كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

جَمِيعًا وَجَبَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ أَلْفٌ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ لَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ فِيهَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَسْمِيَةِ الْأَلْفِ وَخَمْسُمِائَةٍ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ يُخَيَّرُ فِيهَا الزَّوْجُ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَإِنْ أَقَامَا يُقْضَى بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ؛ أَلْفٍ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ وَخَمْسِمِائَةٍ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ بَطَلَتَا لِمَكَانِ التَّعَارُضِ ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمَرْأَةِ أَوْلَى لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيمَا إذَا تَحَالَفَا فَقَالَ ثُمَّ إذَا تَحَالَفَا يُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَبْيَنُهُمَا إنْكَارًا وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَالْبَيِّنَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلْإِثْبَاتِ ( هَذَا تَخْرِيجُ الرَّازِيِّ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : يَتَحَالَفَانِ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ شَاهِدًا لَهُ أَوْ شَاهِدًا لَهَا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ التَّسْمِيَةِ ، وَالتَّسْمِيَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِذَا حَلَفَا تَعَذَّرَ التَّسْمِيَةُ فَيُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ .
قِيلَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ أَصَحُّ لِأَنَّ تَحْكِيمَ الْمَهْرِ لَيْسَ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الدَّعَاوَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ ( وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى ) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّسْمِيَةَ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يُنْكِرُ التَّسْمِيَةَ ( وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ ) الْمُرَكَّبِ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّحْكِيمِ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْمُسَمَّى

لِعَدَمِ ثُبُوتِ التَّسْمِيَةِ لِلِاخْتِلَافِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا .
( وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا ) بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ ( فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَيَاتِهِمَا ) فِي الْأَصْلِ ، وَالْمِقْدَارُ فِي الْأَصْلِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمُتْعَةُ قَبْلَهُ ، وَفِي الْمِقْدَارِ عِنْدَهُمَا يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَلَا تَرَى إلَى مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَوْ وَرَثَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ ( وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَسْتَثْنِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ) بِحُكْمِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّهُ تَرَكَهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا نَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَهُ لَا يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ ) إشَارَةً إلَى دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهُ مَهْرًا فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) مَعْنَاهُ الْمُسَمَّى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّ الْمُسَمَّى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ فَيُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَاتَتْ أَوَّلًا فَيَسْقُطُ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالْمُسَمَّى فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَوْتَهُمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِرَاضِ أَقْرَانِهِمَا فَبِمَهْرِ مَنْ يُقَدِّرُ الْقَاضِي مَهْرُ الْمِثْلِ

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعْنَاهُ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ ( الْمُسَمَّى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ مَا إذَا سَمَّى ( وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ) وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَمَّى ( فَلِأَنَّ الْمُسَمَّى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ) إمَّا بِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالتَّصَادُقِ ( وَقَدْ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ فَيُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ ) إذَا عُلِمَ أَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا أَوْ عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا ، وَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَاتَتْ أَوَّلًا فَيَسْقُطُ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ ( وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالْمُسَمَّى فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا ) وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ لَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ ( إنَّ مَوْتَهُمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِرَاضِ أَقْرَانِهِمَا فَبِمَهْرِ مَنْ يُقَدِّرُ الْقَاضِي مَهْرَ الْمِثْلِ ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي صُورَةِ التَّقَادُمِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى وَرَثَةُ عَلِيٍّ عَلَى وَرَثَةِ عُمَرَ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ أَكُنْت أَقْضِي فِيهِ بِشَيْءٍ ؟ وَهَذَا لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ وَانْقَرَضَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْوُقُوفُ عَلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا بِأَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ مَهْرُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ يُقْضَى بِمَهْرِ مِثْلِهَا .
وَلِلْمَشَايِخِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قِيمَةُ الْبُضْعِ يُشْبِهُ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ

بِمَالٍ يُشْبِهُ الصِّلَةَ كَالنَّفَقَةِ ؛ فَبِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْقُطْ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَبِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ الثَّانِي يَسْقُطُ فَيَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّ الْمُسْقِطَ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ .

( وَمَنْ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا فَقَالَتْ هُوَ هَدِيَّةٌ وَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ ، كَيْفَ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَسْعَى فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ .
قَالَ ( إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَارَفُ هَدِيَّةً ، فَأَمَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَقِيلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِمَارِ وَالدِّرْعِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَهُ مِنْ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ وَالْمَتَاعُ قَائِمٌ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرُدَّ وَتَرْجِعَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَمْ تَرْجِعْ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَسْعَى فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ إذَا بَعَثَ الْخُفَّ وَالْمُلَاءَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَهُ مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَغَيْرِهِمَا ) قِيلَ كَمَتَاعِ الْبَيْتِ .

( وَإِذَا تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ فَدَخَلَ بِهَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيَّانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا فِي الْحَرْبِيَّيْنِ .
وَأَمَّا فِي الذِّمِّيَّةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ أَيْضًا .
لَهُ أَنَّ الشَّرْعَ مَا شَرَعَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ ، وَهَذَا الشَّرْعُ وَقَعَ عَامًّا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ .
وَلَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ لِتَبَايُنِ الدَّارِ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالرِّبَا وَالزِّنَا ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُتَحَقِّقَةٌ لِاتِّحَادِ الدَّارِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا فِي الدِّيَانَاتِ وَفِيمَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَبِالْمُحَاجَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الذِّمَّةِ ، فَإِنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ ، بِخِلَافِ الزِّنَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ، وَالرِّبَا مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ } وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمَهْرِ وَيَحْتَمِلُ السُّكُوتَ .
وَقَدْ قِيلَ : فِي الْمَيْتَةِ وَالسُّكُوتِ رِوَايَتَانِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ .

( فَصْلٌ ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَهْم الْأُصُولُ فِي الشَّرَائِعِ ذَكَرَ مَنْ هُوَ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ( وَإِذَا تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً ) قِيلَ الْمُرَادُ بِهِمَا الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِلَفْظِ الذِّمِّيِّ .
وَأَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَهُ لِيَتَنَاوَلَ الْمُسْتَأْمَنَ أَيْضًا ( وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ ) أَيْ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ فِي دِينِهِمْ ( جَائِزٌ ) وَالْوَاوُ لِلْحَالِ ( فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ ) وَإِنْ أَسْلَمَا ( وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيَّانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي الذِّمِّيَّيْنِ وَالْحَرْبِيَّيْنِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَوَافَقَاهُ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ .
وَأَمَّا فِي الذِّمِّيَّةِ ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ وَخَالَفَهُ زُفَرُ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ أَيْضًا ، وَقَالَ ( الشَّرْعُ مَا شَرَعَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } ( وَهَذَا الشَّرْعُ وَقَعَ عَامًّا ) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ ( فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ ) وَحَاصِلُ كَلَامِهِ الْمَشْرُوعِ فِي بَابِ النِّكَاحِ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُهُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَقَالَا : أَهْلُ الْحَرْبِ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا يَكُونُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالْإِلْزَامِ وَلَا إلْزَامَ إلَّا بِالْوِلَايَةِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ الْوِلَايَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ( بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ ) لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ فَكَانَ كَالزِّنَا وَالرِّبَا فَإِنَّهُمْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ وَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا

أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا لَكِنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ مُتَحَقِّقَةٌ لِاتِّحَادِ الدَّارِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا ) فِي الدِّيَانَاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ( وَفِيمَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ ) أَيْضًا كَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ( وَوِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَالْمُحَاجَّةِ ) وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ لِانْقِطَاعِهَا عَنْهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ( فَإِنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ ) فِي عَدَمِ الِالْتِزَامِ وَانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الزِّنَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَالزِّنَا وَالرِّبَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَلَمْ يَكُنْ دِينَهُمْ حَتَّى يُتْرَكُوا عَلَيْهِ ( وَالرِّبَا مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ } " ) أَلَا حَرْفُ تَنْبِيهٍ لَا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ كَذَا السَّمَاعُ ، وَالنُّسَخُ ( وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَيْتَةِ وَالسُّكُوتِ رِوَايَتَانِ ) يَعْنِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا قَالَا ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالسُّكُوتِ وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْعَرَضِ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ التَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ يَكُونُ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا لَهَا ، وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَانَ التَّزَوُّجُ عَلَيْهَا كَالنَّفْيِ وَهُوَ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ أَحَدًا لَمَّا لَمْ يَتَدَيَّنْ بِتَقَوُّمِهَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } " فَيَجِبُ حُكْمُ الشَّرْعِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ ) عِنْدَهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ .

( فَإِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَا بِأَعْيَانِهِمَا وَالْإِسْلَامُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهَا الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَيَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَالْعَقْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا .
وَإِذَا الْتَحَقَتْ حَالَةُ الْقَبْضِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا هَاهُنَا ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا عِنْدَهُمْ ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ التَّسْلِيمُ لِلْإِسْلَامِ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ ، كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ إلَى ضَمَانِهَا وَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ كَاسْتِرْدَادِ الْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ الْقَبْضُ يُوجِبُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَيَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالْقَبْضِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَكُونُ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَمْرُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْقِيمَةِ ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْخِنْزِيرِ دُونَ الْخَمْرِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، فَمَنْ أَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْجَبَ

الْمُتْعَةَ ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ أَوْجَبَ نِصْفَهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا كُلُّهُ ) أَيْ كُلُّ مَا ذُكِرَ وَهُوَ مَا كَانَا مُعَيَّنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهَا الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ) إنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فَمَا بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : فِيهِمَا بِالْقِيمَةِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ غَيْرُ قِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي أَنْ لَا يُوجِبَا عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ( أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ ) وَلِهَذَا يُنَصَّفُ الصَّدَاقُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ شَيْءٌ إلَّا بِالرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ ، وَإِذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالصَّدَاقُ عَبْدٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْمِلْكِ شَبِيهٌ بِالْعَقْدِ لِإِفَادَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ ( فَيَمْتَنِعُ ) الْقَبْضُ ( بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ ) كَمَا لَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ التَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلْحَاقًا لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِحَقِيقَتِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ( وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا ) لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ كَالْقَبْضِ فِيمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فِي إفَادَةِ مَا لَمْ يَكُنْ ، وَالْقَبْضُ فِيمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا يَمْنَعُ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهِمَا ، فَكَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَا بِأَعْيَانِهِمَا كَالْعَقْدِ ( وَإِذَا الْتَحَقَتْ حَالَةُ الْقَبْضِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ

فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ) وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ) وَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهَا وَكُلُّ مَا تَمَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ لِلتَّمَلُّكِ ( وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ إلَى ضَمَانِهَا وَذَلِكَ ) أَيْ الِانْتِقَالُ ( لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ كَاسْتِرْدَادِ الْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ ) وَأَمَّا فِي الصَّدَاقِ الْغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَالْعَقْدُ فِيهِ لَا يَتِمُّ بِهِ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَالْقَبْضُ يُوجِبُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَتَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ عَنْ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ إلَخْ : يَعْنِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ أَوْ الْخِنْزِيرَ أَوْ اشْتَرَى ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَبْضُ بَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يُسْتَفَادُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا قَبْلَهُ وَالْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ طَلَّقَهَا إلَخْ ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُعَيَّنِ لَهَا نِصْفُ الْعَيْنِ وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي الْخَمْرِ لَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ وَفِي الْخِنْزِيرِ لَهَا الْمُتْعَةُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَاجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالْوَاجِبُ الْمُتْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .

بَابُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ ) : ( لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُمَا ) وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ } وَلِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ نِكَاحِهِمَا تَعْيِيبَهُمَا إذْ النِّكَاحُ عَيْبٌ فِيهِمَا فَلَا يَمْلِكَانِهِ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا

بَابُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ نِكَاحِ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ شَرَعَ فِي بَيَانِ نِكَاحِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّقِيقُ ، وَالرَّقِيقُ الْمَمْلُوكُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ ( لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُمَا ) أَمَّا الْأَمَةُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِدُونِ إذْنِهِ ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ يَمْلِكُ النِّكَاحَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ .
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ سَبَبَهُ الْمُوصِلَ إلَيْهِ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ } " ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ( وَلِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ نِكَاحِهِمَا تَعْيِيبَهُمَا إذْ النِّكَاحُ عَيْبٌ فِيهِمَا ) وَلِهَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَظَهَرَ مُزَوَّجًا جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَيْسَ لَهُمَا تَعْيِيبُ أَنْفُسِهِمَا رِعَايَةً لِحَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَمْلِكَانِهِ بِدُونِ إذْنِهِ ) وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ جَوَابٌ لِمَالِكٍ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ الْعَيْبِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ إزَالَةِ الْعَيْبِ جَوَازُ تَعْيِيبِهِمَا أَنْفُسَهُمَا .
وَاسْتُشْكِلَ بِجَوَازِ إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّ وُجُوبَ قَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ وَوُجُوبَ الْقِصَاصِ عَيْبٌ فِيهِمَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَبِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ أَيْضًا أَقْوَى الْعُيُوبِ فَكَيْفَ جَازَ ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّقِيقَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ بَاقٍ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ، فَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيبٌ فَهُوَ ضِمْنِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ .

( وَكَذَا الْمُكَاتَبُ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْكَسْبِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ النِّكَاحِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ .
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لَا تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى وَتَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا ( وَ ) كَذَا ( الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ ) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا قَائِمٌ .وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْمُكَاتَبُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ .

( وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ ) لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِصُدُورِ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ كَمَا فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ .وَقَوْلُهُ ( فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ ) لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ فَيُضَمُّ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَتِهِ ) وَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِهِ يُبَاعُ فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وَتَقْرِيرُهُ : هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي الرَّقَبَةِ ، وَكُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ فِي الرَّقَبَةِ تُبَاعُ الرَّقَبَةُ فِيهِ .
إمَّا أَنَّهُ وَجَبَ فَلِتَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ وُجُودُ السَّبَبِ مِنْ أَهْلِهِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى لِصُدُورِ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِمَّا أَنَّهُ مُوجِبٌ فِي الرَّقَبَةِ فَلِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ كَمَا فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ فَتُبَاعُ الرَّقَبَةُ فِي الْمَهْرِ كَمَا تُبَاعُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( دَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ ) يَعْنِي النِّسَاءَ .

( وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ يَسْعَيَانِ فِي الْمَهْرِ وَلَا يُبَاعَانِ فِيهِ ) لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَيُؤَدَّى مِنْ كَسْبِهِمَا لَا مِنْ نَفْسِهِمَا .

( وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ الْمَوْلَى طَلِّقْهَا أَوْ فَارْقِهَا فَلَيْسَ هَذَا بِإِجَازَةٍ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِأَنَّ رَدَّ هَذَا الْعَقْدِ وَمُتَارَكَتَهُ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً وَهُوَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْعَبْدِ الْمُتَمَرِّدِ أَوْ هُوَ أَدْنَى فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى ( وَإِنْ قَالَ : طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكْ الرَّجْعَةَ فَهُوَ إجَازَةٌ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَازَةُ .

وَقَوْلُهُ ( فَلَيْسَ هَذَا بِإِجَازَةٍ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ قَوْلَهُ طَلَّقَهَا أَوْ فَارَقَهَا ( يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِأَنَّ رَدَّ هَذَا الْعَقْدِ وَمُتَارَكَتَهُ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ : طَلَّقْتُك كَانَ مُتَارَكَةً ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ رَجَّحْنَا جِهَةَ الْمُتَارَكَةِ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْعَبْدِ الْمُتَمَرِّدِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ هُوَ ) أَيْ الرَّدُّ ( أَدْنَى ) لِأَنَّهُ دَفْعٌ ، وَالطَّلَاقَ رَفْعٌ ، وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ ( فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى ) .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ طَلَّقَهَا حَقِيقَةٌ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ الْمَعْرُوفِ وَمَجَازٌ فِي الْمُتَارَكَةِ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مُمْكِنٌ فَكَيْفَ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهَذَا كَذَلِكَ ، وَهِيَ الِافْتِيَاتُ عَلَى رَأْيِ الْمَوْلَى ( وَإِنْ قَالَ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً ) رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَةً ( تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَهَذَا إجَازَةٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَازَةُ ) فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ كَفِّرْ يَمِينَك بِالْمَالِ أَوْ تَزَوَّجْ أَرْبَعًا مِنْ النِّسَاءِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ ، وَتَزَوُّجُ الْأَرْبَعِ مِنْ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا كَانَ أَصْلًا فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَثْبُتُ اقْتِضَاءً كَالْإِيمَانِ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالشَّرَائِعِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ وَفِي إثْبَاتِ الْإِعْتَاقِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لَهُ .

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عَتَقَ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الْفَاسِدَ وَالْجَائِزَ عِنْدَهُ ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ لَا غَيْرُ فَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ، لَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْإِعْفَافُ وَالتَّحْصِينُ وَذَلِكَ بِالْجَائِزِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ حَاصِلٌ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ .
وَلَهُ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَبَعْضُ الْمَقَاصِدِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَاصِلٌ كَالنَّسَبِ ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ الْوَطْءِ ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرَانِ ، وَتَقْيِيدُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْأَمَةِ اتِّفَاقِيٌّ .
فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ وَفِي غَيْرِ الْإِمَاءِ كَذَلِكَ ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَهُ وَلَا يُبَاعُ عِنْدَهُمَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بِوَصْفِ الصِّحَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِانْتِهَاءِ الْإِذْنِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا .
وَوَجْهُهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْمُسْتَقْبَلِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي الْمَاضِي وَكَانَ تَزَوَّجَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي الْبَيْعِ ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْجَائِزَ وَالْفَاسِدَ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ) يُرِيدُ طَرِيقَةَ إجْرَاءِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَلَئِنْ كَانَ قَوْلُ الْكُلِّ فَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ عَلَى الْعُرْفِ

( وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ ، وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِي مَهْرِهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى مِلْكُهُ الرَّقَبَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَالنِّكَاحُ لَا يُلَاقِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْإِبْطَالِ مَقْصُودًا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا صَحَّ النِّكَاحُ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدّ لَهُ فَشَابَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَيُمْهِرُ مِثْلَهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ .( وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ ، وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ ) إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِمَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ ( وَوَجْهُهُ ) وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ مَوْجُودٌ وَهُوَ وِلَايَةُ الْمَوْلَى لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَانِعَ وَهُوَ مُلَاقَاةُ النِّكَاحِ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مَقْصُودًا بِالْإِبْطَالِ مُنْتَفٍ .
وَإِذَا تَحَقَّقَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى الْمَانِعُ ثَبَتَ الْحُكْمُ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا قَالَ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْمَانِعِيَّةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ضِمْنِيًّا فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ النِّكَاحِ بِالْآدَمِيَّةِ ، وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ لَا يُلَاقِيهَا ، لَكِنْ إذَا صَحَّ النِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْمَوْلَى تَحْصِينًا لِمِلْكِهِ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدَّ لَهُ لِعَدَمِ انْفِكَاكِ النِّكَاحِ عَنْ ثُبُوتِ الْمَالِ فَكَانَ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ ( وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَبِمَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ ) وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَا تُسَاوِيهِمْ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى اسْتِيفَائِهِمْ حَقَّهُمْ كَدَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ .

( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى ، وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ مَتَى ظَفِرْت بِهَا وَطِئَتْهَا ) لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الِاسْتِخْدَامِ بَاقٍ وَالتَّبْوِئَةُ إبْطَالٌ لَهُ ( فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى وَإِلَّا فَلَا ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُقَابِلُ الِاحْتِبَاسَ ، وَلَوْ بَوَّأَهَا بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّبْوِئَةِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّكَاحِ .

قَالَ ( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ) بَوَّأْت لِلرَّجُلِ مَنْزِلًا وَبَوَّأْته مَنْزِلًا : أَيْ هَيَّأْته وَمَكَّنْت لَهُ فِيهِ .
وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ( فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا ) أَيْ يُهَيِّئَ لَهَا بَيْتًا لِلزَّوْجِ يَبِيتُ إلَيْهَا ( لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ مَتَى ظَفِرْتَ بِهَا وَطِئْتَهَا ) وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ سِوَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ ، وَحَقَّ الزَّوْجِ إنَّمَا هُوَ فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُ إبْطَالُ الْكَثِيرِ لِلْقَلِيلِ مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ الْكَثِيرِ فَلَهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا وَأَنْ لَا يُبَوِّئَهَا وَأَنْ يَسْتَخْدِمَهَا بَعْدَ التَّبْوِئَةِ ، لَكِنَّهُ يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُقَابِلُ الِاحْتِبَاسَ ) .
فَإِنْ قِيلَ : انْتِفَاءُ الِاحْتِبَاسِ إنَّمَا هُوَ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمَوْلَى فِي الِاسْتِخْدَامِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَالْحُرَّةِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَنْهُ لِاسْتِيفَاءِ الصَّدَاقِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحُرَّةَ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِذَلِكَ فَالتَّفْوِيتُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِامْتِنَاعِ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَلْ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْمَوْلَى ، فَكَانَتْ كَالْمَحْبُوسَةِ بِالدَّيْنِ لَا نَفَقَةَ لَهَا ، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهَا وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ .

قَالَ ( ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا ) وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إجْبَارَ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَالْعَبْدُ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ إنْكَاحَهُ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ مَنَافِعَ بُضْعِهَا فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا .
وَلَنَا لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إصْلَاحُ مِلْكِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِينَهُ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ فَيَمْلِكُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَمَةِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُمَا الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ تَصَرُّفًا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا .

قَوْلُهُ ( ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى ) يَعْنِي ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى ( عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ النِّكَاحَ بِدُونِ رِضَاهُمَا نَفَذَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِينَهُ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حُدَّ رُبَّمَا يَقَعُ الْحَدُّ مُهْلِكًا أَوْ جَارِحًا ؛ فَفِي الْأَوَّلِ هَلَاكُ مَالِهِ ، وَفِي الثَّانِي نُقْصَانُهُ ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ حُدَّ فِي الزِّنَا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ فَيَمْلِكَ الْإِنْكَاحَ جَبْرًا اعْتِبَارًا بِالْأَمَةِ ، وَالْجَامِعُ قِيَامُ سَبَبِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَتَحْصِينُ مِلْكِهِ عَنْ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ ، وَلَيْسَ الْمَنَاطُ فِي جَوَازِ إنْكَاحِ الْأَمَةِ جَبْرًا تَمَلُّكَ مَنَافِعِ بُضْعِهَا لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ مَعَ الْإِجْبَارِ وَلَا يَنْعَكِسُ ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَزْوِيجِهَا ، وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الصَّغِيرَةِ وَلَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِهِ فَاسِدًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْإِجْبَارُ بِاعْتِبَارِ تَحْسِينِ الْمِلْكِ لَجَازَ فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَلَمْ يَجُزْ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ ) فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمَّا كَانَ فِيهِمَا نَاقِصًا بِوَاسِطَةِ تَمْلِيكِهِمَا الْيَدَ ( الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ تَصَرُّفًا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا ) وَهَاهُنَا فَرْعٌ لَطِيفٌ .
وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ الصَّغِيرَةَ تَوَقَّفَ النِّكَاحُ عَلَى إجَازَتِهَا لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْبَالِغَةِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْكِتَابَةِ ثُمَّ إنَّهَا لَوْ لَمْ تَرُدَّ حَتَّى أَدَّتْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى لَا عَلَى إجَازَتِهَا لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ تَبْقَ مُكَاتَبَةً وَهِيَ صَغِيرَةٌ

وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهَذِهِ مِنْ أَلْطَفِ الْمَسَائِلِ وَأَعْجَبِهَا ، حَيْثُ اعْتَبَرَ إجَازَةَ الْمُكَاتَبَةِ فِي حَالِ رِقِّهَا ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِي حَالَةِ الْعِتْقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ

قَالَ ( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا ) اعْتِبَارًا بِمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ : وَلَهُ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ ، وَالْقَتْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا جُعِلَ إتْلَافًا حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ فَكَذَا فِي حَقِّ الْمَهْرِ .( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ) فَمَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، فَإِنْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا فَعَلَى الزَّوْجِ الْمَهْرُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ قَتَلَهَا مَوْلَاهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى ، قَالَا : الْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ ( وَلَهُ أَنَّ الْمَوْلَى مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ ) تُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ عِنْدَ عَدَمِ تَسْلِيمِهَا الْمُبْدَلَ ، وَفِي قَوْلِهِ يُجَازَى إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ الصَّغِيرَةُ إذَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّ زَوْجِهَا أَوْ الْمَجْنُونَةُ إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ مُنِعَتَا الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ حَيْثُ بَانَتَا مِنْهُ وَلَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ .
وَنُوقِضَ بِالصَّغِيرَةِ الْعَاقِلَةِ إذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ تُجَازَى بِسُقُوطِ الْمَهْرِ فَلَمْ يُنَافِ الصِّغَرُ الْمُجَازَاةَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ مُجَازَاةِ الصَّغِيرَةِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَفْعَالٍ غَيْرِ مَحْظُورَةٍ ، وَالرِّدَّةُ مَحْظُورَةٌ إذَا كَانَتْ عَاقِلَةً بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُحْرَمُ الْمِيرَاثَ بِسَبَبِهَا وَتُسْتَتَابُ بِالْحَبْسِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقَتْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَقْتُولٌ بِأَجَلِهِ .

( وَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَهَا الْمَهْرُ ) خِلَافًا لِزُفَرَ ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالرِّدَّةِ وَبِقَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَشَابَهَ مَوْتَهَا حَتْفَ أَنْفِهَا ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ .
.( فَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالرِّدَّةِ وَقَتْلُ الْوَلِيِّ أَمَتَهُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْجَامِعِ ) أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهَا خَطَأً ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَوْلَى إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ .

قَالَ ( وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْعَزْلِ إلَيْهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا حَتَّى تَثْبُتَ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ ، وَفِي الْعَزْلِ تَنْقِيصُ حَقِّهَا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا كَمَا فِي الْحُرَّةِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهَا فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَزْلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْوَلَدِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْحُرَّةَ .قَالَ ( وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ .
وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْهُ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ مِيثَاقَ نَسَمَةٍ فَلَوْ أَلْقَيْتَهَا فِي صَخْرَةٍ تُخْلَقُ فِيهَا .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ .
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : عَزْلٌ عَنْ أَمَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَلَا إذْنَ فِيهِ إلَى أَحَدٍ .
وَعَزْلٌ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ وَالْإِذْنُ فِيهِ إلَيْهَا وَهَذَانِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَعَزْلٌ عَنْ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ .
وَفِي تَعَيُّنِ الْإِذْنِ اخْتِلَافٌ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ

( وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ { مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } فَالتَّعْلِيلُ بِمِلْكِ الْبُضْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُ الْفَصْلَيْنِ ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ الْمِلْكُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعِتْقِ فَيَمْلِكُ الزَّوْجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَتَمْلِكُ رَفْعَ أَصْلِ الْعَقْدِ دَفْعًا لِلزِّيَادَةِ ( وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ عَلَيْهَا بِرِضَاهَا وَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ ازْدِيَادُ الْمَلِكِ وَقَدْ وَجَدْنَاهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ عِدَّتَهَا قُرْءَانِ وَطَلَاقَهَا ثِنْتَانِ .

، ( وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ) أَوْ زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا ( ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ ) ، إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ " { أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تُعْتِقَ مَمْلُوكَيْنِ لَهَا مُتَنَاكِحَيْنِ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا بِالْبُدَاءَةِ بِالْغُلَامِ } " قَالَ : وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِيمَا إذَا كَانَ عَبْدًا لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْحُرِّ .
وَلَنَا ( { أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ بَرِيرَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَلَكْتِ بُضْعَك فَاخْتَارِي } " فَالتَّعْلِيلُ بِمِلْكِ الْبُضْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُ الْفَصْلَيْنِ ) الْحُرَّ وَالْعَبْدَ ، وَإِنَّمَا قَالَ : فَالتَّعْلِيلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ سَهَا فَسَجَدَ فَالشَّافِعِيُّ مَحْجُوجٌ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّ بَرِيرَةَ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا } " وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ } ، " فَأَنَّى يَكُونُ الشَّافِعِيُّ بِهِ مَحْجُوجًا ؟ قُلْت : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ : " { أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا حُرٌّ } " وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ تَرَكْنَاهُمَا وَصِرْنَا إلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ مَحْجُوجًا بِهِ ، وَقَدْ سَلَكْنَا مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ

الْمُثْبِتَ أَوْلَى مِنْ النَّافِي فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ الْمِلْكُ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَرُدَّ بِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ مُعْتَبَرَةٌ بِالرِّجَالِ فَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا الْمِلْكُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهَا مُعْتَبَرَةً بِالنِّسَاءِ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَيَلْزَمُ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ إذَا أُعْتِقَتْ وَإِنْ كَانَ حُرًّا ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَمْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْبُدَاءَةِ بِالْغُلَامِ لِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ ، فَإِنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُمَا مَعًا لَثَبَتَ الْخِيَارُ أَيْضًا عِنْدَهُ ، وَلَيْسَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْعَبْدِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الْبَقَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ إنْ أَعْسَرَ حَتَّى خَرَجَ عَنْ كَفَاءَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، ( وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ : يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ ) كَانَ لَهَا الْخِيَارُ ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا خِيَارَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي الْأَمَةِ لِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَسَلَامَةِ الْمَهْرِ لِمَوْلَاهَا وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهَا ، وَالنِّكَاحُ مَا نَفَذَ إلَّا بِرِضَاهَا ، وَدَلِيلُنَا فِيهِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ

( وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ ) لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَامْتِنَاعُ النُّفُوذِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ( وَلَا خِيَارَ لَهَا ) لِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْمِلْكِ ، كَمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ .، ( وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَا خِيَارَ لَهَا ) ، أَمَّا صِحَّةُ النِّكَاحِ فَلِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِصُدُورِ الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النُّفُوذِ كَانَ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ .
وَأَمَّا عَدَمُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْمِلْكِ ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْعَبْدِ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْأَمَةَ بِالذِّكْرِ لِيَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَأَتَّى فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَمَةِ لِتَفْرِيعِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْإِمَاءِ دُونَ الْعَبِيدِ .

( فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى ( وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا فَالْمَهْرُ لَهَا ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لَهَا .
وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْأَلْفُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ نَفَاذَ الْعَقْدِ بِالْعِتْقِ اسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ اتَّحَدَ بِاسْتِنَادِ النَّفَاذِ فَلَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا .

وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ) ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْمُسَمَّى أَلْفٌ وَمَهْرَ الْمِثْلِ مِائَةٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُسَمَّى وَإِنْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى إذَا كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا يُوَازِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِلْمَوْلَى وَمَا زَادَ لِلْمَرْأَةِ ، ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ الْبُضْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دُونَ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، وَالْبُضْعُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَكَانَ قِيمَتُهُ لَهُ لَا الزَّائِدُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِ ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ : ( وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْأَلْفُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْعَقْدِ بِالْعِتْقِ اسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى ) لِلْمَوْلَى إنْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْأَمَةِ إنْ أَعْتَقَهَا قَبْلَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَسْتَنِدُ الْجَوَازُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ وَالْمَانِعُ عَنْ الِاسْتِنَادِ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْمِلْكُ وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ بِالْعِتْقِ مُقْتَصِرًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمَةَ إذَا حَرُمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً عَلَى زَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَدَخَلَ بِهَا فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى لَا تَحِلُّ عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ هَذَا الدُّخُولِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْته قِيَاسٌ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ هُوَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرَانِ : مَهْرٌ بِالدُّخُولِ قَبْلَ نَفَاذِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَمَهْرٌ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْت مِنْ وُجُودِ الْمَانِعِ عَنْ الِاسْتِنَادِ ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا : يَلْزَمُهُ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى وَقْتَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ مَهْرٌ بِالدُّخُولِ لَوَجَبَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ، إذْ لَوْلَاهُ لَوَجَبَ الْحَدُّ فَكَانَ الْمَهْرُ وَاجِبًا بِالدُّخُولِ مُضَافًا إلَى الْعَقْدِ .
فَإِيجَابُ مَهْرٍ آخَرَ

بِالْعَقْدِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَهْرَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يُجْدِي ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِنَادِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَزُلْ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الِاسْتِحْسَانِ الْمِلْكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى ، فَمَتَى أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَقَدْ خَلَا هَذَا النِّكَاحُ عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ ، ثَبَتَ الْجَوَازُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ : وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ إلَخْ .
وَأُجِيبَ عَنْ عَدَمِ زَوَالِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بِأَنَّ امْتِنَاعَ حِلِّهَا عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ إنَّمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْمُتَلَاشِي ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مُتَلَاشٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَوْلُ بِالِاسْتِنَادِ يُنْتَقَضُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ : وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا فَالْمَهْرُ لَهَا ، وَلَوْ اسْتَنَدَ الْجَوَازُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ حَتَّى أَعْتَقَهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِنَادِ يَظْهَرُ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مُسْتَحِقُّهُ لَا فِيمَا يَخْتَلِفُ ، وَهَاهُنَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ زَمَانَ الثُّبُوتِ هُوَ الْأَمَةُ وَزَمَانَ الْعَقْدِ هُوَ الْمَوْلَى ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ زَمَانَ الثُّبُوتِ هُوَ الْأَمَةُ امْتَنَعَ اسْتِنَادُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ إلَى زَمَانِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَنَدَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ إلَى زَمَانِ الْعَقْدِ يَبْطُلُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ زَمَانَ الثُّبُوتِ فَيَبْطُلُ الِاسْتِنَادُ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ .

( وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ فَلَهُ تَمَلُّكُ جَارِيَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ دُونَهَا إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ ، فَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِالْقِيمَةِ وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيمَةٍ ، ثُمَّ هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الِاسْتِيلَاءِ شَرْطًا لَهُ إذْ الْمُصَحَّحُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْأَبِ فِيهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ يُلَاقِي مِلْكَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْمَهْرُ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ .
.

قَالَ : ( وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ ) وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ( فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا دُونَ الْمَهْرِ ) ، إنَّمَا قَالَ : ( وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ ) ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ الدَّعْوَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ ) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ } " وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ ( فَلَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ جَارِيَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ ) .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ صِيَانَةُ الْمَاءِ كَبَقَاءِ النَّفْسِ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الطَّعَامِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ دُونَهَا إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ ) وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى إعْطَاءِ الْجَارِيَةِ وَالِدَهُ لِلِاسْتِيلَادِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ ، ( فَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِالْقِيمَةِ ، وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ الْقِيمَةِ ) .
فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ كَمَا فِي الْمَمْلُوكَةِ أَوْ حَقَّ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( ثُمَّ هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ شَرْطًا لَهُ ، إذْ الْمُصَحَّحُ ) يَعْنِي الِاسْتِيلَادَ إمَّا ( حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْأَبِ فِيهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا عَلَّقَ الْوَلَدَ احْتَاجَ الْأَبُ إلَى صِيَانَتِهِ عَنْ الضَّيَاعِ وَذَلِكَ بِثُبُوتِ

النَّسَبِ ، وَلَا ثُبُوتَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ فَقَدَّمَ اقْتِضَاءَ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ ، وَإِذَا قُدِّمَ كَانَ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي مِلْكِهِ ( فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ ) فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ بِهَذَا الْوَطْءِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِلْكِ لَمَا سَقَطَ وَحُدَّ قَاذِفُهُ ، وَقَاسَاهُ بِالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ ، ( وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ ) يَعْنِي فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهَا : أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ شَرْطًا لَهُ ، وَعِنْدَهُ بَعْدَهُ حُكْمًا لَهُ .
وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اسْتِيلَادَ الْأَبِ جَارِيَةَ وَلَدِهِ صَحِيحٌ ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ وُقُوعُ الْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ ، حَتَّى لَوْ خَلَا عَنْهُ أَصْلًا لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي جَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ صِيَانَةً لِفِعْلِهِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَصِيَانَةً لِلْوَلَدِ عَنْ الرِّقِّ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ إذَا وَلَدَتْ فَادِّعَاءُ الْأَبِ يُثْبِتُ النَّسَبَ ، وَيَجِبُ الْعُقْرُ مَعَ قِيَامِ نَوْعِ مِلْكٍ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ سَابِقًا عَلَى الْوَطْءِ ، وَبِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ وَجَبَ الْعُقْرُ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ لَمَا وَجَبَ ، وَبِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ إنْسَانٌ لَا يُحَدُّ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ لَحُدَّ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّا نُقَدِّمُ الْمِلْكَ احْتِرَازًا عَنْ وُقُوعِ الِاسْتِيلَادِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ حُكْمًا ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَوْعٌ مِنْ الْمِلْكِ الْقَائِمِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِهِ .
وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ بِصِفَةِ التَّقَدُّمِ كَانَ لِصِيَانَةِ فِعْلِهِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَصِيَانَةِ الْوَلَدِ عَنْ الرِّقِّ ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ هُنَا .
وَعَنْ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ

تَقَدُّمَ الْمِلْكِ اجْتِهَادِيٌّ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ يَنْدَرِئُ بِهَا الْحَدُّ

قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الِابْنُ زَوَّجَهَا إيَّاهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَوَلَدُهَا حُرٌّ ) لِأَنَّهُ صَحَّ التَّزَوُّجُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِخُلُوِّهَا عَنْ مِلْكِ الْأَبِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الِابْنَ مَلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَهَا الْأَبُ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَذَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ لَوْ كَانَ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ ، فَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ صَارَ مَاؤُهُ مَصُونًا بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِالْتِزَامِهِ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهَا حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ .
.

( وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ زَوَّجَ جَارِيَتَهُ إيَّاهُ ) أَيْ أَبَاهُ ( فَوَلَدَتْ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّزْوِيجُ عِنْدَنَا ) ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ ، حَتَّى لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ عَالِمًا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي جَارِيَةٍ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهُ إيَّاهَا كَالْمَوْلَى إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ أَظْهَرُ ، أَلَا يَرَى أَنَّ اسْتِيلَادَهُ جَارِيَةَ الِابْنِ صَحِيحٌ ، وَاسْتِيلَادَ الْمَوْلَى أَمَةَ مُكَاتَبِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَلَنَا أَنَّ أَمَةَ الِابْنِ خَالِيَةٌ عَنْ مِلْكِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِدَلَالَةِ حِلِّ الْوَطْءِ وَنَفَاذِ الْعِتْقِ وَصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ ( فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَهَا الْأَبُ بِوَجْهٍ ) مِنْ الْوُجُوهِ ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الِابْنُ مَلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ ، ( وَكَذَا يَمْلِكُ ) الِابْنُ ( مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ لَوْ كَانَ فَدَلَّ انْتِفَاءُ مِلْكِهِ ) وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ عَالِمًا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ ، وَإِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ مِلْكِهِ صَحَّ النِّكَاحُ ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ صَارَ مَاؤُهُ مَصُونًا بِهِ ( فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِينِ ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، ( فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) وَقَالَ زُفَرُ : تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِفُجُورٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، فَإِذَا اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَاءَهُ صَارَ مَصُونًا بِالنِّكَاحِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ إتْيَانَهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِصِيَانَةِ الْمَاءِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَالَتْ لِمَوْلَاهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَسَدَ النِّكَاحُ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَفْسُدُ ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا ، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يُعْتِقَ الْمَأْمُورُ عَبْدَهُ عَنْهُ ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَلَمْ يَصِحَّ الطَّلَبُ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ إذْ الْمِلْكُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعِتْقِ عَنْهُ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ أَعْتِقْ طَلَبُ التَّمْلِيكِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْآمِرِ عَنْهُ ، وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت تَمْلِيكٌ مِنْهُ ثُمَّ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْآمِرِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِلتَّنَافِي بَيْن الْمِلْكَيْنِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ ) وَاضِحٌ إلَّا أَلْفَاظًا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا .
قَوْلُهُ : ( لِصِحَّةِ الْعِتْقِ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْآمِرِ .
وَقَوْلُهُ : ( أَعْتِقْ طَلَبَ التَّمْلِيكِ مِنْهُ ) تَقْدِيرُهُ أَعْتِقْ عَبْدَك الَّذِي هُوَ لَك فِي الْحَالِ عِنْدَ بَيْعِك لِي إيَّاهُ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عَنِّي ، فَيَكُونُ أَمْرًا بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْآمِرِ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ : أَعْتَقْت يَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ : بِعْته مِنْك وَأَعْتَقْته عَنْك .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَرَّحَ بِالْبَيْعِ لَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ إلَّا عَنْ الْمَأْمُورِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَكُونُ الْمُقْتَضِي أَقْوَى مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ صَرِيحًا ، كَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْأَمْرِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ : وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ النِّكَاحُ هَاهُنَا وَإِنْ ثَبَتَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَالثَّابِتُ بِهِ ضَرُورِيٌّ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعِتْقِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فَسَادِ النِّكَاحِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمِلْكَ هَاهُنَا كَمَا ثَبَتَ يَزُولُ حُكْمًا لِلْإِعْتَاقِ .
وَمِثْلُهُ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ لِمُوَكِّلِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَمَا ثَبَتَ زَالَ .
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ بِجَمِيعِ لَوَازِمِهِ وَفَسَادُ النِّكَاحِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الْمِلْكِ اللَّازِمِ لِلْعِتْقِ ، وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ .
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ ، لَكِنْ إنَّمَا لَا يَفْسُدُ بِهِ النِّكَاحُ

لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ عِنْدَ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ .

( وَلَوْ قَالَتْ أَعْتِقْهُ عَنِّي وَلَمْ تُسَمِّ مَالًا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ بِالنَّصِّ فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الْآمِرِ فِي الْقَبْضِ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِيَنُوبَ عَنْهُ .

وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ ) يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ ( يُقَدِّمُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ) أَيْ لِتَصَرُّفِ الْآمِرِ لِمَا أَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الْقَبُولِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ فَلَأَنْ يُمْكِنَ بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ أَوْلَى ، فَصَارَ ( كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ ) فَفَعَلَ سَقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا إذْ كَانَ الطَّلَبُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } ، " ( فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً ) ، وَقَوْلُهُ : إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ : أَحَدَهُمَا أَنْ يَسْقُطَ الْقَبْضُ كَمَا يَسْقُطُ الْقَبُولُ .
وَالثَّانِي أَنْ يُجْعَلَ الْقَبْضُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ : أَعْتَقْت هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْقَاطِ فَيُقَالُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ ، وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ سُقُوطِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ فَيَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ فِي ضِمْنِهِ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ) أَيْ مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِطْعَامِ ( الْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الْآمِرِ فِي الْقَبْضِ ) كَالْفَقِيرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ يَنُوبُ قَبْضُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ ، ( أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ لِلْمِلْكِ ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُطْلَبُ فِي التَّقْرِيرِ .

وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ زُفَرٌ : النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحُكَّامِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَمَا قَالَ زُفَرٌ .
لَهُ أَنَّ الْخِطَابَاتِ عَامَّةٌ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَلْزَمُهُمْ ، وَإِنَّمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا لَا تَقْرِيرًا ، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ .
وَلَهُمَا أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا ، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَقًّا لِلشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فَحَالَةُ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالشَّهَادَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ

( بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ ) : لَمَّا ذَكَرَ بَابَ نِكَاحِ الرَّقِيقِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَنْ هُوَ أَدْوَنُ مَنْزِلَةً وَأَخَسُّ مِنْهُمْ رُتْبَةً وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ فَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ ) قُيِّدَ بِعِدَّةِ كَافِرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي عِدَّةِ مُسْلِمٍ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بِالْإِجْمَاعِ كَذَا قِيلَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ حَتَّى تَكُونَ فِي عِدَّتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَوَّرَ بِأَنْ أَشْرَكَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْمُسْلِمِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ زُفَرُ : النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةُ إلَى الْحُكَّامِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِ شُهُودٍ ( كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ) وَهُوَ التَّزَوُّجُ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ آخَرَ ( كَمَا قَالَ زُفَرُ ) قَالَ زُفَرُ ( الْخِطَابَاتُ ) كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } وَنَحْوِهِ ( عَامَّةٌ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَلْزَمُهُمْ .
وَإِنَّمَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا ) كَمَا تَرَكْنَاهُمْ وَعِبَادَةَ الصَّنَمِ إعْرَاضًا ( لَا تَقْرِيرًا ، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ ) عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } ( وَلَهُمَا أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا ، فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ) فَإِنَّ مَالِكًا وَابْنَ أَبِي لَيْلَى يُجَوِّزَانِهِ ( وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ ) ، وَلَكِنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ ،

فَإِذَا تَرَافَعَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ أَسْلَمَ وَالْعِدَّةُ غَيْرُ مُنْقَضِيَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَالْمُرَافَعَةُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُرْمَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا هِيَ لِلْعِدَّةِ لِكَوْنِهِ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ مِنْ وَجْهٍ .
وَثُبُوتُ الْعِدَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلشَّرْعِ أَوْ لِلزَّوْجِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ ( لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ ) وَلِهَذَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَلَا إلَى الثَّانِي ؛ ( لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَضْعَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْضِ وَكَأَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ ابْتِدَاءً صَحِيحًا لِلْوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ صُدُورُ الرُّكْنِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ ) فَإِنَّ الْمَانِعَ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ ، وَإِذَا صَحَّ ابْتِدَاءً لَا يَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَالَةُ الْبَقَاءِ ( وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا ) وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الشُّهُودُ لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ .
( وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِي حَالَةَ الْبَقَاءِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ) يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ صِيَانَةً لِحَقِّ الْوَاطِئِ وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ الْقَائِمُ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ عَنْ الْكَافِرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَجِبُ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ النِّكَاحَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَالِاسْتِبْرَاءِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا فِي الِابْتِدَاءِ وَحَالَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ حَالَةُ بَقَاءٍ وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ الشُّرُوطَ وَلَا تُنَافِي الْعِدَّةَ عَلَى مَا قُلْنَا .

فَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعِدَّةِ وَوَجَبَ التَّعَرُّضُ بِالْإِسْلَامِ فَيُفَرَّقُ .
وَعِنْدَهُ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِي الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ فَيُفَرَّقُ ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِيهِ ، ثُمَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَبِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا لَا يُفَرَّقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِمُرَافَعَةِ صَاحِبِهِ إذْ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُهُ ، أَمَّا اعْتِقَادُ الْمُصِرِّ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَلَوْ تَرَافَعَا يُفَرَّقُ بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ مُرَافَعَتَهُمَا كَتَحْكِيمِهِمَا .

فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ إحْدَى مَحَارِمِهِ أَوْ خَامِسَةً ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَرَافَعَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَمَا دَامَا عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَتَرَافَعَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمَا وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، لَكِنْ عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ حُكْمَ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ ، وَإِذَا أَسْلَمَ وَجَبَ التَّعَرُّضُ بِهِ وَالتَّفْرِيقُ ، وَكَذَلِكَ بِالْمُرَافَعَةِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِي الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرْمَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْعِ أَوْ لِلزَّوْجِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ : ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ : إنَّ لَهُ حُكْمَ الْفَسَادِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ لَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَقَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ ) جَوَابٌ عَنْ هَذَا التَّشْكِيكِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ ( تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ ) كَمَا لَوْ اعْتَرَضْت عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ ( فَيُفَرَّقُ ) بَيْنَهُمَا ( بِخِلَافِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِيهِ ) كَمَا مَرَّ ( ثُمَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ) بِالِاتِّفَاقِ ، ( وَ ) كَذَلِكَ ( بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا ) وَطُلِبَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ إسْلَامَ أَحَدِهِمَا كَإِسْلَامِهِمَا فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ فَكَذَلِكَ رَفْعُ أَحَدِهِمَا يَكُونُ كَرَفْعِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ بِرَفْعِهِ انْقَادَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُفَرَّقُ بِرَفْعِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ اسْتَحَقَّ بِاعْتِقَادِهِ بَقَاءَ هَذَا النِّكَاحِ ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لَا يَبْطُلُ بِمُرَافَعَةِ الْآخَرِ ، ( إذْ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُهُ ) بَلْ يُعَارِضُهُ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْمِصْرِ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ ؛ إذْ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَأَمَّا إذَا تَرَافَعَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ (

لِأَنَّ مُرَافَعَتَهُمَا كَتَحْكِيمِهِمَا ) وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا وَطَلَبَا مِنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَالْقَاضِي أَوْلَى بِذَلِكَ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ .

( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً وَلَا كَافِرَةً وَلَا مُرْتَدَّةً ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ ، وَالْإِمْهَالِ ضَرُورَةَ التَّأَمُّلِ ، وَالنِّكَاحُ يَشْغَلُهُ عَنْهُ فَلَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ ( وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ ) ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِلتَّأَمُّلِ وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ تَشْغَلُهَا عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ بَيْنَهُمَا الْمَصَالِحَ ، وَالنِّكَاحُ مَا شُرِعَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَصَالِحِهِ ( فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ صَارَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ ) لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لَهُ نَظَرًا لَهُ ( وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ لَهُ إذْ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِلتَّعَارُضِ وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( بَلْ لِمَصَالِحِهِ ) يُرِيدُ بِهِ السُّكْنَى وَالِازْدِوَاجَ وَالتَّوَالُدَ وَالتَّنَاسُلَ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ ) قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا التَّعْمِيمُ وَلَا وُجُودَ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ كَافِرٍ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْبَقَاءِ بِأَنْ أَسْلَمْت الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُعْرَضْ الْإِسْلَامُ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ ) أَيْ فِي جَعْلِ الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْكِتَابِيِّ ( لِلتَّعَارُضِ ) جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْكِتَابِيِّ يُوجِبُ حِلَّ الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ ، وَجَعَلَهُ تَبَعًا لِلْمَجُوسِيِّ يُوجِبُ حُرْمَةَ ذَلِكَ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ إذْ الْكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرَّمِ ( وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ ) وَهُوَ قَوْلُهُ : لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ .
فَإِنْ قُلْت : عَلَى مَا ذَكَرْت كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَمِنْ الْخَصْمِ ذَهَبَ إلَى نَوْعِ تَرْجِيحٍ فَمِنْ أَيْنَ تَقُومُ الْحُجَّةُ ؟ قُلْنَا تَرْجِيحُنَا يَدْفَعُ التَّعَارُضَ وَتَرْجِيحُهُ يَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَالدَّفْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّفْعِ ؛ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يُرْفَعُ .

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ أَبَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ أَبَتْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ؛ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا فِي الْوَجْهَيْنِ ، أَمَّا الْعَرْضُ فَمَذْهَبُنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لَهُمْ وَقَدْ ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ ، إلَّا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ فَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ ، وَبَعْدَهُ مُتَأَكِّدٌ فَيَتَأَجَّلُ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا فِي الطَّلَاقِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ قَدْ فَاتَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تَبْتَنِي عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ ، وَالْإِسْلَامُ طَاعَةٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا فَيُعْرَضُ الْإِسْلَامُ لِتَحْصُلَ الْمَقَاصِدُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَثْبُتَ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ .
وَلَهُمَا أَنَّ بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهَا عِنْدَ إبَائِهَا ( ثُمَّ إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِإِبَائِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ) لِتَأَكُّدِهِ بِالدُّخُولِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا وَالْمَهْرُ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمْت الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ ) أَطْلَقَ الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ : وَزَوْجُهَا كَافِرٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ كَافِرٍ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ ؛ وَقَيَّدَ الزَّوْجَةَ بِالْمَجُوسِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً فَلَا عَرْضَ وَلَا تَفْرِيقَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( كَمَا فِي الطَّلَاقِ ) يُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَبَعْدَهُ لَا يَرْفَعُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ) لَيْسَ بِصَوَابٍ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ بِالْأَطْهَارِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَجَّلَ عِنْدَكُمْ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمُدَّةُ لَمْ تُعْتَبَرْ لِلْعِدَّةِ بَلْ لِلتَّفْرِيقِ وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَيْضُ كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ ، ( وَلَنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ ) بِالنِّكَاحِ ( قَدْ فَاتَتْ ) وَتَقْرِيرُهُ بِإِسْلَامِ الْمَرْأَةِ أَوْ زَوْجِ الْمَجُوسِيَّةِ فَاتَتْ الْمَقَاصِدُ بِالنِّكَاحِ وَفَوَاتُهَا .
وَهُوَ حَادِثٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ كُفْرُ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِفَوَاتِ النِّعَمِ وَلَا إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ كُفْرَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا وَلَمْ يُمْنَعْ ابْتِدَاءً وَلَا فَوْتُهَا بَقَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِهِمَا ، ( فَيُعْرَضُ الْإِسْلَامُ لِتَحْصُلَ الْمَقَاصِدُ بِهِ ) إنْ أَسْلَمَ أَوْ يَثْبُتُ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهُوَ الْإِبَاءُ .
فَإِنَّ الْإِبَاءَ عَنْهُ صَالِحٌ لِسَلْبِ النِّعَمِ .
وَإِذَا أُضِيفَ الْفَوَاتُ إلَيْهِ أُضِيفَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ الْفَوَاتُ وَهُوَ الْفُرْقَةُ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْإِبَاءِ .
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَوْعُ إغْلَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : فَوَاتُ الْمَقَاصِدِ يَصْلُحُ سَبَبًا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَرْضِ ، لَكِنْ إذَا

تَأَمَّلْت فِيمَا ذَكَرْته حَقَّ التَّأَمُّلِ أَزَالَ عَنْك الشُّبْهَةَ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ شَرَعَ فِيهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ : مَا ذَكَرَهُ ( أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ ) عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِبَاءُ ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ بِسَبَبٍ يُشْتَرَكُ فِيهِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ وَالْوَاقِعَةُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الزَّوْجَ امْتَنَعَ بِالْإِبَاءِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ لِمَا مَرَّ مِنْ فَوَاتِ الْمَقَاصِدِ ، وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ ) زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ ، وَأَرَى أَنَّ تَرْكَهُ كَانَ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا بَطَلَ قِيَاسُهُ عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِلطَّلَاقِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ ) بِفَتْحِ الْوَاوِ : يَعْنِي أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا الْمَهْرُ لِتَأَكُّدِهِ بِالدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلَا مَهْرَ لَهَا .

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ أَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ تَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَةِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَأَقَمْنَا شَرْطَهَا وَهُوَ مُضِيُّ الْحَيْضِ مَقَامَ السَّبَبِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَالشَّافِعِيُّ يَفْصِلُ كَمَا مَرَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ ) مِنْ بَابِ : عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ مِنْ الْقَلْبِ الَّذِي لَا يُشَجِّعُ عَلَيْهِ إلَّا أَفْرَادُ الْبُلَغَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَأَقَمْنَا شَرْطَهَا ) أَيْ شَرْطَ الْفُرْقَةِ ، ( وَهُوَ مُضِيُّ الْحِيَضِ ) الثَّلَاثِ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إنْ لَمْ تَحِضْ ( مَقَامَ سَبَبِ الْفُرْقَةِ ) ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هُوَ تَفْرِيقُ الْقَاضِي عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ سَبَبٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ هُوَ الْإِبَاءُ .
وَقَوْلُهُ : ( كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ ) يَعْنِي فِي قِيَامِ الشَّرْطِ مَقَامَ السَّبَبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ إضَافَةُ التَّلَفِ إلَى فِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ الَّتِي حُفِرَتْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ ، لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ طَبِيعِيًّا لَا تَعَدِّي فِيهِ ، ثُمَّ إضَافَتُهُ إلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْمَشْيُ وَقَدْ تَعَذَّرَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ لَا مَحَالَةَ فَأُضِيفَ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعَارِضْهُ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ ، وَلَهُ شَبَهٌ بِالْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِ وُجُودًا وَفِيهِ تَعَدٍّ ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْحَافِرِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، ثُمَّ الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فَهِيَ كَالْمُهَاجِرَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي حُكْمُ الْمُهَاجِرَةِ ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ ، ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ) عِنْدَنَا ( وَالشَّافِعِيُّ يَفْصِلُ كَمَا مَرَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) مِنْ قَوْلِهِ : فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْحِيَضَ لِأَجْلِ الْفُرْقَةِ لَا لِلْعِدَّةِ

فَتَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي صُورَةِ الطَّلَاقِ بَاشَرَ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ فِي الْحَالِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُضِيِّ الْحِيَضِ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْهُ فَاحْتَاجَ إلَى مُضِيِّهَا لِلْفُرْقَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهَا .

وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَسَيَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى .
.( وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَلَا عِدَّةَ لَهَا ) بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى ) ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يُتَحَمَّلُ فِي النِّكَاحِ حَالَةَ الْبَقَاءِ وَإِنْ لَمْ يُتَحَمَّلْ فِي الِابْتِدَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ لَهُ وَتَبْقَى مَنْكُوحَةً ؟ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ ابْتِدَاءً .

قَالَ ( وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَقَعُ ( وَلَوْ سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَعَتْ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التَّبَايُنُ دُونَ السَّبْيِ عِنْدَنَا وَهُوَ يَقُولُ بِعَكْسِهِ .
لَهُ أَنَّ لِلتَّبَايُنِ أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ ، أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ فَشَابَهُ الْمَحْرَمِيَّةَ

خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا ، قَالَ : ( وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا ) ، صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ، وَالْحَاصِلُ كَذَلِكَ .
وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِ أَنَّ التَّبَايُنَ أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ ، وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ ، كَالْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ قَدْ سَقَطَتْ إذْ الْمُرَادُ بِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ سُقُوطِ مَالِكِيَّتِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَكَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ انْقَطَعَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْفُرْقَةِ ، وَهَذَا لِإِبْطَالِ دَلِيلِ الْخَصْمِ .
وَقَوْلُهُ : ( أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي وَلَا يَتَحَقَّقُ ) الصَّفَاءُ لَهُ ( إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ ، وَلِهَذَا ) أَيْ : وَلِأَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ ) لِإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ ، ( وَلَنَا أَنَّ الْمَصَالِحَ لَا تَنْتَظِمُ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، ) وَتَقْرِيرُهُ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا يُنَافِي انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ .
وَمَا يُنَافِي انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ يَقْطَعُ النِّكَاحَ كَالْمَحْرَمِيَّةِ ، فَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ النِّكَاحَ ، وَالْمُرَادُ بِالتَّبَايُنِ حَقِيقَةً تَبَاعُدُهُمَا شَخْصًا ، وَبِالْحُكْمِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي دَخَلَهَا عَلَى سَبِيلِ الرُّجُوعِ بَلْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرَارِ وَالسُّكْنَى ، وَهَذَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ .

وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَهُوَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ بَقَاءً وَصَارَ كَالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ لَا فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ .
وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ تَتَبَايَنْ الدَّارُ حُكْمًا لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ .وَقَوْلُهُ : ( وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ) لِرَدِّ دَلِيلِ الْخَصْمِ .
وَتَقْرِيرُهُ : السَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ فَكَذَا بَقَاءً ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الْمَسْبِيَّةُ مَنْكُوحَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبْيِ .
وَالْمُنَافِي إذَا تَقَرَّرَ فَالْمُحْتَرَمُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ كَمَا إذَا تَقَرَّرَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وَالرَّضَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ ) أَيْ : صَارَ السَّبْيُ ( كَالشِّرَاءِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِالشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالسَّبْيِ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ هُوَ ) أَيْ : السَّبْيُ ( يَقْتَضِي الصَّفَاءَ ) أَيْ : سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ ، لَكِنْ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي رَقَبَةِ الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي عَلَى الْخُلُوصِ لَا فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَحَلَّ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا الْمَالِيَّةِ .
وَقَدْ انْدَرَجَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : وَلِهَذَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ مِنْ مَحَلِّ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الرَّقَبَةُ .
وَقَوْلُهُ : وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ : كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَوْ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ ، وَكَانَ قَدْ اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ : وَحُكْمًا عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ التَّبَايُنَ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ حُكْمًا لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ .

( وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَثَرُ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ ، وَلَا خَطَرَ لَمِلْكِ الْحَرْبِيِّ ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَمَا فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ فَإِذَا ظَهَرَ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا .

وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً ) أَيْ : تَرَكَتْ أَرْضَ الْحَرْبِ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً عَلَى قَصْدِ أَنْ لَا تَرْجِعَ إلَى مَا هَاجَرَتْ عَنْهُ أَبَدًا ( جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ كَانَتْ كَذَلِكَ يَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لِإِظْهَارِ خَطَرِ مِلْكِ النِّكَاحِ ، ( وَلَا خَطَرَ لِمِلْكِ الْحَرْبِيِّ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ ) بِالِاتِّفَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمِلْكِهِ خَطَرٌ لَمَا وَجَبَتْ إذَا خَرَجَتْ حَامِلًا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَكِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْهِجْرَةُ أَوْرَثَتْ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ وَهُوَ لَا يَرْبُو عَلَى الْمَوْتِ وَلَوْ مَاتَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَلْتَجِبْ مَعَهَا أَيْضًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحُرُمَاتِ حُكْمًا فَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَأَمَّا تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ فَيُسْقِطُهَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَزُولُ مِلْكُهُ لَا إلَى أَثَرٍ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّبَايُنَ يَرْبُو عَلَى الْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ وَالْمَوْتُ يُوجِبُهُ ؟ وَلَوْ خَرَجَتْ حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ أَيْضًا احْتِيَاطًا كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا لَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى تَضَعَ ، ( وَ ) رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ ( عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِلْحَرْبِيِّ فَجُزْؤُهُ أَوْلَى ( كَمَا فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا ) ،

فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي .
قِيلَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ الْغَيْرِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مُطْلَقًا وَثَابِتُ النَّسَبِ مُحْتَرَمٌ فَيَمْنَعُ النِّكَاحَ أَيْضًا دُونَ غَيْرِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِبَاءِ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ لِكَوْنِهَا مُنَافِيَةً لِلْعِصْمَةِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا ، بِخِلَافِ الْإِبَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا وَنِصْفُ الْمَهْرِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا .
.

قَالَ : ( وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ ) وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ( وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ) بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَحَتَّى تَنْقَضِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَهُ مِنْ تَأَكُّدِ النِّكَاحِ وَعَدَمِ تَأَكُّدِهِ ، وَكَانَتْ الْفُرْقَةُ ( بِغَيْرِ طَلَاقٍ ) حَتَّى لَا يُنْتَقَصَ عَدَدُ الطَّلَاقِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ ) وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَرْأَةِ فَهِيَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ( هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِالْإِبَاءِ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ : امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ( وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ ) وَهُوَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ ، ( وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ ) بَيْنَ الْإِبَاءِ وَالِارْتِدَادِ فَجَعَلَ الْفُرْقَةَ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ طَلَاقًا دُونَ الرِّدَّةِ ، ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ لِكَوْنِهَا مُنَافِيَةً لِلْعِصْمَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا تُبِيحُ النَّفْسَ وَالْمَالَ وَتُبْطِلُ الْمِلْكَ وَالنِّكَاحَ ( وَالطَّلَاقُ ) لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ ( رَافِعٌ ) لَهُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ مُسَبَّبًا عَنْهُ ، وَالْمُسَبَّبُ عَنْ الشَّيْءِ الرَّافِعِ لَهُ لَا يُنَافِيهِ فَلَا تَكُونُ الرِّدَّةُ طَلَاقًا ( بِخِلَافِ الْإِبَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ ) وَلَيْسَ بِمُنَافٍ لِلنِّكَاحِ ( فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى مَا مَرَّ ) وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُنَافِي مِلْكَ الْعَيْنِ بَلْ يَصِيرُ مَوْقُوفًا فَمَا بَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّ الرِّدَّةَ لَوْ كَانَتْ مُنَافِيَةً لَمَا وَقَعَ طَلَاقُ الْمُرْتَدِّ عَلَى امْرَأَتِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ لَكِنَّهُ يَقَعُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ

الْأَوَّلِ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً ، وَتَوَقَّفَ تَحْصِيلُ مِلْكِ الْعَيْنِ بِالشِّرَاءِ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَابِعٌ لِإِمْكَانِ ظُهُورِ أَثَرِهِ ، وَحَيْثُ كَانَتْ الْمَحَلِّيَّةُ مُتَصَوَّرَةَ الْعَوْدِ بِالتَّوْبَةِ أَمْكَنَ ظُهُورُ أَثَرِهِ وَكَانَ مُعْتَبَرًا ، بِخِلَافِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَإِنَّ الْمَحَلِّيَّةَ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ أَبَدًا فَلَا يُمْكِنُ ظُهُورُ أَثَرِهِ .
وَعَنْ هَذَا قَالُوا : إذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمَرْأَةِ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، فَإِنْ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ قَدْ ارْتَفَعَ ، وَمَحَلِّيَّةُ الطَّلَاقِ بِالْعِدَّةِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فَيَقَعُ .
وَإِذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا عِنْدَهُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ ، ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّنَا ، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مُسْتَحِيلٌ وَالْعِدَّةُ مَتَى سَقَطَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِعَوْدِ سَبَبِهَا ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ مَحَلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ كَانَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ وَقَعَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ عِنْدَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ ) تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ الرِّدَّةِ مُنَافِيَةً لِلطَّلَاقِ دُونَ الْإِبَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا نَفَقَةَ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ

كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلَهَا كُلُّ مَهْرِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا لَا إلَى مَا يَلِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَرْتَابُ أَحَدٌ فِي عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي الْمُرْتَدَّةِ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قَبْلِهَا ) يَعْنِي فَكَانَتْ كَالنَّاشِزَةِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا .

قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ) اسْتِحْسَانًا .
وَقَالَ زُفَرٌ : يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ أَحَدِهِمَا مُنَافِيَةٌ ، وَفِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةُ أَحَدِهِمَا .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ ، وَالِارْتِدَادُ مِنْهُمْ وَاقِعٌ مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ .
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِارْتِدَادِ مَعًا فَسَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ كَابْتِدَائِهَا .
.وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ ارْتَدَّا مَعًا ) وَاضِحٌ .
وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ وَهْم حَيٌّ مِنْ الْعَرَبِ ارْتَدُّوا بِمَنْعِ الزَّكَاةِ وَبَعَثَ إلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْجُيُوشَ فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرَةٌ فَحِلُّ ذَلِكَ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ .
فَإِنْ قِيلَ : الِارْتِدَادُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ دَفْعَةً .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( وَالِارْتِدَادُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ مَعًا حُكْمًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ ) ، فَإِنَّ التَّارِيخَ إذَا جُهِلَ لَمْ يُحْكَمْ بِتَقَدُّمِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً ( وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِارْتِدَادِ ) أَيْ : بَعْدَ ارْتِدَادِهِمَا ( فَسَدَ النِّكَاحُ لِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ كَابْتِدَائِهَا ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ فَلَا شَيْءَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ جَانِبِهَا بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ فَإِنَّ الْإِصْرَارَ بَعْدَ إسْلَامِ الْآخَرِ كَإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْقَسْمِ : وَإِذَا كَانَ لِلرّجلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ وَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ } " وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ .
وَكَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ : يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ } " وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا .
وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ ، وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ .

( بَابُ الْقَسْمِ ) : كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ لَمَّا ذَكَرَ جَوَازَ عَدَدٍ مِنْ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ الْعَدْلِ الْوَارِدِ مِنْ الشَّارِعِ فِي حَقِّهِنَّ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، لَكِنَّ اعْتِرَاضَ مَا هُوَ أَهَمُّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيَانِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَعَدَمِهِ الرَّاجِعَيْنِ إلَى أَمْرِ الْفُرُوجِ وَغَيْرِهِمَا أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ .
وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرٌ ، قَسَمَ الْقَسَّامُ الْمَالَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ : فَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ وَعَيَّنَ أَنْصِبَاءَهُمْ ، وَمِنْهُ الْقَسْمُ بَيْنَ النِّسَاءِ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ .
( وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ ) بِتَذْكِيرِ كَانَ مَعَ إسْنَادِهِ إلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِك حَضَرَ الْقَاضِي الْيَوْمَ امْرَأَةٌ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، ( وَالْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَتْ الْجَدِيدَةُ بِكْرًا يَفْضُلُهَا بِسَبْعِ لَيَالٍ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَبِثَلَاثٍ ، ثُمَّ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تُفَضَّلُ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ } ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، وَفِي تَفْضِيلِ الْجَدِيدَةِ عَلَى الْقَدِيمَةِ ، فَنَفَى الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ : وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا ، وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ : لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْضِيلِ بِالْبُدَاءَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَك وَسَبَّعْتُ لَهُنَّ } وَنَحْنُ نَقُولُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْجَدِيدَةِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا ( وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ ) كَالنَّفَقَةِ ، وَلَا

تَفَاوَتَ فِي ذَلِكَ بَيْن الْبِكْر وَالثَّيِّبِ وَالْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ ، كَمَا لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْبَالِغَةِ وَالْمُرَاهِقَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْعَاقِلَةِ وَالْمَرِيضَةِ وَالصَّحِيحَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُنَّ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْحِلُّ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ فِي طَرَفِ الرَّجُلِ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وَالْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ إذَا دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَسْمُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدُّورِ لِلزَّوْجِ ) ظَاهِرٌ .

وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ .

وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ ) بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ .
وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ .
.وَقَوْلُهُ : ( بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ ) يَعْنِي مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : { لِلْحُرَّةِ ثُلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ } ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ ) يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا مَعَ الْحُرَّةِ وَلَا بَعْدَهَا وَإِنَّمَا يَحِلُّ قَبْلَهَا وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، ( فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ ) ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ ، ( وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ ) فَيَكُونُ لَهُنَّ الثُّلُثُ مِنْ الْقَسْمِ كَالْأَمَةِ .

قَالَ ( وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ } " إلَّا أَنَّا نَقُولُ : إنَّ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ مُسَافَرَةِ الزَّوْجِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ .وَقَوْلُهُ : ( وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ ) هَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ : إحْدَاهَا أَنَّ الْقُرْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ إذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ثُمَّ رَجَعَ هَلْ لِلْبَاقِيَاتِ أَنْ يَحْتَسِبْنَ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَوْ لَا ؟ عِنْدَنَا لَيْسَ لَهُنَّ ذَلِكَ خِلَافًا لَهُ ، وَهَذِهِ بِنَاءً عَلَى الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاعَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَتْ مُدَّةُ سَفَرِهِ نَوْبَةً الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَدْلُ ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ : وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ وَفِي حَالَةِ السَّفَرِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمُدَّةُ مَحْسُوبَةً مِنْ نَوْبَتِهَا .
وَالثَّالِثَةُ أَنَّ بَعْضَهُنَّ إنْ رَضِيَتْ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ ، وَإِنْ رَجَعَتْ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

( وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ ) ؛ { لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } " ( وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَائِمِ ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ الرُّجُوعُ عَنْهُ امْتِنَاعًا لَا إسْقَاطًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ لِمَا قُلْنَا فَكَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ ( قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ } " .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } " مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُوءِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِمَا نُبَيِّنُ .
.

كِتَابُ الرَّضَاعِ : لَمْ يَذْكُرْ عَامَّةَ مَسَائِلِ الرَّضَاعِ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَتَى بِكِتَابٍ لَهُ عَلَى حِدَةٍ لِمَا أَنَّ لَهُ أَحْكَامًا جَمَّةً مَخْصُوصَةً بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ .
وَسَبَبُ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ الْجُزْئِيَّةُ بِنُشُورِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ كَالْجُزَيْئَةِ بِالْإِعْلَاقِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَكَمَا أَنَّ الْإِعْلَاقَ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ أُقِيمَ مَقَامَهُ وَهُوَ الْوَطْءُ ، كَذَلِكَ نُشُورُ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتُ اللَّحْمِ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ ، وَالرَّضَاعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَبِكَسْرِهَا وَهُوَ لُغَةً فِيهِ مَصُّ اللَّبَنِ مِنْ الثَّدْيِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَصِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا رَضِيعًا مِنْ ثَدْيٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ ثَدْيُ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدُ ( وَقَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَثْبُتُ الرَّضَاعُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ يَكْتَفِي الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا .
لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ } وَالْمَصَّةُ فِعْلُ الرَّضِيعِ وَالْإِمْلَاجَةُ فِعْلُ الْمُرْضِعِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْحَصِرًا فِي خَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا انْتَفَى بِهِ مَذْهَبُ خَصْمِهِ ثَبَتَ مَذْهَبُهُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مَنْ يَقُولُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ مُشْبِعَاتٍ ، وَلَوْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ { : كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ } كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، لَكِنَّ قَوْلَهَا مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَعِّفُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَهُ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { : وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ : يَعْنِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ عَلَى مَا مَرَّ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ : سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ : تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ بِاعْتِبَارِ إنْشَارِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ الْحُرْمَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُورِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ ، لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبَطَّنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَا رَوَاهُ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِأَنَّ مَا رَوَيْتُمْ إمَّا مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ أَقْوَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ قَبْلَهُ أَوْ مَنْسُوخٌ إنْ كَانَ بَعْدَهُ .
وَالْإِنْشَارُ بِالرَّاءِ : الْإِحْيَاءُ ، وَفِي التَّنْزِيلِ { : ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } وَمِنْهُ { : لَا رَضَاعَ إلَّا مَا أَنْشَرَ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ } أَيْ قَوَّاهُ وَشَدَّهُ كَأَنَّهُ أَحْيَاهُ ، وَيُرْوَى بِالزَّايِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
قَوْلُهُ : ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ) ظَاهِرٌ .

( ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا سَنَتَانِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرٌ : ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ فَيُقَدَّرُ بِهِ .
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ } " وَلَهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ ، إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقِصُ فِي أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ فِي الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ فَقُدِّرَتْ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهَا مُغَيَّرَةٌ ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ كَمَا يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ .

وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ) بِاعْتِبَارِ حَوَلَانِ الْحَوْلِ الْمُوجِبِ لِتَغْيِيرِ الطِّبَاعِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا تَبَيَّنَ : يَعْنِي فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَتُقَدَّرُ ، أَيْ : الزِّيَادَةُ بِهِ : أَيْ بِالْحَوْلِ .
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ جَعَلَ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ ) يَعْنِي : قَوْله تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } ( وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ ) يَعْنِي الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ ، ( وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْمُدَّةُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَمَا فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ إلَى شَهْرَيْنِ ، يَكُونُ الشَّهْرَانِ أَجَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّيْنَيْنِ بِكَمَالِهِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقَصُ فِي أَحَدِهِمَا : يَعْنِي الْحَمْلَ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ : { الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ } .
فَإِنْ قُلْت : هَذَا الْمُنْقَصُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ حَدِيثًا يَلْزَمُ بِهِ تَغْيِيرُ الْكِتَابِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَ مُؤَوَّلٌ .
فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ جَعَلُوا الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ لِلدَّيْنَيْنِ مُتَوَزِّعًا عَلَيْهِمَا ، فَلَمْ يَكُنْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ قَطْعِيَّةً ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَجِيءَ بِهَا إلَى عُثْمَانَ فَشَاوَرَ فِي رَجْمِهَا ، فَقَالَ ابْنُ

عَبَّاسٍ : إنْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ خَصَمْتُكُمْ ، قَالُوا كَيْفَ ؟ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } ، وَقَالَ { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فَحَمْلُهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَفِصَالُهُ حَوْلَانِ ، فَتَرَكَهَا .
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ التَّغْيِيرُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ إثْبَاتُ مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ بِآيَةٍ مُؤَوَّلَةٍ وَلَا بُعْدَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَيَحْصُلَ تَغَيُّرٌ إبْقَاءً لِحَيَاتِهِ ، وَذَلِكَ أَيْ : التَّغَيُّرُ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عَنْ اللَّبَنِ دَفْعَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَوَّدَ غَيْرَهُ مُهْلِكٌ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ لَكِنَّهُ قَدَّرَهُ بِسَنَةٍ كَمَا فِي الْعِنِّينِ ، وَقَدَّرْنَاهُ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهَا مُغَيِّرَةٌ ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ كَانَ غِذَاءَ أُمِّهِ ثُمَّ صَارَ لَبَنًا خَالِصًا كَمَا أَنَّ غِذَاءَ الرَّضِيعِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ ؛ لِأَنَّ غِذَاءَ الرَّضِيعِ اللَّبَنُ ، وَغِذَاءَ الْفَطِيمِ اللَّبَنُ مَرَّةً وَالطَّعَامُ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ يُفْطَمُ تَدْرِيجًا ، فَكَانَ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِ الْغِذَاءِ ، وَتَغْيِيرُ الْغِذَاءِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَقَوْلُهُ : وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ يَعْنِي قَوْلَهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ } مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَأَبْهَمَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِحْقَاقَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : الْمُرَادُ مِنْ : لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ : لَا يَسْتَحِقُّ الْوَلَدُ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالُوا : إنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عَلَى الْأَبِ مُقَدَّرَةٌ بِحَوْلَيْنِ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى لَا

تَسْتَحِقَّ الْمُطَلَّقَةُ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " لَا رَضَاعَ " لِنَفْيِ الْجِنْسِ ، وَعَيْنُهُ قَدْ تُوجَدُ بَعْدَ حَوْلَيْنِ ، فَكَانَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُحْتَمَلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً ، وَعَلَيْهِ أَيْ : وَعَلَى الِاسْتِحْقَاقِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ : يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ } فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِحَرْفِ الْفَاءِ مُعَلَّقًا لَهُ بِالتَّرَاضِي ، وَلَوْ كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَهُ حَرَامًا لَمْ يُعَلَّقْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلرِّضَا فِي إزَالَةِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا

قَالَ ( وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ } " وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ النُّشُوءِ وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ إذْ الْكَبِيرُ لَا يَتَرَبَّى بِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ .
وَوَجْهُهُ انْقِطَاعُ النُّشُوءِ بِتَغَيُّرِ الْغِذَاءِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ ؟ فَقِيلَ لَا يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِكَوْنِهِ جُزْءُ الْآدَمِيِّ .
.( قَوْلُهُ : وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ ) سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ ، وَإِذَا فُطِمَ قَبْلَهَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْفِطَامُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، حَتَّى لَوْ فُطِمَ صَبِيٌّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْلَ ثَلَاثِينَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةٌ بَلْ أَنْ نُمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةَ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دُونَ رِوَايَةِ الْحَسَنِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي حُرْمَةِ الرَّضَاعِ تَشَبُّثًا بِظَوَاهِر النُّصُوصِ وَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الرَّضَاعُ وَهُوَ يَقْتَضِي رَضِيعًا لَا مَحَالَةَ وَالْكَبِيرُ لَا يُسَمَّى رَضِيعًا .
رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سُئِلَ عَنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَأَوْجَبَ الْحُرْمَةَ ، ثُمَّ أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَتَرَوْنَ هَذَا الْأَشْمَطَ رَضِيعًا فِيكُمْ ؟ فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا مُوسَى قَالَ : لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا .

قَالَ ( وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ) لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا ( إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَجُوزُ ) أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ ) ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ ، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ .
.قَالَ : ( وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ " إلَّا صُورَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ) جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأُخْتِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَهَا أُمٌّ مِنْ النَّسَبِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ الَّتِي كَانَتْ أُمَّهَا مِنْ النَّسَبِ ، وَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأُمِّ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ وَلَهَا أُمٌّ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ الَّتِي كَانَتْ أُمَّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمَا جَمِيعًا ، مِثْلُ أَنْ يَجْتَمِعَ الصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ الْأَجْنَبِيَّانِ عَلَى ثَدْيِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَلِلصَّبِيَّةِ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ الَّتِي كَانَتْ الْأُمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا رَضِيعًا .

( وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي النَّصِّ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
.وَقَوْلُهُ : لِمَا رَوَيْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } " وَقَوْلُهُ : ( لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي ) فَإِنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى كَانَتْ حَرَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِسْقَاطِ حَلِيلَةِ ابْنِ الرَّضَاعِ أَوْ لِإِسْقَاطِهِمَا جَمِيعًا .
وَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ جَانِبِ حَلِيلَةِ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى فِي الْإِسْقَاطِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ حَلِيلَةِ ابْنِ الرَّضَاعِ ثَابِتَةٌ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } " فَحَمَلْنَاهُ عَلَى حَلِيلَةِ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّدَافُعُ بَيْنَ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ .

( وَلَبَنُ الْفَحْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ ، وَهُوَ أَنْ تُرْضِعَ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً فَتَحْرُمُ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ أَبًا لِلْمُرْضَعَةِ ) وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ : لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَاللَّبَنُ بَعْضُهَا لَا بَعْضُهُ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَا بِالرَّضَاعِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " { لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ } " وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا ( وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ جَازَ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
.

وَقَوْلُهُ : ( وَلَبَنُ الْفَحْلِ ) مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اللَّبَنِ إنَّمَا هُوَ الْفَحْلُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ { لِيَلِجَ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ } ) دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ عَائِشَةَ ارْتَضَعَتْ مِنْ امْرَأَةِ أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَانَ اسْمُ أَخِي أَبِي قُعَيْسٍ أَفْلَحَ ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ أُمًّا لَهَا كَانَ زَوْجُهَا أَبًا لَهَا وَأَخُو الزَّوْجِ عَمًّا لَهَا لَا مَحَالَةَ ، وَرُوِيَ أَنَّهَا { قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ دَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا فِي ثِيَابِ فَضْلٍ ، فَقَالَ : لِيَلِجَ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ ، فَقَالَتْ : إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ لَا الرَّجُلُ ، فَقَالَ : عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ لَبَنِ الْفَحْلِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ لَا مَحَالَةَ ، وَهَاهُنَا لَوْ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ مِنْ ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ إذَا نَزَلَ مِنْهُ اللَّبَنُ لَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِارْتِضَاعِ اللَّبَنِ بِسَبَبِهِ وَلَا تَثْبُتُ مِنْ اللَّبَنِ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْسِهِ أُجِيبَ بِأَنَّ افْتِرَاقَ الْحُكْمِ لِافْتِرَاقِ الْوَصْفِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ لَا يُوجَدُ فِي إرْضَاعِ الرَّجُلِ ، فَإِنَّ مَا يَنْزِلُ مِنْ ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ لَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ ، وَهُوَ نَظِيرُ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَهِيَ مُلْبِسَةٌ فَإِنَّهَا تُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَنْزِلُ مِنْ ثُنْدُوَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَنْزِلُ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ

الْوِلَادَةِ أَوْ الْحَمْلِ مِنْ زَوْجِهَا ، حَتَّى لَوْ نَزَلَ لَهَا اللَّبَنُ بِدُونِهِمَا كَمَا يَنْزِلُ لِلْبِكْرِ كَانَ ذَلِكَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً لَا لَبَنَ الْفَحْلِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ تَحْتَ زَوْجِهَا .
وَلَيْسَ حِلُّ الْوَطْءِ فِي الْإِحْبَالِ شَرْطَ الْحُرْمَةِ حَتَّى لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَأَرْضَعَتْ بِهَذَا اللَّبَنِ صَبِيَّةً كَانَ لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ وَلَا لِأَبِيهِ وَلَا لِابْنِهِ وَلَا لِأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ لِوُجُودِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الزَّانِي .
وَقَوْلُهُ : ( وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ ) وَاضِحٌ .

( وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى ) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا وَاحِدَةٌ فَهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ ( وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهَا وَلَا وَلَدُ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَخِيهَا .
.صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ وَقَوْلُهُ : ( وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا ) غَلَّبَ الصَّبِيَّ عَلَى الصَّبِيَّةِ كَمَا فِي الْقَمَرَيْنِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ : أَيْ : ثَدْيِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّهُمَا لَوْ اجْتَمَعَا عَلَى ضَرْعِ بَهِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ كَمَا سَيَجِيءُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ دُونَ الْأَنْعَامِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةُ أَحَدًا مِنْ وُلْدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْمُرْضَعَةُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَنَصَبَ أَحَدًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ وُلْدِ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ الْإِضَافَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ النُّسَخِ ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى : وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضِعَةَ أَحَدٌ مِنْ وُلْدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ بِعَكْسِ الْأُولَى فِي الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ ، وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ وَكَانَ كِلَاهُمَا بِخَطِّ شَيْخِي ، وَنُسْخَتَانِ أُخْرَيَانِ لَيْسَتَا بِصَحِيحَتَيْنِ وَهُمَا بَعْدَ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُرْضِعَةِ كَوْنُهَا فَاعِلَةً أَوْ مَفْعُولَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَكِنْ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَلَدِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .

( وَلَا يَتَزَوَّجُ الصَّبِيُّ الْمُرْضَعُ أُخْت زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَظْهَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَمَا فِي الْيَمِينِ ( وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُمَا فِيمَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ ، حَتَّى لَوْ طَبَخَ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَقْصُودِ فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي بِالطَّعَامِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ .
.

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ ) فَسَّرَ مُحَمَّدٌ الْغَلَبَةَ قَالَ : إنْ لَمْ يُغَيِّرْ الدَّوَاءُ اللَّبَنَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَإِنْ غَيَّرَ لَا تَثْبُتُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ غَيَّرَ طَعْمَ اللَّبَنِ وَلَوْنَهُ لَا يَكُونُ رَضَاعًا ، وَإِنْ غَيَّرَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ رَضَاعًا .
وَقَوْلُهُ : ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّ عِنْدَهُ إذَا اخْتَلَطَ مِقْدَارُ مَا يَحْصُلُ بِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ اللَّبَنِ فِي جُبِّ الْمَاءِ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا ، ؛ لِأَنَّ الْمَحْسُوسَ لَا يُنْكَرُ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : مَغْلُوبٌ ، وَالْمَغْلُوبُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا كَمَا فِي الْيَمِينِ .
حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَشَرِبَ لَبَنًا مَخْلُوطًا بِالْمَاءِ ، وَالْمَاءُ غَالِبٌ عَلَى اللَّبَنِ لَا يَحْنَثُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا إنْ اُعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْحُكْمِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ تَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً ، وَإِنْ قِيلَ : فَعِنْدَ التَّعَارُضِ تُرَجَّحُ الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّعَارُضَ لَمْ يَثْبُتْ ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَابُلِ الْحُجَّتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَهَاهُنَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ لِلْغَالِبِ فَضْلًا ذَاتِيًّا ، وَلِلْمَغْلُوبِ فَضْلًا حَالِيًّا وَهُوَ جِهَةُ الْحُرْمَةِ ، وَكَانَ التَّرْجِيحُ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ لَا لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْحَالِ ، وَهَذَا كَمَا يُرَى مُتَنَاقِضٌ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى التَّعَارُضَ وَأَثْبَتَ التَّرْجِيحَ لِلْفَضْلِ الذَّاتِيِّ ، وَلَا تَرْجِيحَ إلَّا بَعْدَ التَّعَارُضِ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : لَا تَعَارُضَ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُعَارِضُ الْحُكْمَ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ مَوْجُودًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ تَعَارَضَ ضَرْبًا تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ وَالْآخَرُ إلَى

الْحَالِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ .
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا وَقَعَ قَطْرَةٌ مِنْ الدَّمِ أَوْ الْخَمْرِ فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ نَجَّسَهُ وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا حُكْمًا ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الْمَاءِ فِي الْحُكْمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ ، فَلَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُعَارِضَةً لِلْحُكْمِ بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالطَّعَامِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا ، أَمَّا إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَالِبًا فَلِأَنَّهُ إذَا طُبِخَ بِالطَّعَامِ يَصِيرُ اللَّبَنُ تَبَعًا لِلطَّعَامِ وَإِنْ كَانَ غَالِبًا حَتَّى لَا يُسَمَّى لَبَنًا مُطْلَقًا .
وَقَوْلُهُ : ( فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ ) فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا ، أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا أَوْ يَكُونُ كَالْمَغْلُوبِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِ الْكَافِ زَائِدَةً .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يَتَقَاطَرْ اللَّبَنُ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ حَمْلِ اللُّقْمَةِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ مِنْهُ فَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ اللَّبَنِ إذَا دَخَلَتْ حَلْقَ الصَّبِيِّ كَانَتْ كَافِيَةً لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّيَ بِالطَّعَامِ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ اللَّبَنِ ، وَالْمُعْتَبَرُ لِمَا يَقَعُ بِهِ التَّغَذِّي الْمُوجِبُ لِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ .

( وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ ، إذْ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ ، وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَهُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ( وَإِنْ غَلَبَ لَبَنُ الشَّاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ .
.

وَإِنْ خُلِطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ فِيهِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ حَيْثُ جُعِلَ غَالِبًا وَالدَّوَاءُ يُخْلَطُ بِهِ لِيُقَوِّيَهُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا كَانَ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ ؛ لِأَنَّ وُصُولَ قَطْرَةٍ مِنْهُ يَحْرُمُ .
قُلْت : النَّظَرُ هَاهُنَا إلَى الْمَقْصُودِ ، فَإِنْ كَانَ غَالِبًا كَانَ الْقَصْدُ إلَى التَّغَذِّي بِهِ وَالدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ ، وَإِذَا كَانَ مَغْلُوبًا كَانَ الْقَصْدُ إلَى التَّدَاوِي وَاللَّبَنِ لِتَسْوِيَةِ الدَّوَاءِ ، يَلُوحُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ : وَإِذَا خُلِطَ دُونَ اخْتَلَطَ ، وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ اللَّبَن يَبْقَى مَقْصُودًا .
قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ شَاةٍ ) .
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ، وَكَذَا تَعْلِيلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَغْلُوبَ كَالْمُسْتَهْلَكِ لِعَدَمِ بَقَاءِ مَنْفَعَتِهِ .
كَمَا إذَا صُبَّ كُوزٌ مِنْ الْمَاءِ الْعَذْبِ فِي الْبَحْرِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْغَلَبَةَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ ، إذْ الْغَلَبَةُ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالشَّيْءُ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَهْلَكِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا مُتَّحِدٌ ، وَإِذَا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْغَلَبَةَ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَقْصُودِ فَيَتَحَقَّقُ الرَّضَاعُ مِنْ الْقَلِيلِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ قَوْلُهُ : كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخُلِطَ لَبَنُهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى وَهُوَ غَالِبٌ فَشَرِبَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا

الِاخْتِلَافِ ، عَنْهُ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ كَالْمُسْتَهْلَكِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا .

( وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ شَيْئًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) وَزُفَرٌ ( يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِمَا ) ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ .

( وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ .
.وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ : الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا ، وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا ، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ لِمَعْنَى الْإِنْشَازِ وَالْإِنْبَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتَةِ دَفْنًا وَتَيَمُّمًا .
أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِمَحَلِّ الْحَرْثِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا .
.

قَوْلُهُ : ( وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأُوجِرَ الصَّبِيُّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) قُيِّدَ بِالْمَوْتِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَبَ قَبْلَ الْمَوْتِ وَأُوجِرَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ قَوْلُهُ : كَقَوْلِنَا عَلَى الْأَظْهَرِ .
هُوَ يَقُولُ : الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَتَعَدَّى مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَةٍ وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الْحُرْمَةِ وَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا حَتَّى تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ بِمَعْنَى الْإِنْشَارِ وَالْإِنْبَاتِ ، وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ كَوْنِهِ مُغَذِّيًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ لَحْمُهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَالْفَائِدَةُ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي ظُهُورِ الْحُرْمَةِ فِيهَا بَلْ تَظْهَرُ فِي الْمَيِّتَةِ دَفْنًا وَتَيَمُّمًا بِأَنْ كَانَ لِهَذِهِ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي أُوجِرَ لَبَنُ هَذِهِ الْمَيِّتَةِ فِي فَمِهَا زَوْجٌ فَإِنَّ لِهَذَا الزَّوْجِ أَنْ يَدْفِنَ وَيُيَمِّمَ الْمَيِّتَةَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْرَمًا لَهَا حَيْثُ صَارَتْ أُمَّ امْرَأَتِهِ .
وَقَوْلُهُ : وَأَمَّا الْحُرْمَةُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ : وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ : يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِمُلَاقَاتِهِ بِمَحَلِّ الْحَرْثِ لِتَثْبُتَ بِهِ الْحُرْمَةُ وَمَحَلُّ الْحَرْثِ قَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا .

( وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الصَّوْمِ إصْلَاحُ الْبَدَنِ وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاءِ .
فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فِي الرَّضَاعِ فَمَعْنَى النُّشُوءِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاحْتِقَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُغَذِّي وُصُولُهُ مِنْ الْأَعْلَى .
.احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا احْتَقَنَ بِاللَّبَنِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : صَوَابُهُ حُقِنَ لَا احْتَقَنَ ، يُقَالُ : حَقَنَ الْمَرِيضَ دَاوَاهُ بِالْحُقْنَةِ ، وَاحْتَقَنَ الصَّبِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ، وَاحْتُقِنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَعَيَّنَ حَقَنَ ، وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الِاحْتِقَانُ حَقَنَهُ كَرَدَنَ فَجَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .

( وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ .
.نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا ( قَوْلُهُ : وَهَذَا لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ ) بَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ اللَّبَنَ فِي الْأَصْلِ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ لِيَقُومَ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ اللَّبَنُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَهَذَا لَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ إذَا تَأَمَّلْت لَكِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِالْأُنْثَى الْوَلُودِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ أَذُونًا لَا صَمُوخًا فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ لَمْ يَخْتَلِفْ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْآدَمِيِّ فِي الذَّكَرِ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ كَدَمِ السَّمَكِ .

( وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا .( وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا ) وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذَا حِكَايَةٌ وَهِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الْأَخْبَارِ كَانَ يَقُولُ : تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ، فَإِنَّهُ دَخَلَ بُخَارَى فِي زَمَانِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَجَعَلَ يُفْتِي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : لَا تَفْعَلْ فَإِنَّك لَسْت هُنَاكَ ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ نُصْحَهُ حَتَّى اسْتَفْتَى عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَاجْتَمَعُوا وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بُخَارَى .

وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا ( ثُمَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ( وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا كَمَا إذَا قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا ( وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ بِهِ الْفَسَادَ ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ عَلِمَتْ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَتُهُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَكِنَّهَا مُسَبَّبَةٌ فِيهِ إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ لِلنِّكَاحِ وَضْعًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ ، أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ ، إلَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ إبْطَالَ النِّكَاحِ ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبَّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ ثُمَّ إنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَقَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ الْفَسَادَ ، أَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَكِنَّهَا قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ وَالْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ دُونَ الْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ وَلَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْضًا ، وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ .
.

قَالَ : ( وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حَرُمَتَا عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا ) فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَبَّدَةٌ ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا جَازَ التَّزَوُّجُ بِالصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا ( ثُمَّ إنَّهُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا ) إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ؛ ( لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا ) قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَلِلصَّغِيرَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ( وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَجِئْ مِنْ قِبَلِهَا ) فَإِنْ قِيلَ : الْعِلَّةُ لِلْفُرْقَةِ الِارْتِضَاعُ وَهِيَ فِعْلُهَا فَلِمَ لَمْ تُضَفْ الْفُرْقَةُ إلَيْهَا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنْ فِعْلُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا ) أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا لَمْ تُحْرَمْ مِنْ الْمِيرَاثِ ؟ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِصَغِيرَةٍ مُسْلِمَةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ ارْتَدَّ أَبَوَاهَا وَلَحِقَا بِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا يُقْضَى لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهَا .
وَالْجَوَابُ : إنَّا قَدْ قُلْنَا كُلَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا وَلَمْ يَلْزَمْ أَنَّ كُلَّمَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَهَا أَمْرٌ أَخْرَجَهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ كَالرِّدَّةِ الْحَاصِلَةِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ أَسْقَطَ حَقَّهَا ( وَيُرْجَعُ بِهِ ) أَيْ : بِمَا أَدَّى مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ ( عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ) بِأَنْ قَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ إفْسَادَ النِّكَاحِ ، ( وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ) بِأَنْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْهَا جُوعًا ( فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ

الصَّغِيرَةَ امْرَأَةُ زَوْجِهَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهَيْنِ ) جَمِيعًا يَعْنِي فِي تَعَمُّدِ الْفَسَادِ وَعَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ وَلِهَذَا جُعِلَ فَتْحُ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلُّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَفِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّي سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي التَّسَبُّبِ ، ( وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ ) بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ إذَا بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى ، ( وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ ) فِي إيجَابِ الضَّمَانِ ، ( لَكِنَّهَا مُسَبِّبَةٌ فِي ذَلِكَ ) بِالتَّأْكِيدِ لَا مُبَاشِرَةٌ ، ( إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا ) ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِتَرْبِيَةِ الصَّغِيرِ لَا لِإِفْسَادِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْإِفْسَادُ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ نِكَاحًا ، أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكِ عَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ ، وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَإِيجَارِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَفُوتُ بِهِ الْمُبْدَلُ يَفُوتُ بِهِ الْبَدَلُ أَيْضًا .
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ : الْكَبِيرَةُ بِإِرْضَاعِهَا مُسَبِّبَةٌ فِي تَأْكِيدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لَا مُبَاشِرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا كَمَا تَقَرَّرَ .
سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْضَاعَ إفْسَادُ النِّكَاحِ لَكِنَّ إفْسَادَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ لِمَا تَقَرَّرَ أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِلْزَامِهِ كَيْفَ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّ نِصْفَ

الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي بَابِ الْمَهْرِ ، وَالْمُتْعَةُ تَجِبُ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَتِّعُوهُنَّ } ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَادَ إلَيْهَا سَالِمًا ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ : أَيْ : وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ إبْطَالُ النِّكَاحِ فَكَانَتْ صَاحِبَةَ شَرْطٍ فَهِيَ مُسَبِّبَةٌ ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبِّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَعَلِمَتْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ وَقَصَدَتْ بِهِ الْفَسَادَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ لَكِنْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ جُوعًا لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِذَلِكَ أَيْ : بِالْإِرْضَاعِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْجَهْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِعُذْرٍ فَكَيْفَ جُعِلَ جَهْلُ الْمَرْأَةِ بِفَسَادِ النِّكَاحِ عُذْرًا فِي حَقِّ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهَا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ : وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ يَعْتَمِدُ التَّعَدِّيَ وَالتَّعَدِّي بِمَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْفَسَادِ وَالْقَصْدُ إلَى الْفَسَادِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْفَسَادِ ، فَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ بِالْفَسَادِ انْتَفَى قَصْدُ الْفَسَادِ ، وَكَانَ اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ .
فَإِنْ قُلْت : دَفْعُ قَصْدِ الْفَسَادِ يَسْتَلْزِمُ دَفْعَ الْحُكْمِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ الْحُكْمِ .
قُلْت : لَزِمَ ذَلِكَ ضِمْنًا فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ .

وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ تَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَاعْتُبِرَ أَمْرًا دِينِيًّا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ) أَيْ : عَنْ الرِّجَالِ أَجْنَبِيَّاتٍ كُنَّ أَوْ أُمَّهَاتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدَةٍ إذَا اتَّصَفَتْ بِالْعَدَالَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الرَّضَاعَ يَكُونُ بِالثَّدْيِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ لِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ ، وَعِنْدَهُ أَنَّ شَهَادَةَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ شَرْطٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِتَقُومَ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ .
وَقُلْنَا : هُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ يَحِلُّ لَهُمْ النَّظَرُ إلَى ثَدْيِهَا .
وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا يُطْعِمَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ أَخْبَرَهُ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَبُطْلَانِ الْمِلْكِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ لَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا أَنْ يَحْبِسَ الثَّمَنَ عَنْ الْبَائِعِ .
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

كِتَابُ الطَّلَاقِ .لَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ النِّكَاحِ طَبْعًا أَخَّرَهُ عَنْهُ وَضْعًا لِيُوَافِقَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ .
وَالطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ .
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِرَفْعِ الْقَيْدِ النِّكَاحِيِّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ .
وَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ الْمُحْوِجَةُ إلَيْهِ .
وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُطَلِّقِ عَاقِلًا بَالِغًا وَالْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ أَوْ عِدَّتِهِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ ، وَحُكْمُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ الْمَحَلِّ .
وَأَقْسَامُهُ مَا يَذْكُرُهُ .

( بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ ) : قَالَ ( الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : حَسَنٌ ، وَأَحْسَنُ ، وَبِدْعِيٌّ .
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ) ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ ( وَالْحَسَنُ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً } وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ ، فَالْحَاجَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا ، ثُمَّ قِيلَ : الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِيقَاعَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا ، وَمِنْ قَصْدِهِ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ .

بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ : ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ } وَالْعَامَّةُ عَلَى إبَاحَتِهِ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } وقَوْله تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَأَمْثَالِهِمَا .
وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ : حَسَنٌ ، وَأَحْسَنُ ، وَبِدْعِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ ) حَيْثُ أَبْقَى لِنَفْسِهِ مُكْنَةَ التَّدَارُكِ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا بِتَجْدِيدٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ ، وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ حَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ مَحَلِّيَّتُهَا نَظَرًا إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ اتِّسَاعَ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِنَّ فَلَا يَتَكَامَلُ ضَرَرُ الْإِيحَاشِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ ) أَيْ : فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ يَعْنِي لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِكَرَاهَةِ هَذَا الطَّلَاقِ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ فَيَكُونُ مَحْظُورًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ ) الضَّرُورَةُ التَّخْلِيصُ عَنْهَا بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الثَّانِيَةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا إلَى نَافِعٍ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ

بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ وَأَشَارَ بِهِ إلَى قَوْله تَعَالَى { : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قَالَ : إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ } ، خُيِّرَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالطَّلَاقِ ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِدْعَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ .
وَلَيْسَ هَذَا شَرْحَ مَا فِي الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا شَرْحُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ : مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ تَعَالَى ، إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا وَيُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً } ، ( وَقَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ ) بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ .
وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ ، وَالْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْعَجْزِ أَمْرٌ مُبَطَّنٌ فَأُقِيمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَهُ ، وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ جُعِلَتْ كَأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَاقِ تَكَرَّرَتْ فَأُبِيحَ تَكْرَارُ الطَّلَاقِ الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ، ( وَقَوْلُهُ : ثُمَّ قِيلَ ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذَا الطَّلَاقِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُؤَخَّرُ الْإِيقَاعُ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُطَلِّقُهَا كَمَا طَهُرَتْ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا ، وَمَنْ قَصْدُهُ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوِقَاعِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ ، جُعِلَ هَذَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا

طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ .

( وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَانَ عَاصِيًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَشْرُوعِيَّة لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَهِيَ فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَانِيَةً نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا ، وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ فَأَمْكَنَ تَصْوِيرُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا ، والْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْخَلَاصِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ ، وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا .

( وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا ، لَكِنَّهُ إذَا فَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَبَانَتْ مِنْهُ وَحَرُمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَكَانَ عَاصِيًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ طَلَاقٍ مُبَاحٌ ) يَعْنِي فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَى تَعْمِيمِهِ الطَّلَاقُ حَالَةَ الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ حَرَامٌ عِنْدَهُ أَيْضًا .
قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ : لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ ) وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَا يَكُونُ مَحْظُورًا ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ الْعُمُومُ وَالطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ ) وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمُحَرَّمُ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ الْتِبَاسُ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِيهِ يَلْتَبِسُ أَمْرُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا يَدْرِي أَهِيَ حَامِلٌ فَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ حَائِلٌ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : لَا أَعْرِفُ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةً وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةً بَلْ الْكُلُّ مُبَاحٌ ( وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ ) مِنْ تَحْصِينِ الْفَرْجِ عَنْ الزِّنَا الْمُحَرَّمِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ ( وَالدُّنْيَوِيَّةُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَسْكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَاكْتِسَابِ الْوَلَدِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَمَا لَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فَكَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ .
أَجَابَ

بِقَوْلِهِ ( وَهِيَ ) أَيْ الْحَاجَةُ ( فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا ) وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ لِكَوْنِهَا أَمْرًا مُبَطَّنًا .
فَإِنْ قِيلَ : دَلِيلُ الْحَاجَةِ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا وَهَاهُنَا لَا يُتَصَوَّرُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْخَلَاصِ عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَعَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالْأَوَّلِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ ) يَعْنِي لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةَ الْأَخْلَاقِ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ فَيُسَدُّ عَلَى الزَّوْجِ بَابُ إمْكَانِ التَّدَارُكِ مَعَ صَفَائِهِ عَنْ عُرُوضِ النَّدَمِ .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاحَ الثَّلَاثُ جُمْلَةً لَكِنَّهَا عِلَّةٌ تُعَارِضُ النَّصَّ فَلَمْ تُؤَثِّرْ ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُفَرَّقٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ عُمَرَ : { إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا } الْحَدِيثَ ( قَوْلُهُ : وَالْمَشْرُوعِيَّة فِي ذَاتِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ : وَالْمَشْرُوعِيَّة لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِذَاتِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا لِذَاتِهِ أَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَشْرُوعِيَّةُ لِذَاتِهِ وَالْحَظْرُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَوَاتِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَلَا تَنَافِي إذْ ذَاكَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ ، وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ بِدْعَةٌ لِمَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ) ظَاهِرٌ .

( وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : سُنَّةٌ فِي الْوَقْتِ ، وَسُنَّةٌ فِي الْعَدَدِ .
فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا ( وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ) لِأَنَّ الْمُرَاعَى دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ ، أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَزَمَانُ النَّفْرَةِ ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ ( وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا يُطَلِّقُهَا فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَلَنَا أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَتَجَدَّدُ بِالطُّهْرِ .
.

قَالَ ( وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا فِي الْوَقْتِ ، وَالْآخَرِ فِي الْعَدَدِ ، فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا ) وَهِيَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَسَمَّى الْوَاحِدَ عَدَدًا مَجَازًا لِكَوْنِهِ أَصْلَ الْعَدَدِ وَهُوَ مَا يَكُونُ نِصْفَ حَاشِيَتَيْهِ ، ( وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، وَالْمُرَاعَى دَلِيلُهَا ، ( وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ ، أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ ) فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ لِيُقَامَ مَقَامَهُ ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا شَيْئًا فَالرَّغْبَةُ فِيهَا بَاقِيَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَفِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَخْرُجْ طَلَاقُهَا عَنْ السُّنِّيِّ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ( خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا ) وَقَوْلُهُ : وَلَنَا وَاضِحٌ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ عُمَرَ { إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ } بِإِطْلَاقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا عِبْرَةَ لِخُصُوصِ السَّبَبِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخُصُوصَ لَمْ يَثْبُتْ لِخُصُوصِ السَّبَبِ ، بَلْ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا }

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ) ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ } إلَى أَنْ قَالَ { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقِّهَا بِالشَّهْرِ وَهُوَ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ ) وَقَالَ زُفَرُ : يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ وَهُوَ الشَّهْرُ : وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا ، وَالْكَرَاهِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ ، وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ لَكِنْ تَكْثُرُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي وَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ .

، ( وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } ) يَعْنِي إنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ اعْتِدَادِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُنَّ هَذَا .
وَقَوْلُهُ : ( { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ : وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً ) قِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ خَاصَّةً دُونَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا كَمَا اخْتَارَهُ آخَرُونَ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ حَتَّى يَتَقَدَّرَ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَيُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ ، وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ تَجَدُّدُ الْحَيْضِ إلَّا بِتَخَلُّلِ الطُّهْرِ ، وَفِي الشُّهُورِ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّهْرُ قَائِمًا مَقَامَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ الشَّهْرَ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْحَيْضِ ، فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ كَانَ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ فَكَانَ حَرَامًا كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ .
وَالثَّانِي مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ الشَّهْرَ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْحَيْضِ خَاصَّةً لَمَا اُحْتِيجَ إلَى إقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَقَامَ ثَلَاثِ حِيَضٍ بَلْ

يُكْتَفَى بِإِقَامَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ مَقَامَ ثَلَاثِ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ أَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَمُدَّةُ ثَلَاثِ حِيَضٍ تَحْصُلُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ طُهْرٌ حَقِيقَةً ، وَلَكِنْ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْحِيَضِ ، وَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِلَّا كَانَ عَيْنَهُ لَا قَائِمًا مَقَامَهُ ، فَكَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ خَاصَّةً ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ حَرَامٌ وَفِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِحَرَامٍ ؟ وَلَوْ كَانَ الْأَشْهُرُ بَدَلًا عَنْ الْأَقْرَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَكَانَ مُحَرَّمًا كَمَا فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْأَشْهُرَ مَقَامَ حِيَضٍ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ ، وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ غَالِبًا ، فَأُقِيمَتْ الْأَشْهُرُ مَقَامَ الْحِيَضِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِيهَا وَلَمْ تَقُمْ الْأَشْهُرُ مَقَامَ مُدَّةِ الْحَيْضِ حَتَّى يُكْتَفَى بِشَهْرٍ وَاحِدٍ وَلَمْ تَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ .
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ إلْزَامِ الْحُجَّةِ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِبْرَاءِ يُكْتَفَى بِالْحَيْضِ لَا غَيْرٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ إلَى الطُّهْرِ ، وَالشَّهْرُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْأَصْلُ ، وَاشْتِرَاطُ الْحَيْضِ مَعَ الطُّهْرِ فِي ثَلَاثِ حِيَضٍ إنَّمَا كَانَ لِتَحَقُّقِ عَدَدِ الثَّلَاثِ لَا لِذَاتِ الطُّهْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَلَوْ كَانَ لِذَاتِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْ الْحَيْضِ فَكَانُوا مَحْجُوجِينَ بِمَا قُلْنَا إلَى هَذَا لَفْظُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا تَرَى ، ؛ لِأَنَّ إلْزَامَ

الْحُجَّةِ عَلَى أَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ لَا يَكُونُ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ ، إذْ الْبَدِيهَةُ تَشْهَدُ بِأَنَّ غَرَضَ الْإِنْسَانِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ إلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ .
قَالَ : ( ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ) إذَا كَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْحَيْضِ بِالْأَهِلَّةِ كَامِلَةً كَانَتْ أَوْ نَاقِصَةً ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إلَّا بِتَمَامِ تِسْعِينَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ، وَعِنْدَهُمَا يَكْمُلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ ( وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ ) عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ) أَيْ : الْآيِسَةَ أَوْ الصَّغِيرَةَ ( وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : وَكَانَ شَيْخُنَا يَقُولُ : هَذَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُرْجَى مِنْهَا الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً يُرْجَى مِنْهَا الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ لَا تُنَافِي الْجَوَازَ ( وَقَالَ زُفَرُ : يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ ) فِيمَنْ لَا تَحِيضُ ، وَفِيهَا يُفْصَلُ بَيْنَ طَلَاقِهَا وَوَطْئِهَا بِحَيْضَةٍ فَكَذَا هَاهُنَا بِشَهْرٍ ، وَلِأَنَّ الرَّغْبَةَ تُعْتَبَرُ بِالْجِمَاعِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إذَا جُومِعَتْ فِي الطُّهْرِ ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ الرَّغْبَةُ بِزَمَانٍ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الشَّهْرُ ، ( وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا ) أَيْ : فِي الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِنْ الْآيِسَةِ أَوْ الصَّغِيرَةِ ، ( وَالْكَرَاهِيَةُ ) أَيْ كَرَاهِيَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْجِمَاعِ

( فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْحَبَلِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ ) فَلَا يَدْرِي أَنَّ انْقِضَاءَهَا يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، ( قَوْلُهُ : وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ ) جَوَابُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الرَّغْبَةَ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ جِهَةَ الرَّغْبَةِ وَالْفُتُورِ لَمَّا تَعَارَضَتَا تَسَاقَطَتَا بِالْمُعَارَضَةِ فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ لِمَا مَرَّ فَيَحْرُمُ عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا ، وَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ أَصْلًا أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا الْمَدْخَلُ فِي ذَلِكَ لِدَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ ، وَقَدْ سَقَطَتْ جِهَةُ الرَّغْبَةِ بِالْمُعَارَضَةِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الدَّائِرُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الْفَصْلُ

( وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ ، وَزَمَانُ الْحَبَلِ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ أَوْ يَرْغَبُ فِيهَا لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا تَقِلُّ الرَّغْبَةُ بِالْجِمَاعِ ( وَيُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ ثَلَاثًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) وَزُفَرُ ( لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ وَالشَّهْرُ دَلِيلُهَا كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلَحَ عِلْمًا وَدَلِيلًا ، بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي حَقِّهَا إنَّمَا هُوَ الطُّهْرُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا يُرْجَى مَعَ الْحَبَلِ .

