كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ إذْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْضَى بِبَقَائِهِ مُكَاتِبًا .
وَإِذَا صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالثَّانِي وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ ( فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ حُرًّا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ) غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ ( وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْعُقْرِ ) لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَعْرَى عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ ، وَإِذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَصَارَتْ كُلُّهَا مُكَاتَبَةً لَهُ ، قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهَا نِصْفُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَلَا تَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ .
وَقِيلَ يَجِبُ كُلُّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ إلَّا فِي حَقِّ التَّمَلُّكِ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ وَفِي إبْقَائِهِ فِي حَقِّهِ نَظَرٌ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا تَتَضَرَّرُ الْمُكَاتَبَةُ بِسُقُوطِهِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ هِيَ الَّتِي تُعْطِي الْعُقْرَ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَبْدَالِ مَنَافِعِهَا .
وَلَوْ عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تَرُدُّ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَيَضْمَنُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ ( وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ ، وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ فَلِتَرَدُّدٍ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الثَّانِي لَمْ يَطَأْهَا وَلَكِنْ دَبَّرَهَا ثُمَّ عَجَزَتْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ الْمِلْكَ .
أَمَّا

عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ تَمَلَّكَهَا قَبْلَ الْعَجْزِ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُصَادِفُ مِلْكِ غَيْرِهِ وَالتَّدْبِيرُ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْغُرُورَ عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَكَمَّلَ الِاسْتِيلَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا ) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ( وَنِصْفَ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نِصْفَهَا بِالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ تَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ ( وَالْوَلَدُ وَلَدُ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمُصَحِّحِ ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا .
وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا إلَخْ ) وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا فَوَطِئَهَا أَحَدُهُمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ : أَيْ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ : أَيْ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ أَيْضًا وَثَبَتَ نَسَبُهُ ثُمَّ عَجَزَتْ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ كُلُّهَا لِلْأَوَّلِ بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ الْأَوَّلَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِي الْمُكَاتَبَةِ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَكْمِيلِ الِاسْتِيلَادِ إلَّا بِتَمَلُّكِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَالْمُكَاتَبَةُ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَتَقْتَصِرُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ عَلَى نَصِيبِهِ ، كَمَا فِي الْمُدَبَّرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ فِيهَا يَتَجَزَّأُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، وَلَا وَجْهَ لِفَسْخِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ قَدْ تَرْضَى بِحُرِّيَّةٍ عَاجِلَةٍ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَلَا تَرْضَى بِحُرِّيَّةٍ آجِلَةٍ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَادِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَحَّضْ الْفَسْخُ مَنْفَعَةً ، لَا تَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي وَلَدَهَا الْآخَرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ ظَاهِرًا ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ ظَاهِرًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ تَمْضِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا فَكَانَ مِلْكُهُ بَاقِيًا نَظَرًا إلَى الظَّاهِرِ ، ثُمَّ إذَا عَجَزَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتْ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ الِانْتِقَالِ وَوَطْؤُهُ سَابِقٌ ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً وَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ كَمَالَ عُقْرِهَا فَيَكُونُ النِّصْفُ

بِالنِّصْفِ قِصَاصًا وَيَبْقَى لِلْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي نِصْفُ الْعُقْرِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ ابْنَهُ بِالنَّظَرِ إلَى الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ أَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الظَّاهِرِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ ابْنَهُ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ لِأَنَّهُ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْنَا وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْحَقِيقَةِ فَلُزُومُ كَمَالِ الْعُقْرِ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي قِيمَةَ الْوَلَدِ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ حُكْمَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ فَكَذَا لِابْنِهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ رِوَايَتَانِ ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ مُتَقَوِّمًا عَلَى إحْدَاهُمَا فَكَانَ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ، وَأَيُّهُمَا دَفَعَ الْعُقْرَ إلَى الْمُكَاتَبَةِ : يَعْنِي قَبْلَ الْعَجْزِ جَازَ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فَحَقُّ الْقَبْضِ لَهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِمَنَافِعِهَا وَأَبْدَالِهَا ، وَإِذَا عَجَزَتْ تَرُدُّ الْعُقْرَ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ لَهُ وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ وَطْءٌ لِآخَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلُ الْوَلَدَ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَجِبُ تَكْمِيلُهَا بِالْإِجْمَاعِ مَا أَمْكَنَ ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ طَلَبُ الْوَلَدِ وَإِنَّهُ يَقَعُ بِالْفِعْلِ وَالْفِعْلُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَذَا مَا يَثْبُتُ بِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَكْمُلُ فِي الْقِنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ

لِلْفَسْخِ فَتُفْسَخُ تَكْمِيلًا لِلِاسْتِيلَادِ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَهُوَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ لَهَا فِيهَا بَلْ لَهَا فِيهِ نَفْعٌ حَيْثُ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلِابْتِذَالِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ مَحَلًّا : أَيْ فِيمَا وَرَاءَ مَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهَا أَحَقَّ بِأَكْسَابِهَا وَأَكْسَابِ وَلَدِهَا ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عَلَى الْمُدَبَّرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تُسْتَكْمَلُ مَا أَمْكَنَ وَلَا إمْكَانَ هَاهُنَا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْفَسْخِ ، فَإِذَا اسْتَوْلَدَ الشَّرِيكُ الثَّانِي بَعْدَ اسْتِيلَادِ الْأَوَّلِ الْمُدَبَّرَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُمَا صَحَّ اسْتِيلَادُهُ ( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ ) قِيلَ هُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ هَلَّا فَسَخْتُمْ الْكِتَابَةَ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا بِيعَ الْمُكَاتَبُ كَمَا فَسَخْتُمُوهَا فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ الْبَيْعِ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ إذْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْضَى بِبَقَائِهِ مُكَاتَبًا ، وَلَوْ أَبْطَلْنَاهَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُكَاتَبُ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبُ لَا يَصِحُّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَرَاءَ مَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ كَمَا كَانَتْ ( قَوْلُهُ وَإِذَا صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلَ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَإِذَا صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالثَّانِي وَطْءُ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ حُرًّا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ وَهِيَ شُبْهَةُ أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ

مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَبْقَى مُكَاتَبَةً بَيْنَهُمَا فِيمَا تَتَضَرَّرُ بِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَطْءِ مُكَاتَبَتِهِ ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْعُقْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَعْرَى عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ ، وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَتَقْرِيرُهُ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَإِذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ فَصَارَتْ كُلُّهَا مُكَاتَبَةً لَهُ : أَيْ لِلْأَوَّلِ .
قِيلَ هُوَ جَزَاءُ إذَا بَقِيَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا نِصْفُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ انْفَسَخَتْ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ ، وَلَا تَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ وَهُوَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مَنْصُورٍ .
وَقِيلَ يَجِبُ كُلُّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ إلَّا فِي حَقِّ التَّمَلُّكِ ضَرُورَةَ تَكْمِيلِ الِاسْتِيلَادِ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي إبْقَائِهِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ الْكِتَابَةُ تَنْفَسِخُ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ ، وَهِيَ لَا تَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْفَسِخَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي إبْقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ نِصْفِ الْبَدَلِ نَظَرًا لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَضَرَّرُ الْمُكَاتَبَةُ بِسُقُوطِهِ ، فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكِتَابَةِ عَدَمُ الْفَسْخِ ( وَالْمُكَاتَبَةُ هِيَ الَّتِي تُعْطِي الْعُقْرَ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَبْدَالِ مَنَافِعِهَا ، وَلَوْ عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تُرَدُّ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَالَ ( وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ ) إذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي

يُوسُفَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
وَعِنْدَمَا يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ ، وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ ، فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ .
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ دِرْهَمٌ يَكُونُ حِصَّتُهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ تَمَلَّكَهَا أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيلَادِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ جَمِيعُ بَدَلِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذِهِ الرَّقَبَةِ إلَّا نِصْفُ دِرْهَمٍ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأَقَلَّ ، هَذَا قَوْلُهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ ( وَإِذَا كَانَ الثَّانِي لَمْ يَطَأْهَا وَلَكِنْ دَبَّرَهَا ثُمَّ عَجَزَتْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ لِعَدَمِ مُصَادِفَتِهِ الْمِلْكَ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ تَمَلَّكَهَا قَبْلَ الْعَجْزِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ ) أَيْ التَّدْبِيرَ ( مُصَادِفٌ مِلْكَ غَيْرِهِ وَالتَّدْبِيرُ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ ) فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ ( بِخِلَافِ النَّسَبِ ) فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ الثَّانِي إنْ وُجِدَ الْوَطْءُ مِنْهُ ( لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْغُرُورَ ) لَا الْمِلْكَ ( وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَكَمَّلَ الِاسْتِيلَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ

قَوْلُهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ أَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ الِانْتِقَالِ ( وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً وَنِصْفَ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نِصْفَهَا بِالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ تَمَلُّكٌ بِالْقِيمَةِ ، وَالْوَلَدُ وَلَدُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمُصَحِّحِ ) وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْمُكَاتَبَةِ ( وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَهَاهُنَا مَا بَقِيَتْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَدَهَا الْأَوَّلُ مَلَكَ نِصْفَ شَرِيكِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِلْكٌ لِلْمُدَبَّرِ فِيهَا فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ ( وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا ) أَيْ فِي تَعْلِيلِ الْقَوْلَيْنِ ، أَمَّا طَرَفُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَارِيَةَ إلَخْ ، وَأَمَّا طَرَفُهُمَا فَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلُ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إلَخْ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَا كَاتَبَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهَا لَمَّا عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تَصِيرُ كَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ قِنَّةً ، وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الرُّجُوعِ وَفِي الْخِيَارَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَسْأَلَةُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي الْإِعْتَاقِ ، فَأَمَّا قَبْلَ الْعَجْزِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا كَانَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَانَ أَثَرُهُ أَنْ يُجْعَلَ نَصِيبُ غَيْرِ الْمُعْتِقِ كَالْمُكَاتَبِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ نَصِيبُ صَاحِبِهِ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ بِعِتْقِ الْكُلِّ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .

( وَإِنْ كَانَ كَاتَبَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَمَّا عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ صَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ قِنَّةً .
وَالْجَوَابُ فِيهِ ) أَيْ فِي إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْقِنَّ ( عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الرُّجُوعِ ) فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا ضَمِنَ السَّاكِتُ الْمُعْتِقَ فَالْمُعْتِقُ يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ( وَفِي الْخِيَارَاتِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّاكِتُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ : إنْ شَاءَ أَعْتَقَ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ شَرِيكُهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ .
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ إلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ ( وَغَيْرِهَا ) يَعْنِي الْوَلَاءَ وَتَرْدِيدَ الِاسْتِسْعَاءِ ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَعْتَقَ السَّاكِتُ أَوْ اسْتَسْعَى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمُعْتِقِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا .
وَأَمَّا تَرْدِيدُ الِاسْتِسْعَاءِ فَإِنَّهُمَا لَا يَرَيَانِ الِاسْتِسْعَاءَ مَعَ الْيَسَارِ ، وَيَقُولَانِ : إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يَضْمَنُ نَصِيبَ السَّاكِتِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ لِنَصِيبِ السَّاكِتِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَاهُ ( كَمَا هُوَ مَسْأَلَةُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَتَاقِ ) هَذَا إذَا عَجَزَ ( فَأَمَّا قَبْلَ الْعَجْزِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) خِلَافًا لَهُمَا وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَمَبْنَاهُ أَيْضًا عَلَى تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا تَجَزَّأَ عِنْدَهُ لَمْ يَظْهَرْ إفْسَادُ نَصِيبِ السَّاكِتِ مَا لَمْ يَعْجِزْ فَإِنَّ أَثَرَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُجْعَلَ نَصِيبُ السَّاكِتِ كَالْمُكَاتَبِ ) وَهُوَ حَاصِلٌ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إذَا عَجَزَتْ كَمَا يُوجِبُ ذَلِكَ فِي الْقِنَّةِ .

فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ( وَعِنْدَهُمَا لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ عَتَقَ الْكُلُّ فَلَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ) .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ ، فَإِنْ شَاءَ الَّذِي دَبَّرَهُ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ وَيُسْتَسْعَى أَوْ يُعْتَقُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَتَدْبِيرُ أَحَدِهِمَا يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ الْآخَرِ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيرَةُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، فَإِذَا أَعْتَقَ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ ، وَإِعْتَاقُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَلَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ ، وَلَهُ خِيَارُ الْعِتْقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ الْمُدَبَّرَ .
ثُمَّ قِيلَ : قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ تُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، وَقِيلَ يَجِبُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ زَهْوَ قِنٍّ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : الْبَيْعُ وَأَشْبَاهُهُ ، وَالِاسْتِخْدَامُ وَأَمْثَالُهُ ، وَالْإِعْتَاقُ وَتَوَابِعُهُ ، وَالْفَائِتُ الْبَيْعُ فَيَسْقُطُ الثُّلُثُ .
وَإِذَا ضَمَّنَهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، كَمَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ .
وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا كَانَ لِلْآخَرِ الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَهُ ، فَإِذَا دَبَّرَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَبَقِيَ خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ وَيُسْتَسْعَى ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا فَعِتْقُ الْآخَرِ بَاطِلٌ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالتَّدْبِيرِ ( وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا )

لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّهُ صَادَفَهُ التَّدْبِيرُ وَهُوَ قِنٌّ ( وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَتَدْبِيرُ الْآخَرِ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَعَتَقَ كُلُّهُ فَلَمْ يُصَادِفْ التَّدْبِيرُ الْمِلْكَ وَهُوَ يَعْتَمِدُهُ ( وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ) وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ عِنْدَهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا إلَخْ ) وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ نِصْفَ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَبَيْنَ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ وَإِعْتَاقِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ إنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُعْتِقُ وَلَكِنْ يُسْتَسْعَى أَوْ يُعْتِقُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَتَدْبِيرُ أَحَدِهِمَا يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لَكِنَّهُ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ الْآخَرِ لِسَدِّ بَابِ النَّقْلِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَلَهُ الْإِعْتَاقُ وَالِاسْتِسْعَاءُ ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْآخَرُ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ ، وَيَقْتَصِرُ الْإِعْتَاقُ عَلَى نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَلَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ لِسَدِّ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ عَلَيْهِ فَلَهُ تَضْمِينُ نَصِيبِهِ وَالْإِعْتَاقِ وَالسِّعَايَةِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، فَإِنْ ضَمِنَهُ ضَمِنَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ الْمُدَبَّرَ .
وَاخْتَلَفُوا فِي قِيمَتِهِ ، فَقِيلَ قِيمَتُهُ تُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، وَقِيلَ قِيمَتُهُ ثُلُثَا قِيمَةِ الْقِنِّ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : الْبَيْعُ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي كَوْنِهِ خُرُوجًا عَنْ الْمِلْكِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَأَمْثَالِهِ فِي كَوْنِهِ انْتِفَاعًا بِالْمَنَافِعِ كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَطْءِ .
وَالْإِعْتَاقُ وَتَوَابِعُهُ كَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَالْفَائِتُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَيَسْقُطُ الثُّلُثُ ، وَإِذَا ضَمِنَهُ لَا يَتَمَلَّكُ شَيْئًا بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ كَمَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا وَأَبَقَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ فَكَانَ

ضَمَانَ حَيْلُولَةٍ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ لَا ضَمَانَ تَمَلُّكٍ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوَّلًا : يَعْنِي الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ كَانَ لِلْآخَرِ الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَالْإِعْتَاقِ وَالسِّعَايَةِ ، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ وَأَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ كَمَا مَرَّ ، فَإِذَا دَبَّرَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ ، لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ التَّدْبِيرِ يَصِيرُ مُبْرِئًا لِلْمُعْتِقِ عَنْ الضَّمَانِ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ قِنًّا عِنْدَ إعْتَاقِ الْمُعْتِقِ فَكَانَ تَضْمِينُهُ إيَّاهُ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ فَوَّتَ ذَاكَ بِالتَّدْبِيرِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ كَانَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ التَّضْمِينُ مَشْرُوطًا بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ مِنْهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الضَّمَانَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمْلِيكِ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَوَّلًا أَوْ غَصَبَ الْقِنَّ فَمَاتَ أَوْ أَبَقَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لَهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ كَمَا إذَا تَقَدَّمَ التَّدْبِيرُ فَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ لَا بِالتَّمْلِيكِ ، فَإِذَا اعْتَرَضَ ضَمَانُ الْحَيْلُولَةِ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالتَّمْلِيكِ سَقَطَ الضَّمَانُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ ، فَصَارَ مُفَوَّتَ الشَّرْطِ بِتَفْوِيتِهِ مُبْرِئًا لِصَاحِبِهِ عَمَّا لَزِمَهُ ، وَبَقِيَ لَهُ خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ وَيُسْتَسْعَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا فَعِتْقُ الْآخَرِ بَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ صَادَفَهُ وَهُوَ قِنٌّ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَتَدْبِيرُ الْآخَرِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ

عِنْدَهُمَا فَيُعْتَقُ كُلُّهُ ، وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْبِضُهُ أَوْ مَالٌ يَقْدُمُ عَلَيْهِ لَمْ يَعْجَلْ بِتَعْجِيزِهِ وَانْتَظَرَ عَلَيْهِ الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةَ ) نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ، وَالثَّلَاثُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَإِمْهَالِ الْخَصْمِ لِلدَّفْعِ وَالْمَدْيُونِ لِلْقَضَاءِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ وَطَلَبَ الْمَوْلَى تَعْجِيزَهُ عَجَّزَهُ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُعَجِّزُهُ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا تَوَالَى عَلَى الْمُكَاتَبِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ عَلَّقَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ حَتَّى كَانَ أَحْسَنُهُ مُؤَجَّلَهُ وَحَالَةُ الْوُجُوبِ بَعْدَ حُلُولِ نَجْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِ مُدَّةٍ اسْتِيسَارًا ، وَأَوْلَى الْمُدَدِ مَا تَوَافَقَ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ .
وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْعَجْزُ ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى الْوُصُولُ إلَى الْمَالِ عِنْدَ حُلُولِ نَجْمٍ وَقَدْ فَاتَ فَيُفْسَخُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِهِ ، بِخِلَافِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا ، وَالْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُكَاتَبَةً لَهُ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا .

بَابُ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ وَعَجْزِهِ وَمَوْتِ الْمَوْلَى ) تَأْخِيرُ بَابِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَأَخِّرَةٌ مِنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ ) النَّجْمُ هُوَ الطَّالِعُ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ مَا يُؤَدِّي فِيهِ مِنْ الْوَظِيفَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ ( نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي حَالِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْبِضُهُ أَوْ مَالٌ غَائِبٌ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِتَعْجِيزِهِ وَانْتَظَرَ عَلَيْهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ وَالثَّلَاثُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَإِمْهَالِ الْخَصْمِ لِلدَّفْعِ ) فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا تَوَجَّهَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَادَّعَى الدَّفْعَ وَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَجَعَلُوا هَذَا التَّقْدِيرَ مِنْ بَابِ التَّعْجِيلِ دُونَ التَّأْخِيرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ فِي الْكَرَّةِ الثَّالِثَةِ : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِك } وَكَذَلِكَ قَدَّرَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مُدَّةَ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ( وَالْمَدْيُونِ ) بِالْجَرِّ مَعْطُوفٌ عَلَى كَإِمْهَالِ : يَعْنِي إذَا ثَبَتَ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْهِلْنِي يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ وَطَلَبَ الْمَوْلَى تَعْجِيزَهُ عَجَّزَهُ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُعَجِّزُهُ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا تَوَالَى عَلَى الْمُكَاتَبِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ عَلَّقَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ ) فَلَا يُوجَدُ دُونَهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِنَاهِضٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْوُجُودَ فَقَطْ .
وَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ

مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يُنَزَّلُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت هَذَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ( وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدُ إرْفَاقٍ ) مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ ( حَتَّى كَانَ أَحْسَنُهُ مُؤَجَّلَهُ ، وَحَالَةُ الْوُجُوبِ بَعْدَ حُلُولِ نَجْمٍ ) فَلَا إرْفَاقَ فِي الطَّلَبِ عِنْدَهُ ( فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِ مُدَّةٍ إرْفَاقًا ، وَأَوْلَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ مَا تَوَافَقَ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ ) فَإِنْ مَضَى النَّجْمُ الثَّانِي وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ أَدَائِهَا فَيُفْسَخُ لِوُجُودِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعَاقِدَانِ ( وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ ) وَهُوَ الْعَجْزُ ( قَدْ تَحَقَّقَ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ كَانَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ أَعْجَزَ ، وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الْعَجْزِ سَبَبًا لِلْفَسْخِ ( لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى الْوُصُولُ إلَى الْمَالِ عِنْدَ حُلُولِ نَجْمٍ وَقَدْ فَاتَ فَيُفْسَخُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِهِ ) وَالضَّمِيرُ فِي يُفْسَخُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى : أَيْ فَيَفْسَخُ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي : أَيْ فَيَفْسَخُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِدُونِ ذَلِكَ النَّجْمِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَرْضَ بِالْفَسْخِ فَهَلْ يَسْتَبِدُّ الْمَوْلَى بِهِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَتَانِ ( بِخِلَافِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا قَوْلُهُ .
وَالْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِأَثَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مُكَاتَبَةً لَهُ عَجَزَتْ عَنْ نَجْمٍ فَرَدَّهَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا ، لِأَنَّ الْآثَارَ إذَا تَعَارَضَتْ وَجُهِلَ التَّارِيخُ تَسَاقَطَتْ وَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الْحُجَّةِ ، فَيَبْقَى مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ بِأَنَّ

سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ إلَخْ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ ، لِأَنَّ دَلِيلَ أَبِي يُوسُفَ حِكَايَةٌ لَا تُعَارِضُ الْمَعْقُولَ فَيَثْبُتُ الْفَسْخُ بِهِ .

قَالَ ( فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَعَجَزَ فَرَدَّهُ مَوْلَاهُ بِرِضَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُفْسَخُ بِالتَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِالْعُذْرِ أَوْلَى ( وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ تَامٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ .قَالَ ( فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ ) الْمُرَادُ بِالْإِخْلَالِ هَاهُنَا تَرْكُ أَدَاءِ وَظِيفَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى تَعْيِينِهِ فِي أَدَائِهَا : فَإِذَا أَخَلَّ بِهَذَا التَّعْيِينِ بِنَجْمٍ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ : أَيْ الْقَاضِي ( فَعَجَزَ فَرَدَّهُ مَوْلَاهُ بِرِضَاهُ كَانَ جَائِزًا ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُفْسَخُ بِالتَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِالْعُذْرِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ ) مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِبْطَالِ بِانْفِرَادِهِ ( تَامٌّ ) لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَفَسْخُهُ يَحْتَاجُ إلَى ) الرِّضَا أَوْ ( الْقَضَاءِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّ الْفَسْخَ يَصِحُّ بِلَا قَضَاءٍ ، وَوَجْهُهَا أَنَّ هَذَا عَيْبٌ تَمَكَّنَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ تَمَامَ الْكِتَابَةِ بِالْأَدَاءِ وَتَمَامَ الْعَقْدِ بِوُقُوعِ الْفَرَاغِ عَنْ اسْتِيفَاءِ أَحْكَامِهِ ، فَشُبِّهَ بِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرَى مَعِيبًا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهُنَاكَ يَنْفَرِدُ الْمُشْتَرِي بِالْفَسْخِ بِلَا قَضَاءٍ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .

قَالَ ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَادَ إلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ ) لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ ( وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَكْسَابِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَوْلَاهُ وَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ .قَالَ ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَادَ إلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ ، وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَكْسَابِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ ) وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ( وَإِنَّمَا قَالَ : ظَهَرَ لِأَنَّ كَسْبَهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَوْلَاهُ ) لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ لَهُ وَإِلَّا فَلِمَوْلَاهُ ( وَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ ) .

قَالَ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَكَاتِبُ وَلَهُ مَالٌ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ وَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ وَيَعْتِقُ أَوْلَادُهُ ) وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا وَمَا تَرَكَهُ لِمَوْلَاهُ ، وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ فَتَبْطُلُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا أَوْ يَثْبُتَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مُسْتَنِدًا ، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ ، وَلَا إلَى الثَّالِثِ لِتَعَذُّرِ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْمَوْلَى فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْحَاجَةُ إلَى إبْقَاءِ الْعَقْدِ لِإِحْيَاءِ الْحَقِّ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَزِمَ الْعَقْدُ فِي جَانِبِهِ ، وَالْمَوْتُ أَنَفَى لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْهُ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا ، أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ عَلَى مَا عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .

قَالَ ( فَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ مَالٌ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ وَقُضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَحُكِمَ بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَمَا فَضَلَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ وَيُعْتَقُ أَوْلَادُهُ ) الْمَوْلُودُونَ وَالْمُشْتَرَوْنَ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا ، وَمَا تَرَكَهُ فَلِمَوْلَاهُ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَعِتْقُهُ بَاطِلٌ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا كَذَلِكَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ ثَبَتَ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ ، وَلَا إلَّا الثَّانِي لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالْأَدَاءِ وَالْفَرْضُ عَدَمُهُ فَلَزِمَ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ ، وَلَا إلَى الثَّالِثِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ وَهَذَا الشَّيْءُ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْمَوْلَى ، فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْحَاجَةُ إلَى إبْقَاءِ الْعَقْدِ لِإِحْيَاءِ الْحَقِّ ) وَعَلَيْك بِاسْتِحْضَارِ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ لِاسْتِخْرَاجِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْقِيَاسُ مِنْ بَيَانِ أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَفَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ ، وَبَيَانُ أَنَّ هَذَا النَّصَّ فِي الْحَالِ مَعْلُولٌ ، وَبَيَانُ مَا يُمَيِّزُ هَذَا الْوَصْفَ عَنْ غَيْرِهِ ، وَبَيَانُ صَلَاحِهِ بِمُلَاءَمَتِهِ لِلْعِلَلِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ .
وَعَدَالَتِهِ بِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ ، فَإِنْ

تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إلَى الْأُصُولِ الْجَدَلِيَّةِ بِادِّعَاءِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْمُشْتَرَكِ وَسَدِّ طَرِيقِ مَا يَرِدُ مِنْ رَدِّهِ ، وَادِّعَاءُ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُخْتَصِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمْثَالِهِ .
فَإِنْ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْك ذَلِكَ بِفَيْضٍ مِنْ عِنْدِهِ بَعْدَ الْجَثْوِ عَلَى الرُّكَبِ بِحَضْرَةِ الْمُحَقِّقِينَ فَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قَدْرِهِ ، وَإِلَّا فَإِيَّاكَ وَدَعْوَى مَعْرِفَةِ الْهِدَايَةِ فَتَكُونُ مِنْ الْجَهَالَةِ الَّذِي ظَهَرَ عِنْدَ ذَوِي التَّحْصِيلِ عُذْرُهُ ، وَأُلْحِقَ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهْم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ لَيْسَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ كَمَوْتِ الْعَاقِدِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دُونَ الْعَاقِدِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ أَدْعَى مِنْ حَيْثُ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعِ .
أَمَّا الْمُقْتَضَى فَ ( لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَزِمَ الْعَقْدُ فِي جَانِبِهِ ، وَ ) أَمَّا الْمَانِعُ فَلِأَنَّ ( الْمَوْتَ أَنْفَى لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْهُ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ ) فَإِنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ ضَعْفٌ وَالْمَوْتُ لَا يُنَافِيهِ لِكَوْنِهِ عَجْزًا صِرْفًا حَقِيقِيًّا وَفِي الْمَالِكِيَّةِ ضَرْبُ قُوَّةٍ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهَا ( فَيُنَزَّلُ حَيًّا تَقْدِيرًا ) كَمَا أَنْزَلْنَا الْمَيِّتَ حَيًّا فِي حَقِّ بَقَاءِ التَّرِكَةِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ عَلَيْهِ وَفِي حَقِّ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ ( أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ ) فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَيَكُونُ أَدَاءُ خَلْفِهِ كَأَدَائِهِ ) فَلَا

يَلْزَمُ ذَلِكَ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَدَاءِ بَلْ يُقَدَّرُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ سَلَامَةُ مَالِكِيَّةِ الْيَدِ .

قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ سَعَى فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ عَلَى نُجُومِهِ فَإِذَا أَدَّى حَكَمْنَا بِعِتْقِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ ) لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ وَكَسْبُهُ كَكَسْبِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي الْأَدَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا تَرَكَ وَفَاءًقَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ إلَخْ ) الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ يَسْعَى فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ عَلَى نُجُومِهِ إنْ كَانَ مُفْلِسًا بِالِاتِّفَاقِ لِدُخُولِهِ فِي كِتَابَتِهِ فَكَانَ كَسْبُهُ كَكَسْبِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي الْأَدَاءِ كَمَا لَوْ تَرَكَ وَفَاءً .

( وَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا مُشْتَرًى فِي الْكِتَابَةِ قِيلَ لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ حَالَّةً أَوْ تُرَدَّ رَقِيقًا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا يُؤَدِّيهِ إلَى أَجَلِهِ اعْتِبَارًا بِالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْأَجَلَ يَثْبُتُ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرَى لَمْ يَدْخُلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ الْعَقْدَ وَلَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَيْهِ لِانْفِصَالِهِ ، بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَقْتَ الْكِتَابَةِ فَيَسْرِي الْحُكْمُ إلَيْهِ وَحَيْثُ دَخَلَ فِي حُكْمِهِ سَعَى فِي نُجُومِهِوَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَكَالْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : قِيلَ لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ حَالَّةً أَوْ تُرَدَّ رَقِيقًا .
هُمَا اعْتَبَرَاهُ بِالْمَوْلُودِ بِجَامِعِ أَنَّهُ يُكَاتَبُ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ كَالْمَوْلُودِ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْأَكْسَابِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا تُصْرَفُ لَهُ فِي أَكْسَابِهِ وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدِ الْمُكَاتَبِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .

( فَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَرِثَهُ ابْنُهُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ ابْنِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبِيهِ فِي الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ هَذَا حُرًّا يَرِثُ عَنْ حُرٍّ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُوَ وَابْنُهُ مُكَاتَبَيْنِ كِتَابَةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جُعِلَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا حَكَمَ بِحُرِّيَّةِ الْأَبِ يَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى مَا مَرَّ .فَإِنْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ابْنَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَرِثَهُ ابْنُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ ، فَلَمَّا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ، وَلَمَّا حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حُكِمَ بِحُرِّيَّةِ ابْنِهِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبِيهِ فِي الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَوْرِيثَ حُرٍّ عَنْ حُرٍّ ، وَكَذَلِكَ إنْ كُوتِبَ الْأَبُ وَالِابْنُ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً وَرِثَهُ ابْنُهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جُعِلَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فِيهِمَا ، فَالْحُكْمُ بِحُرِّيَّةِ الْأَبِ حُكْمٌ بِحُرِّيَّتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ : يَعْنِي آخِرَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ اسْتِنَادِ الْحُرِّيَّةِ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ .

قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ حُرَّةٍ وَتَرَكَ دَيْنًا وَفَاءً بِمُكَاتَبَتِهِ فَجَنَى الْوَلَدُ فَقُضِيَ بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ ) لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّتِهَا إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابِ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَقَ فَيَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَالْقَضَاءُ بِمَا يُقَرِّرُ حُكْمَهُ لَا يَكُونُ تَعْجِيزًا ( وَإِنْ اخْتَصَمَ مَوَالِي الْأُمِّ وَمَوَالِي الْأَبِ فِي وَلَائِهِ فَقَضَى بِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ فَهُوَ قَضَاءٌ بِالْعَجْزِ ) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْوَلَاءِ مَقْصُودًا ، وَذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَانْتِقَاضِهَا ، فَإِنَّهَا إذَا فُسِخَتْ مَاتَ عَبْدًا وَاسْتَقَرَّ الْوَلَاءُ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ ، وَإِذَا بَقِيَتْ وَاتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ مَاتَ حُرًّا وَانْتَقَلَ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَهَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا كَانَ تَعْجِيزًا .

قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ حُرَّةٍ إلَخْ ) ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
وَصُورَتُهَا : مُكَاتَبٌ مَاتَ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَتَرَكَ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ وَفَاءً بِمُكَاتَبَتِهِ ، فَالْكِتَابَةُ بَاقِيَةٌ وَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأُمِّ .
أَمَّا بَقَاءُ الْكِتَابَةِ فَلِمَا لَهُ مِنْ الْمَالِ الْمُنْتَظَرِ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ مَالٌ ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْبَدَلَ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ عَيْنًا لَمْ يَتَأَتَّ الْقَضَاءُ بِالْإِلْحَاقِ بِالْأُمِّ لِإِمْكَانِ الْوَفَاءِ فِي الْحَالِ .
وَأَمَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَوَالِي الْأُمِّ فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ لَمْ يَظْهَرْ لِلْوَلَدِ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ ، فَإِنْ جَنَى هَذَا الْوَلَدُ جِنَايَةً وَقَضَى بِهِ : أَيْ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَسْخِ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ، وَكُلُّ مَا يُقَرِّرُ شَيْئًا لَا يُبْطِلُهُ .
أَمَّا أَنَّهُ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَسْتَلْزِمُ إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابُ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُ فَيَنْجَرُّ وَلَاءُ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ قَوْمِ الْأُمِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ مِنْ الْأَبِ ، حَتَّى لَوْ ارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنْ إثْبَاتِهِ مِنْهُ ، كَمَا إذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ عَادَ النَّسَبُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ، فَكَانَ إيجَابُ الْعَقْلِ مِنْ لَوَازِمِهَا وَثُبُوتُ اللَّازِمِ يُقَرِّرُ ثُبُوتَ مَلْزُومِهِ .
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُقَرِّرُ شَيْئًا لَا يُبْطِلُهُ فَلِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ اخْتَصَمَ مَوَالِي الْأُمِّ إلَخْ ) هُوَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ، وَصُورَتُهَا : مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ بَعْدَ الْأَبِ وَاخْتَصَمَ مَوَالِي

الْأَبِ وَمَوَالِي الْأُمِّ فَقَالَ مَوَالِي الْأُمِّ مَاتَ رَقِيقًا وَالْوَلَاءُ لَنَا ، وَقَالَ مَوَالِي الْأَبِ مَاتَ حُرًّا وَالْوَلَاءُ لَنَا ، فَقَضَى بِوَلَائِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ فَهُوَ قَضَاءٌ بِالْعَجْزِ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ ، لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافٌ فِي الْوَلَاءِ مَقْصُودًا وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَانْتِقَاضِهَا ، فَإِنَّهَا إذَا فُسِخَتْ مَاتَ عَبْدًا وَاسْتَقَرَّ الْوَلَاءُ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ ، وَإِذَا بَقِيَتْ وَاتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ مَاتَ حُرًّا وَانْتَقَلَ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَهَذَا : أَيْ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ وَانْتِقَاضُهَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ كَمَا مَرَّ فَيَنْفُذُ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِالْوَلَاءِ نَافِذًا انْفَسَخَ الْكِتَابَةُ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ احْتِمَالُ جَرِّ الْوَلَاءِ ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ ذَلِكَ جُزْءُ اللَّازِمِ وَالشَّيْءُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ .
قِيلَ فَسْخُ الْكِتَابَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى نُفُوذِ الْقَضَاءِ وَلُزُومِهِ وَذَلِكَ لِصِيَانَةِ الْقَضَاءِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَفِي صِيَانَتِهِ بُطْلَانُ مَا يَجِبُ رِعَايَتُهُ وَهُوَ الْكِتَابَةُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبُطْلَانَيْنِ أَرْجَحَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صِيَانَةَ الْقَضَاءِ أَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَذَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَصِيَانَةُ مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ صِيَانَةِ كِتَابَةٍ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي نَفَاذِهَا .

