كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

الصَّلَاةِ ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَانُهَا بِالرُّكُوعِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاةِ } وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ السَّجْدَةَ فِي ص سَجْدَةُ شُكْرٍ بِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ ص فَتَشَزَّنَ النَّاسُ : أَيْ تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ : عَلَامَ تَشَزَّنْتُمْ إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا } قُلْنَا هَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ ، إذْ مَا مِنْ عِبَادَةٍ يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ إلَّا وَفِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَهَا فِي خُطْبَتِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ حَيْثُ قَطَعَ الْخُطْبَةَ لَهَا ، وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي خُطْبَتِهِ فَذَلِكَ كَانَ تَعْلِيمًا لِجَوَازِ تَأْخِيرِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص ، فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ ، فَأَمَرَ حَتَّى تُلِيَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مَعَ أَصْحَابِهِ } وَقَوْلُهُ ( هُوَ الْمَأْخُوذُ لِلِاحْتِيَاطِ ) لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ عِنْدَ الْآيَةِ الثَّانِيَةُ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ الْأُولَى جَازَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا خُرُوجٌ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ .
قَالَ ( وَالسَّجْدَةُ وَاجِبَةٌ ) هَذَا بَيَانُ صِفَتِهَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ السَّجْدَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا وَلَا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا ، } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً .
وَقُلْنَا : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ ، قَصَدَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَا لِأَنَّ فِي بَعْضِ لَفْظِ الْآثَارِ السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا ، وَفِيهِ إيهَامٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْلِسْ لَهَا فَلَيْسَتْ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ فَقَيَّدَ بِذَلِكَ دَفْعًا لِذَلِكَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَعَلَى مَنْ تَلَاهَا } وَ " عَلَى " كَلِمَةُ إيجَابٍ ( وَهُوَ ) أَيْ الْحَدِيثُ ( غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْقَصْدِ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا أُدِّيَتْ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ وَرُكُوعِهَا وَلَمَا تَدَاخَلَتْ وَلَمَا أُدِّيَتْ بِالْإِيمَاءِ مِنْ رَاكِبٍ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا فِي نَفْسِهَا كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَتَأَدَّى بِالسَّعْيِ إلَى التِّجَارَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّدَاخُلُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَوَازُ أَدَائِهَا بِالْإِيمَاءِ حِينَ قَرَأَهَا رَاكِبًا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ ، فَإِنَّ تِلَاوَتَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مَشْرُوعَةٌ فِيمَا تَجِبُ بِهِ السَّجْدَةُ فَكَانَ كَالشُّرُوعِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي التَّطَوُّعِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زَيْدٍ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ تِلْكَ السَّجْدَةَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا فَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِهَا عَلَى الْفَوْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ : جُعِلَ هَذَا اللَّفْظُ : يَعْنِي قَوْلَهُ { السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا } الْحَدِيثَ فِي سَائِرِ النُّسَخِ مِنْ الْمَبْسُوطِينَ وَالْأَسْرَارِ وَالْمُحِيطِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ لَا مِنْ الْحَدِيثِ .
وَأَقُولُ : لَمْ يَكُنْ

الْمُصَنِّفُ مِمَّنْ لَمْ يُطَالِعْ الْكُتُبَ الْمَذْكُورَةَ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْده كَوْنُهُ حَدِيثًا لَمَا نَقَلَهُ حَدِيثًا ، فَإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَعْظَمُ دِيَانَةً مِنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ بِهِ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا تَلَا الْإِمَامُ السَّجْدَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ وَلَا مَانِعَ ) وَكُلُّ مَا تَقَرَّرَ مُقْتَضِيهِ وَانْتَفَى مَانِعُهُ تَحَقَّقَ لَا مَحَالَةَ ( بِخِلَافِ حَالَةِ الصَّلَاةِ ) فَإِنَّ الْمَانِعَ مَوْجُودٌ ( لَأَنْ يُؤَدِّيَ إلَى خِلَافِ مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ ) إنْ سَجَدَ التَّالِي أَوَّلًا وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ لِانْقِلَابِ الْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَالتَّابِعِ مَتْبُوعًا ( أَوْ التِّلَاوَةِ ) إنْ سَجَدَ الْإِمَامُ أَوَّلًا وَتَابَعَهُ التَّالِي فَإِنَّ التَّالِيَ إمَامُ السَّامِعِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ سُجُودُ التَّالِي .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلتَّالِي : كُنْت إمَامَنَا لَوْ سَجَدْت لَسَجَدْنَا } فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ لَيْسَتْ بِقِسْمَةٍ حَاضِرَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَسْجُدَ التَّالِي دُونَ الْإِمَامِ أَوْ بِالْعَكْسِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْإِمَامِ وَهِيَ مَفْسَدَةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ مَفْرُوغًا عَنْهُ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ ) لِأَنَّ الْمَحْجُورَ هُوَ الْمَمْنُوعُ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ نَفَاذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهِ وَالْمُقْتَدِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ تَنْفُذُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إمَامِهِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } وَكُلُّ مَنْ هُوَ مَحْجُورٌ لَا حُكْمٌ لِتَصَرُّفِهِ ، وَوُجُوبِ السَّجْدَةِ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ الَّذِي هُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَا يَثْبُتُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُقْتَدِي فِي كَوْنِهِ مَمْنُوعًا عَنْ الْقِرَاءَةِ لِحَائِضٍ وَالْجُنُبِ ، وَالسَّجْدَةُ تَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا ، فَكَذَا عَلَى مَنْ سَمِعَ الْمُقْتَدِيَ .
وَوَجْهُهُ

أَنَّهُمَا مَنْهِيَّانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا تَنْعَقِدُ لِحُكْمِهَا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ ، فَإِنْ اخْتَلَجَ فِي ذِهْنِك أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلٌ حِسِّيٍّ فَالنَّهْيُ عَنْهُ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَعَلَيْك بِتَقْرِيرِنَا تَجِدْ مَا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَتْ عَلَى الْحَائِضِ بِتِلَاوَتِهَا وَسَمَاعِهَا لَكِنَّهَا لَا تَجِبُ ، أَجَابَ بِمَا مَعْنَاهُ : إنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّجْدَةَ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَائِضُ لَا يَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَلَا تَلْزَمُهَا السَّجْدَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْجُنُبِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَلْزَمُهُ وَكَذَلِكَ السَّجْدَةُ .

( وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا ) هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَعْدُوهُمْوَقَوْلُهُ ( وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا يَسْجُدُهَا عِنْدَهُمَا وَيَسْجُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ هِيَ الِاقْتِدَاءُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهَا فَلَا يَعْدُوهَا .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ شُمُولَ الْعَدَمِ ، وَالثَّانِي شُمُولَ الْوُجُوبِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَحْجُورٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ عِلَّةُ الْحَجْرِ ، وَغَيْرُ مَحْجُورٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ الْخَارِجُ .

( وَإِنْ سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَةً مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدُوهَا فِي الصَّلَاةِ ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ هَذِهِ السَّجْدَةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ( وَسَجَدُوهَا بَعْدَهَا ) لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا ( وَلَوْ سَجَدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُجْزِهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ .
قَالَ ( وَأَعَادُوهَا ) لِتَقَرُّرِ سَبَبِهَا ( وَلَمْ يُعِيدُوا الصَّلَاةَ ) ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّجْدَةِ لَا يُنَافِي إحْرَامَ الصَّلَاةِ .
وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ

( وَإِنْ سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ ، لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ هَذِهِ السَّجْدَةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ) لِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً ، وَهَذَا السَّمَاعُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِيهَا ، لَكِنَّهُمْ يَسْجُدُونَهَا بَعْدَهَا لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا وَهُوَ السَّمَاعُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ ( وَلَوْ سَجَدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ تُجْزِهِمْ ) وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ فَلِأَنَّهُ : أَيْ هَذَا السُّجُودَ نَاقِصٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ وَهُوَ مَنْعُ الشَّرْعِ عَنْ إدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِيهَا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ وَهِيَ السَّجْدَةُ الْوَاجِبَةُ بِالسَّمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا .
وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً .
فَإِنَّهَا وَجَبَتْ فِي وَقْتٍ كَانَ خَلْطُ غَيْرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِأَفْعَالِهَا حَرَامًا فَكَانَتْ كَالْعَصْرِ وَقْتَ الِاصْفِرَارِ وَجَبَتْ نَاقِصَةً فَتَتَأَدَّى نَاقِصَةً .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَقْتَ لَوْ كَانَ سَبَبًا لَهَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْت ، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْوَقْتِ ( وَأَعَادُوهَا لِتَقَرُّرِ سَبَبِهَا ) وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِهَا أَوْ بِإِتْيَانِ مَا يَنْقُضُهَا وَلَمْ يَتْرُكُوهَا وَمَا أَتَوْا بِمَا يَنْقُضُهَا ( لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّجْدَةِ لَا يُنَافِي إحْرَامَ الصَّلَاةِ ) لِأَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ( وَ ) ذَكَرَ ( فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَقِيلَ ) مَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ ( هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ جَوَابُ الْقِيَاسِ ، وَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا قَوْلُهُمَا وَهُوَ جَوَابُ

الِاسْتِحْسَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يُفْسِدُهَا عِنْدَهُمَا ، وَعَلَى قَوْلِهِ زِيَادَةُ السَّجْدَةِ تُفْسِدُهَا ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَلِهَذَا حَكَمَ بِأَنَّ سَجْدَةَ الشُّكْرِ مَسْنُونَةٌ فَتَفْسُدُ بِشُرُوعِهِ فِي وَاجِبٍ قَبْلَ إكْمَالِ فَرْضِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا غَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَالسَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَةِ فِي كَوْنِهَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ عِبَادَةً .

( فَإِنْ قَرَأَهَا الْإِمَامُ وَسَمِعَهَا رَجُلٌ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ بَعْدَمَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ ( وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَهَا سَجَدَهَا مَعَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا سَجَدَهَا مَعَهُ فَهَاهُنَا أَوْلَى ( وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ سَجَدَهَا وَحْدَهُ ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ .

( فَإِنْ قَرَأَهَا الْإِمَامُ وَسَمِعَهَا رَجُلٌ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ ) فَإِمَّا أَنْ دَخَلَ ( بَعْدَمَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ ) أَوْ قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ( لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِأَنَّهُ صَارَ مُدْرِكًا لَهَا ) أَيْ لِلسَّجْدَةِ ( بِإِدْرَاكِ تِلْكَ الرَّكْعَةِ ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَصِرْ مُدْرِكًا لِلسَّجْدَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُدْرِكْ الرَّكْعَةَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْقِرَاءَةِ وَلَا لِمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ السَّجْدَةِ قَالَ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ : وَأَشَارَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ صَلَاتِيَّةً .
وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامُ فِي رُكُوعِ صَلَاتَيْ الْعِيدَيْنِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ وَلَمْ يَصِرْ مُدْرِكًا لَهُمَا بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ فِي الرُّكُوعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ الْحَقِيقِيَّ مُمْكِنٌ لِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ تَكْبِيرُ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهِ حَالَةَ الرُّكُوعِ فَأُلْحِقَ بِهِ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ ، وَإِذَا كَانَ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى الْإِدْرَاكِ الْحُكْمِيِّ ، بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا فَلَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ لِتَكُونَ حَقِيقَةُ الْإِدْرَاكِ مُمْكِنَةً فَيَصِيرُ إلَى الْحُكْمِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي سَجَدَهَا مَعَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا بِأَنْ أَخْفَاهَا الْإِمَامُ سَجَدَهَا مَعَهُ فَهُنَا أَوْلَى ( وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ سَجَدَهَا لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ ) وَهُوَ التِّلَاوَةُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ السَّمَاعِ مِنْ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ ، قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ السَّبَبُ فِي حَقِّ السَّامِعِ أَيْضًا وَكَانَتْ فِي الصَّلَاةِ .
فَكَانَتْ السَّجْدَةُ صَلَاتِيَّةً فَلَا تُقْضَى خَارِجَهَا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا

فِي كَوْنِ التِّلَاوَةِ سَبَبًا فِي حَقِّهِ أَوْ السَّمَاعِ وَجَبَتْ السَّجْدَةُ احْتِيَاطًا لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى التِّلَاوَةِ لَا يَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ ، وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى السَّمَاعِ تَلْزَمُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأُمِرْنَا بِهَا خَارِجَهَا احْتِيَاطًا .

( وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا لَمْ تُقْضَ خَارِجَ الصَّلَاةِ ) ؛ لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ وَلَهَا مَزِيَّةُ الصَّلَاةِ ، فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ

وَقَوْلُهُ ( وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا لَمْ تُقْضَ خَارِجَ الصَّلَاةِ ) ضَابِطٌ كُلِّيٌّ يَنْسَحِبُ عَلَى الْفُرُوعِ الدَّاخِلِ تَحْتَهُ ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ ، وَمَعْنَى الصَّلَاتِيَّةِ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ الْمُوجِبَةُ لَهَا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَهَا مَزِيَّةُ الصَّلَاةِ فَكَانَ وُجُوبُهَا كَامِلًا وَمَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا : وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ مَا قِيلَ هَذَا الْكُلِّيُّ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا سَجْدَةٌ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُونَهَا بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي مَا قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ فَلَمْ يَسْجُدُوهَا فِيهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ تُنْوَ .
وَالثَّالِثُ مَا قِيلَ تَاءُ التَّأْنِيثِ تُحْذَفُ فِي النَّسَبِ فَالصَّوَابُ صَلَوِيَّةٌ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَكُلُّ سَجْدَةٍ صَلَاتِيَّةٍ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُوَضِّحَةً وَمَا ثَمَّةَ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْهَا لِأَنَّ كُلَّ سَجْدَةٍ صَلَاتِيَّةٍ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ وَعَادَ السُّؤَالُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ التَّأْكِيدِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْمَقَامُ لَا يَقْتَضِيهِ ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُهُ : وَكُلُّ سَجْدَةٍ عَنْ تِلَاوَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ : أَيْ ثَبَتَتْ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى قَرَأَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ وَرَكَعَ أَوْ سَجَدَ لِلصَّلَاةِ يَنْوِي بِهَا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا فَلَا تَتَأَدَّى فِي ضِمْنِ الْغَيْرِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ وَقْتَهَا مُوَسَّعٌ ، فَمَتَى سَجَدَ كَانَ أَدَاءً لَا قَضَاءً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَفِي

رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ ذَلِكَ ؛ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ خَطَأٌ مُسْتَعْمَلٌ وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ خَيْرٌ مِنْ صَوَابٍ نَادِرٍ .

( وَمَنْ تَلَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى دَخَلَ فِي صَلَاةٍ فَأَعَادَهَا وَسَجَدَ أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ عَنْ التِّلَاوَتَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَقْوَى لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَاسْتُتْبِعَتْ الْأُولَى .
وَفِي النَّوَادِرِ يَسْجُدُ أُخْرَى بَعْدَ الْفَرَاغِ لِأَنَّ لِلْأُولَى قُوَّةَ السَّبْقِ فَاسْتَوَيَا .
قُلْنَا : لِلثَّانِيَةِ قُوَّةُ اتِّصَالِ الْمَقْصُودِ فَتَرَجَّحَتْ بِهَا ( وَإِنْ تَلَاهَا فَسَجَدَ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَلَاهَا سَجَدَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمُسْتَتْبِعَةُ وَلَا وَجْهَ إلَى إلْحَاقِهَا بِالْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَبْقِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ

قَالَ ( وَمَنْ تَلَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا ) هَذَا لِبَيَانِ التَّدَاخُلِ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْ وَمَنْ تَلَا آيَةَ سَجْدَةٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ ( حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَأَعَادَهَا ) أَيْ تِلَاوَةَ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ مَجْلِسُ الصَّلَاةِ عَنْ مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ ( وَسَجَدَ ) فِي الصَّلَاةِ ( أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ ) الَّتِي سَجَدَهَا ( عَنْ التِّلَاوَتَيْنِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً أَقْوَى فَاسْتَتْبَعَتْ الْأُولَى وَفِي النَّوَادِرِ يَسْجُدُ ) سَجْدَةً ( أُخْرَى بَعْدَ الْفَرَاغِ ) مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ إنْ كَانَتْ أَقْوَى فَلِلْأُولَى أَيْضًا قُوَّةُ السَّبْقِ فَاسْتَوَيَا فَلَا تَكُونُ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِالِاسْتِتْبَاعِ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي قُوَّةً أُخْرَى وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمَقْصُودِ : أَيْ اتِّصَالُ التِّلَاوَةِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ : أَيْ الْحُكْمِ وَهُوَ السُّجُودُ فَتَرَجَّحَتْ بِهَا وَاسْتَتْبَعَتْ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ إلْحَاقَ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّدَاخُلِ لِأَنَّ السَّابِقَ قَدْ مَضَى وَاضْمَحَلَّ فَكَيْفَ يَكُونُ مُلْحَقًا بِاللَّاحِقِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّابِقَ قَدْ يَكُونُ تَبَعًا إذَا كَانَ اللَّاحِقُ أَقْوَى كَالسُّنَّةِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ تَلَاهَا ) يَعْنِي خَارِجَ الصَّلَاةِ ( فَسَجَدَ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَلَاهَا ) أَيْ تِلْكَ الْآيَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ ( أَنْ يَسْجُدَ لَهَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمُسْتَتْبَعَةُ ) لِمَا قُلْنَا إنَّهَا لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً أَقْوَى ( وَ ) إذَا كَانَتْ مُسْتَتْبَعَةً ( لَا وَجْهَ لِإِلْحَاقِهَا ) أَيْ السَّجْدَةِ الْمَفْعُولَةِ ( بِالْأُولَى ) أَيْ التِّلَاوَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا إنْ أُلْحِقَتْ بِهَا وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلثَّانِيَةِ كَانَتْ السَّجْدَةُ مُلْحَقَةً بِالتِّلَاوَةِ الثَّانِيَةِ ( وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَبْقِ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ ) فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّدَاخُلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ سَجْدَةٌ ثَانِيَةٌ لِلتِّلَاوَةِ الثَّانِيَةِ وَإِيَّاكَ أَنْ تَرُدَّ ضَمِيرَ

إلْحَاقِهَا إلَى التِّلَاوَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ فَتَأَمَّلْ ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ إنَّمَا تَرَجَّحَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاتِّصَالِ الْمَقْصُودِ ، وَهَاهُنَا مَعَ الْأُولَى السَّبْقُ وَالِاتِّصَال بِالْمَقْصُودِ ، وَمَعَ الثَّانِيَةِ كَوْنُهَا صَلَاتِيَّةً فَقَطْ فَأَنَّى تَسْتَتْبِعُهَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الِاتِّصَالِ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْه التَّنَزُّلِ مِنْ الْمُصَنِّفِ ، وَإِلَّا فَكَوْنُهَا صَلَاتِيَّةً أَقْوَى مِنْ السَّبْقِ فَلَا يُسَاوِيهِ السَّبْقُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَهْقَهَ فِيهَا اُنْتُقِضَ الْوُضُوءُ دُونَ غَيْرِهَا وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ يَتِمُّ الدَّلِيلُ .

( وَمَنْ كَرَّرَ تِلَاوَةَ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ قَرَأَهَا فِي مَجْلِسِهِ فَسَجَدَهَا ثُمَّ ذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَرَأَهَا سَجَدَهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجَدَ لِلْأُولَى فَعَلَيْهِ السَّجْدَتَانِ ) فَالْأَصْلُ أَنَّ مَبْنَى السَّجْدَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَهُوَ تَدَاخُلٌ فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي بِالْعُقُوبَاتِ وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا ، لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَهُوَ الْمُبْطِلُ هُنَالِكَ .
وَفِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ ، وَفِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ، وَكَذَا فِي الدِّيَاسَةِ لِلِاحْتِيَاطِ ( وَلَوْ تَبَدَّلَ مَجْلِسُ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ السَّمَاعُ ( وَكَذَا إذَا تَبَدَّلَ مَجْلِسُ التَّالِي دُونَ السَّامِعِ ) عَلَى مَا قِيلَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ عَلَى السَّامِعِ لِمَا قُلْنَا .