( قَوْلُهُ : وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ ) يَعْنِي : قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيْ : لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ ، فَفِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فُرِّقَ عَلَى الْأَطْهَارِ ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَشْهُرِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِنَّ كَالْأَقْرَاءِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْحَيْضِ ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَإِنْ طَالَتْ فَهُوَ طُهْرٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا فَإِنَّ طُهْرَهَا وَإِنْ امْتَدَّ شُهُورًا فَهُوَ فَصْلٌ وَاحِدٌ لَا تُفَرَّقُ التَّطْلِيقَاتُ فِيهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ إبَاحَةَ الطَّلَاقِ لِلْحَاجَةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّقَصِّي عَنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَالشَّهْرُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَهَذَا أَيْ : كَوْنُ الشَّهْرِ دَلِيلًا فِي حَقِّ الْحَامِلِ كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ عَلَمًا وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْحَاجَةِ ، ( وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهَا ) فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ مَا أُبِيحَ لِأَجْلِهِ الطَّلَاقُ فَيَكُونُ مُبَاحًا .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَصْلُحُ الشَّهْرُ أَنْ يَكُونَ عَلَمًا ؛ لِأَنَّ الْعَلَمَ عَلَى الْحَاجَةِ فِي حَقِّهَا الطُّهْرُ : أَيْ : تُجَدِّدُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ، وَلَا يُرْجَى تَجَدُّدُ الطُّهْرِ مَعَ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ

( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَنْعَدِمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ ( وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا } وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ .
وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ وَالْحَثَّ عَلَى الرَّجْعَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ .
قَالَ ( فَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ ) ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا .
قَالَ : وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الْأُولَى .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ ( مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا ) وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هَاهُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ فَتَتَكَامَلُ .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ قَدْ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَيْضِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ) ، أَمَّا الْوُقُوعُ فَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا : يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الطَّلَاقُ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا .
نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ هَاهُنَا هُوَ النَّهْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضِدِّ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَيْ : لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ أَوْ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي { قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا } لِمَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِرَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ إيقَاعِهِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } وَالنَّهْيُ إذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ الْمَشْرُوعِيَّةَ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ { فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ : مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا } وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ، ( وَهَذَا ) الْحَدِيثُ ( يُفِيدُ الْوُقُوعَ ) بِاقْتِضَائِهِ ( وَالْحَثُّ عَلَى الرَّجْعَةِ ) بِعِبَارَتِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ) وَوَجْهُهُ أَنَّ أَدْنَى الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ ، ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ ) قِيلَ : الْأَمْرُ لِعُمَرَ وَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ عَلَى عُمَرَ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَهُ بِذَلِكَ ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى ابْنِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ فَصَارَ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ

بِذَلِكَ فَثَبَتَ الْوُجُوبُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَلْيُرَاجِعْهَا أَمْرٌ لِابْنِ عُمَرَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُرَاجَعَةُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : عَمَلًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ ، وَرَفْعُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا إنَّمَا هُوَ بِرَفْعِ أَثَرِهِ أَيْ : أَثَرِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ بِرَفْعِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( قَالَ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ : ( فَإِذَا طَهُرَتْ ) يَعْنِي بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ ( وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ ) وَوَفَّقَ الْكَرْخِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ : مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ وَجْهَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْبَابِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ مَرْوِيَّةٌ فِي الْحَدِيثِ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ مُسْنَدًا إلَى نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ } ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مُسْنِدًا إلَى سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِعُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إذَا طَهُرَتْ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى بَيَانِ وَجْهِهِمَا بِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ

( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً ) ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ وَوَقْتُ السُّنَّةِ طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ ( وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ وُقُوعَهُ بِالسُّنَّةِ لَا إيقَاعًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَيَنْتَظِمُهُ عِنْدَ نِيَّتِهِ ( وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى ) ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لَمَا قُلْنَا ) بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ الْأَشْهُرِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، أَوْ نَوَى شَيْئًا ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ حَالَةَ الْحَيْضِ أَوْ حَالَةَ الطُّهْرِ ، وَكَذَا رَأْسُ كُلِّ شَهْرٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ وَضِدُّ الشَّيْءِ لَا يُرَادُ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّامَ فِيهِ أَيْ : فِي قَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ لِلْوَقْتِ ، وَالسُّنَّةُ تَكُونُ تَارَةً كَامِلَةً إيقَاعًا وَوُقُوعًا وَتَارَةً وُقُوعًا فَقَطْ ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلًا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُطْلَقًا ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ السُّنَّةُ إيقَاعًا وَوُقُوعًا فَيَقَعُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ تَطْلِيقَةٌ ، وَإِذَا نَوَى صَرْفَ لَفْظِهِ إلَى السُّنَّةِ وُقُوعًا لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، فَهُوَ سُنِّيٌّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَرَفَ صِحَّةَ وُقُوعِهِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِ } فَإِنْ قِيلَ : الْوُقُوعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِيقَاعِ ؛ لِأَنَّهُ انْفِعَالُهُ فَإِذَا صَحَّ الْوُقُوعُ صَحَّ الْإِيقَاعُ فَكَانَ سُنِّيًّا وُقُوعًا وَإِيقَاعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوُقُوعَ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْبِدْعَةِ وَالْإِيقَاعُ يُوصَفُ بِهَا لِكَوْنِهِ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ ، وَكَانَ الْوُقُوعُ أَشْبَهَ

بِالسُّنَّةِ الْمَرْضِيَّةِ فَلِهَذَا قَالَ : سُنِّيٌّ وُقُوعًا ، ( وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ ) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ( وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ ) عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ ، ( وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثَ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِمَا قُلْنَا ) إنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا ، وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ ، إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يُجَامِعْهَا وَقَعَ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَقَعْ السَّاعَةَ ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ وَهِيَ تِلْكَ ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا جُمْلَةً قَالَ الْمُصَنِّفُ لَا تَصِحُّ ، قِيلَ هَكَذَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَصَاحِبُ الْمُخْتَلِفَاتِ وَعَلَاءُ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيُّ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنْ صَحَّتْ فَإِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ ، وَوَقْتُ طَلَاقِ السُّنَّةِ مُتَعَدِّدٌ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ ، مِنْ ضَرُورَةِ تَعْمِيمِ الْوَقْتِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَ ظَرْفًا لِلْوَاقِعِ وَقَدْ تَكَرَّرَ الظَّرْفُ فَيَتَكَرَّرُ الْمَظْرُوفُ ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَيَبْطُلُ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمُقْتَضِي يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُقْتَضَى فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَذْكُورٌ صَرِيحًا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ صَحِيحَةٌ جُمْلَةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ نَوْعَانِ : حَسَنٌ ، وَأَحْسَنُ .
فَالْأَحْسَنُ أَنْ

يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ .
وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ التَّطْلِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ طَلَاقًا لِلسُّنَّةِ .
كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى وُقُوعُهَا جُمْلَةً ، وَدَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ عَلَى الْأَطْهَارِ كَمَا تَرَى .
وَنَقَلَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَقَعُ جُمْلَةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ ثَلَاثًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِبَارَةِ وَالِاقْتِضَاءِ فِي الْعُمُومِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَنَا ، وَلَعَلَّهُ سَبَبُ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ الْوُقُوعِ جُمْلَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) ( وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ } وَلِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَهُمَا عَدِيمَا الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ .فَصْلٌ لَمَّا ذَكَرَ طَلَاقَ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَمَنْ لَا يَقَعُ ، ( وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ } ) وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ النَّفَاذُ دُونَ الْحِلِّ الَّذِي يُقَابِلُ الْحُرْمَةَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَالنُّفُوذُ بِالْوُقُوعِ ، فَمَعْنَاهُ : كُلُّ طَلَاقٍ نَافِذٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَلَا عَقْلَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، أَمَّا الْمَجْنُونُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْهُ ، وَالصَّبِيُّ وَإِنْ اتَّصَفَ بِالْعَقْلِ حَتَّى صَحَّ إسْلَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَدِلٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ فِيهِ مَضَرَّةٌ ، ( وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ ) فِي التَّكَلُّمِ ، وَشَرْطُ التَّصَرُّفِ الِاخْتِيَارُ فِيهِ

( وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ وَبِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ اعْتِبَارًا بِالطَّائِعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا ، وَهَذَا آيَةُ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارُ ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ .

، ( وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ : إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ ) لِإِفْسَادِهِ إيَّاهُ ، وَاعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالِاخْتِيَارِ ( بِخِلَافِ الْهَازِلِ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ ) فَكَانَ شَرْطُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْجُودًا ، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : اسْقِنِي فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لِحُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّكَلُّمِ ؟ ( وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ ) أَيْ : حُكْمِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ عِلَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ : قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَغْوٌ لِكَوْنِهِ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَقِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذْ كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يَصِيرُ صِدْقًا .
وَقَوْلُهُ : فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ الْهَلَاكَ وَالطَّلَاقَ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا ، وَاخْتِيَارُ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ آيَةُ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ كَذَلِكَ لَا يَعْرَى فِعْلُهُ عَنْ حُكْمِهِ كَمَا فِي الطَّائِعِ ؛ إذْ الْعِلَّةُ فِيهِ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُكْرَهِ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَتَخَلَّصَ عَمَّا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ .
وَقَوْلُهُ : إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُخْتَارًا لَمَا كَانَ لَهُ اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعُقُودِ الَّتِي بَاشَرَهَا مُكْرَهًا مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ

فَكَانَ لَهُ فَسْخُ الْعُقُودِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَعَدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ السَّبَبَ دُونَ الْحُكْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْهَازِلِ فَرْقٌ وَهُوَ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ وَلِلْهَازِلِ اخْتِيَارٌ كَامِلٌ ، وَالْفَاسِدُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْهَازِلِ الْوُقُوعُ فِي الْمُكْرَهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْهَازِلَ اخْتِيَارًا كَامِلًا فِي السَّبَبِ ، أَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ السَّبَبِ فَلَا اخْتِيَارَ لَهُ أَصْلًا فَكَانَ اخْتِيَارُ الْهَازِلِ أَيْضًا غَيْرَ كَامِلٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَكَانَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَائِزًا .

( وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ ) وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَهُوَ زَائِلُ الْعَقْلِ فَصَارَ كَزَوَالِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ .
وَلَنَا أَنَّهُ زَالَ ( بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَجُعِلَ بَاقِيًا حُكْمًا زَجْرًا لَهُ ، حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصُدِعَ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ نَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ) .

( وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ عَدَمَهُ ) وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ ، خَلَا أَنَّ فِي كَلَامِهِ تَسَامُحًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَقْلَ زَائِلًا بِالسُّكْرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ وَلَا خِطَابَ بِلَا عَقْلٍ بَلْ هُوَ مَغْلُوبٌ ، وَلَمَّا كَانَ الْمَغْلُوبُ كَالْمَعْدُومِ وَأَطْلَقَ الزَّوَالَ مُجَارَاةً لِلْخَصْمِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ شُرْبَ الْمُسْكِرِ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَمَا بَالُ السَّفَرِ صَارَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ دُونَ شُرْبِ الْمُسْكِرِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الْعَقْلُ بَاقِيًا فِي الطَّلَاقِ حُكْمًا زَجْرًا لَهُ كَانَتْ الرِّدَّةُ وَالْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ وَالْعُقُوبَةَ هُنَاكَ أَتَمُّ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشُّرْبَ نَفْسَهُ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فِيهِ إمْكَانُ انْفِصَالٍ وَلَا جِهَةُ إبَاحَةٍ تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّخْفِيفِ إلَيْهَا فَجُعِلَ بَاقِيًا زَجْرًا ، بِخِلَافِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَأَمْكَنَ انْفِصَالُهَا عَنْهُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، فَكَانَتْ جِهَةُ إبَاحَتِهِ تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّرَخُّصِ إلَيْهَا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الرِّدَّةِ الِاعْتِقَادُ ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ لِانْعِدَامِ رُكْنِهَا لَا لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ .
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ فَيُجْعَلُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَيُؤَثِّرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ .
وَفِي قَوْلِهِ : بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ إشَارَةً إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّرْبِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى سُكْرٍ يَكُونُ مَحْظُورًا .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُبَاحٍ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَالْخَمْرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا

بِالْقَتْلِ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ فِي حَقِّ مَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصَدَعَ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ نَقُولُ : إنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَوَالُهُ بِمَعْصِيَةٍ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الصُّدَاعَ أَثَرُ الشُّرْبِ فَكَانَ عِلَّةَ الْعِلَّةِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهَا كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ ، فَمَا بَالُهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ إنَّمَا تَكُونُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ صَالِحَةً لِلْإِضَاقَةِ ، وَهَاهُنَا صَالِحَةٌ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ كَمَا إذَا جُنَّ .

( وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ بِالْإِشَارَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً فَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْعِبَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَسَتَأْتِيكَ وُجُوهُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .وَقَوْلُهُ : ( وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ ) ظَاهِرٌ .

( طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَامَةٌ وَالْآدَمِيَّةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لَهَا ، وَمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ فِي الْحُرِّ أَكْمَلُ فَكَانَتْ مَالِكِيَّتُهُ أَبْلَغَ وَأَكْثَرَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا ، وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ ، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْإِيقَاعَ بِالرِّجَالِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ ) أَنَّثَ الطَّلَاقَ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَةِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَابَلَ الطَّلَاقَ بِالْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسٍ عَلَى حِدَةٍ ، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بِالنِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ ؛ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَامَةٌ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَرَامَةٌ فَالْآدَمِيَّةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لَهَا لِكَوْنِهِ مُكَرَّمًا بِتَكْرِيمِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } الْآيَةَ ، وَمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ فِي الْحُرِّ أَكْمَلُ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعَبْدُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَلِخُلُوصِهِ عَنْ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الْمَمْلُوكَ فِي قَرْنِ الْبَهَائِمِ مَلْزُوزًا ، ( فَكَانَتْ مَالِكِيَّتُهُ أَبْلَغَ ) فَإِنْ قُلْت : الدَّلِيلُ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِالزَّوْجِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ حُرًّا كَانَ مَالِكًا .
قُلْت : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْحُرِّ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ ، وَمَذْهَبُهُ قَوْلُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ( وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ الْأَمَةَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْهُودٌ فَكَانَ لِلْجِنْسِ ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ هَذَا الْجِنْسِ ثِنْتَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ لَكَانَ لِبَعْضِ الْإِمَاءِ ثِنْتَانِ فَلَمْ تَبْقَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَمَةَ تَحْتَ عَبْدٍ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُفْضِي

إلَى أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ فِي " وَعِدَّتُهَا " عَائِدَةٌ إلَيْهَا فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لَهَا بِكَوْنِ عِدَّتِهَا حَيْضَتَيْنِ ، إذْ لَا مَرْجِعَ لِلضَّمِيرِ سِوَاهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمَةِ الْأَمَةَ تَحْتَ عَبْدٍ ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مُطْلَقِ الْأَمَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ خَطَابَةٌ لَا تُجْدِي فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ ؛ ( وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ ) أَيْ : حِلَّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَحَلَّ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى دُرُورِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَالِازْدِوَاجِ وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهَا ، وَمَا هُوَ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ ، فَإِنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ فِي الرِّجَالِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ التَّزَوُّجِ مَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ فَكَذَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ مَعَ الْحُرَّةِ وَلَا بَعْدَهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا إلَّا عُقْدَةً وَنِصْفًا : أَيْ : طَلْقَةً وَنِصْفَ طَلْقَةٍ تَنْقِيصًا لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ ، ( إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ ) ، وَمَذْهَبُنَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ ) يَعْنِي قَوْلَهُ : { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ } أَنَّ الْإِيقَاعَ بِالرِّجَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ خَاصَّةً .
أُجِيبَ بَلْ كَانَ إلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا كَرِهَتْ الزَّوْجَ غَيَّرَتْ الْبَيْتَ وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { : الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ }

( وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً ) بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَطَلَّقَهَا ( وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ الْإِسْقَاطُ إلَيْهِ دُونَ الْمَوْلَى .( وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً وَطَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الْعَبْدِ ) لِكَوْنِهِ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ ، وَالْعَبْدُ مُبْقًى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ النِّكَاحَ دُونَ إذْنِ مَوْلَاهُ ، لَكِنْ لَوْ قُلْنَا بِهِ تَضَرَّرَ الْمَوْلَى فِيهِ فَتَرَكْنَاهُ لِأَجْلِهِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الطَّلَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : صَرِيحٌ ، وَكِنَايَةٌ .
فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُك فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ فَكَانَ صَرِيحًا وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ ( وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ .
وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وِثَاقٍ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ .
وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْعَمَلِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ لِلتَّخْلِيصِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِتَسْكِينِ الطَّاءِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ عُرْفًا فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا .

بَابُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ تَنْوِيعِهِ فَقَالَ ( الطَّلَاقُ ) أَيْ التَّطْلِيقُ ( عَلَى ضَرْبَيْنِ : صَرِيحٍ ، وَكِنَايَةٍ ، فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُك يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ ) لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحَةً ، وَالصَّرِيحُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وَهُوَ يُشِيرُ بِتَسْمِيَتِهِ بَعْلًا إلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَالَ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وَالرَّدُّ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا زَالَ عَنْهُ مِلْكُهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَعْلَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلزَّوْجِ حَقِيقَةً وَهِيَ لَا تُتْرَكُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَأَمَّا لَفْظُ الرَّدِّ فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ كَالْبَائِعِ جَارِيَةً بِالْخِيَارِ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي .
ثُمَّ إذَا فَسَخَهُ يُقَالُ رَدَّ الْجَارِيَةَ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ الْبَائِعِ ( وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ) وَالصَّرِيحُ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ بِهِ ظُهُورًا بَيِّنًا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا كَذَلِكَ ، وَالصَّرِيحُ يَقُومُ لَفْظُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ : يَعْنِي إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ لِأَنَّهُ خَالَفَ الشَّرْعَ حَيْثُ قَصَدَ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ هُوَ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا وَالْإِمْسَاكُ إبْقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى مَا كَانَ ، فَمَا دَامَتْ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً كَانَتْ وِلَايَةُ الرَّجْعَةِ بَاقِيَةً ، وَإِذَا انْقَضَتْ مِنْ غَيْرِ

رَجْعَةٍ بَانَتْ فَصَارَتْ الْبَيْنُونَةُ مُعَلَّقَةً بِالِانْقِضَاءِ كَذَا قَالُوا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى تَعْلِيقِ الْبَيْنُونَةِ بِالِانْقِضَاءِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ الْبَيْنُونَةَ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ فِيمَا نُوِيَتْ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً وَالْمُقْتَضِي ضَرُورِيٌّ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالرَّجْعِيِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَائِنِ كَانَ أَسْلَمَ ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ ) يَعْنِي قَصْدُهُ وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَقْدِيمَ مَا أَخَّرَ الشَّرْعُ إلَى وَقْتٍ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُورَثِ وَأَصْلُهُ بَقَرَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ ( وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وَثَاقٍ ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ الْقَيْدُ وَالْكَسْرُ فِيهِ لُغَةٌ ( لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ ) أَيْ لَمْ يُصَدَّقْ ، وَحَقِيقَتُهُ دَيَّنْت الرَّجُلَ تَدْيِينًا وَكَلْتُهُ إلَى دِينِهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي التَّصْدِيقِ مَجَازًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ صَرْفُ الْكَلَامِ عَمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ إلَى مَا لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ فِيمَا عَلَيْهِ تَخْفِيفٌ .
وَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ ( وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ ) إذْ الطَّلَاقُ مِنْ الْإِطْلَاقِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبِلِ أَوْ الْوَثَاقِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عِبَارَةً عَنْهُ مَجَازًا .
( وَلَوْ نَوَى بِهِ ) أَيْ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ ( الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهُوَ ) قِيلَ أَيْ الْمَرْأَةُ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ أَوْ الذَّاتِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ بَلْ يَعُودُ إلَى الْقَيْدِ الَّذِي يَرْفَعُهُ الطَّلَاقُ وَهُوَ النِّكَاحُ .
وَتَقْرِيرُهُ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ النِّكَاحِيِّ ، وَالْقَيْدُ النِّكَاحِيُّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْعَمَلِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِرَفْعِ الْقَيْدِ بِالْعَمَلِ وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .

وَرَوَى الْحَسَنُ ( عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْلِيصِ ) فَكَانَ مَعْنَاهُ أَنْتِ مُخَلَّصَةٌ مِنْ الْعَمَلِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِ ، أَمَّا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ عَمَلِ كَذَا مَوْصُولًا صُدِّقَ دِيَانَةً رِوَايَةً وَاحِدَةً ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِتَسْكِينِ الطَّاءِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ عُرْفًا فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا ) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا كَانَ كِنَايَةً لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ وَالْكِنَايَةُ تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ

قَالَ ( وَلَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ ، فَإِنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ لُغَةً كَذِكْرِ الْعَالَمِ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ وَلِهَذَا يَصِحُّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ فَيَكُونَ نَصَبًا عَلَى التَّمْيِيزِ .
وَلَنَا أَنَّهُ نَعْتٌ فَرْدٌ حَتَّى قِيلَ لِلْمُثَنَّى طَالِقَانِ وَلِلثَّلَاثِ طَوَالِقُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ ، وَذِكْرُ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِطَلَاقٍ هُوَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ لَا لِطَلَاقٍ هُوَ تَطْلِيقٌ ، وَالْعَدَدُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا كَقَوْلِك أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا : أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا ( وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ الطَّلَاقُ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ ) وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ النَّعْتَ وَحْدَهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، فَإِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ مَعَهُ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً أَوْلَى .
وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِاللَّفْظَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الِاسْمُ ، يُقَالُ : رَجُلٌ عَدْلٌ : أَيْ عَادِلٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَلَاقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَيْضًا وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ ، وَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْكَثْرَةَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ فِيهَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ الثِّنْتَيْنِ بَعْضُ الثَّلَاثِ فَلَمَّا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ صَحَّتْ نِيَّةُ بَعْضِهَا ضَرُورَةً .
وَنَحْنُ نَقُولُ : نِيَّةُ الثَّلَاثِ

إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ ، أَمَّا الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ فَعَدَدٌ ، وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّوَحُّدِ يُرَاعَى فِي أَلْفَاظِ الْوُحْدَانِ وَذَلِكَ بِالْفَرْدِيَّةِ أَوْ الْجِنْسِيَّةِ وَالْمَثْنَى بِمَعْزِلٍ مِنْهُمَا .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَقَعُ بِهِ ) مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ : أَيْ لَا يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ ( إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ لَفْظِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ ) لِكَوْنِهِ نَعْتًا وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلَ لَفْظِهِ ( يَصِحُّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ وَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ مُحْتَمَلُ اللَّفْظِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ ( وَلَنَا أَنَّهُ نَعْتُ فَرْدٍ حَتَّى قِيلَ لِلْمُثَنَّى طَالِقَانِ وَلِلثَّلَاثِ طَوَالِقُ ) وَكُلُّ مَا هُوَ نَعْتُ فَرْدٍ ( لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ ) وَالضِّدُّ لَا يَحْتَمِلُ الضِّدَّ .
وَقَوْلُهُ وَذِكْرُ الطَّوَالِقِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ لُغَةٌ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الطَّالِقَ نَعْتٌ مِنْ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى طَلَاقٍ يَكُونُ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ لَا عَلَى طَلَاقٍ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ فِعْلُ الرَّجُلِ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ضَرُورِيٌّ تَتَّصِفُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَلَيْسَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الثَّانِيَ تَصْحِيحًا لَهُ وَكَانَ ثَابِتًا ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْكَلَامِ مُقْتَضًى وَلَا عُمُومَ لَهُ .
وَقَوْلُهُ وَالْعَدَدُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا يَصِحُّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ أَنْتِ الطَّلَاقُ ) وَاضِح وَقَوْلُهُ ( فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ الطَّلَاقُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ لَمَا صَحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كَمَا لَمْ تَصِحَّ فِي أَنْتِ طَالِقٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا لَا تَصِحُّ فِي طَالِقٍ لِأَنَّهُ نَعْتُ فَرْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ مَصْدَرٌ فِي أَصْلِهِ

وَإِنْ وُصِفَ بِهِ فَلُمِحَ فِيهِ جَانِبُ الْمَصْدَرِيَّةِ وَصَحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحٌ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ فَقَالَ : أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقَ أُخْرَى يُصَدَّقُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَقَعُ رَجْعِيَّتَانِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ فَقَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقِ أُخْرَى ) فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْطُوءَةً لَغَا الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةً ( يُصَدَّقُ ) وَيَقَعُ طَلْقَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ ( لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ ) بِتَقْدِيرِ الْمُبْتَدَإِ فِي الثَّانِي كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ .

( وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُمْلَتِهَا أَوْ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى مَحِلِّهِ ، وَذَلِكَ ( مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ ) لِأَنَّ التَّاءَ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ ( أَوْ ) يَقُولَ ( رَقَبَتُكِ طَالِقٌ أَوْ عُنُقُك ) طَالِقٌ أَوْ رَأْسُك طَالِقٌ ( أَوْ رُوحُك أَوْ بَدَنُك أَوْ جَسَدُك أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك ) لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .
أَمَّا الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا غَيْرُهُمَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَقَالَ { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوج } وَيُقَالُ فُلَانٌ رَأْسُ الْقَوْمِ وَيَا وَجْهَ الْعَرَبِ وَهَلَكَ رُوحُهُ بِمَعْنَى نَفْسُهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الدَّمُ فِي رِوَايَةٍ يُقَالُ دَمُهُ هَدَرٌ وَمِنْهُ النَّفْسُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَكَذَلِكَ إنْ ) ( طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك ) طَالِقٌ لِأَنَّ الشَّائِعَ مَحِلٌّ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَكَذَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتَ فِي الْكُلِّ ضَرُورَةً ( وَلَوْ قَالَ : يَدُك طَالِقٌ أَوْ رِجْلُك طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَقَعُ ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .
لَهُمَا أَنَّهُ جُزْءٌ مُسْتَمْتَعٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَمَا هَذَا حَالُهُ يَكُونُ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَيَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ فَيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِيهِ قَضِيَّةً لِلْإِضَافَةِ ثُمَّ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ النِّكَاحُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مُمْتَنِعٌ إذْ الْحُرْمَةُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ تُغَلِّبُ الْحِلَّ فِي هَذَا الْجُزْءِ وَفِي الطَّلَاقِ الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُوَ كَمَا إذَا أَضَافَهُ إلَى رِيقِهَا أَوْ ظُفُرِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحِلَّ

الطَّلَاقِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْقَيْدُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ وَلَا قَيْدَ فِي الْيَدِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ لِأَنَّهُ مَحِلٌّ لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا حَتَّى تَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ فَكَذَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .

( وَلَوْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُمْلَتِهَا ) مِثْلَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ التَّاءَ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرَ هَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ مَا بَعْدَهُ ( أَوْ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مِثْلَ قَوْلِك رَقَبَتُك طَالِقٌ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَلَمْ يُرِدْ الرَّقَبَةَ بِعَيْنِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعُنُقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } وَلَمْ يُرِدْ الْأَعْنَاقَ بِعَيْنِهَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ خَاضِعَةً وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَلَوْ قَالَ يَدُك طَالِقٌ أَوْ رِجْلُك لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَقَعُ ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْإِصْبَعِ وَالشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفْرِ .
لَهُمَا أَنَّهُ جُزْءٌ مُسْتَمْتَعٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَكُلُّ جُزْءٍ مُسْتَمْتَعٍ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ ، وَمَا كَانَ مَحَلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ كَانَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ لِأَنَّهُ رَافِعُهُ فَيَكُونُ حَالًّا مَحَلَّهُ فَإِذَا أُضِيفَ إلَيْهِ الطَّلَاقُ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِ تَوْفِيَةً لِحَقِّ الْإِضَافَةِ ثُمَّ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ مَحَلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ لَانْعَقَدَ النِّكَاحُ إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ ثُمَّ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ مُمْتَنِعَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ تَغْلِبُ الْحِلَّ فِي هَذَا الْجُزْءِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ السَّرَيَانِ ( وَفِي الطَّلَاقِ الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ ) يَعْنِي الْحُرْمَةَ فِي هَذَا الْجُزْءِ تَغْلِبُ الْحِلَّ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ ) ظَاهِرٌ ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ وَنَحْوَهُمَا أَطْرَافٌ وَهِيَ أَتْبَاعٌ لَا مَحَالَةَ ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِمَا دَخَلَ الْأَتْبَاعُ كَمَا فِي شِرَاءِ تِلْكَ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْأَصْلِ

ذِكْرًا لِلتَّبَعِ ، وَأَمَّا ذِكْرُ التَّبَعِ فَلَا يَكُونُ ذِكْرًا لِلْأَصْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ عَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَدِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَاحِبُ الْيَدِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا قَالَ أَرَدْت إضْمَارَ صَاحِبِهَا طَلُقَتْ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : إذَا قَالَ لَهَا رَأْسُك طَالِقٌ وَعَنَى اقْتِصَارَ الطَّلَاقِ عَلَى الرَّأْسِ لَا يَبْعُدُ أَنْ نَقُولَ بِأَنَّهَا لَا تَطْلُقُ ، وَلَوْ قَالَ يَدُك طَالِقٌ وَأَرَادَ بِهِ الْعِبَارَةَ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ لَا يَبْعُدُ أَنْ نَقُولَ بِأَنَّهَا تَطْلُقُ ، وَإِذَا قَالَ ظَهْرُك طَالِقٌ أَوْ بَطْنُك طَالِقٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ النِّكَاحُ بِدُونِهِمَا ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ) أَيْ الْإِيقَاعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ ظَهْرُك أَوْ بَطْنُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا .

( وَإِنْ طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَهَا كَانَتْ ) طَالِقًا ( تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ الْكُلِّ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ جُزْءٍ سَمَّاهُ لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ) لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْصَافٍ تَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ضَرُورَةً .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَةً ، قِيلَ : يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلَ ، وَقِيلَ : يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ يَتَكَامَلُ فِي نَفْسِهِ فَتَصِيرَ ثَلَاثًا .

( وَإِنْ طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَهَا طَلُقَتْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضَ مَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الطَّلَاقُ ، إذْ نِصْفُ التَّطْلِيقِ أَوْ ثُلُثُهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ الْكُلِّ كَالْعَفْوِ عَنْ بَعْضِ الْقِصَاصِ صِيَانَةً لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ وَتَغْلِيبًا لِلْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ وَإِعْمَالًا لِلدَّلِيلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى الْبَعْضِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ أَوْجَبَ إكْمَالَهُ وَإِلَّا لَزِمَ إبْطَالُ الدَّلِيلِ ( وَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ جُزْءٍ سَمَّاهُ ) وَالنِّصْفُ كَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالسُّدُسِ وَغَيْرِهَا ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِأَنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ ) فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ يَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ضَرُورَةً ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : إنَّمَا أَوْرَدَ : يَعْنِي مُحَمَّدًا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِإِشْكَالٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ نَصَّفْته لَا يَكُونُ إلَّا نِصْفَيْنِ ، فَالْقَوْلُ بِالثَّلَاثَةِ فِي ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَلْغُوَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الطَّلَاقَ يَعْنِي أَرَادَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ وَاسْتَعْمَلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَتَيْنِ إذَا كَانَ تَطْلِيقَةً فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِهِمَا تَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ كَانَ لَغْوًا فَبَقِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْكَلَامُ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيمَا أَرَادَ أَوْ مَجَازًا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَلَا إلَى الثَّانِي لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ وَعَدَمِ الِاتِّصَالِ .

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَجَازٌ ، وَتَصَوُّرُ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالِاتِّصَالُ مَوْجُودٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ .
وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا ثِنْتَيْنِ وَلَمْ نَقُلْ وَقَدْ أَوْقَعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ رُبُعَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَرُبُعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ .
وَمَنْ أَوْقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَابَ هَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ .
وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي أَوْقَعَهَا هُنَاكَ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ مَوْجُودَةٌ فِي التَّطْلِيقَتَيْنِ لِأَنَّ رُبُعَ تَطْلِيقَتَيْنِ نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ فَلَا وَجْهَ إلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَهَاهُنَا الْأَجْزَاءُ الَّتِي أَوْقَعَهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي التَّطْلِيقَتَيْنِ إذْ لَيْسَ لِلتَّطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَنْصَافٍ فَلَا حَاجَةَ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ سِوَى تَصْحِيحِ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ قِيلَ يَقَعُ طَلْقَتَانِ ) وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ وَالْعَتَّابِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ : هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ تَكُونُ تَطْلِيقَةً وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : يَقَعُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ يَكُونُ طَلْقَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ لَا مَحَالَةَ .
.

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ قَالَ : مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ ثِنْتَانِ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ فِي الْأُولَى هِيَ ثِنْتَانِ وَفِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثٌ ) وَقَالَ زُفَرُ : الْأُولَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ الْغَايَةُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مَتَى ذُكِرَ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ ، كَمَا تَقُولُ لِغَيْرِك : خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى مِائَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ سِنِّي مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَمَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَيُرِيدُونَ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِرَادَةُ الْكُلِّ فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْإِبَاحَةِ كَمَا ذُكِرَ ، إذْ الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ ، ثُمَّ الْغَايَةُ الْأُولَى لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ ، وَوُجُودُهَا بِوُقُوعِهَا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ .
وَلَوْ نَوَى وَاحِدَةً يَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .

قَالَ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ ) إذَا طَلَّقَهَا مُشْتَمِلًا كَلَامَهُ عَلَى الْغَايَتَيْنِ ، فَإِمَّا أَنْ تَدْخُلَ الْغَايَتَانِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَوْ لَا تَدْخُلَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَوْ يَدْخُلَ الِابْتِدَاءُ دُونَ الِانْتِهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ الِانْتِهَاءُ دُونَ الِابْتِدَاءِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ غَايَةَ الشَّيْءِ لَا تَدْخُلُ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ غَايَةً كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ كَقَوْلِهِ بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ ، وَهُوَ قِيَاسٌ مَحْضٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَاجَّهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ كَمْ سِنُّك ؟ فَقَالَ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ ، فَقَالَ لَهُ إذَنْ أَنْتَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ فَتَحَيَّرَ .
وَرَوَى فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ هُوَ الَّذِي حَاجَّهُ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ قَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ ؟ قَالَ تَطْلُقُ وَاحِدَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا بَيْنَ لَا تَتَنَاوَلُ الْحَدَّيْنِ ، فَقَالَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قِيلَ لَهُ كَمْ سِنُّك ؟ فَقَالَ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ يَكُونُ ابْنَ تِسْعِ سِنِينَ ، فَتَحَيَّرَ زُفَرُ وَاسْتَحْسَنَ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، وَقِيلَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ حَدًّا وَمَحْدُودًا لَغَا آخِرُ كَلَامِهِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ذَلِكَ وَبَقِيَ أَنْتِ طَالِقٌ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ ، كَمَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى مِائَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ سِنِّي مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ أَوْ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَيُرِيدُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ : يَعْنِي

الْأَكْثَرَ مِنْ الْأَقَلِّ أَوْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ ، قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَمَشَّى فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِ الثَّلَاثُ وَالْأَقَلَّ الْوَاحِدُ ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ الثِّنْتَانِ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِ : يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْأَكْثَرِ فِي الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ وَالثَّلَاثُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ .
وَأَقُولُ : قَوْلُهُ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ : مَعْنَاهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ .
وَقَوْلُهُ سِنِّي مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ .
وَقَوْلُهُ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِرَادَةُ الْكُلِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ كَمَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى مِائَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الْغَايَةُ الْأُولَى ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَدْخُلَ الْغَايَتَانِ كَمَا ذَكَرْت ، إلَّا أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّانِيَةُ وَوُجُودُهَا بِوُقُوعِهَا .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْغَايَةَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ جَعْلِهَا غَايَةً فَلَا ضَرُورَةَ فِي إدْخَالِهَا ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ وَوُجُودُهَا بِوُقُوعِهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَمْ نَقُلْ بِأَنَّ الْغَايَةَ دَاخِلَةٌ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47