قَالَ ( وَمَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى مَوْلَاهُ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ طَيِّبٌ لِلْمَوْلَى لِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ ) فَإِنَّ الْعَبْدَ يَتَمَلَّكُهُ صَدَقَةً وَالْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَاحَ لِلْغَنِيِّ وَالْهَاشِمِيِّ ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَبَاحَ لِغَيْرِهِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَلَوْ مَلَكَهُ يَطِيبُ ، وَلَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَجْزِ يَتَقَرَّرُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا خُبْثَ فِي نَفْسِ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّمَا الْخُبْثُ فِي فِعْلِ الْآخِذِ لِكَوْنِهِ إذْلَالًا بِهِ .
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْغَنِيِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلِلْهَاشِمِيِّ لِزِيَادَةِ حُرْمَتِهِ وَالْأَخْذُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى فَصَارَ كَابْنِ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى وَطَنِهِ وَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَقَدْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمَا مَا أَخَذَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ وَاسْتَغْنَى يَطِيبُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي يَدِهِ .

قَالَ ( وَمَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى مَوْلَاهُ إلَخْ ) إذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ أَخَذَ مِنْ الزَّكَوَاتِ شَيْئًا وَعَجَزَ ، فَأَمَّا إنْ عَجَزَ بَعْدَ أَدَائِهِ إلَى الْمَوْلَى أَوْ قَبْلَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ طَيِّبٌ لِلْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهِ قَدْ تَبَدَّلَ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتَمَلَّكُهُ صَدَقَةً وَالْمَوْلَى يَتَمَلَّكُهُ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ ، وَتَبَدُّلُ السَّبَبِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ .
أَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيمَا أَهْدَتْ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } " وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَاحَ الْفَقِيرُ مَا أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ لِغَنِيٍّ أَوْ هَاشِمِيٍّ فَإِنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُمَا ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَلَمْ يَتَبَدَّلْ سَبَبُ الْمِلْكِ ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَبَاحَ لِغَيْرِهِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَلَوْ مَلَكَهُ طَابَ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ مَلَكَ الْمَوْلَى أَكْسَابَهُ مِلْكًا مُبْتَدَأً وَلِهَذَا أَوْجَبَ نَقْضَ الْإِجَارَةِ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا آجَرَ أَمَتَهُ ظِئْرًا ثُمَّ عَجَزَ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ بِالْعَجْزِ يَتَقَرَّرُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى نَوْعَ مِلْكٍ فِي أَكْسَابِهِ ، وَبِالْعَجْزِ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ الْحَقُّ وَيَصِيرُ الْمُكَاتَبُ فِيمَا مَضَى كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، وَلِهَذَا إذَا آجَرَ الْمُكَاتَبُ أَمَتَهُ ظِئْرًا ثُمَّ عَجَزَ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ الْخَبَثَ لَيْسَ فِي نَفْسِ الصَّدَقَةِ ، وَإِلَّا لَمَا فَارَقَهَا أَصْلًا ، وَإِنَّمَا الْخَبَثُ فِي فِعْلِ الْآخِذِ لِكَوْنِهِ إذْلَالًا بِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ بِلَا حَاجَةٍ وَلَا لِلْهَاشِمِيِّ لِزِيَادَةِ حُرْمَتِهِ ،

وَالْأَخْذُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى فَصَارَ كَابْنِ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى وَطَنِهِ وَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَقَدْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمَا مَا أَخَذَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ وَاسْتَغْنَى يَطِيبُ لَهُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّمَا قِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَطِيبُ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى أَكْسَابَهُ مِلْكًا مُبْتَدَأً بَلْ كَانَ لَهُ نَوْعُ مِلْكٍ فِي أَكْسَابِهِ ، وَبِالْعَجْزِ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَهَاهُنَا سُؤَالٌ مُشْكِلٌ وَهُوَ أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ كَانَ لِلْمَوْلَى فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ تَبَدُّلُ الْمِلْكِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى كَانَ مَغْلُوبًا فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْمُكَاتَبَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَبِالْعَجْزِ يَنْعَكِسُ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ تَبَدُّلٌ ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكُ يَدٍ قَبْلَ الْعَجْزِ وَحَصَلَ بِهِ فَكَانَ تَبَدُّلًا .

قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَوْ يَفْدِي ) لِأَنَّ هَذَا مُوجِبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ إلَّا أَنَّ الْكِتَابَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الدَّفْعِ ، فَإِذَا زَالَ عَادَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ ( وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى عَجَزَ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ قَضَى بِهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ دَيْنٌ يُبَاعُ فِيهِ ) لِانْتِقَالِ الْحَقِّ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى قِيمَتِهِ بِالْقَضَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الدَّفْعِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، فَكَمَا وَقَعَتْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِيمَةِ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِلتَّرَدُّدِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتَوَقَّفُ الْفَسْخُ عَلَى الْقَضَاءِ لِتَرَدُّدِهِ وَاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الزَّوَالَ بِحَالٍ .

قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ إلَخْ ) إذَا جَنَى الْعَبْدُ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّفْعَ قَدْ تَعَذَّرَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ عَجَزَ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْأَدَاءِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّ هَذَا : أَيْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مُوجِبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي الْأَصْلِ ، وَالْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ لَا يُتْرَكُ إلَّا بِمَانِعٍ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ وَالْمَانِعُ عَنْهُ حَالَ الْكِتَابَةِ قَائِمٌ ، أَمَّا عَنْ الْفِدَاءِ فَلِمَا مَرَّ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ ، وَأَمَّا عَنْ الدَّفْعِ فَلِتَعَذُّرِهِ بِالْكِتَابَةِ ، فَأَمَّا إذَا عَجَزَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ ، وَكَذَلِكَ : أَيْ وَكَمَا مَرَّ مِنْ عَوْدِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ : أَيْ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ حَتَّى عَجَزَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ وَإِنْ قَضَى بِهِ : أَيْ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ : أَيْ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابَتِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ : أَيْ مَا قَضَى بِهِ مِنْ مُوجِبِهَا دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ يُبَاعُ فِيهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا جَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ دَفْعَهُ مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ وَمُوجِبُ الْجِنَايَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الدَّفْعِ عَلَى مَنْ يَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِمَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِمَا ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ .

وَإِذَا عَلِمْت هَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ بِالْقَضَاءِ مِنْ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ دَفْعُ الرَّقَبَةِ إلَى الْقِيمَةِ قَبْلَ زَوَالِ الْمَانِعِ ، فَإِذَا زَالَ لَمْ يَعُدْ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الدَّفْعِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، فَالْجِنَايَةُ عِنْدَ مَا وَقَعَتْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِيمَةِ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ .
وَقَوْلُهُ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْقِيمَةِ وَقَوْلُهُ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِيمَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ لَا الْأَقَلُّ مِنْهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالْمَبْسُوطِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ كَلَامِهِ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ .
وَلَنَا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ ، وَهُوَ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الدَّفْعِ قَائِمٌ ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ أَوْ لَا ، وَلَا شَكَّ فِي قَبُولِهِ لِإِمْكَانِ انْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ وَعَدَمِ ثُبُوتِ الِانْتِقَالِ فِي الْحَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ لِأَنَّ مَذْهَبَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ تَصِيرُ مَالًا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ فَمَا وَجْهُ أَخْذِهِ فِي الدَّلِيلِ ؟ قُلْنَا : ظُهُورُهُ ، فَإِنَّ التَّرَدُّدَ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ لِإِمْكَانِ وُجُودِ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ الْفَسْخُ عَلَى الْقَضَاءِ لِتَرَدُّدِهِ وَاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ

وَالِاسْتِيلَاءِ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الزَّوَالَ بِحَالٍ فَكَانَ الْمُوجِبُ فِي الِابْتِدَاءِ هُوَ الْقِيمَةُ .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى الْمَكَاتِبُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ ) كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ ، إذْ الْكِتَابَةُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَسَبَبُ حَقِّ الْمَرْءِ حَقُّهُ ( وَقِيلَ لَهُ أَدِّ الْمَالَ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى عَلَى نُجُومِهِ ) لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ كَذَلِكَ فَيَبْقَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ ، إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَا بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ .
وَإِنْ أَعْتَقُوهُ جَمِيعًا عَتَقَ وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إبْرَاءً عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ حَقُّهُمْ وَقَدْ جَرَى فِيهِ الْإِرْثُ ، وَإِذَا بَرِئَ الْمُكَاتَبُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعْتَقُ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ الْمَوْلَى ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَا يَصِيرُ إبْرَاءً عَنْ نَصِيبِهِ ، لِأَنَّا نَجْعَلُهُ إبْرَاءَ اقْتِضَاءٍ تَصْحِيحًا لِعِتْقِهِ .
وَالْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ بِإِبْرَاءِ الْبَعْضِ أَوْ أَدَائِهِ فِي الْمُكَاتَبِ لَا فِي بَعْضِهِ وَلَا فِي كُلِّهِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إبْرَاءِ الْكُلِّ لِحَقِّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ ) الْكِتَابَةُ حَقُّ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُرِّيَّتِهِ وَحُرِّيَّةِ حَقِّهِ فَهِيَ سَبَبُ حَقِّهِ وَسَبَبُ حَقِّ الْمَرْءِ حَقُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى حُصُولِهِ فَالْكِتَابَةُ حَقُّهُ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى لَا تَنْفَسِخُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ مَوْتُهُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ ، وَيُقَالُ لَهُ أَدِّ الْمَالَ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى عَلَى نُجُومِهِ : أَيْ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ كَذَلِكَ فَيَبْقَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا كَانَ صَحِيحًا صَحَّ تَصَرُّفُهُ بِتَأْجِيلِ الْكُلِّ كَإِسْقَاطِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرِيضًا وَكَاتَبَهُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًّا أَوْ يُرَدُّ رَقِيقًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَرِيضًا لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ بِتَأْجِيلِ غَيْرِ الثُّلُثِ كَإِسْقَاطِهِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَتَغَيَّرُ قِيلَ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَيْفَ لَا يَتَغَيَّرُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَقَدْ كَانَ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ فَصَارَ لِلْوَرَثَةِ وَهُوَ تَغَيُّرٌ فَقَالَ قِيَامُهُمْ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا يُسَمَّى تَغْيِيرًا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ ، فَكَمَا أَنَّ سَائِرَ الدُّيُونِ يَخْلُفُونَهُ فِيهِ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ تَغَيُّرًا فَكَذَلِكَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، إذْ الْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَا بِالْإِرْثِ ) وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ ( وَإِنْ أَعْتَقُوهُ جَمِيعًا ) عَتَقَ اسْتِحْسَانًا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الْمِلْكِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَصِيرَ إعْتَاقُهُمْ إبْرَاءً عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ لِجَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ ( وَإِذَا بَرِئَ الْمُكَاتَبُ عَنْ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ كَمَا إذَا

أَبْرَأَهُ مَوْلَاهُ ) فَإِنْ قِيلَ : فَاجْعَلْ إعْتَاقَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ إبْرَاءً عَنْ نَصِيبِهِ .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّا نَجْعَلُهُ إبْرَاءً اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِعِتْقِهِ ، وَالْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمُكَاتَبِ بِإِبْرَاءِ بَعْضِ الْبَدَلِ أَوْ أَدَائِهِ لَا فِي بَعْضِهِ وَلَا فِي كُلِّهِ ، لِأَنَّ عِتْقَهُ مُعَلَّقٌ بِسُقُوطِ جَمِيعِ الْبَدَلِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُوَرِّثُ عَنْ بَعْضِ الْبَدَلِ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْمُقْتَضَى لَا يَثْبُتُ الْمُقْتَضِي فَلَا وَجْهَ لِإِبْرَاءِ الْبَعْضِ ، وَكَذَلِكَ إلَى إبْرَاءِ الْكُلِّ لِحَقِّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَآبُ .

الْوَلَاءُ نَوْعَانِ : وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ( كِتَابُ الْوَلَاءِ ) أَوْرَدَ كِتَابَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَقَدْ سَاقَ مُوجِبَ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ عَلَى النَّهْجِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَجَبَ تَأْخِيرُ كِتَابِ الْوَلَاءِ عَنْ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ الْأَثَرُ عَلَى الْمُؤَثِّرِ .
وَالْوَلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ ، وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَاصُرٍ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ .
قَالَ ( الْوَلَاءُ نَوْعَانِ ) يُنَوَّعُ الْوَلَاءُ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ إلَى نَوْعَيْنِ : فَالْأَوَّلُ ( وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ ) اقْتِفَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ } أَيْ بِالْإِعْتَاقِ وَهُوَ زَيْدٌ .

وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مُلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ قَرِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ .
وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ ، وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ وَلِهَذَا يُقَالُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ : { إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ } وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحِلْفِ .( وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ ) وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا إنَّ سَبَبَهُ الْإِعْتَاقُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا ، لِأَنَّهُ لَوْ عَتَقَ عَلَى الرَّجُلِ قَرِيبُهُ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ وَلَا إعْتَاقَ ، فَجُعِلَ الْعِتْقُ سَبَبًا أَوْلَى لِعُمُومِهِ ، وَالثَّانِي وَلَاءُ مُوَالَاةٍ وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُقَالُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ) بَيَانٌ لِسَبَبِ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى شَيْءٍ ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ ) بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ ( قَوْلُهُ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ ) بَيَانُ وُجُوهِ التَّنَاصُرِ فِيهِمَا ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَنَاصَرُ بِهِمَا وَبِالْحَلِفِ وَالْمُنَاطَاةِ ( وَ ) قَدْ ( قَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ : { إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ } .
وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحَلِفِ ) .

قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ) لِقَوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } ، وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَعْتِقُ لِمَا رَوَيْنَا ، { وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهَا وَعَنْ بِنْتٍ فَجَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } .
وَيُسْتَوَى فِيهِ الْإِعْتَاقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ .

قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ إلَخْ ) إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُنَاقِضُ جَعْلَ الْعِتْقِ سَبَبًا لِأَنَّ أَعْتَقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِعْتَاقِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ هُوَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ الْعِتْقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ ) أَيْ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَثَرَيْنِ الثَّابِتَيْنِ بِهِ وَهُمَا الْعَقْلُ وَالْمِيرَاثُ .
وَتَقْرِيرُهُ الْمَوْلَى يَنْتَصِرُ بِمَوْلَاهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ ، وَمَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْرَمُ عَقْلَهُ ، وَالْمَوْلَى أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ ، لِأَنَّ الرَّقِيقَ هَالِكٌ حُكْمًا ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِالْأَحْيَاءِ نَحْوُ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْعِيدَيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَبِالْإِعْتَاقِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إحْيَاءً مَعْنًى ، وَمَنْ أَحْيَا غَيْرَهُ مَعْنًى وَرِثَهُ كَالْوَالِدِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ وَالْوِلَادُ يُوجِبُ الْإِرْثَ ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ يَعْقِلُهُ فَيَرِثُهُ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ، فَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ) يَخْدُمُ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْمَرْأَةُ تُعْتَقُ ) يَعْنِي أَنَّ وَلَاءَ مُعْتِقِهَا لَهَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَقَوْلُهُ ( وَمَاتَ مُعْتِقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا مَعْنَى ذَكَرَهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمَرْأَةِ ( رُوِيَ {

أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } .
وَيَسْتَوِي فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ الْإِعْتَاقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ ) وَالْعِتْقُ بِقَرَابَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ اسْتِيلَادٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا ابْتِدَاءً أَوْ بِجِهَةِ الْوَاجِبِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمَا أَشْبَهَهَا ( لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ .

قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ سَائِبَةٌ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَلَا يَصِحُّ .( فَإِنْ شُرِطَ أَنَّهُ سَائِبَةٌ ) أَيْ يَكُونُ حُرًّا وَلَا وَلَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعْتِقِهِ ( فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَلَا يَصِحُّ ) .

قَالَ ( وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ عَتَقَ وَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِمَا بَاشَرَ مِنْ السَّبَبِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُكَاتَبِ ( وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفِعْلِهِ وَالتَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِقَالَ ( وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .
وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَبَيَّنَ مَوَاضِعَ الْجَرِّ عَنْ غَيْرِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ إذَا وَقَعَ مَقْصُودًا عَلَى الْوَلَدِ لَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ أَبَدًا ، وَإِنْ وَقَعَ تَبَعًا لِأُمِّهِ ثُمَّ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ .

( وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ ( وَوَلَاؤُهُمْ لَهُ ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ

( وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ ( وَوَلَاؤُهُ لَهُ ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْعِتْقُ عَلَيْهِ

( وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدُ رَجُلٍ أَمَةً لِآخَرَ فَأَعْتَقَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْأَمَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَتْ وَعَتَقَ حَمْلُهَا ، وَوَلَاءُ الْحَمْلِ لِمَوْلَى الْأُمِّ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا ) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ مَقْصُودًا إذْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا يَقْبَلُ الْإِعْتَاقَ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ عَنْهُ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَا ( وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ( أَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ يَتَعَلَّقَانِ مَعًا .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَالَتْ رَجُلًا وَهِيَ حُبْلَى وَالزَّوْجُ وَالَى غَيْرَهُ حَيْثُ يَكُونُ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ لِأَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ قَابِلٍ لِهَذَا الْوَلَاءِ مَقْصُودًا ، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ .
قَالَ ( فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ ) لِأَنَّهُ عَتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِاتِّصَالِهِ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَيَتْبَعُهَا فِي الْوَلَاءِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ بِقِيَامِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يَعْتِقَ مَقْصُودًا ( فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ وَانْتَقَلَ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ) لِأَنَّ الْعِتْقَ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ يَثْبُتُ تَبَعًا لِلْأُمِّ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ } ثُمَّ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَالنِّسْبَةُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ كَانَتْ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَبِ ضَرُورَةً ، فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ؛ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ ضَرُورَةً ، فَإِذَا أَكَذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ

سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجَعًا بِالشَّكِّ فَأُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًاوَعَلَى هَذَا إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَةً وَوَلَدَهَا عَتَقَا وَوَلَاؤُهُمَا لَهُ ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجُرُّ وَلَاءَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْأُمِّ كَانَ مَمْلُوكًا لِمَالِكِ الْأُمِّ وَالْعِتْقُ تَنَاوَلَهُ مَقْصُودًا فَلَا يَتَّبِعُ أَحَدًا ، وَإِذَا أُعْتِقَتْ الْأُمُّ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ أُعْتِقَتْ وَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ وَلَدَتْ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ ثُمَّ أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَصَدَ إعْتَاقَ الْأُمِّ ، وَالْقَصْدُ إلَيْهَا بِالْإِعْتَاقِ قَصْدٌ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ظَاهِرًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ فَوَاضِحٌ ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَصَلَ الْيَقِينُ بِقِيَامِهِ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ مَعًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْحُبْلَى إذَا وَالَتْ رَجُلًا وَالزَّوْجُ وَالَى غَيْرَهُ كَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ فَمَا الْفَرْقُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ قَابِلٍ لِهَذَا الْوَلَاءِ مَقْصُودًا ، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ ، وَإِذَا أَعْتَقَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْ لِذَلِكَ لَمْ يَتَيَقَّنْ لِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يُعْتَقَ مَقْصُودًا فَيُعْتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِاتِّصَالِهِ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَيَتْبَعُهَا فِي الْوَلَاءِ .

( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُعْتَقَةً بِعَبْدٍ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَجَنَى الْأَوْلَادُ فَعَقْلُهُمْ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ ) لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا تَبَعًا لِأُمِّهِمْ وَلَا عَاقِلَةَ لِأَبِيهِمْ وَلَا مَوْلَى ، فَأُلْحِقُوا بِمَوَالِي الْأُمِّ ضَرُورَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ الْأَوْلَادِ إلَى نَفْسِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِمَا عَقَلُوا ) لِأَنَّهُمْ حِينَ عَقَلُوهُ كَانَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ مَقْصُودًا لِأَنَّ سَبَبَهُ مَقْصُودٌ وَهُوَ الْعِتْقُ ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا عَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ الْأُمِّ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ حَيْثُ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى ذَلِكَ فَيَرْجِعُونَ .

فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } " الْحَدِيثَ .
ثُمَّ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ، وَالنِّسْبَةُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ كَانَتْ ضَرُورَةَ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَبِ لِرِقِّهِ ، فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ .
كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ يَنْتَسِبُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ ضَرُورَةً ، فَإِذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ عَادَ انْتِسَابُ الْوَلَاءِ إلَيْهِ .
وَنُوقِضَ قَوْلُهُ فَإِذَا صَارَ طِفْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ بِمَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ امْرَأَةَ مُكَاتَبٍ فَمَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ ، وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِعَوْدِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعِتْقِ لِلْأَبِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ ، لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهَا لِيَثْبُتَ النَّسَبُ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ أُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا ، وَمَنْ عَتَقَ مَقْصُودًا لَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْمُتَيَقَّنِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ .

وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ ، فَفِي الْبَائِنِ مِثْلُ مَا كَانَ ، وَأَمَّا فِي الرَّجْعِيِّ فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأَبِ لِتَيَقُّنِنَا بِمُرَاجَعَتِهِ .
وَذَكَرَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ الْعَقْلِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَمَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْعَجَمِ بِمُعْتَقَةٍ مِنْ الْعَرَبِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ) فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ ، لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ مَعْنًى .
وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ ، وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَفَاءَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ ، وَالْقَوِيُّ لَا يُعَارِضُهُ الضَّعِيفُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرِيبًا لِأَنَّ أَنْسَابَ الْعَرَبِ قَوِيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ وَالْعَقْلِ ، كَمَا أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِهَا فَأَغْنَتْ عَنْ الْوَلَاءِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْمُعْتَقَةِ وَالْوَضْعُ فِي مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ وَقَعَ اتِّفَاقًا

قَالَ ( وَمَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْعَجَمِ بِمُعْتَقَةٍ مِنْ الْعَرَبِ إلَخْ ) تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ الْعَجَمِ لَمْ يُعْتِقْهُ أَحَدُ مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ لَا لِذَوِي أَرْحَامِهِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ هَذَا الْوَلَدُ عَمَّةً أَوْ خَالَةً لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَيْءٌ فِي وُجُودِ مُعْتِقِ الْأُمِّ وَعَصَبَتِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَإِنَّمَا يُورَثُ مَا لَهُ بَيْنَ ذَوِي أَرْحَامِهِ ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا وَالْأُمُّ مُعْتَقَةً فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْأَبُ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْعَبْدَ هَالِكٌ مَعْنًى لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } فَصَارَ حَالُ هَذَا الْوَلَدِ فِي الْحُكْمِ حَالَ مَنْ لَا أَبَ لَهُ فَيُنْسَبُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْعَتَاقَةِ وَيَعْتَبِرُونَهَا فِي الْكَفَاءَةِ ، فَمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِيهَا ، وَالنَّسَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَجَمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ وَكَانَ تَفَاخُرُهُمْ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا حَتَّى جَعَلُوا مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِمَارَةِ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي ذَلِكَ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْمُعْتَقَةِ ) وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ

الْمُعْتَقَةَ مُطْلَقًا ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ بِمُعْتَقَةِ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ كَانَ كَذَلِكَ ، فَكَانَ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ فِي مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ اتِّفَاقِيًّا .

( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : نَبَطِيٌّ كَافِرٌ تَزَوَّجَ بِمُعْتَقَةٍ كَافِرَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ النَّبَطِيُّ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ أَوْلَادًا .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : مَوَالِيهِمْ مَوَالِي أُمِّهِمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : مَوَالِيهمْ مَوَالِي أَبِيهِمْ ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَصَارَ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوَالِي وَبَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ أَضْعَفُ حَتَّى يَقْبَلَ الْفَسْخَ ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ لَا يَقْبَلُهُ ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مُعْتَقَيْنِ فَالنِّسْبَةُ إلَى قَوْمِ الْأَبِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا ، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِهِ لِشَبَهِهِ بِالنَّسَبِ أَوْ لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِ أَكْثَرُ .وَذَكَرَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الْمُعْتَقَةَ مُطْلَقًا وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي الْكِتَابِ .
( قَوْلُهُ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوَالِي ) يَعْنِي الْعَجَمَ ، فَإِنَّ الْعَجَمِيَّ إذَا تَزَوَّجَ بِعَرَبِيَّةٍ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَإِنَّهَا تُنْسَبُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِمْ ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْأُمِّ ضَعِيفَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ ) أَيْ الْوَالِدَانِ ( مُعْتَقَيْنَ ) رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْخِلَافِ : يَعْنِي إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً وَالْأَبُ وَالَى رَجُلًا فَفِيهِ الْخِلَافُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَالِدَانِ مُعْتَقَيْنَ ( فَ ) قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ ( النَّسَبَ ) إلَى قَوْمِ الْأَبِ لِاسْتِوَائِهِمَا وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِهِ لِشَبَهِهِ ( بِالنَّسَبِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } وَفِي حَقِيقَةِ النَّسَبِ يُضَافُ الْوَلَدُ إلَى الْأَبِ فِي الشَّرَفِ وَالدَّنَاءَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ ، وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِ : أَيْ بِالْأَبِ أَكْثَرُ .

قَالَ ( وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ تَعْصِيبٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك ، إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ ، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ } { وَوَرَّثَ ابْنَةَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ مَعَ قِيَامِ وَارِثٍ } وَإِذْ كَانَ عَصَبَةً تَقَدَّمَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُعْتِقِ ) ، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا } قَالُوا : الْمُرَادُ مِنْهُ وَارِثٌ هُوَ عَصَبَةٌ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الثَّانِي فَتَأَخَّرَ عَنْ الْعَصَبَةِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ .

قَالَ ( وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ تَعْصِيبٌ ) التَّعْصِيبُ هُوَ جَعْلُ الْإِنْسَانِ عَصَبَةً ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ الذَّكَرُ يُعَصِّبُ الْأُنْثَى ( وَهُوَ ) أَيْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ ( أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ " { هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك ، إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ ، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ } " ) قَوْلُهُ هُوَ أَخُوك : يَعْنِي فِي الدِّينِ ، وَقَوْلُهُ إنْ شَكَرَك : يَعْنِي إنْ شَكَرَك بِالْمُجَازَاةِ عَلَى صَنِيعِك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّهُ انْتَدَبَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ ، وَشَرٌّ لَك لِأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَيْك بَعْضَ الثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا فَتَنْقُصُ بِقَدْرِهِ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك لِأَنَّهُ يَبْقَى لَك ثَوَابُ الْعَمَلِ كُلُّهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَشَرٌّ لَهُ لِأَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ .
وَقَوْلُهُ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً حَيْثُ لَمْ يَقُلْ كُنْت وَارِثَهُ ( وَوَرَّثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَةَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ مَعَ قِيَامِ وَارِثٍ ) هِيَ بِنْتُ الْمَيِّتِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بِنْتَ الْمَيِّتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِيَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ ، وَالْعَصَبَةُ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مَا أَبْقَتْهُ الْفَرَائِضُ ( وَإِذَا كَانَ عَصَبَةً تُقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) .

قَالَ ( فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُعْتَقِ ) تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ ذُو حَالٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضٍ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ التَّنَاصُرُ بِهِ لِبَيْتِ النِّسْبَةِ وَبِالْمَوَالِي الِانْتِصَارُ عَلَى مَا مَرَّ وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ مَا بَقِيَ

( فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْعِتْقَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ عَلَى مَا قَالُوا إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً وَارِثُ عَصَبَةٍ اسْتِدْلَالًا بِإِشَارَةِ الْحَدِيثِ كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ قَوْلِهِ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ ، وَبِالْحَدِيثِ الثَّانِي : أَيْ بِحَدِيثِ بِنْتِ حَمْزَةَ فَتَأَخَّرَ عَنْ الْعَصَبَةِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ) أَيْ لِلْمُعْتِقِ ( عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُعْتِقِ ، تَأْوِيلُهُ ) أَيْ تَأْوِيلُ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ ( إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ ذُو حَالٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ ) وَذَكَرُوا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَرْضٍ ذُو حَالٍ سِوَى حَالِ الْفَرْضِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ فَإِنَّ لَهُمَا حَالًا سِوَى حَالِ الْفَرْضِ وَهِيَ الْعُصُوبَةُ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ : أَيْ فَلِمِثْلِ هَذَا الْوَارِثِ الْبَاقِي بِالْعُصُوبَةِ وَلَيْسَ لِلْمُعْتِقِ شَيْءٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ ذُو حَالٍ وَاحِدٍ كَالْبِنْتِ ، أَمَّا إذَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلِلْمُعْتِقِ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ ذَلِكَ الْوَارِثِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَالثَّانِي أَوْجَهُ لِأَنَّهُ عَلَّلَ قَوْلَهُ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ : يَعْنِي إنَّمَا كَانَ عَصَبَةً ( لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ التَّنَاصُرُ بِهِ لِبَيْتِ النِّسْبَةِ ) أَيْ الْقَبِيلَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ انْتِصَارُ الْقَبِيلَةِ بِهِ ، وَبِالْمَوْلَى يَكُونُ الِانْتِصَارُ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَلَاءِ .
وَهُوَ قَوْلُهُ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ مَا بَقِيَ ) تَمَامُ الدَّلِيلِ .

وَتَقْرِيرُهُ فَلَهُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ الْبَاقِيَ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِبَنِي الْمَوْلَى دُونَ بَنَاتِهِ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ ( قَدَّمْنَاهَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، إلَى أَنْ قَالَ : جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ ابْنِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ جَرَّ الْمُعْتِقِ وَمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ .

( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِبَنِي الْمَوْلَى دُونَ بَنَاتِهِ ) ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي آخِرِهِ { أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتَقِهِنَّ } وَصُورَةُ الْجَرِّ قَدَّمْنَاهَا ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهَا فَيُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَيْهَا وَيُنْسَبُ إلَيْهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى مَوْلَاهَا ، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ فِيهِ الْفِرَاشِ ، وَصَاحِبُ الْفِرَاشِ إنَّمَا هُوَ الزَّوْجُ ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ لَا مَالِكَةٌ ، وَلَيْسَ حُكْمُ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ مَقْصُورًا عَلَى بَنِي الْمَوْلَى بَلْ هُوَ لِعَصَبَتِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ مَنْ تَكُونُ النُّصْرَةُ بِهِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى أَبًا وَابْنًا فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُهُمَا عُصُوبَةً ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لِلْجَدِّ دُونَ الْأَخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ عِنْدَهُ .
وَكَذَا الْوَلَاءُ لِابْنِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى يَرِثَهُ دُونَ أَخِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ عَقْلَ جِنَايَةِ الْمُعْتَقِ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَتِهَا

( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ إلَخْ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مِمَّنْ أَعْتَقَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ .
وَتَقْرِيرُهُ ثُبُوتُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي الْمُعْتِقِ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ مِنْ جِهَتِهِ شَيْءٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ عِلِّيَّتُهُ إذْ ذَاكَ فَثُبُوتُ الْمَالِكِيَّةِ يُنْسَبُ إلَيْهَا بِالْوَلَاءِ وَيُنْسَبُ إلَيْهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى مَوْلَاهَا ، لِأَنَّ مُعْتَقَ الْمُعْتَقِ يُنْسَبُ إلَى مُعْتِقِهِ بِالْوَلَاءِ ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .
بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا مِنْ الْآبَاءِ ، لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ فِيهِ الْفِرَاشُ ، وَالْفِرَاشُ إنَّمَا هُوَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ ، وَلَيْسَ حُكْمُ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ مَقْصُورًا عَلَى بَنِي الْمَوْلَى بَلْ هُوَ لِعَصَبَتِهِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ .
لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ حَتَّى يَكُونَ لِأَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْهُ نَصِيبٌ ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ فَيَخْلُفُهُ فِيهِ مَنْ تَكُونُ بِهِ النُّصْرَةُ ، وَالنُّصْرَةُ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى أَبًا وَابْنًا فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَصُورَتُهُ : امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ عَنْ ابْنٍ وَأَبٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ خَاصَّةً عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، ثُمَّ رَاجَعَ فَقَالَ : لِأَبِيهَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ .
لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ تُسْتَحَقُّ بِهَا كَالْبُنُوَّةِ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ يُسْتَحَقُّ بِالْعُصُوبَةِ وَالْأَبُ عَصَبَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الِابْنِ ، وَوُجُودُ الِابْنِ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْأَبِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عِنْدَ مِيرَاثِهَا فَكَذَا عَنْ مِيرَاثِ مُعْتِقِهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ أَقْرَبَ الْعَصَبَاتِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ وَالِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ دُونَ الْأَبِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَبِ السُّدُسَ مِنْهَا بِالْفَرِيضَةِ

دُونَ الْعُصُوبَةِ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ جَدُّ مَوْلَاهُ أَبَا أَبِيهِ وَأَخَاهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُوَرِّثُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ ، فَالْجَدُّ عِنْدَهُ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ .
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَأَخَاهَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَالْمِيرَاثُ لِابْنِهَا دُونَ أَخِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِابْنَ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ إلَّا أَنَّ عَقْلَ جِنَايَةِ الْمُعْتِقِ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَتِهَا وَجِنَايَتُهَا عَلَى قَوْمِ أَبِيهَا فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ مُعْتِقِهَا وَابْنِهَا لَيْسَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا .

( وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى ابْنًا وَأَوْلَادَ ابْنٍ آخَرَ ) مَعْنَاهُ بَنِي ابْنٍ آخَرَ ( فَمِيرَاثُ الْمُعْتَقِ لِلِابْنِ دُونَ بَنِي الِابْنِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَعْنَاهُ الْقُرْبُ عَلَى مَا قَالُوا ، وَالصُّلْبِيُّ أَقْرَبُ .وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى ابْنًا وَبَنِي ابْنٍ آخَرَ فَمِيرَاثُ الْمُعْتِقِ لِلِابْنِ دُونَ بَنِي الِابْنِ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَعْنَى الْكِبَرِ الْقُرْبُ فِي الْعُصُوبَةِ لَا فِي السِّنِّ عَلَى مَا قَالُوا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتِقَ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ وَالصُّلْبِيُّ أَقْرَبُ فَيَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ .

قَالَ ( وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثُهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَالْوَلَاءُ صَحِيحٌ وَعَقْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَإِنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لِلْمَوْلَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُوَالَاةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ وَارِثٍ آخَرَ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ لِحَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الثُّلُثِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَالْآيَةُ فِي الْمُوَالَاةِ .
{ وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ فَقَالَ : هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ } وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْعَقْلِ وَالْإِرْثِ فِي الْحَالَتَيْنِ هَاتَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَالَهُ حَقُّهُ فَيَصْرِفُهُ إلَى حَيْثُ شَاءَ ، وَالصَّرْفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ لَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ .

فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ) أَخَّرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عَنْ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّحْوِيلِ كَانَ أَقْوَى ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ أَنْ يَنْتَقِلَ قَبْلَ الْعَقْلِ ، وَمَعْنَى الْوَلَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا .
وَصُورَةُ هَذَا الْوَلَاءِ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ وَيُسَلِّمُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَيَقُولُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالَيْتُك عَلَى أَنِّي إنْ مِتّ فَمِيرَاثِي لَك ، وَإِذَا جَنَيْت فَعَقْلِي عَلَيْك وَعَلَى عَاقِلَتِك وَقَبِلَ الْآخَرُ مِنْهُ .
وَلَهُ ثَلَاثُ شَرَائِطَ : إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ بِأَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَلَا وَلَاءُ مُوَالَاةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا .
فَإِنْ قِيلَ : مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ عَقْلُ الْأَعْلَى وَحُرِّيَّتُهُ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بَاطِلَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّرَائِطَ ثَلَاثًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرْت فَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ ، وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ وُجُوبُ الْعَقْلِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَعْلَى إذَا جَنَى الْأَسْفَلَ ، وَاسْتِحْقَاقُ مِيرَاثِهِ إذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ ، وَكَلَامُهُ فِي الْفَصْلِ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ ، خَلَا .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ) لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدُهُمَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرُهُمَا ، وَذُو الرَّحِمِ وَارِثٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ بِالشَّرْطِ ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقَبَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ الْمُوَالَاةِ .
قَالَ ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَكَذَا لِلْأَعْلَى أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ وَلَائِهِ لِعَدَمِ اللُّزُومِ ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَقَدَ الْأَسْفَلُ مَعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِهِ الْقَاضِي ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ نَالَهُ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ ، وَكَذَا لَا يَتَحَوَّلُ وَلَدُهُ ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ لِأَنَّهُمْ فِي حَقِّ الْوَلَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ .

قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ) فَإِنَّهُ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لِلْمَوْلَى كَمَا لَوْ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ لِآخَرَ وَلَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَعَلَهُ بِعَقْدِ الْوَلَاءِ وَارِثًا عَنْهُ ، وَفِي سَبَبِ الْوِرَاثَةِ ذُو الْقَرَابَةِ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُتَّفَقٌ عَلَى ثُبُوتِهَا شَرْعًا وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْإِرْثِ ، وَعَقْدُ الْوَلَاءِ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ شَرْعًا ، وَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ فَلَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُ الْمَوْلَى مَعَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهَا خِلَافُهُ فِي الْمَآلِ مَقْصُودًا ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثُّلُثِ لَهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ مَقْصُودًا ، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لِتَرَجُّحِ اسْتِحْقَاقِ الْقَرِيبِ عَلَيْهِ .
وَخَلَا قَوْلَهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ ) فَإِنَّهُ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَبَبَ اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْعَزْلِ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ تَضَرُّرُ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عِنْدَ رُجُوعِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَبَبَ الِاشْتِرَاطِ هَاهُنَا هُوَ السَّبَبُ هُنَالِكَ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ فَإِنَّ الْعَقْدَ كَانَ بَيْنَهُمَا ، وَفِي تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ ، وَإِلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهِ نَفْسُهُ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ عَقْدِ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ كَلَا عَقْدٍ ، وَفِيهِ إبْطَالُ فِعْلِهِ بِدُونِ عِلْمِهِ ، وَخَلَا قَوْلَهُ ( لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ ) فَإِنَّ عَزْلَ

الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَتِهِ مَقْصُودًا لَا يَصِحُّ وَحُكْمًا يَصِحُّ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ .
فَإِنَّهُ أَوْرَدَ عَلَيْهِ لِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبَةَ فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي النِّهَايَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

قَالَ ( وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا ) لِأَنَّهُ لَازِمٌ ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَظْهَرُ الْأَدْنَى .

قَالَ ( الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا خَافَ الْمُكْرَهُ تَحْقِيقَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ ، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ .
فَقَدْ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ ، ثُمَّ كَمَا تُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعَ مَا يُهَدَّدُ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ .

كِتَابُ الْإِكْرَاهِ ) قِيلَ الْمُوَالَاةُ تُغَيِّرُ حَالَ الْمَوْلَى الْأَعْلَى عَنْ حُرْمَةِ أَكْلِ مَالِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى حُكْمِهِ ، كَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ فَكَانَ مُنَاسِبًا أَنْ يَذْكُرَ الْإِكْرَاهَ عَقِيبَ الْمُوَالَاةِ .
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، يُقَالُ أَكْرَهْت فُلَانًا : أَيْ حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ .
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ حَمْلًا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ لَا فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ فَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْإِكْرَاهِ الثَّلَاثَةِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ ( مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ ) إشَارَةٌ إلَى كَوْنِ الْمُكْرَهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْخِطَابُ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْأَهْلِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةً كَانَ الْمُكْرَهُ مُخَاطَبًا ، وَأَمَّا شَرْطُهُ وَحُكْمُهُ فَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ ، قَالَ ( الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ ) شَرْطُ الْإِكْرَاهِ حُصُولُهُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى إيقَاعِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ ( سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا ) وَخَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعُهُ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِالْإِكْرَاهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ ، فَإِذَا حَصَلَ بِشَرَائِطِهِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ مُفَصَّلًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُصُولِهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَاللِّصِّ ( لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى

خَوْفِ الْمُكْرَهِ تَحْقِيقُ مَا تَوَعَّدَ بِهِ ، وَلَا يَخَافُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ ، وَالسُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ سِيَّانِ ) عِنْدَهُمَا ( وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ ) إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ ، لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ ، فَقَدْ قَالَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ ، لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الْقُدْرَةُ وَلَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ أَهْلُ الزَّمَانِ .

قَالَ ( وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ أَوْ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ فَأُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَرَجَعَ بِالْمَبِيعِ ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْذِبُ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ جَازَ ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ

وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ ، أَمَّا هَاهُنَا الرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ بَيْعًا فَاسِدًا يَجْعَلُهُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَتَّى يَنْقَضِ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ

فَإِذَا ( أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ أَوْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ الْإِقْرَارِ بِمَالِهِ أَوْ إجَارَةِ دَارِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ ) فَهُوَ إكْرَاهٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَإِنْ فَعَلَ مَا دُعِيَ إلَيْهِ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَعْدَمُ الرِّضَا ) وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ ( فَيَفْسُدُ ، وَإِنْ أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ إكْرَاهًا لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ نَظَرًا إلَى الْعَادَةِ إلَّا إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ ) فَهُوَ إكْرَاهٌ ( لِ ) وُجُودِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ ( فَوَاتُ الرِّضَا ) ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَعْدَمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ : أَيْ وَالْإِقْرَارُ أَيْضًا يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي غَيْرِ الْإِكْرَاهِ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفٍ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ فَأَقَرَّ بِهِ فَهُوَ إقْرَارٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، إلَّا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ : أَيْ عِزٍّ وَمَرْتَبَةٍ ، فَإِنَّ الشُّرَفَاءَ وَالْأَجِلَّاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ ضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ وَحَبْسِ يَوْمٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَنْكِفُ غَيْرُهُمْ مِنْ ضَرْبِ سِيَاطٍ وَحَبْسِ أَيَّامٍ ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ مِنْ حَالِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ ( ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ

بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ ) عَلَى الْإِجَارَةِ ( قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ ) كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ( وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ) لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ صَدَرَ مِنْ الْمَالِكِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ ( وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَتَأْثِيرُ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ لَا غَيْرُ كَانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي بَابِ الرِّبَا ( فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ ) وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، إنَّمَا لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَقْدَ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْقَبْضِ .
( فَلَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ ) كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ ( جَازَ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَمَا عَادَ جَائِزًا بِالْإِجَازَةِ كَهُوَ .
أَجَابَ بِأَنَّ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ ، بِخِلَافِ سَائِرِهَا فَإِنَّ الْمُفْسِدَ فِيهِ بَاقٍ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّ فِيهِ إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ حَقُّ اسْتِرْدَادِهِ وَهَاهُنَا لَا يَنْقَطِعُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ

وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَاجَتِهِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَالرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ ) يُرِيدُ بِهِ بَيْعَ الْوَفَاءِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : بِعْت مِنْك هَذَا الْعَيْنَ بِمَا لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى أَنِّي مَتَى قَضَيْت الدَّيْنَ فَهُوَ لِي ، أَوْ يَقُولُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَيْنَ بِكَذَا عَلَى أَنِّي إنْ دَفَعْت إلَيْك ثَمَنَك تَدْفَعُ الْعَيْنَ إلَيَّ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِهِ دُونَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَ النَّاسِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ الْبَيْعُ الْجَائِزُ الْمُعْتَادُ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ ( مَنْ جَعَلَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَجَعَلَهُ كَالْبَيْعِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُنْقَضَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا ) كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ ( وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) لِأَنَّهُمَا وَإِنْ سَمَّيَا بَيْعًا لَكِنَّ غَرَضَهُمَا الرَّهْنُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي ، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا يُطْلَقُ لَهُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَكَلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَاسْتَهْلَكَهُ مِنْ عَيْنِهِ ، وَالدَّيْنُ سَاقِطٌ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ وَفَّى بِالدَّيْنِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ إذَا هَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، وَلِلْبَائِعِ اسْتِرْدَادُهُ إذَا قَضَى دَيْنَهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّهْنِ .
( وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَيْعًا بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ ) لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَلَيْسَ قَصْدَهُمَا ، فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ ( هُوَ الْمُعْتَادُ ) أَنَّهُمْ فِي عُرْفِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ لُزُومَ الْبَيْعِ بِهَذَا الْوَجْهِ ، بَلْ يُجَوِّزُونَهُ إلَى أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَبَقِيَ الْمُشْتَرِي يَرُدُّ الْمَبِيعَ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ، وَلِهَذَا سَمَّوْهُ بَيْعَ الْوَفَاءِ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَهِدَ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ .

قَالَ ( فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ طَائِعًا ، بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ وَدَفَعَ حَيْثُ يَكُونُ بَاطِلًا ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ ، وَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ بِالدَّفْعِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ ، فَدَخَلَ الدَّفْعُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ ) لِفَسَادِ الْعَقْدِ .

قَالَ ( فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا إلَخْ ) إذَا قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ كَانَ إجَازَةً ، وَدَلَالَةُ الْإِجَازَةِ تَقُومُ مَقَامَ الْإِجَازَةِ فَكَذَا إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ طَائِعًا بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ كُرْهًا وَدَفَعَ طَائِعًا حَيْثُ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا : أَيْ فَاسِدًا يُوجِبُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرَهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى الدَّفْعِ دُونَ الْبَيْعِ ( وَإِنْ قَبَضَهُ ) أَيْ الثَّمَنَ ( مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ ، وَعَلَى الْمُكْرَهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ) فَيَكُونُ الثَّمَنُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَالْقَبْضُ مَتَى كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا كَانَ لِلتَّمَلُّكِ ، وَهَاهُنَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى قَبْضِهِ .

قَالَ ( وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرِ مُكْرَهٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ ) مَعْنَاهُ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ( وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ ، وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ ) لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ لِعَدَمِ الرِّضَا .
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ .

( وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ ) لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْمُكْرَهَ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ يَجُوزُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَهُوَ الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( وَالْمُكْرَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ ) وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ آلَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الْكَلَامُ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يُتَصَوَّرُ ( فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ ) لِأَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ عِنْدَهُ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْدَثَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ ( كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَلَوْ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ ) بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ( وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ ) يَعْنِي أَيَّ مُشْتَرٍ كَانَ بَعْدَ الْأَوَّلِ ( نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ ) أَيْ تَدَاوَلَتْهُ ( لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ ) وَقَالَ الشَّارِحُونَ : وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ : يَعْنِي فِي صُورَةِ الْغَصْبِ وَمَا عَرَفْت الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ عَلَى شِقَّيْ التَّرْدِيدِ مِنْ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ وَالْمُشْتَرِي ، وَكَلَامُهُ فِي الْغَاصِبِ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَصَالَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَضْمِينِهِ مُشْتَرِيًا وَإِجَازَتِهِ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ اقْتَصَرَ النَّفَاذُ هَاهُنَا عَلَى مَا كَانَ بَعْدَهُ وَعَمَّ الْجَمِيعَ هُنَالِكَ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ ) يَعْنِي فِي صُورَةِ الْإِجَازَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ حَقُّهُ هُوَ ( الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ ) فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ إجَازَةِ الْمُكْرَهِ وَإِجَازَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ إذَا أَجَازَ بَيْعًا مِنْ الْبُيُوعِ نَفَذَ مَا أَجَازَهُ خَاصَّةً ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ ، فَكُلُّ بَيْعٍ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ بِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ فَتَكُونُ إجَازَتُهُ أَحَدَ الْبُيُوعِ تَمْلِيكًا

لِلْغَيْرِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْفُذُ مَا سِوَاهُ .
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ فَقَدْ مَلَكَهُ ، فَالْبَيْعُ مِنْ كُلِّ مُشْتَرٍ صَادَفَ مِلْكَهُ ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ نُفُوذُهُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُكْرَهِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ إجَازَتِهِ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ وَالْآخَرَ ، فَلِهَذَا نَفَذَ الْبُيُوعُ كُلُّهَا بِإِجَازَتِهِ عَقْدًا مِنْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ ، إنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ) وَكَذَا عَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا إذَا خَافَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ ، حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ ( وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَكَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ .
قُلْنَا : حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا مُحَرَّمَ فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءٌ فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
.

( فَصْلٌ ) : لَمَّا ذَكَرَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ ، وَذَكَرَ فِيهِ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ وَهُوَ الَّذِي يَخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ ، وَغَيْرَ الْمُلْجِئِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ الْيَسِيرِ وَالتَّقْيِيدِ ، وَالْأَوَّلُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا سَوَاءً كَانَ عَلَى الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ عَلَى فِعْلٍ يَسِيرٍ فَلَيْسَ مُعْتَبَرًا وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلٍ فَإِنْ كَانَ قَوْلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فَعَلَى هَذَا ( إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ ) يَسِيرٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ ( أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ) الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ ، وَعَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا ، وَلَا ضَرُورَةَ ) عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ ( حَتَّى لَوْ خَافَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصِيرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ ) وَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْمُلْجِئَ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ لِغَلَّةِ الظَّنِّ ، لِأَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ مُتَفَاوِتٌ ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَصٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ غَالِبُ رَأْيِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَنْ قَدَرَ فِي ذَلِكَ أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَقَالَ : إنْ تُهُدِّدَ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ ، لِأَنَّ الْأَقَلَّ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ ، وَالتَّعْزِيرُ يُقَامُ عَلَى

وَجْهِ الزَّجْرِ لَا الْإِتْلَافِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَصْبُ الْمِقْدَارِ بِالرَّأْيِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ ) أَيْ قَتَلُوهُ أَوْ أَتْلَفُوا عُضْوَهُ ( وَلَمْ يَتَنَاوَلْ ) وَعَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ ( فَهُوَ آثِمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ خَلَلٍ يَعُودُ إلَى الْبَدَنِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْعُضْوِ وَحِفْظُ ذَلِكَ مَعَ فَوَاتِ النَّفْسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ( كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْإِقْدَامِ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ رُخْصَةٌ ، إذْ الْحُرْمَةُ ) بِصِفَةِ أَنَّهَا مَيْتَةٌ أَوْ خَمْرٌ وَهِيَ ( قَائِمَةٌ فَ ) إذَا امْتَنَعَ ( كَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ فَلَا يَأْثَمُ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَةَ الِاضْطِرَارِ ) فَقَالَ { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } ( وَالِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا ) فَكَانَ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ ( فَلَا مُحَرَّمَ ) حِينَئِذٍ ( فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً ) فَامْتِنَاعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَامْتِنَاعِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ حَتَّى تَلِفَتْ نَفْسُهُ أَوْ عُضْوُهُ فَكَانَ آثِمًا ( لَكِنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءً ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ الْفُقَهَاءِ ( فَيُعْذَرُ ) أَوْسَاطُ النَّاسِ ( بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) فَإِنْ قِيلَ : إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَاسِدٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَالْإِيتَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ ، وَهَاهُنَا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا

لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ .

قَالَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ ، فَفِي الْكُفْرِ وَحُرْمَتُهُ أَشَدُّ أَوْلَى وَأَحْرَى .
قَالَ ( وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ وَيُوَرِّي ، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ) لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك ؟ قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } } " الْآيَةَ " .
وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ .
قَالَ ( فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ كَانَ مَأْجُورًا ) لِأَنَّ { خُبَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ } وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ .

قَالَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ إلَخْ ) عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ أَشَدُّ ، فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى ذَكَرَهُ بِمَا لَا يَخَافُ بِهِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ لَا يَصِحُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، لَكِنَّهُ يُوَرِّي وَالتَّوْرِيَةُ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَإِنْ أَظْهَرَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَرِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَأْثَمْ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك ؟ قَالَ : مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ .
قَالَ : فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } " .
وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } " وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " فَعُدْ " عُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لَا إلَى الْإِجْرَاءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ فَيَكُونُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُبَاحًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا تَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ ( لَا يَفُوتُ بِهَذَا الْإِظْهَارِ حَقِيقَةً ) لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ قَائِمٌ حَقِيقَةً ، وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ( وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً ) فَكَانَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا وَفَوْتُ

حَقِّ اللَّهِ تَوَهُّمًا ( فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ ، فَإِنْ صَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا ، لِأَنَّ خُبَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ ) أَيْ فِيهِ وَكَلِمَةُ مِثْلِ زَائِدٌ ( هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ) وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ أَيْضًا ( وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ ) لِتَنَاهِي قُبْحِ الْكُفْرِ وَبَقَاؤُهَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ ( فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَزِيمَةً لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ) مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً ( لِلِاسْتِثْنَاءِ ) كَمَا تَقَدَّمَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُسْتَثْنًى بِقَوْلِهِ { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ } فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ، وَتَقْدِيرُهُ : مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، فَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَبَاحَ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِمْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالْغَضَبَ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْغَصْبِ وَهُوَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ عَدَمُ الْعِلَّةِ كَمَا فِي شُهُودِ الشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَإِنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ وَالْحُكْمَ مُتَأَخِّرٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ مُنْتَفِيًا مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْغَضَبِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ إبَاحَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُصْطَلَحُ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْحُكْمِ

الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ كَمَا مَثَّلَ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وَلَا دَلِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ .
وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } " لِلْإِبَاحَةِ ، وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِمَّا لَا يَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا لَا فِي الْكُفْرِ .

قَالَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ) لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ ( وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ ) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ وَيَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا ) لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا فَكَذَا بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ .قَالَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ ) وَإِنْ أُكْرِهَ رَجُلٌ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ ( بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرَهَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ ، وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ) لِأَنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْمَالِ فَيُتْلِفَهُ .
وَقَوْلُهُ فِيمَا يَصْلُحُ احْتِرَازٌ عَنْ الْأَكْلِ وَالتَّكَلُّمِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ فِيهَا لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ ) بِغَيْرِ حَقٍّ ( مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةِ مَا فَكَذَا بِالْإِكْرَاهِ ) وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ .

قَالَ ( وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَيْهِمَا .
لِزُفَرَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحِسًّا ، وَقَرَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْمُ ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ ، وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ ، وَلِلتَّسْبِيبِ فِي هَذَا حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَتْلَ بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى التَّأْثِيمِ ، وَأُضِيفَ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْحَمْلِ فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ فِي كُلِّ جَانِبٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِينِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ ، وَفِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرَهِ فِي الْإِتْلَافِ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا .

وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِصَاصِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَإِنَّهُ إمَّا إنْ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا ، أَوْ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَوْ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَحْدَهُ ، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ .
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالثَّالِثُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالرَّابِعُ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةٌ لِصُدُورِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَحِسًّا فَإِنَّهُ مُعَايَنٌ مُشَاهَدٌ ، وَكَذَا شَرْعًا لِأَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَهُوَ الْإِثْمُ ، فَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَلَمْ يَكُنْ مُقَرَّرًا عَلَيْهِ شَرْعًا فَجَازَ إضَافَتُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ ، وَلِلتَّسَبُّبِ فِي هَذَا : أَيْ فِي الْقَتْلِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ ، كَمَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَاقْتُصَّ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَجَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الشَّاهِدَانِ عِنْدَهُ لِلتَّسْبِيبِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ ، لِأَنَّ دَلِيلَ زُفَرَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إضَافَةِ الْقَتْلِ إلَى غَيْرِ الْمُكْرِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ أَيْضًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلِيلَهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ الْمُكْرِهِ مُبَاشَرَةً ، وَالشَّافِعِيُّ يُضِيفُهُ إلَى الْغَيْرِ تَسْبِيبًا فَلَا تَنَافِيَ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَتْلَ الْحَاصِلَ مِنْ الْمُكْرَهِ يَحْتَمِلُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ وَالتَّعَدِّيَ إلَى غَيْرِهِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِ زُفَرَ وَأَبِي حَنِيفَةَ

وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، لِأَنَّ تَأْثِيمَ الشَّارِعِ يَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِ الْحُكْمِ وَقَصْرِهِ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ يَنْتَقِلُ عَنْهُ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ يَنْدَفِعُ بِهَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ ، وَالْمَحْمُولُ عَلَى الْفِعْلِ بِالطَّبْعِ آلَةٌ لِأَنَّ الْآلَةَ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ بِالطَّبْعِ ، كَالسَّيْفِ فَإِنَّ طَبْعَهُ الْقَطْعُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَحَلِّهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيَهُ عَلَيْهِ ، وَالْفِعْلُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ لَا إلَى الْآلَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ آلَةً لَأُضِيفَ الْإِثْمُ إلَى الْمُكْرَهِ كَالْقَتْلِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِيَتِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ ) فَإِنَّ إعْتَاقَهُ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ حَيْثُ إتْلَافُ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ أَيْضًا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ ( وَ ) كَمَا نَقُولُ ( فِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا ) وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِي الْقَتْلِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَقَتَلَ إنْسَانًا وَأَكَلَ لَحْمَهُ حَتَّى بَقِيَ هُوَ حَيًّا إيثَارًا لِحَيَاتِهِ بِطَبْعِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا كَالْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ مَنْ يَكُونُ آلَةً لَهُ فَيُضَافُ إلَى نَفْسِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمُكْرِهُ الْآمِرُ عَاقِلًا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ غُلَامًا غَيْرَ

بَالِغٍ فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ ، وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ ، وَنَسَبَهُ شَيْخُ شَيْخِي عَلَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى السَّهْوِ وَقَالَ : الرِّوَايَةُ فِي الْمَبْسُوطِ بِفَتْحِ الرَّاءِ دُونَ كَسْرِهَا ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ فِي مَبْسُوطِهِ : وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُسَمًّى يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ ) لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى شَرْفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ .
بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ) وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ( أَوْ ) عَلَى ( عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُكْرَهِ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا بِحَقٍّ ( وَقَدْ مَرَّ ) دَلِيلُ الْفَرِيقَيْنِ ( فِي الطَّلَاقِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَلُحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ ) وَمَنَعَ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ فَكَذَا فِي حَقِّ مَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ وَهُوَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ ، وَاللَّفْظُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِتْلَافِ دُونَ التَّلَفُّظِ ، وَإِذَا صَحَّ كَوْنُهُ آلَةً صَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ ( فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ) أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ فَفِيمَا إذَا قَالَ الْمُكْرِهُ أَرَدْت بِقَوْلِي هُوَ حُرٌّ عِتْقًا مُسْتَقْبَلًا كَمَا طَلَبَ مِنِّي فَإِنَّهُ يُعْتَقُ الْعَبْدُ قَضَاءً وَدِيَانَةً ، وَيَضْمَنُ الْمُكْرَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ عَلَى وَفْقِ مَا أَكْرَهَهُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي سِوَى الْإِتْيَانِ بِمَطْلُوبِهِ ، وَإِنْ قَالَ خَطَرَ بِبَالِي الْإِخْبَارُ بِالْحُرِّيَّةِ فِيمَا مَضَى كَاذِبًا وَأَرَدْت ذَلِكَ لَا إنْشَاءَ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ الْعَبْدُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الْإِقْرَارِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي دَعْوَى الْإِخْبَارِ كَاذِبًا ، وَلَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ بِالْإِقْرَارِ طَائِعًا لَا بِالْإِكْرَاهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُكْرَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْوَلَاءُ ، وَالْإِتْلَافُ

بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَلَاءَ عِوَضٌ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُكْرَهُ مُعَوَّضًا عَمَّا أَتْلَفَهُ بِمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ أَصْلًا .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ كَلَا إتْلَافٍ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ عِوَضٌ ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَمَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ إذَا أَتْلَفَهَا مُكْرَهًا لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ الدُّخُولِ ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا شَهِدَا بِالْوَلَاءِ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ .
( وَأَمَّا عَدَمُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ وَقَدْ خَرَجَ فَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ ثَانِيًا ( أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَبْدِ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبِي السِّعَايَةِ ) ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ سَالِمٌ عَنْ النَّقْضِ ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا أُعْتِقَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ، وَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ ، وَيُزَادُ لَهُمَا فِي التَّعْلِيلِ فَيُقَالُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ ( وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَضْمَنُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُعِلَ مُتْلِفًا لِلْعَبْدِ حُكْمًا ، فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ وَالْمَقْتُولُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ

الْمَرْأَةِ ) الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا نَظِيرُ الْجَوَابِ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَرُجُوعِ الزَّوْجِ عَلَى الْمُكْرَهِ ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ هَاهُنَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَثَمَّةَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْإِتْلَافُ .
أَمَّا فِي الْعِتْقِ فَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَلِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ : أَيْ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ مِنْهَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ ، أَوْ بِالِارْتِدَادِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَأَكُّدٌ بِالطَّلَاقِ مُكْرَهًا ، فَمَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ تَأَكَّدَ بِهِ وَلِلتَّأْكِيدِ شَبَهٌ بِالْإِيجَابِ ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَالْمُكْرَهُ فِي حَقِّ الْإِكْرَاهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ إتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ عِنْدَ الْخُرُوجِ ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا رَجَعَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَضْمَنَانِ .

( وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ زَوَالُ مِلْكِهِ إذَا بَاشَرَ الْوَكِيلُ ، وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ فِيهَا ، وَكَذَا الْيَمِينُ ، وَالظِّهَارُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمَا الْإِكْرَاهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِمَا الْفَسْخَ ، وَكَذَا الرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِيهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ ، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ ، فَلَوْ كَانَ هُوَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ .

( وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ ) أَيْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ ( فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْهَزْلِ فَكَذَا مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْوَكَالَةِ .
أَمَّا أَنَّهُ كَالشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فَصَارَ كَأَنَّهُ شَرْطًا شُرِطَ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ .
وَأَمَّا أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَلِأَنَّهَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ ، فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ كَانَ مَوْقُوفًا حَقًّا لِلْمَالِكِ فَهُوَ بِالتَّوْكِيلِ أَسْقَطَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ كَانَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ نَافِذًا ( وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ ) بِمَا عَزَمَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ ( اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَمْ يَقَعْ بِهَا ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَفْعَلُ وَقَدْ لَا يَفْعَلُ فَلَا يُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِ ، كَمَا فِي الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَ فُلَانًا بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَ الْوَكِيلُ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرَهِ زَوَالُ مِلْكِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ، وَكَانَ مَا فَعَلَهُ وَسِيلَةً إلَى الْإِزَالَةِ فَيَضْمَنُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إكْرَاهٌ ( قَوْلُهُ وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ ) بَيَانٌ لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ حَيْثُ مَنْعُ الصِّحَّةِ ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُفَوِّتُ الرِّضَا وَفَوَاتُ الرِّضَا يُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ

اللُّزُومِ وَعَدَمُ اللُّزُومِ يُمَكِّنُ الْمُكْرَهَ مِنْ الْفَسْخِ ، فَالْإِكْرَاهُ يُمَكِّنُ الْمُكْرَهَ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ ، فَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ فَيَصِحُّ النَّذْرُ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لَزِمَهُ ذَلِكَ ( وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ غَيْرُهُ فِيهَا ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ ) فَحَلَفَ انْعَقَدَتْ ( أَوْ عَلَى ظِهَارٍ ) فَظَاهِرٌ صَحَّ ( وَكَذَا عَلَى رَجْعَةٍ ) فَفَعَلَ صَحَّ ( أَوْ عَلَى إيلَاءٍ فَآلَى أَوْ عَلَى فَيْءٍ إلَيْهَا بِاللِّسَانِ ) فَفَعَلَ صَحَّ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ الرَّجْعَةَ وَالْإِيلَاءَ وَالْفَيْءَ ( تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ ) وَمَا صَحَّ مَعَ الْهَزْلِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ عَنْهَا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ وَذَلِكَ مِنْهُ حِسْبَةٌ لَا إتْلَافٌ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِنْ عَيَّنَ عَبْدًا لِذَلِكَ فَفَعَلَ عَتَقَ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ تَرَكَ الَّتِي آلَى مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى بَانَتْ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الصَّدَاقِ ، وَإِنْ قَرِبَهَا وَكَفَّرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرَهِ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّهُ أَتَى بِضِدِّ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ فَفَعَلَ صَحَّ الْخُلْعُ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا

يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِلَا بَدَلٍ فَكَذَا بِبَدَلٍ أَوْ يَمِينٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْيَمِينِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ ( فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ ) بِإِزَاءِ مَا سَلِمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرَهِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ خَالَعَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَلْمُوسَةٍ فَاسْتَحَقَّتْ نِصْفَ الصَّدَاقِ هَلْ يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِتَأْكِيدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ أَوْ لَا ؟ قُلْنَا : لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ سَاقَ الزَّوْجُ الْمَهْرَ إلَيْهَا كُلَّهُ أَوَّلًا ، فَإِنْ سَاقَ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ بِنِصْفِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَالٍ مُسَمًّى لَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ لَكِنَّهَا بَرَاءَةُ مُكْرَهٍ وَالْبَرَاءَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ رَجَعَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا : إنْ أَكْرَهَهُ أَحَدٌ عَلَى الزِّنَا فَزَنَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِشَارِ آلَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَذَاذَةٍ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الْفِعْلِ ، وَمَعَ الْخَوْفِ يَتَحَقَّقُ التَّمْكِينُ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ التَّمْكِينُ دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ .
ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ هُوَ السُّلْطَانُ ، لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، لِأَنَّ الِانْزِجَارَ كَانَ حَاصِلًا إلَى إنْ حَصَلَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ قَصْدُهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ ، وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ يَنْشُرُ مِنْ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ .
وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ .
وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْإِكْرَاهِ بِالسُّلْطَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْعَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَقِيلَ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ مُلْجِئًا وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيقَاعِ ، وَخَوْفُ الْمُكْرَهِ الْوُقُوعُ كَمَا مَرَّ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَكْثَرَ تَحَقُّقًا ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَعْلَمُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ فَهُوَ ذُو أَنَاةٍ فِي أَمْرِهِ وَغَيْرُهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ فَيَجْعَلُ فِي الْإِيقَاعِ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ اللِّصِّ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ ، ثُمَّ

فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا يُحْسَبُ لَهَا الْمَهْرُ ، لِأَنَّ الْحَدَّ وَالْمَهْرَ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً عَلَى الْفِعْلِ أَوْ أَذِنَتْ لَهُ بِذَلِكَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ لَيْسَ يَحِلُّ الْوَطْءَ فَكَانَ إذْنُهَا لَغْوًا لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا .

قَالَ ( وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْتُ مِنْك وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا ، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَهَذَا بَيَانُ الْحُكْمِ ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَتْلِ .
وَلَوْ قَالَ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَخْبَرْتُ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ بَانَتْ مِنْهُ حُكْمًا لَا دِيَانَةً .
لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَائِعٌ بِإِتْيَانِ مَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ ، وَحُكْمُ هَذَا الطَّائِعِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طُلِبَ مِنِّي وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْخَبَرُ عَمَّا مَضَى بَانَتْ دِيَانَةً وَقَضَاءً ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مَخْلَصًا غَيْرَهُ .

وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ ، وَفِي تَبَدُّلِهِ شَكٌّ ) وَكَانَ الْإِيمَانُ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالشَّكِّ وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ دَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ ، وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ الرِّدَّةُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَرْجَمَةِ اللِّسَانِ وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ يَصْرِفُ عَنْ صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ ( فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ ) الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْكُفْرِ ( بِالشَّكِّ ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْت مِنْك وَقَالَ الرَّجُلُ قَدْ أَظْهَرْت ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا ) وَفِي الْقِيَاسِ : الْقَوْلُ قَوْلُهَا فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ ، لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ كَالتَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الطَّائِعُ وَالْمُكْرَهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ( أَنَّ اللَّفْظَ ) يَعْنِي كَلِمَةَ الْكُفْرِ ( غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ ) يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَكُونَ صَرِيحًا يَقُومُ اللَّفْظُ فِيهِ مَقَامَ مَعْنَاهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ بَلْ دَلَالَتُهَا عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ وَتَرْجَمَةٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ يَقُومُ لَفْظُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ ( فَ ) لِهَذَا ( كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ

لَمَّا احْتَمَلَ ) أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ يُوَافِقُ اعْتِقَادَهُ ( وَاحْتَمَلَ ) أَنْ لَا يَكُونَ لَفْظُهُ ( رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ ) قِيلَ أَيْ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ( لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ) فَلَمْ يُجْعَلْ كَافِرًا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَجُعِلَ مُسْلِمًا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ ( وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، أَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ ) وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِقْرَارَ رُكْنًا ( وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ ) أَيْ شُبْهَةِ عَدَمِ الِارْتِدَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ غَيْرَ قَائِمٍ بِقَلْبِهِ عِنْدَ الشَّهَادَتَيْنِ ( وَالشُّبْهَةُ دَارِئَةٌ لِلْقَتْلِ ) ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ الَّذِي أُكْرِهَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْت ذَلِكَ : يَعْنِي لَوْ قَالَ فِي جَوَابِ قَوْلِهَا قَدْ بِنْت مِنْك أَخْبَرَتْ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت بَانَتْ مِنْهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَائِعٌ بِإِتْيَانِ مَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْإِنْشَاءِ دُونَ الْإِقْرَارِ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ طَائِعًا ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْكَذِبَ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، إذْ الظَّاهِرُ هُوَ الصِّدْقُ حَالَةَ الطَّوَاعِيَةِ ، لَكِنَّهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ( وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طَلَبَ مِنِّي مِنْ الْكُفْرِ وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْخَبَرُ عَمَّا مَضَى بَانَتْ قَضَاءً وَدِيَانَةً لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ

مُخَلِّصًا غَيْرَهُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا خَطَرَ هَذَا بِبَالِهِ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ ، وَالضَّرُورَةُ قَدْ انْدَفَعَتْ بِهَذَا الْإِمْكَانِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَنْشَأَ الْكُفْرَ كَمَنْ أَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ طَائِعًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ كُفْرٌ فَتَبِينُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً وَدِيَانَةً .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ لَا يَكْفُرُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً ، وَفِي وَجْهٍ يَكْفُرُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَفِي وَجْهٍ يَكْفُرُ قَضَاءً يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكْفُرْ دِيَانَةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا أَجْرَاهَا فَإِمَّا أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ غَيْرُ مَا طُلِبَ مِنْهُ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ ، وَالْأَوَّلُ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى كَاذِبًا وَأَرَادَهُ فَهُوَ الثَّالِثُ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ فَهُوَ الثَّانِي .