قَالَ ( وَمَنْ كَرَّرَ تِلَاوَةَ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ ) ذَكَرَ مَسْأَلَةً وَبَيَّنَ التَّدَاخُلَ وَقَالَ ( الْأَصْلُ أَنَّ مَبْنَى السَّجْدَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ ) يَعْنِي فِي الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ تِلَاوَةِ سَجْدَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، لِأَنَّ السَّجْدَةَ حُكْمُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( دَفْعًا لِلْحَرْبِ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ ، وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ غَالِبًا ، فَإِلْزَامُ التَّكْرَارِ فِي السَّجْدَةِ يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ .
وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ يُنْزِلُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً تَعْلِيمًا لِجَوَازِ التَّدَاخُلِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ } .
ثُمَّ التَّدَاخُلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي السَّبَبِ أَوْ فِي الْحُكْمِ وَالْأَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ الْأَوَّلُ وَبِالْعُقُوبَاتِ الثَّانِي ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ إذَا كَانَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ كَانَتْ الْأَسْبَابُ بَاقِيَةً عَلَى تَعَدُّدِهَا فَيَلْزَمُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَقُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ فِيهَا لِيَكُونَ جَمِيعُهَا بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ وَاحِدٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ .
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا بَلْ فِي دَرْئِهَا احْتِيَاطٌ فَيُجْعَلُ التَّدَاخُلُ فِي الْحُكْمِ لِيَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ مُضَافًا إلَى عَفْوِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِسُبُوغِ الْعَفْوِ وَكَمَالِ الْكَرَمِ ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَلَا آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَان فَسَجَدَهَا ثُمَّ تَلَاهَا فِيهِ مَرَّاتٍ

فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ تِلْكَ السَّجْدَةُ الْمَفْعُولَةُ أَوْ لَا ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ التَّدَاخُلُ فِي السَّبَبِ لَكَانَتْ التِّلَاوَةُ الَّتِي بَعْدَ السَّجْدَةِ سَبَبًا وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ ) أَيْ الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ بَيَانُ الدَّلِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ ، أَلَا تَرَى إلَى شَطْرَيْ الْعَقْدِ يَجْمَعُهُمَا الْمَجْلِسُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بِالْأَقْوَالِ ، فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى أَصْلِهِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّكْرَارِ لِعَدَمِ الْجَامِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ الْجَامِعِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَرَّاتِ فِيهِ ؟ قُلْنَا لِعَدَمِ الْحَرَجِ ، فَإِنَّ آيَاتِ السَّجْدَةِ مَحْصُورَةٌ ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ تِلَاوَةِ الْجَمْعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ التَّكْرَارِ لِلتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ وَيَتَّفِقُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ بَعِيدًا .
قَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ مَشَى نَحْوًا مِنْ عَرْضِ الْمَسْجِدِ وَطُولِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَقِيلَ إنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْإِتْيَانِ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ الْخُرُورَ الْوَارِدَ فِي الْقُرْآنِ سُقُوطٌ مِنْ الْقِيَامِ ، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ فَإِنَّ خِيَارَهَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ ، فَإِنَّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ وَهُوَ قَائِمٌ يَقْعُدُ لِكَوْنِ الْقُعُودِ أَجْمَعَ لِلرَّأْيِ ، فَإِذَا قَامَتْ دَلَّ عَلَى الْإِعْرَاضِ ، وَالْخِيَارُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً وَفِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا اللَّفْظُ يَعْنِي قَوْلَهُ ( وَفِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَاسَةِ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي

الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ وَفِي الدِّيَاسَةِ لَا فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا بِالْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ ثُمَّ شَبَّهَ جَوَابَ الثَّانِي بِذِكْرِ الْأَصَحِّ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَوْلُهُ لِلِاحْتِيَاطِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهَ الْأَصَحِّ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى اتِّحَادِ الْعَمَلِ وَاتِّحَادِ اسْمِ الْمَجْلِسِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى اخْتِلَافِ حَقِيقَةِ الْمَكَانِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ فَقُلْنَا بِالتَّكْرَارِ لِلِاحْتِيَاطِ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا تَبَدَّلَ مَجْلِسُ التَّالِي ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قِيلَ ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مَجْلِسَ التَّالِي إذَا تَكَرَّرَ دُونَ مَجْلِسِ السَّامِعِ بِتَكَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَى السَّامِعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِهِ ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التِّلَاوَةُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ عَلَى السَّامِعِ لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ السَّمَاعُ وَكَانَ مَجْلِسِهِ مُتَّحِدًا وَهُوَ قَوْلُ الْإِسْبِيجَابِيِّ ، قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .

( وَمَنْ أَرَادَ السُّجُود كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ ) اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ( وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلَا سَلَامَ ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّحَلُّلِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ التَّحْرِيمَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ .( وَمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ ) وَفِي قَوْلِهِ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِيهَا سُنَّةٌ كَمَا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ ، وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ صِفَتَهَا عِنْدَهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ نَاوِيًا ثُمَّ يُكَبِّرَ لِلسُّجُودِ وَلَا يَرْفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرَ لِلرَّفْعِ وَيُسَلِّمَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَاذَا يَقُولُ فِي سُجُودِهِ ، فَقِيلَ : يَقْرَأُ فِيهَا { سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا لَمْ يَضُرَّهُ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا جَازَ فَكَذَلِكَ هَذِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلَا سَلَامَ ) نَفْيٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِهِ وَقَالُوا إنَّ فِيهَا تَشَهُّدًا وَسَلَامًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ ( لِلتَّحَلُّلِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ التَّحْرِيمَةِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ ) فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ وَكَبَّرَ وَالتَّكْبِيرُ لِلتَّحْرِيمَةِ بِالنَّصِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ تَكْبِيرٍ لِلتَّحْرِيمَةِ ، أَلَا تَرَى تَكْبِيرَ السُّجُودِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمَةِ وَهَذِهِ السَّجْدَةُ لَمَّا شُبِّهَتْ بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ سُنَّ فِيهَا التَّكْبِيرُ لِلْمُشَابَهَةِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا وَيَدَعَ آيَةَ السَّجْدَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَيَدَعَ مَا سِوَاهَا ) ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَرَةٌ إلَيْهَا .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْرَأَ قَبْلَهَا آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ دَفْعًا لِوَهْمِ التَّفْضِيلِ وَاسْتَحْسَنُوا إخْفَاءَهَا شَفَقَةً عَلَى السَّامِعِينَ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِنْكَافَ ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِنْكَافَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ كُفْرٌ فَيَكُونُ مَا يُشْبِهُهُ مَكْرُوهًا .
وَقَوْلُهُ ( شَفَقَةً عَلَى السَّامِعِينَ ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ : إنْ كَانَ التَّالِي وَحْدَهُ يَقْرَأُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ جَهْرٍ وَإِخْفَاءٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ .
قَالَ مَشَايِخُنَا : إنْ كَانَ الْقَوْمُ مُتَأَهِّبِينَ لِلسُّجُودِ وَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ السَّجْدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا جَهْرًا حَتَّى يَسْجُدَ الْقَوْمُ مَعَهُ ، لِأَنَّ فِي هَذَا حَثًّا لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَإِنْ كَانُوا مُحْدِثِينَ أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ السَّجْدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَجْهَرَ تَحَرُّزًا عَنْ تَأْثِيمِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ السَّفَرُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَمْسَحُ الْمُقِيمُ كَمَالَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا } عَمَّ بِالرُّخْصَةِ الْجِنْسَ .
وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَالشَّافِعِيُّ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي قَوْلٍ ، وَكَفَى بِالسُّنَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِمَا ( وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسَطُ ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقْدِيرُ بِالْمَرَاحِلِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَرَاسِخِ هُوَ الصَّحِيحُ ( وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ ) مَعْنَاهُ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ ، فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ فَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا فِي الْجَبَلِ .

( بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ) لَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَيُؤَخِّرُ عَنْهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ دُونَهُ .
وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ : قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا ، بَلْ الْمُرَادُ قَطْعٌ خَاصٌّ وَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهِ الْأَحْكَامُ فَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ .
وَذَكَرَ الْقَصْدَ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْحَادِثَةُ الْمُقَارِنَةُ لِمَا عَزَمَ لِأَنَّهُ لَوْ طَافَ جَمِيعَ الْعَالَمِ بِلَا قَصْدِ سَيْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ، وَلَوْ قَصَدَ وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَكَذَلِكَ ، وَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِنْ قِيلَ : الْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَمَا بَالُ السَّفَرِ وَهُوَ ضِدُّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّفَرَ فِعْلٌ ، وَمُجَرَّدُ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِيهِ ، وَالْإِقَامَةُ تَرْكٌ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِهَا ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فِي الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ يَنْوِي أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَعَكْسِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ هِيَ قَصْرُ الصَّلَاةِ وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحُرْمَةُ الْخُرُوجِ عَلَى الْحُرَّةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَإِنْ قِيلَ : فَكَمَا أَنَّ الْقَصْدَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلتَّغْيِيرِ فَكَذَلِكَ مُجَاوَزَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ بِصَدَدِ بَيَانِ تَعْرِيفِ السَّفَرِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ شُرُوطِ تَغْيِيرِهِ وَسَنَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( سَيْرَ الْإِبِلِ ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَقَوْلُهُ ( عَمَّ الرُّخْصَةُ الْجِنْسَ ) وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُسَافِرُ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ مَعْهُودٍ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ وَهُوَ الْمَسْحُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَنْ هُوَ مِنْ هَذَا

الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَإِلَّا لَكَانَ نَقِيضُهُ صَادِقًا وَهُوَ بَعْضُ مَنْ هُوَ مُسَافِرٌ لَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا ، وَيَلْزَمُ الْكَذِبُ الْمُحَالُ عَلَى الشَّارِعِ إنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً مَعْنًى أَيْضًا ، أَوْ عَدَمُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ إنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً مَعْنًى وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِيَمْسَح وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ وَالْمُسَافِرُ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا يَمْسَحُ ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَمْسَحُ بِدَلِيلٍ آخَرَ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ } وَالثَّانِي أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ جِدًّا حَتَّى كَانَ سُفْيَانُ يُزْرِيهِ بِالْكَذِبِ ، فَبَقِيَ الْقَوْلُ بِالْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِلْمُسَافِرِ وَإِلَّا لَكَانَ فِي قَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَذَلِكَ ، فَكَانَ حُكْمُ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَاحِدًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، وَفِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ حُكْمِ الرَّاحَةِ وَالْمَشَقَّةِ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النُّزُولَ لِأَجْلِ الِاسْتِرَاحَةِ مُلْحَقٌ بِالسَّيْرِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ مُدَّةِ

السَّفَرِ تَيْسِيرًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى عَنْهُ بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَتَعَجَّلُ السَّيْرَ فَيَبْلُغُ قَبْلَ الْوَقْتِ بِسَاعَةٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ ( وَالشَّافِعِيُّ قَدَّرَهُ فِي قَوْلٍ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ) وَرُبَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ( وَكَفَى بِالسُّنَّةِ ) يَعْنِي مَا رَوَيْنَا ( حُجَّةً عَلَيْهِمَا ) وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ قَرِيبٌ إلَى التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِي السَّيْرِ فِي ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ خُصُوصًا فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّهُمْ قَدَّرُوهَا بِالْفَرَاسِخِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا ، وَقَالَ آخَرُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَآخَرُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِمَوْضِعٍ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا فِي الْمَاءِ يُقْطَعُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إذَا كَانَتْ الرِّيحُ هَادِيَةً : أَيْ مُتَوَسِّطَةً ، وَالثَّانِي فِي الْبَرِّ يُقْطَعُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، فَإِنْ ذَهَبَ إلَى طَرِيقِ الْمَاءِ قَصَرَ ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَى طَرِيقِ الْبَرِّ أَتَمَّ ، وَلَوْ انْعَكَسَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ ( وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ ) يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الرِّيحُ مُسْتَوِيَةً لَا سَاكِنَةً وَلَا عَالِيَةً كَمَا فِي الْجَبَلِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فِي السَّيْرِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ فِي السَّهْلِ تُقْطَعُ بِمَا دُونَهَا .

قَالَ ( وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ اعْتِبَارًا بِالصَّوْمِ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ ، وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى ( وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ الْأُولَيَانِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْأُخْرَيَاتُ لَهُ نَافِلَةٌ ) اعْتِبَارًا بِالْفَجْرِ ، وَيَصِيرُ مُسِيئًا لِتَأْخِيرِ السَّلَامِ ( وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَهَا بَطَلَتْ ) ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا .

قَالَ ( وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ ) الْقَصْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ عِنْدَنَا ، وَرُبَّمَا عَبَّرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ بِالْعَزِيمَةِ وَرُخْصَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَيْ رُخْصَةُ تَرْفِيهٍ وَفَرْضُهُ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا ( وَعِنْدَهُ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ ) وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ قَالَ : هَذِهِ رُخْصَةٌ شُرِعَتْ لِلْمُسَافِرِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهَا كَمَا فِي الصَّوْمِ ( وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الصَّوْمِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ بِأَنَّ الصَّوْمَ يُقْضَى : يَعْنِي أَنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ بِلَا بَدَلٍ وَلَا إثْمٍ عَلَامَةُ كَوْنِهِ نَافِلَةً ، وَمَا ذَكَرْتُمْ تُرِكَ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } وَلَفْظُ لَا جُنَاحَ يُذْكَرُ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَدَقَةً وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْفَقِيرَ لَوْ لَمْ يَحُجَّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا إثْمٌ ، وَإِذَا حَجَّ كَانَ فَرْضًا فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتُمْ آيَةَ النَّافِلَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّصَّ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ أَمَّا الْآيَةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ } عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالْخَوْفِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِقَصْرِ ذَاتِ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهِ فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَصْرِ الْأَوْصَافِ مِنْ تَرْكِ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ ، أَوْ تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، وَعِنْدَنَا قَصْرُ الْأَوْصَافِ عِنْدَ الْخَوْفِ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ

بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ مُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَلَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ أَوْلَى وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى مَكَّةَ صَارَ مُسْتَطِيعًا فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ كَالْأَغْنِيَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَهَا ) أَيْ قَدْرَ قَعْدَةٍ التَّشَهُّدِ ( بَطَلَتْ ) صَلَاتُهُ ( لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا ) لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ رُكْنٌ وَقَدْ تَرَكَهَا قَبْلَ احْتِيَاجِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ إلَى الْقِرَاءَةِ كَاحْتِيَاجِهَا إلَى الْقَعْدَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَرَأَ الْأُخْرَيَيْنِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَكَيْفَ تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي الْأُولَى وَأَتَمَّ أَرْبَعًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ فِيهِ اخْتِلَاطُ النَّافِلَةِ بِالْفَرْضِ قَبْلَ إكْمَالِهِ ، وَفِيمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَصَارَتْ قِرَاءَتُهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةً فِي الْأُولَيَيْنِ وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَسِيرُ مُسَافِرًا بِقَصْرِ الصَّلَاةِ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ بُيُوتٌ ، لِأَنَّ السَّفَرَ ضِدُّ الْإِقَامَةِ وَالشَّيْءُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ تَعَلَّقَ ضِدُّهُ بِضِدِّهِ وَحُكْمُهُ الْإِقَامَةُ وَهُوَ الْإِتْمَامُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ تَعَلَّقَ حُكْمُ السَّفَرِ بِالْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ .

( وَإِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُيُوتَ الْمِصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا فَيَتَعَلَّقُ السَّفَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا .
وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا ( وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ

( وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ يُرِيدُ السَّفَرَ فَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَتَمَّهَا ، ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ ( لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا ) وَالْخُصُّ : بَيْتٌ مِنْ قَصَبٍ .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الِانْفِصَالِ مِنْ الْمِصْرِ فَقَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ غَلْوَةٍ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الْمِصْرِ وَهِيَ لَا تُقَامُ إلَّا فِي الْمِصْرِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ الْمِصْرِ فَكَيْفَ جَازَ الْقَصْرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَيْفَ جَازَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ إنَّمَا يُلْحَقُ فِيمَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِ أَهْلِهِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْهَا ( وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ) وَقَوْلُهُ ( أَوْ أَكْثَرَ ) زَائِدٌ ( وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ ) عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : إذْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ صَارَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ .
وَاحْتَجَّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ فَقَدْ تَرَكَ الضَّرْبَ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ عِنْدَ عَدَمِهِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا مَا دُونَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ ، وَلِلثَّانِي بِقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ أَقَامَ أَرْبَعًا أَتَمَّ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ تَرْكَ الضَّرْبِ يَحْصُلُ بِنِيَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا .
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِي الْأَرْبَعَةِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا دُونَهَا ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ خِلَافُ ذَلِكَ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَلَنَا مَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ

اعْتِبَارِ مُدَّةٍ لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ ، فَإِنَّ مُدَّةَ الطُّهْرِ تُوجِبُ إعَادَةَ مَا سَقَطَ بِالْحَيْضِ ، وَالْإِقَامَةُ تُوجِبُ إعَادَةَ مَا سَقَطَ بِالسَّفَرِ ، فَكَمَا قُدِّرَ أَدْنَى مُدَّةِ الطُّهْرِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكَذَلِكَ يُقَدَّرُ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ بِثَلَاثِ أَيَّامٍ لِكَوْنِهِمَا مُسْقِطَتَيْنِ ( وَهُوَ ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِمُدَّةِ الطُّهْرِ ( مَأْثُورٌ ) رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا دَخَلْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِك أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ ، وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ .
وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ ، وَحَاشَاهُمْ عَنْ انْحِرَافٍ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُعْتَمِدًا عَلَى السَّمَاعِ ضَرُورَةً .
لَا يُقَالُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَهَا أَوَّلًا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ وَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ ( وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ ) يَعْنِي مَا لَا يُعْقَلُ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ ( كَالْخَبَرِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ إظْهَارُ مَعْنًى بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِهِ بِالْأَثَرِ لَا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الظَّاهِرُ ) أَيْ الظَّاهِرُ مِنْ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّعَاةَ إذَا نَزَلُوا مَوْضِعًا كَثِيرَ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْكَلَأُ وَالْمَاءُ يَكْفِيهِمْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ صَارُوا مُقِيمِينَ ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ ، وَقَالُوا : نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ إنَّمَا لَا تَصِحُّ إذَا سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَتَصِحُّ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ نَقْضًا

لِلْعَارِضِ لَا ابْتِدَاءَ عِلَّةٍ ، وَإِذَا سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نَوَى كَانَتْ ابْتِدَاءَ إيجَابٍ فَلَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَكَان ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ فِي الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ .

( وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ قَصَرَ ) ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ .
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ .دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا ) وَاضِحٌ وَأَذْرَبِيجَانَ صُحِّحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ ) رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ ، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَقَامَ بِخُوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
لَا يُقَالُ : هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } عَلَى مَا مَرَّ مِنْ التَّقْرِيرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .

( وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ بِهَا قَصَرُوا وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا فِيهَا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا ) ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بَيْنَ أَنْ يُهْزَمَ فَيَقِرَّ وَبَيْنَ أَنْ يَنْهَزِمَ فَيَفِرَّ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ ( وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ ) ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ إذَا كَانَ الشَّوْكَةُ لَهُمْ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَرَارِ ظَاهِرًا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ ) حَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ نِيَّتَهُمْ لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا هُوَ مَا يَكُونُ مَحَلَّ قَرَارٍ لَيْسَ إلَّا ، وَهَذَا دَائِرٌ بَيْنَ الْقَرَارِ وَالْفِرَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ ، وَيُعَضِّدُ مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ } .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) إنَّمَا ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُكْمَهُ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ كَالْمَفَازَةِ ، بِخِلَافِ مَدِينَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهَا فِي يَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ النِّيَّةُ ( وَكَذَا إذَا حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ ) وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلنِّيَّةِ لَكِنْ ثَمَّةَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُقِيمُونَ لِغَرَضٍ ، فَإِذَا حَصَلَ انْزَعَجُوا فَلَا تَكُونُ نِيَّتُهُمْ مُسْتَقِرَّةً ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي غَيْرِ مِصْرٍ ، وَقَوْلَهُ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ بِقَيْدٍ حَتَّى لَوْ نَزَلُوا مَدِينَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحَاصَرُوهُمْ فِي الْحِصْنِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُمْ أَيْضًا لِأَنَّ مَدِينَتَهُمْ كَالْمَفَازَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُقِيمُونَ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ فِي مُحَاصَرَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ ) أَيْ بُيُوتَ الْمَدَرِ ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُذَكَّرٌ ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَخْبِيَةِ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْقَرَارِ هُوَ الْأَبْنِيَةُ دُونَ الْأَخْبِيَةِ .

( وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَأِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ ، قِيلَ لَا تَصِحُّ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ ) يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَصْلٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى( وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَإِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ ) مُخْتَلَفٌ فِيهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ( لَا تَصِحُّ ) أَبَدًا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ ) لِلْمَرْءِ ( أَصْلٌ ) وَالسَّفَرَ عَارِضٌ يَحْصُلُ عِنْدَ قَصْدِ الِانْتِقَالِ إلَى مَكَان بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُدَّةُ السَّفَرِ وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى فَكَانُوا مُقِيمِينَ أَبَدًا .

( وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ أَرْبَعًا ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ ( وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ لَمْ تُجْزِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ لِانْقِضَاءِ السَّبَبِ ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ ) بَيَّنَ هَاهُنَا حُكْمَ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَعَكْسِهِ ، وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ خُرُوجِهِ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ خُرُوجِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ فِي الْوَقْتِ ( أَتَمَّ ) صَلَاتَهُ ( أَرْبَعًا لِأَنَّهُ ) الْتَزَمَ الْمُتَابَعَةَ لِمَنْ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ ، وَمَنْ الْتَزَمَ الْمُتَابَعَةَ لِمَنْ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ ( يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ ) فَإِنْ قِيلَ : عَلَّلَ تَغَيُّرَ فَرْضِهِ بِالتَّبَعِيَّةِ بِقَوْلِهِ لِلتَّبَعِيَّةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعْلِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( الِاتِّصَالُ الْمُغَيِّرُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ ) قُلْت : ذَلِكَ تَعْلِيلٌ لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْجَامِعَ مَوْجُودٌ وَهُوَ اتِّصَالُ الْمُغَيِّرِ بِالسَّبَبِ ، فَإِنَّ الْمُغَيِّرَ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ كَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الثَّانِي هُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَقَدْ اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ ، وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ كَمَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْوَقْتِ .
وَإِنَّمَا قَالَ ( وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ ) وَلَمْ يَقُلْ وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ مَا إذَا دَخَلَ مُسَافِرٌ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ فَإِنَّهَا لَمْ تَفْسُدْ ، وَقَدْ وُجِدَ الِاقْتِدَاءُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ بِالشُّرُوعِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ فَالْتُحِقَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُقِيمِينَ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ الْإِتْمَامَ لَوَجَبَ عَلَى مُسَافِرٍ اقْتَدَى بِهِ مُقِيمٌ فَأَحْدَثَ الْمُسَافِرُ وَاسْتَخْلَفَ الْمُقِيمَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَابِعًا لِلْمُقِيمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَغَيَّرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ لِلِاقْتِدَاءِ

وَالْمُسَافِرُ كَانَ فِيهِ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا .
وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ ) نَتِيجَةُ مَا قَبْلَهُ وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ عَقْدًا لَا يُفِيدُ مُوجِبُهُ لِاسْتِلْزَامِهِ أَحَدَ الْمَحْذُورَيْنِ لِأَنَّهُ إنْ سَلَّمَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ وَهُوَ مُفْسِدٌ ، وَإِنْ أَتَمَّ أَرْبَعًا خَلَطَ النَّفَلَ بِالْمَكْتُوبَةِ قَصْدًا ، وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ( فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ ) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ( أَوْ الْقِرَاءَةِ ) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، وَكَلِمَةُ أَوْ لِعِنَادِ الْخُلُوِّ دُونَ مَانِعَةِ الْجَمْعِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُفْسِدٌ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَقَضَاهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، لِكَوْنِ الْقَعْدَةِ وَالْقِرَاءَةِ فَرْضَيْنِ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا كَالْمُقْتَدِي وَالثَّانِي أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فِي الشَّفِيعِ الثَّانِي جَائِزٌ مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُفْتَرِضِ نَفْلٌ ، وَعَلَى الْمُتَنَفِّلِ فَرْضٌ فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِض بِالْمُتَنَفِّلِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يُلْتَحَقُ بِمَحَلِّ الْأَدَاءِ فَيَبْقَى الشَّفْعُ الثَّانِي خَالِيًا عَنْ الْقِرَاءَةِ فَكَانَ بِنَاءَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَنَفِّلِ أَخَذَتْ حُكْمَ الْفَرْضِ تَبَعًا لِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْمُتَنَفِّلُ صَلَاتَهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا أَرْبَعًا ، وَإِنْ اقْتَدَى الْمُقِيمُونَ بِمُسَافِرٍ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ لِأَنَّ

الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، وَقَدْ أَدَّى مَا الْتَزَمَ وَلَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا يُتِمُّونَ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ فِيهِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُمْ سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَهَوْا فِيهِ فَأَشْبَهُوا الْمَسْبُوقِينَ .
وَوَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابٍ أَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةُ لَا فِعْلًا .
يَعْنِي فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، أَمَّا أَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مَعَهُ فِي أَوَّلِ التَّحْرِيمَةِ ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَدٍ فِعْلًا فَلِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ قَدْ فَرَغَ بِالسَّلَامِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَاحِقٌ ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا تَحْرِيمَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ .
وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُقْتَدٍ فِعْلًا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ صَارَ مُؤَدِّيًا فَدَارَتْ قِرَاءَتُهُ بَيْنَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَمُسْتَحَبًّا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي التَّرْكِ تَرْجِيحًا لِلْمُحْرِمِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ نَافِلَةٍ ، يَعْنِي فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا كَانَتْ بِدْعَةً ، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا كَانَتْ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَدَّ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فَكَانَتْ عَلَيْهِ وَاجِبَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً كَيْفَ قَالَ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَوِيَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى التُّرْكِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوُجُوبِ وَزِيَادَةٌ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
وَقِيلَ ذَكَرَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْمُقِيمِينَ بَعْدَ فَرَاغِ إمَامِهِمْ الْمُسَافِرِ لَا بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ ، وَقِيلَ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ

فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا وَمُرَادُهُ أَنَّ جَعْلَهُ مُنْفَرِدًا لِتَجِبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ لَوْ تَرَكَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُقْتَدِيًا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ جَعْلُهُ مُنْفَرِدًا .

( وَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ ) لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةً لَا فِعْلًا وَالْفَرْضُ صَارَ مُؤَدًّى فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةً نَافِلَةً فَلَمْ يَتَأَدَّ الْفَرْضُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى ، قَالَ : ( وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذْ سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ حِينَ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ

( وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ) أَيْ مُسَافِرُونَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ بِكَوْنِهِ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُمْ إنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَقَوْلُهُ هَذَا عَبَثٌ ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُقِيمٌ كَانَ كَاذِبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مُقِيمٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ .
وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَوْا أَمْرَ الْإِمَامِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْإِقَامَةِ ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقِيمٍ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَأَمَّا إذَا عَلِمُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ وَقْتَ الِاقْتِدَاءِ ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ يُعْلَمُ حَالُهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ وَاجِبًا عَلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ إصْلَاحَ صَلَاةِ الْقَوْمِ يَحْصُلُ بِهِ ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ فَكَيْفَ قَالَ وَيُسْتَحَبُّ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ إصْلَاحَ صَلَاتِهِمْ لَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَلْبَتَّةَ بَلْ إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَعَلِمَ عَدَمَ سَهْوِهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةَ إعْلَامٍ بِأَنَّهُ مُسَافِرٌ وَإِزَالَةً لِلتُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَاقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَهُ حِينَ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَكَانَ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا لَا وَاجِبًا .

( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي مِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ وَيَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ .قَالَ ( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ مِصْرَهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ) مَعْنَاهُ : إذَا اسْتَكْمَلَ الْمُسَافِرُ بِسَيْرِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ دَخَلَ وَطَنَهُ الْأَصْلِيَّ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَزْمَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ ، وَلَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ يَقُومُ مَقَامَهُ ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ الْعَائِدِ إلَى وَطَنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي عَزْمِهِ الْمَقَامُ فِيهِ ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ عَزْمٌ جَدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُهُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَعْقُولِ أَظْهَرُ وَهُوَ أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِصَيْرُورَةِ الْمُسَافِرِ مُقِيمًا فِي مِصْرِ غَيْرِهِ لِأَنَّ مُكْثَهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلسَّيْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِقَامَةِ فَاحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ ، فَأَمَّا فِي مِصْرِهِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِقَامَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ السَّيْرِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الْمُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عَلَى الدُّخُولِ فِي مِصْرِهِ يَصِيرُ مُقِيمًا وَتَتِمُّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ رَفْضُ الْإِيجَابِ لَا ابْتِدَاؤُهُ .

( وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ ثُمَّ سَافَرَ وَدَخَلَ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ قَصَرَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَطَنًا لَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ دُونَ السَّفَرِ ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِالسَّفَرِ وَبِالْأَصْلِيِّ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ مِنْهُ ) اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ قَسَمُوا الْأَوْطَانَ عَلَى ثَلَاثَةٍ : وَطَنٍ أَصْلِيٍّ وَهُوَ مَوْلِدُ الرَّجُلِ أَوْ الْبَلَدُ الَّذِي تَأَهَّلَ فِيهِ .
وَوَطَنِ إقَامَةٍ وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِرُ فِيهِ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَيُسَمَّى وَطَنَ سَفَرٍ أَيْضًا .
وَوَطَنِ السُّكْنَى وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِرُ فِيهِ الْإِقَامَةَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَسَمُوا الْوَطَنَ إلَى الْأَصْلِيِّ وَوَطَنِ الْإِقَامَةِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا وَطَنَ السُّكْنَى وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الْإِقَامَةُ بَلْ حُكْمُ السَّفَرِ فِيهِ بَاقٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ دُونَ وَطَنِ الْإِقَامَةِ ، وَإِنْشَاءُ السَّفَرِ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ قَاصِدًا مَكَانًا يَصِلُ إلَيْهِ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا فَوْقَهُ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ وَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ فَيَبْطُلُ بِمَا يُسَاوِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَقَالَ { أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَأَمَّا وَطَنُ الْإِقَامَةِ فَلَهُ مَا يُسَاوِيهِ وَمَا هُوَ فَوْقَهُ فَيَبْطُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَبِإِنْشَاءِ السَّفَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ ضِدُّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ ضِدٌّ لِلْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ أَيْضًا فَلَمْ لَمْ يُبْطِلْهُ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْهُ بِالْأَثَرِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْغَزَوَاتِ وَلَمْ يُنْتَقَضْ وَطَنُهُ بِالْمَدِينَةِ } حَيْثُ لَمْ يُجَدِّدْ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ .

( وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ ) ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُعَرَّى عَنْهُ إلَّا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيْلِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِيرَ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ .نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ ) يَعْنِي إلَى عَشْرَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ ( وَهُوَ ) أَيْ اعْتِبَارُهَا فِي مَوَاضِعَ ( مُمْتَنِعٌ ) لِأَنَّ إقَامَتَهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَكُونُ بِنُزُولِهِ وَتَرْوِيحِ دَابَّتِهِ ، وَالسَّفَرُ لَا يَعْرَى عَنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَيَكُونُ كُلُّ مُسَافِرٍ مُقِيمًا إنْ نَوَى ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّوَازِمِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا نَوَى ) مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ ) ظَاهِرٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّوقِيَّ إذَا قِيلَ لَهُ أَيْنَ تَسْكُنُ يَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَنَهَارُهُ كُلُّهُ فِي السُّوقِ .

( وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا ) ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ .

وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ ) يَعْنِي عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ؛ فَفِي آخِرِ الْوَقْتِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَضَى رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُقِيمًا ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَضَى أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ مُسَافِرًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْقَضَاءِ وَإِذَا فَاتَتْ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبًا لِمَا عُرِفَ لَا الْجُزْءُ الْأَخِيرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ يُقَرِّرُونَ السَّبَبِيَّةَ عَلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ .
وَأَقُولُ : الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ الْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ : يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَرْبَعٍ قَضَى أَرْبَعًا ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ قَضَى رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّبَبِيَّةِ لِلْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْوَقْتِ ، وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَبِهِ يَتِمُّ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ .
وَأَمَّا أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْفَوْتِ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي عَدَمِ جَوَازِ قَضَاءِ الْعَصْرِ الْفَائِتِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْتَ الِاحْمِرَارِ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مُرَادِ الْمُصَنِّفِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ فَتَأَمَّلْهُ يُغْنِيك عَنْ التَّطْوِيلِ .
وَنُوقِضَ قَوْلُهُمْ الْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ بِمَا إذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ ثُمَّ أَفْسَدَ الْإِمَامُ أَوْ الْمُقْتَدِي صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ السَّفَرِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الْأَرْبَعُ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِفْسَادِ فَعَادَ إلَى أَصْلِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الِاقْتِدَاءَ فِي

الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ فَكَذَا هَاهُنَا .

( وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ تَخْفِيفًا فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ ، وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ ، وَلِأَنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فَصَلُحَ مُتَعَلَّقُ الرُّخْصَةِ .
.

وَقَوْلُهُ ( وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ ) السَّفَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : سَفَرُ طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ ، وَسَفَرٌ مُبَاحٌ كَالتِّجَارَةِ ، وَسَفَرُ مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْإِبَاقِ عَنْ الْمَوْلَى وَحَجِّ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ .
وَالْأَوَّلَانِ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
قَالَ : لِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي خِلَافَهُ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ ( وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ } وَقَالَ { يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا } وَالْكُلُّ كَمَا تَرَى مُطْلَقٌ ، فَزِيَادَةُ قَيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا نُسِخَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَلِأَنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ) إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ مَدِيدٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ ( وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ ) كَمَا فِي السَّرِقَةِ ( أَوْ مُجَاوِرِهِ ) كَمَا فِي الْإِبَاقِ ( فَصُلْحٌ ) مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ ( مُتَعَلِّقُ الرُّخْصَةِ ) لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ عَمَّا يُجَاوِرُهُ كَمَا إذَا غَصَبَ خُفًّا وَلَبِسَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَتْرُ قَدَمَيْهِ ، وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُجَاوِرِهِ وَهُوَ صِفَةُ كَوْنِهِ مَغْصُوبًا ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .

( بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ) : ( لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ ، أَوْ فِي مُصَلَّى الْمِصْرِ ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْقُرَى ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ } وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ : كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ .
وَيُقِيمُ الْحُدُودَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الثَّلْجِيِّ ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُصَلِّي بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ .

بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ : تَنَاسُبُ هَذَا الْبَابِ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُنَصَّفُ بِوَاسِطَةٍ الْأَوَّلُ بِوَاسِطَةِ السَّفَرِ ، وَالثَّانِي بِوَاسِطَةِ الْخُطْبَةِ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ شَامِلٌ فِي كُلِّ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ، وَالثَّانِي خَاصٌّ فِي الظُّهْرِ ، وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَعْدَ الْعُمُومِ ، وَالْجُمُعَةُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ كَالْفُرْقَةِ مِنْ الِافْتِرَاقِ ، وَالْمِيمُ سَاكِنٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْقُرَّاءُ تَضُمُّهَا .
وَهِيَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْجُمُعَةِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، وَإِذَا كَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا إلَيْهَا فَإِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْجُمُعَةُ أَوْلَى ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْمُبَاحِ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِأَمْرٍ وَاجِبٍ مُقْتَضِي الْحِكْمَةِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا ، فَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ أَلَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَلَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ ، أَلَا فَلَا زَكَاةَ لَهُ ، أَلَا فَلَا صَوْمَ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } " وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ الظُّهْرِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ ، وَالظُّهْرُ فَرِيضَةٌ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرِيضَةِ إلَّا لِفَرْضٍ هُوَ آكَدُ مِنْهُ .
وَلَهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ عَلَى شُرُوطِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، فَمِنْهَا مَا هُوَ فِي

الْمُصَلِّي كَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْإِقَامَةِ وَالصِّحَّةِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلَيْنِ وَالْبَصَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي غَيْرِهِ كَالْمِصْرِ الْجَامِعِ وَالسُّلْطَانِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَالْوَقْتِ وَالْإِظْهَارِ ، حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ لَوْ أَغْلَقَ بَابَ الْمِصْرِ وَجَمَعَ فِيهِ بِحَشَمِهِ وَخَدَمِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ لَمْ يُجْزِهِ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ .
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ ) هَذَا بَيَانُ شُرُوطٍ لَيْسَتْ فِي نَفْسِ الْمُصَلِّي وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَعَرَّفَ الْمِصْرَ الْجَامِعَ بِقَوْلِهِ ( كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ ) وَالْمُرَادُ بِالْأَمِيرِ وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ ، وَإِنَّمَا قَالَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ بَعْدَ قَوْلِهِ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ إقَامَةَ الْحُدُودِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ قَاضِيَةً تُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَلَيْسَ لَهَا إقَامَةُ الْحُدُودِ وَكَذَاك الْمُحَكَّمُ ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ عَنْ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ ، فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا ) أَيْ اجْتَمَعَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ لَا كُلُّ مَنْ يَسْكُنُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ عَادَةً .
قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ : أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إذَا كَانَ أَهْلُهَا بِحَيْثُ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ وَهَذَا الِاحْتِيَاجُ غَالِبٌ عِنْدَ اجْتِمَاعِ مَنْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالثَّانِي اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيِّ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ

وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ يَسْكُنُهُ عَشْرَةُ آلَافِ نَفَرٍ فَكَانَ عَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ ) يَعْنِي جَوَازَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ فِي الْمُصَلَّى ( بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ لِأَنَّهَا ) أَيْ الْأَفْنِيَةَ ( بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ ) وَيُعْرَفُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ تَعْرِيفُ الْفِنَاءِ ، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِحَوَائِجِ أَهْلِ الْمِصْرِ ، وَفِنَاءُ الدَّارِ وَفِنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ كَذَلِكَ .
وَقَدَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِنَاءَ الْمِصْرِ بِالْغَلْوَةِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمِصْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا فِنَاؤُهُ ، بَلْ كُلُّ قَرْيَةٍ يَسْكُنُهَا أَرْبَعُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ مَا جُمِعَتْ بِجُوَاثَا ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَامِرِ بْنِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ ، وَكَتَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُوَاثَا فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ جَمِّعْ بِهَا وَحَيْثُمَا كُنْت وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ } " يَنْفِي إقَامَتَهَا فِي الْقُرَى ، وَالصَّحَابَةُ حِينَ فَتَحُوا الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى مَا اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَبِنَاءِ الْجَوَامِعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ ، وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَهُ لِأَنَّ الْمَكَانَ مُضْمَرٌ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا تَجُوزَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْبَوَادِي بِالْإِجْمَاعِ ، فَنَحْنُ نُضْمِرُ الْمِصْرَ وَهُوَ يُضْمِرُ الْقَرْيَةَ ، وَجُوَاثَا مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ ، وَتَسْمِيَةُ الرَّاوِي قَرْيَةً لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَلْدَةِ

( وَتَجُوزُ بِمِنًى إذَا كَانَ الْأَمِيرُ أَمِيرَ الْحِجَازِ ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا عِنْدَهُمَا .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا جُمُعَةَ بِمِنًى ) ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرَى حَتَّى لَا يُعِيدَ بِهَا .
وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَدَمُ التَّعْيِيدِ لِلتَّخْفِيفِ ، وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهَا قَضَاءٌ وَبِمِنًى أَبْنِيَةٌ .
وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ الْحِجَازِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا ، أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَجِّ لَا غَيْرُ .

وَقَوْلُهُ ( وَتَجُوزُ ) يَعْنِي إقَامَةَ الْجُمُعَةِ ( بِمِنًى إنْ كَانَ الْإِمَامُ أَمِيرَ الْحِجَازِ أَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ مُسَافِرًا ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا كَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى .
وَإِمَّا لِنَفْيِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ كَانَ مُسَافِرًا لَا يُقِيمُ الْجُمُعَةَ ، كَمَا إذَا كَانَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ مُسَافِرًا .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَوْ السُّلْطَانَ إذَا طَافَ فِي وِلَايَتِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَكُونُ فِيهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ إمَامَةَ غَيْرِهِ إنَّمَا تَجُوزُ بِأَمْرِهِ ، فَإِمَامَتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا ) يَعْنِي مِنًى عَلَى تَأْوِيلِ الْقَرْيَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لِأَنَّهَا قَرْيَةٌ ( مِنْ الْقُرَى ) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِصْرٍ وَلَا مِنْ فِنَائِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الْغَلْوَةِ وَلِهَذَا لَا يُعِيدُ بِهَا ) فَلَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ ( وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ ) لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْمِصْرِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَسْوَاقِ ( وَعَدَمِ التَّعْيِيدِ ) أَيْ عَدَمُ إقَامَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِلتَّخْفِيفِ لِاشْتِغَالِ الْحَاجِّ بِأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مِنْ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِعَدَمِ الْمِصْرِيَّةِ ( وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) وَالْفَرْقُ أَنَّ عَرَفَاتٍ فَضَاءٌ وَمِنًى فِيهِ أَبْنِيَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَاجِّ لَا غَيْرُ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنْ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِمِنًى لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ حِينَئِذٍ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُقِيمُهَا وَإِنْ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْسِمِ خَاصَّةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا لَا يُقِيمُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا .

( وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ ) لِأَنَّهَا تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمِ ، وَقَدْ تَقَعُ فِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ ) أَيْ لِلْوَالِي الَّذِي لَا وَالِيَ فَوْقَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ ( أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ ) وَهُوَ الْأَمِيرُ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْخُطَبَاءُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ مَحْصُورًا بِالْمَدِينَةِ صَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صَلَّى بِأَمْرِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ الْأَمَدُ بِيَدِهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ ) لِكَوْنِهَا جَامِعَ الْجَمَاعَاتِ ( وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ ) بِأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ أَنَا أَتَقَدَّمُ وَغَيْرُهُ يَقُولُ أَنَا أَتَقَدَّمُ ( وَ ) فِي ( التَّقْدِيمِ ) بِأَنْ يُقَدِّمَ طَائِفَةٌ شَخْصًا وَأُخْرَى آخَرَ ( وَقَدْ يَقَعُ فِي غَيْرِهِ ) أَيْ فِي غَيْرِ أَمْرِ التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمُ مِنْ أَدَاءِ مَنْ يَسْبِقُ إلَى الْجَامِعِ وَالْأَدَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ ( فَلَا بُدَّ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ مِنْ أَمْرِهِ ( تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ ) وَأَثَرُ عَلِيٍّ لَيْسَ بِحُجَّةِ الْجَوَازِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ إنَّمَا فَعَلَ لِأَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ فَاعْتُبِرَ اجْتِمَاعُهُمْ .

( وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْوَقْتُ فَتَصِحُّ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ } ( وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيه عَلَيْهَا ) لِاخْتِلَافِهِمَا .قَالَ ( وَمِنْ شَرَائِطِهَا ) أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ ( الْوَقْتُ ) وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ ( فَتَصِحُّ فِيهِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ قَالَ لَهُ : إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ } " ( وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا ) أَيْ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ( اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيهِ عَلَيْهَا لِاخْتِلَافِهِمَا ) أَيْ لِاخْتِلَافِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ تَخْيِيرِ الْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْجُمُعَةِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَوْ الْجُمُعَةَ مَعَ تَعَيُّنِ الرِّفْقِ فِي الْجُمُعَةِ بِالْقِلَّةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ لَمَا خُيِّرَ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِحَيْثُ يَجِبُ الْأَقَلُّ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ الْأَرْشِ أَوْ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ ، وَبِنَاءُ فَرْضٍ عَلَى تَحْرِيمَةِ فَرْضٌ آخَرُ لَا يَصِحُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ .

( وَمِنْهَا الْخُطْبَةُ ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّاهَا بِدُونِ الْخُطْبَةِ فِي عُمُرِهِ ( وَهِيَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الزَّوَالِ ) بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ ( وَيُخْطَبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ ) بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ ( وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهِمَا مُتَوَارَثٌ ، ثُمَّ هِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالْأَذَانِ ( وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ ( فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً ) ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ ، وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ .
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتِجَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ وَصَلَّى .

وَقَوْلُهُ ( وَمِنْهَا ) مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ ( الْخُطْبَةُ ) وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُخْطَبُ بِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرْطًا { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّاهَا فِي عُمُرِهِ بِدُونِ الْخُطْبَةِ } وَفِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَأَنْ يُقَالَ : الْخُطْبَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ رُكْنًا وَلَا تَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَذَلِكَ رُكْنٌ ، فَكَذَلِكَ مَا قَامَ مَقَامَهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِلَا طَهَارَةٍ وَلِأَنَّهَا لَمْ يُشْتَرَطْ قِيَامُهَا حَالَةَ الْأَدَاءِ ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَكَانَ يُرَاعَى قِيَامُهَا حَالَةَ الْأَدَاءِ كَمَا اُشْتُرِطَ قِيَامُ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا كَانَتْ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ لَازِمٌ لَهُ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ وُجُودِهِ ، وَالدَّوَامُ لَا يَسْتَلْزِمُ الضَّرُورَةَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً بِدُونِ سُنَنِهَا كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَحْرِيمَةٍ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ لَا تَقُومُ بِالْخُطْبَةِ وَإِنَّمَا تَقُومُ بِأَرْكَانِهَا فَكَانَتْ شَرْطًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا } فَتَكُونُ وَاجِبَةً وَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ لَمْ يَقَعْ لَهَا بَلْ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ حَيْثُ قَالَ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } وَلَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَكَانَ النِّدَاءُ لَهَا أَوْ لَهُمَا إنْ كَانَتَا مَقْصُودَتَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا وَهِيَ فَرْضٌ كَانَتْ شَرْطًا لِغَيْرِهَا .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَكَانَ يُرَاعَى قِرَاءَةُ الْخُطْبَةِ حَالَ الْأَدَاءِ .
قُلْنَا : الشَّرْطُ وُجُودُهَا لَا وُجُودُهَا

حَالَ الْأَدَاءِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّوَامَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الضَّرُورَةَ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ شَطْرَ الظُّهْرِ تَرْكٌ لِلْخُطْبَةِ وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ لِغَيْرِ الْفَرْضِ فَكَانَتْ فَرْضًا ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا لِذَاتِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَكَانَ لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ فَكَانَ شَرْطًا ( وَهِيَ ) أَيْ الْخُطْبَةُ ( قَبْلَ الصَّلَاةِ بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ ) وَشَرْطِيَّتُهَا أَيْضًا تَقْتَضِي ذَلِكَ ( وَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ ) مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : مِقْدَارُ مَا يَمَسُّ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ ( بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ ) وَلَفْظُ التَّوَارُثِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ ذِي شَرَفٍ ، وَقِيلَ هُوَ حِكَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ ، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا إنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِرَاحَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا شَرْطٌ حَتَّى لَا يُكْتَفَى عِنْدَهُ بِالْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ طَالَتْ لِلتَّوَارُثِ وَلَنَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَةً وَاحِدَةً ، فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً } " وَفِيهِ كَمَا تَرَى دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ ( وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهَا مُتَوَارَثٌ ) رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا ، قَالَ : أَلَسْت تَتْلُو قَوْله تَعَالَى { وَتَرَكُوك قَائِمًا } كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ النَّاسُ بِدُخُولِ الْعِيرِ الْمَدِينَةَ .
وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ فِي آخِرِ عُمُرِهِ

.
وَقَوْلُهُ ( فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ ) يَعْنِي عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ جَمِيعًا كَالْأَذَانِ .
وَوَجْهُ الشَّبَهِ بِهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ ذُكِرَ لَهَا شَبَهٌ بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَتُقَامُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ أَيْضًا ذُكِرَ لَهُ شَبَهٌ بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دُعَاءٌ لَهَا وَتُقَامُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ .
قِيلَ فِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ غَلَطٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَالْأَذَانِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ لَا بِقَوْلِهِ وَهِيَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ ( وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ الذِّكْرُ وَالْوَعْظُ .
وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ .
وَالشَّافِعِيُّ وَحْدَهُ إذَا خَطَبَ قَاعِدًا .
لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا فِي الْأَثَرِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا : إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ ، فَكَمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ تُشْتَرَطُ فِيهَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الثَّانِي أَنَّ الْخُطْبَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا ذِكْرٌ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مَا خَلَا الْقُرْآنَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ ، وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الثَّوَابِ كَشَرْطِ الصَّلَاةِ لَا فِي شَرَائِطِهَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ خَطَبَ قَاعِدًا .
وَقَوْلُهُ ( لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُعِيدُهَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ .
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تُعَادَ اسْتِحْبَابًا كَإِعَادَةِ أَذَانِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ

اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَازَ ) يَعْنِي إذَا ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ لِعُطَاسٍ أَوْ تَعَجُّبٍ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَقَالَا : لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً ) وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ ، وَقِيلَ مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ مِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ ( لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ ( وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ أَوْ التَّهْلِيلَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ ) تَشْتَمِلُ الْأُولَى عَلَى التَّحْمِيدَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَقِرَاءَةِ آيَةٍ ، وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ إلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ الْآيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( اعْتِبَارًا لِلتَّوَارُثِ ) فَإِنَّهُ جَرَى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا الذِّكْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا نَسْخٌ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ أَوَّلَ جُمُعَةٍ وَلِيَ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ : أَيْ أُغْلِقَ فَنَزَلَ وَصَلَّى وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ كَافٍ .

( وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ ) ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا ( وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ ، وَقَالَا : اثْنَانِ سِوَاهُ ) قَالَ : وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ .
لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ هِيَ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ تَسْمِيَةٍ وَمَعْنًى ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَكَذَا الْإِمَامُ فَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمْ .

قَالَ ( وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ ) الْجَمَاعَةُ شَرْطُ الْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْعَدَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا اثْنَانِ سِوَاهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ .
لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ ) لِأَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ وَاحِدٍ بِآخَرَ وَالْجُمُعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ ، وَفِي الْجَمَاعَةِ اجْتِمَاعٌ لَا مَحَالَةَ ( وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاجْتِمَاعِ ، لَكِنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ لِلْجَمْعِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الثَّلَاثُ ( قَوْلُهُ جَمْعًا تَسْمِيَةً وَمَعْنًى ) فَإِنْ قِيلَ : فَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِمَامِ ثَلَاثَةً ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ : وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِمَامُ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا } يَقْتَضِي ثَلَاثَةً ، وَقَوْلُهُ { إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يَقْتَضِي ذَاكِرًا فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ .
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِمَّنْ يَصْلُحُ إمَامًا ، حَتَّى إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تَتِمُّ بِهِمْ لِصَلَاحِيَّتِهِمْ لِلْإِمَامَةِ ، وَكَمَا نَفَى الْآيَةُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ نَفَى اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِينَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ .

( وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَيَسْجُدَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إذَا نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ صَلَّى الْجُمُعَةَ ، فَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا رَكَعَ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَةً بَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَهُوَ يَقُولُ : إنَّهَا شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا كَالْوَقْتِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْعِقَادَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِتَمَامِ الرَّكْعَةِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهَا تُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ ، وَكَذَا الصِّبْيَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَلَا تَتِمُّ بِهِمْ الْجَمَاعَةُ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ ) اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ شُرُوعِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِلَا خِلَافٍ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ ، وَإِنْ نَفَرُوا بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَنَى عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّهَا شَرْطُ الْأَدَاءِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْهُمْ مُقَارِنًا لِتَحْرِيمِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلِانْعِقَادِ لِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ فَكَانَتْ كَالْوَقْتِ ، وَدَوَامُهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ ، فَكَذَا دَوَامُهَا ، وَلَمْ يُوجَدْ إذَا نَفَرُوا بَعْدَ السُّجُودِ .
وَلَهُمَا أَنَّهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهَا كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ وَاللَّاحِقِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ ، فَإِنَّ دَوَامَهَا إلَى تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ غَيْرُ شَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ نَعَمْ هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ كَمَا ذَكَرْتُمْ ، وَالِانْعِقَادُ إنَّمَا هُوَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَمَامِ الرَّكْعَةِ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا : أَيْ مِنْ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى الرَّكْعَةِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ : أَيْ إلَى تَمَّامِ الرَّكْعَةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا الْجَمَاعَةَ بِهَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخُطْبَةَ تُنَافِي الصَّلَاةَ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَخْطُبُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْطُبَ فِي صَلَاةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ ) ظَاهِرٌ .

( وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا أَعْمَى ) ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَخْرُجُ فِي الْحُضُورِ ، وَكَذَا الْمَرِيضُ وَالْأَعْمَى ، وَالْعَبْدُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى ، وَالْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ فَعُذِرُوا دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ ( فَإِنْ حَضَرُوا وَصَلَّوْا مَعَ النَّاسِ أَجْزَأَهُمْ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ ) ؛ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ فَصَارُوا كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ ) يَعْنِي الْحَرَجَ ، مَعْنَاهُ أَنَّ السُّقُوطَ فَرْضُ السَّعْيِ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ بَلْ لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ ، فَإِذَا تَحَمَّلُوا اُلْتُحِقُوا فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ وَصَارُوا كَمُسَافِرٍ صَامَ

( وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمُعَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةٌ ، فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ فَيَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ ) يَعْنِي فِي أَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ أَمَّ الصَّبِيُّ فِيهَا لَمْ يُجْزِهِ ، فَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُ ( وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ ) أَيْ سُقُوطَ الْجُمُعَةِ عَنْهُمْ ، وَأَنَّثَ الْإِشَارَةَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ ( رُخْصَةٌ ) لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُهُمْ ، إلَّا أَنَّهُمْ عُذِرُوا دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ ( فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ ، وَإِذَا تَحَمَّلُوهُ يَقَعُ فَرْضًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهُمْ لَكَانَ مَا فَرَضْنَاهُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ حَرَجًا وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ فَلَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ ) أَيْ بِالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ ( الْجُمُعَةُ ) إشَارَةً إلَى رَدِّ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ هَؤُلَاءِ تَصِحُّ إمَامَتُهُمْ ، لَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ ، فَلَأَنْ يَصْلُحُوا لِلِاقْتِدَاءِ أَوْلَى .

( وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً .
وَالظُّهْرُ كَالْبَدَلِ عَنْهَا ، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ إلَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ ، وَعَلَى التَّمَكُّنِ يَدُورُ التَّكْلِيفُ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً ) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا مَنْهِيٌّ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا صُورَةُ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ ، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ فَوَاتَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ عَنْ الصَّلَاةِ وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ ( وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضُ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً ) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ .
وَالْمُكَلَّفُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُتَمَكِّنٌ بِنَفْسِهِ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْجُمُعَةِ تَكْلِيفًا بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ مَكْرُوهًا .
وَقَوْلُهُ ( هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ) تَلْوِيحٌ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ الْجُمُعَةُ وَلَهُ إسْقَاطُهَا بِالظُّهْرِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .

( فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا وَالْإِمَامُ فِيهَا بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ ، وَقَالَ : لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ ) ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ فَلَا يَنْقُصُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ ، وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهَا فَيُنْقِصُهَا وَصَارَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ .
وَلَهُ أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا فِي حَقِّ ارْتِفَاعِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَعْيٍ إلَيْهَا .

وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ بَدَا لَهُ ) أَيْ بَدَا لِمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ( أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ وَالْإِمَامُ فِيهَا ) فَإِمَّا أَنْ يُدْرِكَ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ لَا ، فَإِنْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ اُنْتُقِضَ ظُهْرُهُ وَانْقَلَبَ نَفْلًا ، وَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ( بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ ، وَقَالَ : لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْقَوْمِ ) وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ إشَارَةِ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْإِتْمَامَ مَعَ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِنَقْضِ الظُّهْرِ عِنْدَهُمَا بَلْ الدُّخُولُ كَافٍ ، وَإِذَا كَانَ بِالدُّخُولِ يُنْتَقَضُ فَبِالْإِتْمَامِ أَوْلَى ( لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ ) إذْ هُوَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، وَالظُّهْرُ فَرْضٌ مَقْصُودٌ وَمَا هُوَ دُونَ الشَّيْءِ ( لَا يَنْقُضُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهُ ) لِأَنَّا أُمِرْنَا بِإِسْقَاطِهِ بِهَا فَجَازَ أَنْ تَنْقُضَهُ ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ الظُّهْرَ فِي الْكِتَابِ بِتَأْوِيلِ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّوَجُّهُ نَاقِصًا لِضَعْفِهِ كَانَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّعْيَ ) وَهُوَ الْمَشْيُ لَا مُسْرِعًا ( إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِهَا ) لِكَوْنِهَا صَلَاةً مَخْصُوصَةً بِمَكَانٍ لَا تُمْكِنُ الْإِقَامَةُ إلَّا بِالسَّعْيِ إلَيْهَا فَكَانَ السَّعْيُ مَخْصُوصًا بِهَا ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ أَدَاءَهَا صَحِيحٌ فِي كُلِّ مَكَان ، وَإِذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِهَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا بِجَامِعِ الِاخْتِصَاصِ فَيُؤَثِّرُ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا ، إذْ الْأَقْوَى يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ مَا لَا يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِ الْأَضْعَفِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ السَّعْيَ الْمُوصِلَ إلَى الْجُمُعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَهَذَا السَّعْيُ لَيْسَ بِمُوصِلٍ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ

ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ فَلَا يَرْفُضُ الْقَوِيَّ .
سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنَّ الظُّهْرَ إنَّمَا يَبْطُلُ فِي ضِمْنِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ نَقْضَ الْعِبَادَةِ قَصْدُ إحْرَامٍ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُنْتَقَضْ .
سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَسْأَلَةِ الْقَارِنِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لَهَا ، وَلَوْ سَعَى إلَى عَرَفَاتٍ لَا يَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ دَارَ مَعَ الْإِمْكَانِ لِكَوْنِ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْإِدْرَاكُ مُمْكِنٌ بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهَا صَارَ قَوِيًّا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ صَارَ الْإِبْطَالُ فِي ضِمْنِهِ كَالْإِبْطَالِ فِي ضِمْنِهَا ، وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّهُ لَا نَقْضَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمَا : أَيْ الْعُمْرَةَ وَالْجُمُعَةَ سَوَاءٌ فِي الِارْتِفَاضِ فِيهِ ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا تُرْتَفَضُ الْعُمْرَةُ لِكَوْنِ السَّعْيِ فِيهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَضَعُفَ فِي نَفْسِهِ ، وَالسَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ فَكَانَ فِي نَفْسِهِ قَوِيًّا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْقَوِيِّ إبْطَالُ الضَّعِيفِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا وَهُوَ وَاضِحٌ .

( وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ ، وَكَذَا أَهْلُ السِّجْنِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالْجُمُعَةِ إذْ هِيَ جَامِعَةٌ لِلْجَمَاعَاتِ ، وَالْمَعْذُورُ قَدْ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ السَّوَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ ( وَلَوْ صَلَّى قَوْمٌ أَجْزَأَهُمْ ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ إلَخْ ) ظَاهِرٌ

( وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى مَعَهُ مَا أَدْرَكَهُ ) وَبَنَى عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } ( وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ ) ؛ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّهِ ، فَيُصَلِّي أَرْبَعًا اعْتِبَارًا لِلظُّهْرِ وَيَقْعُدُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْجُمُعَةِ ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَشْتَرِطَ نِيَّةَ الْجُمُعَةِ ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْآخَرِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ) إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَاكِعًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ مَا فَاتَكُمْ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ " { مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا } " فَإِنَّ مَعْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَاَلَّذِي فَاتَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ هُوَ الْجُمُعَةُ فَيُصَلِّي الْمَأْمُومُ الْجُمُعَةَ ( وَكَذَا إنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ ) وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ ( ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ ) وَهُوَ الْجَمَاعَةُ فَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ ظُهْرًا يُصَلِّي أَرْبَعًا وَيَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ جُمُعَةً يُقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النُّفَايَةِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ إعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةِ الْجُمُعَةِ ، حَتَّى لَوْ نَوَى غَيْرَهَا لَمْ يُصْبِحْ اقْتِدَاؤُهُ ، وَمُدْرِكُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْنِي إلَّا عَلَى الْجُمُعَةِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ إعْمَالِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَانِ فَكَيْفَ يُصْبِحُ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى .
وَعُورِضَ بِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَجْوِيزَ الْجُمُعَةِ مَعَ عَدَمِ شَرْطِهَا ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُودَهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ جُعِلَ وُجُودًا

فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ ، وَالْقَوْلُ بِمَا يُوجَدُ بِحَالٍ أَوْلَى مِنْهُ بِمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اسْتَدَلَّ لَهُمَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ أَقْوَى فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُمَا إلَخْ ؟ قُلْت : لَا تَنَافِي فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ، أَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ أَكْثَرَ ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال لَهُمَا فَقَطْ بَلْ لَهُمْ جَمِيعًا ، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ الثَّانِي لَهُمَا أَيْضًا لَا يُنَافِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى ، وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا } " وَهَذَا كَمَا تَرَى نَصَّ عَلَى مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ ، فَمَا وَجْهُ تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِمُحَمَّدٍ ؟ قُلْت : ضَعَّفَهُ فَإِنَّهُ مَا رَوَاهُ إلَّا ضُعَفَاءُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ ، وَأَمَّا الثِّقَاتُ مِنْهُمْ كَعُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ فَقَدْ رَوَوْا عَنْهُ " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا } " وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَا دُونَهَا فَحُكْمُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا } " الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فَأَخَذَا بِهِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا .

( وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ وَإِذَا نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ وَلَا اسْتِمَاعَ هُنَا ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَمْتَدُّ طَبْعًا فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ) يَعْنِي لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ ( تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلَّ كَلَامٍ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ ) قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكَلَامِ إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُبَاحًا وَلَا اسْتِمَاعَ فَلَا إخْلَالَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ فَتُفْضِي إلَى الْإِخْلَالِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا رَوَيَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " { إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ } " وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ ، وَقَدْ رُوِيَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ حَوَائِجِهِمْ وَعَنْ أَسْعَارِ السُّوقِ ثُمَّ صَلَّى } " أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ يُبَاحُ فِي الْخُطْبَةِ أَيْضًا ثُمَّ نُهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْكَلَامِ فِيهِمَا .

( وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ تَرَكَ النَّاسُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَتَوَجَّهُوا إلَى الْجُمُعَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ ) ذَكَرَ الْمُؤَذِّنِينَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إخْرَاجًا لِلْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَإِنَّ الْمُتَوَارَثَ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ اجْتِمَاعُ الْمُؤَذِّنِينَ لِتَبْلُغَ أَصْوَاتُهُمْ إلَى أَطْرَافِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ ، وَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الزَّوْرَاءِ ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ : الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْأَذَانَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ يَفُوتُهُ أَدَاءُ السُّنَّةِ وَسَمَاعُ الْخُطْبَةِ ، وَرُبَّمَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا مِنْ الْجَامِعِ ، وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ : الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ لِلْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَكَرَاهَةِ الْبَيْعِ هُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ آنِفًا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ

( وَإِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدِي الْمِنْبَرِ ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا الْأَذَانُ ، وَلِهَذَا قِيلَ : هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْعِيدَيْنِ ) قَالَ ( وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ ، وَالثَّانِي فَرِيضَةٌ ، وَلَا يُتْرَكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى السُّنَّةِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ عَقِيبَ سُؤَالِهِ " قَالَ : { هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ فَقَالَ : لَا إلَّا إنْ تَطَوَّعَ } وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَتَسْمِيَتُهُ سُنَّةً لِوُجُوبِهِ بِالسُّنَّةِ .

بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ : أَيْ بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حُذِفَ الْمُضَافُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَسُمِّيَ يَوْمُ الْعِيدِ بِالْعِيدِ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَوَائِدَ الْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَلَاةٌ نَهَارِيَّةٌ تُؤَدَّى بِجَمْعٍ عَظِيمٍ يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَيُشْتَرَطُ لِإِحْدَاهُمَا مَا يُشْتَرَطُ لِلْأُخْرَى سِوَى الْخُطْبَةِ ، وَيَشْتَرِكَانِ أَيْضًا فِي حَقِّ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ ، وَقَدَّمَ الْجُمُعَةَ لِقُوَّتِهَا لِكَوْنِهَا فَرِيضَةً أَوْ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا .
قَالَ ( وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ ) لَا تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ كَالْجُمُعَةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : حَالُ الْعَبْدِ هُنَا لَيْسَتْ كَهِيَ فِي الْجُمُعَةِ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ لِلْجُمُعَةِ خَلَفًا وَهُوَ الظُّهْرُ فَلَمْ تَجِبْ الْجُمُعَةُ ، وَهَاهُنَا لَا خَلَفَ فَكَانَ الْوَاجِبُ الْوُجُوبَ إذَا أَسْقَطَ الْمَوْلَى حَقَّهُ بِالْإِذْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْإِذْنِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَثْنَاةٍ عَلَى الْمَوْلَى ، فَبَقِيَ الْحَالُ بَعْدَ الْأَذَانِ كَهِيَ قَبْلَهُ كَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ حَجَّ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، وَأَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَتِهِ لِرِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْقُدُورِيِّ بِلَفْظِ الْوَاجِبِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ السُّنَّةِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْعِيدَيْنِ كَوْنُ يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ الْأَضْحَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَغَلَبَ لَفْظُ الْعِيدِ لِخِفَّتِهِ كَمَا فِي الْعُمَرَيْنِ أَوْ لِذُكُورَتِهِ كَمَا فِي الْقَمَرَيْنِ ( وَلَا يُتْرَكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ) أَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ ، وَأَمَّا الْعِيدُ فَلِأَنَّ تَرْكَهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالٌ .
قَوْلُهُ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ

مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقَعَ بِلَفْظِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِنَايَةٍ ، وَفِي بَعْضِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي آخِرِ بَابِ إدْرَاكِ الْفَرِيضَةِ ، لَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ إنَّمَا تَكُونُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الثَّانِي ) ظَاهِرٌ .

( وَيُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَنْ يَطْعَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى وَيَغْتَسِلَ وَيَسْتَاكَ وَيَتَطَيَّبَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَطْعَمُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى ، وَكَانَ يَغْتَسِلُ فِي الْعِيدَيْنِ } وَلِأَنَّهُ يَوْمُ اجْتِمَاعٍ فَيُسَنُّ فِيهِ الْغُسْلُ وَالطِّيبُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ( وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ لَهُ جُبَّةُ فَنْكٍ أَوْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ ( وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ ) إغْنَاءً لِلْفَقِيرِ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ لِلصَّلَاةِ ( وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمُصَلَّى ، وَلَا يُكَبِّرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى ، وَعِنْدَهُمَا يُكَبِّرُ ) اعْتِبَارًا بِالْأَضْحَى .
وَلَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّنَاءِ الْإِخْفَاءُ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ تَكْبِيرٍ ، وَلَا كَذَلِكَ يَوْمَ الْفِطْرِ ( وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ ، ثُمَّ قِيلَ الْكَرَاهَةُ فِي الْمُصَلَّى خَاصَّةً ، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ عَامَّةً ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُكَبِّرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى ) يَعْنِي جَهْرًا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ إلَى عِيدِ الْفِطْرِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى عَنْهُ .
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أُسْتَاذِهِ ابْنِ عُمَرَ الْبَغْدَادِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الْفِطْرِ جَهْرًا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اعْتِبَارًا بِالْأَضْحَى .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّنَاءِ الْإِخْفَاءُ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى لِأَنَّهُ يَوْمُ تَكْبِيرٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ( وَلَا كَذَلِكَ يَوْمُ الْفِطْرِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا لِأَنَّ عِيدَ الْأَضْحَى اُخْتُصَّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ عَلَمًا عَلَى وَقْتِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَلَيْسَ فِي شَوَّالٍ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هُدَاكُمْ } أَخْبَرَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ إكْمَالِ عِدَّةِ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ } " وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ التَّكْبِيرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَالْمَعْنَى صَلُّوا صَلَاةَ الْعِيدِ وَكَبِّرُوا اللَّهَ فِيهَا ، وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَالْوَلِيدُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .
قَالَ ( وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ ) التَّنَفُّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلًّى وَغَيْرِهِ لِلْإِمَامِ ، وَغَيْرُهُ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ وَالْإِنْكَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَثِيرًا .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ " أَنَّهُمَا قَامَا

فَنَهَيَا النَّاسَ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْفِطْرِ .
وَرُوِيَ " أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ فَقَالَ : مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَنْهَاهُمْ ؟ فَقَالَ : أَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى " وَقَوْلُهُ ( خَاصَّةً وَعَامَّةً ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْمُسْتَقَرِّ فِي الظَّرْفِ .

( وَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ بِارْتِفَاعِ الشَّمْسِ دَخَلَ وَقْتُهَا إلَى الزَّوَالِ ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ وَقْتُهَا ) { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَيْدِ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ ، وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ } .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ ) عَبَّرَ بِالْحُلُولِ عَنْ جَوَازِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا قَبْلَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ ( { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَيْدِ رُمْحٍ } أَيْ قَدْرِ رُمْحٍ ( أَوْ رُمْحَيْنِ ) دَلِيلُ دُخُولِ الْوَقْتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ ) دَلِيلُ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، وَذَلِكَ { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ } لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا بِلَا عُذْرٍ سَمَاوِيٍّ ، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى ، وَفِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُحْمَلُ إلَّا عَلَى الْأَوْلَى مَهْمَا أَمْكَنَ .

( وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ ، يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَثَلَاثًا بَعْدَهَا ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً ، وَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَرْكَعُ بِهَا .
ثُمَّ يَبْتَدِئُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَهَا ، وَيُكَبِّرُ رَابِعَةً يَرْكَعُ بِهَا ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ قَوْلُنَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَخَمْسًا بَعْدَهَا وَفِي الثَّانِيَةِ يُكَبِّرُ خَمْسًا ثُمَّ يَقْرَأُ .
وَفِي رِوَايَةٍ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا ، وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَمْرِ بَنِيهِ الْخُلَفَاءِ .
فَأَمَّا الْمَذْهَبُ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَرَفْعَ الْأَيْدِي خِلَافُ الْمَعْهُودِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ حَتَّى يَجْهَرَ بِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْجَمْعُ وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَجِبُ إلْحَاقُهَا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِقُوَّتِهَا مِنْ حَيْثُ الْفَرِيضَةِ وَالسَّبْقِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ الضَّمُّ إلَيْهَا ، وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، إلَّا أَنَّهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ كُلَّهُ عَلَى الزَّوَائِدِ فَصَارَتْ التَّكْبِيرَاتُ عِنْدَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ .

وَقَوْلُهُ ( وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ ) ظَاهِرٌ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزَّوَائِدَ عِنْدَنَا ثَلَاثٌ ، وَالْمُوَالَاةُ فِي الْقِرَاءَةِ خِلَافًا لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ ) أَيْ عَمَلُ النَّاسِ كَافَّةً ( بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَمْرِ بَنِيهِ الْخُلَفَاءِ ) فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَمَّا انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَمَرُوا النَّاسَ بِالْعَمَلِ فِي التَّكْبِيرَاتِ بِقَوْلِ جَدِّهِمْ وَكَتَبُوا فِي مَنَاشِيرِهِمْ ذَلِكَ .
وَعَنْ هَذَا صَلَّى أَبُو يُوسُفَ بِالنَّاسِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَكَبَّرَ تَكْبِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا مَذْهَبًا وَاعْتِقَادًا ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْأَخْذِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ : حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ مُسْنِدًا إلَى { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ حِينَ انْصَرَفَ فَقَالَ : أَرْبَعٌ لَا تَسْهُو كَتَكْبِيرِ الْجَنَائِزِ ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَقَبَضَ إبْهَامَهُ } " فَفِيهِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَصْلٍ وَتَأْكِيدٌ فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى .
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَرْبَعًا : أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَرَفْعَ الْأَيْدِي مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الصَّلَوَاتِ ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْقَلِيلِ أَوْلَى ، ثُمَّ التَّكْبِيرُ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ حَتَّى يُجْهَرَ بِهِ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْجَمْعُ لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ ؛ فَفِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَجِبُ إلْحَاقُهَا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِقُوَّتِهَا مِنْ حَيْثُ الْفَرِيضَةُ وَالسَّبْقُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ الضَّمُّ إلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ (

وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا أَنَّهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ عَلَى الزَّوَائِدِ فَصَارَتْ التَّكْبِيرَاتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ ) فِيهِ اشْتِبَاهٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَرْوِيَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ أَوْ لَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَخَمْسًا بَعْدَهَا ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُكَبِّرُ خَمْسًا ثُمَّ يَقْرَأُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يُكَبِّرُ أَرْبَعًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ فِي الْكَلَامِ تَعْقِيدٌ يَعْلُو قَدْرُ الْمُصَنِّفِ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَرْتَقِ التَّكْبِيرَاتُ إلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ لِأَنَّ الزَّوَائِدَ فِيهِ تِسْعٌ أَوْ عَشْرٌ ، وَبِالْأَصْلِيَّاتِ تَكُونُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ .
وَأَيْضًا قَالَ : وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ تَكْبِيرَةً أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَإِزَالَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، فَفَسَّرَ عُلَمَاؤُنَا رِوَايَتَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِإِضَافَةِ الْأَصْلِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَصْلِيَّاتِ ثَلَاثٌ : تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ ، وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى خَمْسَةٍ وَخَمْسَةٍ كَانَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةٍ صَارَتْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ ( وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْمَرْوِيَّ عَلَى الزَّوَائِدِ ) فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَيْهَا الْأَصْلِيَّاتُ صَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ ، فَكَانَ مُرَادُهُ بِالْمَرْوِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَا تَعْقِيدَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى تَفْسِيرِ عُلَمَائِنَا لَا عَلَى مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَلْبَتَّةَ أَنْ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ : ثُمَّ عَمِلُوا بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ وَبِرِوَايَةِ النُّقْصَانِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ ، وَخَصُّوا الْأَضْحَى بِالنُّقْصَانِ لِاسْتِعْجَالِ النَّاسِ بِالْقَرَابِينِ .

قَالَ ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْأَعْيَادِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .وَقَوْلُهُ ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ ) ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ ، فَلَوْ وَالَى بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ لَاشْتَبَهَ عَلَى مَنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ الْإِمَامِ ، وَالِاشْتِبَاهُ يَزُولُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمُكْثِ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَيْسَ هَذَا الْقَدْرُ بِلَازِمٍ ، بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وَقِلَّتِهِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَةُ الِاشْتِبَاهِ عَنْ الْقَوْمِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْقَوْمِ وَقِلَّتِهِمْ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ ) يَدَيْهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ ، وَلَا افْتِتَاحَ فِي الزَّوَائِدِ فَلَا رَفْعَ كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا ) لِأَنَّ مَا قَالَهُ قِيَاسٌ تُرِكَ بِالْأَثَرِ ، وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ الزَّوَائِدِ ، وَكَذَلِكَ التَّعَوُّذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْتَعِيذُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ

قَالَ ( ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ ) بِذَلِكَ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ ( يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَأَحْكَامَهَا ) ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ .قَالَ ( ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ ) الْخُطْبَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ تُخَالِفُ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجُوزُ بِلَا خُطْبَةٍ بِخِلَافِ الْعِيدِ .
الثَّانِي أَنَّهَا فِي الْجُمُعَةِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْعِيدِ ، وَلَوْ قَدَّمَهَا فِي الْعِيدِ أَيْضًا جَازَ وَلَا تُعَادُ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .

( وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يَقْضِهَا ) ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا بِشَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِالْمُنْفَرِدِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ ) أَيْ أَدَّى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَلَمْ يُؤَدِّهَا هُوَ ( لَمْ يَقْضِهَا ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : يُصَلِّي وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَالسُّلْطَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ .
وَعِنْدَنَا هِيَ صَلَاةٌ لَا تَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَالسُّلْطَانِ ، فَإِذَا فَاتَتْ عَجَزَ عَنْ قَضَائِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الضُّحَى وَلِهَذَا تُكْرَهُ صَلَاةُ الضُّحَى قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا يَصِيرُ إلَى الْأَصْلِ كَالْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى الظُّهْرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَادَ الْأَمْرُ إلَى أَصْلٍ هُوَ صَلَاةُ الضُّحَى وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَيَتَخَيَّرُ ، وَفِي الْجُمُعَةِ إذَا عَجَزَ عَادَ إلَى أَصْلٍ هُوَ فَرْضٌ فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ .

( فَإِنْ غُمَّ الْهِلَالُ وَشَهِدُوا عِنْدَ الْإِمَامِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّى الْعِيدَ مِنْ الْغَدِ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْخِيرٌ بِعُذْرٍ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ ( فَإِنْ حَدَثَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يُصَلِّهَا بَعْدَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ لَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْحَدِيثِ ، وَقَدْ وَرَدَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ الْعُذْرِ .وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ ) أَيْ الْمَعْهُودُ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ : " { وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ } " وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ .

( وَيُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَطَيَّبَ ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ ( وَيُؤَخِّرَ الْأَكْلَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يَطْعَمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ فَيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيَتَوَجَّهَ إلَى الْمُصَلَّى } ( وَهُوَ يُكَبِّرُ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ ( وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَالْفِطْرِ ) كَذَلِكَ نُقِلَ ( وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا خُطْبَتَيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ فَعَلَ ( وَيُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا الْأُضْحِيَّةَ وَتَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ ، وَالْخُطْبَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِتَعْلِيمِهِ .

( فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى صَلَّاهَا مِنْ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ وَلَا يُصَلِّيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا لَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِمُخَالَفَةِ الْمَنْقُولِ .

( وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ) وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَشْبِيهًا بِالْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عُرْفُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةُ دُونِهِ كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ .وَقَوْلُهُ ( وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ يَصْنَعُهُ النَّاسُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ لِمَعَانٍ : لِلْإِعْلَامِ وَالتَّطَيُّبِ مِنْ الْعُرْفِ وَهُوَ الرِّيحُ وَإِنْشَادِ الضَّالَّة وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالتَّشْبِيهِ بِأَهْلِ عَرَفَةَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا .
وَقَوْلُهُ ( لَيْسَ بِشَيْءٍ ) أَيْ لَيْسَ بِشَيْءٍ مُعْتَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلدُّعَاءِ لَا تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ .

( فَصْلٌ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ ) : ( وَيَبْدَأُ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَيَخْتِمُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَخْتِمُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، فَأَخْذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ أَخْذًا بِالْأَكْثَرِ ، إذْ هُوَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْعِبَادَاتِ ، وَأَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْذًا بِالْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ .

فَصْلٌ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ لَمَّا كَانَ ذِكْرًا مُخْتَصًّا بِالْأَضْحَى نَاسَبَ ذِكْرُهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، ثُمَّ قِيلَ تَرْجَمَةُ الْفَصْلِ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرِ لَا يَقَعُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ أَخَذَ اسْمَهُ ، وَقَوْلُهُ ( وَيَبْدَأُ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ ) اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ابْتِدَاءِ التَّشْرِيقِ وَانْتِهَائِهِ ، فَأَمَّا ابْتِدَاؤُهُ فَكِبَارُ الصَّحَابَةِ كَعَمْرٍو وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالُوا : يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَصِغَارُهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالُوا : يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ .
وَأَمَّا انْتِهَاؤُهُ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : صَلَاةُ الْعَصْرِ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعِنْدَهُ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ يُكَبِّرُ فِيهَا ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : انْتِهَاؤُهُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيَكُونُ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ صَلَاةً وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
وَوَجْهُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ وَيَمْضِي ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنَّ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَحْرٌ خَاصٌّ ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ تَشْرِيقٌ خَاصٌّ ، وَالْيَوْمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِلنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ .

وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً وَاحِدَةً : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ .وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قِيلَ أَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ " { أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ بِالْقُرْبَانِ خَافَ الْعَجَلَةَ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، فَلَمَّا رَآهُ إبْرَاهِيمُ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، فَلَمَّا عَلِمَ إسْمَاعِيلُ بِالْفِدَاءِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } ، فَبَقِيَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ إمَّا سُنَّةً أَوْ وَاجِبًا عَلَى مَا يُذْكَرُ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { أَفْضَلُ مَا قُلْت وَقَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يَوْمَ عَرَفَةَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } " قَوْلُهُ ( مَرَّةً وَاحِدَةً ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ التَّكْبِيرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلَهُ فِي ذِكْرِ التَّهْلِيلِ بَعْدَهُ قَوْلَانِ .

( وَهُوَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْأَمْصَارِ فِي الْجَمَاعَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ عَلَى جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ ، وَلَا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسَافِرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مُقِيمٌ .
وَقَالَا : هُوَ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ ، وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَالتَّشْرِيقُ هُوَ التَّكْبِيرُ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ ، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ خِلَافُ السُّنَّةِ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ إذَا اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ ، وَعَلَى الْمُسَافِرِينَ عِنْدَ اقْتِدَائِهِمْ بِالْمُقِيمِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ .
قَالَ يَعْقُوبُ : صَلَّيْت بِهِمْ الْمَغْرِبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَهَوْت أَنْ أُكَبِّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ .
دَلَّ أَنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ لَا يَتْرُكُهُ الْمُقْتَدِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ فِيهِ حَتْمًا وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ .

قَوْلُهُ ( وَهُوَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُقِيمِينَ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ كَوْنَهُ وَاجِبًا وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } فَإِنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَمَلًا بِالْأَمْرِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ .
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَفِي قَوْلِهِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَلِّلَ مَا يَقْطَعُ بِهِ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ ؛ حَتَّى لَوْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ تَكَلَّمَ لَمْ يُكَبِّرْ ؛ فَفِي قَوْلِهِ الْمَفْرُوضَاتِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ الْوِتْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالنَّافِلَةِ .
وَقَيَّدَ بِالْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُكَبِّرُ إلَّا إذَا اقْتَدَى بِمُقِيمٍ ، وَقَيَّدَ بِالْأَمْصَارِ لِأَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ فِي الْقُرَى ، وَقَيَّدَ بِالْجَمَاعَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْبِيرَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ ، وَقَيَّدَ بِالْمُسْتَحَبَّةِ احْتِرَازًا عَنْ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ ، وَقَالَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ لِأَنَّهُ تَبِعَ لَهَا ( وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ } " فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْمَكْتُوبِ فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِلْمَتْبُوعِ ؟ قُلْنَا بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى قَوْلِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَهَا قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهَا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَمَّ الْعَبْدُ فِي

صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، فَمَنْ شَرَطَهَا لَمْ يُوجِبْ التَّكْبِيرَ ، وَمَنْ لَمْ يَشْرِطْهَا أَوْجَبَهُ ( قَالَ يَعْقُوبُ : صَلَّيْت بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَسَهَوْت أَنْ أُكَبِّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ ، دَلَّ ) أَيْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى ( أَنَّ الْإِمَامَ إنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ لَا يَتْرُكُهُ الْمُقْتَدِي ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ سُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ لَا يَسْجُدُ الْمُقْتَدِي لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُكَبِّرُ الْقَوْمُ قَبْلَ الْإِمَامِ إذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِأَنْ قَامَ .
قِيلَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فَوَائِدُ : مِنْهَا بَيَانُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ حَيْثُ قَدَّمَهُ وَاقْتَدَى بِهِ .
وَمِنْهَا بَيَانُ حُرْمَةِ أُسْتَاذِهِ فِي قَلْبِهِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ أُسْتَاذَهُ سَهَا عَمَّا لَا يَسْهُو الْمَرْءُ عَنْهُ عَادَةً وَهُوَ التَّكْبِيرُ .
وَمِنْهَا مُبَادَرَةُ أُسْتَاذِهِ إلَى السَّتْرِ عَلَيْهِ حَيْثُ كَبَّرَ لِيَتَذَكَّرَ هُوَ فَكَبَّرَ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ كُلِّ أُسْتَاذٍ وَتِلْمِيذِهِ : يَعْنِي أَنَّ التِّلْمِيذَ يُعَظِّمُ الْأُسْتَاذَ وَالْأُسْتَاذَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ عُيُوبَهُ .
.

( بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ ) : قَالَ ( إذَا انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رُكُوعَانِ .
لَهُ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، وَلَنَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ ، وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَلَى الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِرِوَايَتِهِ ( وَيُطَوِّلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا وَيُخْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَجْهَرُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا التَّطْوِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ فَبَيَانُ الْأَفْضَلِ ، وَيُخَفِّفُ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ اسْتِيعَابُ الْوَقْتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ ، فَإِذَا خَفَّفَ أَحَدُهُمَا طَوَّلَ الْآخَرُ .
وَأَمَّا الْإِخْفَاءُ وَالْجَهْرُ فَلَهُمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ فِيهَا } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالتَّرْجِيحُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، كَيْفَ وَإِنَّهَا صَلَاةُ النَّهَارِ وَهِيَ عَجْمَاءُ .

( بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ ) : قَرَنَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ بِالْجَمَاعَةِ فِي النَّهَارِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، وَأَخَّرَهَا عَنْ الْعِيدِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةً فِي الْأَصَحِّ عَلَى مَا مَرَّ ، يُقَالُ : كَسَفَتْ الشَّمْسُ تَكْسِفُ كُسُوفًا ، وَكَسَفَهَا اللَّهُ كَسْفًا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى .
قَالَ جَرِيرٌ يَرْثِي بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ : الشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ تَبْكِي عَلَيْك نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا قِيلَ مَعْنَاهُ : لَيْسَتْ تَكْسِفُ ضَوْءَ النُّجُومِ مَعَ طُلُوعِهَا ، وَلَكِنْ لِقِلَّةِ ضَوْئِهَا وَبُكَائِهَا عَلَيْك لَمْ يَظْهَرْ لَهَا نُورٌ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ : تَغْلِبُ النُّجُومُ فِي الْبُكَاءِ ، يُقَالُ بَاكَيْتُهُ فَبَكَّيْته : أَيْ غَلَبْته فِي الْبُكَاءِ .
وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا الْكُسُوفُ ، وَلِهَذَا تُضَافُ إلَيْهِ .
وَشُرُوطُهَا شُرُوطُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَهِيَ سُنَّةٌ { ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا } .
وَكَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا أَنْ يُصَلِّيَ إمَامُ الْجُمُعَةِ فِي الْجَامِعِ أَوْ فِي الْمُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ أَوْ غَيْرِهِ نُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ وَصَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ إنْ حَفِظَهَا وَإِلَّا فَمَا يَعْدِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا ، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَمْكُثُ فِي رُكُوعِهِ قَدْرَ مَا مَكَثَ فِي قِيَامِهِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُومُ وَيَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ إنْ حَفِظَهَا وَإِلَّا فَمَا يَعْدِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا ، ثُمَّ يَرْكَعُ ثَانِيًا وَيَمْكُثُ فِي رُكُوعِهِ مِثْلَمَا مَكَثَ فِي قِيَامِهِ هَذَا ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُومُ وَيَمْكُثُ فِي قِيَامِهِ وَيَقْرَأُ فِيهِ مِقْدَارَ مَا قَرَأَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ

الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَمْكُثُ فِي رُكُوعِهِ مِثْلَ مُكْثِهِ فِي هَذَا الْقِيَامِ ، ثُمَّ يَقُومُ وَيَمْكُثُ فِي قِيَامِهِ مِثْلَمَا مَكَثَ فِي الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَمْكُثُ فِيهِ مِثْلَمَا مَكَثَ فِي قِيَامِهِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُومُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيَامِهِ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ .
وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ } " وَلَنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلَفٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ كَأَطْوَلِ صَلَاةٍ كَانَ يُصَلِّيهَا فَانْجَلَتْ الشَّمْسُ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهَا } " وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ كَانَ التَّرْجِيحُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ ، وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَنْ الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ قَالَ : يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطَالَ الرُّكُوعَ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، فَمَنْ خَلْفَهُمْ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعًا رَكَعُوا ، فَمَنْ خَلْفَهُمْ رَكَعُوا ، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ وَمَنْ كَانُوا خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فَرَوَوْا عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ ، وَمِثْلُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ وَعَائِشَةُ كَانَتْ فِي صَفِّ النِّسَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَوَى حَدِيثَهَا مِنْ

الرِّجَالِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ كَانَ فِي صَفِّهِمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي صَفِّ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُطَوِّلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( فَبَيَانُ الْأَفْضَلِ ) لِأَنَّ فِيهِ مُتَابَعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَحَّ " { أَنَّ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ } " .
وَقَوْلُهُ ( فَلَهُمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ ) فَإِنَّهَا رَوَتْ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً فَجَهَرَ بِهَا : يَعْنِي فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ } " ( وَلَهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ) وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِيهَا حَرْفًا ( وَالتَّرْجِيحُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَلَى الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى حَدِيثَهَا ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَمَا جَوَابُهُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَوَابَ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَصْلِ فَإِنَّهَا صَلَاةٌ نَهَارِيَّةٌ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْإِخْفَاءُ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ } " وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .

( وَيَدْعُو بَعْدَهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَارْغَبُوا إلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ } ، وَالسُّنَّةُ فِي الْأَدْعِيَةِ تَأْخِيرُهَا عَنْ الصَّلَاةِ ( وَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى ) تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَيَدْعُو بَعْدَهَا ) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ إنْ شَاءَ جَالِسًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَإِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَالْقَوْمُ تُؤَمِّنُ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ ) الْفَزَعُ الْخَوْفُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ ) يَعْنِي الْإِمَامَ ( صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا ) لِأَنَّ هَذَا تَطَوُّعٌ وَالْأَصْلُ فِي التَّطَوُّعَاتِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ ) أَيْ فِتْنَةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّقَدُّمِ وَالْمُنَازَعَةِ فِيهِمَا .

( وَلَيْسَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ ) لِتَعَذُّرِ الِاجْتِمَاعِ فِي اللَّيْلِ ( أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ ) ، وَإِنَّمَا يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } ( وَلَيْسَ فِي الْكُسُوفِ خُطْبَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ ) عَابَ أَهْلُ الْأَدَبِ مُحَمَّدًا فِي هَذَا اللَّفْظِ وَقَالُوا : إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَمَرِ لَفْظُ الْخُسُوفِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ } وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ : يُقَالُ كَسَفَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ جَمِيعًا ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } " الْحَدِيثَ .
رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ " { انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّاسُ : إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } " أَيْ الْتَجِئُوا إلَيْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَاجِبَةً .
قُلْنَا : قَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ وَالْعَامَّةُ ذَهَبَتْ إلَى كَوْنِهَا سُنَّةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِعَارِضٍ لَكِنْ صَلَّاهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَتْ سُنَّةً وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِي الْكُسُوفِ ) أَيْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ( خُطْبَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ : يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " { خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ } " وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْعَلْ ، وَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَطَبَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ .

( بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ ) : ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فِي جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ صَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا جَازَ ، وَإِنَّمَا الِاسْتِسْقَاءُ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } الْآيَةَ ، { وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ } ( وَقَالَا : يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ } رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قُلْنَا : فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ .
( وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ) اعْتِبَارًا بِصَلَاةِ الْعِيدِ ( ثُمَّ يَخْطُبُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ } ثُمَّ هِيَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ ( وَلَا خُطْبَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا جَمَاعَةَ عِنْدَهُ ( وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالدُّعَاءِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ } ( وَيَقْلِبُ رِدَاءَهُ ) لِمَا رَوَيْنَا .
قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَقْلِبُ رِدَاءَهُ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ .
وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا ( وَلَا يَقْلِبُ الْقَوْمُ أَرْدِيَتَهُمْ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ .

( بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ ) : أَخَّرَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ عَنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فِي جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ صَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا جَازَ وَإِنَّمَا الِاسْتِسْقَاءُ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَذَّبُوهُ بَعْدَ طُولِ تَكْرِيرِهِ الدَّعْوَةَ حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَطْرَ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَقِيلَ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إنْ آمَنُوا رَزَقَهُمْ اللَّهُ الْخِصْبَ وَرَفَعَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرَائِعُ لَنَا إذَا قَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَهَذَا كَذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءُ .
رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّاسَ قَدْ قَحَطُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَخَشِينَا الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا غَدَقًا مُغْدِقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ ، قَالَ الرَّاوِي : مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ ، فَارْتَفَعَتْ السَّحَابُ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا حَتَّى صَارَتْ رُكَامًا ، ثُمَّ مَطَرَتْ سَبْعًا مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ دَخَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ

اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهُ ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَلَالَةِ ابْنِ آدَمَ .
قَالَ الرَّاوِي : وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ خَضِرًا ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ ، فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ عَنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى صَارَتْ حَوْلَهَا كَالْإِكْلِيلِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ الدُّعَاءِ } " ( وَقَالَا : يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ) فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ ، وَالصَّلَاةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
( قُلْنَا ) إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُهُ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ لَا ، وَالسُّنَّةُ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَاهُنَا ( فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ ) فِعْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوَاظَبَةً فَلَا يَكُونُ ( سُنَّةً ) فَإِنْ قِيلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ مُتَنَاقِضٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ ثُمَّ قَالَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ لَمَّا كَانَ شَاذًّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى جَعَلَهُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَرْوِيٍّ .
قَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ ) يَعْنِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ) اتَّفَقَا عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ اعْتِبَارًا بِصَلَاةِ الْعَبْدِ .
وَاخْتَلَفَا فِي الْخُطْبَةِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ : هِيَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ ( وَلَا خُطْبَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْجَمَاعَةِ وَلَا جَمَاعَةَ عِنْدَهُ

) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَرَقَى الْمِنْبَرَ ، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ } " ( وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ ) رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ بِالدُّعَاءِ ، وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأَصَابِعِهِ ( وَيَقْلِبُ رِدَاءَهُ ) وَصِفَةُ الْقَلْبِ إنْ كَانَ الرِّدَاءُ مُرَبَّعًا أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ .
وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا بِأَنْ كَانَ جُبَّةً أَنْ يَجْعَلَ الْأَيْمَنَ أَيْسَرَ وَالْأَيْسَرَ أَيْمَنَ .
( وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِمَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ } " قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَقْلِبُ ) وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ ، ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكَرْخِيُّ مَعَ مُحَمَّدٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الِاسْتِسْقَاءَ ( دُعَاءٌ ) وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ قَلْبُ رِدَاءٍ فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَاءَلَ بِتَغَيُّرِ الْهَيْئَةِ لِتَغَيُّرِ الْهَوَاءِ : يَعْنِي غَيَّرْنَا مَا كُنَّا عَلَيْهِ فَغَيِّرْ اللَّهُمَّ الْحَالَ .
وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَالثَّانِي هَبْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَفَاءَلَ بِذَلِكَ فَلْيَتَفَاءَلْ كُلُّ مَنْ يُبْتَلَى بِذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيلًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَلْ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا

رَوَاهُ مُحَمَّدٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَلْبِ ، وَمَا رَوَى أَنَسٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْوِيلَ فِيهِ فَتَعَارَضَا فَصِيرَ إلَى مَا بَعْدَهُمَا مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ إلَى الْخَصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَأَتَّى مِنْ غَيْرِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّأَسِّي ظَاهِرًا فِيمَا يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُقَلِّبُ الْقَوْمُ أَرْدِيَتَهُمْ ) قِيلَ هُوَ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالنَّفْيِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ ، وَمِثْلُ هَذَا صَنَعَ فِي آخِرِ بَابِ الْكُسُوفِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالنَّفْيِ لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مُتَعَيِّنَةً ، أَمَّا إذَا كَانَتْ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ الشَّخْصِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبِ إنَّهُ لَا يُضْمَنُ الْغَصْبُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْقَوْمَ قَلَبُوا أَرْدِيَتَهُمْ حِينَ رَأَوْا قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَلْبَهُمْ هَذَا كَخَلْعِهِمْ النِّعَالَ حِينَ رَأَوْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَلْعَ نَعْلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فَكَذَا هَذَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي كَوْنِهِ سُنَّةً

( وَلَا يَحْضُرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الِاسْتِسْقَاءَ ) ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ ، وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَحْضُرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الِاسْتِسْقَاءَ ) ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
قِيلَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَمَا أَطَاقُوا مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَظَالِمِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ الْيَوْمَ الرَّابِعَ وَبِالْعَجَائِزِ وَالصِّبْيَانِ مُتَنَظِّفِينَ فِي ثِيَابِ بِذْلَةٍ مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ ، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الدَّوَابِّ

( بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ ) : ( إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ جَعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، وَطَائِفَةٌ خَلْفَهُ ، فَيُصَلِّي بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مَضَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ ، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَلِّمُوا ، وَذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلُّوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وُحْدَانًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ ( وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَمَضَوْا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ، وَصَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ ( وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا ) وَالْأَصْلُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا } .
وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَانِنَا فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا .

( بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ ) : وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ شَرْعِيَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِعَارِضِ خَوْفٍ ، وَقَدَّمَ الِاسْتِسْقَاءَ لِأَنَّ الْعَارِضَ ثَمَّةَ انْقِطَاعُ الْمَطَرِ وَهُوَ سَمَاوِيٌّ وَهَاهُنَا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي سَبَبُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ ، وَصُورَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ ( إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ) لَيْسَ اشْتِدَادُ الْخَوْفِ شَرْطًا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا .
قَالَ فِي التُّحْفَةِ : سَبَبُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ نَفْسُ قُرْبِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخَوْفِ وَالِاشْتِدَادِ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ : الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ عِنْدَ الْبَعْضِ حَضْرَةُ الْعَدُوِّ لَا حَقِيقَةُ الْخَوْفِ ، لِأَنَّ حَضْرَةَ الْعَدُوِّ أُقِيمَ مَقَامَ الْخَوْفِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا فِي تَعْلِيقِ الرُّخْصَةِ بِنَفْسِ السَّفَرِ لَا حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ فَأُقِيمَ مَقَامَهَا ، فَكَذَا حَضْرَةُ الْعَدُوِّ هَاهُنَا سَبَبُ الْخَوْفِ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْخَوْفِ .
قِيلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا تَنَازَعَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَحْنُ نُصَلِّي مَعَك ، وَأَمَّا إذَا تَنَازَعُوا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ تَمَّامَ الصَّلَاةِ وَيُرْسِلَهُمْ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَيَأْمُرَ رَجُلًا مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ تَمَامَ صَلَاتِهِمْ أَيْضًا وَتَقُومَ الَّتِي صَلَّتْ مَعَ الْإِمَامِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا ) أَيْ كَوْنَهَا مَشْرُوعَةً ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا مِثْلَمَا قَالَا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ } الْآيَةَ ، لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِإِمَامٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ .
وَقَوْلُهُ ( بِمَا رَوَيْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ التَّحْقِيقِ ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُنْكِرْ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُجَّةً عَلَى أَبِي يُوسُفَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْخَوْفُ ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَشْيِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ فَضِيلَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ قَدْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ إلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَقَامُوا صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْفَهَانَ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَارَبَ الْمَجُوسَ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الظُّهْرَ بِالطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ } ( وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَجَعَلَهَا فِي الْأُولَى أَوْلَى بِحُكْمِ السَّبْقِ .وَقَوْلُهُ ( وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ ) مَذْهَبُنَا ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي ذَلِكَ حَظٌّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ) مَعْنَاهُ : أَنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَشَطْرُ الْمَغْرِبِ رَكْعَةٌ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ حَقُّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى نِصْفَ رَكْعَةٍ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَثَبَتَ فِي كُلِّهَا بِحُكْمِ السَّبْقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ شَاءَ صَلَّى مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِثْلَ مَذْهَبِ الثَّوْرِيِّ

( وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ فَعَلُوا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا .( وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ) وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَفْسُدُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ } " فَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا ، وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ الْعَدُوُّ فِيهِمْ إذَا رَآهُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ أَوْ لِيُقَاتِلُوا بِهَا إذَا احْتَاجُوا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُوا الصَّلَاةَ .

( فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ صَلَّوْا رُكْبَانًا فُرَادَى يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } وَسَقَطَ التَّوَجُّهُ لِلضَّرُورَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ الْمُصَلُّونَ بِجَمَاعَةٍ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِانْعِدَامِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَكَانِ .وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ ) بِأَنْ لَا يَدَعَهُمْ الْعَدُوُّ أَنْ يُصَلُّوا نَازِلِينَ بَلْ يَهْجُمُونَهُمْ بِالْمُحَارَبَةِ ( صَلَّوْا رُكْبَانًا إلَخْ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ رُكْبَانًا وَفُرَادَى مُومِئِينَ لَا شَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ حَتَّى لَوْ رَكِبَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِاشْتِدَادِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَالذَّهَابِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَإِنْ كَانَ عَمَلًا كَثِيرًا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَكَانِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، وَالْخَوْفُ مِنْ سَبُعٍ يُعَايِنُونَهُ كَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِدَفْعِ سَبَبِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ .

( بَابُ الْجَنَائِزِ ) : ( إذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ وُجِّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ ، وَالْمُخْتَارُ فِي بِلَادِنَا الِاسْتِلْقَاءُ ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ ( وَلُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ ( فَإِذَا مَاتَ شُدَّ لَحْيَاهُ وَغُمِّضَ عَيْنَاهُ ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ ، ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ فَيُسْتَحْسَنُ .

