كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

قَالَ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ) الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا عَلِمَ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ فَإِنْ تَصَرَّفَ بِمَا يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لَكِنْ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْفُرُوعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي قَبْلَ الْعِلْمِ وَبَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ ) يَعْنِي إذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَقَالَ وَلِيُّهَا هُوَ عَبْدُك فَادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ فَقَالَ هُوَ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ وَدِيعَةٌ عِنْدِي أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةٌ أَوْ رَهْنٌ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ الْخُصُومَةُ حَتَّى يُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً ، إنْ أَقَامَهَا أُخِّرَ الْأَمْرُ إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الدَّفْعِ ، وَقَوْلُهُ ( وَأَلْحَقَهُ الْكَرْخِيُّ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ ) فِي صَيْرُورَتِهِ مُخْتَارًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، قَالَ فِي الْإِيضَاحِ : وَهُوَ رِوَايَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا إلَخْ .
وَقِيلَ يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً خَطَأً فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَالٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ ) لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَيْهِ هَاهُنَا ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَنَقَصَهُ ، وَبِخِلَافِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ ) يَعْنِي

لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِهِمَا لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا زَالَ .
قِيلَ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ كَانَ مُجِيزًا لِلْبَيْعِ وَالْبَائِعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ إذَا عَرَضَ عَلَى الْبَيْعِ كَانَ فَاسِخًا لِلْبَيْعِ فَلِمَ لَا يَكُونُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ثَمَّةَ ضَرُورَةً لَمْ تَتَحَقَّقْ هَاهُنَا ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْ مُجِيزًا وَفَاسِخًا هُنَاكَ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَذُّرِ الْفَسْخِ فِي الْأُولَى وَتَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ لَمْ يَتَبَيَّنْ بِالدَّفْعِ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَافْتَرَقَا ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ) بِأَنْ كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ الْجَانِي عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ نَظِيرَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَقَوْلُهُ ( فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ) قِيلَ يَعْنِي فِي اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، وَقِيلَ فِي الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَعَدَمِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ ضَرَبَهُ فَنَقَصَهُ ) يَعْنِي بِأَنْ أَثَّرَ فِيهِ حَتَّى صَارَ مُهَرْوِلًا أَوْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الضَّرْبِ فَهُوَ مُخْتَارٌ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ حَبَسَ جُزْءًا مِنْهُ ، وَأَمَّا إذَا ضَرَبَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ إلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِهِ نَاقِصًا صَارَ كَأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَوَطِئَهَا ) يَعْنِي يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ مُعَلَّقًا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ حَبَسَ جُزْءًا

مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ ) يَعْنِي لَا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ كَمَا لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الْبَيْعِ ، وَعَلَّلَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ ) وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا بِالسَّرِقَةِ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ ، فَإِنَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يَدْخُلُهَا نَوْعُ عَيْبٍ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ حُكْمًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى رَدِّ طَعْنِ عِيسَى حَيْثُ قَالَ : التَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ وَبِالتَّعْيِيبِ يَثْبُتُ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ كَمَا لَوْ ضَرَبَ عَلَى يَدَيْهَا وَعَيَّبَهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْيِيبَ حَقِيقَةً يَثْبُتُ بِهِ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ لِأَنَّ فِيهِ حَبْسَ جُزْءٍ مِنْهَا ، وَأَمَّا الْحُكْمِيُّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ وَطْءِ الثَّيِّبِ ) فَإِنَّ بِهِ لَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَلِّقًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ غَيْرِ إعْلَاقٍ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُطْلَقَ الْوَطْءِ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِأَنَّ الْحِلَّ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فَكَانَ الْوَطْءُ دَلِيلًا عَلَى إمْسَاكِ الْعَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ؟ فَإِنَّ الْوَطْءَ هُنَاكَ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا ، وَهَاهُنَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا إلَّا إذَا كَانَ مُعَلَّقًا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَقَعَ الْوَطْءُ حَرَامًا ، لِأَنَّهُ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ زَوَائِدَهَا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ فَسْخًا ، وَهَاهُنَا إذَا دَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ يَمْلِكُهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مِنْ وَقْتِ الدَّفْعِ وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ

زَوَائِدِهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ ) يَعْنِي لَوْ اسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، حَتَّى لَوْ عَطِبَ فِي الْخِدْمَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِجَارَةِ ، وَالرَّهْنِ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْتَقِضُ بِالْأَعْذَارِ فَيَكُونُ قِيَامُ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِيهِ عُذْرًا فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ وَالرَّاهِنُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِرْدَادِ الرَّهْنِ مَتَى شَاءَ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْأَظْهَرِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ يَدًا مُسْتَحَقَّةً فَصَارَ كَالْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ) يَعْنِي لَا يَكُونُ بِهِ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ ( إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ) وَوُجُوبُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ لَهُ ، لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يَتْبَعُونَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ إذَا دُفِعَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ قَتَلْت فُلَانًا أَوْ رَمَيْته أَوْ شَجَجْته فَأَنْتَ حُرٌّ ) فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ وَقْتَ تَكَلُّمِهِ لَا جِنَايَةَ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِوُجُودِهِ ، وَبَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا ) ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ أَوْ لَا يُعْتِقَ وُجِدَ الشَّرْطُ وَثَبَتَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ تِلْكَ ، كَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْإِعْتَاقَ بِالْجِنَايَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُنَزَّلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك يَصِيرُ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا إذَا مَرِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَرِضَ حَتَّى طَلُقَتْ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ يَصِيرُ فَارًّا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُطَلِّقًا بَعْدَ وُجُودِ الْمَرَضِ ، بِخِلَافِ مَا أَوْرَدَ لِأَنَّ غَرَضَهُ طَلَاقٌ أَوْ عِتْقٌ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، إذْ الْيَمِينُ لِلْمَنْعِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ حَرَّضَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بِتَعْلِيقِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ ، فَهَذَا دَلَالَةُ الِاخْتِيَارِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ قَتَلْت فُلَانًا ) وَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الدِّيَةَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إنْ قَتَلْت أَوْ رَمَيْته أَوْ شَجَجْته فَأَنْتَ حُرٌّ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا ، وَعِنْدَ التَّكَلُّمِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ ، وَبَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا ، وَاسْتَشْهَدَ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ حَرَّضَهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَوْلَى حَرَّضَ الْعَبْدَ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْقَتْلُ أَوْ الرَّمْيُ أَوْ الشَّجُّ ( بِتَعْلِيقِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ ( وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِفِعْلِهِ ) رَغْبَةً مِنْهُ فِي الْحُرِّيَّةِ ( وَهَذَا دَلَالَةُ الِاخْتِيَارِ ) وَإِنَّمَا قُلْنَا بِجِنَايَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَهُ بِغَيْرِهَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ جَنَى ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ عَلَّقَ بِهَا أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ وُجُودُهَا فَكَانَ عَالِمًا بِهَا ظَاهِرًا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الدِّيَةَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَبْدُ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَمْ يُفَوِّتْ الْمَوْلَى عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِتَعْلِيقِهِ شَيْئًا .

قَالَ ( وَإِذَا قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَدُفِعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى وَقِيلَ لِلْأَوْلِيَاءِ اُقْتُلُوهُ أَوْ اُعْفُوا عَنْهُ ) وَوَجْهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّ الصُّلْحَ كَانَ عَنْ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبْدِ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَطْرَافِ الْحُرِّ فَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَبَطَلَ وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ، كَمَا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى تَصَرُّفٍ يَقْصِدُ تَصْحِيحَهُ وَلَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا وَأَنْ يُجْعَلَ صُلْحًا عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَرَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ يَصِحُّ وَقَدْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ عِوَضًا عَنْ الْقَلِيلِ يَكُونُ أَرْضَى بِكَوْنِهِ عِوَضًا عَنْ الْكَثِيرِ فَإِذَا أُعْتِقَ يَصِحُّ الصُّلْحُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً وَإِذَا لَمْ يُعْتِقْ لَمْ يُوجَدْ الصُّلْحُ ابْتِدَاءً وَالصُّلْحُ الْأَوَّلُ وَقَعَ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْعَبْدُ إلَى الْمَوْلَى وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى خِيرَتِهِمْ فِي الْعَفْوِ وَالْقَتْلِ .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْقَاطِعُ الْمَقْطُوعَةَ يَدَهُ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ .
وَهَذَا الْوَضْعُ يَرِدُ إشْكَالًا فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْيَدِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هُنَالِكَ ،

وَهَاهُنَا قَالَ يَجِبُ .
قِيلَ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَيَكُونُ الْوَضْعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ .
وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ صَحَّ ظَاهِرًا لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ فِي الْيَدِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ ظَاهِرًا ، فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَطَلَ حُكْمًا يَبْقَى مَوْجُودًا حَقِيقَةً فَكَفَى ذَلِكَ لِمَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ .
أَمَّا هَاهُنَا الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا حَيْثُ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ ، فَإِذَا لَمْ يُبْطِلْ الْجِنَايَةَ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ ، هَذَا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ ، أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَالتَّخْرِيجُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .

وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ ذَلِكَ ) يُرِيدُ بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا أَعْتَقَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعْتِقْ ( أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ ) أَيْ الدَّفْعَ ( وَقَعَ بَاطِلًا ) وَسَمَّاهُ صُلْحًا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْفِدَاءُ فَكَانَ الدَّفْعُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ لِسُقُوطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ بِهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ الْمَالِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ أَطْرَافِ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا بِغَيْرِ بَدَلٍ : يَعْنِي الْمُصَالَحَ عَنْهُ ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ الصُّلْحُ وَقَعَ عَنْهُ وَهُوَ الْمَالُ قَدْ زَالَ ، وَاَلَّذِي وُجِدَ مِنْ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الصُّلْحِ فَبَطَلَ ، وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً ، كَمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ شُبْهَةً لِدَرْءِ الْحَدِّ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ .
بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ إذَا أَقْدَمَ عَلَى تَصَرُّفٍ يَقْصِدُ تَصْحِيحَهُ ، وَلَا صِحَّةَ لِهَذَا الصُّلْحِ إلَّا بِجَعْلِهِ صُلْحًا عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَيُجْعَلُ مُصَالِحًا عَنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِعْتَاقِ ، وَيُجْعَلُ الْمَوْلَى أَيْضًا كَذَلِكَ دَلَالَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ يَكُونُ الْعَبْدُ عِوَضًا عَنْ الْقَلِيلِ كَانَ بِكَوْنِهِ عِوَضًا عَنْ الْكَثِيرِ أَرْضَى ، وَشَرْطُ صِحَّةُ الِاقْتِضَاءِ وَهُوَ إمْكَانُ الْمُقْتَضِي مَوْجُودٌ ، وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ الْمَوْلَى صَحَّ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ حَصَلَ بَيْنَهُمَا صُلْحٌ جَدِيدٌ ابْتِدَاءً ، وَإِذَا لَمْ يُعْتِقْ لَمْ يُوجَدْ الصُّلْحُ ابْتِدَاءً ، وَالصُّلْحُ الْأَوَّلُ وَقَعَ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْعَبْدُ

إلَى الْمَوْلَى وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى خِيَرَتِهِمْ فِي الْعَفْوِ وَالْقَتْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ : أَيْ كِتَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْوَضْعِ ، وَسَاقَ الْكَلَامَ مِثْلَ مَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ ، وَبَعْضُ الشَّارِحِينَ عَبَّرَ عَنْ النُّسْخَةِ الْأُولَى بِالنُّسْخَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ وَيُجْعَلُ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى خِيَرَتِهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْعَفْوِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا الْوَضْعُ يَرِدُ إشْكَالًا ) قِيلَ أَيْ الْوَضْعُ الثَّانِي وَهُوَ النُّسْخَةُ الْغَيْرُ الْمَعْرُوفَةُ ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْوَضْعَ بِوُرُودِ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْعَبْدَ فِي هَذَا الْوَضْعِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالصُّلْحُ مُتَضَمِّنٌ لِلْعَفْوِ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْحَطِيطَةِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ الْعَفْوِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الدَّفْعَ ثَمَّةَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ بَلْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَطُّ شَيْءٍ فَلَا يَرِدُ إشْكَالًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ ، وَقِيلَ هَذَا الْوَضْعُ : أَيْ وَضْعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي النُّسْخَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَغَيْرِهَا يَرِدُ إشْكَالًا فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْيَدِ وَسَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هُنَاكَ ، وَهَاهُنَا قَالَ يَجِبُ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا ذَكَرَ هَاهُنَا مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ جَوَابُ الْقِيَاسِ فَيَكُونُ الْوَضْعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ : يَعْنِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى النُّسْخَتَيْنِ جَوَابُ الْقِيَاسِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ وُجُوبُ الدِّيَةِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فَكَانَ

الْوَضْعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ، فَانْدَفَعَ التَّدَافُعُ وَحَصَلَ التَّوَافُقُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ صَحَّ ظَاهِرًا ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ كَانَ فِي الْيَدِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ( فَيَصِحُّ الْعَفْوُ ظَاهِرًا ) وَتَبْطُلُ بِهِ الْجِنَايَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْهَا يُبْطِلُهَا ( فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَطَلَ الْعَفْوُ بِالسِّرَايَةِ حُكْمًا يَبْقَى مَوْجُودًا حَقِيقَةً ) وَذَلِكَ كَافٍ لِمَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ ( أَمَّا هَاهُنَا فَالصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا حَيْثُ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ ، فَإِذَا لَمْ تَمْتَنِعْ الْجِنَايَةُ لَمْ يَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ ، هَذَا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ ، أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ إلَخْ .

قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ جِنَايَةً وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ : قِيمَةٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَقِيمَةٌ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ : الدَّفْعُ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَالْبَيْعُ لِلْغُرَمَاءِ ، فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ .
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ إيفَاءً مِنْ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ بِأَنْ يُدْفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ فَيَضْمَنُهَا بِالْإِتْلَافِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْمَوْلَى وَيَدْفَعُهَا الْمَوْلَى إلَى الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنَّمَا يَضْمَنُ لِلْمَوْلَى بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْحَقُّ لِأَنَّهُ دُونَهُ ، وَهَاهُنَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِتْلَافِ الْحَقِّ فَلَا تَرْجِيحَ فَيَظْهَرَانِ فَيَضْمَنُهُمَا .

وَقَوْلُهُ ( فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وَقِيمَةٌ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ الْأَرْشِ .
وَقَوْلُهُ ( أَتْلَفَ حَقَّيْنِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا بِكُلِّ الْقِيمَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ كَوْنُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ لِيَكُونَ الْإِتْلَافُ وَارِدًا عَلَيْهِمَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ أَيْضًا مِنْ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ بِأَنْ يُدْفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ الْإِتْلَافُ وَارِدًا عَلَيْهِمَا فَيَضْمَنُهُمَا بِهِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ دَفَعَ بِيعَ فِي دَيْنِ الْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لِأَصْحَابِ الْوَلَاءِ ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالدَّفْعِ لِأَنَّ بِهِ تَوْفِيرَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ يَصِيرُ مُوَفًّى بِالدَّفْعِ ثُمَّ يُبَاعُ بَعْدَهُ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ ، وَمَتَى بَدَأْنَا بِدَفْعِهِ فِي الدَّيْنِ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ تَجَدَّدَ لِلْمُشْتَرِي الْمِلْكُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي يَدِهِ جِنَايَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا فَائِدَةُ الدَّفْعِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ بَعْدَهُ وَاجِبًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا إثْبَاتُ حَقِّ الِاسْتِخْلَاصِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ بِالدَّيْنِ ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلْ الدَّيْنُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهَا صَيْرُورَتُهُ حُرًّا ، فَإِذَا كَانَ مَشْغُولًا وَجَبَ دَفْعُهُ مَشْغُولًا ، ثُمَّ إذَا بِيعَ وَفَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ صُرِفَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ بِيعَ عَلَى مِلْكِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالدَّيْنِ تَأَخَّرَ إلَى حَالِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا لَوْ بِيعَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ

فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ لِأَوْلِيَائِهَا ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يُوجِبُ الْأَرْشَ دُونَ الْقِيمَةِ وَقَدْ مَرَّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ ) وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْحَقُّ ) يَعْنِي حَقَّ الدَّفْعِ ( لِأَنَّهُ دُونَهُ ) أَيْ الْحَقُّ دُونَ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْحَقُّ مَعَ الْمِلْكِ مَرْجُوحًا .

قَالَ ( وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْوَلَدُ مَعَهَا فِي الدَّيْنِ ، وَإِنْ جَنَتْ جِنَايَةً لَمْ يُدْفَعْ الْوَلَدُ مَعَهَا ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ فِيهَا وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهَا اسْتِيفَاءً فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَرْهُونَةِ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى لَا فِي ذِمَّتِهَا ، وَإِنَّمَا يُلَاقِيهَا أَثَرُ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الدَّفْعُ وَالسِّرَايَةُ فِي الْأَوْصَافِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ .

قَالَ ( وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ ) فَرْقٌ بَيْنَ وِلَادَةِ الْأَمَةِ بَعْدَ اسْتِدَانَتِهَا وَبَيْنَ وِلَادَتِهَا بَعْدَ جِنَايَتِهَا فِي أَنَّ الْوَلَدَ يُبَاعُ مَعَهَا فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ فِيهَا وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهَا اسْتِيفَاءً حَتَّى صَارَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَكَانَتْ مِنْ الْأَوْصَافِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَارَّةِ فِي الْأُمِّ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرَّهْنِ .
وَأَمَّا مُوجَبُ الْجِنَايَةِ فَالدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ وَذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى لَا فِي ذِمَّتِهَا حَتَّى لَا يَصِيرَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ اسْتِخْدَامٍ ( وَإِنَّمَا يُلَاقِيهَا أَثَرُ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الدَّفْعُ ) فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا غَيْرَ قَارٍّ حَصَلَ عِنْدَ الدَّفْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالسِّرَايَةُ فِي الْأَوْصَافِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْحَقِيقِيَّ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ يَتَحَوَّلُ بِتَحَوُّلِهِ ، وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَيْنَ الْأَمَةِ فِي ذِمَّتِهَا ، فَإِنَّ الْمَوْلَى إنْ أَعْتَقَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا ، وَلَوْ كَانَ فِي ذِمَّتِهَا لَمَا ضَمِنَ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَدْيُونٌ إنْسَانًا فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ دَيْنَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا سَرَى أَثَرُ الدَّفْعِ إلَى أَرْشٍ اسْتَحَقَّتْهُ بِجِنَايَةٍ جَنَى بِهَا عَلَيْهَا جَانٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِمَا أَنَّ وَلَدَهَا جُزْؤُهَا وَأَرْشُهَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَمَّا لَمْ يَسْرِ إلَى جُزْئِهَا لِكَوْنِهِ أَثَرَ فِعْلٍ حَقِيقِيٍّ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْرِيَ إلَى مَا لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْهَا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ

عَلَى الْمَوْلَى لِتَفْوِيتِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ لَا بِاعْتِبَارِ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ إيفَاءُ الدُّيُونِ لَا ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ دَيْنَ مَنْ قَتَلَهُ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْمُتْلَفِ وَهُوَ الدَّيْنُ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعَيْنِ ضَمَانًا ، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ ، لَا يُقَالُ : هَذَا الْمَانِعُ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَهَلَّا اُعْتُبِرَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ هُنَاكَ لَاقَى مَحَلًّا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ ، بِخِلَافِ صُورَةِ النَّقْضِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ .
قُلْت : مُخَلِّصُهُ مَعْلُومٌ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ فَاتَ بِالْجِنَايَةِ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ قَدْ اسْتَحَقَّهَا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا فَمَا فَاتَ مِنْ الْأَجْزَاءِ بِعِوَضٍ قَامَ الْعِوَضُ مَقَامَهُ ، كَمَا لَوْ قُتِلَتْ وَأَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا كَانَ عَلَيْهِ دَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِجُزْءٍ وَلَا بَدَلًا عَنْ جُزْءٍ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ زَعَمَ رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَتَلَ الْعَبْدُ وَلِيًّا لِذَلِكَ الرَّجُلِ الزَّاعِمِ خَطَأً فَلَا شَيْءَ لَهُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَدْ ادَّعَى الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَأَبْرَأَ الْعَبْدَ وَالْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ ) صُورَتُهُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَهَا ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِبْرَاءُ الْعَبْدِ ) يَعْنِي مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ لَا مِنْ قِسْطِهِ فِيهَا ، وَإِبْرَاءُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ إعْتَاقًا حَتَّى يَصِيرَ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ مُسْتَهْلِكًا حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى أَخْذِ الْعَبْدِ بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَلَا عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ وَلَا عَلَى الْعَاقِلَةِ إلَّا بِحُجَّةٍ .

قَالَ ( وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ فَقَالَ لِرَجُلٍ قَتَلْتُ أَخَاك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلْته وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ لَمَّا أَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُرِفَ رِقُّهُ ، وَالْوُجُوبُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعًا أَوْ فِدَاءً ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ بِعْت دَارِي وَأَنَا صَبِيٌّ ، أَوْ قَالَ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا مَجْنُونٌ أَوْ بِعْت دَارِي وَأَنَا مَجْنُونٌ وَقَدْ كَانَ جُنُونُهُ مَعْرُوفًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ ) يَعْنِي إذَا أُعْتِقَ عَبْدٌ مَعْرُوفٌ بِالرِّقِّ ( فَقَالَ لِرَجُلٍ قَتَلْت أَخَاك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ قَتَلْته وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، إذْ الْكَلَامُ فِي عَبْدٍ مَعْرُوفِ الرِّقِّ وَالْوُجُوبُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعًا أَوْ فِدَاءً ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فِي إقْرَارِهِ وَالْمَقَرُّ لَهُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ التَّارِيخِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّارِيخِ لِلتَّرْجِيحِ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْإِقْرَارِ ، وَهَاهُنَا هُوَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِهِ فَصَارَ كَمَنْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ أَوْ خُلِقَ .
وَقَوْلُهُ ( كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ) يَعْنِي مَعَ يَمِينِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ

قَالَ ( وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْتُ يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ قَطَعْتَهَا وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا إلَّا الْجِمَاعَ وَالْغَلَّةَ اسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُ إلَّا شَيْئًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِسْنَادِهِ الْفِعْلَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ .
وَفِي الشَّيْءِ الْقَائِمِ أَقَرَّ بِيَدِهَا حَيْثُ اعْتَرَفَ بِالْأَخْذِ مِنْهَا ثُمَّ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهَا ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ فَقَأْت عَيْنَكَ الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ ثُمَّ فُقِئَتْ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ : لَا بَلْ فَقَأْتَهَا وَعَيْنُك الْيُمْنَى مَفْقُوءَةٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ يَدَهَا لَوْ قَطَعَهَا وَهِيَ مَدْيُونَةٌ ، وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ الْمَدْيُونَةَ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ ، وَكَذَا أَخْذُهُ مِنْ غَلَّتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْيُونَةً لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَحَصَلَ الْإِسْنَادُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا مَبْنَاهَا عَلَى إسْنَادِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ ( إلَّا الْجِمَاعَ وَالْغَلَّةَ ) أَنْ يَقُولَ لَهَا جَامَعْتُك وَأَنْتِ أَمَتِي أَوْ أَخَذْت مِنْك غَلَّةَ عَمَلِك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ بَلْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْلَى اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُ إلَّا شَيْئًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَيْهَا : يَعْنِي لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ وَالْمَأْخُوذُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَاخْتَلَفَا فِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ الرَّدَّ فِيهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، بَنَاهَا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ .
وَأَجَابَ عَنْ تَخَلُّفِ الشَّيْءِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ بِأَنَّهُ أَقَرَّ بِيَدِهِ : أَيْ بِيَدِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ ( حَيْثُ اعْتَرَفَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أُسْنِدَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ يَدَهَا لَوْ قَطَعَهَا وَهِيَ مَدْيُونَةٌ ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ الْمَدْيُونَةَ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ مِنْ غَلَّتِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَدْيُونَةً لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فَحَصَلَ فِيهِمَا الْإِسْنَادُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا ( لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ فَقَأْت عَيْنَك الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ ثُمَّ فُقِئَتْ ) يُرِيدُ بِذَلِكَ بَرَاءَتَهُ عَنْ ضَمَانِ الْعَيْنِ قِصَاصًا وَأَرْشًا ( وَقَالَ الْمَقَرُّ لَهُ بَلْ فَقَأْتهَا وَعَيْنُك الْيُمْنَى مَفْقُوءَةٌ ) يُرِيدُ بِهِ وُجُوبَ نِصْفِ الدِّيَةِ

عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعُضْوِ الْمُتْلَفِ إنْ كَانَ صَحِيحًا حَالَ الْإِتْلَافِ ثُمَّ تَلِفَ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ ، وَلَهُ الْعُدُولُ إلَى الْمَالِ فَقَبْلَ الْعُدُولِ إذَا فَاتَ الْمَحَلُّ بَطَلَ الْحَقُّ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ .
كَمَا إذَا قَطَعَ يَمِينَ شَخْصٍ ثُمَّ شُلَّتْ يَمِينُهُ .
وَفَقْءُ الْعَيْنِ بِالتَّعْوِيرِ لَا قِصَاصَ فِيهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ فَقْءٌ ذَهَبَ بِهِ نُورُهَا وَلَمْ تَنْخَسِفْ وَالْقِصَاصُ فِيهِ جَارٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ ) لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ : لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ بَيَانًا لِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى صُورَتُهَا : مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ خَرَجَا إلَيْنَا فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذْت مِنْك مَالًا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فَقَالَ بَلْ أَخَذْت مِنِّي وَأَنَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ ، كَذَا قِيلَ ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ دَيْنًا فَكَانَ قَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى وَهُوَ مَا إذَا أَخَذَ الْغَلَّةَ أَوْ وَطِئَهَا ، وَفِي وَجْهٍ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَارِيَةِ وَهُوَ مَا إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا مَالًا وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا وَهُوَ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ مَالَهَا أَوْ قَطَعَ يَدَهَا ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِسْنَادَ إلَى حَالَةٍ

مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْمَقَرِّ بِهِ ، وَالْآخَرُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مُخْرَجٌ عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي مُخْرَجٌ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ خَرَّجَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَهُمَا عَلَى الثَّانِي .

قَالَ ( وَإِذَا أَمَرَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ صَبِيًّا حُرًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ الدِّيَةُ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ حَقِيقَةً ، وَعَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ( وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ ) وَكَذَا إذَا كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَاخَذَانِ بِأَقْوَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ وَمَا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُمَا ، وَلَا رُجُوعَ لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ الْآمِرِ أَبَدًا ، وَيَرْجِعُونَ عَلَى الْعَبْدِ الْآمِرِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاعْتِبَارِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ لَا لِنُقْصَانِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ قَاصِرُ الْأَهْلِيَّةِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ عَبْدًا ) مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ عَبْدًا وَالْمَأْمُورُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِمَا ( يُخَاطَبُ مَوْلَى الْقَاتِلِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ) وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَقَلَّ مِنْ الْفِدَاءِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي دَفْعِ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ صَغِيرًا لِأَنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ ، أَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِجَرَيَانِهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَمَرَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ قُبَيْلَ فَصْلِ الْجَنِينِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي دَفْعِ الزِّيَادَةِ ) أَيْ لَا ضَرُورَةَ فِي إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّصُ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ بِإِعْطَاءِ الْأَقَلِّ مِنْ الْفِدَاءِ أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَ بِأَمْرِهِ مَا هُوَ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا .

قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلَيْنِ عَمْدًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرَيْنِ أَوْ يَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمَ ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَفَا أَحَدُ وَلِيِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَانْقَلَبَ مَالًا فَصَارَ كَمَا لَوْ وَجَبَ الْمَالُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الرَّقَبَةِ أَوْ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَقَدْ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِيَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ ( فَإِنْ كَانَ قَتَلَ أَحَدَهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرَ خَطَأً فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَإِنْ فَدَاهُ الْمَوْلَى فَدَاهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا خَمْسَةُ آلَافٍ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيِّي الْعَمْدِ وَعَشَرَةُ آلَافٍ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَلَبَ الْعَمْدُ مَالًا كَانَ حَقُّ وَلِيَّيْ الْخَطَإِ فِي كُلِّ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ ، وَحَقُّ أَحَدِ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فِي نِصْفِهَا خَمْسَةَ آلَافٍ ، وَلَا تَضَايُقَ فِي الْفِدَاءِ فَيَجِبُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا ( وَإِنْ دَفَعَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ ، وَثُلُثُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : يَدْفَعُهُ أَرْبَاعًا : ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ ، وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْعَمْدِ ) فَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، فَيُسَلِّمُ النِّصْفَ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَتَنَصَّفُ ، فَلِهَذَا يُقَسَّمُ أَرْبَاعًا .
وَعِنْدَهُ يُقَسَّمُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَثْلَاثًا ، لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ أَصْلُهُ التَّرِكَةُ الْمُسْتَغْرَقَةُ بِالدُّيُونِ فَيَضْرِبُ هَذَا بِالْكُلِّ وَذَلِكَ بِالنِّصْفِ ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ .

قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلَيْنِ عَمْدًا ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، إلَى قَوْلِهِ : وَإِنْ دَفَعَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ ، وَثُلُثُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَصْلُ هَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ إذَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ لِعَدَمِ التَّضَايُقِ فِي الذِّمَّةِ ، فَيَثْبُتُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَيُضْرَبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ .
وَأَمَّا إذَا وَجَبَتْ قِسْمَةُ الْعَيْنِ ابْتِدَاءً لَا بِسَبَبِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَهِيَ أَنَّ فُضُولِيًّا لَوْ بَاعَ عَبْدَ إنْسَانٍ كُلَّهُ وَفُضُولِيًّا آخَرُ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَرْبَاعًا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي الْعَيْنِ ابْتِدَاءً لَا يَثْبُتُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ تَضِيقُ عَنْ الْحَقَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ لِوَلِيِّ الْخَطَأِ وَرُبْعُهُ لِلسَّاكِتِ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ ، لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْعَمْدِ كَانَ فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ وَفَرَغَ النِّصْفُ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْخَطَأِ بِهَذَا النِّصْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ وَلِيِّ الْخَطَأِ وَالسَّاكِتِ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ فِي هَذَا النِّصْفِ ، فَصَارَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفُضُولِيَّيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَصْلَ حَقِّهِمَا لَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ بَلْ فِي الْأَرْشِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْمُتْلَفِ ،

وَالْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْخَطَأِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَحَقَّ شَرِيكِ الْعَافِي فِي خَمْسَةٍ فَيُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ ، كَرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَلْفَانِ لِرَجُلٍ وَأَلْفٌ لِآخَرَ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الدَّيْنِ أَثْلَاثًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةُ ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ وَثُلُثُهَا لِصَاحِبِ الْأَلْفِ كَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ ابْتِدَاءً .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ مَوْلًى لَهُمَا ) أَيْ قَرِيبًا لَهُمَا ( فَعَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْجَمِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَدْفَعُ الَّذِي عَفَا نِصْفَ نَصِيبِهِ إلَى الْآخَرِ أَوْ يَفْدِيهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ ) وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَتَلَ وَلِيًّا لَهُمَا ، وَالْمُرَادُ الْقَرِيبُ أَيْضًا ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ : عَبْدٌ قَتَلَ مَوْلَاهُ وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُ الِابْنَيْنِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ ، لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ لَهُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ وَهُوَ النِّصْفُ مَالًا ، غَيْرَ أَنَّهُ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ نِصْفُهُ فِي نَصِيبِهِ وَالنِّصْفُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَمَا يَكُونُ فِي نَصِيبِهِ سَقَطَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا ، وَمَا كَانَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بَقِيَ وَنِصْفُ النِّصْفِ هُوَ الرُّبْعُ فَلِهَذَا يُقَالُ : ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِك أَوْ افْتَدَاهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ حَقَّ الْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ بَدَلُ دَمِهِ ، وَلِهَذَا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ بِهِ وَصَايَاهُ ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِيهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا فَلَا تَخْلُفُهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ .

.
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ مَوْلًى لَهُمَا ) فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : أَيْ قَرِيبًا لَهُمَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } أَيْ الْأَقَارِبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَبْدٌ لَهُمَا أَعْتَقَاهُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّ الْآخَرِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَالَا : يُقَالُ لِلْعَافِي ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِك إلَى شَرِيكِك أَوْ افْدِهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ .
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ شَائِعًا ، لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ لَهُ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حَقِّ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى فِي دَمِهِ كَأَجْنَبِيٍّ فَيَسْتَحِقُّ دَمَهُ بِالْقِصَاصِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِالْمِلْكِ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ وَهُوَ النِّصْفُ مَالًا غَيْرَ أَنَّهُ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ نِصْفُهُ فِي نَصِيبِهِ وَنِصْفُهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَمَا يَكُونُ فِي نَصِيبِهِ سَقَطَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا ، وَمَا كَانَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بَقِيَ هُوَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبْعُ فَلِذَلِكَ يَدْفَعُ نِصْفَ نَصِيبِهِ وَهُوَ الرُّبْعُ أَوْ يَفْدِيهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ نَصِيبَ الْعَافِي قَدْ سَقَطَ وَنَصِيبَ الْآخَرِ وَهُوَ النِّصْفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ فَيَنْقَلِبُ مَالًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَنِصْفُهُ فِي نَصِيبِ الْعَافِي فَيَنْقَلِبُ نِصْفُ هَذَا النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبْعُ مَالًا ، فَلَمَّا اُحْتُمِلَ هَذَا وَاحْتُمِلَ ذَاكَ لَا يَنْقَلِبُ مَالًا

لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمَسْمُوعِ

( فَصْلٌ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً ) ( وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا تُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً ، وَفِي الْأَمَةِ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ وَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ أَصْلًا أَوْ بَدَلِهِ وَصَارَ كَقَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَالْغَصْبِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ قَوْله تَعَالَى { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } أَوْجَبَهَا مُطْلَقًا ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ ، إذْ الْغَصْبُ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى الْمَالِ ، وَبَقَاءُ الْعَقْدِ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ حَتَّى يَبْقَى بَعْدَ قَتْلِهِ عَمْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَمْرُ الدِّيَةِ ، وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا سَمْعَ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا ، بِخِلَافِ كَثِيرِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحُرِّ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَنَقَصْنَا مِنْهَا فِي الْعَبْدِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ ، وَتَعْيِينُ الْعَشَرَةِ بِأَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
قَالَ ( وَفِي يَدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَا يُزَادُ عَلَى خَمْسَةِ

آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً ) لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَتُعْتَبَرُ بِكُلِّهِ ، وَيَنْقُصُ هَذَا الْمِقْدَارُ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ ، وَكُلُّ مَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ إذْ هُوَ بَدَلُ الدَّمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ، وَإِنْ غَصَبَ أَمَةً قِيمَتُهَا عِشْرُونَ أَلْفًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ .

( فَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْفَاعِلِيَّةِ ( وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا تُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ قُضِيَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً .
وَفِي الْأَمَةِ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الدِّيَةِ قُضِيَ لَهَا بِخَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا وَهَلَكَ فِي يَدِهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ ) وَبَدَلُ الْمَالِيَّةِ بِالْقِيمَةِ فَالضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ ، أَمَّا أَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ ؛ فَلِأَنَّهُ ( يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ وَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ أَصْلًا ) إنْ بَقِيَ الْعَيْنُ ( أَوْ بَدَلًا ) إنْ هَلَكَتْ ( وَصَرّ كَقَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَالْغَصْبِ ) وَأَمَّا أَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ بِالْقِيمَةِ فَظَاهِرٌ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَرْجِيحٌ لِجَانِبِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْآدَمِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ ، وَالرِّعَايَةُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَإِنْ كَثُرَ لَا يُمَاثِلُ النَّفْسَ وَيُمَاثِلُ الْمَالَ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَوْله تَعَالَى { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الدِّيَةَ مُطْلَقًا فِيمَنْ قُتِلَ خَطَأً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ( وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا ) بِلَا

خِلَافٍ ( وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ) حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ بِلَا خِلَافٍ ( وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا ) لَا مَحَالَةَ ( فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ) إذْ الْعَكْسُ يُفْضِي إلَى إهْدَارِهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ أَصْلٌ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ بِهَا ، وَفِي إهْدَارِ الْأَصْلِ إهْدَارُ التَّابِعِ ، وَإِهْدَارُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ بَلْ بِإِيجَابِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ يُوجَدُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ مَعَ كَمَالِ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَضَمَانُ الْغَصْبِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَكَانَ كَالْغَصْبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبَقَاءُ الْعَقْدِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَصَارَ كَقَلِيلِ الْقِيمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِأَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ : لَا يَبْلُغُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقَصُ مِنْهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَكْثَرِ النُّسَخِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ أَثَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا فِي قَتْلِ الْعَبْدِ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ الْمِقْدَارِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْعَقْلُ ، وَلَيْسَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ ذَلِكَ ، بَلْ فِيهِ قِيَاسُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ تَبْلِيغِ قِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِالرَّأْيِ ، وَمِثْلُهُ لَا يُعَارَضُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يُزَادُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةٌ ) أَيْ لَا يُزَادُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ ، فَأَمَّا طَرَفُ الْمَمْلُوكِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْمَالِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالْكَفَّارَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الْقِيمَةَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، الْقَوْلُ بِهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِقَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ فَوْقَ مَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ إلَى أَنْ قَالَ : فَلِهَذَا قَالَ : لَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ بَدَلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ خَمْسَةَ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ ) يَعْنِي يَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْعَبْدِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْحُرِّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ( إذْ هُوَ ) أَيْ : الْقِيمَةُ ( بَدَلُ الدَّمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَوْله تَعَالَى { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ غَصَبَ أَمَةً ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَإِلَّا اُقْتُصَّ مِنْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَى الْقَاطِعِ أَرْشُ الْيَدِ ، وَمَا نَقَصَهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَعْتِقَهُ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْجُرْحِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ فَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى وَفِيهِ الْكَلَامُ ، وَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ لِأَنَّ الْمُلْكَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ ، لِأَنَّ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْحَقِّ ثَابِتٌ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا زَالَ الِاشْتِبَاهُ .
وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْخِلَافِيَّةِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ سِوَى الْمَوْلَى أَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّهُ الْمِلْكُ عَلَى اعْتِبَارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَالْوِرَاثَةُ بِالْوَلَاءِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُخْرَى ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا فَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ ، وَبِانْقِطَاعِهَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ ، وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ .
وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْمَوْلَى فَيَسْتَوْفِيَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَجْهُولٌ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ

السَّبَبِ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يُغَايِرُ مِلْكَ النِّكَاحِ حُكْمًا ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ لِذَاتِهِ بَلْ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَذَلِكَ فِي الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ لِحُرِّيَّتِهِ فَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَيُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فَجَاءَ الِاشْتِبَاهُ .
أَمَّا الْعَمْدُ فَمُوجِبُهُ الْقِصَاصُ وَالْعَبْدُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ إذْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ ، وَمَا نَقَصَهُ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ كَمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ ، وَعِنْدَهُمَا الْجَوَابُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَالْجَوَابِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّانِي .

قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ وَكَذَا تَحْرِيرُ الْمَذَاهِبِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ) يَعْنِي الْمُسْتَوْفَى وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ الْقِصَاصَ وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ الْكَلَامُ ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى ، وَقِيلَ أَيْ : فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى لَا عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لِإِفَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا فَاتَ الْمَقْصُودُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، وَقِيلَ : أَيْ فِي تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَقِيلَ أَيْ فِي تَحَقُّقِ اشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِتَحَقُّقِ اشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ ، وَقَوْلُهُ ( وَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مُشْتَبَهٌ لَكِنْ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ بِاجْتِمَاعِهِمَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا لَا يُزِيلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالَيْنِ مُخْتَلِفٌ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى وَقْتَ الْجَرْحِ دُونَ الْمَوْتِ وَلِلْوَرَثَةِ بِالْعَكْسِ ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الدَّوَامِ فِي الْحَالَيْنِ فَلَا يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ مُفِيدًا ( بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الرَّقَبَةِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إذَا اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ فَاتَتْ لَا إلَى بَدَلٍ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ إذَا اجْتَمَعَا فَقَدْ رَضِيَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ بِفَوَاتِ حَقِّهِ فَيَسْتَوْفِيهِ الْآخَرُ لِزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى اعْتِبَارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ ) وَهِيَ حَالَةُ

الْجَرْحِ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَالْحَالَةُ الْأُخْرَى هِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَقَوْلُهُ ( فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ ) يَعْنِي فِي الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهَذَا عَمَّنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ قَرْضٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : لَا بَلْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْمَالِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْوَالُ مِمَّا يَقَعُ الْبَدَلُ وَالْإِبَاحَةُ فِيهَا فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ بِاَلَّذِي لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالْأَمْوَالُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ فَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ، أَوْ يُفَسَّرُ بِاَلَّذِي لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَدَلُ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يُصَيِّرُ النِّهَايَةَ مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ جَرَحَ عَبْدَ إنْسَانٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَلَا الْقِيمَةُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَبِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا .
فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ مُخَالَفَةُ النِّهَايَةِ لِلْبِدَايَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَبِانْقِطَاعِهِمَا يَبْقَى الْجَرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ ، وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ كَأَنَّهُ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ جَرْحًا بِلَا سِرَايَةٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ نَظَرًا إلَى حَقِيقَةِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ لَا قَطْعٌ ( وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا ) ثُبُوتَ وِلَايَةِ

الِاسْتِيفَاءِ فِي الْعَمْدِ لِلْمَوْلَى فَيَسْتَوْفِيهِ لِأَنَّ الْمُقْضَى لَهُ ) وَهُوَ الْمَوْلَى ( مَعْلُومٌ وَالْحُكْمَ ) وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ ( مُتَّحِدٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الِاسْتِيفَاءِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي مَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى حَيْثُ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّ الْمُقْضَى لَهُ مَجْهُولٌ ) ؛ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا حَالَةَ الْجَرْحِ كَانَ الْمُقْضَى لَهُ هُوَ الْمَوْلَى ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَا حَالَةَ الْمَوْتِ كَانَ الْوَرَثَةَ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ هُنَا ) أَيْ : فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ سِوَى الْمَوْلَى فِي الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لَا يَخْتَلِفُ وَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ لِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : يَعْنِي الْمُسْتَشْهَدَ بِهَا بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ بِعْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ إلَخْ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُخْتَلِفٌ ( لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يُغَايِرُ مِلْكَ النِّكَاحِ حُكْمًا ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يُثْبِتُ الْحِلَّ مَقْصُودًا وَمِلْكُ الْيَمِينِ قَدْ لَا يُثْبِتُهُ وَلَوْ أَثْبَتَهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا ، وَاخْتَلَفَ الْحُكْمُ كَمَا اخْتَلَفَ السَّبَبُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِعْتَاقُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ ، وَمَعْنَاهُ الْإِعْتَاقُ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ فِي صُورَةِ الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ ( لِذَاتِهِ بَلْ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَذَلِكَ فِي الْخَطَإِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ ) فَيَكُونُ الْحَقُّ حَالَةَ الْجَرْحِ لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ ( وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ لِحُرِّيَّتِهِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فَجَاءَ الِاشْتِبَاهُ ، أَمَّا الْعَمْدُ فَمُوجِبُهُ الْقِصَاصُ وَالْعَبْدُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ ) فَالْحَقُّ لِلْعَبْدِ وَالْمَوْلَى يَسْتَوْفِيهِ بِطَرِيقِ

الْخِلَافَةِ عَنْهُ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ ( لَا وَارِثَ سِوَاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ ) .
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ صُوَرَ مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِ غَيْرِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ لَا تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ قَطَعَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ كَانَ يَقْطَعُ الْإِعْتَاقُ السِّرَايَةَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِجَهَالَةِ الْمُقْضَى لَهُ وَالْمُقْضَى بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَقْطَعُهَا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْإِعْتَاقُ يَقْطَعُهَا بِالِاتِّفَاقِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ أَوْ الدِّيَةُ بَلْ يَجِبُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِالْقَطْعِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ شُجَّا فَأَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى ) لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْمُعَيَّنِ وَالشَّجَّةُ تُصَادِفُ الْمُعَيَّنَ فَبَقِيَا مَمْلُوكَيْنِ فِي حَقِّ الشَّجَّةِ ( وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ تَجِبُ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَبَعْدَ الشَّجَّةِ بَقِيَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّهِمَا ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتَبَرْنَاهُ إظْهَارًا مَحْضًا ، وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ فَتَجِبُ قِيمَةُ عَبْدٍ وَدِيَةُ حُرٍّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ حَيْثُ قِيمَةُ الْمَمْلُوكِينَ ، لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِقَتْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرًّا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً ، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَاهُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَأَثْبَتْنَا لَهُ وِلَايَةَ النَّقْلِ مِنْ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ فَبَقِيَ مَمْلُوكًا فِي حَقِّهَا .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ شَجَّا ) إذَا قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ شَجَّا فَأَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى أَحَدِهِمَا : أَيْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْمُبْهَمَ بِالتَّعْيِينِ فِي أَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ أَوْقَعَ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي حَقِّ الْأَرْشِ مُعَيَّنًا وَإِنْ كَانَ ظَهَرَ وُقُوعُ الْعِتْقِ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فِي الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ قُتِلَ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ لِلْآخَرِ ( فَأَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْمُعَيَّنِ ، وَالشَّجَّةُ تُصَادِفُ الْمُعَيَّنَ فَبَقِيَا مَمْلُوكَيْنِ فِي حَقِّ الشَّجَّةِ ) فَيَكُونُ أَرْشُهُمَا لِلْمَالِكِ ( وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ تَجِبُ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ ) لَا قِيمَةُ عَبْدَيْنِ وَلَا دِيَةُ حُرَّيْنِ ( وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي أَحَدِهِمَا إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ إظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ ) فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يُشْتَرَطَ صَلَاحِيَةُ الْمَحَلِّ لِلْإِنْشَاءِ ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَبَيَّنَ الْعِتْقَ فِيهِ لَا يَصِحُّ ، وَإِظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يُجْبَرَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ إنْشَاءً مِنْ وَجْهٍ لَمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ ؛ إذْ الْمَرْءُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إنْشَاءِ الْعِتْقِ ، وَالْعَبْدُ ( بَعْدَ الشَّجَّةِ مَحَلٌّ لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّهِمَا وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لَهُ فَاعْتَبَرْنَاهُ إظْهَارًا مَحْضًا ، وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ فَتَجِبُ قِيمَةُ عَبْدٍ وَدِيَةُ حُرٍّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْقَاتِلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِمَّا أَنْ قَتَلَهُمَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى وَالدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ

الْمَوْلَى فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَتْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَجِبُ دِيَتُهُ فِي حَالٍ وَقِيمَتُهُ فِي حَالٍ ، وَيُقْسَمُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ، وَهَذَا إذَا اسْتَوَتْ الْقِيمَتَانِ .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدِيَةُ حُرٍّ ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا وَحُرًّا وَقَتْلُ الْحُرِّ يُوجِبُ الدِّيَةَ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنِصْفُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الثَّانِي بِقَتْلِ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ الْأَوَّلِ لِلْمَوْلَى وَدِيَةُ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ اثْنَيْنِ فَإِمَّا أَنْ قَتَلَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةُ عَبْدٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ إنَّمَا قَتَلَ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ ، وَالْعِتْقُ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَازِلٌ فِي الْمُنْكِرِ ، وَلَا نَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلٌ لِذَلِكَ الْمُنْكِرِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى أَوْ لِوَرَثَتِهِمَا .
وَقِيلَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ النِّصْفُ لِلْمَوْلَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالنِّصْفُ لِلْوَرَثَةِ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُوَزَّعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَ أَيُّهُمَا قُتِلَ أَوَّلًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ قِيمَتُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الثَّانِي دِيَةُ الثَّانِي لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ تَعَيَّنَ فِيهِ ، وَقَدْ ظَهَرَ لَك مِنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ قَتْلُهُمَا مَعًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى

أَنَّ فِي قَوْلِهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ ( يَأْبَى ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدَ فَائِدَةَ الْعِتْقِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي الشَّرْعِ ( وَإِنَّمَا صَحَّحْنَاهُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَأَثْبَتْنَا لَهُ وِلَايَةَ النَّقْلِ مِنْ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ ) بِطَرِيقِ الْبَيَانِ بِتَعْيِينِ الْمُبْهَمِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ( فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِي النَّفْسِ ) ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعِتْقِ ( دُونَ الْأَطْرَافِ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَلَّهَا حَلَّ تَبَعًا فَيَبْقَى الْعَبْدُ مَمْلُوكًا فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .

قَالَ ( وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَ عَبْدَهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مَا نَقَصَهُ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُضَمِّنُهُ كُلَّ الْقِيمَةِ وَيُمْسِكُ الْجُثَّةَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الضَّمَانَ مُقَابِلًا بِالْفَائِتِ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ ، كَمَا إذَا قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً وَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَرِعَايَةً لِلْمُمَاثَلَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ حُرٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَبِخِلَافِ عَيْنَيْ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ الْمِلْكِ إلَى مِلْكٍ ، وَفِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَفَقْءِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ مَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا فَاحِشًا إنْ شَاءَ الْمَالِكُ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ آخَرَ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْآدَمِيَّةِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ أَنْ تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِيهَا ثُمَّ مِنْ أَحْكَامِ الْأُولَى أَنْ لَا يَنْقَسِمَ عَلَى

الْأَجْزَاءِ ، وَلَا يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَنْقَسِمَ وَيَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ .
.

قَالَ ( وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ مَمْلُوكٍ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَصُورَتُهَا ظَاهِرَةٌ ، وَدَلِيلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ ، وَقَاسَ عَلَى مَا إذَا قَطَعَ يَدَيْ حُرٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ ، وَعَلَى مَا إذَا قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ وَفَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ : أَيْ : جَمِيعُ الْبَدَنِ وَحْدَهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ ؛ وَلِأَنَّهَا أَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا يُسْلَكُ بِمَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ ، وَإِذَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْأَطْرَافِ كَانَ قِيَامُهَا فِيهَا كَقِيَامِهَا فِي الذَّاتِ وَفَوَاتُهَا بِفَوَاتِهَا كَفَوَاتِهَا بِفَوَاتِ الذَّاتِ ، فَكَانَ إتْلَافُ الْأَطْرَافِ كَإِتْلَافِ الذَّاتِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ .
( وَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ) فَيَجِبُ الضَّمَانُ ( وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْكُلِّ ) وَأَدَاءُ قِيمَةِ الْكُلِّ يَقْتَضِي ( تَمَلُّكَ الْجُثَّةِ ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَرِعَايَةً لِلْمُمَاثَلَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ حُرٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَبِخِلَافِ عَيْنَيْ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، وَفِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَفَقْءِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ) حَتَّى يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ النَّفْسِ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ ، لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ ( وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَالَا إنْ

شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ إلَخْ وَبَيَّنَ الْمُلَازَمَةَ بِقَوْلِهِ ( كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، فَإِنَّ مَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا فَاحِشًا إنْ شَاءَ الْمَالِكُ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا إلَخْ ) وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ مِنْ أَحْكَامِ الْأُولَى ) أَيْ : الْآدَمِيَّةِ ( أَنْ لَا يَنْقَسِمَ عَلَى الْأَجْزَاءِ ) لَأَنْ لَا يَتَوَزَّعَ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ عَلَى النَّفْسِ وَالْفَائِتِ مِنْ الطَّرَفِ ، بَلْ يَكُونُ بِإِزَاءِ الْفَائِتِ لَا غَيْرُ كَمَا فِي فَقْءِ عَيْنَيْ الْحُرِّ ( وَلَا يَتَمَلَّكُ الْجُثَّةَ ) .
وَقَوْلُهُ ( وَمِنْ أَحْكَامِ الثَّانِيَةِ ) أَيْ : الْمَالِيَّةِ ( أَنْ يَنْقَسِمُ ) أَيْ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ وَالْجُثَّةِ وَتَمَلُّكِ الْجُثَّةِ كَمَا فِي تَخْرِيقِ الثَّوْبِ .
( فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ ) يَعْنِي بِالنَّظَرِ إلَى الْآدَمِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ مُتَوَزِّعًا بَلْ بِإِزَاءِ الْفَائِتِ لَا غَيْرُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَالِيَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ بَدَلِ الْعَيْنِ مَعَ إمْسَاكِهِ الْجُثَّةَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ ، وَفِيمَا قَالَا إلْغَاءٌ لِجَانِبِ الْآدَمِيَّةِ حَيْثُ جَعَلَاهُ كَالثَّوْبِ الْمَخْرُوقِ ، وَفِيمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلْغَاءٌ لِجَانِبِ الْمَالِيَّةِ أَصْلًا حَيْثُ جَعَلَهُ كَحُرٍّ فُقِئَ عَيْنَاهُ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا وَقُلْنَا : إنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَ عَبْدَهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ نَظَرًا إلَى الْمَالِيَّةِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ نَظَرًا إلَى الْآدَمِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ جِنَايَةً ضَمِنَ ) الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا ( لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ ) ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا عَنْ تَسْلِيمِهِ فِي الْجِنَايَةِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ فَصَارَ كَمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ ، وَلَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَلَا تَخْيِيرَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لِاخْتِيَارِهِ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ ، بِخِلَافِ الْقِنِّ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ صَادِقَةٌ فِي الْأَعْيَانِ فَيُفِيدُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ( وَجِنَايَاتُ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ تَوَالَتْ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةٍ ) لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ فَهَذَا كَذَلِكَ ، وَيَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِيهَا ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَتَحَقَّقُ .

( فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) لَمَّا ذَكَرْنَا بَابَ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهِ قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْعَبْدُ ، ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلَ مَنْ هُوَ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُ فِي اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ ، غَيْرَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ أَحَطُّ رُتْبَةً أَيْضًا مِنْ الْمُدَبَّرِ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِهَا لَا يَنْفُذُ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَهِيَ أُنْثَى أَيْضًا فَالْأُنُوثَةُ وَالِانْحِطَاطُ فِي اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ أَوْجَبَا تَأْخِيرَ ذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِ الْمُدَبَّرِ .
قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ جِنَايَةً ضَمِنَ الْمَوْلَى إلَخْ ) جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى سَيِّدِهِ فِي مَالِهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ حَالَّةٌ ( لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ ) وَكَانَ أَمِيرًا بِالشَّامِ ، وَقَضَايَاهُ تَظْهَرُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَ حُكْمُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ( ؛ وَلِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا مِنْ تَسْلِيمِهِ ) كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ وَلَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ ) وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ ( وَيَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِيهَا ) أَيْ فِي الْقِيمَةِ ( وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَمِنْ صُورَتِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ قَالَ : وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى أَلْفَيْنِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ أَصَابَهُ عَيْبٌ فَرَجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَعَلَى مَوْلَاهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ

؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الثَّانِي وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا تِلْكَ الْجِنَايَةُ لَكَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ ثُمَّ أَلْفًا مِنْ هَذَا الْوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوْسَطِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْأَوَّلِ إنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوْسَطِ وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ الْأُولَى بَيْنَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الْأَوْسَطِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِي هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّالِثِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ فَتُقْسَمُ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ بَيْنَ الْأَوْسَطِ وَالْأَوَّلُ يُضْرَبُ فِيهَا الْأَوَّلُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالْأَوْسَطُ بِتِسْعَةِ آلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ أَلْفٌ وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا يُضْرَبُ فِيهَا الْآخَرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ ، وَيُضْرَبُ الْأَوَّلُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا مَا أَخَذَ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ مِقْدَارُ الْمَأْخُوذِ فَلَا يُضْرَبُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ الْأَوْسَطُ لَا يُضْرَبُ بِمَا أَخَذَ فِي الْمَرَّتَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُضْرَبُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فَنَقْسِمُ الْخَمْسَمِائَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .

قَالَ ( فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَقَدْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْأُولَى بِقَضَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الدَّفْعِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ الْقِيمَةَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً فَقَدْ دَفَعَ كُلَّ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ الْقَضَاءَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْلَى جَانٍ بِدَفْعِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ طَوْعًا ، وَوَلِيُّ الْأُولَى ضَامِنٌ بِقَبْضِ حَقِّهِ ظُلْمًا فَيَتَخَيَّرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَمُتَأَخِّرَةٌ حُكْمًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا فَجُعِلَتْ كَالْمُقَارِنَةِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لِإِبْطَالِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .
( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُدَبَّرَ وَقَدْ جَنَى جِنَايَاتٍ لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ فَصَارَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ مِنْ بَعْدُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ ( وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ) لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ مَانِعٌ مِنْ الدَّفْعِ كَالتَّدْبِيرِ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ عَتَقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْخَطَإِ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِقْرَارَهُ بِهِ لَا يَنْفُذُ عَلَى السَّيِّدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

.
وَقَوْلُهُ ( فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِجِنَايَاتِهِ وَهُوَ مَجْبُورٌ عَلَى الدَّفْعِ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ دَفَعَ قِيمَتَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ) أَيْ فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِالْخِيَارِ ( إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى ) بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ ( وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ ) الْأُولَى وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ ( عَلَى الْمَوْلَى ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَانٍ فِي الدَّفْعِ ( ؛ لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً ، وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ بِالْقَضَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ عَيْنَ مَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ ، وَغَيْرُ الْقَضَاءِ فِيهِ سَوَاءً كَمَا فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّافِعِ وَالْقَابِضِ جَانٍ ، أَمَّا الدَّافِعُ وَهُوَ الْمَوْلَى ؛ فَلِأَنَّهُ دَفَعَ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ طَوْعًا ، وَأَمَّا الْقَابِضُ وَهُوَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَقْبِضُ حَقَّ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ ظُلْمًا ، وَالرُّجُوعُ عَلَى الْجَانِي جَائِزٌ فَيُخَيَّرُ فِي الرُّجُوعِ وَبَيْنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَمُتَأَخِّرَةٌ حُكْمًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا ، فَجُعِلَتْ الثَّانِيَةُ كَالْمُقَارِنَةِ لِلْأُولَى فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لِإِبْطَالِهِ ) أَيْ : إبْطَالِ الْمَوْلَى ( مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ) وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ مَنْعِ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ ، وَذَلِكَ فِي

حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ سَوَاءٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُنَاكَ لَوْ دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَانَ لِلْآخَرِ الْخِيَارُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ ( عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ) يَعْنِي لَمَّا عَلِمْنَا بِشَبَهِ التَّأْخِيرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ حَتَّى اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا وَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فِي حَقِّ تَضْمِينِ نِصْفِ الْمَدْفُوعِ ، وَقِيلَ جُعِلَتْ الثَّانِيَةُ كَالْمُقَارِنَةِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ إذَا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الثَّانِي ، وَلَمْ تُجْعَلْ كَالْمُقَارِنَةِ إذَا دَفَعَ بِقَضَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ بِالدَّفْعِ عَمَلًا بِشُبْهَةِ الْمُقَارَنَةِ وَالتَّأَخُّرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُدَبَّرَ إلَخْ ) وَاضِحٌ .

( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ وَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَطَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَصْبَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَاطِعُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْبِدَايَةِ فَصَارَ الْمَوْلَى مُتْلِفًا فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا ، كَيْفَ وَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِرْدَادٌ فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ .

( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَمَا يَرِدُ مِنْهُ ، وَذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ غَصْبَ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ وَقَبْلَهُ لَا يَقْطَعُهَا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ( بِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبُ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَيَجِبُ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَاطِعُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْبِدَايَةِ فَصَارَ الْمَوْلَى مُتْلِفًا فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا ) وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُسْتَرِدًّا ( وَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِرْدَادٌ فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ ) وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ بِأَنَّ هَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَنَا ؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَنْقَطِعُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا .
قَالَ : نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ رَهْنِ الْجَامِعِ الثَّانِي مِنْ جِنَايَاتِهِ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا ضَمَّنَ الْغَاصِبَ هُنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ أَقْطَعَ ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ وَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ فَالْغَصْبُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَانْعَقَدَ سَبَبُ الضَّمَانِ فَلَا يَبْرَأُ عَنْهُ الْغَاصِبُ إلَّا إذَا ارْتَفَعَ الْغَصْبُ وَلَمْ يَرْتَفِعْ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ ، وَيَدُ الْغَاصِبِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَيَدُ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْغَصْبِ لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً ، وَالثَّابِتُ حُكْمًا دُونَ الثَّابِتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَمْ يَرْتَفِعْ الْغَصْبُ

بِاتِّصَالِ السِّرَايَةِ إلَى فِعْلِ الْمَوْلَى فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ حُكْمًا ، فَإِنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّتَانِ بِكَمَالِهِمَا ، وَالْيَدُ الْحَقِيقِيَّةُ وَاجِبَةُ الرَّفْعِ لِكَوْنِهَا عُدْوَانًا لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا وَلَا مُرَجِّحًا .

قَالَ ( وَإِذَا غَصَبَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ) لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا غَصَبَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ ) يَعْنِي فِي حَالِ رِقِّهِ ، وَأَمَّا فِي أَقْوَالِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيمَا يُوجِبُ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَجِبُ بِهِ الْمَالُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي رِقِّهِ ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ أَعْجَزَ نَفْسَهُ عَنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَصِيرُ مُبْطِلًا حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ إذْ حَقُّهُمْ فِيهِ وَلَمْ يَمْنَعْ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً فَلَا يُزَادُ عَلَى قِيمَتِهَا ، وَيَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُوجَبِ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْبَدَلِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِهَذَا السَّبَبِ .
قَالَ ( وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ) لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَكَيْلَا يَتَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ .
وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِاعْتِبَارِ مُزَاحَمَةِ الثَّانِي فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَارِغًا يَأْخُذُهُ لِيُتِمَّ حَقَّهُ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَهُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .

قَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ التَّدْبِيرِ بِجِنَايَةٍ تَحْدُثُ مِنْ الْمُدَبَّرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِجِنَايَتِهِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( فَيَصِيرُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِهَذَا السَّبَبِ ) أَيْ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَمَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى فِي يَدِهِ فَرَدَّهُ إلَى الْمَوْلَى فَجَنَى حِنَايَةً فَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْغَاصِبِ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، كَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ ( وَيَدْفَعُهُ ) أَيْ النِّصْفَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْغَاصِبِ ( إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ ) أَيْ بِالْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ( عَلَى الْغَاصِبِ ، وَهَذَا ) أَيْ هَذَا الدَّفْعُ الثَّانِي وَالرُّجُوعُ الثَّانِي ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ ) أَيْ لَا يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ( لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ؛ وَلِئَلَّا يَتَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ ) .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوْلَى مَلَكَ مَا قَبَضَهُ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَدَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى فَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ ، وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ( وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ حَقُّهُ بِمُزَاحَمَةِ الثَّانِي ؛ فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَارِغًا

أَخَذَهُ إتْمَامًا لِحَقِّهِ ، وَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَهُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ لِلْأُولَى فَكَيْفَ يَكُونُ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لَا غَيْرُ ، وَالْأُولَى مُتَقَدِّمَةٌ حَقِيقَةً وَقَدْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِكُلِّ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ وَأَمْكَنَ تَوْفِيرُ مُوجِبِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ بِلَا مَانِعٍ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، غَيْرَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ حَصَلَ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ إذْ كَانَتْ هِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ فَقَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهُ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ) ، وَإِنْ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ فَجَنَى فِي يَدِهِ دَفَعَهُ الْمَوْلَى نِصْفَيْنِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ ( وَالْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ كَالْجَوَابِ فِي الْمُدَبَّرِ ) فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَدْفَعُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ وَفِي الْأَوَّلِ يَدْفَعُ الْقِيمَةَ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى فَغَصَبَهُ رَجُلٌ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ مَتَى دَفَعَ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لَمْ يُؤَدِّ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى عِنْدَ الْمَوْلَى كَانَ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ بَدَلًا عَمَّا دَفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَمَّا دَفَعَ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُ بِالدَّفْعِ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ وَضَعَ ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَضَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَمَا وَضَعَهَا فِي الْمُدَبَّرِ وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ ثُمَّ جَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّهُ مَنَعَ رَقَبَةً وَاحِدَةً بِالتَّدْبِيرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ( ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ كَانَتَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ( فَيَدْفَعُ نِصْفَهَا إلَى الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْقِيمَةِ ، لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِحُكْمِ الْمُزَاحِمَةِ مِنْ بُعْدٍ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِهِ وَيُسَلِّمُ لَهُ ، وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَلَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ لِسَبْقِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَقَدْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ .
ثُمَّ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَالْأُولَى ، وَقِيلَ عَلَى الِاتِّفَاقِ .
وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْأُولَى الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ عِوَضٌ عَمَّا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، فَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَانِيًا يَتَكَرَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ) كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ ) يَعْنِي قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَتَّى يُسَلِّمَ لِلْمَوْلَى مَا رَجَعَ بِهِ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلَا يَأْخُذُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ ، وَقِيلَ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَيَأْخُذُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى تَمَامَ حَقِّهِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ مِنْ الْمَوْلَى إذَا رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ قِيلَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَا قَرَّرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، لَكِنَّ قَوْلَهُ ( فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ إلَخْ ) فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَكِنْ أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْهُ حَقَّهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَبْقَ لِوَلِيِّهَا اسْتِحْقَاقٌ حَتَّى يُجْعَلَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْغَاصِبِ ثَانِيًا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَخَذَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ صَاعِقَةٍ أَوْ نَهْسَةِ حَيَّةٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةُ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا صَغِيرًا لَا يَضْمَنُ مَعَ أَنَّهُ حُرٌّ يَدًا ، فَإِذَا كَانَ الصَّغِيرُ حُرًّا رَقَبَةً وَيَدًا أَوْلَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَكِنْ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ، وَهَذَا إتْلَافٌ تَسَبُّبِيًّا لِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ إلَى مَكَانِ الصَّوَاعِقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعَ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ مَكَان ، فَإِذَا نَقَلَهُ إلَيْهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَقَدْ أَزَالَ حِفْظَ الْوَلِيِّ فَيُضَافُ إلَيْهِ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا كَالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ ، حَتَّى لَوْ نَقَلَهُ إلَى مَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ الْحُمَّى وَالْأَمْرَاضُ نَقُولُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا تَسْبِيبًا .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا ) أَيْ ذَهَبَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَيَكُونُ ذَكَرَ الْغَصْبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ خَلَا أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مَا إذَا غَصَبَ مُكَاتَبًا وَنَقَلَهُ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ وَهَلَكَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ وَالتَّعَدِّي فِي التَّسْبِيبِ فِيهِ مَوْجُودٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهِ فَكَانَ كَالْحُرِّ الْكَبِيرِ ، وَالْحَرُّ الْكَبِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، فَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا .
فَإِنْ قِيلَ مَا حُكْمُ الْحُرِّ الْكَبِيرِ إذَا نُقِلَ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ تَعَدِّيًا فَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ حُكْمَهُ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَ النَّاقِلُ قَيَّدَهُ وَلَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ عَجَزَ عَنْ حِفْظِ نَفْسِهِ بِمَا صَنَعَ فِيهِ ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ حِفْظِ نَفْسِهِ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ إذَا لَمْ يَحْفَظْ نَفْسَهُ بِمَا صَنَعَ فِيهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ حِفْظِ نَفْسِهِ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ إذَا لَمْ يَحْفَظْ نَفْسَهُ مَعَ إمْكَانِهِ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى تَقْصِيرِهِ لَا إلَى الْغَاصِبِ فَلَا يَضْمَنُ فَكَانَ حُكْمُ الْحُرِّ الصَّغِيرِ حُكْمَ الْحُرِّ الْكَبِيرِ الْمُقَيَّدِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ نَفْسِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا أُودِعَ صَبِيٌّ عَبْدًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ أُودِعَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُودِعَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِقْرَاضُ وَالْإِعَارَةُ فِي الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : صَبِيٌّ قَدْ عَقَلَ ، وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي صَبِيٍّ ابْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَفِعْلُهُ مُعْتَبَرٌ لَهُمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِمَالِكِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا وَكَمَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدٍ مَانِعَةٍ فَلَا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ إلَّا إذَا أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ ، وَلَا إقَامَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ وَالْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّهِ إذْ هُوَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي وَضَعَ

فِي يَدِهِ الْمَالَ دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالًا ضَمِنَ ) يُرِيدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيدَاعٍ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُؤَاخَذُ بِأَفْعَالِهِ ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

.
قَالَ ( وَإِذَا أَوْدَعَ صَبِيٌّ عَبْدًا فَقَتَلَهُ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَمَنْ أَوْدَعَ عِنْدَ صَبِيٍّ مَالًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ بِأَمْرِ وَلِيِّهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ قَبِلَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْمَنُ فِي الْحَالِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً ضَمِنَ فِي الْحَالِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ ) يُسَاعِدُهُ فِيهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَكَذَا ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِصَدْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ وَالتُّمُرْتَاشِيِّ فَالْحُكْمُ عَلَى خِلَافِ هَذَا حَيْثُ قَالُوا فِيهَا : هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ عَاقِلًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا فَلَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَكَمَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ ، وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ لَثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُبَاحِ فَكُلُّ مَنْ أَتْلَفَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى التَّسْلِيطِ تَحْوِيلُ يَدِهِ فِي الْمَالِ إلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ ( فِي يَدٍ مَانِعَةٍ ) أَيْ مِنْ الْإِيدَاعِ ، وَالْإِعَارَةِ : يَعْنِي أَنَّ الْمُودَعَ وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدٍ مَانِعَةٍ عَنْ الْإِيدَاعِ ، وَمَنْ فَعَلَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مَالَهُ

فِي يَدٍ تَمْنَعُ يَدَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ وَضَعَهُ فِيهَا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِقَامَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ تَضْيِيعًا مِنْ جِهَتِهِ ، وَفِي قَوْلِهِ ( ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّبِيِّ ) فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ لَا يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْقَيِّمِ عَلَى الْمُقَامِ مَقَامَ نَفْسِهِ ، وَإِلَّا لَانْسَدَّ بَابُ الْوَدِيعَةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الْإِيدَاعُ مِنْ الصَّبِيِّ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى الْإِتْلَافِ لَضَمِنَ الْأَبُ مَالَ الْوَدِيعَةِ بِتَسْلِيمِهِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ لِيَحْفَظَهَا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ تَضْيِيعٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ بِالتَّضْيِيعِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ تَسْتَلْزِمُ إمَّا وِلَايَةَ الْمُقِيمِ عَلَى مَنْ آقَامَهُ مَقَامَهُ كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْ وِلَايَةُ الْمُقَامِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْوَدَائِعِ ، وَلَوْ يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ الْأَجْنَبِيَّ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّهِ ) أَيْ لِحَقِّ الْعَبْدِ يَعْنِي لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالِكَ يَعْصِمُهُ ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِكِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ بِالتَّسْلِيطِ ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ اسْتِهْلَاكِ عَبْدِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَمْكِينُ غَيْرِهِ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ مِنْهُ يَضْمَنُ الْمُسْتَهْلِكُ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا فَيَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِهِ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِمَا بِالتَّسْلِيطِ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا أَوْدَعَ الصَّبِيُّ شَاةً فَخَنَقَهَا فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَرَبُّ الشَّاةِ مَا كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ يُوجَدُ

التَّسْلِيطُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ إتْلَافَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا وَالشَّاةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْ خَنْقَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَضْيِيعٌ فَكَانَ كَالتَّسْبِيبِ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ الْمَالُ دُونَ غَيْرِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَالِكَ بِالْإِيدَاعِ عِنْدَ الصَّبِيِّ إنَّمَا أَسْقَطَ عِصْمَةَ مَالِهِ عَنْ الصَّبِيِّ لَا عَنْ غَيْرِهِ وَمَالُهُ مَعْصُومٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا كَانَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الْقَسَامَةِ ) قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ .
يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ اسْتَحْلَفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَقْضِي لَهُمْ بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَمْدًا كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ خَطَأً .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَقْضِي بِالْقَوَدِ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمَوْتُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمَذْهَبُهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ الْيَمِينَ بَلْ يَرُدُّهَا عَلَى الْوَلِيِّ ، فَإِنْ حَلَفُوا لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبَدَاءِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَوْلِيَاءِ { فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ } وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَلِيِّ يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ وَرَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَصْلٌ لَهُ كَمَا فِي النُّكُولِ ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فِيهَا نَوْعُ شُبْهَةٍ وَالْقِصَاصُ لَا يُجَامِعُهَا وَالْمَالُ يَجِبُ مَعَهَا فَلِهَذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَفِي رِوَايَةٍ { عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَدَأَ بِالْيَهُودِ بِالْقَسَامَةِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ } وَلِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَحَاجَةُ الْوَلِيِّ إلَى الِاسْتِحْقَاقِ

وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ الْمَالَ الْمُبْتَذَلَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ النَّفْسَ الْمُحْتَرَمَةَ .
وَقَوْلُهُ يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ إشَارَةً إلَى أَنَّ خِيَارَ تَعْيِينِ الْخَمْسِينَ إلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ يَتَّهِمُهُ بِالْقَتْلِ أَوْ يَخْتَارُ صَالِحِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِمَا أَنَّ تَحَرُّزَهُمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَبْلَغُ التَّحَرُّزِ فَيَظْهَرُ الْقَاتِلُ ، وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُبَاشِرُونَ وَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ يَمِينَ الصَّالِحِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَبْلَغَ مِمَّا يُفِيدُ يَمِينُ الطَّالِحِ ، وَلَوْ اخْتَارُوا أَعْمَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ جَازَ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ .

( بَابُ الْقَسَامَةِ ) لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقَتِيلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَئُولُ إلَى الْقَسَامَةِ ذَكَرَهَا فِي آخِرِ الدِّيَاتِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ .
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْأَقْسَامِ .
وَفِي الشَّرْعِ : أَيْمَانٌ يُقْسِمُ بِهَا أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ بِهِ أَثَرٌ .
يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَلِمْت لَهُ قَاتِلًا .
وَسَبَبُهَا وُجُودُ الْقَتِيلِ فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَرُكْنُهَا إجْرَاءُ الْيَمِينِ الْمَذْكُورِ عَلَى لِسَانِهِ ، وَشَرْطُهَا بُلُوغُ الْمُقْسِمِ وَعَقْلُهُ ، وَحُرِّيَّتُهُ ، وَوُجُودُ أَثَرِ الْقَتْلِ فِي الْمَيِّتِ ، وَتَكْمِيلُ الْيَمِينِ خَمْسِينَ .
وَحُكْمُهَا الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ : إنْ حَلَفُوا وَالْحَبْسُ إلَى الْحَلِفِ إنْ أَبَوْا إنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ ، وَبِالدِّيَةِ عِنْدَ النُّكُولِ إنْ ادَّعَى الْخَطَأَ ، وَمَحَاسِنُهَا تَعْظِيمُ خَطَرِ الدِّمَاءِ ، وَصِيَانَتُهَا عَنْ الْإِهْدَارِ ، وَخَلَاصُ الْمُتَّهَمِ بِالْقَتْلِ عَنْ الْقِصَاصِ وَدَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَقَوْلُهُ ( يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ ) أَيْ : يَخْتَارُ مِنْ الْقَوْمِ مَنْ يُحَلِّفُهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ ) عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ عَنْ الْجَمِيعِ ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَلِفِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْت وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا لِجَوَازِ أَنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ فَيَجْتَرِئُ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمَذْهَبُهُ ) أَيْ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( كَمَذْهَبِنَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ الْيَمِينَ ) وَقَوْلُهُ ( ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ) يَعْنِي كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَأَمَّا فِي الْقَسَامَةِ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ قِيَامِ اللَّوَثِ فَتَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ ، وَبَقِيَّةُ

كَلَامِهِ وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ ) يُحْتَرَزُ عَنْ اللِّعَانِ حَيْثُ لَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِمَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ أَدَائِهَا .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا حَلَفُوا قُضِيَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ( بِالدِّيَةِ ) فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .

قَالَ ( وَإِذَا حَلَفُوا قَضَى عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِالدِّيَةِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْوَلِيُّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا } وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ وَفِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، وَكَذَا جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَادِعَةَ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ } مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ ، وَكَذَا الْيَمِينُ مُبَرِّئَةٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا ، بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ .
ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ ، أَوْ وَجَبَتْ بِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ ( وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ لِذَاتِهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَلِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ ، بِخِلَافِ النُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الدِّيَةِ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْبَاقِي ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ بِأَعْيَانِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَكَذَلِكَ

الْجَوَابُ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَيُقَالُ لِلْوَلِيِّ أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ فَإِنْ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا كَانَ فِي مَكَان يُنْسَبُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ ، وَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي إطْلَاقِ النُّصُوصِ بَيْنَ دَعْوَى وَدَعْوَى فَنُوجِبُهُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُمَا لَأَوْجَبْنَاهُمَا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ، ثُمَّ حُكْمُ ذَلِكَ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَامَةٍ لِانْعِدَامِ النَّصِّ وَامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ .
ثُمَّ إنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ وَالدَّعْوَى فِي الْمَالِ ثَبَتَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِصَاصِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَضَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتِمَّ خَمْسِينَ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَضَى فِي الْقَسَامَةِ وَافَى إلَيْهِ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا فَكَرَّرَ الْيَمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ حَتَّى تَمَّتْ خَمْسِينَ ثُمَّ قَضَى بِالدِّيَةِ .
وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْخَمْسِينَ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ فَيَجِبُ إتْمَامُهَا مَا أَمْكَنَ ، وَلَا يُطْلَبُ فِيهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْفَائِدَةِ لِثُبُوتِهَا بِالسُّنَّةِ ،

ثُمَّ فِيهِ اسْتِعْظَامُ أَمْرِ الدَّمِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّكْرَارِ ضَرُورَةُ الْإِكْمَالِ .
قَالَ ( وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَالْيَمِينُ قَوْلٌ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا .
قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتِيلٍ ، إذْ الْقَتِيلُ فِي الْعُرْفِ مَنْ فَاتَتْ حَيَاتُهُ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ حَيٌّ وَهَذَا مَيِّتٌ حَتْفَ أَنْفِهِ ، وَالْغَرَامَةُ تَتْبَعُ فِعْلَ الْعَبْدِ وَالْقَسَامَةُ تَتْبَعُ احْتِمَالَ الْقَتْلِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَسَمُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ قَتِيلًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ ، وَكَذَا إذَا كَانَ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا بِفِعْلٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ عَادَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ فِيهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَخَارِجِ عَادَةً بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّهِيدِ .

وَقَوْلُهُ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهِمْ } قِصَّتُهُ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجُوا فِي التِّجَارَةِ إلَى خَيْبَرَ وَتَفَرَّقُوا لِحَوَائِجِهِمْ ؛ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ خَيْبَرَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ ، فَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرُوهُ ، فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهُوَ أَخُو الْقَتِيلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْكُبْرُ الْكُبْرُ ، فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ حُوَيِّصَةُ أَوْ مُحَيِّصَةُ وَهُوَ الْأَكْبَرُ مِنْهُمَا وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، قَالَ : وَمَنْ قَتَلَهُ ؟ قَالُوا : وَمَنْ يَقْتُلُهُ سِوَى الْيَهُودِ ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا ، فَقَالُوا : لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ .
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ؟ فَقَالُوا : كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ ، فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا } عَلَى أَنَّهُ لَا دِيَةَ بَعْدُ وَإِلَّا لَمَا كَانَ ثَمَّةَ بَرَاءَةٌ .
وَوَادِعَةُ قَبِيلَةٌ مِنْ هَمْدَانَ .
وَقَوْلُهُ ( يَدُلُّ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ فِي كِتَابِ الْقُدُورِيِّ ، أَشَارَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ : وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ إلَخْ ( وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ ) يَعْنِي أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّعْوَى عَلَى الْبَعْضِ بِعَيْنِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى اخْتِلَافٍ مَضَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ حَيْثُ قَالَ : وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ

فَجَحَدَ اُسْتُحْلِفَ بِالْإِجْمَاعِ إلَخْ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ خَمْسِينَ ) وَافَى إلَيْهِ : أَيْ أَتَى إلَيْهِ ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ وَافَاهُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَنْفَ وَحُكْمُهُ حُكْمُ دُبُرِهِ وَذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْفَمَ مُطْلَقًا ، وَقَدْ قِيلَ : إذَا صَعِدَ مِنْ جَوْفِهِ إلَى فِيهِ ، وَأَمَّا إذَا نَزَلَ مِنْ رَأْسِهِ إلَى فِيهِ فَلَيْسَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْقَتْلِ ، ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .

( وَلَوْ وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ أَوْ وُجِدَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْبَدَنِ ، إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ ، بِخِلَافِ الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ تَتَكَرَّرُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ بِمُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَا تَتَوَالَيَانِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ لَا تَجِبُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ تَجِبُ ، وَالْمَعْنَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا تَنْسَحِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَرَّرُ .

وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ بِالْأَقَلِّ وَجَبَ بِالْأَكْثَرِ إذَا وُجِدَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَ بِالنِّصْفِ لَوَجَبَ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ فَتَتَكَرَّرُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ بِمُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْقَسَامَةُ إذَا وُجِدَ الرَّأْسُ ؛ لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَقِيقَةُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ بِهِ لَوَجَبَتْ بِالْبَدَنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَلَزِمَ التَّكْرَارُ .
وَقِيلَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ تَتَكَرَّرُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّثْنِيَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ ثُبُوتُ الْقَسَامَةِ مُكَرَّرًا وَثُبُوتُ الدِّيَةِ مُكَرَّرًا .
وَعِبَارَةُ التَّثْنِيَةِ تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُون أَكْثَرَ مِنْ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ عَلَى الْقِطْعَتَيْنِ يَتَكَرَّرَانِ فِي خَمْسِينَ نَفْسًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَعْنَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ) يُرِيدُ بِهِ التَّكْرَارَ الْمَذْكُورَ وَعَدَمَهُ .

( وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ أَوْ سِقْطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) لِأَنَّهُ لَا يَفُوقُ الْكَبِيرُ حَالًّا ( وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا ( وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْخَلْقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مَيِّتًا لَا حَيًّا .

وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَذَكَرِهِ وَلِسَانِهِ : إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ سَلَامَتَهَا .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ تَجِبْ فِي الْأَطْرَافِ قَبْلَ أَنْ تُعْلَمَ صِحَّتُهَا مَا يَجِبُ فِي السَّلِيمِ ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ وَلَيْسَ لَهَا تَعْظِيمٌ كَتَعْظِيمِ النُّفُوسِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالصِّحَّةِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ ، بِخِلَافِ الْجَنِينِ فَإِنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ ؛ فَإِذَا انْفَصَلَ تَامَّ الْخَلْقِ وَبِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَجَبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ تَعْظِيمًا لِلنُّفُوسِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلٌ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْقَتْلِ وَهُوَ الْأَثَرُ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَامِّ الْخَلْقِ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا ، وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ لَا يَفُوقُ حَالَ الْكَبِيرِ ؛ فَإِذَا وُجِدَ الْكَبِيرُ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا ، وَهَذَا كَمَا تَرَى مَعَ تَطْوِيلِهِ لَمْ يَرُدَّ السُّؤَالَ ، وَرُبَّمَا قَوَّاهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُهَا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا أَوْلَى .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : الظَّاهِرُ هَاهُنَا أَيْضًا اُعْتُبِرَ دَافِعًا لِمَا عَسَى يَدَّعِي الْقَاتِلُ عَدَمَ حَيَاتِهِ .
وَأَمَّا دَلِيلُ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ ، قُومُوا فَدُوهُ }

قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي دَارِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ قَائِدَهَا أَوْ رَاكِبَهَا ( فَإِنْ اجْتَمَعُوا فَعَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ فَصَارَ كَمَا إذَا وُجِدَ فِي دَارِهِمْ .

قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ إلَخْ ) إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّائِقِ دُونَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ قَائِدَهَا أَوْ رَاكِبَهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي دَارِهِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَ الرَّاكِبُ وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ فَصَارَ كَمَا إذَا وُجِدَ فِي دَارِهِمْ وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الدَّارِ ؛ فَإِنَّ الدِّيَةَ هُنَا عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا مُلَّاكًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا وَهُنَاكَ عَلَى الْمَالِكِ لَا عَلَى السُّكَّانِ .
وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مَالِكِ الدَّابَّةِ بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّابَّةِ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفْ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْقَائِدِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الرَّاكِبِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهَا مَالِكٌ مَعْرُوفٌ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَثَانِيًا وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّابَّةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلدَّابَّةِ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ لِلرَّأْيِ ، وَالتَّصَرُّفِ ، وَالتَّدْبِيرِ ، وَذَلِكَ فِي الدَّارِ لِلْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهَا بِالْإِجَارَةِ ، وَأَمَّا فِي الدَّابَّةِ فَالتَّصَرُّفُ ، وَالرَّأْيُ ، وَالتَّدْبِيرُ إلَى مَنْ بِيَدِهِ الدَّابَّةُ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا بِالْإِجَارَةِ وَبِالِانْفِلَاتِ فَتَكُونُ الْقَسَامَةُ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّابَّةُ .

قَالَ ( وَإِنْ مَرَّتْ دَابَّة بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ وَعَلَيْهَا قَتِيل فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِهِمَا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِقَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَأَمَرَ أَنْ يُذْرَعَ } .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كُتِبَ إلَيْهِ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ كَتَبَ بِأَنْ يَقِيسَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ ، فَوُجِدَ الْقَتِيلُ إلَى وَادِعَةَ أَقْرَبَ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ .
قِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَهْلَهُ الصَّوْتُ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَتُمْكِنُهُمْ النُّصْرَةُ وَقَدْ قَصَّرُوا .
.وَقَوْلُهُ ( وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ ) هُمَا قَبِيلَتَانِ مِنْ هَمْدَانَ وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ ( وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ مِنْهُمْ وَقُوَّتَهُ بِهِمْ .

قَالَ ( وَلَا تَدْخُلُ السُّكَّانُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّدْبِيرِ كَمَا تَكُونُ بِالْمِلْكِ تَكُونُ بِالسُّكْنَى أَلَا تَرَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَإِنْ كَانُوا سُكَّانًا بِخَيْبَرَ } .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ دُونَ السُّكَّانِ لِأَنَّ سُكْنَى الْمُلَّاكِ أَلْزَمُ وَقَرَارَهُمْ أَدْوَمُ فَكَانَتْ وِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ فَيَتَحَقَّقُ التَّقْصِيرُ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْخَرَاجِ .
قَالَ ( وَهِيَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُجْعَلُ جَانِبًا مُقَصِّرًا ، وَالْوِلَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَقَدْ اسْتَوَوْا فِيهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ هُوَ الْمُتَعَارَفُ ، وَلِأَنَّهُ أَصِيلٌ وَالْمُشْتَرِي دَخِيلٌ وَوِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَى الْأَصِيلِ ، وَقِيلَ : أَبُو حَنِيفَةَ بَنَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ ) يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ لِمَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِأَنْ بَاعُوا كُلُّهُمْ فَهُوَ عَلَى الْمُشْتَرِينَ ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَوْ خَلَصَتْ لَهُمْ لِزَوَالِ مَنْ يَتَقَدَّمُهُمْ أَوْ يُزَاحِمُهُمْ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَدْخُلُ السُّكَّانُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ ) يُشِيرُ إلَى اخْتِلَاطِ السُّكَّانِ بِالْمُلَّاكِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَصِيلٍ ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ بَعْدَمَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا الِاخْتِلَافَ فَقَالَ : وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) يَعْنِي آخِرًا وَكَانَ قَوْلُهُ أَوَّلًا كَقَوْلِهِمَا وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ ) الْخُطَّةُ : الْمَكَانُ الْمُخْتَطُّ لِبِنَاءِ دَارٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعِمَارَاتِ ، وَمَعْنَاهُ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْلَاكِ الْقَدِيمَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَمْلِكُونَهَا حِينَ فَتَحَ الْإِمَامُ الْبَلْدَةَ وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَإِنَّهُ يَخْتَطُّ خُطَّةً لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُمْ ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ : أَيْ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ، وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ ) يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ هُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَلَّةِ وَالدَّارِ ، فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارٍ بَيْنَ مُشْتَرٍ وَذِي خُطَّةٍ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي الْمَحَلَّةِ فَرْقٌ فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْمُشْتَرِينَ قَلَّمَا يُزَاحِمُونَ أَصْحَابَ الْخُطَّةِ فِي التَّدْبِيرِ وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ ، وَلَيْسَ فِي حَقِّ الدَّارِ كَذَلِكَ فَإِنَّ فِي

عُمَارَةِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْ الدَّارِ وَإِجَارَتِهَا وَإِعَارَتِهَا هُمَا مُتَسَاوِيَانِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَامِ بِحِفْظِ الدَّارِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ إنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ هُوَ الْمُخْتَصُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ أَصِيلٌ ) وَالْمُشْتَرِي دَخِيلٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ ) يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْ خَلَصَتْ لَهُمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ ( لِزَوَالِ مَنْ يَتَقَدَّمُهُمْ ) يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ ، وَقَوْلُهُ ( أَوْ يُزَاحِمُهُمْ ) يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ أَوْ خَلَصَتْ لَهُمْ ،

( وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ كَانُوا حُضُورًا ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا عَوَاقِلُهُمْ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحُضُورَ لَزِمَتْهُمْ نُصْرَةُ الْبُقْعَةِ كَمَا تَلْزَمُ صَاحِبَ الدَّارِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ ) يَعْنِي إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ .
وَفِي الْقَسَامَةِ رِوَايَتَانِ : فَفِي إحْدَاهُمَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ، وَفِي الْأُخْرَى عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُرَى مِنْ التَّدَافُعِ بَيْنَ قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ هَاهُنَا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ بِحَمْلِ ذَاكَ عَلَى رِوَايَةٍ وَهَذَا عَلَى أُخْرَى .
وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ : الرِّوَايَةُ الَّتِي تُوجِبُهَا عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَوْمُهُ غُيَّبًا ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُوجِبُهَا عَلَى قَوْمِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانُوا حُضُورًا ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إذَا كَانُوا حُضُورًا وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ نِصْفُهَا لِرَجُلٍ وَعُشْرُهَا لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي التَّدْبِيرِ فَكَانُوا سَوَاءً فِي الْحِفْظِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي تَصِيرُ لَهُ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ قَاتِلًا بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ ، وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ وَلِهَذَا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ دُونَ الْمُودِعِ ، وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ ، وَفِي الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ يُعْتَبَرُ قَرَارُ الْمِلْكِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَلَهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ لَا بِالْمِلْكِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَلَا يَقْتَدِرُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ ، وَفِي الْبَاتِّ الْيَدُ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَا فِيمَا فِيهِ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْبَاتِّ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ فَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ تَصَرُّفًا ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهُوَ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ فَتُعْتَبَرُ يَدُهُ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْحِفْظِ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ إلَخْ ) أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَتِيلِ يَتَعَلَّقُ بِوِلَايَةِ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَرْكِ الْحِفْظِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وِلَايَةُ الْحِفْظِ بِالْيَدِ وَالْمِلْكُ سَبَبُهَا ، وَقَالَا : وِلَايَةُ الْحِفْظِ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ ؛ فَإِذَا وُجِدَا فِي وَاحِدٍ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا الْمِلْكُ وَلِلْآخَرِ الْيَدُ كَانَ اعْتِبَارُ الْيَدِ عِنْدَهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ ثَبَتَتْ بِهَا وَعِنْدَهُمَا اعْتِبَارُ الْمِلْكِ وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى دَارًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ الْخِيَارُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ : أَيْ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَعَلَى الَّذِي تَصِيرُ لَهُ وَدَلِيلُهُمَا وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ وِلَايَةِ الْحِفْظِ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ ( كَانَتْ الدِّيَةُ ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ( عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ دُونَ الْمُودَعِ ) لِعَدَمِ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بُدٌّ ، وَكَذَا دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاضِحٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ فَصْلِ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْدَرَجَ فِي دَلِيلِهِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ( إنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ ) أَطْلَقَ الْيَدَ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَالْكَامِلُ فِي الْيَدِ مَا كَانَ أَصَالَةً وَيَدُ الْمُودَعِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ .
قِيلَ مَا الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَلْبَتَّةَ الْمِلْكُ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى ، وَالْجَوَابُ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ

فَكَانَتْ عَلَى الْمَالِكِ ، وَالْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ بِتَرْكِ الْحِفْظِ ، وَالْحِفْظُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْيَدِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَمْ تَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِلَّذِي فِي يَدِهِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى تَعْقِلَ الْعَوَاقِلُ عَنْهُ ، وَالْيَدُ وَإِنْ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ لَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ فَلَا تَكْفِي لِإِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا لَا تَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَمْ تَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ ) يَعْنِي إذَا أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ كَوْنَ الدَّارِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَقَالُوا : إنَّهَا وَدِيعَةٌ أَوْ مُسْتَعَارَةٌ أَوْ مُسْتَأْجَرَةٌ ( حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِلَّذِي فِي يَدِهِ ) وَلَا يَخْتَلِجَنَّ فِي وَهْمِكَ صُورَةُ تَنَاقُضٍ فِي عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْيَدِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَهُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِالْأَصَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْعَاقِلَةُ تُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سَفِينَةٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الرُّكَّابِ وَالْمَلَّاحِينَ ) لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ أَرْبَابَهَا حَتَّى تَجِبُ عَلَى الْأَرْبَابِ الَّذِينَ فِيهَا وَعَلَى السُّكَّانِ ، وَكَذَا عَلَى مَنْ يُمِدُّهَا وَالْمَالِكُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُ الْمَالِكِ سَوَاءٌ ، وَكَذَا الْعَجَلَةُ ، وَهَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ السَّفِينَةَ تُنْقَلُ وَتُحَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَحَلَّةِ وَالدَّارِ لِأَنَّهَا لَا تُنْقَلُ .وَقَوْلُهُ ( وَاللَّفْظُ ) أَيْ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الرُّكَّابِ وَالْمَلَّاحِينَ يَشْمَلُ أَرْبَابَهَا : أَيْ مُلَّاكَهَا وَغَيْرَ مُلَّاكِهَا ، وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الْمُلَّاكِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءً فِي الْقَسَامَةِ ( عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) أَنَّ السُّكَّانَ تَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ ( ظَاهِرٌ ) وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِهَا ) لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيهِ إلَيْهِمْ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ الشَّارِعِ الْأَعْظَمِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ لِلْعَامَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْجُسُورُ الْعَامَّةُ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ .قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا

( وَلَوْ وُجِدَ فِي السُّوقِ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ عَلَى السُّكَّانِ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْمَالِكِ ، ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي بُنِيَتْ فِيهَا فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ( وَلَوْ وُجِدَ فِي السَّجْنِ فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ السَّجْنِ ) لِأَنَّهُمْ سُكَّانٌ وَوِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ مِنْهُمْ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : إنَّ أَهْلَ السَّجْنِ مَقْهُورُونَ فَلَا يَتَنَاصَرُونَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مَا يَجِبُ لِأَجْلِ النُّصْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا كَانَ غُنْمُهُ يَعُودُ إلَيْهِمْ فَغُرْمُهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ .
قَالُوا : وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ الْمَالِكِ وَالسَّاكِنِ وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .قَوْلُهُ ( فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ عَلَى السُّكَّانِ ) أَيْ : سَوَاءٌ كَانَ السُّكَّانُ مُلَّاكًا أَوْ غَيْرَ مُلَّاكٍ .
وَقَوْلُهُ ( كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي بُنِيَتْ فِيهَا فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ الْمَحَالِّ ، أَمَّا الْأَسْوَاقُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَحَالِّ فَهِيَ مَحْفُوظَةٌ بِحِفْظِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَتَكُونُ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَكَذَا فِي السُّوقِ النَّائِي إذَا كَانَ مَنْ يَسْكُنُهَا فِي اللَّيَالِي أَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ فِيهَا دَارٌ مَمْلُوكَةٌ تَكُونُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ صِيَانَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُوجِبُ التَّقْصِيرِ

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي بَرِيَّةٍ لَيْسَ بِقُرْبِهَا عِمَارَةٌ فَهُوَ هَدَرٌ ) وَتَفْسِيرُ الْقُرْبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِمَاعِ الصَّوْتِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُوصَفُ أَحَدٌ بِالتَّقْصِيرِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ .
أَمَّا إذَا كَانَتْ فَالدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ( وَإِنْ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ كَانَ عَلَى أَقْرَبِهِمَا ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ : وَإِنْ مَرَّتْ دَابَّةٌ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ وَعَلَيْهَا قَتِيلٌ .

( وَإِنْ وُجِدَ فِي وَسَطِ الْفُرَاتِ يَمُرُّ بِهِ الْمَاءُ فَهُوَ هَدَرٌ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلْكِهِ ( وَإِنْ كَانَ مُحْتَبَسًا بِالشَّاطِئِ فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ) عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِنُصْرَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَهُوَ كَالْمَوْضُوعِ عَلَى الشَّطِّ وَالشَّطُّ فِي يَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ الْمَاءَ وَيُورِدُونَ بَهَائِمَهُمْ فِيهَا ، بِخِلَافِ النَّهْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ لِاخْتِصَاصِ أَهْلِهَا بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِمْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ .وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي وَسَطِ الْفُرَاتِ ) يُرِيدُ بِهِ الْفُرَاتَ وَكُلَّ نَهْرٍ عَظِيمٍ لِعَدَمِ خُصُوصِيَّةِ الْفُرَاتِ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْوَسَطَ لَيْسَ لِلتَّخْصِيصِ بَلْ الْمَاءُ مَا دَامَ جَارِيًا بِالْقَتِيلِ كَانَ حُكْمُ الشَّطِّ كَحُكْمِ الْوَسَطِ .
قَالُوا : هَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعُ انْبِعَاثِ الْمَاءِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا قَتِيلَ دَارِ الشِّرْكِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَوْضِعُ انْبِعَاثِ الْمَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ انْبِعَاثِ الْمَاءِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ فَسَوَاءٌ كَانَ قَتِيلَ مَكَانِ الِانْبِعَاثِ أَوْ مَكَان آخَرَ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ قَتِيلُ الْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ قِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَهْلَهُ الصَّوْتُ .

قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ لَمْ تَسْقُطْ الْقَسَامَةُ عَنْهُمْ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ .
قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْقَاتِلَ لَيْسَ مِنْهُمْ ، وَهُمْ إنَّمَا يَغْرَمُونَ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَتَلَةً تَقْدِيرًا حَيْثُ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ لَا يَقُومُونَ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ ، فَإِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ امْتَنَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمْ وَسَقَطَ لِفَقْدِ شَرْطِهِ .وَقَوْلُهُ ( لَمْ تَسْقُطْ الْقَسَامَةُ عَنْهُمْ ) يَعْنِي وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ بِأَعْيَانِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ .

قَالَ ( وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْحِفْظُ عَلَيْهِمْ ( إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أُولَئِكَ أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ شَيْءٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى تَضَمَّنَتْ بَرَاءَةَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ .
قَالَ ( وَلَا عَلَى أُولَئِكَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، أَمَّا يَسْقُطُ بِهِ الْحَقُّ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ .وَقَوْله ( فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ ) أَيْ : انْكَشَفُوا عَنْهُ وَانْفَرَجُوا ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ) أَيْ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَعْنِي بَيْنَهُمْ وَالظَّهْرُ وَالْأَظْهُرُ يَجِيئَانِ مَقْحَمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } أَيْ : صَادِرَةً عَنْ غِنًى .
فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ أَنَّ قَاتِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَأَنَّهُ مِنْ خُصَمَائِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى قَاتِلِهِ حَقِيقَةً فَيَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ ) أَيْ الِاسْتِحْقَاقُ عِنْدَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ : أَيْ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْقَسَامَةِ ، وَأَوَّلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } لَا يُقَالُ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ لِمَا عَلِمْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ .

( وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مُعَسْكَرٍ أَقَامُوهُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا ، فَإِنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ فَعَلَى مَنْ يَسْكُنُهَا الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ الْفُسْطَاطِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ ) اعْتِبَارًا لِلْيَدِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْمِلْكِ ( وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقُوا قِتَالًا وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا فَعَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ( وَإِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ مَالِكٌ فَالْعَسْكَرُ كَالسُّكَّانِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ ) الْخِبَاءُ : الْخَيْمَةُ مِنْ الصُّوفِ ، وَالْفُسْطَاطُ : الْخَيْمَةُ الْعَظِيمَةُ فَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ الْخِبَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ ) قِيلَ هَذَا إذَا نَزَلُوا قَبَائِلَ قَبَائِلَ مُتَفَرِّقِينَ ، أَمَّا إذَا نَزَلُوا مُخْتَلِطِينَ فَالدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقُوا قِتَالًا ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا : أَيْ مُقَاتِلِينَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ لَقُوا فِي مَعْنَى الْمُقَاتَلَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ : أَيْ لِلْقِتَالِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا ) يُحْوِجُ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي مَحَلَّةٍ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ كَمَا مَرَّ آنِفًا .
وَقَالُوا فِي ذَلِكَ : إنَّ الْقِتَالَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَان فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُدْرَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْ أَيِّهِمَا يُرَجَّحُ احْتِمَالُ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْكَافِرِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ وَيَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ جِهَةُ الْحَمْلِ عَلَى الصَّلَاحِ حَيْثُ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمِينَ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَوْلَى عِنْدَ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا فَعَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مُعَسْكَرٍ أَقَامُوا إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَدْخُلُ السُّكَّانُ مَعَ الْمُلَّاكِ فِي الْقَسَامَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا .

قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَحْلَفُ قَتَلَهُ فُلَانٌ اُسْتُحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَرَفْت لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ فُلَانٍ ) لِأَنَّهُ يُرِيدُ إسْقَاطَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ فَلَا يُقْبَلُ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ صَارَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ فَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ سِوَاهُ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَحْلَفُ قَتَلَهُ فُلَانٌ اُسْتُحْلِفَ بِاَللَّهِ ) يَعْنِي لَا تَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قَتَلَهُ فُلَانٌ ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى عَنْ يَمِينِهِ حَيْثُ قَالَ قَتَلَهُ فُلَانٌ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ شَرِيكَهُ فِي الْقَتْلِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ شَرِيكًا مَعَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ وَلَا عَرَفَ لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ فُلَانٍ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ) وَهَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرُوا خُصَمَاءَ وَقَدْ بَطَلَتْ الْعَرَضِيَّةُ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ .
وَلَهُ أَنَّهُمْ خُصَمَاءُ بِإِنْزَالِهِمْ قَاتِلِينَ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْخُصُومِ كَالْوَصِيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْوِصَايَةِ بَعْدَمَا قَبِلَهَا ثُمَّ شَهِدَ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَتَخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ، قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْلِهَا عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَعَ الْكُلِّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَالشَّاهِدُ يَقْطَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشُّهُودَ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا يَزْدَادُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْقَاتِلَ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إلَخْ ) إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا ، وَقَالَا : تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرُوا خُصَمَاءَ وَقَدْ بَطَلَتْ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ جُعِلُوا خُصَمَاءَ تَقْدِيرًا لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ .
وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْخُصُومِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، كَالْوَصِيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْوِصَايَةِ بَعْدَمَا قَبِلَهَا إمَّا بِبُلُوغِ الْغُلَامِ أَوْ بِعَزْلِ الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ) يَعْنِي الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِمَا أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَصَبَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ كَوْنِهِ خَصْمًا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، كَالْوَكِيلِ إذَا خَاصَمَ ثُمَّ عُزِلَ ، وَالثَّانِي إذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ عَرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا ثُمَّ بَطَلَتْ تِلْكَ الْعَرْضِيَّةُ فَشَهِدَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا خُصَمَاءَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَإِنَّهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ .
قَالَ عُمَرُ : وَأَنَا أُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، وَبِدَعْوَى الْوَلِيِّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنْ خَرَجُوا بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمْ خُصَمَاءَ وَهُمَا جَعَلَاهُ مِنْ الْأَصْلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِذَا ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِمْ زَالَتْ الْعَرْضِيَّةُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( يَتَخَرَّجُ

كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ) ، أَمَّا عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فَمَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ إذَا خَاصَمَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ثُمَّ عُزِلَ كَمَا مَرَّ وَالْوَصِيُّ فِي حُقُوقِ الْيَتِيمِ خَاصَمَ أَوْ لَمْ يُخَاصِمْ كَمَا مَرَّ .
وَأَمَّا عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي فَمَسْأَلَةُ الشَّفِيعَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَهُمَا لَا يَطْلُبَانِ الشُّفْعَةَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَا خَصْمَيْنِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَقَدْ بَطَلَتْ بِتَرْكِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ ادَّعَى ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَسْأَلَةِ وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ .

قَالَ ( وَمَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَنُقِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْقَبِيلَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ) لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي الْقَبِيلَةِ وَالْمَحَلَّةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ .
وَلَهُ أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ صَارَ قَتْلًا وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ .
( وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَعَهُ جَرِيحٌ بِهِ رَمَقٌ حَمَلَهُ إنْسَانٌ إلَى أَهْلِهِ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الَّذِي حَمَلَهُ إلَى أَهْلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ ) لِأَنَّ يَدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ فَوُجُودُهُ جَرِيحًا فِي يَدِهِ كَوُجُودِهِ فِيهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَبِيلَةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ ) يَعْنِي وَلَمْ يُعْلَمْ الْجَارِحُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُلِمَ سَقَطَ الْقَسَامَةُ ، بَلْ فِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ إنْ كَانَ عَمْدًا وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا كَانَ خَطَأً ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ الْجَارِحُ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حِينَ جُرِحَ أَوْ يَكُونَ صَحِيحًا حِينَئِذٍ بِحَيْثُ يَجِيءُ وَيَذْهَبُ .
فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْقَبِيلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ صَارَ قَتْلًا وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا افْتَرَقَ الْحُكْمُ بَيْنَ صَيْرُورَتِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَعَدَمِ صَيْرُورَتِهِ كَذَلِكَ كَمَا لَا يَفْتَرِقُ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْجَرْحِ صَاحِبَ فِرَاشٍ ثُمَّ سَرَى فَمَاتَ وَجَبَ الْقِصَاصُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ رُدَّتَا فِي قَتِيلٍ فِي مَحَلَّةٍ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ قَاتِلٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى ذَلِكَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَالْمَجْرُوحُ فِي مَحَلَّةٍ لَمْ يُعْلَمْ جَارِحُهُ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ قَتِيلٌ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَيِّتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ جُرِحَ فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ صَحِيحًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَيِّتِ مِنْ حِينِ جُرِحَ ، فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَعَهُ جَرِيحٌ إلَخْ ) حُكْمُهُ ظَاهِرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ مَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَنُقِلَ إلَى أَهْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِهِ : وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَبِيلَةِ .

( وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا شَيْءَ فِيهِ ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ حِينَ وُجِدَ الْجَرِيحُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَدَرًا .
وَلَهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حَالَ ظُهُورِ قَتْلِهِ بَقِيَتْ الدَّارُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَيُهْدَرُ دَمُهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
ثُمَّ قَالَ فِي دَلِيلِهِ : وَحَالُ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ، وَفِيهِ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالَفَةٌ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ ، وَدُفِعَ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَيِّتِ وَهُمْ عَاقِلَةُ الْوَرَثَةِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُمْكِنًا أَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ وَإِلَى الثَّانِي فِي دَلِيلِهَا ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ : أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى وَجْهِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الدِّيَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ لَهُمْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ إذَا قَتَلَ أَبَاهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَتَكُونُ مِيرَاثًا لَهُ .
ثُمَّ اعْلَمْ بِأَنَّهُ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِهِ الدِّيَةَ فِي الْحُكْمِ وَالْقَسَامَةِ ، فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَنْ يَعْلَمُ بِحَالِ الْقَتِيلِ وَلَيْسَ هَاهُنَا

مَنْ يَعْلَمُهُ فَلَا تَلْزَمُ الْقَسَامَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِبُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةٌ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ فِي دَارِهِ فَيَكُونُ ثَمَّةَ مَنْ يَعْلَمُ بِحَالِهِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا فِي الدَّلِيلِ عَنْ ذِكْرِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الدِّيَةِ ، وَمَا أَلْطَفَهُ مُخْبِرًا بَلَّ اللَّهُ ثَرَاهُ .
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ وُرُودَ مَسْأَلَةِ الْمُكَاتَبِ إذَا وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارِهِ كَالنَّقْضِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ حَالَ ظُهُورِهِ إلَخْ : يَعْنِي إنَّمَا صَارَ دَمُ الْمُكَاتَبِ هَدَرًا ؛ لِأَنَّ حَالَ ظُهُورِ قَتْلِهِ بَقِيَتْ الدَّارُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ بَلْ يُقْضَى بِهِ مَا عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ الدَّارُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ نَفْسِهِ جُعِلَ قَتِيلَ نَفْسِهِ ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا ، بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ حَالَ ظُهُورِ قَتْلِهِ لَمْ تَكُنْ الدَّارُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْمَيِّتِ لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ فَكَانَ كَقَتِيلٍ وُجِدَ فِي دَارِ غَيْرِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ قَاتِلٌ فَتَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ .

( وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَيْتٍ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ فَوُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوَهُّمُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَضْمَنُهُ بِالشَّكِّ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوَهُّمُ سَاقِطًا كَمَا إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَيْتٍ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ ) يَعْنِي أَنَّ تَوَهُّمَ قَتْلِ نَفْسِهِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَلَمْ يُعْتَبَرْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .

( وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهَا فِي النَّسَبِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا ) لِأَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَأَشْبَهَتْ الصَّبِيَّ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَسَامَةَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَتُهْمَةُ الْقَتْلِ مِنْ الْمَرْأَةِ مُتَحَقِّقَةٌ .
قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ : إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّا أَنْزَلْنَاهَا قَاتِلَةً وَالْقَاتِلُ يُشَارِكُ الْعَاقِلَةُ .وَقَوْلُهُ ( قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ ) أَيْ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اللَّهُ ( إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي الْمَعَاقِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ قَاتِلَةً تَقْدِيرًا حَيْثُ دَخَلَتْ فِي الْقَسَامَةِ ، فَكَمَا دَخَلَتْ فِيهَا دَخَلَتْ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِيهِ فِي الْقَسَامَةِ بَلْ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا .

( وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ لَيْسَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِهَا ، قَالَ : هُوَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ) لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ وَالتَّدْبِيرَ فِي الْأَرْضِ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا إلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْمَعَاقِلِ ) الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ ، وَهِيَ الدِّيَةُ ، وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلًا لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُسْفَكَ : أَيْ تُمْسِكُ .
قَالَ ( وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَكُلُّ دِيَةٍ تَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ ) يَعْنِي يُؤَدُّونَ الْعَقْلَ وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الدِّيَاتِ .
وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْأَوْلِيَاءِ { قُومُوا فَدُوهُ } وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ لَا وَجْهَ إلَى الْإِهْدَارِ وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ ، وَكَذَا الَّذِي تَوَلَّى شِبْهَ الْعَمْدِ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ فَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ، وَفِي إيجَابِ مَالِ عَظِيمٍ إجْحَافُهُ وَاسْتِئْصَالُهُ فَيَصِيرُ عُقُوبَةً فَضَمَّ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ .
وَإِنَّمَا خُصُّوا بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَرَ لِقُوَّةٍ فِيهِ وَتِلْكَ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتِهِ فَخُصُّوا بِهِ .
قَالَ ( وَالْعَاقِلَةُ أَهْلُ الدِّيوَانِ إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ يُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) وَأَهْلُ الدِّيوَانِ أَهْلُ الرَّايَاتِ وَهُمْ الْجَيْشُ الَّذِينَ كُتِبَتْ أَسَامِيهمْ فِي الدِّيوَانِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْعَشِيرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ وَلِأَنَّهُ صِلَةٌ وَالْأَوْلَى بِهَا الْأَقَارِبُ .
وَلَنَا قَضِيَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنًى لِأَنَّ الْعَقْلَ كَانَ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ بِأَنْوَاعٍ : بِالْقَرَابَةِ وَالْحِلْفِ

وَالْوَلَاءِ وَالْعَدِّ .
وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ صَارَتْ بِالدِّيوَانِ فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِهِ اتِّبَاعًا لِلْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ تَنَاصُرُهُمْ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَالدِّيَةُ صِلَةٌ كَمَا قَالَ ، لَكِنَّ إيجَابَهَا فِيمَا هُوَ صِلَةٌ وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْلَى مِنْهُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ ، وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً ( فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَتْ الْعَطَايَا لِلسِّنِينَ الْمُسْتَقْبِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهَا فِي سَنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْلِ ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ .

كِتَابُ الْمَعَاقِلِ لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا بُدٌّ ، فَذَكَرَهَا وَأَحْكَامَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَقَالَ ( الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْقَافِ وَبَيَّنَ مَعْنَاهَا ، وَقَوْلُهُ ( وَكُلُّ دِيَةٍ ) مُبْتَدَأٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى الْعَاقِلَةِ ) خَبَرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ ) يَعْنِي ابْتِدَاءً ، فَإِنَّ مَا يَجِبُ مِنْهَا بِسَبَبِ الصُّلْحِ أَوْ الْأُبُوَّةِ فَهِيَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي الدِّيَةَ بِتَأْوِيلِ الْعَقْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الَّذِي تَوَلَّى شِبْهَ الْعَمْدِ ) وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ حَتَّى قَتَلَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي إيجَابِ مَالٍ عَظِيمٍ إجْحَافُهُ ) فَسَّرَ الْإِجْحَافَ بِقَوْلِهِ وَاسْتِئْصَالُهُ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّمَا قَصَرَ ) يَعْنِي : أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا قَصَرَ حَالَةَ الرَّمْيِ فِي التَّثَبُّتِ وَالتَّوَقُّفِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتِلْكَ ) أَيْ الْقُوَّةُ ، وَقَوْلُهُ ( كَتَبَ أَسَامِيهمْ فِي الدِّيوَانِ ) الدِّيوَانُ : الْجَرِيدَةُ ، مِنْ دَوَّنَ الْكُتُبَ إذَا جَمَعَهَا ؛ لِأَنَّهَا قِطَعٌ مِنْ الْقَرَاطِيسِ مَجْمُوعَةٌ .
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ : أَيْ رَتَّبَ الْجَرَائِدَ لِلْوُلَاةِ وَالْقَضَاءِ ، وَيُقَالُ فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ : أَيْ مِمَّنْ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي الْجَرِيدَةِ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ عَطَايَاهُمْ ) الْعَطَاءُ اسْمُ مَا يُعْطَى وَالْجَمْعُ أَعْطِيَةٌ ، وَالْعَطَايَا جَمْعُ عَطِيَّةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى الْعَطَاءِ ، وَقَوْلُهُ ( وَذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنًى ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( بِالْحَلِفِ ) الْحَلِفُ بِكَسْرِ الْحَاءِ : الْعَهْدُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَحَالَفُوا عَلَى التَّنَاصُرِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ وَقَوْلُهُ ( وَالْوَلَاءِ ) أَيْ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْعَدِّ ) هُوَ مِنْ

الْعَدِيدِ وَهُوَ أَنْ يُعَدَّ فِيهِمْ يُقَالُ فُلَانٌ عَدِيدُ بَنِي فُلَانٍ إذَا عُدَّ فِيهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ) أَيْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ مِثْلَ أَنْ تَخْرُجَ عَطَايَاهُمْ الثَّلَاثَ فِي سِتِّ سِنِينَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ سُدُسُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَطَايَاهُمْ الثَّلَاثُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أُخِذَ مِنْهُمْ الدِّيَةُ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ) يَعْنِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مِنْ الْأَعْطِيَةِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَخْذِ مِنْ عَطَايَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ فِي أَقَلَّ مِنْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَتَأْوِيلُهُ ) أَيْ تَأْوِيلُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ ذِكْرَ السِّنِينَ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ جَمِيعَ الدِّيَةِ ) وَاضِحٌ .

وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فَهُوَ حَالٌّ ، لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِلتَّخْفِيفِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ) أَيْ الْقِيَاسُ يَأْبَى إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ : يَعْنِي لَا يَقْتَضِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ وَهِيَ لَا تَتَنَاقَضُ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ : أَيْ بِإِيجَابِ الْمَالِ مُؤَجَّلًا فِي الْخَطَإِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَطَإِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
قُلْنَا : هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَالًا وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً ، وَالْمُسَاوَاةُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُلْتَزَمَةٍ ، وَكَوْنُ التَّأْجِيلِ لِلتَّخْفِيفِ حِكْمَةً لَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا .

.
وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذْ هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُدَّةُ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ .
قَالَ ( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ .
قَالَ ( وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيَنْقُصُ مِنْهَا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَتَّسِعُ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ ) مَعْنَاهُ : نَسَبًا كُلُّ ذَلِكَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ وَيُضَمُّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ : الْإِخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ .
وَأَمَّا الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ فَقِيلَ يَدْخُلُونَ لِقُرْبِهِمْ ، وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَا يَكْثُرُونَ ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الرَّايَاتِ إذَا لَمْ يَتَّسِعْ لِذَلِكَ أَهْلُ رَايَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الرَّايَاتِ : يَعْنِي أَقْرَبَهُمْ نُصْرَةً إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، وَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ

بِهِ ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ فَيُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ صِلَةٌ فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ وَأَدْنَاهَا ذَلِكَ إذْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ دِينَارٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هِيَ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ فَيُنْتَقَصُ مِنْهَا تَحْقِيقًا لِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ .

وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ الْوَاجِب الْأَصْلِيَّ الْمِثْلُ ) ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ ، وَمِثْلُ النَّفْسِ النَّفْسُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي وَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ تَحَوَّلَ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ ( فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِهِ ) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ ( كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ) فَإِنَّ قِيمَتَهُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ رَدُّ عَيْنَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ مُتَعَذِّرًا ، لَكِنْ جُعِلَ الْوَاجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ وَتَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ لَمَّا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَضْمَنْ الْمَغْرُورُ شَيْئًا وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيُنْقَصُ مِنْهَا ( إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ ) فَإِذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ كَانَ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ تِسْعَةٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِمَّا فُهِمَ مِنْ إشَارَةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَالَ ذَلِكَ غَلَطٌ .
وَقَوْلُهُ ( ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ مَعْنَاهُ نَسَبًا ) قَالُوا هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ حُفِظَتْ أَنْسَابُهُمْ فَأَمْكَنَنَا إيجَابُ الْعَقْلِ عَلَى أَقْرَبِ

الْقَبَائِلِ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ أَمَّا فِي حَقِّ الْعَجَمِيِّ فَلَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْعَجَمَ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ فَلَا يُمْكِنُنَا إيجَابُ الْعَقْلِ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْ الْقَاتِلِ نَسَبًا ، فَبَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُعْتَبَرُ الْمَحَالُّ وَالْقُرَى الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ الْبَاقِي فِي مَالِ الْجَانِي .
وَقَوْلُهُ ( فَيُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ ) يَعْنِي الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ وَغَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ صِلَةٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ

( وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ ) لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، فَكَمَا يَخْرُجُ رِزْقٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الثُّلُثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَخَرَجَ بَعْدَ الْقَضَاءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ سُدُسُ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفِي فِي كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ الثُّلُثِ ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أُخِذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ ، إمَّا لِأَنَّ الْأَعْطِيَةَ أَكْثَرُ ، أَوْ لِأَنَّ الرِّزْقَ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَيَتَعَسَّرُ الْأَدَاءُ مِنْهُ وَالْأَعْطِيَاتُ لِيَكُونُوا فِي الدِّيوَانِ قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ فَيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ .
قَالَ ( وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فِي النَّفْيِ عَنْهُ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَعْذُورًا .
قُلْنَا : إيجَابُ الْكُلِّ إجْحَافٌ بِهِ وَلَا كَذَلِكَ إيجَابُ الْجُزْءِ ، وَلَوْ كَانَ الْخَاطِئُ مَعْذُورًا فَالْبَرِيءُ مِنْهُ أَوْلَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .

.
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ ) قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَالرِّزْقِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ وَالرِّزْقُ مَا يُجْعَلُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ ) يَعْنِي : إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا كَمَا لَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ لِتَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ ، وَالنَّاسُ لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَلِهَذَا لَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيهِمَا ، وَالْفَرْضُ لَهُمَا مِنْ الْعَطَاءِ لِلْمَعُونَةِ لَا لِلنُّصْرَةِ كَفَرْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ .

قَالَ ( وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ الدِّيَةِ ) قِيلَ إنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلَ الْمَعَاقِلِ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ حَيْثُ أَدْخَلَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ هُنَاكَ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قَاتِلَةً حَقِيقَةً وَهُنَاكَ تَقْدِيرُ قَاتِلَةٍ بِسَبَبٍ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ ، لَا يُقَالُ : إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَهِيَ قَاتِلَةٌ حَقِيقَةً فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا وَهِيَ قَاتِلَةٌ تَقْدِيرًا أَوْلَى ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْقَسَامَةُ تَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقْسِمِ ، إمَّا بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ فَيَتَحَقَّقُ اللَّازِمُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الدِّيَةَ .
فَإِنْ قُلْت : هَذَا الْجَوَابُ يَنْبَنِي عَلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا : وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَلَا امْرَأَةٍ وَعَبْدٍ .
وَقَالَ هَاهُنَا : وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا تَكَرُّرُ الْأَيْمَانِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ أَلْبَتَّةَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ تُكْمِلْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ ، وَمَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْقَتِيلُ وُجِدَ فِي قَرْيَتِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْقَتْلِ فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ مِنْهَا ، وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَسَامَةَ

إذَا وَجَبَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ تَعَلَّلَ بِالنُّصْرَةِ ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا يَدْخُلُ وَمَنْ لَا فَلَا ، فَلَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى وَاحِدٍ تَعَلَّلَ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ .
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ ( وَالْفَرْضُ لَهُمَا مِنْ الْعَطَاءِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ فَرَضَ الْإِمَامُ لِنِسَاءِ الْغُزَاةِ وَذَرَارِيِّهِمْ مِنْ الْعَطَاءِ ، وَالْعَطَاءُ إنَّمَا يُدْفَعُ بِنُصْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَقِّ الْغُزَاةِ ، ثُمَّ الْغُزَاةُ عَوَاقِلُ لِغَيْرِهِمْ فَكَذَا النِّسَاءُ .
وَوَجْهُهُ مَا قَالَهُ أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِنَّ بِاعْتِبَارِ الْمَعُونَةِ أَيْ : مَعُونَةِ الْإِمَامِ لَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ نُصْرَتِهِمَا غَيْرَهُمَا .

( وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ مِصْرٍ آخَرَ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِالدِّيوَانِ عِنْدَ وُجُودِهِ ، وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى فَأَهْلُ مِصْرِهِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ ( وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ ) لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ ، فَإِنَّهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَيَعْقِلُهُمْ أَهْلُ الْمِصْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ فِي النُّصْرَةِ ( وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهُ بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ) لِأَنَّهُ يَسْتَنْصِرُ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالدِّيوَانِ أَظْهَرُ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهُ حُكْمُ النُّصْرَةِ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَقُرْبِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ وَبَعْدَ الدِّيوَانِ النُّصْرَةُ بِالنَّسَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنْ صُوَرِ مَسَائِلِ الْمَعَاقِلِ ( وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ ) وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ قَرَابَةٌ ، قِيلَ هُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَيَقُومُونَ بِنُصْرَتِهِمْ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ أَهْلَ الْعَطَاءِ .
وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ ، وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ وَأَهْلُ الْمِصْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ مَكَانًا فَكَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى النُّصْرَةِ لَهُمْ وَصَارَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ ( وَلَوْ كَانَ الْبَدْوِيُّ نَازِلًا فِي الْمِصْرِ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ لَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ الْمِصْرِ ) لِأَنَّ أَهْلَ الْعَطَاءِ لَا

يَنْصُرُونَ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ لَا تَعْقِلُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ النَّازِلِ فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ ( وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ ) لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ عَنْ الْإِصْرَارِ ، وَمَعْنَى التَّنَاصُرِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ ) كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ لَوْ وُجِدَتْ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَاجِرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ لَيْسَ بِنُصْرَتِهِمْ .

وَقَوْلُهُ ( وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ ) يَعْنِي : نَسَبًا .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ هُوَ صَحِيحٌ ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ قَرَابَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ : أَيْ : أَهْلُ الدِّيوَانِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ ) يَعْنِي أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ إذَا كَانَ الْأَقْرَبُ غَائِبًا .
وَقَوْلُهُ ( لَا سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ ) كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقِصَاصِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) أَيْ : لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْعَقْلِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِينَ لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَنَا ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ دِيَتَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ عَاقِلَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَسَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَمَكُّنُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ لَيْسَ بِنُصْرَتِهِمْ ) أَيْ لَيْسَ بِسَبَبِ نُصْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إيَّاهُ .

( وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ ) لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ .
قَالُوا : هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُعَادَاةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً ، أَمَّا إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَاقَلُونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِانْقِطَاعِ التَّنَاصُرِ .وَقَوْلُهُ ( لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ ) ؛ لِأَنَّ التَّعَاقُلَ يَبْتَنِي عَلَى الْمُوَالَاةِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَقَوْلُهُ ( وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ) ظَاهِرًا لَا أَلْفَاظًا نَذْكُرُهَا .

وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الْجِنَايَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا حُوِّلَ بَعْدَ الْقَضَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ وَبِالْقَضَاءِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ ، وَكَذَا الْوُجُوبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَتَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ ، لَكِنَّ حِصَّةَ الْقَاتِلِ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَاءِ وَعَطَاؤُهُ بِالْبَصْرَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ ، لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ وَلَيْسَ لَهُ عَطَاءٌ فَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ ، وَكَذَا الْبَدْوِيُّ إذَا أُلْحِقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ حَيْثُ تَصِيرُ

الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَقْضُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَضَى بِهَا فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْطِيَاتُهُمْ أَمْوَالُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ أَدَاءً ، وَالْأَدَاءُ مِنْ الْعَطَاءِ أَيْسَرُ إذَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُ الْعَطَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ دَرَاهِمَ فَحِينَئِذٍ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الدَّرَاهِمِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ ، لَكِنْ يُقْضَى ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ .وَقَوْلُهُ ( وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ) الْوَاوُ لِلْحَالِ .
وَقَوْلُهُ ( لَكِنَّ حِصَّةَ الْقَاتِلِ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ لَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِدِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ .
وَقَوْلُهُ ( لَكِنْ يُقْضَى ذَلِكَ ) أَيْ الْإِبِلُ مِنْ مَالِ الْعَطَاءِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْإِبِلَ مِنْ مَالِ الْعَطَاءِ .

