كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

قَالَ ( وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ .
ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَصَارَ كَالسَّلَمِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِهِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ : أَعْنِي الدَّيْنَ ، وَبِقَبْضِ الْعَيْنِ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا ، إلَّا فِي مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ مُمْتَنِعٌ فَأَعْطَى لِلْعَيْنِ حُكْمَ الدَّيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ) إذَا اشْتَرَى مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ فَأَفْلَسَ وَالْمَتَاعُ بَاقٍ فِي يَدِهِ ( فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحْجُرُ الْقَاضِي بِطَلَبِ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي ) حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ وَالْعَجْزُ ) عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ ( يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ قِيَاسًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إيفَاءِ الْمَبِيعِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ ) فَإِنْ قِيلَ : قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ فَارِقٍ وَهُوَ فَاسِدٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْفَسْخِ ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ عَيْنٌ يُرَدُّ عَلَيْهَا الْفَسْخُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَصَارَ كَالسَّلَمِ ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَهُ دَيْنًا يَمْنَعُ عَنْ الْفَسْخِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ قَبْضُهُ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ كَانَ لِرَبِّ السَّلَمِ حَقُّ الْفَسْخِ ( وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَمَّا هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَنْقُودَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ( وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ بِهِ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ : أَعْنِي الدَّيْنَ ) وَالْعَجْزُ عَمَّا هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَى الْبَائِعِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ عَقْدِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَلِيًّا .
وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ الثَّمَنِ وَهُوَ يَمْلِكُ بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ وَالذِّمَّةُ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُفْلِسِ وَالْمَلِيءِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ رَجُلٌ وَفِي رِوَايَةٍ فَوَجَدَ الْبَائِعُ عِنْدَهُ مَتَاعَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } " وَالِاسْتِدْلَالُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَاسِدٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى الْخَصَّافُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَوَجَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ مَتَاعَهُ فَهُوَ أُسْوَةُ غُرَمَائِهِ فِيهِ } " وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ قَبَضَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ إنْ صَحَّ بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ .
وَهِيَ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْكَسَادِ ، أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ فُلُوسٍ هِيَ ثَمَنٌ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْكَسَادِ كَذَلِكَ .
وَلَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ فَإِنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمَوْلَى الْبَدَلَ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا عَجَزَ فَقَدْ تَغَيَّرَ مُوجِبُ الْعَقْدِ ( قَوْلُهُ وَيَقْبِضُ الْعَيْنَ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : لَمَّا كَانَ الْعَيْنُ الْمَنْقُودَةُ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَدْيُونِ بِدَفْعِ الْمَنْقُودَةِ ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَجَعَلَ الشَّارِحُ الْعَيْنَ بَدَلًا عَنْهُ ، فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ بَدَلًا عَنْهُ ( تَحَقَّقَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ آخَرَ وَصْفٌ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ( هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ ) أَيْ تَحَقُّقُ الْمُبَادَلَةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ( فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا لَمْ يَتَعَذَّرْ

) وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ مَا هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ ( بِخِلَافِ السَّلَمِ ) فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُ الْمُبَادَلَةِ فِيهِ لِحُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ } " فَيَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَيْنَ الْمَقْبُوضَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَا فِي الذِّمَّةِ عَيْنَ مَا هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْهُ عَجْزًا عَمَّا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَسْخَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

الْإِذْنُ : الْإِعْلَامُ لُغَةً ، وَفِي الشَّرْعِ : فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ ، وَذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَ مَأْذُونًا أَبَدًا حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ لَا تَتَوَقَّتُ

إيرَادُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ كِتَابِ الْحَجْرِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ، إذْ الْإِذْنُ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَجْرِ ( وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِعْلَامِ ، وَفِي الشَّرْعِ : فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا ) فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ لِأَجْلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قَبْلَ إذْنِهِ ( وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ ) لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ وَذَلِكَ حَقُّ الْمَوْلَى انْحَجَرَ عَنْهُ ( فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ) فَقَوْلُهُ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ إلَخْ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ فَكُّ الْحَجْرِ .
وَقَوْلُهُ عِنْدَنَا إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ الْإِذْنَ عِنْدَهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ ، وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوْنَهُ إسْقَاطًا عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ مَالِكِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَنَّهَا عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ وَمَكَانٍ وَوَقْتٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا غَيْرُ ، إذْ الْإِسْقَاطَاتُ لَا تَتَوَّقَتْ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ فَكَّ الْحَجْرِ جَوَابٌ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَذْكُورٌ فِي حَيِّزِ التَّعْرِيفِ فَكَيْفَ جَازَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَصْحِيحُ النَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا مُعَرَّفٌ بِذَلِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ هُوَ تَعْرِيفُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حُكْمًا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعْرِيفًا ، وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ ( وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ

مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى ) وَهَذَا لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ حَتَّى يَبِيعَ ، وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي ذِمَّتِهِ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ فِيهَا ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَدَاءِ حَالَ الطَّلَبِ حُبِسَ وَذِمَّتُهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَا مَحَالَةَ ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ صَحَّ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَكَانَ الشِّرَاءُ حَقًّا لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي نَفَاذَ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَيْضًا ، لَكِنْ شَرَطْنَا إذْنَ الْمَوْلَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَالرِّضَا بِالضَّرَرِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ ، فَالتَّقْيِيدُ بِالتَّوْقِيتِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَدِيمُ الْأَهْلِيَّةِ بِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِنَفْسِ التَّصَرُّفِ ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تُرَادُ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ وَالرَّقِيقُ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا تَمَامَ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْإِذْنُ فَكَّ الْحَجْرِ وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ لَمَا كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ الْحَجْرِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّقَّ لَمَّا كَانَ بَاقِيًا كَانَ الْحَجْرُ بَعْدَهُ امْتِنَاعًا بِحَقِّ الْإِسْقَاطِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ

ثُمَّ الْإِذْنُ كَمَا يَثْبُتُ بِالصَّرِيحِ يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ ، كَمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لَمَنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ .

( ثُمَّ إنَّ الْإِذْنَ كَمَا يَثْبُتُ صَرِيحًا يَثْبُتُ دَلَالَةً ، كَمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ ) مِنْ مَالِهِ شَيْئًا ( وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَهُوَ مِنْ بَابِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
قَالَا : السُّكُوتُ مُحْتَمِلٌ لِلرِّضَا وَفَرْطُ الْغَيْظِ وَقِلَّةُ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِهِ لِعِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مَحْجُورًا ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَقُلْنَا : جُعِلَ سُكُوتُهُ حُجَّةً لِأَنَّهُ مَوْضِعُ بَيَانٍ ، إذْ النَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ حِينَ عِلْمِهِمْ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى ، وَمُعَامَلَتُهُمْ قَدْ تُفْضِي إلَى لُحُوقِ دُيُونٍ عَلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَدْ يُعْتَقُ وَقَدْ لَا يُعْتَقُ وَفِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِإِتْوَاءِ حَقِّهِمْ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ ، فَكَانَ مَوْضِعَ بَيَانِ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ أَوَّلًا ، وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ .
فَإِنْ قِيلَ : عَيْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مِنْ الْبَيْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ غَيْرُهُ ، وَكَذَا إذَا رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا ، وَإِذَا رَأَى رَقِيقُهُ يُزَوِّجُ نَفْسَهُ وَسَكَتَ لَا يَكُونُ إذْنًا فَمَا الْفَرْقُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الضَّرَرَ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مُتَحَقِّقٌ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَمَّا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِسُكُوتِهِ ، وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِهِ الْإِذْنُ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ السُّكُوتِ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ كَوْنُهُ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى مُتَحَقَّقٍ ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَيْعِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَهُ ، وَفِي الرَّهْنِ لَمْ يَصِرْ سُكُوتُهُ إذْنًا لِأَنَّ

