَسْبُهُ ، وَجَارِيَةَ الْمُكَاتَبِ كَسْبُ كَسْبِهِ ، وَفِيهِ نَوْعُ تَكَلُّفٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ : أَيْ الْجَارِيَةُ كَسْبُ كَسْبِهِ ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ كَسْبُ الضَّمِيرِ فِي رِقِّهِ يَعُودُ إلَى الْوَلَدِ .
قِيلَ فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ نَظَرٌ ، وَحَقُّ الْكَلَامِ كَمَا فِي الْمَغْرُورِ بِدُونِ ذِكْرِ الْوَلَدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَلَدِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا

حَقِيقَةً ، فَتَقْدِيرُهُ كَمَا فِي أُمِّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَذَّبَهُ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ مَلَكَهُ ) يَعْنِي وَلَدَ الْجَارِيَةِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَكَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ ( يَوْمًا ) مِنْ الدَّهْرِ ( ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ ) وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيلَادِ ( وَزَوَالُ الْمَانِعِ ) وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَإِذَا مَلَكَ الْمَوْلَى .
الْجَارِيَةَ : أَيْ فِي صُورَةِ التَّصْدِيقِ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَحَلِّ كَانَ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ مِنْهُ عِنْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ : إلَّا أَنَّ بِمُعَارَضَةِ الْمُكَاتَبِ إيَّاهُ بِالتَّكْذِيبِ امْتَنَعَ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ ، وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ حِينَ مَلَكَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَآبُ .

كِتَابُ الْأَيْمَانِ : قَالَ : ( الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ) الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَيَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ، وَيَمِينُ لَغْوٍ .
( فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ } ( وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبٍ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ .
وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا ، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارٍ مُبْتَدَإٍ ، وَمَا فِي الْغَمُوسِ مُلَازِمٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ .

كِتَابُ الْأَيْمَانِ : الْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بَيْنَ الْكُتُبِ إلَى هَاهُنَا اقْتَضَتْ التَّرْتِيبَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَذَكَرَ الْأَيْمَانَ عَقِيبَ الْعَتَاقِ لِمُنَاسَبَتِهَا لَهُ فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهِمَا .
وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } " وَفِي الشَّرِيعَةِ : عَقْدٌ قَوِيَ بِهِ عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ .
وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْحَالِفِ مُكَلَّفًا .
وَسَبَبُهَا إرَادَةُ تَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ .
وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ .
وَحُكْمُهُ الْبَرُّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَجِبُ الْبَرُّ فِيهِ لِأَنَّ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ عَلَى مَا سَيَأْتِي ( وَالْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ أَوْ لَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً فَهِيَ الْمُنْعَقِدَةُ ، أَوْ أُخْرَوِيَّةً فَهِيَ الْغَمُوسُ ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ اللَّغْوُ ( فَالْغَمُوسُ هِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ ) وَذِكْرُ الْمُضِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْغَالِبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ كَانَ غَمُوسًا ( فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ } " ) وَلَوْلَا الْإِثْمُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَاسْمُهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مَا سُمِّيَ غَمُوسًا إلَّا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ ، وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ

صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ ( وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا ، لَكِنْ فِيهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَحَقَّقَ ) ذَلِكَ الذَّنْبُ ( بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا ) فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهِ وَذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ ( وَلَنَا أَنَّهَا ) أَيْ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ ( كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ وَذَكَرَ مِنْهَا الْغَمُوسَ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ لَا تُنَاطُ بِهَا الْعِبَادَةُ لِمَا أَنَّ أَسْبَابَ الْعِبَادَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أُمُورًا مُبَاحَةً كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ الْغَمُوسُ بِهَا ، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ ) فَجَازَ أَنْ تُنَاطَ بِهَا الْعِبَادَةُ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ لِكَوْنِ الظِّهَارِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَهَذَا نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ .
الثَّانِي لَمَّا وَجَبَتْ بِالْأَدْنَى وَجَبَتْ بِالْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الثَّالِثِ الْكَبِيرَةُ سَيِّئَةٌ وَالْعِبَادَةُ حَسَنَةٌ وَاتِّبَاعُهَا إيَّاهَا مُبَاحٌ لَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا } " وَهَاتَانِ مُعَارَضَتَانِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَجِبْ بِالظِّهَارِ بَلْ بِالْعَوْدِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَهُوَ مُبَاحٌ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ الْأَضْعَفِ بِشَيْءٍ رَفْعُ الْأَقْوَى بِهِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْحَسَنَةَ تَمْحُو السَّيِّئَةَ

الْمُقَابِلَةَ لَهَا ، وَمُقَابَلَةُ هَذِهِ الْحَسَنَةِ لِهَذِهِ السَّيِّئَةِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْمَظْنُونُ خِلَافُ الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ " الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُبَاحُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ ذَنْبٌ وَالْمُنْعَقِدَةُ فِيهَا ذَنْبٌ فَلَا تَكُونُ مُبَاحَةً فَلَا تُنَاطُ بِهَا الْعِبَادَةُ كَمَا ذَكَرْتُمْ .
وَتَقْرِيرُهُ : لَوْ كَانَ فِي الْمُنْعَقِدَةِ ذَنْبٌ لَهَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وَقْتِ الِانْعِقَادِ بِاخْتِيَارٍ مُبْتَدَإٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي السَّيِّئَةِ وَيَرْفَعُهَا عِنْدَ الطَّرَيَانِ ، بِخِلَافِ الْغَمُوسِ فَإِنَّ الذَّنْبَ فِيهَا لَازِمٌ لَا يُفَارِقُهُ لَا ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً ( فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ ) أَيْ إلْحَاقُ الْغَمُوسِ بِالْمُنْعَقِدَةِ .
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَلْوِيحٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ .

( وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا( وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .

( وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهِ صَاحِبَهَا ) وَمِنْ اللَّغْوِ أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَظُنُّهُ زَيْدًا وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ } الْآيَةَ ، إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ .

وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ مُحَمَّدٍ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ بِالرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ ؟ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنْ صُورَةُ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّغْوِ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ : لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ .
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي ، فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَالْخَبَرُ فِي الْمَاضِي خَالٍ عَنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْمَنْعُ أَوْ الْحَمْلُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي فَكَانَ لَغْوًا ، أَمَّا فِي الْخَبَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجِدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي حَصْرِ الْأَيْمَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ إنِّي لَقَائِمٌ الْآنَ فِي حَالِ قِيَامِهِ مَثَلًا يَمِينٌ ، وَلَيْسَ مِنْ

الضُّرُوبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِمَا مَرَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا ، وَإِنَّمَا هَذَا قَسَمٌ وَهُوَ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ أُكِّدَتْ بِهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى .

قَالَ : ( وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ ) حَتَّى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْيَمِينُ } وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ ، وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى( وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي ) وَهُوَ أَنْ يَذْهَلَ عَنْ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ ثُمَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ نَاسِيًا .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الْخَاطِئِ مَكَانَ النَّاسِي ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُسَبِّحَ مَثَلًا فَيَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ ( سَوَاءٌ حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْيَمِينُ } " ) فَإِنْ قُلْت : الْيَمِينُ عَقْدٌ يَقْوَى بِهَا عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ فَهُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ النَّاسِي فِيهِ كَالْقَاصِدِ ؟ قُلْت : ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ وَقَدْ تُرِكَ بِالنَّصِّ .
لَا يُقَالُ : النَّصُّ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } " الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَنَصُّ الْيَمِينِ مُفَسِّرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ ) يَعْنِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي ( وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) .

( وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً ، وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .( وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا فَهُوَ سَوَاءٌ ) أَيْ فَهُوَ وَمَنْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ .
تَرَكَهُ لِدَلَالَةِ فَحْوَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ ، ( وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً ) وَهُوَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْحِكْمَةُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ رَفْعُ الذَّنْبِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ لَا ذَنْبَ لَهُمَا لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ فَكَيْفَ تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ .
وَتَقْرِيرُهُ : الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ دَائِرٌ مَعَ دَلِيلِ الذَّنْبِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا مَعَ حَقِيقَةِ الذَّنْبِ ، كَوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ دَائِرٌ مَعَ دَلِيلِ شَغْلِ الرَّحِمِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ لَا مَعَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ حَتَّى أَنَّهُ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّغْلُ أَصْلًا بِأَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَةٍ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إقَامَةُ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ لِدَوَرَانِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ أَمْرًا خَفِيًّا فِي الْأَصْلِ فَيَدُورُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْمَدْلُولُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا ذَكَرْت مِنْ شَغْلِ الرَّحِمِ ، وَالْمَدْلُولُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الذَّنْبُ عِنْدَ الْحِنْثِ مُحَقَّقٌ ظَاهِرٌ فَلَا يَصِحُّ إقَامَةُ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ .

( بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ) قَالَ : ( وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ ) لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ ، وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَصَلُحَ ذِكْرُهُ حَامِلًا وَمَانِعًا .

بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ بَيَّنَ مَا يَكُونُ يَمِينًا مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ( وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ ) أَيْ بِهَذَا الِاسْمِ ( أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ ) وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَاهُنَا لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَةٍ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَبِالصِّفَةِ الْمَصَادِرُ الَّتِي تَحْصُلُ عَنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَاءِ فَاعِلِيهَا كَالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعِزَّةِ .
وَالصِّفَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ : صِفَةِ ذَاتٍ وَصِفَةِ فِعْلٍ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ الْوَصْفُ بِهِ وَبِضِدِّهِ أَوْ لَا .
وَالثَّانِي صِفَةِ الذَّاتِ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِلْمِ .
وَالْأَوَّلُ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَرْحَمْ الْكَافِرِينَ وَغَضِبَ عَلَى الْيَهُودِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَشَايِخُنَا الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ الذَّاتِ يَمِينٌ وَبِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ وَعِلْمُ اللَّهِ يَمِينًا ، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَلَكِنَّهُ تُرِكَ لِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ ، وَمَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِكُلِّ صِفَةٍ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهَا يَمِينٌ وَبِكُلِّ صِفَةٍ لَمْ يَتَعَارَفُوهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ ( قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ إلَخْ ) ذَكَرَهُ اسْتِظْهَارًا لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَى الْأَيْمَانَ عَلَى الْعُرْفِ كَانَ وُجُودُهُ مُغْنِيًا عَنْ النَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ .

قَالَ ( إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ .
وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ ، يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا : أَيْ مَعْلُومَك ( وَلَوْ قَالَ وَغَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا ) وَكَذَا وَرَحْمَةِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ؛ وَلِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهُ ، وَهُوَ الْمَطَرُ أَوْ الْجَنَّةُ وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِمَا الْعُقُوبَةُوَقَوْلُهُ ( إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا .
فَإِنَّ الْيَمِينَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ الْعُرْفِ مُنْقَطِعًا ، وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ فِي أَنَّهُ مَذْكُورٌ لِلِاسْتِظْهَارِ .
نَعَمْ الْعِرَاقِيُّونَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ مَعْذِرَةٍ عَنْ وُرُودِهِ عَلَى أَصْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهَا ) مَنْقُوضٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُقَالُ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ أَثَرُهُ ، وَإِلَّا لَكَانَ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ فَتَكُونُ كَالْعِلْمِ وَمَعَ ذَلِكَ يُحْلَفُ بِهَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا .
وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَارَفٌ ، وَبِعِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : وَأَمَانَةُ اللَّهِ يَمِينٌ ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ قَالَ : لَا أَدْرِي ، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ الْعَرَبَ تَحْلِفُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْأَمِينِ .

( وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } ( وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ ، أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا كُفْرٌ .( وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيُّ وَالْقُرْآنُ وَالْكَعْبَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } ) رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ ( كُفْرٌ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : سَلَّمْنَا أَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا وَكَذَا مِنْ كُلِّ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ كُفْرٌ ، لَكِنْ كَوْنُهُ كُفْرًا لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِحَيَاتِك لَأَفْعَلَن كَذَا وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْبَرَّ بِهِ وَاجِبٌ كَفَرَ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ .
وَالْجَوَابُ سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ .

قَالَ ( وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ ، وَحُرُوفُ الْقَسَمِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالْبَاءُ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَالتَّاءُ كَقَوْلِهِ تَاللَّهِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْأَيْمَانِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِقَالَ ( وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ ) الْحَلِفُ بِاَللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ بِحَرْفِ الْقَسَمِ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا ، وَبَحْثُ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَكَوْنِ الْبَاءِ أَصْلًا وَغَيْرِهَا بَدَلًا وَجَوَازُ إضْمَارِ الْحُرُوفِ وَالنَّصْبِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْبَصْرِيُّونَ أَوْ الْجَرُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْكُوفِيُّونَ كُلُّهُ وَظِيفَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ ، وَالْأُصُولِيُّ يَبْحَثُ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ اسْتِنْبَاطُ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا وَالْوَاصِلُ إلَى حَدِّ الِاشْتِغَالِ بِكِتَابِ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ ذَلِكَ وَرَآهُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ بَقَاءُ أَثَرِ الْمُضْمَرِ دُونَ الْمَحْذُوفِ .
وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْإِضْمَارَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَذْفَ فِي التَّعْلِيلِ بِطَرِيقِ الْمُسَاهَلَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَطْلَقَ الْإِضْمَارَ بِالنَّظَرِ إلَى الْجَرِّ وَالْحَذْفَ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصْبِ .

( وَقَدْ يُضْمِرُ الْحَرْفَ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ) لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إيجَازًا ، ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكَسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبَدَّلُ بِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { آمَنْتُمْ لَهُ } .
أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيَتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ ، قَالُوا : وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا ، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ .

وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَ فُلَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ النَّذْرِ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَلَا أَثَرَ لِتَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ فِي الْمُقْسَمِ بِهِ نَصْبًا وَجَرًّا فِي مَنْعِ صِحَّةِ الْقَسَمِ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُنْكَرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ ) يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ وَالْحَقِّ وَحَقًّا بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ } وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ فَيَكُونُ يَمِينًا .
وَأَمَّا الْمُنَكَّرُ فَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ لَا مَحَالَةَ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْحَلِفِ فَضْلًا عَنْ الْيَمِينِ .

( وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَهُوَ حَالِفٌ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْحَلِفِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَتُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةٍ فَجُعِلَ حَالِفًا فِي الْحَالِ ، وَالشَّهَادَةُ يَمِينٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ } ثُمَّ قَالَ { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } وَالْحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ .
وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ .
وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ .

( وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْيَمِينَ مَا كَانَ حَامِلًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مُوجِبًا لِلْبَرِّ ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْبَرِّ .
ثُمَّ قَوْلُهُ أُقْسِمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا مِنْ الْبَرِّ شَيْئًا بِمُجَرَّدِهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِسَتْرِ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي أُقْسِمُ مُجَرَّدًا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ صِيغَةُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فَكَمَا تَكُونُ هِيَ لِلْحَالِ كَذَلِكَ تَكُونُ لِلِاسْتِقْبَالِ ، فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لِلْحَالِ لَمْ تَجِبْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لِلِاسْتِقْبَالِ وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ هَذَا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْحُدُودِ حَتَّى إنَّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَلْحَقَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ وَهُوَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ وَالْيَمِينُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ وَمُوجِبُهُ الْبَرُّ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا أَوْ خَلْفَهُ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَيُجْعَلُ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالْكَفَّارَةِ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ إخْبَارٌ عَنْ الْقَسَمِ فِي الْحَالِ وَمَا ثَمَّ قَسَمٌ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةٍ إنْشَائِيَّةٍ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُجْعَلُ إقْرَارًا عَنْ مُوجِبِ مُوجِبِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى وُجُوبِ الْبَرِّ ابْتِدَاءً وَلَا إلَى تَصْوِيرِ هَتْكِ حُرْمَةِ

اسْمِ اللَّهِ وَلَا إلَى جَعْلِ تِلْكَ الصِّيغَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ أُقْسِمُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، أَمَّا إذَا قَالَ أُقْسِمُ لَأَفْعَلَن كَذَا أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ قَوِيَ بِهِ عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ، وَالْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِالْيَمِينِ بِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْقَسَمِ مُضْمَرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى زُفَرَ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ .
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي النِّيَّةِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقِيلَ : لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ .

( وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند ميخورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا ) ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ .
وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ .

قَالَ : ( وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ ) لِأَنَّ عَمْرَ اللَّهِ بَقَاءُ اللَّهِ ، وَأَيْمُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ وَأَيْمُ صِلَةٌ كَالْوَاوِ ، وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ مُتَعَارَفٌ .قَالَ ( وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ إلَخْ ، وَالْعَمْرُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ الْبَقَاءُ إلَّا أَنَّ الْفَتْحَ غَلَبَ فِي الْقَسَمِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الضَّمُّ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَعَمْرُ اللَّهِ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَعَمْرُك } وَالْعَمْرُ هُوَ الْبَقَاءُ وَالْبَقَاءُ صِفَاتُ الذَّاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْبَاقِي ( وَأَيْمُ اللَّهِ ) مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ .
وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : مَعْنَاهُ وَاَللَّهِ وَكَلِمَةُ أَيْمٌ صِلَةٌ : أَيْ كَلِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالْوَاوِ وَالْبَحْثُ فِي قَطْعِ هَمْزَتِهِ وَوَصْلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَظِيفَةٌ نَحْوِيَّةٌ .
قَوْلُهُ ( وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَعَمْرُك وَأَيْمُ اللَّهِ ( مُتَعَارَفٌ ) يُحْلَفُ بِهِمَا فِي الْعَادَةِ وَلَمْ يَرِدْ نَهْيٌ مِنْ الشَّرْعِ فَيَكُونُ يَمِينًا .

( وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ ) لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ } وَالْمِيثَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِوَقَوْلُهُ ( وَكَذَا قَوْلُهُ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ ) ظَاهِرٌ .
وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا .

( وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ }لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ " ) .

( وَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ أَوْ كَافِرٌ تَكُونُ يَمِينًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ .
وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ عَقَدَ فِعْلَهُ فَهُوَ الْغَمُوسُ ، وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ .
وَقِيلَ يَكْفُرُ ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزُ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَكْفُرُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ

وَمَنْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ كَانَ يَمِينًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ) وَهَذَا جَوَابُ .
مَنْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكَعْبَةِ أَوْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْبَرَاءَةُ عَنْ وَاجِبِ الِامْتِنَاعِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ يَمِينًا ، هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ ، وَإِنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَفِي الثَّانِي كَلَامٌ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ ) يَعْنِي لَوْ حَلَفَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ ( فَهُوَ الْغَمُوسُ وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ ) يَعْنِي كَمَا لَوْ حَلَفَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ يَمِينًا يَكْفُرُ ، وَلَا يَكْفُرُ الْحَالِفُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الْمَاضِي ( وَقِيلَ ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ ( يَكْفُرُ لِأَنَّهُ ) عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ ( تَنْجِيزٌ ) فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَلَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ

لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَقَدْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ .

( وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَلِفٍ ) لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ( وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكُلُ رِبًا ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَمَّا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّسْخَ ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَقْصُودُ بِالزِّنَا وَالْعَيْنُ الْمَقْصُودَةُ بِالسَّرِقَةِ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهُ بِوَجْهِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَسَمَّى احْتِمَالَ انْقِلَابِهِمَا مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ نَسْخًا وَتَبْدِيلًا ، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالرِّبَا فَيَحْتَمِلَانِ النَّسْخَ .
أَمَّا الْخَمْرُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا ثُمَّ انْتَسَخَ ، وَأَمَّا الرِّبَا فَيَحْتَمِلُ النَّسْخَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ فِي حَقِّهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَأَقُولُ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ عَلَى غَيْرِ السَّنَنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَسْخًا مُتَعَلِّقٌ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الرِّبَا .
وَقَوْلُهُ تَبْدِيلًا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَيُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ انْقِلَابُ الْمَحَلِّ عَلَى مَا ذَكَرَ ، وَهَذَا إفَادَةٌ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إعَادَةٌ ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأُولَى أَوْلَى ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْيَمِينُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ( وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ ) فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .

( فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ ) قَالَ ( كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ يُجْزِي فِيهَا مَا يُجْزِي فِي الظِّهَارِ وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ وَاحِدٍ ثَوْبًا فَمَا زَادَ ، وَأَدْنَاهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } الْآيَةَ ، وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ .فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُوجِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُوجَبِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ ، لَكِنْ هِيَ مُوجَبُ الْعَيْنِ عِنْدَ الِانْقِلَابِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تُشْرَعْ لِلْكَفَّارَةِ بَلْ تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً لَهَا عِنْدَ انْتِقَاضِهَا بِالْحِنْثِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوْ وَاحِدًا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ إنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَنَا ، وَعَدَمُ حَمْلِ الشَّافِعِيِّ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي التَّقْرِيرِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ .

قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُخَيَّرُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ .
وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ

ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّرَاوِيلَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا فِي الْعُرْفِ ، لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يُجْزِيه عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إنْ أَعْطَى السَّرَاوِيلَ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَعْطَى الرَّجُلَ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَدُّ الْعُرْيِ بِقَدْرِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ ، أَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهِ فَفَضْلٌ يُعْتَبَرُ لِلتَّجَمُّلِ أَوْ لِلتَّدَثُّرِ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فِي الْكِسْوَةِ كَمَا لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْإِدَامُ فِي الطَّعَامِ .
وَقَوْلُهُ ( لَكِنْ مَا لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يَجْزِيهِ عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ) يَعْنِي لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ لَا يَحْصُلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ نِصْفَ ثَوْبٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا بَيْنَهُمْ وَهُوَ ثَوْبٌ كَثِيرُ الْقِيمَةِ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْتَسِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يَجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ أَوْ لَا ؟ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ نَوَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ أَوْ لَمْ يَنْوِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ عَنْ الطَّعَامِ يَجْزِيهِ عَنْ الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُجْزِهِ .

( وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا ، وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّهُ مَانِعٌ غَيْرُ مُفْضٍ ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ .
( ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ ) لِوُقُوعِهِ صَدَقَةً .( وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ ) لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ ، يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً ، وَالْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ ( فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجُرْحِ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا ) لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ بِالْحِنْثِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا ، وَالْيَمِينُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ نَقْضِهَا بِالْحِنْثِ ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إلَيْهَا لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ ( بِخِلَافِ الْجُرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ ) إلَى الْمَوْتِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ ) قِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يُجْزِهِ : يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَفَّارَةً إذَا دَفَعَ إلَى الْمِسْكِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ شَيْئَيْنِ سَتْرَ الْجِنَايَةِ وَحُصُولَ الثَّوَابِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ الثَّانِي فَتَكُونُ قَدْ وَقَعَتْ صَدَقَةً فَلَا رُجُوعَ فِيهَا .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } " وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ .

( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَن فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } ) مَعْنَاهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُقْسَمٍ بِهِ وَهُوَ بِاَللَّهِ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَأَفْعَلَن أَوْ لَا أَفْعَلُ فَكَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ .
وَفِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ { وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا } فَالْمُدَّعِي مُطْلَقٌ ، وَالدَّلِيلُ مَشْرُوطٌ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ خَيْرًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يَقْتَضِي أَنْ يَرَى تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ خَيْرًا مِنْهَا فَيَجْعَلَ الشَّرْطَ مَوْجُودًا نَظَرًا إلَى حَالِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا ) يَعْنِي أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْحِنْثِ ( تَفْوِيتَ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ ) لِمَا أَنَّ الْجَابِرَ يَقْتَضِي سَبْقَ خَلَلِ الْمَجْبُورِ وَهُوَ خَلَلُ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ فِيمَا قُلْنَا فَتَصْلُحُ الْكَفَّارَةُ جَابِرَةً ( وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ ) أَيْ فِي ضِدِّ مَا قُلْنَا أَيْ لَا جَابِرَ لِمَعْصِيَةِ الْحِنْثِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَصْلُحْ الْكَفَّارَةُ السَّابِقَةُ جَابِرَةً لِذَلِكَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْجَابِرَ لَا يَتَقَدَّمُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَالَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ : وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا : أَيْ فِي تَحْنِيثِ النَّفْسِ وَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْوِيتُ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَالْجَابِرُ هُوَ الْكَفَّارَةُ ، وَالْفَوَاتُ إلَى جَابِرٍ كَلَا فَوَاتٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ الْحَاصِلَةُ بِتَفْوِيتِ الْبَرِّ كَلَا مَعْصِيَةٍ لِوُجُودِ الْجَابِرِ ، أَمَّا إذَا أَتَى بِالْبَرِّ وَهُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَقَطْعُ الْكَلَامِ عَنْ الْأَبِ وَقَتْلُ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ

تَحْصُلُ الْمَعْصِيَةُ بِلَا جَبْرٍ لَهَا فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ قَائِمَةً لَا مَحَالَةَ ، فَلِهَذَا قُلْنَا يُحَنِّثُ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ وَالثَّانِي أَنْسَبُ .

( وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا وَلَا هُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ .( وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ ( عَلَيْهِ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُكَفِّرُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَكَانَ اعْتِقَادُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَرِّ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ ( وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظَّمًا ) إذْ الْكُفْرُ إهَانَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْخَالِقِ وَهُوَ يُنَافِي التَّعَظُّمَ ( وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ) بِخِلَافِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظُهُورُ حَقِّ الْمُدَّعِي بِالنُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ .

( وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ إعْمَالُهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ .

قَالَ ( وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي ثَوْبِي هَذَا أَوْ طَعَامِي هَذَا ، ( لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ ) أَيْ إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ ) وَقَلْبُ الْمَشْرُوعِ ( لَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ ) كَعَكْسِهِ وَهُوَ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ ( وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ) فَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِهِ حُرْمَةٌ لِعَيْنِهَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ كَمَا ذَكَرْتُمْ أَوْ لِغَيْرِهَا ( بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ ) وَفِي إعْمَالِ اللَّفْظِ وَالْمَصِيرِ إلَى إعْمَالِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ فَيُصَارُ إلَيْهِ .
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ تَنَافِيًا لِأَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَّةَ تَحْرِيمٌ .
وَقَوْلُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا يُنَافِيهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا مَعْنَاهُ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ .
وَقَوْلُهُ إنْ اسْتَبَاحَهُ إشَارَةٌ إلَى الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْيَمِينَ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ مُقْسَمٌ بِهِ وَهُوَ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، أَوْ بِأَنْ يُذْكَرَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ فَكَيْفَ صَارَ يَمِينًا .
وَأُجِيبَ بِسُقُوطِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } بَعْدَ قَوْلِهِ { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ أَوْ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ ، أَطْلَقَ الْأَيْمَانَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَفَرَضَ تَحِلَّةَ الْأَيْمَانِ ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النُّصُوصَ السَّمْعِيَّةَ .

( وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ ، هَذَا قَوْلُ زَفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَتَحَصَّلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَنَاوَلُ عَادَةً .
وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ .
وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً وَلَا تُصْرَفُ الْيَمِينُ عَنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَمَشَايِخُنَا قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَكَذَا يَنْبَغِي فِي قَوْلِهِ حَلَالٌ يُرْوَى حَرَامٌ لِلْعُرْفِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست رَاسَتْ كيرم بِرِوَيْ وَخِيَارْ أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ .

وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ ) لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فِعْلًا حَلَالًا وَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا حَلَالًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَفَتْحُ الْعَيْنَيْنِ فَيَحْنَثُ ( وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ ) لِامْتِنَاعِ أَنْ لَا يَتَنَفَّسَ وَأَنْ لَا يَفْتَحَ الْعَيْنَيْنِ فَيَعْلَمَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَدَمَ إرَادَةِ الْعُمُومِ فَيُصَارُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ ( وَ ) إذَا لَمْ يَكُنْ الْعُمُومُ مُرَادًا ( لَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَمِينٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ، وَهُوَ مِنْ صُوَرِ الْإِيلَاءِ ( وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَشَايِخُ بَلْخِي ) كَأَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَبَعْضِ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ ( قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ) وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا يَنْبَغِي ) ظَاهِرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ هرجه بدست جُبْ كيرم بِرِوَيْ وَخِيَارْ فَقَدْ قِيلَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى .
وَلَوْ قَالَ هرجه بدست كيرم كَانَ طَلَاقًا قِيلَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ .
وَقِيلَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ .

( وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى } .( قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى } ) .

( وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ : إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا .
وَهَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ .

( وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ ) سَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا أَرَادَ كَوْنَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْ ( فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ ) وَلَا تَنْفَعُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ( لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ) فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِ النَّذْرِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ( وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ ) وَلَوْ نَجَّزَ النَّذْرَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ تُجْزِهِ الْكَفَّارَةُ فَكَذَا هَاهُنَا ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ تَعْيِينِ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ النَّذْرِ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ ( وَقَالَ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا ) حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَنْ يَصُومَ شَهْرًا .
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ .
وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدًا إلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } قَالُوا ( هَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ ) لِأَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا تَرَى تَعَارُضًا .
فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ وَعَلَى مُقَيَّدٍ أَرَادَ الْحَالِفُ كَوْنَهُ .
وَالثَّانِيَ عَلَى مُقَيَّدٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْآثَارِ ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا ، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَنْعَ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ ( فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ ) وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ

مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَدَاءِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا .
وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ لِأَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِعَيْنِهِ ، وَالْيَمِينُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ ) وَهُوَ الْمَنْعُ لِأَنَّ قَصْدَهُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيمَا جَعَلَهُ شَرْطًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا التَّفْصِيلُ ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَا بَيْنَ شَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَبَيْنَ شَرْطٍ يُرِيدُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ حَصْرَ الصِّحَّةِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ حَصْرَهَا فِيهِ مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةُ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ فَالدَّفْعُ مُمْكِنٌ مِنْ حَيْثُ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُرْسَلِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمُعَلَّقِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَمَا لَا يُرِيدُهُ ، عَلَى أَنَّ فِيهِ إيمَاءً إلَى الْقُصُورِ فِي الذَّهَابِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ } إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ) أَيْ عَلَى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ } رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( { فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ } ) مَعْنَاهُ لَا يَحْنَثُ أَبَدًا لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ ( وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ( لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ ) فَإِنْ قُلْت : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ .
قُلْت : الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ مِنْ النُّصُوصِ وَغَيْرِهَا عَلَى لُزُومِ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الِاتِّصَالَ ، فَإِنَّ جَوَازَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا يُفْضِي إلَى إخْرَاجِ الْعُقُودِ كُلِّهَا مِنْ الْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُلْزِمَةً ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوَافِقُ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى ) : ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْبِيعَةَ أَوْ الْكَنِيسَةَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا بُنِيَتْ لَهَا ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ ) لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالظُّلَّةُ مَا تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ بِحَيْثُ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً ( وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ ) لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ .
وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى ) لَمَّا كَانَ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الْوَارِدَةِ فِي الْيَمِينِ فَذَكَرَهَا فِي أَبْوَابٍ وَقَدَّمَ الدُّخُولَ وَالسُّكْنَى عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْيَمِينُ بَعْدَ وُجُودِهِ مَسْكَنٌ يَدْخُلُ فِيهِ وَيَسْكُنُهُ ثُمَّ يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِ ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } الْآيَةَ ، وَالدُّخُولُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْبَاطِنِ ، وَالسُّكْنَى عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ مَبِيتًا لِأَهْلِهِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا ) ظَاهِرٌ وَالْبِيعَةُ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى وَالْكَنِيسَةُ لِلْيَهُودِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا أُعِدَّتْ لَهَا ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْكَعْبَةَ بَيْتًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } الْآيَةَ ، وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ } الْآيَةَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ لَا عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ : أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا وَمُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْتِ فِي الْيَمِينِ لَا يَتَنَاوَلُهُ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا قَالَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ حَنِثَ ، وَسَيَجِيءُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَ أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : ظُلَّةُ الْبَابِ هِيَ السُّدَّةُ الَّتِي فَوْقَ الْبَابِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (

وَالظُّلَّةُ تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ ) أَرَادَ بِهَا السَّابَاطَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى بَابِ الدَّارِ وَلَا يَكُونُ فَوْقَهُ بِنَاءٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ وَلِعَدَمِ الْبَيْتُوتَةِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فَوْقَهُ بِنَاءٌ ، إلَّا أَنَّ مِفْتَحَهُ إلَى الطَّرِيقِ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى بَيْتِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ بَيْتِهِ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ ) ظَاهِرٌ قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ ) الَّذِي يُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ ( وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ ) أَيْ صِفَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ حَتَّى دَخَلْت الْكُوفَةَ ، فَرَأَيْت صِفَافَهُمْ مُبَوَّبَةً فَعَلِمْت أَنَّ الْأَيْمَانَ وَضْعُهَا عَلَى تَعَارُفِهِمْ ( وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ ) يَعْنِي سَوَاءً كَانَتْ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ( وَهُوَ الصَّحِيحُ ) دُونَ الْحَمْلِ عَلَى عُرْفِهِمْ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسْقَفٍ مَدْخَلُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بُنِيَ لِلْبَيْتُوتَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الصُّفَّةِ ، إلَّا أَنَّ مَدْخَلَهَا أَوْسَعُ فَيَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْبَيْتِ فَيَحْنَثُ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، يُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ ، وَدَارٌ غَامِرَةٌ وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، يُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ وَدَارٌ غَامِرَةٌ ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ فَمِنْهَا مَا قَالَ لَبِيدٌ : عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غُولُهَا فَرِجَامُهَا عَفَا يَعْفُو مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ وَهُنَا لَازِمٌ ، وَتَأَبَّدَ الْمَنْزِلُ : أَيْ أَقْفَرَ فَأَلِفَتْهُ الْوُحُوشُ ، وَالْغُولُ وَالرِّجَامُ مَوْضِعَانِ .
يَقُولُ : عَفَتْ دِيَارُ الْأَحْبَابِ مَا كَانَ مِنْهَا لِلْحُلُولِ وَمَا كَانَ مِنْهَا لِلْإِقَامَةِ ، وَهَذِهِ الدِّيَارُ كَانَتْ بِمِنًى وَقَدْ تَوَحَّشَتْ الدِّيَارُ الْغُولِيَّةُ وَالرِّجَامِيَّةُ .
وَقَالَ قَائِلُهُمْ : الدَّارُ دَارٌ وَإِنْ زَالَتْ حَوَائِطُهَا وَالْبَيْتُ لَيْسَ بِبَيْتٍ بَعْدَ تَهْدِيمِ وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومًا .
فَإِذَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَلَا حَاجَةَ إلَى مُعَرَّفٍ بِخِلَافِ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّهُ لَا مُعَرِّفَ لَهُ سِوَى الْوَصْفِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الصِّفَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْمُنَكَّرِ لَمَا وَقَعَ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمُوَكِّلِ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ دَارٍ فَاشْتَرَى دَارًا خَرِبَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ وَهَذَا نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمُسَمَّى أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحَالُ بِالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ فِي الدُّخُولِ كَالْعَرْصَةِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحَالُ أَيْضًا فِي عَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا لَا يَتَقَيَّدُ يَمِينُهُ بِرَجُلٍ