قَالَ ( وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ ) لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِمْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .
قَالَ ( وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَعْقِلُ عَنْهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَتُهُ ) لِأَنَّهُ وَلَاءٌ يُتَنَاصَرُ بِهِ فَأَشْبَهَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ .قَالَ ( وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ نِصْفَ الْعُشْرِ فَصَاعِدًا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ ، وَلِأَنَّ التَّحَمُّلَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ وَلَا إجْحَافَ فِي الْقَلِيلِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَثِيرِ ، وَالتَّقْدِيرُ الْفَاصِلُ عُرِفَ بِالسَّمْعِ .
قَالَ ( وَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي ) وَالْقِيَاسُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَجِبُ الْكُلُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، أَوْ التَّسْوِيَةُ فِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ شَيْءٌ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَا ، وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ أَرْشَ الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ } وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ الرَّجُلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدِّيَاتِ ، فَمَا دُونَهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِالتَّحْكِيمِ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ بِالتَّقْوِيمِ فَلِهَذَا كَانَ فِي مَالِ الْجَانِي أَخْذًا بِالْقِيَاسِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ فَصَارَ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ .
قِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَأَمَّا بَدَلُ النَّفْسِ فَتَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبِيلَةَ إذَا كَانَتْ مِائَةً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ بَدَلِ النَّفْسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالتَّحَمُّلُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ثَابِتٌ بِعِلَّةِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَبَرُ لِلتَّحَمُّلِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِقْدَارٌ لَمْ يُوجَدْ فِي التَّحَمُّلِ لَا النَّصِّ وَلَا عِلَّتُهُ فَيَجِبُ فِي مَالِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا عَبْدًا ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا } فَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدُ حُرًّا فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ شَيْءٌ مِنْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ ، إنَّمَا جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ يَفْدِيَهُ .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ يَقْتُلُهُ حُرٌّ أَوْ يَجْرَحُهُ يَقُولُ : فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي شَيْءٌ إنَّمَا ثَمَنُهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَذَاكَرْت الْأَصْمَعِيَّ فِي ذَلِكَ فَإِذَا هُوَ يَرَى الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لِجَرْيِهِ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَلَا يَرَى قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزًا ، يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَ لَكَانَ الْكَلَامُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَنْ عَبْدٍ وَلَمْ يَكُنْ وَلَا تَعْقِلُ عَبْدًا ، وَمَعْنَى قَوْلِ

الْأَصْمَعِيِّ إنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَقَلْت الْقَتِيلَ إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ ، وَعَقَلْت عَنْ فُلَانٍ إذَا لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فَأَعْطَيْتُهَا عَنْهُ .
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : كَلَّمْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَقَلْته وَعَقَلْت عَنْهُ حَتَّى فَهِمْته .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَقَلْته يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى عَقَلْت عَنْهُ ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا } وَسِيَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا } يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ صُلْحٍ وَعَنْ اعْتِرَافٍ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا

قَالَ ( وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَلَا مَا لَزِمَ بِالصُّلْحِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَاصُرَ بِالْعَبْدِ وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمْ وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَلَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .( وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ ) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ .
وَأَمَّا إذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ ) إلَّا أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَفِي الصُّلْحِ عَنْ الْعَمْدِ يَجِبُ الْمَالُ حَالًّا إلَّا إذَا شَرَطَ الْأَجَلَ فِي الصُّلْحِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا .

( وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَإٍ وَلَمْ يَرْفَعُوا إلَى الْقَاضِي إلَّا بَعْدَ سِنِينَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى ) لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى ( وَلَوْ تَصَادَقَ الْقَاتِلُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَّبَهُمَا الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِمْ ( وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّ الدِّيَةَ بِتَصَادُقِهِمَا تَقَرَّرَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالْقَضَاءِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ) لِأَنَّهُ فِي حَقِّ حِصَّتِهِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ مُقِرٌّ عَلَيْهِمْ .

وَقَوْلُهُ ( فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى ) يُرِيدُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مُعَايَنَةٌ .
وَفِي الْقَتْلِ مُعَايَنَةً الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا ) ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَصَادِقَيْنِ وَلِيُّ الْقَتِيلِ ، وَمِنْ زَعْمِهِ أَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لَا عَلَى الْمُقِرِّ فَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مُوجِبُ الْإِقْرَارِ فِي مَالِ الْمُقِرِّ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ هُنَاكَ فِي مَالِ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ تَصَادُقُهُمَا بِقَضَاءِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَجِبُ فِي مَالِ الْمُقِرِّ ضَرُورَةً .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَحَوَّلَ بِزَعْمِهِ إلَى عَاقِلَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِذَا تَوَى عَلَى الْعَاقِلَةِ بِجُحُودِهِمْ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا كَانَ أَصْلُهُ دَيْنًا لِدَفْعِ التَّوَى عَنْ مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ صِلَةٌ شُرِعَتْ صِيَانَةً لِدَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ ، فَبَعْدَمَا تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ .

قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ قِيمَتُهُ ) لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا .
وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَخَصُّ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ يَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُتْلِفٌ وَالْإِتْلَافُ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُهَا تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ .وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ ، وَقَوْلُهُ ( قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ ، وَالنُّصْرَةُ بِالْوِلَايَةِ وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

( وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَعْقِلُهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ ) لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْهَا دُونَ الْأَبِ ( فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْذَابِ ظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَزَلْ كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْأَبِ حَيْثُ بَطَلَ اللِّعَانُ بِالْإِكْذَابِ ، وَمَتَى ظَهَرَ مِنْ الْأَصْلِ فَقَوْمُ الْأُمِّ تَحَمَّلُوا مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى قَوْمِ الْأَبِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَمْ يُؤَدِّ كِتَابَتَهُ حَتَّى جَنَى ابْنُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ مِنْ وَقْتِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْمَ الْأُمِّ عَقَلُوا عَنْهُمْ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَفِي مَالِ الْآمِرِ إنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الدِّيَاتِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَاهُنَا عِدَّةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ مُتَفَرِّقَةً ، وَالْأَصْلُ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : حَالُ الْقَاتِلِ إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا فَانْتَقَلَ وَلَاؤُهُ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبِ أَمْرٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأَوَّلِ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ دَعْوَةِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ حُوِّلَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ الْجَانِي وَلَكِنَّ

الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ لِوَقْتِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ فَمَنْ أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ مُتَأَمِّلًا يُمْكِنُهُ التَّخْرِيجُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَائِرِ وَالْأَضْدَادِ .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ أَدَّيْت الْكِتَابَةَ ) أَيْ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ قَوْمُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصْلُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ حَالُ الْقَاتِلِ إذْ تَبَدَّلَ حُكْمًا فَانْتَقَلَ وَلَاؤُهُ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَةً عَنْ الْأُولَى قَضَى بِهَا الْقَاضِي أَوْ لَمْ يَقْضِ ) كَالْمَوْلُودِينَ عَبْدٍ وَحُرَّةٍ إذَا جَنَى ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ لَا تَتَحَوَّلُ الْجِنَايَةُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا تَبَدَّلَ حَالُهُ بِأَنْ انْتَقَلَ وَلَاؤُهُ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَكَالْغُلَامِ إذَا حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ أَبُوهُ ثُمَّ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ بَعْدَمَا أُعْتِقَ أَبُوهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ وَلَا يَجْعَلُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ الْحَفْرِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْمِلْكِ الْحَفْرُ لَوْ وُجِدَ فِي مِلْكٍ ثُمَّ حَدَثَ فِيهِ مِلْكٌ آخَرُ لِلْغَيْرِ قَبْلَ الْوُقُوعِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الْمِلْكِ الْحَادِثِ بَلْ تَبْقَى فِي الْمِلْكِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْحَفْرُ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ بَاعَهُ ثُمَّ وَقَعَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي إنْسَانٌ فَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ لَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي حَادِثٌ بَعْدَ الْحَفْرِ فَكَذَا الْوَلَاءُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْحَفْرِ يُعْتَبَرُ بِهِ فَلَا تَتَحَوَّلُ الْجِنَايَةُ وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ خَفِيفَةٌ مِثْلُ دَعْوَةِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ حُوِّلَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ ، وَقَدْ ذَكَرَ صُورَتَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَكَمَا إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَلَدٍ حُرٍّ وَوَفَاءٍ فَلَمْ يُؤَدُّوا مُكَاتَبَتَهُ حَتَّى جَنَى ابْنُهُ وَهُوَ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ مَوْلَاةٌ لِبَنِي تَمِيمٍ وَالْمُكَاتَبُ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَعَقَلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ

فَإِنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ يَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ حِينَ جَنَى وَأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوَالِي أَبِيهِ فَلِذَلِكَ يَرْجِعُونَ عَلَى مَوَالِي الْأَبِ وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ الْجَانِي وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ لِوَقْتِ الْقَضَاءِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي صُورَةِ تَحْوِيلِ الدِّيوَانِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ كَمَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَ أَخْذِ الْبَعْضِ مِنْهُمْ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ نَسَبًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَقَوْلُهُ ( إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ اشْتَرَكُوا : يَعْنِي لَا يَشْتَرِكُونَ فِيهِ بَلْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ الَّذِينَ أَدَّوْا قَبْلَ ضَمِّ أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ .

( كِتَابُ الْوَصَايَا ) .
بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ( كِتَابُ الْوَصَايَا ) بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ ) إيرَادُ كِتَابِ الْوَصَايَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ ، وَالْوَصِيَّةُ مُعَامَلَةٌ وَقْتَ الْمَوْتِ وَلَهُ زِيَادَةُ اخْتِصَاصٍ بِكِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ لِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تُفْضِي إلَى الْمَوْتِ الَّذِي وَقْتُهُ وَقْتُ الْوَصِيَّةِ ، وَالْوَصِيَّةُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، ثُمَّ سُمِّيَ الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّةً ، وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، وَسَبَبُهَا سَبَبُ التَّبَرُّعَاتِ وَشَرَائِطُهَا كَوْنُ الْمُوصِي أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَدْيُونًا ، وَكَوْنُ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُولَدْ ، وَأَجْنَبِيًّا عَنْ الْمِيرَاثِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَاتِلًا ، وَكَوْنُ الْمُوصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي شَيْئًا قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا ، وَأَنْ يَكُونَ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ .
وَرُكْنُهَا أَنْ يَقُولَ : أَوْصَيْتُ بِكَذَا لِفُلَانٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا .
وَأَمَّا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فَفِي حَقِّ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا جَدِيدًا كَمَا فِي الْهِبَةِ وَفِي حَقِّ الْمُوصِي إقَامَةُ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا أَوْصَى بِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ كَالْوَارِثِ .
وَصِفَتُهَا مَا ذَكَرَهُ

قَالَ ( الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قِيلَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ وَخَافَ الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي بَعْضِ مَا فَرَّطَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمَآلِيُّ ، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبُرْءُ يَصْرِفُهُ إلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ ، وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ فَشَرَعْنَاهُ ، وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ بَيَّنَّاهُ ، وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } أَوْ قَالَ { حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ } وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
ثُمَّ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا رَوَيْنَا ، وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

بِقَوْلِهِ ( الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ) فَقَوْلُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ ، وَلِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَيَسَارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا فَرْضٌ ، وَلَمَّا لَمْ يُفْهَمْ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ قَالَ : وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قَالَ مَلَّكْتُكَ غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا ، إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَازَةِ بَيَّنَّاهُ ) فِي أَنَّهَا عَقْدٌ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا لِكَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَكَانَ جَوَازُهُ بِالِاسْتِحْسَانِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ تَبْقَى الْمِلْكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) جَوَابٌ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ ، وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ ) بَيَانٌ لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى نَسْخِ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ وَقَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمَوَارِيثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَإِنَّهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا ، وَبَيَّنَ بِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ بِعَدَدِ الْمِقْدَارِ

الْمَفْرُوضِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ بَيَانِ مَا فُرِضَ لِلْوَالِدَيْنِ ، وَحَيْثُ رَتَّبَهَا عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمَفْرُوضَةَ لَمْ تَبْقَ لَازِمَةً بَلْ بَعْدَ أَيِّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ نَصِيبُهُمَا ذَلِكَ الْمِقْدَارَ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِذَا انْتَسَخَ الْوُجُوبَ انْتَسَخَ الْجَوَازُ عِنْدَنَا .
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَجْهًا آخَرَ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ ( إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ) وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ } مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِجَازَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِ ) أَيْ : فِي فِعْلِ الْوَصِيَّةِ أَوْ فِي قَدْرِ الْوَصِيَّةِ

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } بَعْدَ مَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ لِيَتَدَارَكَ مَصِيرَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَظْهَرَهُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ } وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ .
قَالَ ( إلَّا أَنَّ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ وَهُمْ أَسْقَطُوهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ) لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ ، لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُسْتَنَد عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى ، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ ، فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةً قَبْلَهُ ، وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَأَجَازَهُ الْبَقِيَّةُ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ .

( وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ) وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْآثَارِ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ لَا ، فَقُلْتُ فَبِالنِّصْفِ ؟ قَالَ لَا ، قُلْتُ : فَبِالثُّلُثِ ؟ قَالَ : الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، لَا تَدَعُ أَهْلَك يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " { إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } " .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ ) ظَاهِرٌ ، وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَظْهَرْهُ وَأَظْهَرَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ ) أَيْ احْتِرَازٌ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ تَأَذِّي الْبَعْضِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بِسَبَبِ ( إيثَارِ ) الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ عَلَى ( مَا نُبَيِّنُهُ ) يَعْنِي عِنْدَ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ ، رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَهُوَ الظُّلْمُ ، وَرُوِيَ الْجَنَفُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ الْمَيْلُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ ) دَلِيلُ قَوْلِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ .
وَتَقْرِيرُهُ ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ سَاقِطَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلًّا وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَإِجَازَتُهُمْ مُتَلَاشِيَةٌ ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا أَجَازُوهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُصَادَفَةِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ ثَبَتَ فِي مَالِ الْمُورَثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى

مَنَعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّهَا صَادَفَتْ مَحَلَّهَا فَصَارَتْ كَإِجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ بِسَبَبِ الِاسْتِنَادِ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( غَايَةُ الْأَمْرِ ) يَعْنِي : أَنَّ حَقَّهُمْ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ : يَعْنِي كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا لَحِقَتْهَا الْإِجَارَةُ ، وَكَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ ( وَهَذَا ) يَعْنِي مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ ( قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى ) حِينَ وَقَعَ إذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَا يَلْحَقُهَا الِاسْتِنَادُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ ) دَلِيلٌ آخَرُ تَقْرِيرُهُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ مُجَرَّدُ حَقِّ الْمِلْكِ فَلَوْ اسْتَنَدَ ) مِلْكُهُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ ( مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً ) وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوُقُوعِ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَقُولُ حَقُّ الْوَارِثِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمُورَثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مَنَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ تَصَرُّفَ الْمُورَثِ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ إسْقَاطِهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا .
وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَرَّ ، فَإِنْ قِيلَ : الْوَارِثُ إذَا عَفَا عَنْ جَارِحِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ الِاسْتِنَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَلْبُ الْحَقِّ حَقِيقَةً ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْقَلْبُ مَانِعًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَانِعٌ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ وَالْجُرْحُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ، بِخِلَافِ

الْإِجَازَةِ فَإِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ثَمَّةَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ ، فَقَبْلَ الِاتِّصَالِ لَوْ انْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً وَقَعَ الْحُكْمُ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ نُبْطِلَ الْعَفْوَ عَنْ الْجَارِحِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْحَقِيقَةِ ، وَإِمَّا أَنْ نُجِيزَ الْإِجَازَةَ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ وَفِي ذَلِكَ إبْطَالٌ لِأَحَدِهِمَا ، فَقُلْنَا : لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ نَظَرًا إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ ، وَجَازَ الْعَفْوُ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ ، وَلَمْ نَعْكِسْ لِكَوْنِ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْإِجَازَةُ إسْقَاطٌ مِنْ الْوَارِثِ لِحَقِّهِ بِرِضَاهُ فَكَانَ كَسَائِرِ الْإِسْقَاطَاتِ وَفِيهِ لَا رُجُوعَ فَكَذَا فِيهَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّ ثَمَّةَ حَقًّا وَحَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا رَضِيَ بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِبُطْلَانِهَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهَا وَلَا وُجُودَ لَهَا قَبْلَ السَّبَبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ ) ظَاهِرٌ .

وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي ) عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنْ الْمُوصِي ، وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَصَارَ كَالْمُرْتَهَنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّاهِنِ .

وَقَوْلُهُ ( وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي ) ذَكَرَهُ تَعْرِيفًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ ، ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِغَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ ، فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَذَلِكَ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُوصِيَ صَدَرَ مِنْهُ السَّبَبُ ، وَكُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ السَّبَبُ يَثْبُتُ مِنْهُ الْمِلْكُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فَالْمُوصَى لَهُ يَتَمَلَّكُ مِنْ الْمُوصِي .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِ الْإِجَازَةِ إخْرَاجًا عَنْ الْمِلْكِ : يَعْنِي أَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ ) رَدٌّ لِكَوْنِهَا هِبَةً فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ هِبَةً لَكَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَصَارَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّهْنِ فِي كَوْنِ السَّبَبِ صَدَرَ مِنْ الرَّاهِنِ وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ مِنْ قِبَلِهِ ، فَإِجَازَةُ الْمُرْتَهِنِ رَفْعُ الْمَانِعِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْوَارِثَ إنْ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ مِنْ جِهَتِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَارِثَ كَانَ لَهُ حَقٌّ أَسْقَطَهُ بِالْإِجَازَةِ ، وَإِسْقَاطُ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا كَالْعِتْقِ ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَجَازَ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ صَحِيحَةٌ ، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَيُجْبَرُ الْوَارِثُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَعْدَهَا عِنْدَنَا ، وَلَوْ كَانَ التَّمْلِيكُ مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ } وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِيَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَوْ أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَجُوزُ ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ .
قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فَفِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ .

انْعَكَسَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لِكَوْنِ الْإِجَازَةِ حِينَئِذٍ هِبَةً .
قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا إلَخْ ) لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمُبَاشِرِ الْقَتْلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ } ( وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ) وَرُدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةُ قَاتِلِ أَبِيهِمْ فِي تَرِكَتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرِ مُلْتَزَمٍ ، وَلَعَلَّ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ كَوْنِهِ قِيَاسًا عَلَى طَرِيقَتِنَا عَسِرٌ جِدًّا ، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَسْهَلُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ ) مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ فَصَحَّتْ لَهُ كَمَا صَحَّتْ لِغَيْرِهِ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ( إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِي تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ( مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي مِنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْجَرْحِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَتَأَخُّرِهِ عَنْهَا ، وَمِنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَرْحُ قَبْلَهَا فَلَا اسْتِعْجَالَ ثَمَّةَ .
وَأُجِيبَ يُجْعَلُ الْجَارِحُ مُسْتَعْجِلًا وَإِنْ تَقَدَّمَ جَرْحُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ قَاتِلًا أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَفَسَادِهَا يَوْمَ الْمَوْتِ

لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كَانَ الْقَتْلُ مُؤَخَّرًا عَنْ الْوَصِيَّةِ ، وَاعْتُرِضَ بِنَقْضِ إجْمَالِيٍّ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَوْ صَحَّ بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا عَتَقَ الْمُدَبَّرُ إذَا قُتِلَ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَهِيَ لَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ عِتْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَوْتَهُ جُعِلَ شَرْطًا لِعِتْقِهِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَلَكِنْ يَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ فَيُرَدُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ ( وَلَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ حَيْثُ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ دُونَ الْمِيرَاثِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فَتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْوَصِيَّةُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَتَعْمَلُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا ) أَيْ الْوَصِيَّةَ ( لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ ) أَيْ : لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِهِمْ إنْ أَجَازَهَا الْبَقِيَّةُ نَفَذَتْ فَكَذَا الْقَاتِلُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ ) أَيْ لِوَارِثِ الْمُوصِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ (

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47