( بَابُ الْجَنَائِزِ ) الْجَنَائِزُ جَمْعُ جِنَازَةٍ ، وَالْجِنَازَةُ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ ، وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ .
وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ .
وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ لَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ .
وَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ آخِرَ الْعَوَارِضِ ذَكَرَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ آخِرًا لِلْمُنَاسَبَةِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَ الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَهَا ، وَلَكِنْ أَخَّرَهَا لِيَكُونَ خَتْمُ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِمَا يُتَبَرَّكُ بِهَا حَالًا وَمَكَانًا ( إذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ ) أَيْ قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ ، وَقَدْ يُقَالُ اُحْتُضِرَ إذَا مَاتَ لِأَنَّ الْوَفَاةَ حَضَرَتْهُ أَوْ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى شِقِّهِ ) أَيْ جَنْبِهِ ( الْأَيْمَنِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ ) فَإِنَّهُ يُوضَعُ فِيهِ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ ، وَالشَّيْءُ إذَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ يَأْخُذُ حُكْمَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلُقِّنَ الشَّهَادَةَ ) تَلْقِينُهَا أَنْ يُقَالَ عِنْدَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ ، وَلَا يُقَالُ لَهُ قُلْ لِأَنَّ الْحَالَ صَعْبٌ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ ) دَفْعٌ لِوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قِرَاءَةُ التَّلْقِينِ عَلَى الْقَبْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ { إنَّك مَيِّتٌ } وَ " { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } " وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ ) لِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ يَصِيرُ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ وَيَقْبُحُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ فِي فُصُولٍ ( فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ ) ( وَإِذَا أَرَادُوا غُسْلَهُ وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ ) لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ ( وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً ) إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ ، وَيَكْتَفِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ هُوَ الصَّحِيحُ تَيْسِيرًا ( وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ ) لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ : فِي فُصُولٍ وَقَدَّمَ الْغُسْلَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُصْنَعُ بِهِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْغُسْلِ ، فَقِيلَ إنَّمَا وَجَبَ لِحَدَثٍ يَحُلُّ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ لَا لِنَجَاسَةٍ تَحُلُّ بِهِ ، فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ كَرَامَةً ، إذْ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا طَهُرَ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الِاقْتِصَارَ فِي الْغُسْلِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ نَفْيًا لِلْحَرَجِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ ، وَالْحَدَثُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ كَالْجَنَابَةِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فَكَذَا هَذَا .
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : وَجَبَ غُسْلُهُ لِنَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا بِسَبَبِ الْحَدَثِ ، لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ دَمًا سَائِلًا كَالْحَيَوَانَاتِ الْبَاقِيَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي الْبِئْرِ نَجَّسَهَا ، وَلَوْ حَمَلَهُ الْمُصَلِّي لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَجَازَتْ كَمَا لَوْ حَمَلَ مُحْدِثًا ، وَيَجُوزُ أَنْ تَزُولَ نَجَاسَتُهُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا أَرَادُوا غَسْلَهُ وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْمَيِّتِ .
قَوْلُهُ لِيَنْصَبَّ عِلَّةُ الْوَضْعِ عَلَى السَّرِيرِ ، فَإِنَّهُ لَوْ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ تَلَطَّخَ بِالطِّينِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا وَعَرْضًا وَلَا كَيْفِيَّةَ وَضْعِ الْمَيِّتِ عَلَى التَّخْتِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَهُ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ .
قَالَ : شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَيْفَ اُتُّفِقَ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ

بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْمَوَاضِعِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ ، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ أَنْ يُوضَعَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ ( وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ ) فَإِنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ كَذَلِكَ ( وَيُكْتَفَى بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ ) بِأَنْ تُسْتَرَ السَّوْأَةُ وَيُتْرَكَ فَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَيْسِيرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : وَيُوضَعُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ( وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ ) وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ إذَا غُسِلَ مَعَ ثِيَابِهِ ، لِأَنَّ الثَّوْبَ مَتَى تَنَجَّسَ بِالْغُسَالَةِ تَنَجَّسَ بِهِ بَدَنُهُ ثَانِيًا بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ فَلَا يُفِيدُ الْغُسْلُ فَيَجِبُ التَّجْرِيدُ .
وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغْسَلَ فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ حَتَّى يُدْخِلَ الْغَاسِلُ يَدَهُ فِي الْكُمَّيْنِ وَيَغْسِلَ بَدَنَهُ ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا خَرَقَ الْكُمَّيْنِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ } ، وَمَا كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ أُمَّتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ .
وَقُلْنَا قَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ ، رَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ لِغُسْلِهِ ، فَقَالُوا لَا نَدْرِي كَيْفَ نَغْسِلُهُ ، نَغْسِلُهُ كَمَا نَغْسِلُ مَوْتَانَا أَوْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ النَّوْمَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا نَامَ وَذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ إذْ نَادَاهُمْ مُنَادٍ : أَنْ غَسِّلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ } " فَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى التَّجْرِيدُ ، وَقَدْ خُصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّصِّ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ

( وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ ) ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ ، غَيْرَ أَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيُتْرَكَانِ ( ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ .( وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ ) أَمَّا الْوُضُوءُ فَلِأَنَّهُ سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ ، وَأَمَّا تَرْكُهُمَا فَلِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْ فَمِهِ مُتَعَذِّرٌ فَيَكُونُ سَقْيًا لَا مَضْمَضَةً ، وَلَوْ كَبُّوهُ عَلَى وَجْهِهِ لَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُمَضْمَضُ وَيُسْتَنْشَقُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { الْمَيِّتُ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَا يُمَضْمَضُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ } " وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُسْتَنْجَى أَوَّلًا .
وَذَكَرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُسْتَنْجَى ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسْتَنْجَى لِأَنَّ الْمَسْكَةَ تَزُولُ بِالْمَوْتِ وَالْمَفَاصِلُ تَسْتَرْخِي ، فَرُبَّمَا يُزَادُ الِاسْتِرْخَاءُ بِالِاسْتِنْجَاءِ فَتَخْرُجُ نَجَاسَةٌ مِنْ بَاطِنِهِ فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِنْجَاءُ فَائِدَتَهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَوْضِعَ اسْتِنْجَاءِ الْمَيِّتِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةً فَيَجِبُ إزَالَتُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْبَدَنِ ، ثُمَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَفْعَالِ مِنْ تَقْدِيمِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغِ وَالْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَفِي صَلَاةِ الْأَثَرِ لَا يَبْدَأُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ بَلْ يَغْسِلُ الْوَجْهَ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الرَّأْسِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ ) يَعْنِي ثَلَاثًا ، وَإِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ جَازَ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ .

( وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ وِتْرًا ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا يُوتَرُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } .وَقَوْلُهُ ( وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ ) أَيْ يُبَخَّرُ .
يَعْنِي يُدَارُ الْمُجْمِرُ وَهُوَ الَّذِي يُوقَدُ فِيهِ الْعُودُ حَوَالَيْ السَّرِيرِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، أَمَّا التَّجْمِيرُ فَلِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ ، وَأَمَّا الْإِيتَارُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } "

( وَيَغْلِي الْمَاءَ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرِضِ ) مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ ) لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ ( وَيُغْسَلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ ) لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ .قَوْلُهُ ( وَيُغْلَى الْمَاءُ ) مِنْ الْإِغْلَاءِ لَا مِنْ الْغَلْيِ ، لِأَنَّ الْغَلْيَ وَالْغَلَيَانَ لَازِمٌ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْغُسْلُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَفْضَلُ حَذَرًا عَنْ زِيَادَةِ الِاسْتِرْخَاءِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَنَجُّسِ الْكَفَنِ .
وَقُلْنَا : غَسْلُ الْمَيِّتِ شُرِعَ لِلتَّنْظِيفِ وَالْمَاءُ الْحَارُّ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ ، وَزِيَادَةُ الِاسْتِرْخَاءِ قَدْ تُعِينُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّنْظِيفُ لِأَنَّهُ يُخْرَجُ جَمِيعَ مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْخُرُوجِ فَلَا يَتَنَجَّسُ الْكَفَنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْغُسْلِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) أَيْ فَإِنْ فَلَمْ يُوجَدْ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ وَهُوَ الْأُشْنَانُ ( يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ ) أَيْ الْخَالِصِ ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَالتَّرْتِيبُ مَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُحِيطِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يَبْتَلَّ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ ، ثُمَّ بِمَاءِ السِّدْرِ أَوْ الْحَرَضِ لِيَزُولَ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ ، ثُمَّ بِمَاءِ الْكَافُورِ إنْ وُجِدَ تَطْيِيبًا لِبَدَنِ الْمَيِّتِ ، كَذَا فَعَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ غَسَّلُوهُ وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ ) لِأَنَّهُ مِثْلُ الصَّابُونِ فِي التَّنْظِيفِ .

( ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هُوَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ ( ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَقِيقًا ) تَحَرُّزًا عَنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ ) رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنِّسَاءِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا } " ( ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ .
بَطْنَهُ .
مَسْحًا رَقِيقًا ) يَعْنِي بِلَا عُنْفٍ حَتَّى إنْ بَقِيَ عِنْدَ الْمَخْرَجِ شَيْءٌ يَسِيلُ تَحَرُّزًا مِنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ " { أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بَطْنَهُ بِيَدِهِ رَقِيقًا طَلَبَ مِنْهُ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَقَالَ : طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا } "

( فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ وَلَا وُضُوءَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً ( ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ ) كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ ( وَيَجْعَلُهُ ) أَيْ الْمَيِّتَ ( فِي أَكْفَانِهِ وَيَجْعَلُ الْحَنُوطَ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَالْكَافُورَ عَلَى مَسَاجِدِهِ ) ؛ لِأَنَّ التَّطَيُّبَ سُنَّةٌ وَالْمَسَاجِدُ أَوْلَى بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ ) قِيلَ بَعْدَ أَنْ يَمْسَحَهُ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَبْلَ الْمَسْحِ رُبَّمَا يُعَدِّيهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ( وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ ) رُوِيَ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِهَا ( وَلَا وُضُوءَهُ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَدْ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْغُسْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ } " وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً وَسَقَطَ الْوَاجِبُ فَلَا يُعِيدُهُ ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَلِأَنَّ الْخَارِجَ إنْ كَانَ حَدَثًا فَالْمَوْتُ أَيْضًا حَدَثٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَكَذَا هَذَا الْحَدَثُ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مِنْ مَسْحِ الْبَطْنِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْغُسْلِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ : يُقْعِدُهُ أَوَّلًا وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ ثُمَّ يَغْسِلُهُ ، لِأَنَّ الْمَسْحَ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْلَى حَتَّى يُخْرِجَ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَقَعُ الْغُسْلُ ثَلَاثًا بَعْدَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ تَكُونُ مُنْعَقِدَةً لَا تَخْرُجُ إلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ ، فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَقْدَرَ عَلَى إخْرَاجِ مَا بِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّثْلِيثَ فِي غُسْلِهِ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ " { اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا } " وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ : يُغَسَّلُ أَوَّلًا وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ لِيَحْصُلَ الْغُسْلُ ثَلَاثًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : تَرَكَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ الثَّالِثِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الثَّالِثُ هُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ ، وَغَسْلُ الرَّأْسِ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ

يَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغُسْلَ إجْمَالًا وَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْغُسْلِ مَرَّتَيْنِ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ ، وَالتَّثْلِيثُ فِي الصَّبِّ سُنَّةٌ عِنْدَ كُلِّ إضْجَاعٍ وَهَذَا أَنْسَبُ .
قِيلَ النِّيَّةُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَوْ أُخْرِجَ الْغَرِيقُ وَجَبَ غُسْلُهُ إلَّا إذَا حُرِّكَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْغُسْلِ تَوَجَّهَ عَلَى بَنِي آدَمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ التَّحْرِيكِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ ، فَكَمَا لَا تَجِبُ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْحَيِّ فَكَذَا لَا تَجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : مَيِّتٌ غَسَّلَهُ أَهْلُهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُنَشِّفُهُ ) ظَاهِرٌ ، وَالْحَنُوطُ عِطْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ طَيِّبَةٍ .
وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاجِدِ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَخُصَّ بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ

( وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ وَلَا لِحْيَتُهُ وَلَا يُقَصُّ ظُفُرُهُ وَلَا شَعْرُهُ ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا ، وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ تَحْتَهُ وَصَارَ كَالْخِتَانِ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ ) تَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَخْلِيصُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ ، وَقِيلَ تَخْلِيلُهُ بِالْمُشْطِ ، وَقِيلَ مَشْطُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُقَصُّ ظُفْرُهُ ) رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الظُّفُرَ إذَا كَانَ مُنْكَسِرًا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَامَ ) أَصْلُهُ " عَلَى مَا " دَخَلَ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّة فَأَسْقَطَ أَلِفَهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } وَيُقَالُ نَصَوْت الرَّجُلَ نَصْوًا أَخَذْت نَاصِيَتَهُ وَمَدَدْتهَا .
رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ تَسْرِيحِ شَعْرِ الْمَيِّتِ فَقَالَتْ : عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ ؟ كَأَنَّهَا كَرِهَتْ تَسْرِيحَ رَأْسِ الْمَيِّتِ فَجَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ .
قَالَ : وَفِي النِّهَايَةِ : قَوْلُهُ فِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا جَوَابُ إشْكَالٍ : أَيْ لَا يُشْكِلُ عَلَيْنَا الْحَيُّ حَيْثُ يُسَرَّحُ شَعْرُهُ وَيُقَصُّ ظُفُرُهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّينَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ زَوَالُ الْجُزْءِ ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُسَنُّ فِيهِ إزَالَةُ الْجُزْءِ كَمَا فِي الْخِتَانِ حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِيهِ .
بِأَنْ يُخْتَنَ الْحَيُّ وَلَا يُخْتَنَ الْمَيِّتُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَا فِي كُلِّ زِينَةٍ تَتَضَمَّنُ إبَانَةَ الْجُزْءِ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ أَجِدْ لَهُ رَبْطًا بِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا وَلَكِنِّي أَقُولُ قَوْلَهُ ( وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ ) أَيْ لِزِينَةِ الْمَيِّتِ ( وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الزِّينَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِزِينَةِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهَا تُفْعَلُ بِالْحَيِّ أَيْضًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا ) يَعْنِي مَا كَانَتْ تُعْمَلُ بِالْحَيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا زِينَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَنْظِيفٌ ( لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ تَحْتَهُ ) وَذِكْرُ الضَّمِيرِ فِي تَحْتِهِ

بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَيِّ تَنْظِيفًا لَكِنَّ الْمَيِّتَ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى التَّنْظِيفِ وَلِهَذَا قَالَ وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِيَكُونَ أَنْظَفَ فَلْيُعْمَلْ بِهِ مِنْ حَيْثُ التَّنْظِيفُ .
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ تَنْظِيفٌ بِإِبَانَةِ جُزْءٍ وَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ غَيْرُ مَسْنُونٍ كَمَا فِي الْخِتَانِ ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ .

فَصْلٌ فِي تَكْفِينِهِ : ( السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إزَارٍ وَقَمِيصٍ وَلِفَافَةٍ ) لِمَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ } " وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ ( فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ ، وَالثَّوْبَانِ إزَارٌ وَلِفَافَةٌ ) وَهَذَا كَفَنُ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا ، وَلِأَنَّهُ أَدْنَى لِبَاسِ الْأَحْيَاءِ ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ إلَى الْقَدَمِ

فَصْلٌ فِي التَّكْفِينِ ) رَتَّبَ هَذِهِ الْفُصُولَ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَا فِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ .
تَكْفِينُ الْمَيِّتِ : لَفُّهُ بِالْكَفَنِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدَّيْنِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ ) يَعْنِي تَكْفِينُهُ ( فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ ) سُنَّةٌ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ أَصْلِ التَّكْفِينِ وَاجِبًا ؛ ثُمَّ التَّكْفِينُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كُفِّنَ بِمَا وُجِدَ ، لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ صَاحِبَ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً وَهِيَ كِسَاءٌ فِيهِ خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِيهَا } " وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : كَفَنُ سُنَّةٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ثَلَاثَةُ ( أَثْوَابٍ : إزَارٌ ، وَقَمِيصٌ ، وَلِفَافَةٌ ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَالسَّحُولِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى سُحُولٍ بِفَتْحِ السِّينِ .
وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ بِالضَّمِّ : وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ .
وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ : إزَارٌ ، وَدِرْعٌ ، وَخِمَارٌ وَلِفَافَةٌ ، وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا .
وَكَفَنُ كِفَايَةٍ .
وَهُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَوْبَانِ : إزَارٌ ، وَلِفَافَةٌ .
وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ : قَمِيصٌ ، وَإِزَارٌ ، وَخِمَارٌ .
وَمَا فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .

( فَإِذَا أَرَادُوا لَفَّ الْكَفَنِ ابْتَدَءُوا بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ فَلَفُّوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ بِالْأَيْمَنِ ) كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَبَسْطُهُ أَنْ تُبْسَطَ اللِّفَافَةُ أَوَّلًا ثُمَّ يُبْسَطَ عَلَيْهَا الْإِزَارُ ثُمَّ يُقَمَّصَ الْمَيِّتُ وَيُوضَعَ عَلَى الْإِزَارِ ثُمَّ يُعْطَفَ الْإِزَارُ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ ثُمَّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ ، ثُمَّ اللِّفَافَةُ كَذَلِكَ ( وَإِنْ خَافُوا أَنْ يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ عَنْهُ عَقَدُوهُ بِخِرْقَةٍ ) صِيَانَةً عَنْ الْكَشْفِ .

( وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ دِرْعٍ وَإِزَارٍ وَخِمَارٍ وَلِفَافَةٍ وَخِرْقَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا ) لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ } " وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ .

( ثُمَّ هَذَا بَيَانُ كَفَنِ السُّنَّةِ ، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ جَازَ ) وَهِيَ ثَوْبَانِ وَخِمَارٌ ( وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ ، وَيُكْرَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ ) لِأَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَهَذَا كَفَنُ الضَّرُورَةِ ( وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الدِّرْعَ أَوَّلًا ثُمَّ يُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ ، ثُمَّ الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ تَحْتَ الْإِزَارِ ، ثُمَّ الْإِزَارُ ثُمَّ اللِّفَافَةُ .
قَالَ : وَتُجْمَرُ الْأَكْفَانُ قَبْلَ أَنْ يُدْرَجَ فِيهَا وِتْرًا ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِإِجْمَارِ أَكْفَانِ ابْنَتِهِ وِتْرًا } ، وَالْإِجْمَارُ هُوَ التَّطْيِيبُ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ صَلَّوْا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ .

فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ .فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ ) الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، أَمَّا فَرْضِيَّتُهُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ " { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَعَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ ، وَأَمَّا أَنَّهَا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ اسْتِحَالَةً أَوْ حَرَجًا فَاكْتُفِيَ بِالْبَعْضِ كَمَا فِي الْجِهَادِ .

( وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ السُّلْطَانُ إنْ حَضَرَ ) لِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ ( فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ وِلَايَةٍ ( فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ إمَامِ الْحَيِّ ) لِأَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .
قَالَ ( ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ ) ، .

رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ أَوْلَى إنْ حَضَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْمِصْرِ أَوْلَى إنْ حَضَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي أَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ أَوْلَى .
فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ .
وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ السُّلْطَانِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ إنْ حَضَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْمِصْرِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الْوَلِيُّ ) إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَلَهُمَا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا مَاتَ خَرَجَ الْحُسَيْنُ وَالنَّاسُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، فَقَدَّمَ الْحُسَيْنُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَكَانَ سَعِيدٌ يَوْمَئِذٍ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ فَأَبَى أَنْ يَتَقَدَّمَ ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ : تَقَدَّمْ ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُك " .
وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَعَلَى وِلَايَةِ الْمُنَاكَحَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ ) يَقْتَضِي أَنْ يَتَقَدَّمَ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى ، فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالِابْنُ أَوْلَى ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوِلَايَةُ لَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَبُ احْتِرَامًا لَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ مَا ذَكَرَهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ لِلْأَبِ زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ وَسِنٍّ لَيْسَتْ لِلِابْنِ ، وَلِلْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ فَيُرَجَّحُ الْأَبُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَعَلَى قَوْلِ

هَؤُلَاءِ .
قَوْلُهُ ( وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ ) مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالِابْنِ فَبَنُو الْأَعْيَانِ يَحْجُبُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ وَالْأَكْبَرُ سِنًّا يَحْجُبُ الْأَصْغَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ } فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْبَرُ مِنْ الْأَعْيَانِ أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا آخَرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بَنُو الْأَعْيَانِ تَقْدِيمَ إنْسَانٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي الْعِلَّاتِ مَنْعُهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ مَعَ وُجُودِهِمْ ، وَابْنُ عَمِّ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ مِنْ زَوْجِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا ابْنٌ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِمَوْتِهَا وَالْتِحَاقِهِ بِالْأَجَانِبِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، ثُمَّ الِابْنُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ احْتِرَامًا لَهُ فَيَثْبُتُ لِلزَّوْجِ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
قَالَ الْقُدُورِيُّ : وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الزَّوْجُ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى امْرَأَتِهِ وَقَالَ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا " .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَتْ امْرَأَتُهُ قَالَ لِأَوْلِيَائِهَا : كُنَّا أَحَقَّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً ، فَإِذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا " .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إمَامَ حَيٍّ

( فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ ) يَعْنِي إنْ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ لِلْأَوْلِيَاءِ ( وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ ) لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِالْأَوْلَى وَالتَّنَفُّلَ بِهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَلِهَذَا رَأَيْنَا النَّاسَ تَرَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ .

( فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ ) وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِذِكْرِ السُّلْطَانِ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى السُّلْطَانُ فَلَا إعَادَةَ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْوَلِيِّ ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ عَلَى السُّلْطَانِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَلِيِّ فِي تَرْتِيبِ الْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصَلَّى هُوَ لَا يُعِيدُ الْوَلِيُّ ثَانِيًا قَالَ الْإِمَامُ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي فَتَاوَاهُ : رَجُلٌ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَالْوَلِيُّ خَلْفَهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ ، إنْ تَابَعَهُ وَصَلَّى مَعَهُ لَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ صَلَّى مَرَّةً ، وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي السُّلْطَانَ أَوْ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ فِي الْبَلْدَةِ أَوْ الْقَاضِيَ أَوْ الْوَالِيَ .
عَلَى الْبَلْدَةِ .
أَوْ إمَامَ حَيٍّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْأَوْلَوْنَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمْ .
فَلَهُ الْإِعَادَةُ .
وَكَذَا ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ وَالْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إعَادَةَ الْوَلِيِّ إذَا لَمْ يُصَلِّهَا وَلَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ السُّلْطَانِ إذَا لَمْ يُصَلِّهَا ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي وِلَايَةِ الْإِعَادَةِ كَحُكْمِ الْوَلِيِّ لِمَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى الْوَلِيِّ ، فَلَمَّا ثَبَتَ حَقُّ الْإِعَادَةِ لِلْأَدْوَنِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ لِلْأَعْلَى مِنْهُ أَوْلَى ، وَقَالَ : قَدْ وَجَدْت رِوَايَةً فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ تَشْهَدُ بِمَا ذُكِرَ ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ تَخْصِيصُ الْوَلِيِّ لَيْسَ بِقَيْدٍ لِمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى .
مِنْ الْوَلِيِّ .
فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلْوَالِجِيِّ وَالتَّجْنِيسِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُعَادُ

الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ ، فَقِيلَ قَبْرُ فُلَانَةَ ، فَقَالَ : هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ ؟ فَقِيلَ إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْك هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَامَ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا } " { وَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
صَلَّى عَلَيْهِ .
أَصْحَابُهُ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ } .
وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ ) لِأَنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَإِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ ، وَهَكَذَا تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ ، وَكَانَ الْحَقُّ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .

( وَإِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ( وَيُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَسَّخَ ) وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ هُوَ الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ .وَقَوْلُهُ ( صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ ) يَعْنِي إذَا وُضِعَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَأُهِيلَ التُّرَابُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُوضَعْ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ أَوْ وُضِعَ وَلَكِنْ لَمْ يُهَلْ التُّرَابُ عَلَيْهِ يُخْرَجُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّسْنِيمَ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي عَدَمِ التَّفَسُّخِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ وَبَعْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ ، لِأَنَّ تَفَرُّقَ الْأَجْزَاءِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ مِنْ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ ، وَبِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ مِنْ الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ ، وَاَلَّذِي رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ } " مَعْنَاهُ دَعَا لَهُمْ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ .
وَقِيلَ : إنَّهُمْ كَانُوا كَمَا دُفِنُوا لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الرَّأْيِ هُوَ الْمُعْتَبَرَ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِمْ أَنَّ أَجْزَاءَ الْمَيِّتِ تَفَرَّقَتْ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَتَفَرَّقْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .

( وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِيبَهَا ، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا .

قَالَ ( وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً ) الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ ( يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ) وَلَمْ يُعَيِّنْ نَوْعًا مِنْ الثَّنَاءِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهَا : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ إلَخْ كَمَا مَرَّ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَحْمَدُ اللَّهَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ .
وَأَرَى أَنَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ ، فَإِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ الثَّنَاءِ ذَلِكَ وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ فِي التَّكْبِيرَاتِ إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ ( ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً ثَانِيَةً يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ يَعْقُبُهُ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ وَعَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ الْخُطَبُ ( ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً ثَالِثَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ) يَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَيَأْتِي بِأَيِّ دُعَاءٍ شَاءَ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقُبُهُمَا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْعُوَ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو } " ( ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ ، { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا } فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا ) فَكَانَ مَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ أَوْ أَنَّ التَّحَلُّلَ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا دُعَاءٌ إلَّا السَّلَامُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنْ يُقَالَ : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً

وَقِنَا بِرَحْمَتِك عَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ وَبَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتنَا } الْآيَةَ .

( وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُؤْتَمُّ ) خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِمَا رَوَيْنَا ، وَيَنْتَظِرُ تَسْلِيمَةَ الْإِمَامِ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ .( وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي ) فِي الْخَامِسَةِ لِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً بِمَا رَوَيْنَا " { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا } " .
وَقَالَ زُفَرُ : يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ خَمْسًا فَتَابَعَهُ الْمُقْتَدِي كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ .
قُلْنَا : ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَشَاوَرُوا وَرَجَعُوا إلَى آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَصَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِإِجْمَاعِهِمْ ، وَمُتَابَعَةُ الْمَنْسُوخِ خَطَأٌ ، وَإِذَا لَمْ يُتَابِعْهُ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُسَلِّمُ لِلْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُخَالَفَةِ ، وَفِي أُخْرَى : يَنْتَظِرُ تَسْلِيمَ الْإِمَامِ لِيَصِيرَ مُتَابَعًا فِيمَا تَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فِيهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْمُخْتَارُ ) .

وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ اسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ سُنَّةِ الدُّعَاءِ ، وَلَا يَسْتَغْفِرُ لِلصَّبِيِّ وَلَكِنْ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرْطًا ، وَاجْعَلْهُ لَنَا أَجْرًا وَذُخْرًا ، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا .وَقَوْلُهُ ( وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ ) يَعْنِي بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الدُّعَاءُ ( وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةُ الدُّعَاءِ ) تَحْصِيلًا لِلْإِجَابَةِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا فَعَلَ هَكَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ فَقَدْ اُسْتُجِيبَ لَك } " ( وَ ) عَلَى هَذَا ( لَا يُسْتَغْفَرُ لِلصَّبِيِّ ) لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ ( وَلَكِنْ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا ) أَيْ أَجْرًا يَتَقَدَّمُنَا ، وَأَصْلُ الْفَرَطِ فِيمَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ " { أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ } " أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ ( وَاجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا ) أَيْ خَيْرًا بَاقِيًا ( وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا ) أَيْ مَقْبُولَ الشَّفَاعَةِ .

( وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ لَا يُكَبِّرُ الْآتِي حَتَّى يُكَبِّرَ أُخْرَى بَعْدَ حُضُورِهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ لِأَنَّ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ، وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ إذْ هُوَ مَنْسُوخٌ ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ ) ظَاهِرٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَالْمَسْبُوقِ ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ فَكَذَا هَذَا ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ كَالْمَسْبُوقِ لَكِنْ لِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا قِيلَ أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الظُّهْرِ ( وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ) فَيَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرُ مَعَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ التَّكْبِيرَةُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَيَصِيرُ مَسْبُوقًا بِمَا فَاتَهُ مِنْ تَكْبِيرَةٍ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ يَأْتِي .
بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَوْلُهُ ( إذْ هُوَ ) أَيْ الِابْتِدَاءُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ أَدَاءِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ ( مَنْسُوخٌ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا ) أَيْ الَّذِي فَاتَتْهُ التَّكْبِيرَةُ ( لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ ) لِتِلْكَ التَّكْبِيرَةِ ضَرُورَةَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُقَارَنَةِ .
وَشَرْطُ قَضَاءِ التَّكْبِيرِ الْفَائِتِ أَنْ لَا تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجُوزُ بَعْدَ رَفْعِهَا .
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكَبِّرُ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مَسْبُوقًا بِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَسْبُوقًا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ كَبَّرَ عِنْدَ الدُّخُولِ ، وَلَوْ كَانَ مَسْبُوقًا بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ صَارَ مُشْتَغِلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَاتَتْهُ الْجِنَازَةُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَيَشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ يَأْتِي

بِالتَّكْبِيرَاتِ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ .

قَالَ ( وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ ) لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَفِيهِ نُورُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ الْقِيَامُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى الشَّفَاعَةِ لِإِيمَانِهِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ بِحِذَاءِ رَأْسِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ وَسَطِهَا لِأَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ كَذَلِكَ وَقَالَ : هُوَ السُّنَّةُ .
قُلْنَا تَأْوِيلُهُ أَنَّ جِنَازَتَهَا لَمْ تَكُنْ مَنْعُوشَةً فَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ .قَالَ ( وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَالْوَسْطُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : بِسُكُونِ السِّينِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ الشَّيْءِ وَلِذَا كَانَ ظَرْفًا ، يُقَالُ : جَلَسْت وَسْطَ الدَّارِ بِالسُّكُونِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا ، بِخِلَافِ الْمُتَحَرِّكِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَعَيْنِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ ، وَالنَّعْشُ شَبَهُ الْمِحَفَّةِ مُشْتَبِكٌ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا وُضِعَتْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ .

( فَإِنْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ رُكْبَانًا أَجْزَأَهُمْ ) فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا تُجْزِئُهُمْ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ احْتِيَاطًاوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا دُعَاءٌ ) يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا قِرَاءَةٌ وَلَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ فَيَسْقُطُ الْقِيَامُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ ( وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِيهِمْ ) يَعْنِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .

( وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقُّ الْوَلِيِّ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : لَا بَأْسَ بِالْأَذَانِ : أَيْ الْإِعْلَامِ ، وَهُوَ أَنْ يُعْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَقْضُوا حَقَّهُوَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ ) أَيْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِغَيْرِهِ بِالْإِمَامَةِ إذَا حَسُنَ ظَنُّهُ بِشَخْصٍ أَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ مَزِيدَ خَيْرٍ وَثَوَابٍ ، وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى لَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ حَقُّهُ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ : لَا بَأْسَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِلنَّاسِ بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، إذْ لَا يَسَعُهُمْ الِانْصِرَافُ عَنْهَا قَبْلَ الدَّفْنِ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ) أَيْ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( بِالْأَذَانِ ) أَيْ إعْلَامِ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَآذِنُونِي بِالصَّلَاةِ } " أَيْ أَعْلِمُونِي ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّدَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ لِلْجِنَازَةِ الَّتِي يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا كَالزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ .

( وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ } " وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ) إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ وَالْإِمَامُ وَبَعْضُ الْقَوْمِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْبَاقِي فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ وَحْدَهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُكْرَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَمَرَتْ عَائِشَةُ بِإِدْخَالِ جِنَازَتِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى صَلَّتْ عَلَيْهَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَتْ لِبَعْضِ مَنْ حَوْلَهَا : هَلْ عَابَ النَّاسُ عَلَيْنَا مَا فَعَلْنَا ؟ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَتْ : مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا ، { مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةِ سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } " وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ } " وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ قَدْ عَابُوا عَلَيْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَتَأْوِيلُ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةِ سُهَيْلٍ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ فَأَمَرَ بِالْجِنَازَةِ فَوُضِعَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ .
وَعِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ لِمَا نَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ ) دَلِيلَانِ مَعْقُولَانِ عَلَى ذَلِكَ وَقَعَ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ نَظَرًا إلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّنَفُّلُ فِي الْمَسْجِدِ

لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الثَّانِي حَكَمَ بِعَدَمِهَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ التَّلْوِيثُ لَمْ تُوجَدْ .
فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطْلَقٌ فَالتَّعْلِيلُ بِالتَّلْوِيثِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فِي الْمَسْجِدِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلصَّلَاةِ فَكَانَ دَلِيلًا لِلْأَوَّلَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْجِنَازَةِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِتَعْلِيلِ الْآخَرِينَ .

( وَمَنْ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ } " وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَتَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ سُنَّةُ الْمَوْتَى ( وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ ) كَرَامَةً لِبَنِي آدَمَ ( وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَيُغَسَّلُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ اسْتَهَلَّ ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ : أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ : هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ أَوْ طَرْفِ عَيْنٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ ) دَلِيلُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَيُعْطَى حَظًّا مِنْ الشَّبَهَيْنِ ، فَلِاعْتِبَارِهِ بِالنُّفُوسِ يُغَسَّلُ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالْأَجْزَاءِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ .

( وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا ( إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ ) لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا ( أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ) لِأَنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا ( وَإِنْ لَمْ يُسْبَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ ) يَعْنِي إذَا سُبِيَ صَبِيٌّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ( مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ) أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ( فَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ كَافِرٌ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا } " فَإِنَّ فِيهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى مُتَابَعَةِ الْوَلَدِ لِلْأَبَوَيْنِ ( إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ ) صِفَةُ الْإِسْلَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي { حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ } " وَقِيلَ مَعْنَاهُ : يَعْقِلُ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى وَاتِّبَاعَهُ خَيْرٌ ، وَالْكُفْرَ ضَلَالَةٌ وَاتِّبَاعَهُ شَرٌّ ( لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا ) وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ يُسَلِّمُ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ ؛ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ أَوْ يُسْلِمُ ( أَحَدُ أَبَوَيْهِ ) صَحَّ إسْلَامُهُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ الدَّارُ مِمَّا يُتْبَعُ فَلْيُتْبَعْ وَإِنْ سُبِيَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ كَالْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الدَّارِ فِي الِاسْتِتْبَاعِ دُونَ تَأْثِيرِ الْوِلَادَةِ ، { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِاسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ دُونَ الدَّارِ مَعَ قِيَامِ الدَّارِ } ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِمَا حُكِمَ بِكُفْرِ صَبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا ، وَكَانَ مَا تَرَكَ أَبَوَاهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَبَعِيَّةَ الْيَدِ بَعْدَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ مِنْ

الْغَنِيمَةِ صَبِيٌّ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِصَاحِبِ الْيَدِ ؛ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ قَدَّمَ تَبَعِيَّةَ الْيَدِ عَلَى تَبَعِيَّةِ الدَّارِ .

( وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ ) بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ ، لَكِنْ يُغَسَّلُ غُسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَتُحْفَرُ حُفَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّكْفِينِ وَاللَّحْدِ ، وَلَا يُوضَعُ فِيهَا بَلْ يُلْقَى .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ ) أَيْ قَرِيبٌ ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوِلَايَةِ مَنْفِيَّةٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } وَأُطْلِقَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ : كَافِرٌ مَاتَ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ الْكُفَّارِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُخَلِّيَ الْمُسْلِمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَصْنَعُونَ بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ ( بِذَلِكَ أَمَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) رُوِيَ " { أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّك الضَّالَّ وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَكَفِّنْهُ وَلَا تُحْدِثْ بِهِ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي } " أَيْ لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( لَكِنْ يُغَسَّلُ غَسْلَ الثَّوْبِ النَّجَسِ ) يَعْنِي لَا يُغَسَّلُ كَغُسْلِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالْوُضُوءِ وَبِالْمَيَامِنِ ، وَلَكِنْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَمَا يُصَبُّ فِي غُسْلِ النَّجَاسَةِ وَلَا يَكُونُ الْغُسْلُ طَهَارَةً لَهُ ؛ حَتَّى لَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وَصَلَّى لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ الْمُصَلِّي بَعْدَمَا غُسِّلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ ( وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ ) يَعْنِي بِلَا اعْتِبَارِ عَدَدٍ وَلَا حَنُوطٍ وَلَا كَافُورٍ .

( وَإِذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ ) بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَزِيَادَةُ الْإِكْرَامِ وَالصِّيَانَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ : يَضَعُهَا السَّابِقُ عَلَى أَصْلِ عُنُقِهِ ، وَالثَّانِي عَلَى أَعْلَى صَدْرِهِ ، لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا حُمِلَتْ .
قُلْنَا : كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ .( فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ ) ( إذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعَةِ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ ) وَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ ( وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ كَانَ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةً ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الْإِكْرَامِ حَيْثُ لَمْ يُحْمَلْ كَمَا تُحْمَلُ الْأَحْمَالُ ، وَفِيهِ صِيَانَةٌ عَنْ سُقُوطِ الْمَيِّتِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ ) كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ " { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ } " ( قُلْنَا : كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ ) وَكَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا حَتَّى رُوِيَ " { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْشِي عَلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ } " وَكَانَ حَالَةَ ضَرُورَةٍ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ .

( وَيَمْشُونَ بِهِ مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ ) " لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ قَالَ : مَا دُونَ الْخَبَبِ "وَقَوْلُهُ ( وَيَمْشُونَ بِهِ مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ ) الْخَبَبُ ضَرْبٌ مِنْ الْعَدْوِ دُونَ الْعَنَقِ لِأَنَّ الْعَنَقَ خَطْوٌ فَسِيحٌ وَاسِعٌ " لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَشْيِ فِي الْجِنَازَةِ فَقَالَ : { مَا دُونَ الْخَبَبِ ، فَإِنْ يَكُنْ خَيْرًا عَجَّلْتُمُوهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ يَكُنْ شَرًّا وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } " أَوْ قَالَ " { فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ } " وَالْخَبَبُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ فِيهِ ازْدِرَاءً بِالْمَيِّتِ وَإِضْرَارًا بِالْمُتَّبِعِينَ .
وَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قُدَّامَهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ .
وَلَنَا " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } " وَعَلِيٌّ كَانَ يَمْشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ .
وَفِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْتَرِزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا ، فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَهَا لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مَنْ يُشَيِّعُهَا ، وَهَكَذَا أَجَابَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قِيلَ لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ قَالَ : يَرْحَمُهُمَا اللَّهُ إنَّهُمَا قَدْ عَرَفَا أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ وَلَكِنَّهُمَا أَرَادَا تَيْسِيرَ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ .

( وَإِذَا بَلَغُوا إلَى قَبْرِهِ يُكْرَهُ أَنْ يَجْلِسُوا قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ ) لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعَاوُنِ وَالْقِيَامُ أَمْكَنُ مِنْهُوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا بَلَغُوا إلَى قَبْرِهِ ) ظَاهِرٌ ، فَإِذَا وُضِعَتْ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ جَلَسُوا وَكُرِهَ الْقِيَامُ .

قَالَ : وَكَيْفِيَّةُ الْحَمْلِ أَنْ تَضَعَ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِك إيثَارًا لِلتَّيَامُنِ ، وَهَذَا فِي حَالَةِ التَّنَاوُبِ .

وَقَوْلُهُ ( وَكَيْفِيَّةُ الْحَمْلِ أَنْ تَضَعَ الْجِنَازَةَ ) هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ الْخِطَابِ خَاطَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَبَا يُوسُفَ .
قَالَ يَعْقُوبُ : رَأَيْت أَبَا حَنِيفَةَ يَصْنَعُ هَكَذَا ، قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ : وَهَذَا دَلِيلُ تَوَاضُعِهِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَقَدْ حَمَلَ الْجِنَازَةَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، بَلْ أَفْضَلُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ وَهُوَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَمَا ذَكَرْنَا لِمَا أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ عِبَادَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَبَادَرَ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إنَّمَا أَرَادَ بِالْيَمِينِ الْمُقَدَّمِ يَمِينَ الْمَيِّتِ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا حَمَلْت جَانِبَ السَّرِيرِ الْأَيْسَرِ فَذَلِكَ يَمِينُ الْمَيِّتِ لِأَنَّ يَمِينَ الْمَيِّتِ عَلَى يَسَارِ الْجِنَازَةِ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ وُضِعَ فِيهَا عَلَى قَفَاهُ وَكَانَ يَمِينُ الْمَيِّتِ يَسَارَهَا وَيَسَارُهُ يَمِينَهَا ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَمْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، أَمَّا الْبُدَاءَةُ بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ وَذَلِكَ يَمِينُ الْمَيِّتِ وَيَمِينُ الْحَامِلِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَالْمُقَدَّمُ أَيْضًا أَوَّلَ الْجِنَازَةِ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَشْيِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَى الْأَيْمَنِ الْمُؤَخَّرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَ إلَى الْأَيْسَرِ الْمُقَدَّمِ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا ، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ ، فَلَمَّا مَشَى خَلْفَهَا وَبَلَغَ الْأَيْمَنَ الْمُؤَخَّرَ حَمَلَهُ لِأَنَّ فِيهِ رُجْحَانَ التَّيَامُنِ أَيْضًا فَبَقِيَ جَانِبَاهُ الْأَيْسَرُ الْمُقَدَّمُ وَالْأَيْسَرُ الْمُؤَخَّرُ ، فَيَخْتَارُ تَقْدِيمَ الْأَيْسَرِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الْأَيْسَرِ الْمُؤَخَّرِ لِأَنَّ فِيهِ الْخَتْمَ بِالْأَيْسَرِ الْمُؤَخَّرِ ، وَالْخَتْمُ بِذَلِكَ أَوْلَى لِيَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ كَمَا مَرَّ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ حَمْلُهَا عَلَى الْوَجْهِ

الْمَذْكُورِ ( فِي حَالَةِ التَّنَاوُبِ ) يَعْنِي عِنْدَ وُفُورِ الْحَامِلِينَ لِيَدْفَعَ الْجَنْبَ الَّذِي حَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَنْتَقِلَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47