وَعَلَى هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ وَسَبِّ مُحَمَّدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَفَعَلَ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَانَتْ مِنْهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً ، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَسَبَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّلَاةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَبِّ غَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَانَتْ مِنْهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِمَا مَرَّ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَإِذَا ظَهَرَ لَك هَذَا أَمْكَنَك أَنْ تُخْرِجَ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ وَسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مُخَلِّصًا غَيْرَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

قَالَ ( الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ : الصِّغَرُ ، وَالرِّقُّ ، وَالْجُنُونُ ، فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَا تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ ) .
أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ ، غَيْرَ أَنَّ إذْنَ الْوَلِيِّ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ ، وَالرِّقُّ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ مَنَافِعُ عَبْدِهِ .
وَلَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ ، وَالْجُنُونُ لَا تُجَامِعُهُ الْأَهْلِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بِحَالٍ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَأَهْلٌ فِي نَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ تُرْتَقَبُ أَهْلِيَّتُهُ فَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ ) لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ ، وَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا فِيهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْقِلَا الْبَيْعَ لِيُوجَدَ رُكْنُ الْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَالْمَجْنُونُ قَدْ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرَجِّحُ الْمَصْلَحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ الْمَعْتُوهُ الَّذِي يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْوَكَالَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّوَقُّفُ عِنْدَكُمْ فِي الْبَيْعِ .
أَمَّا الشِّرَاءُ فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ .
قُلْنَا : نَعَمْ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ ، وَهَاهُنَا لَمْ نَجِدْ نَفَاذًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ لِضَرَرِ الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ .
قَالَ ( وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ ) لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهَا لِوُجُودِهَا حِسًّا وَمُشَاهَدَةً ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ ( إلَّا إذَا كَانَ

فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) فَيُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .

( كِتَابُ الْحَجْرِ ) أَوْرَدَ الْحَجْرَ عَقِيبَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا سَلْبَ وِلَايَةِ الْمُخْتَارِ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ اخْتِيَارِهِ ، إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا لِأَنَّ فِيهِ سَلْبَهَا عَمَّنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَوِلَايَةٌ كَامِلَةٌ ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ ، وَهُوَ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ أَحَدُ قُطْبَيْ أَمْرِ الدِّيَانَةِ ، وَالْآخَرُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ .
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ ، وَفِي عُرْفِهِمْ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ .
وَأَسْبَابُهُ مَصَادِرُ هَذِهِ الْأَسَامِي ، وَأُلْحِقَ بِهَا الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلَمَّا كَانَ أَسْبَابُهُ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ مَا .
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مَغْلُوبًا وَهُوَ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَمَا سَيَجِيءُ .
أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَأَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ إنَّمَا هِيَ بِالْعَقْلِ لَكِنَّ أَهْلِيَّتَهُ مُتَرَقَّبَةٌ ، وَإِذْنُ وَلِيِّهِ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ أَهْلِيَّةٌ لَكِنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ عَبْدِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ لَنَفَذَ الْبَيْعُ الَّذِي بَاشَرَهُ وَشِرَاؤُهُ فَيَلْحَقُهُ دُيُونٌ فَيَأْخُذُ أَرْبَابُهَا أَكْسَابَهُ الَّتِي هِيَ مَنْفَعَةُ الْمَوْلَى وَذَلِكَ تَعْطِيلٌ لَهَا عَنْهُ ، وَلِئَلَّا يَمْلِكَ رَقَبَةً يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ فَقَدْ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ ، وَالْجُنُونُ الْغَالِبُ لَا يُجَامِعُهُ أَهْلِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ

بِحَالٍ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا ) أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يَجِنُّ وَيُفِيقُ ، وَتَصَرُّفُهُمْ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَقْصِدُهُ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحُكْمِ : أَعْنِي كَوْنَ الْبَيْعِ سَالِبًا وَالشِّرَاءِ جَالِبًا وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْهَازِلِ ، فَإِنَّ بَيْعَهُ لَيْسَ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحُكْمِ ( وَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ ، لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ وَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا فِيهِ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَأَرَادَ سُؤَالًا عَلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشِّرَاءِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ هَاهُنَا مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّوَقُّفِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا وُجِدَ عَلَى الْمُبَاشِرِ نَفَاذًا كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ ، وَهَاهُنَا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةٍ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْ لِضَرَرِ الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْإِشْكَالِ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى لَفْظِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى ، أَمَّا هَاهُنَا يَعْنِي فِي الْهِدَايَةِ فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ أَوْ اشْتَرَى فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ ، وَلَكِنْ جَعَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُدُورِيِّ مَذْكُورًا وَهَاهُنَا فَأَوْرَدَ الْإِشْكَالَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ سَمَاعِيٌّ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ شَيْخِي فِي شَرْحِهِ ( قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ ) يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ ( تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ ) يَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ : أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ

التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ .
وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ ، وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا نَفْعًا كَقَبُولٍ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ ( قَوْلُهُ دُونَ الْأَفْعَالِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَفْعَالِ ( لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا مَرَدَّ لَهَا ) حَتَّى إنَّ ابْنَ آدَمَ لَوْ انْقَلَبَ عَلَى قَارُورَةِ إنْسَانٍ فَكَسَرَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الْحَالِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ فِي الْحَالِ ( لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُوجَدُ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً ) وَيَحْصُلُ بِهَا الْإِتْلَافُ ، وَالْإِتْلَافُ بَعْدَ الْحُصُولِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَا إتْلَافَ ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا ) حَالَ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً حَاصِلٌ ( بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدِ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِبَارِ ) وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَصْدٌ لِقُصُورِ الْعَقْلِ فَيَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ بِهِ .
وَأَمَّا فِي الْعَبْدِ فَالْقَصْدُ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ لَكِنَّهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِلُزُومِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَوْلَى بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَقْوَالُ مَوْجُودَةٌ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً فَمَا بَالُهَا شَرْطُ اعْتِبَارِهَا مَوْجُودَةً شَرْعًا بِالْقَصْدِ دُونَ الْأَفْعَالِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً لَيْسَتْ عَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا بَلْ هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ دَلِيلِهِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ الْمَوْجُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا عَيْنُهَا فَبَعْدَمَا وُجِدَتْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَقَعُ صِدْقًا وَقَدْ يَقَعُ كَذِبًا وَقَدْ يَقَعُ جِدًّا وَقَدْ يَقَعُ

هَزْلًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا وُجِدَ هَزْلًا لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا فَكَذَا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ وَقَعَتْ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهَا ، وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا مَرَدَّ لَهَا : يَعْنِي أَنَّ الْأَفْعَالَ إذَا وُجِدَتْ لَا مَرَدَّ لَهَا ، لَكِنْ إذَا كَانَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .

قَالَ ( وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً ، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ ، وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ ، فَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا ضَمَانُهُ ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَ الْإِتْلَافِ مُوجِبًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ كَاَلَّذِي يَتْلَفُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَيْهِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .

قَالَ ( وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا ) أَرَادَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ ، وَإِنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَقْوَالِ لِتَنْسَاقَ الْقَوْلِيَّاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ ( وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } " ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً ) لَا مَحَالَةَ ( وَ ) الطَّلَاقُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ ( لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ ) أَمَّا فِي الْحَالِ ( فَلِعَدَمِ الشَّهْوَةِ ) وَأَمَّا فِي الْمَآلِ فَلِأَنَّ عِلْمَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ ( وَ ) الْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ ، لَكِنْ ( لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ ، فَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ ) أَيْ الْوَلِيِّ ( بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ ) وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا ) بَيَانٌ لِتَفْرِيعِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا قَصْدَ مِنْ صَاحِبِ الْحَائِطِ فِي وُقُوعِ الْحَائِطِ وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ .

قَالَ ( فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ) لِقِيَامِ أَهْلِيَّتِهِ ( غَيْرُ نَافِذٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ) ( رِعَايَةً لِجَانِبِهِ ) ، لِأَنَّ نَفَاذَهُ لَا يَعْرَى عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ إتْلَافُ مَالِهِ .وَقَوْلُهُ ( فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ) لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ ) لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ حَتَّى لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ ( وَيَنْفُذُ طَلَاقُهُ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ } وَلِأَنَّهُ عَارِفٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَكَانَ أَهْلًا ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا تَفْوِيتُ مَنَافِعِهِ فَيَنْفُذُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .( قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } " وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .

( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْهُ الْمَالُ ، ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ بِلِسَانِهِ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ جَازَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ ، إذْ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ ، وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ نَظَرَ لَهُ الشَّرْعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ ، وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ .

بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا هُوَ السَّفَهُ .
وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ ) كَالْإِلْقَاءِ فِي الْبَحْرِ وَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ) غَيْرَ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ تَصَرُّفٍ يَتَّصِلُ بِمَالِهِ ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ ، وَمَا لَا يَتَّصِلُ بِمَالِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَوْ يَتَّصِلُ بِهِ ، لَكِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَالْحَجْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى صَحَّ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَ ) كُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ( يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ ) فَهَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ( بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُ ، وَالْمَنْعُ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ بِلِسَانِهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ يَدِهِ ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِمَا .
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ .
وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّفِيهُ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ ، فَعِنْدَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا وَعُقُوبَةً وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ( لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ ) وَنُوقِضَ بِالْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ وَيُحْجَرُ عَلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ مُخَاطَبٌ وَهُوَ مُطْلَقٌ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا لِسُقُوطِ الْخِطَابَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ وَبَعْضِ الْخِطَابَاتِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالشَّهَادَاتِ وَشَطْرِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ، وَلَوْ ضُمَّ إلَى ذَلِكَ حُرٌّ سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ ( وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ الْحَجْرِ ( لِأَنَّ ) فِي الْحَجْرِ سَلْبَ وِلَايَتِهِ ( فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْهُ الْمَالُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ مِنْهُ لِيَكُونَ هُوَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ عَلَى التَّبْذِيرِ ، وَالْحَجْرِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ : أَيْ لَا يُقَاسُ السَّفِيهُ عَلَى الصَّبِيِّ ( لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ نَظَرَ لَهُ الشَّارِعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَاقِلٌ ( وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ ) فَكَانَ قِيَاسٌ قَادِرٌ عَلَى عَاجِزٍ وَهُوَ فَاسِدٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ : يَعْنِي أَنَّ مَنْعَ

الْمَالِ بِدُونِ الْحَجْرِ مُفِيدٌ ( لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ ) إنَّمَا يَكُونُ ( فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ ) أَيْ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُفِدْ .

قَالَ ( وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ ) لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْهُ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ ، حَتَّى لَوْ رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ( قَوْلُهُ وَإِذَا حُجِرَ إلَخْ ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ حَجَرَ عَلَى السَّفِيهِ عَلَى رَأْيِهِ ثُمَّ رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ جَازَ تَصَرُّفُهُ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَاقَى مُجْتَهَدًا فِيهِ وَنَقْضُهُ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْقَاضِي فَتْوَى لَا قَضَاءٌ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَقْتَضِي الْمَقْضِيَّ لَهُ وَالْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ وَلَا مَقْضِيَّ لَهُ هَاهُنَا .
سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمَقْضِيِّ لَهُ عَلَى احْتِمَالٍ بَعِيدٍ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ السَّفِيهُ مَقْضِيًّا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَجْرَ نَظَرَ لَهُ ، لَكِنَّ نَفْسَ هَذَا الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَصَارَ مَحَلًّا لِلْقَضَاءِ يَحْتَاجُ إلَى إمْضَاءٍ ، فَلَوْ رَفَعَ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ وَصِحَّةِ الْحَجْرِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ .

( ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ .
وَقَالَا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ) لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ وَصَارَ كَالصِّبَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ ، وَلَا يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ وَيَتَقَطَّعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا ، ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ .
فَعِنْدَهُمَا لَمَّا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إذَا بَاعَ تَوْفِيرًا لِفَائِدَةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ .

ثُمَّ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَفِيهًا مُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَتَصَرُّفَاتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ نَافِذَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ سُلِّمَ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ الرُّشْدُ مِنْهُ ، وَقَالَا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ ، وَتَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى ظَاهِرٌ ( وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ كَالصِّبَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ ) وَهَذَا الدَّلِيلُ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ لَكِنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّأْدِيبِ ، وَلَا تَأْدِيبَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَصِيرُ جِدًّا بِاعْتِبَارِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ فِي الْإِنْزَالِ وَهُوَ اثْنَتَا عَشَرَةَ سَنَةً وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ .
وَالثَّانِي أَنْ يُجْعَلَ مُعَارَضَةً فَيُقَالُ : مَا ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ لَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ إلَخْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا ، لِأَنَّ الْعَادَةَ وِجْدَانُهُ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ بِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْبُلُوغِ مِنْ حَيْثُ السِّنُّ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَمَا قَرُبَ مِنْ الْبُلُوغِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ التَّمْيِيزِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا أَشَارَ

إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ " { مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا } " ( وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ الْمَالُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا ) فَإِنْ قِيلَ : الدَّفْعُ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُنْكَرٌ يُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْإِنْسَانُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لِصَيْرُورَةِ فُرُوعِهِ أَصْلًا فَكَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ .
قَالَ ( ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ ) أَرَادَ أَنَّ التَّفْرِيعَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا بَاعَ لَا يَنْفُذُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ .
فَعِنْدَهُمَا لَمَا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إذَا بَاعَ لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ) فَيَكُونُ مَوْقُوفًا ( فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِيهِ مَصْلَحَةً ) بِأَنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ رَابِحًا وَكَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ( أَجَازَهُ ) وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ خَاسِرًا وَلَمْ يَبْقَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ ، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِهِ لِخُرُوجِ الْمَبِيعِ عَنْ يَدِهِ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ ) وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ .
وَرُدَّ بِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ إذَا وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ وَالسَّفَهُ لَا يَنْفِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَامَ التَّوَقُّفُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( لِلنَّظَرِ لَهُ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ نَصَبَ نَاظِرًا لَهُ

فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ ) .

وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عِنْدَهُ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّظَرِ وَالْحَجْرُ لِنَظَرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْقَاضِي .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ ، إذْ الْعِلَّةُ هِيَ السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًاوَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عِنْدَهُ لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ ) وَهُوَ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ ( وَالنَّظَرِ ) لَهُ فِي إبْقَاءِ الْمَبِيعِ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ ( فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا ) عَلَيْهِ ( عِنْدَهُ إذْ الْعِلَّةُ عِنْدَهُ هِيَ السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا ) وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَحْجُورًا حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مَحْجُورًا بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ .

( وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ .
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ إلَخْ وَمَا لَا فَلَا ، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يُخْرِجُ كَلَامَهُ لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ .
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا الطَّلَاقَ كَالْمَرْقُوقِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ ( وَ ) إذَا صَحَّ عِنْدَهُمَا ( كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ) لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ وَالسِّعَايَةُ مَا عُهِدَ وُجُوبُهَا فِي الشَّرْعِ إلَّا لِحَقِّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ ( وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ

( وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا ) يَعْنِي بَعْدَ الْحَجْرِ ( نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا ) وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخَصَّ قَوْلُهُمَا بِالذِّكْرِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْحُكْمُ قَبْلَ الْحَجْرِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِ الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ السَّفَهِ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْحَجْرِ عِنْدَهُ بَلْ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِهِمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَجْرُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ .
وَعَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يَنْفُذُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ( وَ ) ذَكَرَ أَنَّ ( الْأَصْلَ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ ، وَمَا لَا فَلَا لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى الْهَازِلِ ) لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ السَّفِيهَ لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً لَمْ يُنَفِّذْهُ الْقَاضِي وَكَذَا لَوْ نَذَرَ بِهَدْيٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُنَفِّذْهُ فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ } " وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ بِالسَّفَهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْهَازِلَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَتَقَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ وَالْمَحْجُورُ بِالسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ، فَالْهَزْلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وُجُوبِ السِّعَايَةِ وَالْحَجْرُ أَثَّرَ فِيهِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ السَّفِيهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَجْرِ

عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ ، لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِمَا إضَاعَةَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْحَجْرِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ وَالنَّذْرِ .
وَعَنْ الثَّانِي مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ قَصْدَ اللَّعِبِ بِالْكَلَامِ وَتَرْكَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ( وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ ) فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِإِلْزَامِ الْعُقُوبَةِ بِاللِّسَانِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهَا ، كَمَا أَنَّ الرِّقَّ كَذَلِكَ ( فَلَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا الطَّلَاقُ كَالرَّقِيقِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ ) قُلْنَا : لَيْسَ السَّفَهُ كَالرِّقِّ لِأَنَّ حَجْرَ الرِّقِّ لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ ، حَتَّى إنَّ تَصَرُّفَهُ فِيمَا لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ نَافِذٌ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَهَاهُنَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ فَيَكُونُ نَافِذًا ( فَإِذَا صَحَّ عِنْدَهُمَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ ) لِعَدَمِ قَبُولِهِ الْفَسْخَ ( فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ ) لِأَجْلِ النَّظَرِ لِغُرَمَائِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِغُرَمَائِهِ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ لِمَعْنَى النَّظَرِ إلَى آخِرِ النُّكْتَةِ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ، لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا

الْمَعْهُودُ أَنْ يَجِبَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ ) كَمَا فِي إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْعَى لِلسَّاكِتِ ( وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ ، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ إنْشَاءَ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ إنْشَاءَ حَقِّهِ كَانَ أَوْلَى ( إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ) وَالْبَاقِي عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ دَيْنًا .

وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِفَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ وَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْعِتْقُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ يُوجِبُ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ) أَلَا يَرَى أَنَّ مُصْلِحًا لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِغُرَمَائِهِ .
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ قِنًّا ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُوجِبُ السِّعَايَةَ قِنًّا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَيْسَ بِسَبَبٍ قَبْلَهُ ، إلَّا إنْ جُعِلَ هَاهُنَا سَبَبًا قَبْلَهُ ضَرُورَةً فَلَا تَظْهَرُ سَبَبِيَّتُهُ فِي إيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ قِنًّا ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ عَنْ الْبَيْعِ وَتَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا .
قِيلَ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَفِيهَا يَسْعَى الْعَبْدُ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ النَّفَاذِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْوَصِيَّةِ صَحِيحٌ دُونَ التَّدْبِيرِ .

( وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَأُلْحِقَ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّهِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا ، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا .
وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .( وَلَوْ وَلَدَتْ جَارِيَتُهُ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ ) وَ ( إبْقَاؤُهُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِحَيَاةِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ ) بِبَقَاءِ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُلْحِقَ السَّفِيهُ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّ الِاسْتِيلَادِ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ كَانَتْ الْجَارِيَةُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ وَإِنْ مَاتَ مَدْيُونًا ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ ) أَيْ إنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ ( وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ ) لِأَنَّ الدَّعْوَةَ حِينَئِذٍ كَانَتْ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ ( فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا ، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ ، إذْ لَيْسَ لَهَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ ) فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ( بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا ) فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَكَذَا فِي دَفْعِ حُكْمِ الْحَجْرِ عَنْ تَصَرُّفِهِ ( وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَتِهِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إلَخْ .

قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا ) لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ ( وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا ) لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ ( وَبَطَلَ الْفَضْلُ ) لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ ، وَهَذَا الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَلَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ( وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ إلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ ( وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً ) لِمَا بَيَّنَّا .قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ) يَعْنِي فِي لُزُومِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَسُقُوطِ الزِّيَادَةِ ، إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَرَضِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَهَاهُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ) يَعْنِي يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَ بِمَهْرٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتَضَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَدُّ بَابُ إتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، بَلْ هَذَا أَضَرُّ لَهُ مِنْ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ إذْ هُوَ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَذَمَّةِ فِي التَّزَوُّجِ وَالطَّلَاقِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ } " .

قَالَ ( وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ( وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ ) لِأَنَّ إحْيَاءَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ ، وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ النَّاسِ ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهَا إلَى مَصْرِفِهَا ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً ، لَكِنْ يَبْعَثُ أَمِينًا مَعَهُ كَيْ لَا يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ .
وَفِي النَّفَقَةِ يَدْفَعُ إلَى أَمِينِهِ لِيَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ ، فَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَلَا كَذَلِكَ مَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ فِعْلِهِ .

قَالَ ( وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ ) وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ كَنَفَقَةِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَهَذَا وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ وَبِالسَّفَهِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَنْهُ ، وَلَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ ، لَكِنْ لَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ فِي الْقَرَابَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَعُسْرَةِ الْقَرِيبِ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُلْزِمُ إقْرَارُهُ شَيْئًا إلَّا فِي الْوَلَدِ ، فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا تَصَادَقَا عَلَى النَّسَبِ قُبِلَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَصْدِيقِ الْآخَرِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّسَبِ ، وَالسَّفَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ لِكَوْنِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ عُسْرَةِ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَالْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ وَيَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالنَّفَقَةُ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ ) يَعْنِي مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ( حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ بِصَوْمٍ ) لِكُلِّ حِنْثٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَعَنْ كُلِّ ظِهَارٍ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ حَالَ التَّكْفِيرِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ ( مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ ) إذْ السَّبَبُ الْتِزَامُهُ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى التَّبْذِيرِ بِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ وَتَضْيِيعِ فَائِدَةِ الْحَجْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ مُرَتَّبٌ عَلَى عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الرَّقَبَةِ فَأَنَّى يَصِحُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُنْتَفِيَةٌ ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْحَجْرِ تُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَى مَنْ يُعْتِقُهُ السَّفِيهُ

كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَعَ السِّعَايَةِ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ .

قَالَ ( فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ ( وَلَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ مِنْ الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ) كَيْ لَا يُتْلِفُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ( وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ) اسْتِحْسَانًا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا ، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَجِّ ( وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إفْرَادِ السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ( وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسُوقَ بَدَنَةً ) تَحَرُّزًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، إذْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا وَهِيَ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ .( قَوْلُهُ وَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا ) لِذَلِكَ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْطِيَ لَهَا نَفَقَةَ السَّفَرِ ، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ .
كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ تَطَوُّعًا ، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُجْزِئُ فِيهِ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لَيْسَ إلَّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَزِمَهُ الدَّمُ يُؤَدِّي إذَا أَصْلَحَ .

قَالَ ( فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ ) لِأَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ إذْ هِيَ حَالَةَ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَخْلُفُ ثَنَاءً أَوْ ثَوَابًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .( فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى ) وَقُيِّدَ بِالْمَرَضِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَالِبًا تَكُونُ فِي الْمَرَضِ ، فَإِنَّ السَّفِيهَ الصَّحِيحَ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَحُكْمُهَا كَحُكْمِ الْمَرِيضِ ، وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهَا كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ فِي حَيَاتِهِ ، وَاسْتَحْسَنُوا فِيهَا إذَا وَافَقَ الْحَقَّ وَمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ مِنْ الْمَالِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ ، وَحِينَئِذٍ لَا نَظَرَ لَهُ فِي الْمَانِعِ وَإِنَّمَا النَّظَرُ لَهُ فِي اكْتِسَابِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي تَنْفِيذِهَا ذَلِكَ ( وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ : إنَّ الَّذِي بَلَغَ سَفِيهًا وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَهُوَ يَعْقِلُ مَا يَصْنَعُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ ، إلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ وَلِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى الصَّغِيرِ يَشْتَرِي لَهُ مَالًا وَيَبِيعُ ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْأَبِ وَلَا وَصِيُّ الْأَبِ عَلَى الْبَائِعِ السَّفِيهِ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ ، وَلَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَلَا عَتَاقُهُ ، وَالرَّابِعُ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ لَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ ، وَهَذَا السَّفِيهُ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ .

قَالَ ( وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عِنْدَنَا وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي السَّفِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ .
وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عِنْدَنَا ، وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ سَوَاءٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحْجَرُ عَلَيْهِ ) وَمَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ عِنْدَهُ لِلزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفَاسِقُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ .
وَعِنْدَهُمَا لِلنَّظَرِ لَهُ فِي مَالِهِ فَإِذَا أَصْلَحَ مَالَهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ حَجْرٌ ( وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ ) نَكَّرَ الرُّشْدَ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ مِنْهُ وَالْكَثِيرَ ، وَمَنْ أَصْلَحَ فِي مَالِهِ فَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ ( وَلِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ .
وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِسَفِيهٍ لَكِنَّهُ مُتَغَفِّلٌ ) يَعْنِي فِي التِّجَارَاتِ ( وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَا حَجَرَ عَلَى حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ بَلْ قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { قُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } " وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } لِمَا أَنَّهُ يُتْلِفُ الْأَمْوَالَ كَالسَّفِيهِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ لِمَنْعِ الْمَالِ ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَجْرِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ ) قَالَ ( بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إذَا تَمَّ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَعَنْهُ فِي الْغُلَامِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنْ يَطْعَنَ فِي التَّاسِعِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَتِمُّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا اخْتِلَافَ .
وَقِيلَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، أَمَّا الْعَلَامَةُ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ حَقِيقَةً وَالْحَبَلُ وَالْإِحْبَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِنْزَالِ ، وَكَذَا الْحَيْضُ فِي أَوَانِ الْحَبَلِ ، فَجُعِلَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ ، وَأَدْنَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ .
وَأَمَّا السِّنُّ فَلَهُمْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ لَا يَتَأَخَّرُ فِيهِمَا عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ .
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } وَأَشُدُّ الصَّبِيِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ الْقُتَبِيُّ ، وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِنَاثَ نُشُوءُهُنَّ وَإِدْرَاكُهُنَّ أَسْرَعُ فَنَقَصْنَا فِي حَقِّهِنَّ سَنَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يُوَافِقُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْمِزَاجَ لَا مَحَالَةَ .

( فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ ) الْبُلُوغُ فِي اللُّغَةِ : الْوُصُولُ ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ : انْتِهَاءُ حَدِّ الصِّغَرِ .
وَلَمَّا كَانَ الصِّغَرُ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحَجْرِ وَجَبَ بَيَانُ انْتِهَائِهِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ .
قَالَ ( بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ إلَخْ ) الْحُلُمُ بِالضَّمِّ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ ، يُقَالُ حَلُمَ وَاحْتَلَمَ بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْإِنْزَالُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ } ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَا : إذَا تَمَّ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ : وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَبَعْضُهُمْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

قَالَ ( وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ الْحُلُمَ وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ قَدْ بَلَغْتُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِينَ ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا ظَاهِرًا ، فَإِذَا أَخْبَرَا بِهِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمَا الظَّاهِرُ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ .( قَوْلُهُ وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ ) يُقَالُ : رَهَقَهُ : أَيْ دَنَا مِنْهُ ، وَصَبِيٌّ مُرَاهِقٌ أَيْ دَانٍ لِلْحُلُمِ ( وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا مِنْهُ فَقَالَ قَدْ بَلَغْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا ) ثُمَّ قِيلَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ بِالْبُلُوغِ إذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَأَدْنَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ ، وَإِذَا وَجَبَتْ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ .
( فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ ، وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ ( وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ ) إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ ( وَقَالَا : إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ ) لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ إنَّمَا جَوَّزَاهُ نَظَرًا لَهُ ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، أَمَّا الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْمَنْعُ لِحَقِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
قَالَ ( وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّ الْبَيْعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ لِأَجْلِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ .
قُلْنَا : التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ ، وَالْمُسْتَحَقُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطَّرِيقِ ، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ كَانَ الْحَبْسُ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَرَاهِمُ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ لِلدَّائِنِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ ( وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ

دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ بَاعَهَا الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ جَبْرًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا ، أَمَّا النُّقُوذُ فَوَسَائِلُ فَافْتَرَقَا

بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ) الدَّيْنُ أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا ، لَكِنْ بِشَرْطِ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْكَبِ فَلَا جَرَمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ احْتِيَاطًا لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ إنْ وَقَعَ ، وَأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْحَجْرَ كَانَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ لَهُ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يَحْدُثُ لَهُ بِالْكَسْبِ أَوْ غَيْرِهِ ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْحَادِثِ نَفَذَ ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مِنْ الْحَجْرِ لِأَجْلِهِ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِإِبْرَاءِ الْغَرِيمِ وَوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ( وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ ) وَذَلِكَ ضَرَرٌ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ ، فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى .
فَإِنْ قِيلَ : إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ وَتَرْكُ الْحَجْرِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الدَّائِنَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى أَنْ لَوْ كَانَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَإِهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى مِنْ الْحَبْسِ فَيَكُونُ أَعْلَى مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ .
وَقَالَا : إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ .
وَمَنَعَهُ التَّصَرُّفَاتِ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَنْ يَبِيعَ بِالْغَبْنِ يَسِيرًا كَانَ أَوْ فَاحِشًا .
وَقَوْلُهُ ( التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ ) لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ فَلَا يُهْدَرُ بِهِ

أَهْلِيَّةُ الْإِنْسَانِ وَلَا يُرْتَكَبُ الْبَيْعُ بِلَا تَرَاضٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُتَعَيَّنٍ لِذَلِكَ ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِيفَاءُ بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِيهَابِ وَالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ ( بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ) فَإِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَاكَ مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ ( قَوْلُهُ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا حَتَّى يُحْبَسُ بِرَفْعِ السِّينِ لِأَجْلِهِ : أَيْ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَتَقْرِيرُهُ .
سَلَّمْنَا لُزُومَ الْحَبْسِ لَكِنَّهُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْبَيْعِ بَلْ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا اخْتَارَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِيهَابِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ وَبَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ ( قَوْلُهُ كَيْفَ ) أَيْ كَيْفَ صَحَّ الْبَيْعُ ( وَلَوْ صَحَّ الْمَبِيعُ كَانَ الْحَبْسُ ظُلْمًا لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا ) وَلَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ( قَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُرَدُّ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقَاضِي عَلَى الْمَدْيُونِ فِي الْعُرُوضِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ وَهُوَ بَيْعُ الصَّرْفِ ( قَوْلُهُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ) قِيلَ : إنَّمَا لَمْ يَعْكِسْ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ نَظَرًا إلَى الِاتِّحَادِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَرْكُ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي أَعَمُّ وَأَقْوَى ، فَلَوْ ثَبَتَ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مَعَ قُصُورِهِ لَثَبَتَ لِلْقَاضِي لِقُوَّتِهِ .

( وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ ثُمَّ الْعُرُوض ثُمَّ الْعَقَارُ يُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَدْيُونِ ( وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتٌ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي ) لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً وَقِيلَ دَسْتَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ ، لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ .وَقَوْلُهُ ( وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لِلْمَدْيُونِ كَمَا يَنْظُرُ لِلْغُرَمَاءِ فَيَبِيعُ مَا كَانَ أَنْظَرَ لَهُ .

قَالَ ( فَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِإِقْرَارٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ ) ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا مَرَدَّ لَهُ ( وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ ) لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِعَدَمِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ .وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ : يَعْنِي إذَا اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ فَكَانَ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ ( لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا مَرَدَّ لَهُ ) بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمَلٌ .

قَالَ ( وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِمَّنْ يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يُبْطِلُهُ الْحَجْرُ ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَتْ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ .

قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا نُعِيدُهَا ،

إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ : يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ ، وَلَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ يَبْقَى فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَقُومُ بِمُعَالَجَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا عَنْ هَلَاكِهِ ، وَالْمُحْتَرِفُ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْبَعِثَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ وَطْؤُهَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ إحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِقَضَاءِ الْأُخْرَى .
قَالَ ( وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ وَلِسَانٌ } أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِيَ .
قَالَ ( وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ ( وَقَالَا : إذَا فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ ، وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا ظَاهِرًا فَيَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِإِبْطَالِ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ .
وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ ( وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ

يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ عَلَيْهِ ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ

وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا عَنْ هَلَاكِهِ ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إهْلَاكُهُ لِمَكَانِ الدَّيْنِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ الْهَلَاكُ إلَيْهِ بِالْمَخْمَصَةِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إهْلَاكُهُ لِأَجْلِ مَالِ الْغَيْرِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَوْ كَانَ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ، وَأَنَّهُ فِي الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَا يَمْنَعُ عَنْ الِاكْتِسَابِ فِي السِّجْنِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ، لِجَانِبِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ، وَلِرَبِّ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ ذَلِكَ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ ) أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَدُورُوا مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ ( يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ وَلِسَانٌ } " أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ ، وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِي ) وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الزَّمَانِ فَيَتَنَاوَلُ الزَّمَانَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْحَبْسِ وَقَبْلَهُ .
وَقَوْلُهُ ( يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) أَيْ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ ، هَذَا إذَا أَخَذُوا فَضْلَ كَسْبِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ أَخَذَهُ الْقَاضِي وَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ .
وَأَمَّا الْمَدْيُونُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَوْ آثَرَ أَحَدَ الْغُرَمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَهُ ذَلِكَ ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ فَقَالَ : رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَمَالُهُ خَمْسُمِائَةٍ ، فَاجْتَمَعَ الْغُرَمَاءُ

وَحَبَسُوهُ بِدُيُونِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَيْفَ يَقْسِمُ أَمْوَالَهُ بَيْنَهُمْ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ حَاضِرًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْقَضَاءِ ، وَيُؤْثِرَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ فَيَنْصَرِفُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَائِبًا وَالدُّيُونُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَالْقَاضِي يَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ ، إذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ تَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَقَوْلُهُ ( بَيِّنَةُ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ ) الْيَسَارُ اسْمٌ لِلْإِيسَارِ مِنْ أَيْسَرَ : أَيْ اسْتَغْنَى ، وَالْإِعْسَارُ مَصْدَرُ أَعْسَرَ : أَيْ افْتَقَرَ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعِسَارِ بِمَعْنَى الْإِعْسَارِ .
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : وَهُوَ خَطَأٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ) لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْإِعْسَارِ تُؤَكِّدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ فَصَارَ كَبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي مُقَابَلَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ ( لَا يَمْنَعُونَهُ إلَخْ ) تَفْسِيرٌ لِلْمُلَازَمَةِ ( وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ ) وَلَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالسِّكَكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَيَتَضَرَّرُ الْمُدَّعِي ( وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ ) كَغَدَاءٍ أَوْ غَائِطٍ ( لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْضِعِ خَلْوَةٍ ) وَعَنْ هَذَا قِيلَ : إذَا أَعْطَاهُ الْغَدَاءَ أَوْ أَعَدَّ لَهُ مَوْضِعًا لِأَجْلِ الْغَائِطِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ ( وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ

الْأَضْيَقَ ) وَالْأَشَدَّ ( عَلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ) وَفِي مَعْنَاهُ مَنْعُهُ عَنْ الْإِكْسَابِ بِقَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلِعِيَالِهِ .

( وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يُلَازِمُهَا ) لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا .( وَالدَّائِنُ الرَّجُلُ لَا يُلَازِمُ الْمَدْيُونَةَ لِاسْتِلْزَامِهَا الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ، لَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا ) .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47