قَاعِدٍ عَالِمٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْهُ وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّارَ فِي الْوَكَالَةِ تُعُرِّفَتْ بِوَجْهٍ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَائِهَا إنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالْمَحَلَّةِ وَلَيْسَتْ فِي الْيَمِينِ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ صِحَّةُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِلَا صِفَةٍ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْبِنَاءَ صِفَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ لِلدَّارِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِحُكْمِ الْعُرْفِ لِتَعَيُّنِهِ وَفِي الرِّجَالِ التَّزَاحُمُ فِي الصِّفَاتِ ثَابِتٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بِأَسْرِهَا تَمْتَنِعُ إرَادَتُهَا عَادَةً ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي الْإِرَادَةِ فَتَمْتَنِعُ الْإِرَادَةُ أَصْلًا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ مُحَالًا عَلَى الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْبِنَاءَ ضِدُّهُ الْخَرَابُ فَكَانَ الدَّارُ مَحَلَّ تَوَارُدِهِمَا فَكَيْفَ صَارَ الْبِنَاءُ صِفَةً مُتَعَيِّنَةً فَهُوَ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ .
وَأَقُولُ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ الْمَذْكُورُ مِنْ التَّقْسِيمِ غَيْرُ حَاضِرٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمُنَكَّرِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمُعَرَّفِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ، ( وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَارًا لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمَ الدَّارِيَةِ .وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ هَذَا الِاسْمِ زَوَالُ ذَلِكَ الِاسْمِ ، وَالْيَمِينُ قَدْ انْعَقَدَتْ بِمَا يُسَمَّى دَارًا وَلَمْ يَبْقَ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ ( وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ .قَالَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ حَنِثَ لِبَقَاءِ الِاسْمِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ } فِي بُيُوتٍ مُنْهَدِمَةِ السُّقُوفِ ( وَلِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ فَكَانَ السَّقْفُ وَصْفًا فِيهِ وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ) وَأَنَّهُ صَارَ بَيْتًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ ) لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا ) وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ( وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ مِنْ الدَّارِ .( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا ) بِالصُّعُودِ إلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ ( حَنِثَ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ ) لِأَنَّ الدَّارَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَحَاطَ بِهِ الدَّائِرَةُ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي عُلُوِّهَا وَسُفْلِهَا ( أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ ) وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ السَّقْفَ مِنْ الْبِنَاءِ فَيُتَوَهَّمُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلُ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا ، وَقِيلَ إذَا وَقَفَ عَلَى السَّطْحِ لَا يَحْنَثُ فِي عُرْفِنَا .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ : إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ دُخُولًا فِي الدَّارِ ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا يَحْنَثُ ) ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مُطْلَقًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَإِذَا أَغْلَقَ الْبَابَ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ حَتَّى يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ ) اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ .وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ) تَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ : يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لَكِنْ فِيمَا لَهُ دَوَامٌ ، وَالدُّخُولُ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ وَلَيْسَ لَهُ دَوَامٌ ، وَإِطْلَاقُ الِانْتِقَالِ بَدَلَ الِانْفِصَالِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ حَرَكَةَ أَبْنِيَةٍ تُسَمَّى نُقْلَةً .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ ) وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَحْنَثُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَلَّ .
وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَانُ تَحْقِيقِهِ ( فَإِنْ لَبِثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً حَنِثَ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ يُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا بِخِلَافِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُ زُفَرَ قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمْ اسْتِحْسَانٌ .
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٍ يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ وَضَرْبٍ لَا يَقْبَلُهُ وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا قَبُولُ التَّأْقِيتِ وَعَدَمِهِ فَمَا قَبِلَ التَّأْقِيتَ قَبِلَ الِامْتِدَادَ وَمَا لَا فَلَا .
وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى الْمُمْتَدِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أَيْ فَلَا تَمْكُثْ قَاعِدًا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعِظُ النَّاسَ قَاعِدًا ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا : إذَا قَالَ لَهَا كُلَّمَا رَكِبْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَكَثَتْ سَاعَةً يُمْكِنُهَا النُّزُولُ فِيهَا طَلُقَتْ ، وَإِنْ مَكَثَتْ مِثْلَهَا طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ ، وَكَلِمَةُ كُلَّمَا تَعُمُّ الْأَفْعَالَ فَيَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ .
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَرَكِبَ دَابَّةً فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الرُّكُوبِ ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَلَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يَمْتَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ الْخَالِصُ غَيْرَ مُرَادٍ ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا كَانَ رَاكِبًا وَقْتَ الْيَمِينِ لَزِمَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُمْكِنُهُ النُّزُولُ وَالرُّكُوبُ دِرْهَمٌ لِكَوْنِ الْإِنْشَاءِ الْخَالِصِ غَيْرَ مُرَادٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ احْتِرَازٌ عَمَّا يُقَالُ فِي مَجَارِي كَلَامِهِمْ دَخَلْت يَوْمًا وَخَرَجْت يَوْمًا وَلَكِنْ لَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يَصْدُقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامٍ ) سَمَّاهُ مُحْتَمَلًا وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ لَا يَرْكَبُ حَقِيقَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاكِبًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ رَاكِبًا فَالِابْتِدَاءُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ إلَيْهَا حَنِثَ ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنَهَا بِبَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا عُرْفًا ، فَإِنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ وَيَقُولُ أَسْكُنُ سِكَّةَ كَذَا ، وَالْبَيْتُ وَالْمَحَلَّةُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ .
وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ عُرْفًا .
بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى قَدْ ثَبَتَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ .
يُعْتَبَرُ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : يُعْتَبَرُ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا وَرَاء ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى .
قَالُوا : هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالُوا لَا يَبَرُّ ، دَلِيلُهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ ) يَعْنِي وَهُوَ مُتَأَهِّلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَخَرَجَ وَمَتَاعُهُ وَأَهْلُهُ فِيهَا .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّلًا بَلْ هُوَ مِمَّنْ يَعُولُهُ غَيْرُهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ وَالْمُتَأَهِّلُ إذَا حَلَفَ ، فَأَمَّا إنْ حَلَفَ عَلَى الدَّارِ أَوْ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ يَكْتَفِي بِنَقْلِهِ إلَى مِصْرٍ آخَرَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ حَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الدَّارِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمِصْرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ لَيْسَ إلَّا .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ سُكْنَاهُ كَانَ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَتَاعِ ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُ انْتَفَى سُكْنَاهُ لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْبَعْضِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ حَقِيقِيٍّ لَا اعْتِبَارِيٍّ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ ) وَقَالَ فِي الشَّافِي : إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ النَّقْلُ مِنْ سَاعَتِهِ بِعُذْرِ اللَّيْلِ أَوْ بِمَنْعِ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ عَدَمِ مَوْضِعٍ آخَرَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَدَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّقْلَةِ أَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَنْقُلُهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يَنْقُلُهَا وَيَلْحَقُ الْمَوْجُودُ بِالْمَعْدُومِ لِلْعَذَارِ .
وَنُوقِضَ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقَيَّدَ وَمَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ يَحْنَثُ ،

وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي مَنْزِلِ وَالِدِهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ عَنْ الْحُضُورِ حَنِثَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ شَرْطَ الْحِنْثِ السُّكْنَى ، وَأَنَّهُ فِعْلٌ وُجُودِيٌّ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ .
وَلَا يَحْصُلُ الِاخْتِيَارُ مَعَ وُجُودِ الْمَوَانِعِ الْمَذْكُورَةِ .
وَأَمَّا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ الْخُرُوجِ وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارٍ ( فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ قَالُوا : لَا يَبَرُّ ) وَقِيلَ يَبَرُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا ، وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا .
وَصُورَتُهُ : كُوفِيٌّ نَقَلَ عِيَالَهُ إلَى مَكَّةَ لِيَتَوَطَّنَ بِهَا فَلَمَّا دَخَلَهَا وَتَوَطَّنَ بِهَا بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ أَنْ لَا يَسْتَوْطِنَ مَكَّةَ وَيَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالْكُوفَةِ أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ ، فَكَذَا هَذَا .
وَفِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ قَالُوا لَا يَبَرُّ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ ، أَمَّا إذَا كَانَ وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا فَلَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِلْ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ طَرْحُ الْأَمْتِعَةِ فِي السِّكَّةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى لِلضَّرُورَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) : قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ ( وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ ( وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ ) فِي الصَّحِيحِ ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا .( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) ذِكْرُ الْخُرُوجِ هَاهُنَا ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ لِأَنَّ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمُضَادَّةِ بِالدُّخُولِ ، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ وَالرُّكُوبُ فَمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَاسْتَصْحَبَهُمَا ذِكْرُ الْخُرُوجِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ ) ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدَّارِ وَالْبَيْتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا ) صُورَتُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ إنْسَانٌ فَيُخْرِجَهُ مُكْرَهًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْفِعْلُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ، وَأَمَّا إذَا هَدَّدَهُ غَيْرُهُ فَخَرَجَ خَوْفًا مِنْ الْمُكْرِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِوُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ ، ثُمَّ هَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ إذَا حَمَلَ مُكْرَهًا ، قِيلَ تَنْحَلُّ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَهَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ ، وَقِيلَ لَا تَنْحَلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ صَارَ كَالْآمِرِ بِالْإِخْرَاجِ .

قَالَ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ خُرُوجٌ مُسْتَثْنًى ، وَالْمُضِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ .وَقَوْلُهُ ( وَالْمُضِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ ) يَعْنِي أَنَّ الْخُرُوجَ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ عَلَى قَصْدِ مَكَّةَ وَهُوَ الشَّرْطُ ، إذْ الْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا } وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ ، وَقِيلَ هُوَ كَالْخُرُوجِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : الْخُرُوجُ وَالْإِتْيَانُ وَالذَّهَابُ وَالْأَوَّلُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِهِ الِانْفِصَالُ بِمُجَاوَزَةِ عِمْرَانِ مِصْرِهِ قَاصِدًا لِذَلِكَ دُونَ الْوُصُولِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَأَرَادَ بِهِ الِانْفِصَالَ .
وَالثَّانِي شَرْطُهُ الْوُصُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ } فَإِذَا وَصَلَ حَنِثَ سَوَاءٌ كَانَ قَاصِدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِتْيَانُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } وَالْإِذْهَابُ الْإِزَالَةُ ، فَيَكُونُ الذَّهَابُ زَوَالًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُصُولُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ ) .

( وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ) لِأَنَّ الْبِرَّ قَبْلَ ذَلِكَ مَرْجُوٌّ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ : إذَا لَمْ يَمْرَضْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهِ فَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ ، وَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ دَيْنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ) وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يُقَارِنُ الْفِعْلَ وَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُتَعَارَفِ .
فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَوَّلِ دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ثُمَّ قِيلَ وَتَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا ، وَقِيلَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .( وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدِهِمَا صِحَّةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَفَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ .
وَالثَّانِي الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ نَوْعٌ عَلَى حِدَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْفِعْلُ عِنْدَ إرَادَتِهِ إرَادَةً جَازِمَةً يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ عِنْدَنَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } إذَا عَرَفْت هَذَا فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَلَامُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ ، وَإِنْ عَنَى الثَّانِيَ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْتِطَاعَةِ الْقَضَاءِ صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى أَيْ أَرَادَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ .
وَقِيلَ يَصْدُقُ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ .
وَقِيلَ لَا يَصِحُّ قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ ، وَمَا وَرَاءَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ .
وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ( وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ فَتَنْتَهِي الْيَمِينُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك .

وَلَوْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ احْتَاجَ إلَى الْإِذْنِ لِكُلِّ خُرْجَةٍ ) حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِلَا إذْنٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجِي إلَّا خُرُوجًا مُلْصَقًا بِإِذْنِي لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَيَقْتَضِي مُلْصَقًا وَمُلْصَقًا بِهِ فَيَكُونُ مَا وَرَاءَهُ : أَيْ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ الْحَظْرِ الْعَامِّ ( وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً صَدَقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ ) لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْبَاءِ .
وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك كَفَى إذْنٌ وَاحِدٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } وَكَانَ تَكْرَارُ الْإِذْنِ لَازِمًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } وَتَمَامُ التَّقْدِيرِ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْدِيرِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ : أَيْ كَلِمَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّ إلَّا أَنَّ لَيْسَ مَوْضُوعًا لَهَا بَلْ لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِذْنِ حَتَّى يُسْتَثْنَى الْإِذْنُ مِنْهُ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ حَتَّى لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا بَعْدَهَا ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعْدَهُ .

( وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ ) وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ فَوْرٍ .
وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِظْهَارِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ الرَّدُّ عَنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ وَالْخُرْجَةِ عُرْفًا ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَيْهِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي قَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَخَرَجَ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدَأً .

قَالَ ( وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ( وَتُسَمَّى هَذِهِ الْيَمِينُ يَمِينَ فَوْرٍ ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَارَتْ الْقِدْرُ إذَا غَلَتْ ، فَاسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَا لَبْثَ ، فَقِيلَ جَاءَ فُلَانٌ وَخَرَجَ فُلَانٌ مِنْ فَوْرِهِ : أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ ( وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِظْهَارِهِ ) أَيْ بِاسْتِنْبَاطِهِ ، وَكَانَ النَّاسُ قَبْلَهُ يَعْلَمُونَ الْيَمِينَ عَلَى نَوْعَيْنِ : مُؤَبَّدَةٍ ، وَمُؤَقَّتَةٍ لَفْظًا .
ثُمَّ اسْتَنْبَطَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْمُؤَبَّدُ لَفْظًا وَالْمُؤَقَّتُ مَعْنًى ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ رَجُلٍ فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ ثُمَّ نَصَرَاهُ وَلَمْ يَحْنَثَا ، وَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ فَإِنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَادَةِ يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْعَهُمَا عَنْ الْخُرْجَةِ الَّتِي تَهَيَّأَتْ لَهَا إلَّا مِنْ الْخُرُوجِ عَلَى التَّأْيِيدِ ، فَإِذَا عَادَتْ فَقَدْ تَرَكَتْ تِلْكَ الْخُرْجَةَ وَانْتَهَتْ الْيَمِينُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ خَرَجَتْ وَالْعُرْفُ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ ؛ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ يَتَقَيَّدُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهُ اجْلِسْ تَغَدَّ عِنْدِي فَقَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَلَوْ قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ يُجْعَلُ مُبْتَدِئًا لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى مِقْدَارِ الْجَوَابِ .
فَفِي تَطْبِيقِهِ عَلَى السُّؤَالِ إلْغَاءُ الزِّيَادَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الزِّيَادَةُ لَا تَضُرُّ كَوْنُهُ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } فِي جَوَابِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِك يَا مُوسَى } كَيْفَ زَادَ عَلَى مِقْدَارِ الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَصَايَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ كَوْنِهِ

جَوَابًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ كَلِمَةَ " مَا " تُسْتَعْمَلُ لِلسُّؤَالِ عَنْ الذَّاتِ وَالسُّؤَالِ عَنْ الصِّفَاتِ ، وَحَيْثُ وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ السُّؤَالِ اشْتَبَهَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ الذَّاتِ أَوْ الصِّفَةِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيَكُونَ مُجِيبًا عَلَى كُلِّ حَالٍ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ قَالُوا : إنَّ " مَا " يُسْأَلُ بِهَا عَنْ وَصْفِ الْعُقَلَاءِ وَالْعَصَا لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةً سَلَّمْنَا ، وَلَكِنْ الْأَفْعَالُ الْمُسْنَدَةُ إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَكُونُ أَوْصَافًا ؛ وَلَئِنْ كَانَتْ لَا تَكُونُ أَوْصَافًا لِلْعَصَا .
وَأَقُولُ : الزِّيَادَةُ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ لَا تَصْرِفُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا لَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ كَلَامًا مُبْتَدَأً إذَا كَانَ ثَمَّةَ مَصْرِفٌ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إعْمَالًا لِلزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يُصْرَفْ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا يَلُوحُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنَّ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا ، وَكَذَا شَرْعًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ } الْحَدِيثَ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا : يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ ) الدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا يَدِبُّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ : أَيْ يَتَحَرَّكُ مَشْيًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } وَيَتَعَلَّقُ الرُّكُوبُ بِهَا بِعَيْنِ مَا يَرْكَبُ مِنْهَا مُرَادًا كَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ وَالْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْفِيلِ فِي الْقِيَاسِ .
وَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى مَا يُرْكَبُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } ذَكَرَ مِنَّةَ الرُّكُوبِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ : فَأَمَّا فِي الْأَنْعَامِ فَقَدْ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } الْآيَةَ ، وَبِالْعُرْفِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ رَكِبَ فُلَانٌ دَابَّةً لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَقَرَ أَوْ الْفِيلَ وَإِنْ كَانَ يَرْكَبُ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ ، إلَّا إذَا نَوَى جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ ، فَأَمَّا إذَا نَوَى وَرَكِبَ دَابَّةَ الْعَبْدِ فَيَحْنَثُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ : أَيْ فِيمَا مَلَكَهُ الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ عَبْدِهِ لَا يُعْتَقُ وَتَلْمَحُ مِمَّا ذَكَرْنَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَظْهَرْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا

حَيْثُ يُقَالُ دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ وَلَمْ يَقُلْ دَابَّةَ فُلَانٍ .
وَشَرْعًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ } " فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ إذَا نَوَى .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلسَّيِّدِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) : قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّمَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا عَنْهُ ، لَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصُنْعِهِ جَدِيدَةً حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَّلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ الْمَسْكَنُ ثُمَّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ الْيَمِينِ عَلَيْهِمَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَصِلُ إلَى جَوْفِ الْإِنْسَانِ لَا يَخْلُو عَنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : مَأْكُولٍ ، وَمَشْرُوبٍ .
وَمَمْصُوصٍ ، وَمَلْعُوقٍ ؛ فَالْمَأْكُولُ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ وَالْهَشْمُ لَا الْمَمْضُوغُ ، حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ يُسَمَّى آكِلًا .
وَالْمَشْرُوبُ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُهُ فَثَرَدَ فِيهِ وَأَكَلَ لَمْ يَحْنَثْ .
وَالْمَمْصُوصُ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِعِلَاجِ اللَّهَاةِ ؛ فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا فَمَضَغَهُ وَرَمَى ثِقَلَهُ وَابْتَلَعَ مَاءً لَمْ يَحْنَثْ لَا فِي الْأَكْلِ وَلَا فِي الشُّرْبِ .
وَالْمَعْلُوقُ هُوَ مَا يُتَنَاوَلُ بِالْجَسِّ بِالْأُصْبُعِ وَالشِّفَاهِ ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا رَجَعْنَا إلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، فَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا : يَعْنِي إذَا كَانَتْ لَهَا ثَمَرَةٌ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَالْيَمِينُ تَقَعُ عَلَى ثَمَنِهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا تَعَذَّرَتْ يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ صَالِحٌ لِكَوْنِهِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّهُ : أَيْ مَا لَا يُؤْكَلُ سَبَبٌ لَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَذِكْرُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مَجَازٌ شَائِعٌ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصَنْعَةٍ جَدِيدَةٍ لِأَنَّ مَا يُصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَرِ لَيْسَ بِثَمَرٍ فَلَا يَحْنَثُ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ ، وَقَيَّدَ بِالْمَطْبُوخِ وَإِنْ كَانَ الدِّبْسُ لَا يَكُونُ إلَّا مَطْبُوخًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الدِّبْسِ عَلَى مَا يَسِيلُ مِنْ الرُّطَبِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ صَارَ اللَّبَنُ شِيرَازًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ صِفَةَ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ ، وَكَذَا كَوْنُهُ لَبَنًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الدَّاعِي دَاعِيًا فِي الشَّرْعِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ ) ظَاهِرٌ ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا انْعَقَدَتْ عَلَى عَيْنٍ بِوَصْفٍ يَدْعُو ذَلِكَ الْوَصْفُ إلَى الْيَمِينِ فَيَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَحْنَثُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ أَوْ الرُّطَبِ أَوْ اللَّبَنِ فَتَغَيَّرَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِصَيْرُورَةِ الْبُسْرِ رُطَبًا وَالرُّطَبِ تَمْرًا وَاللَّبَنِ شِيرَازًا وَهُوَ الَّذِي اُسْتُخْرِجَ مَاؤُهُ فَصَارَ كَالْفَالُوذَجِ الْخَاثِرِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ الصِّبَا مَظِنَّةُ السَّفَهِ وَالشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ فَكَانَا وَصْفَيْنِ دَاعِيَيْنِ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ زَالَا عِنْدَ الشَّيْخُوخَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ إلَخْ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ لَكِنْ الشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا } الْحَدِيثَ .
وَالْمَهْجُورُ شَرْعًا كَالْمَهْجُورِ عَادَةً ، فَانْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى الذَّاتِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ حَالَةَ الشَّيْخُوخَةِ فَيَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ بِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ ، لَكِنْ الْحَرَامُ يَقَعُ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَيَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ خَمْرًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَجُوزُ أَنْ تُتْرَكَ بِهِجْرَانِ الشَّرْعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِلْمَجَازِ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ ) لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ عَنْهُ أَكْثَرُ امْتِنَاعًا عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ .قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذْنِبًا بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ مَا بَدَا الْإِرْطَابُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِهِ وَهُوَ مَا سَفَلَ مِنْ جَانِبِ الْقِمْعِ وَالْعَلَّاقَةِ وَتَفْسِيرُهُ هُوَ الَّذِي عَامَّتُهُ بُسْرٌ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الرُّطَبِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ فِي قَوْلِهِمْ .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا مُذْنِبًا وَهُوَ الَّذِي عَامَّتُهُ رُطَبٌ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ حَنِثَ فِي قَوْلِهِمْ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الرُّطَبِ حَنِثَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا عَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ .
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ : لَهُمَا أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذْنِبَ يُسَمَّى رُطَبًا ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا وَأَكَلَ الرُّطَبَ الْمُذْنِبَ فَقَدْ أَكَلَ الرُّطَبَ لَا الْبُسْرَ فَلَا يَحْنَثُ ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى بُسْرًا مُذْنِبًا لَا يَحْنَثُ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا وَلَا بُسْرًا فَأَكَلَ مُذَنِّبًا حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ فِي الرُّطَبِ ) يَعْنِي بِالْبُسْرِ الْمُذَنِّبِ وَلَا فِي الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ الْمُذَنِّبِ لِأَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى رُطَبًا وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى بُسْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ .
وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ ، وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ فَيَتْبَعُ الْقَلِيلُ فِيهِ الْكَثِيرَ .
( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ وَالْمَغْلُوبَ تَابِعٌ ( وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَكْلِ يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الْأَكْلَ يُصَادِفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا أَوْ لَا يَأْكُلُهُ فَاشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ وَأَكَلَهَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ دُونَ الشِّرَاءِ لِمَا قُلْنَا .

( وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذْنِبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ وَالْبُسْرُ الْمُذْنِبُ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ ) فَيَحْنَثُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَالِبًا وَالْآخَرُ مَغْلُوبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَيَّزَهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ .
فَكَذَا إذَا أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا اللَّبَنَ فَصَبَّ فِيهِ مَاءً وَالْمَاءُ غَالِبٌ فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ شَرِبَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ( وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ ) يَعْنِي بِخِلَافِ صُورَةِ اللَّبَنِ ، فَإِنَّ اللَّبَنَ لَمَّا صُبَّ فِيهِ الْمَاءُ شَاعَ وَمَاعَ فِي جَمِيعِ .
أَجْزَاءِ .
اللَّبَنِ فَصَارَ مُسْتَهْلَكًا .
وَلِهَذَا لَا يُرَى مَكَانُهُ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِالشُّرْبِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا ) كَالْبَيَانِ لِلْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِيهِ لِسُكُونِهِ فِي الْمَاءِ ( وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ .
وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ ( وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا .( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا تَنَاوَلَ أَفْرَادًا وَفِي بَعْضِهَا نَوْعُ قَصْرٍ لَا يَدْخُلُ الْقَاصِرُ تَحْتَهُ ، وَلَحْمُ السَّمَكِ فِيهِ قُصُورٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مِنْ الِالْتِحَامِ وَالِالْتِحَامُ بِالِاشْتِدَادِ وَالِاشْتِدَادُ بِالدَّمِ وَالدَّمُ فِي السَّمَكِ ضَعِيفٌ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : لَا دَمَ فِيهِ ، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ لِكَوْنِهِ يَسْكُنُ الْمَاءَ فَكَانَ مَعْنَى اللَّحْمِ قَاصِرًا فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَمَوْضُوعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ( وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ إنْسَانٍ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ ، وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا يُنَاطُ وُجُوبُهَا بِمَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِهِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بَعْدَ يَمِينٍ نُقِضَتْ بِالْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَتْ ، وَكَوْنُ الْحِنْثِ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ أَوْ حَرَامٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَشَارَ إلَى هَذَا قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ .
قَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا ) ظَاهِرٌ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ أَيْضًا ) وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةِ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً ؛ أَلَا تَرَاهُ أَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَكْلِ اللَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى بَيْعِ الشَّحْمِ ، وَقِيلَ هَذَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَأَمَّا اسْمُ بِيه بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ حَتَّى لَا يُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا حَنِثَ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً فَإِنَّهَا تُقْلَى وَتُغْلَى وَتُؤْكَلُ قَضْمًا وَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ .
وَلَوْ قَضَمَهَا حَنِثَ عِنْدَهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ .
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْخُبْزِ حَنِثَ أَيْضًا .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا ) وَالْقَضْمُ : الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ مِنْ بَابِ لَبِسَ ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْحِنْطَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَنَّهُ إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَكْلِ حِنْطَةٍ لَا بِعَيْنِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْجَوَابِ عِنْدَهُمَا .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَكَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي أَيْمَانِ الْأَصْلِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَوْجُهٍ : أَحَدِهَا أَنْ لَا يَأْكُلَ حَبًّا كَمَا هِيَ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَا يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَرَادَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِهَا .
وَالثَّانِي أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ عَيْنِهَا كَذَلِكَ .
وَالثَّالِثِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَعِنْدَهُمَا بِالْعَكْسِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ ) لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ( وَلَوْ اسْتَفَّهُ كَمَا هُوَ لَا يَحْنَثُ ) هُوَ الصَّحِيحُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا .( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ ) بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ) فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةً فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ( وَلَوْ اسْتَفَّهُ ) أَيْ أَكَلَهُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ ( لَا يَحْنَثُ هُوَ الصَّحِيحُ ) وَإِنَّمَا قَالَ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ أَكَلَ الدَّقِيقَ حَقِيقَةً ، وَالْعُرْفُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ فَالْحَقِيقَةُ لَا تَسْقُطُ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّقِيقِ مَأْكُولٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مَهْجُورَةٌ ، وَلَمَّا انْصَرَفَتْ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ لِلْعُرْفِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ ، كَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَزَنَى بِهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ لَمْ يَتَنَاوَلْ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُعْتَادُ أَهْلُ الْمِصْرِ أَكْلَهُ خُبْزًا ) وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ ( وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ الْقَطَائِفِ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا إلَّا إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ ( وَكَذَا لَوْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ بِالْعِرَاقِ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ أَوْ فِي بَلْدَةٍ طَعَامُهُمْ ذَلِكَ يَحْنَثُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ .
وَطَبَرِسْتَانُ هِيَ آمُلُ وَوِلَايَتُهَا ، وَقِيلَ أَصْلُهَا تَبَرِسْتَانُ لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَارِبُونَ بِالتِّبْرِ وَهُوَ الْفَاسُ فَعَرَّبُوهُ إلَى طَبَرِسْتَانَ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ إلَّا إذَا نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا .وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ ) لِأَنَّ الدَّوَاءَ الْمُسْهِلَ مَطْبُوخٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ ( فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ ) قَالُوا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْقَلِيلَةَ الْيَابِسَةَ فَلَا تُسَمَّى مَطْبُوخًا فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ ) وَيُقَالُ يُكْنَسُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهِمَا وَفِي زَمَنِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً وَفِي زَمَانِنَا يُفْتَى عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ ) أَيْ يُطَمُّ بِهِ التَّنُّورُ : يَعْنِي يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ كَبَسَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ إذَا أَدْخَلَهُ فِيهِ ( وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ ) لِأَنَّ رَأْسَ الْجَرَادِ رَأْسٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمُرَادٍ فَيُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ لَا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَعَ ذَلِكَ يَحْنَثُ بِالْأَكْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، وَأُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الرَّأْسَ غَيْرُ مَأْكُولٍ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لِأَنَّ مِنْهَا الْعَظْمَ فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةً فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَيُؤْكَلُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُمْكِنَةً فَلَا تُتْرَكُ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ .
فَإِنْ قُلْت : الْحَقِيقَةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَذِّرَةً فَهِيَ مَهْجُورَةٌ شَرْعًا ، وَالْمَهْجُورُ شَرْعًا كَالْمَهْجُورِ عَادَةً ، وَفِي الْمَهْجُورِ شَرْعًا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ كَمَا فِي الْمَهْجُورِ عَادَةً .
قُلْت : الْمَهْجُورُ شَرْعًا هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ مَعْمُولًا بِهِ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ كَلَامِ الصَّبِيِّ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَطَّرِدُ فِي الشِّرَاءِ فَإِنَّ الرَّأْسَ يُشْتَرَى بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَلَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الرُّءُوسِ مَا لَا يَجُوزُ إضَافَةُ الشِّرَاءِ إلَيْهِ كَرَأْسِ النَّمْلِ وَالذُّبَابِ وَالْآدَمِيِّ فَكَانَتْ مُتَعَذِّرَةً .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ مِشْمِشًا حَنِثَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : حَنِثَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ : أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ ، وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِيَابِسِ الْبِطِّيخِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا وَأَكْلًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا .
وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا وَيُتَدَاوَى بِهَا فَأَوْجَبَ قُصُورًا فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ مِشْمِشًا حَنِثَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَحْنَثُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا ) يَعْنِي لَا فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ يَمِينُهُ عَلَى ثَمَرِ كُلِّ شَجَرٍ سِوَى الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ .
وَفِي وَجْهٍ لَا يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْخِيَارَ وَالْقِثَّاءَ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ الْبُقُولِ .
وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ ، فَقَوْلُهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُعْتَادِ : أَيْ عَلَى الْغَدَاءِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى تُسَمَّى النَّارُ فَاكِهَةً وَالْمِزَاحُ فَاكِهَةً لِوُجُودِ زِيَادَةِ التَّنَعُّمِ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالرَّطْبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءٌ ) يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ فَاكِهَةً لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ رَطْبِهِ وَيَابِسِهِ ، وَيَابِسُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُعَدُّ فَاكِهَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَطْبُهَا كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا ) فَإِنَّ بَائِعَ الْبُقُولِ هُوَ الَّذِي يَبِيعُهَا لَا غَيْرُ ، وَأَمَّا أَكْلًا فَإِنَّهُمَا يُوضَعَانِ عَلَى الْمَوَائِدِ حَيْثُ يُوضَعُ النَّعْنَاعُ وَالْبَصَلُ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا ) يَعْنِي الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ ( وَيُتَدَاوَى بِهَا ) يَعْنِي الرُّمَّانَ ( وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ ) كَيَابِسِ الرُّمَّانِ ( أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ ) كَيَابِسِ الْعِنَبِ ، فَالتَّوَابِلُ جَمْعُ التَّابَلِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ عَلَى أَفْرَادٍ فِي بَعْضِهَا دَلَالَةٌ عَلَى زِيَادَةِ مَعْنًى لَيْسَ فِي مَفْهُومِ اشْتِقَاقِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ كَمَا تَقَدَّمَ

فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ فِي اللَّحْمِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ وَالْمِلْحُ إدَامٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُوَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَنَحْوِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا ، وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الِاخْتِلَاطِ حَقِيقَةٌ لِيَكُونَ قَائِمًا بِهِ ، وَفِي أَلَّا يُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ حُكْمًا ، وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا ، وَالْخَلُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرَبُ ، وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ بِانْفِرَادِهِ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَكُونُ تَبَعًا ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَمَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ ، وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ هُوَ الصَّحِيحُ .

قَالَ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ ) اصْطَبَغَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ كَذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِخَطِّ الثِّقَاتِ وَهُوَ اُفْتُعِلَ مِنْ الصَّبْغِ ، وَيُقَالُ اُصْطُبِخَ بِالْخَلِّ وَفِي الْخَلِّ وَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزُ بِالْخَلِّ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ ) أَيْ لَا يَأْكُلُ إدَامًا ( فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ ) وَلَا يَنْعَكِسُ فَالْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَاللَّبَنُ وَالْمِلْحُ وَالزُّبْدُ إدَامٌ ، وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) وَحَاصِلُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : مَا يُصْطَبَغُ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْبِطِّيخُ وَالْعِنَبُ وَالتَّمْرُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا لَيْسَ بِإِدَامٍ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي الْبَيْضِ وَاللَّحْمِ وَالْجُبْنِ اخْتِلَافٌ ، جَعَلَهَا مُحَمَّدٌ إدَامًا خِلَافًا لَهُمَا .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ .
وَالتَّبَعِيَّةُ عَلَى نَوْعَيْنِ : حَقِيقِيَّةٍ وَذَلِكَ فِي الِاخْتِلَاطِ لِتَكُونَ قَائِمَةً بِهِ .
وَحُكْمِيَّةٍ وَهِيَ أَنْ لَا تُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَاللَّحْمُ لَا يَخْتَلِطُ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا حَقِيقَةً وَيُؤْكَلُ مُنْفَرِدًا فَلَا يَكُونُ تَبَعًا حُكْمًا فَلَا يَكُونُ إدَامًا .
وَقَوْلُهُ ( وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ بِالِامْتِزَاجِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ : يَعْنِي سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ الْمُؤَادَمَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا وَلَمْ تُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ ، بِخِلَافِ الْخَلِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ وَحْدَهَا بَلْ تُشْرَبُ وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ وَيَذُوبُ

فَيَتْبَعُ فَكَانَ إدَامًا ( وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا ( هُوَ الصَّحِيحُ ) كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .

( وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ) لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُسَمَّى عِشَاءً وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ ( وَالسُّحُورُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّحَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ .
ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي حَقِّهِمْ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَكْلُ الْغَدَاءِ وَالْعِشَاءِ وَالسُّحُورِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَدَاءَ اسْمٌ لِطَعَامِ الْغَدَاةِ لَا اسْمُ أَكْلٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ ) ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ فِي بَابِ الْحَلِفِ عَلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ } " يُرِيدُ بِهِ الرَّاوِي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ .
وَقَوْلُهُ ( وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ فِي حَقِّهِمْ ) يَعْنِي إنْ كَانَتْ خُبْزًا فَخُبْزٌ ، وَإِنْ كَانَتْ لَحْمًا فَلَحْمٌ ، حَتَّى أَنَّ الْحَضَرِيَّ إذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبَ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ ، وَالْبَدَوِيُّ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّهُ غِذَاءٌ فِي الْبَادِيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ ) رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَا تَغَدَّيْت وَمَا تَعَشَّيْت .

( وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ ) لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيهِ ( وَإِنْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَعُمِلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ .

( وَمَنْ قَالَ إنْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت أَوْ لَبِسْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يَصْدُقْ قَضَاءً ) وَلَا دِيَانَةً ( لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ ) لِأَنَّهَا لِتَعْيِينِ بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ ( وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ ) فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَبْ أَنَّهُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ تَنْصِيصًا أَلَيْسَ أَنَّهُ ثَابِتٌ مُقْتَضًى وَالْمُقْتَضَى كَالْمَلْفُوظِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ ) فَإِنْ قِيلَ : الْمُقْتَضَى أَمْرٌ شَرْعِيٌّ وَافْتِقَارُ الْأَكْلِ إلَى الطَّعَامِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّرْعَ .
قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ الْمُقْتَضَى هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَا يَكُونُ مَنْطُوقًا بِهِ ، لَكِنْ يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى السَّفَرَ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً مَعَ أَنَّ السَّفَرَ أَوْ الْخُرُوجَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لَفْظًا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَنَوَى بِهِ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ النِّيَّةَ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّ الْمَسْكَنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لَفْظًا ، حَتَّى لَوْ سَكَنَ مَعَهُ فِي الدَّارِ لَا يَحْنَثُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأُولَى مَمْنُوعَةٌ مَنَعَهَا الْقُضَاةُ الْأَرْبَعُ أَبُو هُشَيْمٍ وَأَبُو خَازِمٍ وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ وَالْقَاضِي الْقُمِّيُّ .
وَلَئِنْ سَلِمَ فَقَوْلُهُ إنْ خَرَجْت وَلَا يُسَاكِنُ فِعْلَانِ يَدُلَّانِ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً ، وَقَدْ وَقَعَ الثَّانِي فِي صَرِيحِ النَّفْيِ وَالْأَوَّلُ فِي مَعْنَاهُ فَتَنَاوَلَا بِعُمُومِهِمَا الْخُرُوجَ فِي السَّفَرِ وَالسَّكَنَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُمَا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ ) حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفُ الْمَفْهُومِ .
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْكَرْعِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا فَمُنِعَتْ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا .

وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا ) أَيْ حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى دِجْلَةَ بِعَيْنِهَا وَيَشْرَبَ يُقَالُ كَرَعَ فِي الْمَاءِ إذَا مَدَّ عُنُقَهُ نَحْوَهُ لِيَشْرَبَ مِنْهُ وَمِنْهُ كَرِهَ عِكْرِمَةُ الْكَرْعَ فِي النَّهْرِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْبَهِيمَةِ تُدْخِلُ فِيهِ أَكَارِعَهَا ، وَالْكُرَاعُ مُسْتَدَقُّ السَّاقِ ، وَهَذَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ ) وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِالْعَكْسِ ، أَمَّا كَوْنُ الْمَجَازِ مُتَعَارَفًا فَظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَهْلُ فُلَانٍ يَشْرَبُونَ مِنْ دِجْلَةَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ مَائِهَا ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فَلِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَعُونَ مِنْ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عِنْدَهُمْ { هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ ، وَإِلَّا كَرَعْنَا } وَلِهَذَا إذَا كَرَعَ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْكَرْعِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْحَقِيقَةِ مُسْتَعْمَلَةً بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْمَجَازِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ بِالشُّرْبِ بِالْإِنَاءِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ أَوْ هِجْرَانِهَا ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فَلَا مَصِيرَ إلَيْهِ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرِبَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ ) ظَاهِرٌ .

( مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ) يَعْنِي إذَا مَضَى الْيَوْمُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهِ تُصَوَّرُ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْبِرِّ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ .
قُلْنَا : لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْغَمُوسُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ( وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً ؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُوَقَّتِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ ، فَإِذَا فَاتَ الْبِرُّ بِفَوَاتِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ ؛ أَمَّا فِي الْمُؤَقَّتِ فَيَجِبُ الْبِرُّ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْبِرِّ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَلَا يَجِبُ الْبِرُّ فِيهِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ ) عَلِمَ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ( فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهِ الْمَاءُ وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهِ لِلْجَانِبَيْنِ فَوَاضِحٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى وَجْهِهِمَا بِأَنَّ الْبَرَّ مُتَصَوَّرٌ فِي صُورَةِ الْإِرَاقَةِ ، لِأَنَّ إعَادَةَ الْقَطَرَاتِ الْمِهْرَاقَةِ مُمْكِنَةٌ فَكَانَ مُتَصَوَّرًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَرَّ إنَّمَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ فِيهِ غَيْرَهُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ فِيهِ بِإِعَادَةِ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ وَشُرْبِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً ) أَيْ عَنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ ( فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ ( لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ) وَهُوَ أَنْ يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ ( يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ ) فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ بَيْنَ الْمُطْلَقِ عَنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ وَبَيْنَ الْمُؤَقَّتِ بِهِ ، فَقَالَ فِي الْمُطْلَقِ إنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ ، وَفِي الْمُؤَقَّتِ حِنْثُهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ .
وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مَتَى عُقِدَتْ عَلَى فِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُمْتَدٍّ يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ لِلِانْعِقَادِ لِأَنَّ الْوَقْتَ ظَرْفٌ لَهُ فَيَلْزَمُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَيَتَعَيَّنُ آخِرُهُ ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبَرُّ كَمَا فَرَغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ ، كَذَا فِي بَعْضِ

الشُّرُوحِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُؤَقَّتِ : أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ فَقَالَ فِي الْمُطْلَقِ يَحْنَثُ حَالَ وَقْتِ الْإِرَاقَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ إلَى اللَّيْلِ ، وَفِي الْمُؤَقَّتِ لَا يَحْنَثُ فِي الْحَالِ بَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ ، وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُؤَقَّتِ : يَعْنِي فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ إلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمَحَلِّ شَرْطٌ لِلْبَرِّ كَبَقَاءِ الْحَالِفِ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّ وُجُودَ الْمَحَلِّ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ كَذَلِكَ لِبَقَائِهَا .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِيلَ حَقِيقَةً فَلَا يَنْعَقِدُ .
وَلَنَا أَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَقِيقَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ وَكَذَا تَحَوُّلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا كَانَ مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبًا لِخُلْفِهِ ثُمَّ يَحْنَثُ بِحُكْمِ الْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً .
كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبَرِّ لَوْ كَانَ كَافِيًا فِي خَلْفِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَوَجَبَتْ فِي الْغَمُوسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إعَادَةِ الزَّمَانِ الْمَاضِي وَقَدْ فَعَلَهَا لِسُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبَرِّ فِي الْغَمُوسِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مَوْجُودًا مِنْهُ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِيجَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ دُونَ الْقُدْرَةِ فِيمَا لَهُ حَلَفَ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ لِمَكَانِ التَّصَوُّرِ وَالْحَلِفِ وَكَذَلِكَ هَهُنَا حَنِثَ عَقِيبَ وُجُوبِ الْبَرِّ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً كَمَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ هُنَاكَ عَقِيبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ ) : قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَبَّهْ كَانَ كَمَا إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ ) : لَمَّا ذَكَرَ بَيَانَ أَيْمَانِ السُّكْنَى وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْفِعْلِ الْجَامِعِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْأَبْوَابَ الْمُتَفَرِّقَةَ وَهُوَ الْكَلَامُ ؛ إذْ الْيَمِينُ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْيَمِينُ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ ، فَذِكْرُ الْجِنْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذِكْرِ النَّوْعِ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ ) نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ التَّكْلِيمَ عِبَارَةٌ عَنْ إسْمَاعِ كَلَامِهِ كَمَا فِي تَكْلِيمِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إسْمَاعِ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنَّ إسْمَاعَ الْغَيْرِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ مَقَامَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ أَصْغَى إلَيْهِ أُذُنَهُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مَانِعٌ مِنْ السَّمَاعِ لَسَمِعَ وَدَار الْحُكْمُ مَعَهُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْإِسْمَاعِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِتَغَافُلِهِ ) أَيْ لِغَفْلَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ ) يُرِيدُ مَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ فَنَادَاهُ وَأَيْقَظَهُ يَحْنَثُ فِيهِ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْإِيقَاظِ لِلْحِنْثِ .
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ ، وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى نَادَاهُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ يَقْظَانَ لَسَمِعَ صَوْتَهُ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يُوقِظْهُ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا ، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا .
قُلْنَا : الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ .وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْإِذْنِ كَالرِّضَا ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِرِضَاهُ فَرَضِيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ فَكَلَّمَهُ لَا يَحْنَثُ لِمَا أَنَّ الرِّضَا يَتِمُّ بِالرَّاضِي ، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ .
قُلْنَا : الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَيَتِمُّ بِالرَّاضِي وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّهُ إمَّا مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي السَّمَاعَ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَارَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ لَكِنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا فَلَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ مُحْتَاجًا إلَى الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ هَذَا فَكُّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ فَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ ، وَأَمَّا فِي الْيَمِينِ فَلَمَّا حَرَّمَ كَلَامَهُ بِالْيَمِينِ إلَّا عِنْدَ الْإِذْنِ صَارَ الْإِذْنُ مُثْبِتًا لِإِبَاحَةِ الْكَلَامِ لِلْحَالِفِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَمْرُهُ وَاضِحٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّ

قَالَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَتَأَبَّدَ الْيَمِينُ فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ الَّذِي يَلِي يَمِينَهُ دَخْلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِهِ وَأَنَّهُ مُنَكِّرٌ فَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لِتَأَبُّدِ الْيَمِينِ ) لِأَنَّ مَا يَلِي الْيَمِينَ صَالِحٌ لِمَحَلِّيَّةِ الْبَرِّ : أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَتْ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَانَ الْيَمِينُ مُؤَبَّدًا فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ الْغَيْظُ الَّذِي لَحِقَهُ فِي الْحَالِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَن شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ ، إمَّا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ ، وَإِمَّا لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّأْبِيدِ لِتَخَلُّلِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ ، فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ مُنَكَّرٌ فَالنِّيَّةُ تُعَيِّنُهُ

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِ لَا يَحْنَثُ .
وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاتِهِ حَنِثَ ) وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ } وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بَلْ قَارِئًا وَمُسَبِّحًا.
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ) ظَاهِرٌ .

( وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَأَمْرَأَتْهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ ( وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِوَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا ) هَاهُنَا ثَلَاثُ عِبَارَاتٍ نَهَارَ أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا وَيَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا ، فَالْأُولَى لِبَيَاضِ النَّهَارِ خَاصَّةً .
فَلَوْ كَلَّمَهُ لَيْلًا لَمْ يَحْنَثْ .
وَالثَّانِيَةُ لِسَوَادِهِ خَاصَّةً ، فَلَوْ كَلَّمَهُ نَهَارًا لَمْ يَحْنَثْ .
وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً لَيَالِي لَاقَيْنَا جُذَامًا وَحَمِيرًا مُرَادًا بِهِ الْوَقْتُ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَمَا فِي الشِّعْرِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَذَلِكَ أَصْلٌ آخَرُ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَالثَّالِثَةُ يُعْتَبَرُ بِمَا قُرِنَ بِهِ ، إنْ قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ } وَالْكَلَامُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ ، وَإِنْ قُرِنَ بِهِ مَا يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ يُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَالْبَحْثُ فِيهِ وَظِيفَةٌ أُصُولِيَّةٌ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ ، فَإِنْ عَنَى فِي قَوْلِهِ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا النَّهَارَ خَاصَّةً صَدَقَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ .

( وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً ، وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ ( وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْغَايَةِ وَمُنْتَهِيَةٌ بَعْدَهَا فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْيَمِينِ ( وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ .
وَعِنْدَهُ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَايَةٌ ) أَمَّا فِي كَلِمَةِ حَتَّى فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي إلَّا أَنْ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُنَاسَبَةِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مَعْنَى الْغَايَةِ وَكَوْنُهُ مَجَازًا لِلْغَايَةِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ ) يَعْنِي الَّذِي أَسْنَدَ إلَيْهِ الْقُدُومَ أَوْ الْإِذْنَ سَقَطَ الْيَمِينُ لِانْتِفَاءِ تَصَوُّرِ الْبَرِّ .
فَإِنْ قِيلَ : إعَادَةُ الْحَيَاةِ مُمْكِنَةٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَبْطُلَ الْيَمِينُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ فِي حَيَاتِهِ الْقَائِمَةِ لَا الْمُعَادَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهِيَ غَيْرُ الْمُعَادَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا قَالَ لَأَقْتُلَن فُلَانًا وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ بِمَوْتِهِ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى الْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَهُمْ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ وَاقِعٍ فِي مَحَلٍّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ ، إمَّا إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ نِسْبَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَحْنَثُ ، قَالَ هَذَا فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَالْمَرْأَةِ وَالصِّدِّيقِ .
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ مَقْصُودَانِ بِالْهِجْرَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ .
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ ( وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهَا أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ) وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلُغِيَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا ، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ

إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَالدَّاعِي الْمَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ ، بِخِلَافِ ، مَا تَقَدَّمَ

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ ) إذَا وَقَعَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِمُرَكَّبٍ إضَافِيٍّ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ أَوْ لَا ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةَ نِسْبَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةً أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَالْمُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَا فِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ الْحَلِفِ ، فَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَذَا قَالَهُ فِي الزِّيَادَاتِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ قَدْ يُهْجَرَانِ لِذَاتِهِمَا مَقْصُودًا لَا لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَمَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ ، أَيْ بِعَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
كَمَا فِي الْإِشَارَةِ بِأَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ صَدِيقَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذِهِ ( وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا ) يَعْنِي عَدَمَ الْحِنْثِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الزِّيَادَاتِ وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَبِي يُوسُفَ قَوْلٌ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ

كَانَ مَعَ الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ بِأَنْ قَالَ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ هَذِهِ أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ ، وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ .
وَتَقْرِيرُهُ : الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَمَا هُوَ لِلتَّعْرِيفِ يَلْغُو عِنْدَ وُجُودِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِيهِ ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ لِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِفُلَانٍ عَبِيدٌ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلَغَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ بَلْ لِبَيَانِ أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْيَمِينِ مَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ : أَيْ الدَّارُ وَالدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا ، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ لِقِيَامِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إذْ ذَاكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ ، وَالدَّاعِي لِمَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ : أَيْ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلْهِجْرَانِ لِكَوْنِ الْمُضَافِ أَيْضًا صَالِحًا لِذَلِكَ .
وَإِذَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ لَمْ يَشْتَرِطْ دَوَامَهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، يَعْنِي إضَافَةَ الْمِلْكِ لِتَعْيِينِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِذَلِكَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ وَالْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تُهْجَرَ لِذَاتِهَا لِشُؤْمِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ احْتِمَالٌ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفٌ فَلَا يَكُونُ

مُعْتَبَرًا

قَالَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا التَّعْرِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ وَقَدْ صَارَ شَيْخًا حَنِثَ ) لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ..
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَتْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوًا لَحَنِثَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا .
وَتَقْرِيرُهُ : الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ إذَا لَمْ تَكُنْ دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ : يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، بِخِلَافِ الرُّطَبِ فَإِنَّ صِفَتَهَا دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ .

( فَصْلٌ ) قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِوُجُودِ الِامْتِنَاعِ فِيهِ عَادَةً ، وَالْمُؤَبَّدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَتَأَبَّدُ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَا الزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنَى وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، أَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ( وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا .
لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ دَهْرٍ بِمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يُعْرَفْ اسْتِمْرَارُهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ

فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ نَوْعِ الْكَلَامِ مُتَعَلِّقَةً بِالْأَزْمَانِ سَمَّاهُ فَصْلًا ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ وَلَا نِيَّةَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْمُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } أَيْ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَمِنْ وَقْتِ الطَّلْعِ إلَى وَقْتِ الرُّطَبِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَمِنْ وَقْتِ الرُّطَبِ إلَى وَقْتِ الطَّلْعِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَنْقَطِعُ نَفْعُهَا أَلْبَتَّةَ ( وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ) إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ الِانْصِرَافُ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ( لِأَنَّ الْقَصِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْيَمِينِ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْكَلَامِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا عَادَةً بِلَا يَمِينٍ ، وَالْمَدِيدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ يَقُولُ أَبَدًا فِي الْعُرْفِ ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ الْحِينَ ، وَلَوْ سَكَتَ تَأَبَّدَ الْيَمِينُ فَحَيْثُ ذُكِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ سِوَى الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوْسَطُ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الزَّمَانُ ) ظَاهِرٌ ( وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ) يَعْنِي يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ الْمُنَكَّرُ وَالْمُعَرَّفُ سَوَاءٌ ( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ .

وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ دَهْرًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الدَّهْرِ ، وَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ فَالْمُعَرَّفُ يَكُونُ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ الدَّهْرَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا .
وَوَجْهُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْمُنَكَّرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَأَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُك دُهُورًا أَوْ أَزْمِنَةً أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ أَوْ جُمَعًا أَوْ أَيَّامًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا قَائِلًا فِي دُهُورٍ مُنَكَّرَةٍ بِثَلَاثَةٍ مِنْهَا ، فَكُلُّ دَهْرٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا ، وَالْحُكْمُ فِي الْجَمْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِفْرَادِ فَكَيْفَ حَكَمَ فِي الْجَمْعِ وَتَوَقَّفَ فِي الْمُفْرَدِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَفْرِيعٌ لِمَسْأَلَةِ الدَّهْرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الدَّهْرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَقَفَ عَلَى مَعْنَى الدَّهْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ مِنْهُ بِثَلَاثَةٍ كَمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالشُّهُورِ كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ .
وَبَيَانُ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ أَنَّ مُعَرَّفَهُ يَقَعُ الْأَبَدُ بِخِلَافِ الْحِينِ وَالزَّمَانِ ، وَيُقَالُ دَهْرِيٌّ لِمَنْ قَالَ الدَّهْرُ وَأَنْكَرَ الصَّانِعَ .
وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ { وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ } قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسُبُّوا بِالدَّهْرِ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ } فَهَذَا اسْمٌ لَمْ يُوقَفْ عَلَى

مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ وَالتَّوَقُّفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ ذُكِرَ مُنَكَّرًا فَيُتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا .
وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ ( وَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ ) وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْعُمُرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْمُعَرَّفِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِالتَّنْكِيرِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجِنْسِ وَالْعَهْدِ فَيَقَعُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ حَرْفَ التَّعْرِيفِ إذَا دَخَلَ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ يَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْعَشَرَةُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي الْعُرْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ : أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَمِائَةَ يَوْمٍ وَأَلْفَ يَوْمٍ ، فَلَمَّا كَانَتْ الْعَشَرَةُ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ حَيْثُ يَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِتَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ النِّسَاءِ ، وَعِنْدَهُمَا يُنْظَرُ إنْ كَانَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَإِلَّا يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ ، وَفِي الْأَيَّامِ الْمَعْهُودِ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ فَكَانَتْ مُرَادَةً ، وَفِي الشُّهُورِ الْمَعْهُودُ شُهُورُ السَّنَةِ فَكَانَتْ مُرَادَةً وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَلَا مَعْهُودَ فِي الْجَمْعِ وَالسِّنِينَ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا ) قِيلَ أَيْ لِأَنَّ الشُّهُورَ تَدُورُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهَا تَدُورُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ أَوَّلَ بِالْمَذْكُورِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالْإِفْرَادِ فِي الثَّانِي .

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ ، وَقَالَا : سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ .
وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفَرْدِ دُونَ الْجَمْعِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ ) يَعْنِي مِثْلَ أَنْ يَقُول اكر خدمت كنى مراروزهاي بِسَيَّارِ توازاذي غَرْمُ خُدِمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَ لِأَنَّ فِي لِسَانِنَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ لَفْظَةَ روز فَلَا يَجِيءُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ انْتِهَاءِ لَفْظِ الْجَمْعِ إلَى عَشَرَةٍ ؛ فَلِذَلِكَ أُرِيدَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَكْثَرُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ ، لِأَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ أَيَّامٌ بَلْ يُقَالُ إحْدَى عَشَرَ يَوْمًا وَمِائَةَ يَوْمٍ وَأَلْفَ يَوْمٍ .
وَقِيلَ فِي تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَرْدِ بِالْفَارِسِيَّةِ إمَّا أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ أَوْ لَا ، فَإِنْ فُهِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبِيُّ وَالْفَارِسِيُّ سَوَاءً وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْأُسْبُوعُ مُرَادًا أَيْضًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ .
وَقَوْلُهُ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبِيُّ وَالْفَارِسِيُّ سَوَاءً ، قُلْنَا : مَمْنُوعٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيِّ وَإِنْ أَفَادَ مَعْنَى الْجَمْعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى الْعَشَرَةِ وَتَخْصِيصُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ لِكَوْنِهِ الْمَعْهُودَ أَوْ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ) : ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ فَيَكُونُ وَلَدًا حَقِيقَةً وَيُسَمَّى بِهِ فِي الْعُرْفِ ، وَيُعْتَبَرُ وَلَدًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِبَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ) : قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا أَكْثَرُ وُقُوعًا فَكَانَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ أَهَمَّ مِنْ غَيْرِهِ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَمَتِهِ وَعَلَّقَ بِهِ الْحُرِّيَّةَ عَتَقَتْ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا وَحُكْمًا ؛ أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ عُرْفًا لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ وَلَدًا ، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُ وَلَدًا حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْحُكْمُ

( وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْجَزَاءُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ جَزَاءً وَهِيَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي دَفْعِ تَسَلُّطِ الْغَيْرِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الْمَيِّتِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا ، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا

( وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ إلَخْ لَكِنْ الْمَيِّتُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْحُرِّيَّةِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ لَكِنْ لَا إلَى جَزَاءٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَمَا أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ لَهُ جَزَاءً وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا وَلَمْ يُوجَدْ ، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ أَيْ الْجَزَاءُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِاسْتِغْنَائِهِمَا عَنْ حَيَاةِ الْوَلَدِ فَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ إلَّا وِلَادَةَ الْوَلَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ إذَا اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَمْ يُعْتَقْ مَعَ أَنَّهُ جَعَلَ شِرَاءَ الْعَبْدِ شَرْطًا لِحُرِّيَّتِهِ وَعَبْدُ الْغَيْرِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحُرِّيَّةِ عَنْ الْمُشْتَرِي لِعَدَمِ مِلْكِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِضْمَارَ إنَّمَا يَكُونُ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى إضْمَارِ الْمِلْكِ لِتَصْحِيحِهِ لَيْسَتْ كَالْحَاجَةِ إلَى إضْمَارِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ بِدُونِ الْحَيَاةِ لَا تُتَصَوَّرُ أَصْلًا ، وَفِي مِلْكِ الْغَيْرِ تُتَصَوَّرُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ إضْمَارِ الْحَيَاةِ إضْمَارُ الْمِلْكِ

( وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ ( فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ) لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ ( وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً وَالثَّالِثُ سَابِقٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ ( وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّ الْآخَرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَلَا سَابِقَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا ( وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ ) لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ فَاتَّصَفَ بِالْآخِرِيَّةِ ( وَيُعْتَقُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَقَالَا : يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ ) حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ فَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِالْآخِرِيَّةِ فَمِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ مُسْتَنِدًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي جَرَيَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ

( وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ وَحْدَهُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ وَاحِدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ لَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ مَعَ أَنَّ مَعْنَى التَّفَرُّدِ فِيهِمَا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ وَاحِدًا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُشَارَكَةِ فِي الذَّاتِ ، وَوَحْدُهُ يَقْتَضِيهِ فِي الْفِعْلِ الْمَقْرُونِ بِهِ دُونَ الذَّاتِ وَلِهَذَا صَدَقَ الرَّجُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الدَّارِ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِيهَا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ وَكَذَبَ فِي ذَلِكَ إذَا قَالَ وَحْدَهُ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قُلْنَا : إذَا قَالَ وَاحِدًا أَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلِ عَبْدٍ مُطْلَقٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدًا لَمْ يُفِدْ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا أَفَادَهُ لَفْظُ أَوَّلُ فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ ، وَإِذَا قَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلِ عَبْدٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي التَّمَلُّكِ وَالثَّالِثُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُعْتَقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ ) وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَوْلُهُ ( حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ ) يَعْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ آخِرِيَّةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَهِيَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَعَدَمُ شِرَاءِ غَيْرِهِ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ تَثْبُتُ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ فِيهِ ، لَكِنْ كَانَتْ بِعَرَضِيَّةِ أَنْ يَزُولَ بِشِرَاءِ غَيْرِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ ؛ فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَشْتَرِ غَيْرَهُ عَرَفْنَا تَقَرُّرَ صِفَةِ الْآخِرِيَّةِ عَلَيْهِ فَيُعْتَقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، كَمَا

لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا تُعْتَقُ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ فِيمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَتَقَتْ مِنْ حِينِ رَأَتْ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ كَانَ حَيْضًا حِينَ رَأَتْ الدَّمَ ، إلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ ؛ وَفِيهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ بَابِ الِاسْتِنَادِ وَمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ بَابِ التَّبْيِينِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنْ التَّمْثِيلِ بَيَانُ عَدَمِ الِاقْتِصَارِ وَالِاسْتِنَادُ وَالتَّبْيِينُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ ) أَيْ بِوَصْفِ الْآخِرِيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ امْرَأَةً ثُمَّ مَاتَ عِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَقْصُورًا عَلَى الْمَوْتِ حَتَّى تَسْتَحِقَّ الْمِيرَاثَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَلَا تَسْتَحِقُّهُ ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالثَّلَاثِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ الزَّوْجُ فَارًّا وَتَرِثُ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمَا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47