كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

الْمَقَامُ فِي دِيَارِنَا إلَّا بِالْمُعَامَلَةِ .
وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْمُعَامَلَةُ إلَّا بَعْدَ قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهَا فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةً ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ وَالْفَاسِقُ فِيهِ سَوَاءٌ حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِمَا أَكْبَرُ الرَّأْيِ .قَالَ ( وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لِمَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِلَّ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُرَجَّحَةٌ عَلَى الْحِلِّ دَائِمًا ، وَأَتَى بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ فِيهَا نَفْسُ الْجَارِيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا ) أَيْ فِي الْعِبَادَاتِ ( قَوْلُ الْمَسْتُورِ ) وَقَوْلُهُ ( جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ ( أَكْبَرُ الرَّأْيِ ) .

قَالَ ( وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ إذَا كَانُوا عُدُولًا ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ .
فَمِنْ الْمُعَامَلَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمِنْهَا التَّوْكِيلُ .
وَمِنْ الدِّيَانَاتِ الْإِخْبَارُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ حَتَّى إذَا أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ مَرْضِيٌّ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا تَحَرَّى ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ ، وَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ ، وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ ، أَمَّا التَّحَرِّي فَمُجَرَّدُ ظَنٍّ .
وَلَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْكَذِبِ بِالتَّحَرِّي ، وَهَذَا جَوَابُ الْحُكْمِ .
فَأَمَّا فِي الِاحْتِيَاطِ فَيَتَيَمَّمُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِمَا قُلْنَا .
وَمِنْهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَوَالُ الْمِلْكِ ، وَفِيهَا تَفَاصِيلُ وَتَفْرِيعَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .

وَقَوْلُهُ ( وَيُقْبَلُ فِيهَا ) أَيْ فِي الدِّيَانَاتِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحَرِّ وَالْأَمَةِ ، لِأَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ إذَا كَانُوا عُدُولًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ بِنَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ .
وَقَوْلُهُ ( مَا ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ ، وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ ) يَعْنِي حُكْمًا لَا فِي الِاحْتِيَاطِ ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْوُضُوءِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ ، قِيلَ الْأَصْلُ الطَّهَارَةُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَمَّا التَّحَرِّي فَمُجَرَّدُ ظَنٍّ فَفِيهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ ، وَقَوْلُهُ ( وَمِنْهَا ) أَيْ مِنْ الدِّيَانَاتِ ( الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ ) يُقْبَلُ فِيهِمَا خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ زَوَالَ الْمِلْكِ كَالْإِخْبَارِ بِحُرْمَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَدْلِ فَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ وَلَا الْإِطْعَامُ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِهِ .
وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بُطْلَانُ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَهُ فَلَا يُقْبَلُ ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ عَدْلٌ لِلزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُمَا ارْتَضَعَا مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هَاهُنَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَكَانَ مُتَضَمِّنًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْمَجُوسِيِّ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الْخَبَرِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ غَيْرُ شَرْطٍ فَكَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ضِمْنِيًّا ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ

يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا ، فَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا مَا كَانَ قَصْدِيًّا .

قَالَ ( وَمَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً فَصَبَرْت .
وَهَذَا لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } فَلَا يَتْرُكُهَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةُ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ مَنَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرْ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شِينُ الدِّينِ وَفَتْحُ بَابِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُقْتَدًى بِهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْحُضُورِ ، وَلَوْ عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَا يَحْضُرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ حَتَّى التَّغَنِّي بِضَرْبِ الْقَضِيبِ .
وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اُبْتُلِيت ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ .

قَالَ ( وَمَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ إلَخْ ) قِيلَ الْوَلِيمَةُ طَعَامُ الْعُرْسِ وَالْغِنَاءُ بِالْكَسْرِ السَّمَاعُ .
قَوْلُهُ ( كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ) قِيلَ عَلَيْهِ إنَّهُ قِيَاسُ السُّنَّةِ عَلَى الْفَرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } " وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : وَجْهُ التَّشْبِيهِ اقْتِرَانُ الْعِبَادَةِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ مَنَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرُ ) لِيَكُونَ عَامِلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ } الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْعُدَ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ إنَّمَا جَازَ إذَا كَانَ الْغِنَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمَعِيَّةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ كَانَ قَاعِدًا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقَوْلُهُ ( وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ ) لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ بِقَوْلِهِ فَوُجِدَ ثَمَّةَ اللَّعِبُ وَالْغِنَاءُ فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ .
لَا يُقَالُ : الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ ، وَاللَّعِبُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : تَأْدِيبِهِ لِفَرَسِهِ ، وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ ، وَمُلَاعَبَتِهِ مَعَ أَهْلِهِ } .
وَقَوْلُهُ (

بِضَرْبِ الْقَضِيبِ ) عَنَى بِهِ خَشَبَ الْحَارِسِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ .

( فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ ) : قَالَ ( لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ ) ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَقَالَ : إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ وَقَالَ : هَذَانِ مُحَرَّمَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ } وَيُرْوَى { حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ } ( إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعَةٍ كَالْأَعْلَامِ وَالْمَكْفُوفِ بِالْحَرِيرِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ } أَرَادَ الْأَعْلَامَ .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ جُبَّةً مَكْفُوفَةً بِالْحَرِيرِ }

فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ ، وَقَدَّمَ اللُّبْسَ لِكَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ .
قَالَ ( لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ إلَخْ ) لَمَّا ذَكَرَ الْحُرْمَةَ وَالْحِلَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } وَهُوَ عَامٌّ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَزِمَ أَنْ يَقُولَ ( وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ ) فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ الدَّالُّ عَلَى حِلِّهِ لَهُنَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْأَوَّلِ فَيُنْسَخُ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَتَعَارَضَانِ ، لِأَنَّ الْعَامَّ كَالْخَاصِّ فِي إفَادَةِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا ، أَوْ لَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ فَيُجْعَلُ الْمُحَرَّمُ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهِنَّ إيَّاهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَذَلِكَ آيَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَأَخُّرِهِ فَيُنْسَخُ بِهِ الْمُحَرَّمُ ، وَتَكْرَارُ النَّسْخِ بِالدَّلِيلِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَانِ حَرَامَانِ " إشَارَةٌ إلَى جُزْئِيَّيْنِ فَمِنْ أَيْنَ الْعُمُومُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ وَلَئِنْ كَانَ شَخْصًا فَغَيْرُهُ يَلْحَقُ بِهِ بِالدَّلَالَةِ .

.
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِتَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُكْرَهُ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي سِتْرِ الْحَرِيرِ وَتَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَبْوَابِ .
لَهُمَا الْعُمُومَاتُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ .
وَلَهُ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَلَسَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ } ، وَقَدْ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَلْبُوسِ مُبَاحٌ كَالْأَعْلَامِ فَكَذَا الْقَلِيلَ مِنْ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ نَمُوذَجًا عَلَى مَا عُرِفَ .وَقَوْلُهُ ( قَالَا : وَيُكْرَهُ ) يَعْنِي لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا ، بِخِلَافِ اللُّبْسِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا الْعُمُومَاتُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ " { نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ } " وَقَوْلُهُ " { وَإِنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } " وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ جَيْشًا مِنْ الْغُزَاةِ رَجَعُوا بِغَنَائِمَ وَلَبِسُوا الْحَرِيرَ ، فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ ، فَقَالُوا : لِمَ أَعْرَضْت عَنَّا ؟ قَالَ : لِأَنِّي أَرَى عَلَيْكُمْ ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ .
وَالْمِرْفَقَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ : وِسَادَةُ الِاتِّكَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ نَمُوذَجًا ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُسْتَعْمِلَ يَعْلَمُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ لَذَّةَ مَا وُعِدَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْهُ لِيَرْغَبَ فِي تَحْصِيلِ سَبَبٍ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا ) لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ } وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فَإِنَّ الْخَالِصَ مِنْهُ أَدْفَعُ لِمَعَرَّةِ السِّلَاحِ وَأَهْيَبُ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لِبَرِيقِهِ ( وَيُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ ، وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ وَهُوَ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سَدَّاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ كَالْقُطْنِ وَالْخَزِّ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ ، وَالْخَزُّ مُسْدًى بِالْحَرِيرِ ، وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَكْرَهُ ثَوْبَ الْقَزِّ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرْوِ وَالظِّهَارَةِ ، وَلَا أَرَى بِحَشْوِ الْقَزِّ بَأْسًا ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَلْبُوسٌ وَالْحَشْوَ غَيْرُ مَلْبُوسٍ .
قَالَ ( وَمَا كَانَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْحَرْبِ ) لِلضَّرُورَةِ ( وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهِ ) لِانْعِدَامِهَا ، وَالِاعْتِبَارُ لِلُّحْمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

وَقَوْلُهُ ( لَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } " .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخَزُّ مُسَدًّى بِالْحَرِيرِ ) قِيلَ هُوَ اسْمٌ لِثَوْبٍ سُدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ صُوفُ حَيَوَانٍ فِي الْمَاءِ .
وَجُمْلَةُ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الدِّيبَاجُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا فِي الْحَرْبِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَالثَّانِي مَا يَكُونُ سُدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَهُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَاللُّحْمَةُ كَذَلِكَ .
وَالثَّالِثُ عَكْسُ الثَّانِي وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرْبِ لِلضَّرُورَةِ وَهُوَ إيقَاعُ الْهَيْبَةِ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لِبَرِيقِهِ وَدَفْعِ مَعَرَّةِ السِّلَاحِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ .
رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى بِاللِّبَاسِ الْمُرْتَفِعِ جِدًّا بَأْسًا ، قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ .
وَرُبَّمَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ } وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ }

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ ) لِمَا رَوَيْنَا ( وَلَا بِالْفِضَّةِ ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ ( إلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّمُوذَجِ ، وَالْفِضَّةُ أَغْنَتْ عَنْ الذَّهَبِ إذْ هُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، كَيْفَ وَقَدْ جَاءَ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ آثَارٌ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَا يَتَخَتَّمُ إلَّا بِالْفِضَّةِ ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ حَرَامٌ .
{ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَجُلٍ خَاتَمَ صُفْرٍ فَقَالَ : مَالِي أَجِدُ مِنْك رَائِحَةَ الْأَصْنَامِ .
وَرَأَى عَلَى آخَرِ خَاتَمَ حَدِيدٍ فَقَالَ : مَالِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ } وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ الْحَجَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ ، إذْ لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ( وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ ) لِمَا رَوَيْنَا .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ ضَرُورَةُ الْخَتْمِ أَوْ النَّمُوذَجِ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ ، وَالْحَلْقَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الْخَاتَمِ بِهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَصِّ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَجَرٍ وَيَجْعَلَ الْفَصَّ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ بِخِلَافِ النِّسْوَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَزَيُّنٌ فِي حَقِّهِنَّ ، وَإِنَّمَا يَتَخَتَّمُ الْقَاضِي وَالسُّلْطَانُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْخَتْمِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ إلَخْ ) لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } " وَلَا بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } " لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى " { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } " الْآيَةَ ، وَلَا يُقَيِّدُهُ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ نَسْخٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَجَازَ التَّقْيِيدُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ جَاءَ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ آثَارٌ ) هُوَ مَا رُوِيَ " { أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ وَنَقْشُهُ : مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاَللَّهُ سَطْرٌ } " .
وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ وَنَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا نَقْشُ خَاتَمِك يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : آمَنَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مُعَاذٍ حَتَّى خَاتَمُهُ ، ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُعَاذٍ فَوَهَبَهُ مِنْهُ ، فَكَانَ فِي يَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ .
ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى وَقَعَ مِنْ يَدِهِ فِي الْبِئْرِ فَأَنْفَقَ مَالًا عَظِيمًا فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ } فَوَقَعَ الْخِلَافُ وَالتَّشْوِيشُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَأَتَى بِلَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَدَاءِ الْحَصْرِ فِيهِ ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ ) مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ

كَالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ تَخَتَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ إذْ لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ ، وَإِطْلَاقُ جَوَابِ الْكِتَابِ : يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَلِأَنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْأَصْنَامُ فَأَشْبَهَ الصُّفْرَ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ " هَذَانِ حَرَامَانِ " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ التَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ لِمَا رُوِيَ { عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَبِسَ خَاتَمَ ذَهَبٍ وَقَالَ : كَسَانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ .
فَلَمَّا حَلَّ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ لِقِلَّتِهِ وَلِكَوْنِهِ نَمُوذَجًا وَجُعِلَ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ فَكَذَا فِي الْآخَرِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ " وَرُوِيَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاِتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ ذَهَبٍ فَرَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا ، فَرَمَاهُ النَّاسُ } " وَقَوْلُهُ ( وَيُجْعَلُ الْفَصُّ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ ) أَيْ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا .

.
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ يُجْعَلُ فِي حَجَرِ الْفَصِّ ) أَيْ فِي ثُقْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ فَلَا يُعَدُّ لَابِسًا لَهُ .
قَالَ ( وَلَا تُشَدُّ الْأَسْنَانُ بِالذَّهَبِ وَتُشَدُّ بِالْفِضَّةِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِالذَّهَبِ أَيْضًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا .
لَهُمَا { أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ الْكِنَانِيَّ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكِلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ لِلضَّرُورَةِ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْفِضَّةِ وَهِيَ الْأَدْنَى فَبَقِيَ الذَّهَبُ عَلَى التَّحْرِيمِ .
وَالضَّرُورَةُ فِيمَا رُوِيَ لَمْ تَنْدَفِعْ فِي الْأَنْفِ دُونَهُ حَيْثُ أَنْتَنَ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الذُّكُورُ مِنْ الصِّبْيَانِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ ) ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّ الذُّكُورِ وَحَرُمَ اللُّبْسُ حَرُمَ الْإِلْبَاسُ كَالْخَمْرِ لَمَّا حَرُمَ شُرْبُهَا حَرُمَ سَقْيُهَا .
قَالَ ( وَتُكْرَهُ الْخِرْقَةُ الَّتِي تُحْمَلُ فَيُمْسَحُ بِهَا الْعَرَقُ ) ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَتَكَبُّرٍ ( وَكَذَا الَّتِي يُمْسَحُ بِهَا الْوُضُوءَ أَوْ يُمْتَخَطُ بِهَا ) وَقِيلَ إذَا كَانَ عَنْ حَاجَةٍ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ عَنْ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَصَارَ كَالتَّرَبُّعِ فِي الْجُلُوسِ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْبِطَ الرَّجُلُ فِي أُصْبُعِهِ أَوْ خَاتَمِهِ الْخَيْطَ لِلْحَاجَةِ ) وَيُسَمَّى ذَلِكَ الرَّتَمُ وَالرَّتِيمَةُ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ .
قَالَ قَائِلُهُمْ : لَا يَنْفَعَنَّكَ الْيَوْمَ إنْ هَمَّتْ بِهِمْ كَثْرَةُ مَا تُوصِي وَتَعْقَادُ الرَّتَمِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبَثٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عَنْدَ النِّسْيَانِ .

وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا ) يَعْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْكُلَابُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ اسْمُ مَاءٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَقْعَةٌ لَهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الصَّحِيحُ ) لِأَنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعْمَلُوا هَكَذَا فِي عَامَّةِ الْبُلْدَانِ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْ الثِّيَابِ النَّفِيسَةِ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْسَحُ وُضُوءُهُ بِالْخِرْقَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ } " فَلَمْ يَكُنْ بِدْعَةً .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ مَا فُعِلَ عَلَى وَجْهِ التَّجَبُّرِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِدْعَةٌ ، وَمَا فُعِلَ لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ لَا يُكْرَهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ التَّرَبُّعِ فِي الْجُلُوسِ وَالِاتِّكَاءِ .
وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ عَمَدَ إلَى شَجَرٍ يُقَالُ لَهُ رَتَمٌ فَشَدَّ بَعْضَ أَغْصَانِهِ بِبَعْضٍ ، فَإِذَا رَجَعَ وَأَصَابَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ قَالَ لَمْ تَخُنِّي امْرَأَتِي ، وَإِنْ أَصَابَهُ وَقَدْ انْحَلَّ قَالَ خَانَتْنِي ، هَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ الثِّقَاتِ ، إلَّا أَنَّ اللَّيْثَ ذَكَرَ الرَّتَمَ بِمَعْنَى الرَّتِيمَةِ وَهِيَ خَيْطُ التَّذْكِرَةِ يُعْقَدُ بِالْأُصْبُعِ ، وَكَذَلِكَ الرَّتَمَةُ ، قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا فِي نُفُوسِكُمْ فَلَيْسَ بِمُغْنٍ عَنْك عَقْدُ الرَّتَائِمِ وَالتِّعْقَادُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَقْدِ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى وَزْنِ التِّفْعَالِ كَالتِّهْذَارِ وَالتِّلْعَابِ بِمَعْنَى الْهَذَرِ وَاللَّعِبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ ) : قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفُّ ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ مَوْضِعُهَا ، وَلِأَنَّ فِي إبْدَاءِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ ضَرُورَةً لِحَاجَتِهَا إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَالِ أَخْذًا وَإِعْطَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى قَدِمَهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الضَّرُورَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْدُو مِنْهَا عَادَةً قَالَ ( فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لَا يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهَا إلَّا لِحَاجَةٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَإِذَا خَافَ الشَّهْوَةَ لَمْ يَنْظُرْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ .
وَقَوْلُهُ لَا يَأْمَنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إذَا شَكَّ فِي الِاشْتِهَاءِ كَمَا إذَا عَلِمَ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ

( فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ ) مَسَائِلُ النَّظَرِ أَرْبَعٌ : نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ ، وَنَظَرُهَا إلَيْهِ ، وَنَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ، وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ .
وَالْأُولَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : نَظَرُهُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الْحَرَّةِ ، وَنَظَرُهُ إلَى مَنْ يَحِلُّ لَهُ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ ، وَنَظَرُهُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ ، وَنَظَرُهُ إلَى أَمَةِ الْغَيْرِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إلَخْ ) الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا ، إلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ } " ثُمَّ أُبِيحَ النَّظَرُ إلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ ( إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ) لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِقَوْلِهِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَفَسَّرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْكُحْلِ وَالْخَاتَمِ ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِي إبْدَاءِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ ضَرُورَةً ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْآنُكُ : الرَّصَاصُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا خَافَ الشَّهْوَةَ لَمْ يَنْظُرْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ عَلَيْك } " يَعْنِي بِالثَّانِيَةِ أَنْ يُبْصِرَهَا عَنْ شَهْوَةٍ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } " أَيْ يُوَفَّقَ ، قَالَهُ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً

( وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا وَلَا كَفَّيْهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ ) لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى ، بِخِلَافِ النَّظَرِ لِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى .
وَالْمُحَرَّمُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُدْخِلُ بَعْضَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهِمْ وَكَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا لِتُمَرِّضَهُ ، وَكَانَتْ تَغْمِزُ رِجْلَيْهِ وَتُفَلِّي رَأْسَهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا لَا تَحِلُّ مُصَافَحَتُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفِتْنَةِ .
وَالصَّغِيرَةُ إذَا كَانَتْ لَا تُشْتَهَى يُبَاحُ مَسُّهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهَا لِعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا وَلِلشَّاهِدِ إذَا أَرَادَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ ) لِلْحَاجَةِ إلَى إحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْحُكْمَ عَلَيْهَا لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ تَحَرُّزًا عَمَّا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ قَصْدُ الْقَبِيحِ .
وَأَمَّا النَّظَرُ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا اشْتَهَى قِيلَ يُبَاحُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ لَا يَشْتَهِي فَلَا ضَرُورَةَ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْأَدَاءِ .

( وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ " { أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } " وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ .

( وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ مِنْهَا ) لِلضَّرُورَةِ ( وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً مُدَاوَاتَهَا ) لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَسْهَلُ ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا يَسْتُرُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا سِوَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ ) ثُمَّ يَنْظُرُ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَصَارَ كَنَظَرِ الْخَافِضَةِ وَالْخَتَّانِ .( وَالْخَافِضَةُ لِلْجَارِيَةِ كَالْخَاتِنِ لِلْغُلَامِ ) يَعْنِي أَنَّ الْخَافِضَةَ وَالْخَتَّانَ يَنْظُرَانِ إلَى الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَلَا يُتْرَكُ .
وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ لِأَنَّهُ مُدَاوَاةٌ يَجُوزُ لِلْمَرَضِ وَالْهُزَالِ الْفَاحِشِ لِكَوْنِهِ نَوْعَ مَرَضٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِذَا جَازَ الِاحْتِقَانُ جَازَ لِلْحَاقِنِ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِهِ .

( وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ مِنْ الرَّجُلِ ) لِأَنَّهُ مُدَاوَاةٌ وَيَجُوزُ لِلْمَرَضِ وَكَذَا لِلْهُزَالِ الْفَاحِشِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْمَرَضِ .
قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ } " وَيُرْوَى " { مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَيْهِ } " وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، وَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ ، وَمَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى مَنْبَتِ الشَّعْرِ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْكَمَارِيُّ مُعْتَمِدًا فِيهِ الْعَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " { الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ } " وَأَبْدَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لِجَرْهَدٍ : " { وَارِ فَخِذَك ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ ؟ } " وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ الْفَخِذِ وَالسَّاقِ فَاجْتَمَعَ الْمُحَرَّمُ وَالْمُبِيحُ وَفِي مِثْلِهِ يَغْلِبُ الْمُحَرَّمُ ، وَحُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ ، وَفِي الْفَخِذِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي السَّوْأَةِ ، حَتَّى أَنَّ كَاشِفَ الرُّكْبَةِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَكَاشِفَ الْفَخِذِ يُعَنَّفُ عَلَيْهِ وَكَاشِفَ السَّوْءَةِ يُؤَدَّبُ إنْ لَجَّ

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ ( قَوْلُهُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ ) يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السُّرَّةَ أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالرُّكْبَةِ .
قِيلَ عَطْفُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي عِصْمَةَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الرُّكْبَةَ عَوْرَةٌ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ ، وَهَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعَلِّلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَذْهَبَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمَا وَاحِدًا وَالْمَأْخَذُ مُتَعَدِّدًا ، فَالْمَذْكُورُ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِأَبِي عِصْمَةَ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ السُّرَّةَ مَحَلُّ الِاشْتِهَاءِ ، وَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِدْلَالًا بِالْغَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تُدْخِلُ الْمُغَيَّا .
وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِأَهْلِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعَوْرَةُ هِيَ السَّوْءَةُ دُونَ مَا عَدَاهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَوْرَةُ ، وَمَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى مَنْبَتِ الشَّعْرِ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْكَمَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُعْتَمِدًا فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا ) أَيْ بِالْعَادَةِ ( مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَمَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى مَنْبَتِ الشَّعْرِ عَوْرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّكْبَةَ عَوْرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَبْدَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلَ أَبِي عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِجَرْهَدٍ ) جَوَابٌ عَنْ

قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى كَوْنِ الرُّكْبَةِ عَوْرَةً ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .

( وَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ يُبَاحُ الْمَسُّ ) لِأَنَّهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ سَوَاءٌ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا أَمِنَتْ الشَّهْوَةَ ) لِاسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ .
وَفِي كِتَابِ الْخُنْثَى مِنْ الْأَصْلِ : أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهَا شَهْوَةٌ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهَا أَنَّهَا تَشْتَهِي أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا ، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الرَّجُلُ إلَيْهَا وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَنْظُرْ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَيْهِنَّ غَالِبَةٌ وَهُوَ كَالْمُتَحَقِّقِ اعْتِبَارًا ، فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَانِبَيْنِ ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اشْتَهَتْ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي جَانِبِهِ حَقِيقَةً وَاعْتِبَارًا فَكَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمُحَرَّمِ أَقْوَى مِنْ الْمُتَحَقِّقِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ .

وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمَا ) أَيْ لِأَنَّ النَّظَرَ وَالْمَسَّ فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ ) عَكْسُ هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ ) أَيْ فَرْقِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مِنْ جَعْلِ عَدَمِ نَظَرِهَا إلَيْهِ مُسْتَحَبًّا وَعَدَمُ نَظَرِهِ إلَيْهَا وَاجِبًا هُوَ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَيْهِنَّ غَالِبَةٌ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ غَالِبًا أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ الصِّدْقِ وَغَلَبَةِ الصِّحَّةِ لَا بِحَقِيقَتِهِمَا ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ الصَّلَاةَ فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا لِأَنَّ دُوَارَ الرَّأْسِ فِيهَا غَالِبٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَيْهَا مُشْتَهِيًا وُجِدَتْ الشَّهْوَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ فِي جَانِبِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ ، وَفِي جَانِبِهَا اعْتِبَارًا لِقِيَامِ الْغَلَبَةِ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا نَظَرَتْ إلَيْهِ مُشْتَهِيَةً لَمْ تُوجَدْ الشَّهْوَةُ مِنْ جَانِبِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرُ ، وَلَا اعْتِبَارَ لِعَدَمِ الْغَلَبَةِ فَكَانَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ جَانِبِهَا فَقَطْ ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمُحَرَّمِ أَقْوَى مِنْ الْمُتَحَقِّقِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لَا مَحَالَةَ .

قَالَ ( وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ ) لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ ، وَانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا كَمَا فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ، وَكَذَا الضَّرُورَةُ قَدْ تَحَقَّقَتْ إلَى الِانْكِشَافِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ ، بِخِلَافِ نَظَرِهَا إلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةِ الِانْكِشَافِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .قَالَ ( وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ : مَا جَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ جَازَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا ، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ كَمَا فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ .
وَالضَّرُورَةُ إلَى الِانْكِشَافِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ مُتَحَقِّقَةٌ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ فِي الْحَمَّامِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَنْ أَنَّهُنَّ لَا يُمْنَعْنَ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْحَمَّامِ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ .
لِأَنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ بِبِنَاءِ الْحَمَّامَاتِ لِلنِّسَاءِ وَتَمْكِينِهِنَّ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا .
وَحَاجَةُ النِّسَاءِ إلَى دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ فَوْقَ حَاجَةِ الرِّجَالِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الزِّينَةِ وَالْمَرْأَةُ إلَى هَذَا أَحْوَجُ مِنْ الرَّجُلِ ، وَيَتَمَكَّنُ الرَّجُلُ مِنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ .
إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقَوْلُهُ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ : يَعْنِي لَا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا كَمَا سَيَأْتِي .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ أَخَفُّ .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ أَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ وَزَوْجَتِهِ إلَى فَرْجِهَا ) وَهَذَا إطْلَاقٌ فِي النَّظَرِ إلَى سَائِرِ بَدَنِهَا عَنْ شَهْوَةٍ وَغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ أَمَتِك وَامْرَأَتِك } " وَلِأَنَّ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسِّ وَالْغَشَيَانِ مُبَاحٌ فَالنَّظَرُ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ } " وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ النِّسْيَانَ لِوُرُودِ الْأَثَرِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى اللَّذَّةِ .قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ أَمَتِهِ إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ ، وَالتَّسَامُحُ فِي رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ ، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ أَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ ، لِأَنَّ حُكْمَ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَاَلَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ حُكْمُ أَمَةِ الْغَيْرِ فِي النَّظَرِ إلَيْهَا ، لِأَنَّ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ فَتَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ .
وَالْعِيرُ : هُوَ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ .
وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ لِلْأَهْلِيِّ نَوْعُ سَتْرٍ مِنْ الْأَقْتَابِ وَالثُّفْرِ .
وَقَدْ قِيلَ هُوَ الْأَهْلِيُّ أَيْضًا .
وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ : يَعْنِي وَقْتَ الْوِقَاعِ .
رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي قَالَ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ يَمَسُّ فَرْجَ امْرَأَتِهِ أَوْ تَمَسُّ هِيَ فَرْجَهُ لِيَتَحَرَّكَ عَلَيْهَا هَلْ تَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا ؟ قَالَ لَا ، أَرْجُو أَنْ يَعْظُمَ الْأَجْرُ .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ .
وَلَا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا ) .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ السَّاعِدُ وَالْأُذُنُ وَالْعُنُقُ وَالْقَدَمُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ ، بِخِلَافِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ ، وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً ، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ ، وَكَذَا الرَّغْبَةُ تَقِلُّ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ فَقَلَّمَا تُشْتَهَى ، بِخِلَافِ مَا وَرَاءَهَا ، لِأَنَّهَا لَا تَنْكَشِفُ عَادَةً .
وَالْمَحْرَمُ مِنْ لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ كَانَ أَوْ بِسَبَبٍ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ بِنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ فِي الْأَصَحِّ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ مَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْهَا ) لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُسَافَرَةِ وَقِلَّةِ الشَّهْوَةِ لِلْمَحْرَمِيَّةِ ، بِخِلَافِ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا حَيْثُ لَا يُبَاحُ الْمَسُّ وَإِنْ أُبِيحَ النَّظَرُ ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مُتَكَامِلَةٌ ( إلَّا إذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهْوَةَ ) فَحِينَئِذٍ لَا يَنْظُرُ وَلَا يَمَسُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ } ، وَحُرْمَةُ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَغْلَظُ فَيُجْتَنَبُ .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ ذَلِكَ نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ جَائِزٌ دُونَ بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا وَفَخِذِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، جَعَلَ حَالَهَا كَحَالِ الْجِنْسِ فِي النَّظَرِ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِحُكْمِ الظِّهَارِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ حَلَالًا لَمَا كَانَ ظِهَارًا لِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ ) أَيْ فِي جَوَازِ مَا جَازَ وَعَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } الْآيَةَ وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ ، ذَكَرَ الْحَالَّ وَأَرَادَ الْمَحَلَّ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْ الْإِبْدَاءِ ، لِأَنَّ إبْدَاءَ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا إذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَإِبْدَاءُ الْمُتَّصِلِ أَوْلَى ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا الْقَلَائِدَ } فِي حُرْمَةِ تَعَرُّضِ مَحَلِّهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ) يُرِيدُ بِهِ الْوَجْهَ إلَى آخِرِهِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ : أَيْ فِي مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالزِّينَةِ السَّاعِدُ وَالْأُذُنُ وَالْعُنُقُ وَالْقَدَمُ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ ؛ أَمَّا الرَّأْسُ فَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ ، وَالشَّعْرُ مَوْضِعُ الْعِقَاصِ ، وَالْعُنُقُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ وَالصَّدْرُ كَذَلِكَ ، وَالْأُذُنُ مَوْضِعُ الْقُرْطِ ، وَالْعَضُدُ مَوْضِعُ الدُّمْلُجِ ، وَالسَّاعِدُ مَوْضِعُ السِّوَارِ ، وَالْكَفُّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ ، وَالْخِضَابِ وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ ، وَالْقَدَمُ مَوْضِعُ الْخِضَابِ ، بِخِلَافِ الظَّهْرِ وَالْفَخِذِ وَالْبَطْنِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَوَاضِعَ الزِّينَةِ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ ) يَعْنِي الضَّرُورَةَ وَقِلَّةَ الرَّغْبَةِ فِيهِ : أَيْ

فِي الْمُحَرَّمِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَوْ سِفَاحٍ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا لَا فِيهَا بِالنِّكَاحِ ، فَإِنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالَ : لَا يَثْبُتُ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِالْمُصَاهَرَةِ سِفَاحًا ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الزَّانِي لَا بِطَرِيقِ النِّعْمَةِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ مَرَّةً لَا يُؤْتَمَنُ ثَانِيًا .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ كَرَامَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ( قَالَ : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ مَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ ) وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُسَافَرَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ وَفَوْرُ الشَّهْوَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا بَأْسَ

( وَلَا بَأْسَ بِالْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ بِهِنَّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا } " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } " وَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّهَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَيَأْخُذَ ظَهْرَهَا وَبَطْنَهَا دُونَ مَا تَحْتَهُمَا إذَا أَمِنَا الشَّهْوَةَ ، فَإِنْ خَافَهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا تَيَقُّنًا أَوْ ظَنًّا أَوْ شَكًّا فَلْيَجْتَنِبْ ذَلِكَ بِجَهْدِهِ ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهَا الرُّكُوبَ بِنَفْسِهَا يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا يَتَكَلَّفُ بِالثِّيَابِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ حَرَارَةُ عُضْوِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الثِّيَابَ يَدْفَعُ الشَّهْوَةَ عَنْ قَلْبِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .وَكَلِمَةُ فَوْقَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } " صِلَةٌ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسَافَرَةِ ثَابِتَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا فَكَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } وَإِذَا جَازَتْ الْمُسَافَرَةُ بِهِنَّ جَازَتْ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ لِأَنَّ فِي الْمُسَافَرَةِ خَلْوَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْإِرْكَابِ ) أَيْ إرْكَابِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَجُوزَ مَسُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَسَّ فَوْقَ النَّظَرِ ، لَكِنَّهُ جَازَ " لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ رَأْسَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَيَقُولُ : أَجِدُ مِنْهَا رِيحَ الْجَنَّةِ } " وَكَانَ ذَلِكَ لَا عَنْ شَهْوَةٍ قَطْعًا ، فَيَجُوزُ الْمَسُّ مَعَ الِاتِّقَاءِ عَنْ الشَّهْوَةِ مَا أَمْكَنَ .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ مَمْلُوكَةِ غَيْرِهِ إلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ ) لِأَنَّهَا تَخْرُجُ لِحَوَائِجِ مَوْلَاهَا وَتَخْدُمُ أَضْيَافَهُ وَهِيَ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا ، فَصَارَ حَالُهَا خَارِجَ الْبَيْتِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ كَحَالِ الْمَرْأَةِ دَاخِلَهُ فِي حَقِّ مَحَارِمِهِ الْأَقَارِبِ .
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى جَارِيَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ : أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يَا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ يُبَاحُ إلَّا إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ ، بَلْ أَوْلَى لِقِلَّةِ الشَّهْوَةِ فِيهِنَّ وَكَمَالِهَا فِي الْإِمَاءِ .
وَلَفْظَةُ الْمَمْلُوكَةِ تَنْتَظِمُ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ ، وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ مَعَهَا فَقَدْ قِيلَ يُبَاحُ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ ، وَقَدْ قِيلَ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهِنَّ ، وَفِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ الضَّرُورَةَ فِيهِنَّ وَفِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مُجَرَّدَ الْحَاجَةِ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ ) كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَأَطْلَقَ أَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يُفَصِّلْ .
قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُبَاحُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ اشْتَهَى لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا يُبَاحُ الْمَسُّ إذَا اشْتَهَى أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الشِّرَاءِ يُبَاحُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ بِشَرْطِ عَدَمِ الشَّهْوَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا حَاضَتْ الْأَمَةُ لَمْ تَعْرِضْ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ ) وَمَعْنَاهُ بَلَغَتْ ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ مِنْهَا عَوْرَةٌ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ

أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُشْتَهَى وَيُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ لَا تَعْرِضُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ لِوُجُودِ الِاشْتِهَاءِ .قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ مَمْلُوكَةِ غَيْرِهِ إلَخْ ) هَذَا آخِرُ الْأَقْسَامِ مِنْ ذَلِكَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ عَلَاهَا : أَيْ ضَرَبَ عِلَاوَتَهَا وَهِيَ رَأْسُهَا بِالدِّرَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُبَاحُ إلَّا إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ) وَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَلْيَنْظُرْ إلَيْهَا إلَّا فِي مَوْضِعِ الْمِئْزَرِ .
وَتَعَامُلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَوَجْهُ الْعَامَّةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ مَعَهَا ) يَعْنِي إذَا أَمِنَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَحِلُّ وَاعْتَبَرَهَا بِالْمَحَارِمِ وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ لَا يَحِلُّ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَفِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الضَّرُورَةَ فِيهِنَّ ) يَعْنِي الَّتِي لَا مَدْفَعَ لَهَا ( وَفِي الْمَحَارِمِ مُجَرَّدُ الْحَاجَةِ ) أَيْ نَفْسُ الْحَاجَةِ لَا الضَّرُورَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ ) أَيْ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا ( إذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ كَذَا فِي الْمُخْتَصَرِ وَأَطْلَقَ فِي الْجَامِعِ ) لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ : رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ سَاقَهَا وَذِرَاعَيْهَا وَصَدْرَهَا وَيَنْظُرَ إلَى صَدْرِهَا وَسَاقِهَا مَكْشُوفَيْنِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَالْخَصِيُّ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : الْخِصَاءُ مِثْلُهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ فَحْلٌ يُجَامِعُ .
وَكَذَا الْمَجْبُوبُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْحَقُ وَيُنْزِلُ ، وَكَذَا الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ فَحْلٌ فَاسِقٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ فِيهِ ، وَالطِّفْلُ الصَّغِيرُ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ .وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ ) يَعْنِي مَنْ يُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، احْتِرَازًا عَنْ الْمُخَنَّثِ الَّذِي فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ فَإِنَّهُ رَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي تَرْكِ مِثْلِهِ مَعَ النِّسَاءِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أَوْلَى الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ } قِيلَ هُوَ الْمُخَنَّثُ الَّذِي لَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ ، وَقِيلَ هُوَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَبْلَهُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إنَّمَا هَمُّهُ بَطْنُهُ وَفِيهِ كَلَامٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ شَابًّا يُنَحَّى عَنْ النِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مَاتَتْ شَهْوَتُهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ التَّابِعِينَ } مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ وَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } مُحْكَمٌ نَأْخُذُ بِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ فِيهِ ( وَالطِّفْلُ الصَّغِيرُ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أَيْ لَمْ يَطَّلِعُوا : أَيْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَوْرَةَ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ سَيِّدَتِهِ إلَّا مَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا ) .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ كَالْمَحْرَمِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِدُخُولِهِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ .
وَلَنَا أَنَّهُ فَحْلٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ ، وَالشَّهْوَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لِجَوَازِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَاجَةُ قَاصِرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ خَارِجَ الْبَيْتِ .
وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْإِمَاءُ ، قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا : لَا تَغُرَّنَّكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْإِمَاءُ ) يُرِيدُ بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِهِ ( قَالَ سَعِيدٌ ) أَيْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَطْلَقَ اسْمَ سَعِيدٍ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنِّسْبَةِ لِيَتَنَاوَلَ السَّعِيدَيْنِ ( وَالْحَسَنَ وَغَيْرُهُمَا ) سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ( لَا تَغَرْنَكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ ) وَلِأَنَّ الذُّكُورَ مُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فَلَوْ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } لَزِمَ التَّعَارُضَ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ نَظَرَ الْإِمَاءِ إلَى سَيِّدَتِهِنَّ اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَوْ نِسَائِهِنَّ } فَلَوْ حُمِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْإِمَاءِ لَزِمَ التَّكْرَارُ ، وَبِأَنَّ الْإِمَاءَ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُرَادَةً مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَوْ نِسَائِهِنَّ } وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مُرَادَةً مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أَيْضًا ، لِأَنَّ الْبَيَانَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ لِلْأَمَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى سَيِّدَتِهَا كَالْأَجْنَبِيَّاتِ ، وَالْمِلْكُ إنْ لَمْ يَزِدْ تَوْسِعَةً فَلَا أَقَلَّ أَنْ لَا يَزِيدَ تَضْيِيقًا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ الْحَرَائِرُ الْمُسْلِمَاتُ اللَّاتِي فِي صُحْبَتِهِنَّ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمُؤْمِنَةٍ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ يَدَيْ مُشْرِكَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ .
كَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِنِسَائِهِنَّ مَنْ يَصْحَبُهُنَّ مِنْ الْحَرَائِرِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا .
وَالنِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فِي حِلِّ نَظَرِ بَعْضِهِنَّ إلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } الْإِمَاءُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ حَالَ الْأَمَةِ

يَقْرُبُ مِنْ حَالِ الرِّجَالِ حَتَّى تُسَافِرَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ ، فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا التَّكَشُّفُ بَيْنَ يَدَيْ أَمَتِهَا ، وَلَمْ يَزُلْ هَذَا الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ أَوْ نِسَائِهِنَّ لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَيَعْزِلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَا يَعْزِلُ عَنْ زَوْجَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهَا ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْعَزْلِ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَقَالَ لِمَوْلَى أَمَةٍ : اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت } ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الْحُرَّةِ قَضَاءً لِلشَّهْوَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا تُخَيِّرُ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِي الْوَطْءِ فَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ حَقُّ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةَ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ .

( فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ ) : قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ " { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } " أَفَادَ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَدَلَّ عَلَى السَّبَبِ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشُّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ إرَادَةُ الْوَطْءِ ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ دُونَ الْبَائِعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ فَانْتَصَبَ سَبَبًا وَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ تَيْسِيرًا ، فَكَانَ السَّبَبُ اسْتِحْدَاثَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَدِ وَتَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ ) أَخَّرَ الِاسْتِبْرَاءَ لِأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ وَطْءٍ مُقَيَّدٍ وَالْمُقَيَّدُ بَعْدَ الْمُطْلَقِ يُقَالُ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ أَيْ طَلَبُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَمْلِ .
وَأَوْطَاسُ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ ، كَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ ، وَلَهُ سَبَبٌ وَعِلَّةٌ وَحِكْمَةٌ .
أَمَّا وُجُوبُهُ فَبِحَدِيثِ سَبَايَا أَوْطَاسٍ " { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَبْلَغَ نَهْيٍ مَعَ وُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَهُ وَالْيَدِ الْمُمَكَّنَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْوُجُوبِ .
وَأَمَّا سَبَبُهُ فَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ .
وَأَمَّا عِلَّتُهُ فَهِيَ إرَادَةُ الْوَطْءِ .
فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مَحَلٍّ فَارِغٍ فَيُوجِبُ مَعْرِفَةَ فَرَاغِهِ .
وَأَمَّا حِكْمَتُهُ فَهُوَ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِهِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَغِيٍّ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْحَامِلَ مِنْ الزِّنَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا حَمْلًا لِلْحَالِ عَلَى الصَّلَاحِ ، أَمَّا الْحِكْمَةُ فَلَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِتَأَخُّرِهَا عَنْهُ ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ هَاهُنَا فَكَذَلِكَ .
لِأَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ يَسْتَحْدِثُ الْمِلْكَ قَدْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِ الْإِرَادَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ ، فَإِنَّ صَحِيحَ الْمِزَاجِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَرَادَهُ وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ فَانْتَصَبَ سَبَبًا وَأُدِيرَ

الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا تَيْسِيرًا .
هَذَا فِي الْمُسَبَّبَةِ ، ثُمَّ تَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ بِأَنْ جَعَلَتْ الْأَمَةَ بَدَلَ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ بِأَنْ جَعَلَتْ الْأَمَةَ بَدَلًا فِيهَا .

وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَإِدَارَةِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْحُكْمِ لِبُطُونِهَا فَيُعْتَبَرُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ .
وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي أَثْنَائِهَا وَلَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ ، وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَاصِلِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا لِمَا قُلْنَا .

فَإِنْ قِيلَ : الْمُوجِبُ وَرَدَ فِي الْمَسْبِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَهَلَّا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ غَيْرَهَا فِي مَعْنَاهَا حِكْمَةً وَعِلَّةً وَسَبَبًا فَأُلْحِقَ بِهَا دَلَالَةً .
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا : وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ .
بِأَنْ بَاعَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّغْلُ شَرْعًا فَيَحْتَاجُ إلَى التَّعَرُّفِ عَنْ الْبَرَاءَةِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ .
وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِكَوْنِهَا أُخْتَهُ رَضَاعًا أَوْ وَرِثَهَا وَهِيَ مَوْطُوءَةُ أَبِيهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ، وَلَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي أَثْنَائِهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُجْتَزَأُ بِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَعَرُّفُ الْبَرَاءَةِ .
وَلَا بِاَلَّتِي حَصَلَتْ بَعْدَ الِاسْتِحْدَاثِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهَا : أَيْ بَعْدَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتَحْدَثَ الْمِلْكَ وَالْيَدَ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْقَبْضِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمَلِكِ وَالْيَدِ وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ

( وَيَجِبُ فِي جَارِيَةٍ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا شِقْصٌ فَاشْتَرَى الْبَاقِيَ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ الْآنَ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ ، وَيُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ بِأَنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَجُوسِيَّةُ أَوْ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِوُجُودِهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ إذْ هُوَ مُقْتَضٍ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِمَانِعٍ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ

( وَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ إذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمُؤَاجَرَةُ ) أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَهُوَ سَبَبٌ مُتَعَيَّنٌ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ كَتَبْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ .
أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى اعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَدَعْوَةِ الْبَائِعِ .
بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ نَفْرَةٍ فَالْإِطْلَاقُ فِي الدَّوَاعِي لَا يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ فَتُفْضِي إلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمَسْبِيَّةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْحَرْبِيِّ ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( وَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْآبِقَةِ ) يَعْنِي الَّتِي أَبَقَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى مَوْلَاهَا ، فَإِنْ أَبَقَتْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا فَلَمْ يَحْدُثْ الْمِلْكُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا .
وَقَوْلُهُ ( حَرُمَ الدَّوَاعِي لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَطْءِ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ حَرَّمَ وَطْأَهَا وَحَرَّمَ دَوَاعِيَهُ لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمُسَبَّبَةِ ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ .
وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْ الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَسْبِيَّةُ إلَى الْفَرْعِ وَهُوَ غَيْرُهَا حَيْثُ حَرُمَتْ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ دُونَهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّعَدِّيَ إنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ دَافِعٍ لِأَنَّ عَدَمَ التَّغْيِيرِ شَرْطُ الْقِيَاسِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ أَمْرَانِ : الْإِفْضَاءُ وَالْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمَالِكِ ، فَإِنْ لَمْ تَحْرُمْ بِالثَّانِي فَلْتَحْرُمْ بِالْأَوَّلِ ، إذْ الْحُرْمَةُ تُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ هُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَحَقِّ دَلَالَةُ حُكْمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْحَقِ بِهِ لِعَدَمِهِ ، وَالدَّلِيلُ هَاهُنَا أَنَّ حُرْمَةَ الدَّوَاعِي فِي هَذَا الْبَابِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ عِلَّتُهَا فِي الْمَسْبِيَّةِ أَمْرًا وَاحِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ وَلَمَّا كَانَ فِي

غَيْرِهَا أَمْرَانِ تَعَاضَدَا اُعْتُبِرَتْ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ .

( وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ) لِمَا رَوَيْنَا ( وَفِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ بِالشَّهْرِ ) ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ فِي حَقِّهِنَّ مَقَامَ الْحَيْضِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ ، وَإِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهِ بَطَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَيَّامِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ .
فَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا تَرَكَهَا ، حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَتْ بِحَامِلٍ وَقَعَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقِيلَ يَتَبَيَّنُ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ ، وَعَنْهُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْوَفَاةِ .
وَعَنْ زُفَرَ سَنَتَانِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { وَلَا الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } " وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا ) أَيْ امْتَدَّ طُهْرُهَا فِي أَوَانِ الْحَيْضِ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ جَامَعَهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَبَلَ لَوْ كَانَ لِظُهْرٍ وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إلَخْ .
قِيلَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لِظُهُورِ الْحَبَلِ فِي ذَلِكَ غَالِبًا .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الشُّفْعَةِ .
وَالْمَأْخُوذُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي طُهْرِهَا ذَلِكَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَرِبَهَا .
وَالْحِيلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا .
وَلَوْ كَانَتْ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ .
وَإِنَّ حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَانُ وُجُودِ السَّبَبِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا أَوْ يَقْبِضَهَا ) لَفٌّ وَنَشْرٌ : يَعْنِي يَشْتَرِيهَا وَيَقْبِضُهَا إذَا زَوَّجَهَا الْبَائِعُ أَوْ يَقْبِضُهَا إذَا زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوثَقْ بِهِ رُبَّمَا لَا يُطَلِّقُهَا فَكَانَ احْتِيَالًا عَلَيْهِ لَا لَهُ .
وَالْحِيلَةُ فِي تَمْشِيَةِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِهِ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُ الزَّوْجُ : يَعْنِي بَعْدَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي الِاسْتِبْرَاءُ إذَا قَبَضَهَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِذَا قَبَضَهَا وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَيْسَتْ فِي نِكَاحٍ وَلَا عِدَّةٍ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ ) لِأَنَّ الْقَبْضَ إذْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُمَكِّنٍ مِنْ الْوَطْءِ وَالْمُمَكِّنُ مِنْهُ جُزْءُ الْعِلَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَزْوِيجَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ قَبْضًا حُكْمًا لَمْ يُعْتَبَرْ لِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلتَّمَكُّنِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ ) يَعْنِي إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُعْتَدَّةً وَقَبَضَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ ، لِأَنَّ عِنْدَ اسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لِلْمُشْتَرِي .
فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ وَقْتَ الِاسْتِحْدَاثِ لَمْ يَجِبْ بَعْدَهُ لِعَدَمِ تَجَدُّدِ السَّبَبِ .

قَالَ ( وَلَا يَقْرَبُ الْمَظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْوَطْءُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهِ .
لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ سَبَبَ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمْرِهَا وَالصَّوْمَ يَمْتَدُّ شَهْرًا فَرْضًا وَأَكْثَرُ الْعُمْرِ نَفْلًا ، فَفِي الْمَنْعِ عَنْهَا بَعْضُ الْحَرَجِ ، وَلَا كَذَلِكَ مَا عَدَدْنَاهَا لِقُصُورِ مُدَدِهَا .
وَقَدْ صَحَّ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُضَاجِعُ نِسَاءَهُ وَهُنَّ حُيَّضٌ } "قَالَ ( وَلَا يَقْرَبُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ إلَخْ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ ، لَكِنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اسْتِطْرَادًا ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا انْسَاقَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ إلَى حُرْمَةِ الدَّوَاعِي وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُرْمَةُ الدَّوَاعِي ذَكَرَهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : صَدَّرَ الْفَصْلَ بِالِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ مِنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمُرِهَا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ يَقْرُبُ مِنْ شَطْرِ عُمُرِهَا وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَكَانَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ نِصْفُ الشَّهْرِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ .
وَيَتَقَوَّى بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ فَقَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَمَسُّهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقُهَا ) ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَطْئًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرَّمِ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَاعِي لِإِطْلَاقِ النَّصِّ ، وَلِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، فَإِذَا قَبَّلَهُمَا فَكَأَنَّهُ وَطِئَهُمَا ، وَلَوْ وَطِئَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ إحْدَاهُمَا وَلَا أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّوَاعِي فِيهِمَا ، فَكَذَا إذَا قَبَّلَهُمَا وَكَذَا إذَا مَسَّهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهِمَا بِشَهْوَةٍ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنْ يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فَرْجُهَا لَمْ يَبْقَ جَامِعًا .
وَقَوْلُهُ بِمِلْكٍ أَرَادَ بِهِ مِلْكَ يَمِينٍ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَتَمْلِيكُ الشِّقْصِ فِيهِ كَتَمْلِيكِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْرُمُ بِهِ ، وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ كُلِّهَا ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ ، وَقَوْلُهُ أَوْ نِكَاحٍ أَرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ .
أَمَّا إذَا زَوَّجَ إحْدَاهُمَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الزَّوْجُ بِهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ، وَالْعِدَّةُ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي التَّحْرِيمِ .
وَلَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا حَلَّ

لَهُ وَطْءُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بِوَطْءِ الْأُخْرَى لَا بِوَطْءِ الْمَوْطُوءَةِ .
وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ فَقَبَّلَهُمَا ) هَذِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَمَّا إنْ قَبَّلَهُمَا أَوْ لَمْ يُقَبِّلْهُمَا أَوْ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يُقَبِّلْهُمَا أَصْلًا كَانَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَ وَيَطَأَ أَيَّتَهمَا شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَاهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَإِنْ كَانَ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمُقَبَّلَةَ دُونَ الْأُخْرَى .
وَأَمَّا إذَا قَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَالْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْحِلُّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْحِلِّ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرِّمِ ) لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فَلَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِلْوَطْءِ .
فَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطْئًا فَوَجَبَ تَرْجِيحُ الْمُحَرِّمِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ ) كَلِمَةُ كَذَا زَائِدَةٌ وَقَوْلُهُ ( فِي هَذَا ) أَيْ فِي أَنَّهُ يَحِلُّ وَطْءُ الْأُخْرَى .
وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى حَتَّى يَلْزَمَهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَمْ يَحِلَّ فَرْجُهَا لِغَيْرِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحِلَّ يَزُولُ بِالْكِتَابَةِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِوَطْئِهَا ، فَجُعِلَ زَوَالُ الْحِلِّ عَنْهَا

بِالْكِتَابَةِ كَزَوَالِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ ) وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا بَأْسَ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَانَقَ جَعْفَرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ } " وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ } " .
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ .
قَالُوا : الْخِلَافُ فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَارَثُ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ } " .

وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ إلَخْ ) وَاضِحٌ .
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْمُعَانَقَةِ فَقَالَ : أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، كَانَ بِمَكَّةَ فَأَقْبَلَ إلَيْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ ، فَلَمَّا كَانَ بِالْأَبْطَحِ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ، فَنَزَلَ وَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاعْتَنَقَهُ ، فَكَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ .
وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ : الْمَكْرُوهُ مِنْ الْمُعَانَقَةِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ سَبَبٌ يُفْضِي إلَيْهَا ، فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَعَنْ سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ سُنَّةٌ ، وَتَقْبِيلُ يَدِ غَيْرِهِ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِيَامَ تَعْظِيمًا لِلْغَيْرِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ الْقِيَامَ } وَعَنْ الشَّيْخِ الْحَكِيمِ أَبِي الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ يَقُومُ وَيُعَظِّمُهُ وَلَا يَقُومُ لِلْفُقَرَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ .
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَتَوَقَّعُونَ مِنِّي التَّعْظِيمَ ، فَلَوْ تَرَكْت تَعْظِيمَهُمْ تَضَرَّرُوا ، وَالْفُقَرَاءُ وَطَلَبَةُ الْعِلْمِ لَا يَطْمَعُونَ مِنِّي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ جَوَابَ السَّلَامِ وَالْكَلَامَ مَعَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِتَرْكِ الْقِيَامِ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهُ الْعَذِرَةَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا ، وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ .
بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَخْلُوطًا .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخْلُوطِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ ، وَالْمَخْلُوطُ بِمَنْزِلَةِ زَيْتٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ .( فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ ) أَخَّرَ فَصْلَ الْبَيْعِ عَنْ فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللَّمْسِ وَالْوَطْءِ لِأَنَّ أَثَرَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهَذَا لَا ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ اتِّصَالًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَذِرَةِ الْخَالِصَةِ يَجُوزُ .

قَالَ ( وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا وَقَالَ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنَّهُ يَبْتَاعُهَا وَيَطَؤُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ لِمَا قُلْنَا .
وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً .
وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِفُلَانٍ ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ، وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ .
فَإِنْ كَانَ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَعْلَمَ انْتِقَالَهَا إلَى مِلْكِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْفَاسِقِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ

أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَهُوَ ثِقَةٌ قُبِلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ .

وَقَوْلُهُ ( عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ ) يَعْنِي حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَة .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً يُنَاقِضُ قَوْلَهُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثِقَةً أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكْذِبَ الْفَاسِقُ لِمُرُوءَتِهِ أَوْ لِوَجَاهَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يَقُومُ مَقَامَ الْيَقِينِ ) يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا كَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا شَاهِرًا سَيْفَهُ فَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ ، وَإِذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ لِصٍّ لَمْ يُعَجِّلْ بِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ ) كَدِرَّةٍ فِي يَدِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا .
أَوْ كِتَابٍ فِي يَدِ جَاهِلٍ لَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا ) أَيْ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِفُلَانٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا : يَعْنِي أَنَّ الْآتِيَ بِالْجَارِيَةِ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً وَقَالَ لِآخَرَ وَهَبْتهَا مِنْك أَوْ بِعْتهَا مِنْك فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ وَلَا أَنْ

يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ وَهُوَ الرِّقُّ مَعْلُومٌ فِيهِ ، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ مَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشِّرَاءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ ) بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ الْمَانِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ .

قَالَ ( وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ عَنْهَا ، أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ ، وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا .
إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ ) يَعْنِي بَعْدَ التَّحَرِّي ( فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ ) ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ وَلَا مُنَازِعَ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ ، وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ جَارِيَةٌ كُنْت أَمَةَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ .
وَلَوْ أَخْبَرَهَا مُخْبِرٌ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ حِينَ تَزَوَّجَهَا مُرْتَدًّا أَوْ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .
وَكَذَا إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّك تَزَوَّجْتهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُخْتِهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنْكَارِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ الْمُنَازَعُ بِالظَّاهِرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ ، وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ فَافْتَرَقَا ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ الْفَرْقُ .
وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبُرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِتَحَقُّقِ الْمُنَازِعِ وَهُوَ

ذُو الْيَدِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاطِعَ إذَا كَانَ طَارِئًا وَلَا مُنَازِعَ لِلْمَخْبَرِ بِهِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ .
فَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُخْبِرِ لَهُ ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ سَهُلَ تَطْبِيقُ الْفُرُوعِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ فِيهِ ) وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ بَعْدَ الصِّحَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقَبُولِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلزَّوْجِ فِيهَا ثَابِتٌ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْغَيْرِ فِيهَا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَمِلْكُهُ فِيهَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْهُ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ .قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ الِاقْتِضَاءَ بِالتَّرَاضِي ، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّمَنِ غَيْرَ عَالِمٍ بِكَوْنِهِ ثَمَنَ الْخَمْرِ طَابَ لَهُ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ يَضُرُّ الِاحْتِكَارُ بِأَهْلِهِ وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي .
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ صَغِيرَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَنْ كَانَ الْمِصْرُ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ مِلْكَهُ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ؛ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ } .
قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ يُلَبِّسْ الْمُتَلَقِّي عَلَى التُّجَّارِ سِعْرَ الْبَلْدَةِ .
فَإِنْ لَبَّسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ غَادِرٌ بِهِمْ .
وَتَخْصِيصُ الِاحْتِكَارِ بِالْأَقْوَاتِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَا أَضَرَّ بِالْعَامَّةِ حَبْسُهُ فَهُوَ احْتِكَارٌ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثَوْبًا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا احْتِكَارَ فِي الثِّيَابِ ؛ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الضَّرَرِ إذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ الضَّرَرَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ .
ثُمَّ الْمُدَّةُ إذَا قَصُرَتْ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا لِعَدَمِ الضَّرَرِ ، وَإِذَا طَالَتْ يَكُونُ احْتِكَارًا مَكْرُوهًا لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ .
ثُمَّ قِيلَ : هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ } وَقِيلَ بِالشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ ، وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ

مَوْضِعٍ ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا إمَّا يَأْثَمُ وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ .وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ ) الِاحْتِكَارُ افْتِعَالٌ مِنْ حَكَرَ : أَيْ حَبَسَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْأَقْوَاتِ مُتَرَبِّصًا لِلْغَلَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ لَيْسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي فِي الْإِضْرَارِ وَعَدَمِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ احْتَكَرَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ أَوْ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحْتَكَرٍ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا جُمِعَ فِي الْمِصْرِ وَجُلِبَ إلَى فِنَائِهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُكْرَهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ مَا يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ .

قَالَ ( وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ } وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ .
وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي هَذَا الْأَمْرُ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ فِي ذَلِكَ وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ ، فَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مَا يَرَى زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَدَّى رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ .
وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ ، هَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ .
قِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ ، وَقِيلَ يَبِيعُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ ، وَهَذَا كَذَلِكَ .وَقَوْلُهُ ( وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا ) بِأَنْ يَبِيعُوا قَفِيزًا بِمِائَةٍ وَهُوَ يُشْتَرَى بِخَمْسِينَ فَيَمْنَعُونَ مِنْهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَوْلُهُ ( يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ ) يَعْنِي كَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ ) مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَسْبِيبٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السِّيَرِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَامُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغْيِيرِهِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَجَّرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ بِالسَّوَادِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا .
بِخِلَافِ السَّوَادِ .
قَالُوا : هَذَا كَانَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ ، لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ .
فَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا أَيْضًا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ .

قَالَ ( وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ " لَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ ، وَلَيْسَ الشِّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ ) لِأَنَّ الشُّرْبَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحَمْلِ ، وَبِالْعَكْسِ فَلَا يَكُونُ الْحَمْلُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَعْصِيَةِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا أَيْضًا .
وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُورَثُ } وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُحْتَرَمَةٌ لِأَنَّهَا فِنَاءُ الْكَعْبَةِ .
وَقَدْ ظَهَرَ آيَةُ أَثَرِ التَّعْظِيمِ فِيهَا حَتَّى لَا يُنَفَّرَ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، فَكَذَا فِي حَقِّ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِ الْبَانِي .
وَيُكْرَهُ إجَارَتُهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ آجَرَ أَرْضِ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا } وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أُسْكِنَ غَيْرَهُ

( وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ قَرْضًا جَرَّ بِهِ نَفْعًا ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ حَالًّا فَحَالًّا .
{ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا } ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ جُزْءًا فَجُزْءًا ؛ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَلَيْسَ بِقَرْضٍ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْآخِذِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ ) وَاضِحٌ ، وَلَكِنْ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ اشْتِبَاهٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ لِلْوَدِيعَةِ ، فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ صُورَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ خَارِجًا مَخْرَجَ الشَّرْطِ : يَعْنِي وَضَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ ، وَأَمَّا إذَا وَضَعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا فَهُوَ وَدِيعَةٌ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ الْبَقَّالُ شَيْئًا .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : جَرِّدُوا الْقُرْآنَ .
وَيُرْوَى : جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ .
وَفِي التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ تَرْكُ التَّجْرِيدِ .
وَلِأَنَّ التَّعْشِيرَ يُخِلُّ بِحِفْظِ الْآيِ وَالنَّقْطُ بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ اتِّكَالًا عَلَيْهِ فَيُكْرَهُ .
قَالُوا : فِي زَمَانِنَا لَا بُدَّ لِلْعَجَمِ مِنْ دَلَالَةٍ .
فَتَرْكُ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِالْحِفْظِ وَهِجْرَانٌ لِلْقُرْآنِ فَيَكُونُ حَسَنًامَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ) التَّعْشِيرُ : جَعْلُ الْعَوَاشِرِ فِي الْمُصْحَفِ ، وَهُوَ كِتَابَةُ الْعَلَامَةِ عِنْدَ مُنْتَهَى عَشْرِ آيَاتٍ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : جَرِّدُوا الْقُرْآنَ .
فَقِيلَ الْمُرَادُ نَقْطُ الْمَصَاحِفِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَةِ نَقْطِ الْمَصَاحِفِ ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ الْأَحَادِيثِ ، وَقَالُوا : هَذَا بَاطِلٌ ، وَقِيلَ هُوَ حَثٌّ عَلَى أَنْ لَا يُتَعَلَّمَ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ غَيْرِ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ غَيْرَهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسُوا بِمُؤْتَمَنِينَ عَلَيْهَا .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمُصْحَفَ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ .
وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ ذَلِكَ : وَقَالَ مَالِكٌ : يُكْرَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ .
لِلشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا ، وَالْجُنُبُ يَجْنَبُ الْمَسْجِدَ ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّجَاسَةِ عَامٌّ فَيَنْتَظِمُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ } وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ .
وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي اسْتِخْدَامِهِمْ حَثُّ النَّاسِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَهُوَ مُثْلَةٌ مُحَرَّمَةٌ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِخِصَاءِ الْبَهَائِمِ وَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ .
وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَكِبَ الْبَغْلَةَ } فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَمَا رَكِبَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَتْحِ بَابِهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّهِمْ ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ } .وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ) قَيَّدَ بِهِمَا لِأَنَّ فِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ وَنِكَاحُهُمْ بِخِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْفَاسِقِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ، وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ : أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك ) وَلِلْمَسْأَلَةِ عِبَارَتَانِ : هَذِهِ ، وَمَقْعَدُ الْعِزِّ ، وَلَا رَيْبَ فِي كَرَاهَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُعُودِ ، وَكَذَا الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك ؛ وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك ، وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ } وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِامْتِنَاعِ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَاؤُك وَرُسُلِك ) ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَكُلِّ لَهْوٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَرَ بِهَا فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ قِمَارٍ ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَهُوَ عَبَثٌ وَلَهْوٌ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا الثَّلَاثَ : تَأْدِيبُهُ لِفَرَسِهِ ، وَمُنَاضَلَتُهُ عَنْ قَوْسِهِ ، وَمُلَاعَبَتُهُ مَعَ أَهْلِهِ } وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُبَاحُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْحِيذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الْأَفْهَامِ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ الْخِنْزِيرِ } وَلِأَنَّهُ نَوْعُ لَعِبٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَلْهَاك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ } ثُمَّ إنْ قَامَرَ بِهِ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِيهِ .
وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ تَحْذِيرًا لَهُمْ ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهِ بَأْسًا لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ .
وَتُكْرَهُ كِسْوَتُهُ الثَّوْبَ وَهَدِيَّتُهُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا ، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً } وَأَجَابَ رَهْطٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ وَكَانَ عَبْدًا ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ضَرُورَةً لَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهَا ، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّرَاهِمِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَهُ ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الصِّغَارِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : نَوْعٌ هُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ هُوَ وَلِيٌّ كَالْإِنْكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَمْوَالِ الْقُنْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ ، وَنَوْعٌ آخَرُ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حَالِ الصِّغَارِ وَهُوَ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ .
وَذَلِكَ جَائِزٌ مِمَّنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِمْ .
وَإِذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ هَذَا النَّوْعَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ ، وَنَوْعٌ ثَالِثٌ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ ، فَهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ وَالْأَخُ وَالْعَمُّ وَالصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ فَتْحُ بَابِ مِثْلِهِ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُ بِالْعَقْلِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحِجْرِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْفَاقِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ، وَيَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُؤَاجِرَ ابْنَهَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْعَمِّ ) ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ بِاسْتِخْدَامٍ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ وَالْعَمُّ ( وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ ( إلَّا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَحَّضَ نَفْعًا فَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ إلَخْ ) ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي صَغِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ هِيَ عِنْدَهُ يَعُولُهَا وَلَهُ أَبٌ فَوَهَبَ لَهَا أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْ أَوْ قَبَضَ لَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّةُ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا بِقِيَامِ الْأَبِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَفْعًا مَحْضًا كَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي فَتْحِ بَابِ الْإِصَابَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ : مِنْ وَجْهِ الْوِلَايَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَوْلِ وَالنَّفَقَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ ، فَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمْوَالُ الْقُنْيَةِ مَا يَكُونُ لِلنَّسْلِ لَا لِلتِّجَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِجَارَةُ الصِّغَارِ ) فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي بَعْضِهَا : وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَ ) هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ وَإِجَارَةُ الصِّغَارِ ظَاهِرًا فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَالْأَوَّلُ عَلَى رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ كَمَا مَرَّ وَالثَّانِي عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ غَيَّرَ لَفْظَ الْكِتَابِ إلَى لَفْظِ الْأَظْآرِ كَمَا مَرَّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلَ جَوَازَ إجَارَتِهِ عَلَى مَا إذَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ بِدَلِيلِ وُقُوعِهِ فِي النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ تَعْدَادُ الضَّرُورَةِ وَعَدَمُ جَوَازِهَا عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْعَمِّ ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ فِي حَجْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ آجَرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ لَا يَلْزَمُ .
وَقَوْلُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ يَعْنِي فِي بَابِ إجَارَةِ الْعَبْدِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ ) وَيَرْوُونَ الدَّايَةَ ، وَهُوَ طَوْقُ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ النَّارِ فَيُكْرَهُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ ( وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَيِّدَهُ ) لِأَنَّهُ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي السُّفَهَاءِ وَأَهْلِ الدَّعَارَةِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْعَبْدِ تَحَرُّزًا عَنْ إبَاقِهِ وَصِيَانَةً لِمَالِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ ) رَايَةُ الْغُلَامِ غُلٌّ يُجْعَلُ فِي عِتْقِ الْغُلَامِ عَلَامَةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ آبِقٌ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَأَمَّا الدَّايَةُ بِالدَّالِ فَغَلَطٌ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
قَالُوا : هَذَا كَانَ فِي زَمَانِهِمْ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبَاقِ ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ خُصُوصًا فِي الْهُنُودِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ ) لِأَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ الْحَدِيثَ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمُ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ .وَقَوْلُهُ ( يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ أَرَادَ بِهِ التَّسْمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ .
وَقَوْلُهُ وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ : أَيْ بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي ، الْحَدِيثُ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ دَاءً إلَّا وَقَدْ خَلَقَ لَهُ دَوَاءً ، إلَّا السَّامَ وَالْهَرَمَ } " وَالْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ اكْتِسَابِ الْأَسْبَابِ ، ثُمَّ التَّوَكُّلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْيَمَ { وَهُزِّي إلَيْك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهَا مِنْ غَيْرِ هَزٍّ ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمُ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ ) قِيلَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ آخَرُ غَيْرُهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِشْفَاءُ بِهِ .
وَمَعَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ .
يُحْتَمَلُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ ، لِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِالْحَلَالِ عَنْ الْحَرَامِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ الشِّفَاءُ بِالْحَرَامِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْحَلَالِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي ) { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ وَفَرَضَ لَهُ } وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ كِفَايَةً ، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ ، إذْ الْقَضَاءُ طَاعَةٌ بَلْ هُوَ أَفْضَلُهَا ، ثُمَّ الْقَاضِي إذَا كَانَ فَقِيرًا : فَالْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ فَرْضِ الْقَضَاءِ إلَّا بِهِ ، إذْ الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ يُقْعِدُهُ عَنْ إقَامَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ عَلَى مَا قِيلَ رِفْقًا بِبَيْتِ الْمَالِ .
وَقِيلَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْأَصَحُّ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ الْهَوَانِ وَنَظَرًا لِمَنْ يُوَلَّى بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ إعَادَتُهُ ثُمَّ تَسْمِيَتُهُ رِزْقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ بِإِعْطَائِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَهُوَ يُعْطَى مِنْهُ ، وَفِي زَمَانِنَا الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ فِي آخَرِ السَّنَةِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْخَرَاجِ خَرَاجُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ اسْتَوْفَى رِزْقَ سَنَةٍ وَعُزِلَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا ، قِيلَ هُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ فِي السَّنَةِ بَعْدَ اسْتِعْجَالِ نَفَقَةِ السَّنَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي إلَخْ ) إذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ رَجُلًا الْقَضَاءَ لَا بَأْسَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ رِزْقًا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ التَّقْلِيدِ " { لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فِي السَّنَةِ } " وَالْأُوقِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَتَكَلَّمُوا فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيِّ مَالٍ رَزَقَهُ وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ الدَّوَاوِينُ وَلَا بَيْتُ الْمَالِ ، فَإِنَّ الدَّوَاوِينَ وُضِعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقِيلَ إنَّمَا رَزَقَهُ مِنْ الْفَيْءِ ، وَقِيلَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمِنْ الْجِزْيَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ ) يَعْنِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ رَدُّ حِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ .
قَاسُوا عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا اسْتَعْجَلَتْ نَفَقَةَ السَّنَةِ فَمَاتَ الزَّوْجُ فِي نِصْفِ السَّنَةِ رَدَّتْ نَفَقَةَ مَا بَقِيَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ) ؛ لِأَنَّ الْأَجَانِبَ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَةٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهَا وَإِنْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا .وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ أَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ إلَى آخِرِهِ ) قِيلَ هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ .
أَمَّا الْآنَ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفُسُوقِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَبْلِ فَصْلِ الِاسْتِبْرَاءِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ فَقَدْ قِيلَ يُبَاحُ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ .

قَالَ ( الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ .
قَالَ ( فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًّا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ مِنْ أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ فِيهِ فَهُوَ مَوَاتٌ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَمَعْنَى الْعَادِيِّ مَا قَدُمَ خَرَابُهُ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَعَ انْقِطَاعِ الِارْتِفَاقِ بِهَا لِيَكُونَ مَيْتَةً مُطْلَقًا ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا تَكُونُ مَوَاتًا ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ تَكُونُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَيَضْمَنُ الزَّارِعُ نُقْصَانَهَا ، وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَمْلِكُهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ } وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ ، وَلِأَنَّهُ مَغْنُومٌ لِوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ الْغَنَائِمِ .
وَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ .
فَلَوْ أَحْيَاهَا ، ثُمَّ تَرَكَهَا فَزَرَعَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ قِيلَ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا ، فَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ .
وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ طَرِيقَ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّقِهِ وَقَصَدَ الرَّابِعُ إبْطَالَ حَقِّهِ .

( كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ) مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُكْرَهُ ، وَمَا لَا يُكْرَهُ ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ التَّسْبِيبُ لِلْخِصْبِ فِي أَقْوَاتِ الْأَنَامِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } " وَشُرُوطُهُ سَتُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ .
وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَحُكْمُهُ تَمَلُّكُ الْمُحْيِي مَا أَحْيَاهُ .
قَالَ ( الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِي ) شِبْهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرِّمَالُ أَوْ صَارَ سَبْخَةً بِالْمَيِّتِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي بَطَلَتْ مَنَافِعُهُ فَسُمِّيَ مَوَاتًا ، وَإِحْيَاؤُهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ .
قَوْلُهُ ( فَمَا كَانَ مِنَّا عَادِيًا ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى عَادٍ .
لِأَنَّ عَادًا لَمْ يَمْلِكْ جَمِيعَ أَرَاضِي الْمَوَاتِ .
وَلَكِنْ مُرَادُهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ ) قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ إذَا انْقَرَضَ أَهْلُهَا فَهِيَ كَاللُّقَطَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ ) مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْقُرْبِ مَرْجِعٌ حُكْمِيٌّ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ قَرِيبًا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا نَصْبُ الشَّرْعِ .
وَالْآخَرُ إذْنٌ بِالشَّرْعِ .
فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ

فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ } " وَالْآخَرُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } " أَيْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْغَازِي بِهَذَا الْقَوْلِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْنًا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ } " مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُهُ فَكَانَ رَاجِحًا ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } " يَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَشْرُوطًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي ) بَيَانُهُ أَنَّ الْمَشَايِخَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يُثْبِتُ مِلْكَ الِاسْتِغْلَالِ أَوْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْفَقِيهُ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مُبَاحٍ فَإِنَّ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ .
فَإِذَا قَامَ عَنْهُ وَأَعْرَضَ بَطَلَ حَقُّهُ .
وَعَامَّتُهُمْ إلَى الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِالْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ أَضَافَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ فِي قَوْلِهِ فَهِيَ لَهُ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا صَحِيحٌ ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى كَوْنِهِ إذْنًا لَا شَرْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إذْنًا لَهُ لَكِنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ

كَانَ شَرْعًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ مَلَكَ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّفِهِ ) لِأَنَّهُ حِينَ سَكَتَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ صَارَ الْبَاقِي طَرِيقًا لَهُ ، فَإِذَا أَحْيَاهُ الرَّابِعُ فَقَدْ أَحْيَا طَرِيقَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ طَرِيقٌ .

قَالَ ( وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْنُ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَاقَالَ ( وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ ) الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي تَمَلُّكِ مَا أَحْيَاهُ سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا كَالْمُسْلِمِينَ .

قَالَ ( وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ .
فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ ، وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إنَّمَا هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ الْإِعْلَامُ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ أَوْ يُعَلِّمُونَهُ لِحَجْرِ غَيْرِهِمْ عَنْ إحْيَائِهِ فَبَقِيَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ .
وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَهُ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى وَطَنِهِ وَزَمَانٍ يُهَيِّئُ أُمُورَهُ فِيهِ ، ثُمَّ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا يَحْجُرُهُ فَقَدَّرْنَاهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ لَا يَفِي بِذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَهَا .
قَالُوا : هَذَا كُلُّهُ دِيَانَةً ، فَأَمَّا إذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ الْإِحْيَاءِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَالِاسْتِيَامِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ ، وَلَوْ فُعِلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ .
ثُمَّ التَّحْجِيرُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْحَجَرِ بِأَنْ غَرَزَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً أَوْ نَقَّى الْأَرْضَ وَأَحْرَقَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ أَوْ خَضَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ أَوْ الشَّوْكِ ، وَجَعَلَهَا حَوْلَهَا وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ ، أَوْ حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ ، وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ الْخَبَرُ .
وَلَوْ كَرَبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إحْيَاءٌ ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا ، وَلَوْ حَفَرَ أَنْهَارَهَا وَلَمْ يَسْقِهَا يَكُونُ تَحْجِيرًا ،

وَإِنْ سَقَاهَا مَعَ حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ ، وَلَوْ حَوَّطَهَا أَوْ سَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ ، وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا( قَوْلُهُ وَمَنْ حَجَّرَ أَرْضًا ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَجَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِهِ ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَعْلَمَ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَعْلَمَ بِحَجْرِ الْغَيْرِ عَنْ إحْيَائِهَا فَكَانَ التَّحْجِيرُ هُوَ الْإِعْلَامُ ، فَإِذَا حَجَّرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَايِخَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُفِيدُ مِلْكًا مُؤَقَّتًا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَقِيلَ لَا يُفِيدُ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) قِيلَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَاءَ إنْسَانٌ آخَرُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَحْيَاهُ ، فَإِنَّهُ مَلَكَهُ عَلَى الثَّانِي وَلَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَوَّلِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ حَقٌّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ نَفَى الْحَقَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالْحَقُّ الْكَامِلُ هُوَ الْمِلْكُ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ ) هُوَ مَا يُبْنَى لِلسَّيْلِ لِيَرُدَّ الْمَاءَ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْأَخِيرِ ) يُرِيدُ حَفْرَ الْبِئْرِ ( وَرَدَ الْخَبَرُ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا مِقْدَارَ ذِرَاعٍ فَهُوَ مُتَحَجِّرٌ } " .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ ) لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ .
عَلَى هَذَا قَالُوا : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنًى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا .وَقَوْلُهُ ( لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً ) يَعْنِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ( أَوْ دَلَالَةً ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ ) يُقَالُ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ رَجُلًا أَرْضًا : أَيْ أَعْطَاهُ إيَّاهَا وَخَصَّصَهُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا .
الْعَطَنُ : مُنَاخُ الْإِبِلِ وَمَبْرَكُهَا .

قَالَ ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ أَوْ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ إحْيَاءٌ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ } ثُمَّ قِيلَ : الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا ( وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ) لَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ .
وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ .
وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدْبِرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ : قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ

وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ .
وَمِنْ مَوْضِعٍ يُجْرَى فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِالزِّيَادَةِ ، وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ .
قَالَ ( فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ وَالْإِخْلَالِ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ مَلَكَ الْحَرِيمَ ضَرُورَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ ؛ فَإِنْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَرِيمِ الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ تَبَرُّعًا ، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الثَّانِي فِيهِ قِيلَ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَكْبِسَهُ ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ جِنَايَةِ حَفْرِهِ بِهِ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا ، وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ثُمَّ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ .
وَذَكَرَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ ، وَمَا عَطِبَ فِي الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا .
وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْحَفْرِ تَحْجِيرًا وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِهِ ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا وَرَاءَ حَرِيمِ الْأَوَّلِ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهَا ، وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ

الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْحَافِرِ الْأَوَّلِ فِيهِ

قَوْلُهُ ( قِيلَ الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ ) يَعْنِي يَكُونُ فِي كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ } " فَإِنَّهُ بِظَاهِرِهِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأُولَى كَيْ لَا يَحْفِرَ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلَ إلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ " مِنْ " كُلِّ جَانِبٍ بِيَقِينٍ ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَتَيَقَّنُ بِدَفْعِ الضَّرَرِ .
وَالنَّاضِحُ : الْبَعِيرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ مَا رَوَيْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } " يَعْنِي بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ ، فَيَكُونُ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِلتَّغْلِيبِ لَا لِلتَّقْيِيدِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي انْتِفَاعِ الْآبَارِ فِي الْفَلَوَاتِ هَذَا الطَّرِيقُ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَطَنِ ذِكْرًا لِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَذَرُوا الْبَيْعَ } قَيَّدَ بِالْبَيْعِ لِمَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْبَيْعُ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } وَالْوَعِيدُ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِالْأَكْلِ ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِهِ الْأَكْلُ فَأَخْرَجَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَشْعَبُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ وَفِي

مَائِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " مَنْ حَفَرَ بِئْرًا " لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَنْ " تُفِيدُ الْعُمُومَ ( أَوْلَى عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ) يُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ : " { حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَطَنُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } " .
وَرُدَّ عُمُومُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ : مَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلْعَطَنِ فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْعَطَنِ كَمَا تَرَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَطَنًا لَيْسَ صِفَةً لِبِئْرٍ حَتَّى يَكُونَ مُخَصِّصًا ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحَاجَةِ إلَى الْأَرْبَعِينَ لِيَكُونَ دَافِعًا لِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهُ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَافِرِ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ وَاسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَمَلِ ، فَفِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ اسْتِحْقَاقُهُ لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَاتْرُكْهُ فِي النَّاضِحِ أَيْضًا لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّحَكُّمُ .
قُلْنَا : حَدِيثُهُ فِيهِ مُعَارَضٌ بِالْعُمُومِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَحَفِظْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ } " وَقَوْلُهُ ( وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ ) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ سِتَّ قَبَضَاتِ وَهُوَ ذِرَاعُ الْعَامَّةِ ، وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ عَنْ ذِرَاعِ الْمَلِكِ وَهُوَ بَعْضُ الْأَكَاسِرَةِ بِقَبْضَةٍ ، وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمُكَسَّرَةُ .
قَالَ ( فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا يُمْنَعُ مِنْهُ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَنْ يَطِمَّهُ ) أَيْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ مِنْ بَابِ : أَعْجَبَنِي زَيْدٌ

وَكَرْمُهُ فِي كَوْنِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ فَإِنَّ إصْلَاحَهُ كَبْسُهُ .
قَوْلُهُ ( وَذَكَرَ طَرِيقَةَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ ) وَهُوَ أَنْ يَقُومَ الْأَوَّلُ قَبْلَ حَفْرِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهُ فَيَضْمَنُ نُقْصَانَ مَا بَيْنَهُمَا .
وَالْقَنَاةُ : مَجْرَى الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ تُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ كاريز .

( وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ .
وَقِيلَ هُوَ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَهُ لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ .
قَالُوا : وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ ( وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ فِيهِ ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ .وَقَوْلُهُ ( بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ ) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ " { أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَجَاءَ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً أُخْرَى بِجَنْبِ شَجَرَتِهِ ، فَشَكَا صَاحِبُ الشَّجَرَةِ الْأُولَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الْحَرِيمِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ وَأَطْلَقَ لِلْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ } " وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ .

قَالَ ( وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ أَوْ الدِّجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ ) لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى كَوْنِهِ نَهْرًا ( وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ ، لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ الْإِمَامِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَا : لَهُ مُسْنَاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ ) قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْحَرِيمِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَشْيِ لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَادَةً فِي بَطْنِ النَّهْرِ وَإِلَى إلْقَاءِ الطِّينِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلُ إلَى مَكَان بَعِيدٍ إلَّا بِحَرَجٍ فَيَكُونُ لَهُ الْحَرِيمُ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ .
وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ فَوْقَهَا إلَيْهِ فِي النَّهْرِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ .
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا تَبَعًا لِلنَّهْرِ ، وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً فَلَهُمَا أَنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِاسْتِمْسَاكِهِ الْمَاءَ بِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا ، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ .
كَاثْنَيْنِ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ لَيْسَ فِي يَدِهِمَا ، وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُعَلَّقٌ عَلَى بَابِ أَحَدِهِمَا يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ قَضَاءُ تَرْكٍ

، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا وَرَاءَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْغَرْسِ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مَاءُ نَهْرِهِ فَالْآخَرُ دَافِعٌ بِهِ الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ تَعَلُّقُ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ لَا مِلْكُهُ .
كَالْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ مَلَكَهُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ وَلِآخَرَ خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ أَرْضٌ تَلْزَقُهَا ، وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) .
وَقَالَا : هِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِمُلْقَى طِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مَعْنَاهُ : لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ وَلَا طِينٌ مُلْقًى فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، أَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الشُّغْلِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ .
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَرْسٌ لَا يُدْرَى مَنْ غَرَسَهُ فَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا .
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ .
وَأَمَّا إلْقَاءُ الطِّينِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقِيلَ إنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْحِشْ .
وَأَمَّا الْمُرُورُ فَقَدْ قِيلَ يُمْنَعُ صَاحِبُ النَّهْرِ عِنْدَهُ ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : آخُذُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ .
ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
وَهَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ) ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ أَنَّ نَهْرًا لِرَجُلٍ وَأَرْضًا عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ لِآخَرَ فَتَنَازَعَا فِي الْمُسَنَّاةِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ النَّهْرِ حَائِلٌ كَالْحَائِطِ وَنَحْوِهِ فَالْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : هِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ فِيهَا حَقٌّ ، حَتَّى إنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ إذَا أَرَادَ رَفْعَهَا : أَيْ هَدْمَهَا كَانَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ .
وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى كَرْبِهِ فِي كُلِّ حِينٍ ، أَمَّا الْأَنْهَارُ الصِّغَارُ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى كَرْبِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَهَا حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يُنَافِيهِ وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ لَهُ حَرِيمٌ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ ) يَعْنِي بِجَامِعِ الِاحْتِيَاجِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ الْحَاجَةَ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّهْرِ كَهِيَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْهُمَا إلَيْهِ ( وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ إلَى آخِرِهِ .
وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ فَكَانَ الْحُكْمُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ ) أَيْ فِي الْبِئْرِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ هَبْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلْيَلْحَقْ بِهِ بِالدَّلَالَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَعْلَى بِالْأَدْنَى أَوْ الْمُسَاوِي ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ : أَيْ فِي الْبِئْرِ بِمَعْنَى الْقَلِيبِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي النَّهْرِ ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي

النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ ، وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ الْبِنَاءِ ، إلَى قَوْلِهِ : وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ ) مِنْ جِهَتِهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَى آخِرِهِ ) مِنْ جِهَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَوْلُهُ ( أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَنَّاةُ مُرْتَفِعَةً عَنْ الْأَرْضِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ أَرْفَعَ مِنْ الْأَرْضِ فَهِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ لِإِلْقَاءِ طِينِهِ .
وَقَوْلُهُ ( يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَضَاءُ تَرْكٍ لَا قَضَاءُ مِلْكٍ ، فَلَوْ أَقَامَ صَاحِبُ النَّهْرِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُسَنَّاةَ مِلْكُهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءَ مِلْكٍ لَمَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ فِي حَادِثَةٍ قَضَاءُ مِلْكٍ لَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا لَهُ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِإِمْسَاكِ الْمَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ .
وَقَوْلُهُ ( لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُسَنَّاةِ بِتَأْوِيلِ الْحَرِيمِ .

( وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَةِ ، وَالشَّفَةُ الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا مَاءُ الْبِحَارِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِيِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ ، وَالثَّانِي مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ الشَّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِيِ ، فَإِنْ أَحْيَا وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهُ نَهْرًا لِيَسْقِيَهَا .
إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إذْ قَهْرُ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَمِيلَ الْمَاءُ إلَى هَذَا الْجَانِبِ إذَا انْكَسَرَتْ ضِفَّتُهُ فَيُغْرِقَ الْقُرَى وَالْأَرَاضِي ، وَعَلَى هَذَا نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ بِهِ .
وَالثَّالِثُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي الْمَقَاسِمِ فَحَقُّ الشَّفَةِ ثَابِتٌ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ ، وَالْكَلَإِ ، وَالنَّارِ } وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الشِّرْبَ ، وَالشِّرْبُ خُصَّ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَبَقِيَ الثَّانِي وَهُوَ الشَّفَةُ ، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ وَنَحْوَهَا مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ .
وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ بِدُونِهِ كَالظَّبْيِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِهِ ، وَلِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الشَّفَةِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ إلَى كُلِّ مَكَان وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَظَهْرِهِ ؛ فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ أَفْضَى إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ ، وَإِنْ

أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ أَرْضًا أَحْيَاهَا كَانَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنْهُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُمْ وَلَا ضَرُورَةَ .
وَلِأَنَّا لَوْ أَبَحْنَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ مَنْفَعَةُ الشِّرْبِ .
وَالرَّابِعُ : الْمَاءُ الْمُحَرَّزُ فِي الْأَوَانِي وَأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْإِحْرَازِ ، وَانْقَطَعَ حَقُّ غَيْرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّيْدِ الْمَأْخُوذِ ، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا ، حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ .
وَلَوْ كَانَ الْبِئْرُ أَوْ الْعَيْنُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً آخَرَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ : إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الشَّفَةَ أَوْ تَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ ، وَقِيلَ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ .
أَمَّا إذَا احْتَفَرَهَا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا وَالْحَفْرُ لِإِحْيَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَقْطَعُ الشِّرْكَةَ فِي الشَّفَةِ ، وَلَوْ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ الْعَطَشَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ الشَّفَةُ ، وَالْمَاءُ فِي الْبِئْرِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي الْإِنَاءِ حَيْثُ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ ، وَكَذَا الطَّعَامُ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَخْمَصَةِ ، وَقِيلَ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ بِعَصًا ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ التَّعْزِيرِ لَهُ ؛ وَالشَّفَةُ إذَا كَانَ يَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا

صَغِيرًا .
وَفِيمَا يَرِدُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ بِشُرْبِهَا قِيلَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تَرِدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَصَارَ كَالْمُيَاوَمَةِ وَهُوَ سَبِيلٌ فِي قِسْمَةِ الشِّرْبِ .
وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا : بِسَقْيِ الْمَزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ وَالْجَامِعُ تَفْوِيتُ حَقِّهِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الصَّحِيحِ ، ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِيهِ كَمَا قِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خَضِرًا فِي دَارِهِ حَمْلًا بِجِرَارِهِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ وَيَعُدُّونَ الْمَنْعَ مِنْ الدَّنَاءَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَنَخْلَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَبِئْرِهِ وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمَقَاسِمِ انْقَطَعَتْ شِرْكَةُ الشِّرْبِ بِوَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهِ قَطْعَ شِرْبَ صَاحِبِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَسِيلَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ ، وَالضِّفَّةِ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ وَلَا شَقُّ الضِّفَّةِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَارَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتُجْرَى فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي إنَائِهِ .

فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ ) ( فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ ، لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ .
وَالشَّفَةُ أَصْلُهَا شَفَهَةٌ أُسْقِطَتْ الْهَاءُ تَخْفِيفًا ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الشُّرْبُ بِالشِّفَاهِ .
وَجَيْحُونُ : نَهْرُ خُوَارِزْمَ وَسَيْحُونٌ : نَهْرُ التُّرْكِ .
وَدِجْلَةُ نَهْرُ بَغْدَادَ : وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْكُوفَةِ : وَضِفَّةُ النَّهْرِ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ : حَافَّتُهُ وَأَنَّثَ ثَلَاثٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ } " لِأَنَّ الْفَصِيحَ فِي الْكَلَامِ إذَا لَمْ يُذْكَرْ الْمَعْدُودُ أَنْ يُذْكَرَ عَلَى لَفْظِ الْمُؤَنَّثِ نَظَرًا إلَى لَفْظِ الْأَعْدَادِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ } " الْحَدِيثَ .
وَالصَّوْمُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَيَّامِ لَا فِي اللَّيَالِي .
وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَعْدُودَ وَهُوَ الْأَيَّامُ أَنَّثَهُ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " شُرَكَاءُ " يُرِيدُ بِهِ الْإِبَاحَةَ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَمْ يُحْرَزْ نَحْوُ الْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ .
وَأَمَّا الْكَلَأُ وَهُوَ مَا لَا سَاقَ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْبُتَ فِي أَرْضِ شَخْصٍ أَوْ أَنْبَتَهُ فِيهَا بِكَرْيِ الْأَرْضِ وَسَقْيِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ مُبَاحًا لِلنَّاسِ إلَّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ مِلْكَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ لَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبِهِ وَالْكَسْبُ لِلْمُكْتَسِبِ .
وَأَمَّا النَّارُ فَمَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي أَرْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِنَارِهِ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاءُ بِهَا

وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ وَأَنْ يَعْمَلَ بِضَوْئِهَا ، وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمْرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَحْمٌ أَوْ حَطَبٌ قَدْ أَحْرَزَهُ الْمُوقِدُ لَيْسَ مِمَّا تَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ .
وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ } " وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ لَمْ يُقْطَعْ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } يُورِثُ الشُّبْهَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ يُوَافِقُ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ الْآيَةَ ، وَلَا يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِهِ إبْطَالُ الْكِتَابِ .
بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُبْطِلُ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } .
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وَغَيْرَ ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخُصُوصَاتُ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْمُزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ ) ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ ، لِأَنَّ الشَّفَةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ .
فَأَمَّا مَا يَضُرُّ وَيَقْطَعُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْجَدْوَلِ الصَّغِيرِ عُلِمَ مِنْ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) إشَارَةٌ إلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَأْخُذُونَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفَةِ لَا غَيْرُ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ

أَئِمَّةِ بَلْخِي إذْ قَالُوا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ النَّهْرِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمُقَاسِمِ ) أَيْ مَتَى دَخَلَ فِي قِسْمَةِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِوَاحِدَةٍ ) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ .

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ : نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ ، وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ .
وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ خَاصٌّ .
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ .
فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : : لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ ، إلَّا أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ وَيُجْعَلُ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ ؛ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِيِ وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي ، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قِيلَ يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي .
وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ .
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْآبِي بِمَا أَنْفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ ، بِخِلَافِ

مَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ الشَّفَةِ كَمَا إذَا امْتَنَعُوا جَمِيعًا وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ رُفِعَ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرْضِينَ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ السَّيْلِ عِمَارَتُهُ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَسِيلٌ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ ، كَيْفَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعَ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ بِسَدِّهِ مِنْ أَعْلَاهُ ، ثُمَّ إنَّمَا يُرْفَعُ عَنْهُ إذَا جَاوَزَ أَرْضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقِيلَ إذَا جَاوَزَ فُوَّهَةَ نَهْرِهِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّخَاذِ الْفُوَّهَةِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ ، فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ حَتَّى سَقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَتُهُ قِيلَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءُ لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ لِانْتِهَاءِ الْكَرْيِ فِي حَقِّهِ ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ نَفْيًا لِاخْتِصَاصِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنْ الْكَرْيِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ .

( فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ مُؤْنَةِ كَرْيِ الْأَنْهَارِ الَّتِي كَانَ الشُّرْبُ مِنْهَا .
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ إذْ النَّهْرُ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ كَالنَّهْرِ الْعَامِّ أَخَّرَ ذِكْرَهُ .
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ النَّهْرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ خَاصًّا كَذَلِكَ ، أَوْ عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ فَصَلَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ لَهُ ) أَيْ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ : أَيْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ ( وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ ) أَيْ مُؤْنَةَ مَنْ يُطِيقُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَالَ وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ ) يَعْنِي حِصَّةً مِنْ الشُّرْبِ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ ، أَيْ فَلَا يُعَارَضُ الضَّرَرُ الْعَامُّ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ ، بَلْ يُغَلَّبُ جَانِبُ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَيُجْعَلُ ضَرَرًا ، وَيَجِبُ السَّعْيُ فِي إعْدَامِهِ وَإِنْ بَقِيَ الضَّرَرُ الْخَاصُّ .
وَقَوْلُهُ ( خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ ) يُقَالُ بَثَقَ السَّيْلُ مَوْضِعَ كَذَا : أَيْ خَرَقَهُ وَشَقَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةُ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُلُوصِ .
ثُمَّ قِيلَ : يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ ) يَعْنِي فِي الْخُصُوصِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْإِجْبَارُ فِي النَّهْرِ الثَّانِي ، فَإِنَّ مَنْ أَبَى مِنْ أَهْلِهِ

يُجْبَرُ عَلَيْهِ هُنَاكَ لِأَنَّ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَامٌّ وَالْأُخْرَى خَاصٌّ ، فَيُجْبَرُ الْآبِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ عَنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا جَبْرَ لِحَقِّ الشَّفَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ فِي كَرْيِ النَّهْرِ الْخَاصِّ إحْيَاءُ حَقِّ الشَّفَةِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ عَامٌّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبَرَ الْآبِي عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَهْلِ الشَّفَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجْبَرُ الْآبِي لِحَقِّ أَهْلِ الشَّفَةِ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّهْرِ عَنْ كَرْيِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْكَرْيِ لِحَقِّ أَهْلِ الشَّفَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الصَّوَابُ نَفْعُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاعَ فِي مَعْنَى النَّفْعِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ ) يَعْنِي فَكَانُوا مَجْهُولِينَ .

قَالَ ( وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ وَيَبْقَى الشِّرْبُ لَهُ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى ( وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرَى النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ .
فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِي لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ ، فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا نَظِيرُهُ فِي الشِّرْبِ

فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ ) لَمَّا قَرُبَ مِنْ فَرَاغِ بَيَانِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ خَتَمَهُ بِفَصْلٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ ( يَجُوزُ دَعْوَى الشُّرْبِ بِلَا أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( تُرِكَ عَلَى حَالِهِ ) مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ) يَعْنِي بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَائِهِ مَاءَهُ فِيهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ فَعَلَيْهِ : أَيْ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ إنْ كَانَ يَدَّعِي رَقَبَةَ النَّهْرِ ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا إنْ كَانَ يَدَّعِي الْإِجْرَاءَ فِي هَذَا النَّهْرِ ، فَإِذَا أَقَامَهَا يُقْضَى لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ : يَعْنِي فِي الْأَوَّلِ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ : يَعْنِي فِي الثَّانِي ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .
وَقَوْلُهُ ( فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا ) أَيْ اخْتِلَافُ الْمُدَّعِينَ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ( نَظِيرُهُ ) أَيْ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الشُّرْبِ .

( وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ كَانَ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطَرُّقُ وَهُوَ فِي الدَّارِ الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ ، فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الْأَعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ لَا يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ إلَّا بِرِضَا أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ بِالْبِنَاءِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَحًى لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَسْرِ ضِفَّتِهِ ، وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ سُنَنِهِ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ ، وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى ، وَلَا يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا وَلَا قَنْطَرَةً بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ نَهْرٌ خَاصٌّ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ لَهُ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ مُقَنْطِرًا مُسْتَوْثِقًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ { لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَضْعًا وَرَفْعًا .
وَلَا ضَرَرَ بِالشُّرَكَاءِ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ

يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ ، وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ لِاحْتِبَاسِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْفِلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهَا حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ وَالتَّرَفُّعِ وَهُوَ الْعَادَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بِالْكُوَى فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْأَيَّامِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ خَاصَّةٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى

وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ) مُعَارَضٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوا قَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّهْرِ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْيَدِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ ، وَانْتِفَاعُ مَنْ لَهُ عَشْرُ قِطَعٍ لَا يَكُونُ مِثْلَ انْتِفَاعِ مَنْ لَهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي فِي إثْبَاتِ الْيَدِ .
وَقَوْلُهُ ( لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى السَّكْرُ ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ فِي السَّكْرِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ سَكْرٍ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ ) يَعْنِي إذَا اصْطَلَحُوا عَلَى السَّكْرِ لَيْسَ لِمَنْ يَسْكُرُ أَنْ يَسْكُرَ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَنَحْوِهِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْكُرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابِ خَشَبٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ فَيَمْنَعُ مَا فَضَلَ عَنْ السَّكْرِ عَنْهُمْ إلَّا إذَا رَضُوا بِذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ الشُّرْبُ إلَّا بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ يَبْدَأُ أَهْلُ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْأَهْلِ لِأَعْلَى أَنْ يَسْكُرُوا لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثُ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ حَقُّ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ثَابِتٌ مَا لَمْ يَرْوُوا فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءُ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَمَنْ لَزِمَك طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُك .
وَقَوْلُهُ ( وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى ) الدَّالِيَةُ : جِذْعٌ طَوِيلٌ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ مَدَاقِّ الْأَرُزِّ وَفِي رَأْسِهِ مِغْرَفَةٌ كَبِيرَةٌ يُسْقَى بِهَا .

وَالسَّانِيَةُ الْبَعِيرُ يَسْتَقِي مِنْ الْبِئْرِ .
وَالْجِسْرُ : اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ وَيُرْفَعُ مِمَّا يَكُونُ مُتَّخَذًا مِنْ الْخَشَبِ وَالْأَلْوَاحِ ، وَالْقَنْطَرَةُ : مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْحَجَرِ وَالْآجُرِّ مَوْضُوعًا لَا يُرْفَعُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْدِثُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى ) الْكُوَّةُ : ثُقْبُ الْبَيْتِ وَالْجَمْعُ كِوَاءٌ بِالْمَدِّ ، وَكُوًى مَقْصُورٌ ، وَيُسْتَعَارُ لِمَفَاتِحِ الْمَاءِ إلَى الْمَزَارِعِ وَالْجَدَاوِلِ فَيُقَالُ كُوَى النَّهْرِ ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَسِّعَ الْكَوَّةَ وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ فَمِ النَّهْرِ ، هَذَا تَقْدِيرٌ اتِّفَاقِيٌّ وَالْعِبْرَةُ لِلِاحْتِبَاسِ .
وَصُورَةُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَلْوَاحُ الَّتِي فِيهَا الْكُوَّةُ فِي فَمِ النَّهْرِ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي وَسَطِ النَّهْرِ وَيَدَعُ فُوَّهَةَ النَّهْرِ بِغَيْرِ لَوْحٍ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُسْفِلُ كُوَاهُ : أَيْ يَجْعَلُهَا أَعْمَقَ مِمَّا كَانَتْ وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ يَرْفَعُهَا إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .

( وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ شِرْبٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ ( وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى ) ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ ، إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُسْقَى الْأَرْضُ الْأُخْرَى ، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يَفْتَحُهَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، وَبَعْضُ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ .
وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةُ الشِّرْبِ ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ ، وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُقُودُ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاطِلِ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَلَا فِي الْخُلْعِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ مَا قَبَضَتْ مِنْ الصَّدَاقِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ .
وَلَا يَصْلُحُ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ .
وَلَا يُبَاعُ الشِّرْبُ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ أَرْضٍ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ ،

وَكَيْفَ يَصْنَعُ الْإِمَامُ ؟ الْأَصَحُّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَبِيعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ وَبِدُونِهِ فَيَصْرِفُ التَّفَاوُتَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ ، ثُمَّ ضَمَّ الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيَصْرِفُ مِنْ الثَّمَنِ إلَى ثَمَنِ الْأَرْضِ وَيَصْرِفُ الْفَاضِلَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ

وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَزِيدُ فِي الشِّرْبِ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْهُ حَقٌّ فِي الشُّرْبِ وَيَزِيدُ مِنْ الْمَارَّةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمُرُورِ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ ( سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ ) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا ) بِأَنْ يَقُولَ لِشَرِيكِهِ اجْعَلْ لِي نِصْفَ الشَّهْرِ وَلَك نِصْفَهُ ، فَإِذَا كَانَ فِي حِصَّتِي سَدَدْت مَا بَدَا لِي مِنْهَا وَأَنْتَ فِي حِصَّتِك فَتَحْتهَا كُلَّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالْكُوَى ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى مُسْتَدَامٌ وَفِي الثَّانِيَةِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ السُّفْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ إعَارَةٌ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرٌ لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الشِّرْبِ مِنْ الشَّهْرِ لِتَعَذُّرِ جَعْلِ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مُبَادَلَةً ، فَإِنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ وَإِجَارَتَهُ بِهِ بَاطِلٌ ، وَإِذَا كَانَتْ عَارِيَّةً فَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ ، وَعَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدَّيْنَ وَالْخَمْرَ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَإِنْ لَمْ يُمْلَكْ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ .
وَقَوْلُهُ ( بِعَيْنِهِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِيصَاءِ بِبَيْعِ الشِّرْبِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشِّرْبَ بِغَيْرِ الْأَرْضِ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ ، فَإِذَا سَمَّاهُ فِي النِّكَاحِ صَحَّ النِّكَاحُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِذَا سَمَّاهُ فِي الْخُلْعِ صَحَّ الْخُلْعُ وَعَلَيْهَا رَدُّ مَا قَبَضَتْ مِنْ الْمَهْرِ ، وَإِذَا جَعَلَهُ بَدَلَ الصُّلْحِ

فَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ قِصَاصٍ ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصَحُّ ) إشَارَةٌ إلَى وُجُودِ الِاخْتِلَافِ .
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ قِيمَةِ الشِّرْبِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَوِّمِينَ إنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الشِّرْبِ بِكَمْ يُشْتَرَى هَذَا الشِّرْبُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُضَمُّ هَذَا الشِّرْبُ إلَى جَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ أَقْرَبِ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الشِّرْبِ وَيُنْظَرُ بِكَمْ يُشْتَرَى مَعَ الشِّرْبِ وَبِكَمْ يُشْتَرَى بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَكُونُ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا قِيمَةَ الشِّرْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَّخِذُ حَوْضًا وَيَجْمَعُ ذَلِكَ الْمَاءَ فِيهِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ ثُمَّ يَبِيعُ الْمَاءَ الَّذِي جَمَعَهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يَقْضِي دَيْنَهُ بِذَلِكَ .
وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .

( وَإِذَا سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ مَخَرَهَا مَاءً ) أَيْ مَلَأَهَا ( فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِوَقَوْلُهُ ( أَوْ مَخَرَهَا ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ مَخَرْت الْأَرْضَ : أَيْ أَرْسَلْت الْمَاءَ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ ) يَلُوحُ إلَيَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَمِنَ .
وَعَدَمُ التَّعَدِّي إنَّمَا يَكُونُ إذَا سَقَى أَرْضَهُ سَقْيًا يُسْقَى مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي نَوْبَتِهِ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ جَارُهُ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْأَحْكَامِ ضَمِنَ .
وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَمْ يَضْمَنْ اعْتِبَارًا بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ ) سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا قَالَ ( الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ : الْخَمْرُ وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، وَالْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ ) وَهُوَ الطِّلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى )( كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ ) : ذَكَرَ الْأَشْرِبَةَ بَعْدَ الشِّرْبِ لِأَنَّهُمَا شُعْبَتَا عِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَقَدَّمَ الشِّرْبَ لِمُنَاسَبَتِهِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ .
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ بَيَانُ حُرْمَتِهَا ، إذْ لَا شُبْهَةَ فِي حُسْنِ تَحْرِيمِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرُ إنْعَامِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُهُ حَلَّ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ إلَى ذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّكْرَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَحَرُمَ شُرْبُ الْقَلِيلِ عَلَيْنَا مِنْ الْخَمْرِ كَرَامَةً لَنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا نَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ وَنَحْنُ مَشْهُودٌ لَنَا بِالْخَيْرِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا حُرِّمَتْ ابْتِدَاءً وَالدَّاعِي الْمَذْكُورُ مَوْجُودٌ .
أُجِيبَ إمَّا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ إذْ ذَاكَ وَإِمَّا لِتَدْرِيجِ الضَّارِي لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنْ الْإِسْلَامِ ( وَسُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ بِهَا ) أَيْ بِالْأَشْرِبَةِ ( وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ ) اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا .
قَالَ ( الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ إلَخْ ) الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ : الْخَمْرُ ، وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غُلِيَ وَاشْتَدَّ ، وَالْمُرَادُ بِالِاشْتِدَادِ صَلَاحِيَتُهُ لِلْإِسْكَارِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ

أَمَّا الْخَمْرُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَائِيَّتِهَا وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } : وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِهَذَا اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ وَهَذَا كَثِيرُ النَّظِيرِ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ ؛ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالثَّانِي فِي حَقِّ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ ، وَكَمَالُهَا بِقَذْفٍ بِالزَّبَدِ وَسُكُونِهِ ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا

وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَوْلُهُ ( فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي غَيْرِهِ ) أَيْ وَاشْتُهِرَ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا غَيْرُ لَفْظِ الْخَمْرِ كَالْمُثَلَّثِ وَالطِّلَاءِ وَالْبَاذِقِ وَالْمُنَصَّفِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَكُونُ قَطْعِيَّةً ، وَمَا هُوَ قَطْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ ، وَكَوْنُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا قَطْعِيٌّ بِلَا خِلَافٍ فَيَثْبُتُ بِهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا سُمِّيَ ) يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ ( خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ ) أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ ، جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ سُمِّيَ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهَا لَكِنْ لَا يُنَافِي اخْتِصَاصَهُ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ مَخْصُوصًا ، فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَجَمَ إذَا ظَهَرَ ، ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ بِالثُّرَيَّا ، وَكَالْقَارُورَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَارِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُوزِ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ الْقَرَارُ وَأَنْظَارُهُ كَثِيرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) يُرِيدُ بِهِ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحَدُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } " وَالثَّانِي " { مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } " وَالثَّالِثُ " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ إمَامًا حَافِظًا مُتْقِنًا حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ

حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَيْسَ بِحَدِيثٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالثَّانِي ) يُرِيدُ بِهِ الْخَمْرَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ ( أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ ) يَعْنِي إذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ كَانَ حُكْمُهُ فِي الْإِسْكَارِ حُكْمَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ وَثُبُوتِ الْحَدِّ ، إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ لِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِبَيَانِ الشَّرَائِعِ لَا لِبَيَانِ الْحَقَائِقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا ) يَعْنِي وَفِي الْحَدِّ يُؤْخَذُ بِقَذْفِ الزَّبَدِ احْتِيَاطًا أَيْضًا

وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا ، وَقَالَ : إنَّ السُّكْرَ مِنْهَا حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَهَذَا كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً " أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ الْخَمْرَ ؛ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ ، وَلِهَذَا تَزْدَادُ لِشَارِبِهِ اللَّذَّةُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا ، وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَعْلِيلُهُ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ

وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ إنْكَارُ حُرْمَةِ عَيْنِهَا ( كُفْرٌ ) مِنْ الْمُنْكِرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لِحُرْمَةِ السُّكْرِ مِنْهُ ( لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } ، إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي " الْإِشْرَاقِ شَرْحِ مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ " عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ فَلْيُطْلَبْ مِنْهُ ثَمَّةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً ) مَعْنَاهُ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ أَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْخَمْرِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنْهَا مُتَوَاتِرٌ ، كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُودِ حَاتِمٍ ، وَيُسَمَّى هَذَا التَّوَاتُرُ بِالْمَعْنَى .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ ) يَعْنِي دُعَاءَ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : مَا مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ إلَّا وَلَذَّتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى اللَّذَّةِ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا الْخَمْرَ ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ لِشَارِبِهَا تَزْدَادُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ) يَعْنِي مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } " وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا لِعَيْنِهَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ لِتَعَدِّيهِ اسْمَهَا إلَى غَيْرِهَا .

وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ .

وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا } وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَالٌ ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ دَيْنٌ فَأَوْفَاهُ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَلَا لِلْمَدْيُونِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ بَيْعٍ بَاطِلٍ وَهُوَ غَصْبٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَمَانَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى ذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ ، وَالْمُسْلِمُ الطَّالِبُ يَسْتَوْفِيهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ جَائِزٌ .وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا ) لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ إتْلَافِهَا .
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا ، فَقِيلَ : يُبَاحُ ، وَقِيلَ لَا يُبَاحُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ بِأَنْ كَانَتْ عِنْدَ شِرِّيبٍ خِيفَ عَلَيْهِ الشُّرْبُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عِنْدَ صَالِحٍ فَلَا يُبَاحُ لِأَنَّهُ يُخَلِّلُهَا

وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَسِ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ اقْتِرَابٌ .وَقَوْلُهُ ( وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا ) يُرِيدُ التَّدَاوِيَ بِالِاحْتِقَانِ وَسَقْيَ الدَّوَابِّ وَالْإِقْطَارَ فِي الْإِحْلِيلِ

وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ فَبَقِيَ الْجَلْدُ مَشْرُوعًا ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَقْدِيرُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ .وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ } " الْحَدِيثَ

وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بِالْقَلِيلِ فِي النِّيءِ خَاصَّةً ، لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا قَدْ طُبِخَ .وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَالُوا ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَمْ يَسْكَرْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؟ ثُمَّ قَالَ : وَيَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَمْرٍ لُغَةً ، فَإِنَّ الْخَمْرَ لُغَةً هُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَهَذَا لَيْسَ بِنِيءٍ

وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْخَمْرِ .

وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ وَالْمُنَصَّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّهُ مُبَاحٌ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ ، وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ : أَيْ الرَّطْبِ فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : إنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } اُمْتُنَّ عَلَيْنَا بِهِ ، وَهُوَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذْ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً كُلُّهَا ، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ ، مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ فَهُوَ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ ، إلَى أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ ، وَيَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ ، وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَلِيظَةٌ فِي أُخْرَى ، وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَمَا شَهِدْت دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ

تَقَوُّمِهَا ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ ( وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) قَالُوا : هَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا سَكِرَ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ( وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا : وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَا يَبْلُغُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : يَبْلُغُ : يَغْلِي وَيَشْتَدُّ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَفْسُدُ : لَا يُحَمَّضُ وَوَجْهُهُ أَنَّ بَقَاءَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَمَّضَ دَلَالَةُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَحْرُمُ أَصْلُ شُرْبِهِ وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبُو يُوسُفَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يُحَرِّمْ كُلَّ مُسْكِرٍ ، وَرَجَعَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا ( وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ : وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرِبٍ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ حَرَامٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَقَوْلُهُ ( وَالْمُنَصَّفَ ) قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْبَاذَقَ : أَيْ يُسَمَّى الْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ الْبَاذَقَ ، وَيُسَمَّى الْمُصَنَّفَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَالَ : الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ : وَهِيَ الْخَمْرُ ، وَالْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ .
فَلَوْ كَانَ الْبَاذَقُ غَيْرَ الْمُنَصَّفِ لَكَانَتْ الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ خَمْسَةً .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الذَّاهِبِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنَصَّفًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ مَعْنًى وَهَذَا أَوْجَهُ لَفْظًا ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ : أَيْ الرَّطْبُ ) إنَّمَا فَسَّرَ التَّمْرَ بِالرَّطْبِ لِأَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ التَّمْرِ اسْمُهُ نَبِيذُ التَّمْرِ لَا السَّكَرُ وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ ) أَرْدَفَ الْحَرَامَ بِالْكَرَاهَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ حُرْمَتَهُ لَيْسَتْ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ ، لِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ يَكْفُرُ وَمُسْتَحِلَّ غَيْرِهَا لَا يَكْفُرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } " وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذْ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً ) لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحُرِّمَ الْخَمْرُ بِالْمَدِينَةِ ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِامْتِنَانُ كَمَا قَالَ الْخَصْمُ .
وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ ، وَمَعْنَاهُ : أَنْتُمْ لِسَفَاهَتِكُمْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا حَرَامًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ )

يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا ) كَمَا إذَا أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ .
وَأَوْرَدَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ : أَيْ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْخَمْرُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالطِّلَاءُ وَهُوَ الْبَاذَقُ وَالْمُنَصَّفُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ فِيهِ ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ : سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ : مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ وَكَانَ مَطْبُوخًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْهُ ، وَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ ، وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ } مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ .قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ ) الْخَلِيطَانِ مَاءُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا خُلِطَا فَطُبِخَا بَعْدَ ذَلِكَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُتْرَكُ إلَى أَنْ يَغْلِيَ وَيَشْتَدَّ .
وَالْعَجْوَةُ : التَّمْرُ الَّذِي يَغِيبُ فِيهِ الضِّرْسُ لِجَوْدَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( مَحْمُولٌ عَلَى الشِّدَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ فِي وَقْتٍ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ضِيقٌ وَشِدَّةٌ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ الطَّعَامَيْنِ وَيَتْرُكَ جَارَهُ جَائِعًا بَلْ يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا وَيُؤْثِرُ بِالْآخَرِ عَلَى جَارِهِ ، ثُمَّ لَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ النِّعَمَ أَبَاحَ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ

قَالَ ( وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ ، وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ } خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ ، ثُمَّ قِيلَ يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ ، وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ

وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ ؟ قِيلَ لَا يُحَدُّ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ قَالُوا : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ ، بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا وَقِيلَ : إنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ ؛ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ قَالُوا : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لِمَا فِي إبَاحَتِهِ مِنْ قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ أَوْ لِاحْتِرَامِهِ فَلَا يُتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِوَقَوْلُهُ ( قِيلَ لَا يُحَدُّ ) هُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ .
قِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } " يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْبِذَةَ لَيْسَتْ بِمُتَّخَذَةٍ مِمَّا هُوَ أَصْلُ الْخَمْرِ .
وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَعَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : حَرَامٌ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي ، أَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ لَا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا ، وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَيُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ } وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْخَمْرِ وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا } وَيُرْوَى { بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } خَصَّ السُّكْرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ ؛ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمَهُ ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ : وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَرِقَّ ثُمَّ يُطْبَخُ طَبْخَةً حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ ثُمَّ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ ، أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ ثُمَّ

يُعْصَرُ يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ قَائِمٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ،

وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِمَا ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَذْكُورٌ فِي النَّوَادِرِ وَلَنَا : أَيْ لِعُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِمُحَمَّدٍ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَهُمَا : أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ ) لِلْعَقْلِ ( هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا ) لَا مَا قَبْلَهُ .
فَإِنْ قِيلَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ عَلَى انْفِرَادِهِ بَلْ بِمَا تَقَدَّمَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ مَعْنًى وَحُكْمًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَوْلَى وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْحَرَامُ هُوَ الْمُسْكِرُ ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازٌ وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةٌ وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْخَمْرِ جَوَابُ سُؤَالٍ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا كَانَ الْمُفْسِدُ هُوَ الْأَخِيرَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَمْرِ كَذَلِكَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، وَهَذَا وَاضِحٌ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِيَاسَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ تَرَكْنَاهُ لِأَنَّ الْخَمْرَ لِرِقَّتِهَا وَلَطَافَتِهَا تَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ الْقَلِيلُ حُكْمَ الْكَثِيرِ ، وَالْمُثَلَّثُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِغِلَظِهِ ، وَعَلَى الثَّانِي بِطَرِيقِ الْفَرْقِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " لَيْسَ بِثَابِتٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ طَعْنِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ثُبُوتَهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ

حَتَّى يَرِقَّ ) وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ لِاخْتِلَافٍ وَقَعَ فِيهِ ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ يُوسُفِيًّا وَيَعْقُوبِيًّا لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرًا مَا كَانَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ بَخْتَجًا وَحُمَيْدِيًّا ، قَالَ : لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى رَجُلٍ اسْمُهُ حُمَيْدٌ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِإِبَاحَتِهِ عِنْدَهُمَا بَعْدَمَا صَبَّ الْمَاءَ فِيهِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا ) يَعْنِي تَارَةً يَذْهَبُ الْمَاءُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ ، وَتَارَةً يَذْهَبُ الْعَصِيرُ وَالْمَاءُ مَعًا ، فَلَوْ ذَهَبَا مَعًا يَحِلُّ شُرْبُهُ كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ الْمُثَلَّثِ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَهَبَا مَعًا كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَصِيرِ أَيْضًا ثُلُثَيْنِ كَالْمَاءِ ، لَكِنْ لَمَّا يُتَيَقَّنْ بِذَهَابِهِمَا مَعًا وَاحْتُمِلَ ذَهَابُ الْمَاءِ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ بِحُرْمَةِ شُرْبِهِ احْتِيَاطًا ، لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ الْمَاءُ أَوَّلًا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيْ الْعَصِيرِ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الْبَاذَقُ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ ) أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) هِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ وَأَنْكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّهَا لَا تَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ ، وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ

وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لِأَنَّ التَّمْرَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا ، وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ثُمَّ أُنْقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ ، إنْ كَانَ مَا أَنْقَعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ النَّقِيعِ وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ الْحُرْمَةِ ، وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ لِلْحَدِّ فِي دَرْئِهِ .

وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ { فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَلَا تُشْرِبُوا الْمُسْكِرَ } وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ فَكَانَ نَاسِخًا لَهُ ، وَإِنَّمَا يُنْتَبَذُ فِيهِ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يُغْسَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : يُمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ .

( قَالَ وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ إلَخْ ) جَوَّزَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ الِانْتِبَاذَ فِي الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَالْحَنْتَمُ وَهُوَ جِرَارٌ حُمْرٌ أَوْ خُضْرٌ يُحْمَلُ فِيهَا الْخَمْرُ إلَى الْمَدِينَةِ .
الْوَاحِدَةُ حَنْتَمَةٌ .
وَالْمُزَفَّتُ وَهُوَ الظَّرْفُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقِيرُ ، وَالنَّقِيرُ وَهُوَ الْخَشَبَةُ الْمَنْقُورَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا ، وَعَنْ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِيَتَّسِعَ بِهِ مُوسِعُكُمْ عَلَى مُعْسِرِكُمْ ، وَعَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ } " وَلَكِنْ إنَّمَا يُنْبَذُ فِيهِ إنْ كَانَ فِيهِ خَمْرٌ بَعْدَ التَّطْهِيرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَبْسُوطِهِ : إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ، لِأَنَّ الْأَنْبِذَةَ تَشْتَدُّ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ أَكْثَرَ مِمَّا تَشْتَدُّ فِي غَيْرِهَا : يَعْنِي فَصَاحِبُهَا عَلَى خَطَرٍ مِنْ الْوُقُوعِ فِي شُرْبِ الْمُحَرَّمِ

قَالَ ( وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ حَلَّتْ سَوَاءٌ صَارَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَيْءٍ يُطْرَحُ فِيهَا ، وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ بِهِ إنْ كَانَ التَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ فَلَهُ فِي الْخَلِّ الْحَاصِلِ بِهِ قَوْلَانِ لَهُ أَنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ يُنَافِيه وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ } وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ يَزُولُ الْوَصْفُ الْمُفْسِدُ وَتَثْبُتُ صِفَةُ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ ، وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ وَالِاقْتِرَابِ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ ، وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الثَّانِي فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَإِذَا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا يَطْهُرُ مَا يُوَازِيهَا مِنْ الْإِنَاءِ ، فَأَمَّا أَعْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي نَقَصَ مِنْهُ الْخَمْرُ قِيلَ يَطْهُرُ تَبَعًا وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسٌ إلَّا إذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ فَيَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ ، وَكَذَا إذَا صُبَّ فِيهِ الْخَمْرُ ثُمَّ مُلِئَ خَلًّا يَطْهُرُ فِي الْحَالِ عَلَى مَا قَالُوا .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ ) يَعْنِي أَنَّ خَلَّ الْخَمْرِ حَلَالٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ خُلِّلَتْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ التَّخَلُّلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا كَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ حَرَامٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ وَعَكْسِهِ فَلَهُ قَوْلَانِ .
وَقَالَ فِي الْفَرْقِ : مَا أُلْقِيَ فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهِ الْخَمْرَ ، وَالْمُتَنَجِّسُ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ لِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَدَلِيلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } " هُوَ يَتَنَاوَلُ الْمُخَلَّلَ وَالْمُتَخَلِّلَ لَا مَحَالَةَ ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحُ الْمُفْسِدِ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ التَّغَذِّي بِهِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَتَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَإِصْلَاحُ الْمُفْسِدِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالْمُنَازِعُ مُكَابِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُخَلَّلُ صَالِحٌ لِلْمَصَالِحِ ، وَالصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ مُبَاحٌ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالِاقْتِرَابُ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ .
وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ بَلْ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ إعْدَامُ الْفَسَادِ وَذَلِكَ بِالْإِرَاقَةِ جَائِزٌ فَبِالتَّخْلِيلِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الْمَآلِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَمَا بَعْدَهُ إلَّا الْمُكَابَرَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا وَلَكِنْ أَرَقُّهَا حِينَ سَأَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ تَخْلِيلِ خَمْرِ أَيْتَامٍ عِنْدَهُ } ، وَبِمَا رُوِيَ " { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ الْخَمْرُ خَلًّا } "

أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ التَّحْرِيمِ قَمْعًا لَهُمْ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَ الْخُمُورِ كَمَا حَرَّمَ الِانْتِبَاذَ فِي الْأَوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ تَصْرِيحِهِ ثَانِيًا بِأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحَرِّمُهُ .
وَيُوَضِّحُهُ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الزِّقَاقِ } " وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّخَاذِ الِاسْتِعْمَالُ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الدَّوَابِّ كَرَاسِيَّ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِعْمَالُ { وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَتُطِيعُونَهُمْ ؟ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ : هُوَ ذَاكَ } " فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَاوِيَ بِهِ جُرْحًا أَوْ دَبْرَةَ دَابَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا وَلَا أَنْ يَسْقِيَ صَبِيًّا لِلتَّدَاوِي ، وَالْوَبَالُ عَلَى مَنْ سَقَاهُ ، وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ وَقِيلَ : لَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَيْهَا ، أَمَّا إذَا قُيِّدَتْ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ وَلَوْ أُلْقِيَ الدُّرْدِيُّ فِي الْخَلِّ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ لَا عَكْسُهُ لِمَا قُلْنَا .دُرْدِيُّ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا : مَا يَبْقَى فِي أَسْفَلِهِ ، وَمَعْنَاهُ يَحْرُمُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الِامْتِشَاطَ لِأَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي تَحْسِينِ الشَّعْرِ .
وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى التَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ

قَالَ ( وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ ) أَيْ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ ( إنْ لَمْ يَسْكَرْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ وَلَنَا أَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ النَّبْوَةِ عَنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا بِالسُّكْرِ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الثُّفْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ بِالِامْتِزَاجِ( وَلَا يُحَدُّ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ إنْ لَمْ يَسْكَرْ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ : لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَنَا إلَخْ وَاضِحٌ

( وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ وَإِقْطَارُهَا فِي الْإِحْلِيلِ ) ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِعَدَمِ الشُّرْبِ وَهُوَ السَّبَبُ ، وَلَوْ جُعِلَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ لَا تُؤْكَلُ لِتَنَجُّسِهَا بِهَا وَلَا حَدَّ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّبْخُ وَيُكْرَهُ أَكْلُ خُبْزٍ عُجِنَ عَجِينُهُ بِالْخَمْرِ لِقِيَامِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ .

( فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ ) : وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ذَهَبَ بِغَلَيَانِهِ بِالنَّارِ وَقَذَفَهُ بِالزَّبَدِ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَيُعْتَبَرُ ذَهَابُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ لِيَحِلَّ الثُّلُثُ الْبَاقِي ، بَيَانُهُ عَشَرَةُ دَوَارِقَ مِنْ عَصِيرٍ طُبِخَ فَذَهَبَ دَوْرَقٌ بِالزَّبَدِ يُطْبَخُ الْبَاقِي حَتَّى يَذْهَبَ سِتَّةُ دَوَارِقَ وَيَبْقَى الثُّلُثُ فَيَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ أَوْ مَا يُمَازِجُهُ ، وَأَيًّا مَا كَانَ جُعِلَ كَأَنَّ الْعَصِيرَ تِسْعَةُ دَوَارِقَ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةً وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَبْلَ الطَّبْخِ ثُمَّ طُبِخَ بِمَائِهِ ، إنْ كَانَ الْمَاءُ أَسْرَعَ ذَهَابًا لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ يُطْبَخُ الْبَاقِي بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِقْدَارُ مَا صُبَّ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَاءُ وَالثَّانِي الْعَصِيرُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَهَابِ ثُلُثَيْ الْعَصِيرِ ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ مَعًا تُغْلَى الْجُمْلَةُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ فَيَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ الثُّلُثَانِ مَاءً وَعَصِيرًا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي مَاءٌ وَعَصِيرٌ فَصَارَ كَمَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ فِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِنْ الْعَصِيرِ بِالْغَلْيِ ثُلُثَاهُ بَيَانُهُ عَشَرَةُ دَوَارِقَ مِنْ عَصِيرٍ وَعِشْرُونَ دَوْرَقًا مِنْ مَاءٍ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى تُسْعُ الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثُ الْعَصِيرِ ؛ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ لِمَا قُلْنَا ، وَالْغَلْيُ بِدَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُحَرَّمًا وَلَوْ قُطِعَ عَنْهُ النَّارُ فَغَلَى حَتَّى ذَهَبَ الثُّلُثَانِ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ النَّارِ وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا طُبِخَ فَذَهَبَ بَعْضُهُ ثُمَّ أُهْرِيقَ بَعْضُهُ كَمْ تُطْبَخُ الْبَقِيَّةُ حَتَّى يَذْهَبَ الثُّلُثَانِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ فَتَضْرِبَهُ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْمُنْصَبِّ ثُمَّ تَقْسِمَهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَهَابِ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ

يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَمَا يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ فَهُوَ حَلَالٌ بَيَانُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالِ عَصِيرٍ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ رِطْلٌ ثُمَّ أُهْرِيقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ كُلَّهُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُنْصَبِّ هُوَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ عِشْرِينَ ثُمَّ تَقْسِمُ الْعِشْرِينَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَتُسْعَانِ ، فَعَرَفْت أَنَّ الْحَلَالَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ وَتُسْعَانِ ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ وَلَهَا طَرِيقٌ آخَرُ ، وَفِيمَا اكْتَفَيْنَا بِهِ كِفَايَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى تَخْرِيجِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ

( فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ ) لَمَّا كَانَ طَبْخُ الْعَصِيرِ مِنْ أَسْبَابِ مَنْعِهِ عَنْ التَّخَمُّرِ أَلْحَقَهُ بِالْأَشْرِبَةِ تَعْلِيمًا لِإِبْقَاءِ مَا هُوَ حَلَالٌ عَلَى حِلِّهِ .
الدَّوْرَقُ : مِكْيَالٌ لِلشَّرَابِ وَهُوَ عَجَمِيٌّ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ يَذْهَبَانِ مَعًا تُغْلَى الْجُمْلَةُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلِمَ أَنَّ الْعَصِيرَ عَلَى نَوْعَيْنِ : مِنْهُ مَا لَوْ صُبَّ فِيهِ الْمَاءُ وَطُبِخَ يَذْهَبُ الْمَاءُ أَوَّلًا ، وَمِنْهُ إذَا صُبَّ فِيهِ الْمَاءُ يَذْهَبَانِ مَعًا .
فَفَصَّلَ الْجَوَابَ فِيهِ تَفْصِيلًا .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَاءَ مَتَى مَا كَانَ أَسْرَعَ ذَهَابًا فَإِنَّهُ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ الْعَصِيرِ ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ مَعًا فَإِنَّهُ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ الْكُلِّ .
وَقَوْلُهُ ( فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي مَا يَذْهَبُ فِيهِ الْمَاءُ أَوَّلًا .
وَقَوْلُهُ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى تُسْعُ الْجُمْلَةِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَصِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، لِأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَجْعَلَ عَشَرَةَ دَوَارِقَ عَصِيرٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِحَاجَتِك إلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ الْمَاءُ سِتَّةً وَالْعَصِيرُ ثَلَاثَةً وَالْكُلُّ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ ، فَإِذَا ذَهَبَ الْمَاءُ أَوَّلًا فَقَدْ ذَهَبَ سِتَّةٌ مِنْ تِسْعَةٍ ، وَمَا ذَهَبَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ مَا بَقِيَ الْعَصِيرُ لَا غَيْرُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ مَرَّةً سِتَّةٌ وَمَرَّةً اثْنَانِ فَقَدْ ذَهَبَ ثَمَانِيَةٌ وَبَقِيَ وَاحِدٌ وَهُوَ تُسْعُ الْكُلِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ) يَعْنِي الَّذِي يَذْهَبُ الْمَاءُ وَالْعَصِيرُ مَعًا ( يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ عِشْرُونَ وَيَبْقَى عَشَرَةٌ ) لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالْغَلَيَانِ ثُلُثَا الْعَصِيرِ وَثُلُثَا الْمَاءِ وَالْبَاقِي ثُلُثُ الْعَصِيرِ وَثُلُثُ الْمَاءِ ، فَهِيَ وَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ فِي الْعَصِيرِ بَعْدَ مَا صَارَ مُثَلَّثًا سَوَاءً .
وَقَوْلُهُ ( يَحِلُّ ) لِأَنَّهُ

أَثَرُ النَّارِ .
مِثَالُهُ لَوْ طُبِخَ عَصِيرٌ حَتَّى ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ وَبَقِيَ خُمُسَاهُ ثُمَّ قُطِعَ عَنْهُ النَّارُ فَلَمْ يَبْرُدْ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ صَارَ مُثَلَّثًا بِقُوَّةِ النَّارِ ، فَإِنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْ الْحَرَارَةِ بَعْدَمَا قَطَعَ عَنْهُ أَثَرَ تِلْكَ النَّارِ فَهُوَ وَمَا لَوْ صَارَ مُثَلَّثًا وَالنَّارُ تَحْتَهُ سَوَاءٌ ، هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُثَلَّثًا ثُمَّ غُلِيَ وَاشْتَدَّ حَتَّى ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْغَلَيَانَ بَعْدَمَا انْقَطَعَ عَنْهُ أَثَرُ النَّارِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الشِّدَّةِ وَحِينَ اشْتَدَّ صَارَ مُحَرَّمًا .
وَقَوْلُهُ ( بَيَانُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالِ عَصِيرٍ ، إلَى قَوْلِهِ : فَعَرَفْت أَنَّ الْحَلَالَ مَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ وَتُسْعَانِ ) وَهَذَا لِأَنَّ الرِّطْلَ الذَّاهِبَ بِالطَّبْخِ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ ، وَكَانَ الْبَاقِي إنْ لَمْ يُنَصَّبْ مِنْهُ شَيْءٌ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ رِطْلٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى رِطْلٍ وَتُسْعِ رِطْلٍ ، لِأَنَّ الرِّطْلَ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ يُقْسَمُ عَلَى مَا بَقِيَ اتِّسَاعًا ، فَإِذَا انْصَبَّ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ فَهَذَا فِي الْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ وَثَلَاثَةُ أَتْسَاعِ رِطْلٍ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ سِتَّةَ أَرْطَالٍ وَسِتَّةَ أَتْسَاعِ رِطْلٍ فَيَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ الثُّلُثُ وَهُوَ رِطْلَانِ وَتُسْعَا رِطْلٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهَا طَرِيقٌ آخَرُ ) قِيلَ هُوَ أَنْ يُجْعَلَ الذَّاهِبُ بِالْغَلَيَانِ مِنْ الْحَرَامِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُطْبَخُ لِيَذْهَبَ الْحَرَامُ وَيَبْقَى الْحَلَالُ ، فَثُلُثَا عَشَرَةِ أَرْطَالٍ حَرَامٌ وَهُوَ سِتَّةُ أَرْطَالٍ ، وَثُلُثَا رِطْلٍ وَثُلُثُهُ حَلَالٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ ، وَالذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ ذَاهِبٌ مِنْ الْحَرَامِ ، وَالْبَاقِي تِسْعَةُ أَرْطَالٍ وَالْحَلَالُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ ، وَالْحَرَامُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثَا رِطْلٍ ، فَإِذَا أُرِيقَ ثُلُثُهُ فَهُوَ مِنْ الْحَلَالِ

وَالْحَرَامِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِلذَّاهِبِ عَيْنًا بِالْحَلَالِ أَوْ بِالْحَرَامِ وَكَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ، فَذَهَبَ مِنْ الْحَلَالِ ثُلُثُهُ وَهُوَ رِطْلٌ وَتُسْعٌ فَيَبْقَى ثُلُثَاهُ رِطْلَانِ وَتُسْعَا رِطْلٍ .
وَلَوْ رُمْت زِيَادَةَ الِانْكِشَافِ فَاجْعَلْ كُلَّ رِطْلٍ تُسْعًا لِاحْتِيَاجِك إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَلِثُلُثِهِ ثُلُثٌ وَهُوَ تِسْعَةٌ فَصَارَتْ أَرْطَالُ الْحَلَالِ ثَلَاثِينَ سَهْمًا وَقَدْ أُرِيقَ ثُلُثُهُ وَهُوَ عَشَرَةٌ فَيَبْقَى عِشْرُونَ وَهُوَ رِطْلَانِ وَتُسْعَا رِطْلٍ

( كِتَابُ الصَّيْدِ ) : قَالَ : الصَّيْدُ الِاصْطِيَادُ ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصَادُ ، وَالْفِعْلُ مُبَاحٌ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَك كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك } وَعَلَى إبَاحَتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاءُ الْمُكَلَّفِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ إقَامَةِ التَّكَالِيفِ فَكَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِطَابِ ثُمَّ جُمْلَةُ مَا يَحْوِيهِ الْكِتَابُ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا فِي الصَّيْدِ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّانِي فِي الِاصْطِيَادِ بِالرَّمْيِ .

( كِتَابُ الصَّيْدِ ) : مُنَاسَبَةُ كِتَابِ الصَّيْدِ لِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ مِمَّا يُورِثُ السُّرُورَ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْأَشْرِبَةَ لِحُرْمَتِهَا اعْتِنَاءً بِالِاحْتِرَازِ عَنْهَا وَمَحَاسِنُهُ مَحَاسِنُ الْمَكَاسِبِ .
وَسَبَبُهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الصَّائِدِ ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، وَقَدْ يَكُونُ إظْهَارَ الْجَلَادَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْفَرَحُ .
وَالصَّيْدُ مَصْدَرٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ ، وَهُوَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ ، لِأَنَّ الصَّائِدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِمَّا إنْ اصْطَادَ فِي الْحَرَم أَوْ لَا ؛ فَإِنْ اصْطَادَ فِيهِ فَكَذَلِكَ ، وَإِلَّا فَهُوَ حَلَالٌ إذَا وُجِدَ خَمْسَةَ عَشَرَ شَرْطًا : خَمْسَةٌ فِي الصَّائِدِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ ، وَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الْإِرْسَالُ ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْإِرْسَالِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا ، وَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ بِعَمَلٍ آخَرَ ، وَخَمْسَةٌ فِي الْكَلْبِ : أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا وَأَنْ يَذْهَبَ عَلَى سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ ، وَأَنْ يَقْتُلَهُ جَرْحًا ، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ .
وَخَمْسَةٌ فِي الصَّيْدِ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْحَشَرَاتِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنَاتِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكَ وَأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ بِجَنَاحَيْهِ أَيْ قَوَائِمِهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَوِّيًا بِأَنْيَابِهِ أَوْ بِمِخْلَبِهِ وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَبْحِهِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ مَنْسُوبًا إلَى الْخُلَاصَةِ وَفِيهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ لَا غَيْرُ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى بَعْضُهُ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ لَكِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا فَذَبَحَهُ وَكَذَا إذَا لَمْ يَمُتْ بِهَذَا لَكِنَّهُ ذَبَحَهُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ ، وَهُوَ حَلَالٌ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47