جَعْلَهُ إذْنًا يُبْطِلُ مِلْكَ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إلَى يَدِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ .
لَا يُقَالُ : الرَّاهِنُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِبُطْلَانِ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ فَتَرَجُّحُ ضَرَرِ الْمُرْتَهِنِ تَحَكُّمٌ ، لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ ، لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ مَوْقُوفٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَبُطْلَانُ مِلْكِ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ بَاتَ فَكَانَ أَقْوَى .
وَأَمَّا الرَّقِيقُ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً إذَا زَوَّجَ نَفْسَهُ فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ السُّكُوتُ فِيهِ إذْنًا .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا يَصِيرُ إذْنًا وَإِجَازَةً دَفْعًا لِلضَّرَرِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ مَوْقُوفًا ، لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمَمْلُوكَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ مِلْكِهِ ، وَمَنَافِعُ بُضْعِ الْمَمْلُوكَةِ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ إبْطَالُ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا وَأَمْكَنَ فَسْخُهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَحَدٌ .
وَقِيلَ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ نِكَاحَ الرَّقِيقِ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى وَإِجَازَتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ سُكُوتَهُ إجَازَةٌ أَوَّلًا ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا مُحَقَّقًا لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ السُّكُوتُ إذْنًا ( ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لِمَنْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ ) وَهَذَا الدَّلِيلُ كَمَا تَرَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ : أَعْنِي أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى إلَخْ .

قَالَ ( وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إذْنًا عَامًّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ وَلَا يُقَيِّدُهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ التِّجَارَةِ .قَالَ ( وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ) إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ كَانَ إذْنًا عَامًّا بِالتَّصَرُّفِ فِي جِنْسِ التِّجَارَةِ بِلَا خِلَافٍ ، فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَكَانَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ ، لِأَنَّهُ أَيْ بَيْعَ الْأَعْيَانِ أَصْلُ التِّجَارَةِ ، وَالْمَنَافِعُ لِكَوْنِهَا قَائِمَةً بِالْأَعْيَانِ أُلْحِقَتْ بِهَا

( وَلَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ ( وَكَذَا بِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ) هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْبَيْعَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ ، حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ الْإِذْنُ كَالْهِبَةِ .
وَلَهُ أَنَّهُ تِجَارَةٌ وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ .

( وَلَوْ بَاعَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ ) بِالِاتِّفَاقِ ( لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَكَذَا بِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ) قَالَا : الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ خِلَافُ الْمَقْصُودِ ، إذْ الْمَقْصُودُ بِالْبَيْعِ الِاسْتِرْبَاحُ دُونَ الْإِتْلَافِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَمَا هُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ لَا يَنْتَظِمُهُ الْإِذْنُ بِالْمَقْصُودِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ تِجَارَةٌ يَمْلِكُهُ الْحُرُّ فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِذْنِ كَالْحُرِّ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ .
وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي حَقِّ الْمَرِيضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَّى هَاهُنَا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ مُتَّهَمًا فِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْعَيْبُ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ الْآمِرَ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى أَحَدٍ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ ) إذَا أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ فِي التِّجَارَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

( وَلَوْ حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ ) ؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْبَيْعَ كَمَا فِي الْحُرِّ .( وَلَوْ حَابَى الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ اعْتَبَرَ مُحَابَاتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ) فَيَنْفُذُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ ( وَإِنْ كَانَ ) عَلَيْهِ دَيْنٌ ( فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ ) يَعْنِي يُؤَدِّي دَيْنَهُ أَوَّلًا فَمَا بَقِيَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ يَكُونُ كُلُّهُ مُحَابَاةً ( لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ ) .
لَا يُقَالُ : الْمَوْلَى وَارِثٌ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْإِذْنِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَسْقَطَ الْوَارِثُ حَقَّهُ فِي الثُّلُثَيْنِ لَنَفَذَ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي الْكُلِّ ( وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ ) تَبْطُلُ الْمُحَابَاةُ فَ ( يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي : أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْبَيْعَ كَمَا فِي الْحُرِّ ) يَعْنِي إذَا حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ

( وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَقْبَلَ السَّلَمَ ) ؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ .( وَالْمَأْذُونُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ رَبَّ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَيُوَكِّلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهُوَ لَا يَتَفَرَّعُ بِنَفْسِهِ ) فَجَازَ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ

( وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَرَّغُ بِنَفْسِهِ

.
قَالَ ( وَيَرْهَنُ وَيُرْتَهَنُ ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ .( وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ لِأَنَّهُمَا إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاؤُهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ )

( وَيَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ وَالْبُيُوتَ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، ( وَيَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ ) أَيْ يَسْتَأْجِرَهَا ( وَيَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ وَالْبُيُوتَ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ) .

( وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ( وَيَأْخُذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ ، لِأَنَّهُ إذْ لَمْ يَحْصُلْ خَارِجٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ بِالدَّرَاهِمِ جَازَ كَمَا سَيَجِيءُ فَكَذَا هَذَا

( وَيَشْتَرِي طَعَامًا فَيَزْرَعُهُ فِي أَرْضِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ } " .( وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فَيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ } )

( وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عِنَان وَيَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ( وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عَنَانٍ ) وَلَيْسَ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ عَنَانًا لِأَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ عَنَانًا وَزِيَادَةً فَصَحَّتْ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ ( وَيَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذُهَا لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التِّجَارَةِ )

( وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ يَقُولُ : لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَا عَلَى مَنَافِعِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا .
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَهُ رَأْسُ مَالِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، إلَّا إذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِذْنِ كَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْحَجِرُ بِهِ ، وَالرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمَوْلَى .
أَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يَنْحَجِرُ بِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ فَيَمْلِكُهُ .( وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ( لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهِ ) لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ مَوْلَاهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ نَفْسِهِ وَلَا رَهْنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ ( فَكَذَا عَلَى مَنَافِعِهَا لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا .
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَهُ رَأْسُ مَالِهِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى أَذِنَ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا ( وَ ) مَا هُوَ رَأْسُ الْمَالِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ ( يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ) ضَرُورَةً ، وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهِ ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ أَوْ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُهَا ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا لِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ فَإِنَّهُ مَا أُذِنَ لَهُ إلَّا لِلرِّبْحِ ، فَلَوْ جَوَّزْنَا التَّصَرُّفَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ أَفْضَى إلَى عَدَمِ الرِّبْحِ ، فَمَا فَرَضْنَاهُ لِلرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ لِلرِّبْحِ هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الْمَنَافِعُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ .

قَالَ ( فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِهَا ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ .
لَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَهُ دُونَ الْعَبْدِ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ حَجْرَهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ كَالْمُضَارِبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ .

قَالَ ( فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِذْنَ عِنْدَنَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطَ الْحَقِّ ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ ، وَعَلَى ذَلِكَ تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ كَالْبَزِّ مَثَلًا دُونَ غَيْرِهِ ( كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ إذْنًا عَامًّا ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ نَوْعٍ قَالَا : الْإِذْنُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ مِنْ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَالْمِلْكُ وَهُوَ الْحُكْمُ يَثْبُتُ لَهُ ) أَيْ لِلْمَوْلَى ( دُونَ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ حَجْرَهُ فَيُتَخَصَّصُ الْإِذْنُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ كَالْمُضَارِبِ ) إذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ مَثَلًا ( وَلَنَا أَنَّ الْإِذْنَ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ وَفَكِّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ ( وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ ) لِكَوْنِ التَّخْصِيصِ إذْ ذَاكَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَنُوقِضَ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ ، وَإِذَا أُذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَالرِّقُّ أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ عَنْ مَوْلَاهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمَوْلَى يَمْنَعُ الْإِذْنَ وَقَدْ يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى بِغَيْرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِجَوَازِ أَنْ

يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِالتِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ دُونَ الْخَزِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَهُ مِدْفَعٌ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِهِ ، عَلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ، وَبِالْجُمْلَةِ إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ فَلَيْسَ السُّؤَالُ وَارِدًا ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ كَالْمُضَارِبِ ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ وَالْوَكِيلُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ ) جَوَابٌ لِقَوْلِهِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ مُمَانَعَةٌ بِالسَّنَدِ : أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْمَوْلَى ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ لِلْكِسْوَةِ أَوْ طَعَامٍ رِزْقًا لِأَهْلِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مَأْذُونًا يَنْسَدُّ عَلَيْهِ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا ، أَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْكَسْبِ ، أَوْ قَالَ لَهُ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ قَصَّارًا ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِشِرَاءِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَهُوَ نَوْعٌ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ .

قَالَ ( وَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ) إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : اشْتَرِ هَذِهِ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ أَوْ ثَوْبًا لِلْكِسْوَةِ أَوْ طَعَامًا رِزْقًا لِلْأَهْلِ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ مُفِيدًا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِخْدَامَ ، لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ ذَلِكَ إذْنًا لَانْسَدَّ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ لِإِفْضَائِهِ إلَى أَنَّ مَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشِرَاءِ بَقْلٍ بِفَلْسَيْنِ كَانَ مَأْذُونًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِدُيُونٍ تَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ وَيُؤَاخَذُ بِهَا فِي الْحَالِ ، فَلَا يَسْتَجْرِئُ أَحَدٌ عَلَى اسْتِخْدَامِ عَبْدِهِ فِيمَا اشْتَدَّتْ إلَيْهِ حَاجَتُهُ لِأَنَّ غَالِبَ اسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ فِي شِرَاءِ الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ الِاسْتِخْدَامِ وَالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ .
وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَذِنَ بِتَصَرُّفٍ يَتَكَرَّرُ صَرِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا وَبِعْهُ ، أَوْ قَالَ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ وَاشْتَرِ بِثَمَنِهِ أَوْ دَلَالَةً كَمَا إذَا قَالَ أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ ، أَوْ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ ، فَإِنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّكَسُّبِ ، فَهُوَ دَلَالَةُ التَّكْرَارِ ، أَوْ قَالَ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ قَصَّارًا ، لِأَنَّهُ أَذِنَ بِشِرَاءِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ دَلَالَةً وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْأَنْوَاعِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا ، وَإِنْ أَذِنَ بِتَصَرُّفٍ غَيْرِ مُكَرَّرٍ كَطَعَامِ أَهْلِهِ وَكِسْوَتِهِمْ لَا يَكُونُ إذْنًا .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا غَصَبَ الْعَبْدُ مَتَاعًا وَأَمَرَهُ مَوْلَاهُ بِبَيْعِهِ فَإِنَّهُ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِعَقْدٍ مُكَرَّرٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْعَقْدِ الْمُكَرَّرِ دَلَالَةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ بَاطِلٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَالْإِذْنُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ صَرِيحًا ، فَإِذَا بَطَلَ التَّقْيِيدُ ظَهَرَ الْإِطْلَاقُ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ

الْفَاصِلَ هُوَ التَّصَرُّفُ النَّوْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ ، وَالْإِذْنُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَتَأَمَّلْ .

قَالَ ( وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ جَائِزٌ وَكَذَا بِالْوَدَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَاجْتَنَبَ النَّاسُ مُبَايَعَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ لَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ فِي حَقِّهِ .

قَالَ ( وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ جَائِزٌ ) إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ جَائِزٌ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ أَمَّا بِالدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ فَظَاهِرٌ ) ، فَإِنَّ الْبَائِعَ قَدْ لَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ فَيَكُونُ دَيْنًا أَوْ يَقْبِضُ فَيُودَعُ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا بِالْغُصُوبِ فَلِأَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، فَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِهِ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ ، وَمَنْ مَلَكَ التِّجَارَةَ مَلَكَ تَوَابِعَهَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى انْتِفَاءِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ اجْتَنَبُوا عَنْ مُبَايَعَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ ( وَلَا فَرْقَ فِي صِحَّتِهِ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ ) وَالْجَامِعُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الْمَالِ وَالْكَسْبِ ( بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِمَا لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ) كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ هَذَا الرَّجُلِ بِنِكَاحٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَافْتَضَّهَا فَإِنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِيهِ ( لِأَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ فِي حَقِّهِ ) وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ عَلَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَهْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ ، لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التِّجَارَةِ ، فَمَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَحْجُورِ .

.
قَالَ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ .قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ) .

قَالَ ( وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُزَوِّجُ الْأَمَةَ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِمَنَافِعِهَا فَأَشْبَهَ إجَارَتَهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ .

( قَالَ : وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ ) لِذَلِكَ ( وَجَوَّزَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَزْوِيجَ الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ ) وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِذْنِ ( فَكَانَ كَالْإِجَارَةِ ، وَقَالَا : الْإِذْنُ تَضَمَّنَ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ) وَمَعْنَاهُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِذْنَ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، وَإِنْكَاحُ الْأَمَةِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ) تَوْضِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ لِعَرَائِهِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَشُغْلُ رَقَبَتِهِ بِالْمَهْرِ بِلَا مَنْفَعَةٍ ( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ ) يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا تَزْوِيجَ الْأَمَةِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ لَهُمَا : يَعْنِي الْأَبَ وَالْوَصِيَّ أَنْ يُزَوِّجَا أَمَةَ الصَّغِيرِ بِلَا خِلَافٍ ، حَيْثُ جُعِلَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ هُنَاكَ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِاسْتِفَادَتِهِ الْمَهْرَ .
قَالَ : وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُكَاتَبِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مِنْ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالتَّتِمَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْكَافِي وَأَحْكَامِ الصَّفَّارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ .

قَالَ ( وَلَا يُكَاتِبُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً ( إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ مَلَكَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْهُ وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ .

قَالَ ( وَلَا يُكَاتِبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ) وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتِبَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التِّجَارَةَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ( لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَالْبَدَلِ ) وَإِنْ كَانَ مَالًا ( لَكِنَّهُ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ ) وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ ( فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَتَكُونُ الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَبَيَانُهُ مَا قَالَهُ ( لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ مَلَكَهُ ) لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ فِيهِ مُبَاشَرَةَ الْكِتَابَةِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ ) وَهِيَ مُطَالَبَةُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْفَسْخِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ بَعْدَ الْعِتْقِ ( إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ ) لِكَوْنِهَا إسْقَاطًا فَكَانَ قَبْضُ الْبَدَلِ إلَى مَنْ نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتِهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَكِيلُ سَوَاءٌ كَانَ سَفِيرًا أَوْ لَا إذَا عَقَدَ الْعَقْدَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إجَازَةٍ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ ، وَإِنَّمَا قَالَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا بَطَلَتْ كِتَابَتُهُ وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِجَازَةِ يُخْرِجُ الْمُكَاتَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ ، وَقِيَامُ الدَّيْنِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ

قَالَ ( وَلَا يُعْتِقُ عَلَى مَالٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فَالْإِعْتَاقُ أَوْلَى( وَلَا يُعْتَقُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ ) وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ( فَالْإِعْتَاقُ أَوْلَى ) وَهَذَا إذَا لَمْ يُجِزْ الْمَوْلَى ، فَإِنْ أَجَازَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ جَازَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْعِتْقِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَقَبْضُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عِنْدَهُمَا لَكِنْ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ جَازَ وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ فَكَذَا إذَا أَجَازَ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعِوَضِ ، لِأَنَّ مَا يُؤَدِّيهِ ( كَسْبُ الْحُرِّ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي كَسْبِ الْحُرِّ ) ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى فِي حَالِ الرِّقِّ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ

( وَلَا يُقْرِضُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ كَالْهِبَةِ .( وَلَا يُقْرِضُ )

( وَلَا يَهَبُ بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِصَرِيحِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُهْدِيَ الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفَ مَنْ يُطْعِمُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ ، بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ أَصْلًا فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى قُوتَ يَوْمِهِ فَدَعَا بَعْضَ رُفَقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَاهُ قُوتَ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَكَلُوهُ قَبْلَ الشَّهْرِ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى .
قَالُوا : وَلَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ .

( وَلَا يَهَبُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِصَرِيحِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ، إلَّا أَنْ يُهْدِيَ الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفَ ) ضِيَافَةً يَسِيرَةً وَقَوْلُهُ مِنْ الطَّعَامِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ إهْدَاءَ غَيْرُ الْمَأْكُولَاتِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا ، وَالْإِهْدَاءُ الْيَسِيرُ رَاجِعٌ إلَى الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَالضِّيَافَةُ الْيَسِيرَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِمَالِ تِجَارَتِهِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ مَالُ تِجَارَتِهِ مَثَلًا عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَاِتَّخَذَ ضِيَافَةً بِمِقْدَارِ عَشْرَةٍ كَانَ يَسِيرًا ، وَإِنْ كَانَ مَالُ تِجَارَتِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَثَلًا فَاتَّخَذَ ضِيَافَةً بِمِقْدَارِ دَانَقٍ فَذَاكَ يَكُونُ كَثِيرًا عُرْفًا ، وَالْهَدِيَّةُ بِالْمَأْكُولِ كَالضِّيَافَةِ بِهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِي الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ ، وَالْمُجَاهِزُ هُوَ الْغَنِيُّ مِنْ التُّجَّارِ فَكَأَنَّهُ أُرِيدَ الْمُجَهِّزُ وَهُوَ الَّذِي يَبْعَثُ التُّجَّارَ بِالْجِهَازِ وَهُوَ فَاخِرُ الْمَتَاعِ أَوْ يُسَافِرُ بِهِ فَحُرِّفَ إلَى الْمُجَاهِزِ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ بِالْعَيْبِ مِثْلَ مَا يَحُطُّ التُّجَّارُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَطُّ أَنْظَرَ لَهُ مِنْ قَبُولِ الْمَعِيبِ ابْتِدَاءً ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَطَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ

( وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التِّجَارَةِ .

قَالَ ( وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُبَاعُ وَيُبَاعُ كَسْبُهُ فِي دَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَمْ يَكُنْ لَا تَفْوِيتُ مَالٍ قَدْ كَانَ لَهُ ، وَذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ ، حَتَّى إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الدَّيْنِ يَحْصُلُ لَهُ لَا بِالرَّقَبَةِ ، بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِنَايَةٍ ، وَاسْتِهْلَاكُ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَدِينِ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءٌ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَامَلَةِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَلُحَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى ، وَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ لَا يُنَافِي تَعَلُّقَهُ بِالرَّقَبَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِبْقَاءً لِمَقْصُودِ الْمَوْلَى ، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ دُيُونُهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَضَمَانِ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ إذَا جَحَدَهَا ، وَمَا يَجِبُ مِنْ الْعُقْرِ بِوَطْءِ الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الشِّرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ قَالَ ( وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ ( فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ) لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ ( وَلَا يُبَاعُ ثَانِيًا ) كَيْ لَا يَمْتَنِعَ الْبَيْعُ

أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي ( وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ سَوَاءً حَصَلَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْبَلُ مِنْ الْهِبَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ ( وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ ) لِوُجُودِ شَرْطِ الْخُلُوصِ لَهُ ( وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّةَ مِثْلِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ يَحْجُرُ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْكَسْبُ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى غَلَّةِ الْمِثْلِ يَرُدُّهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهَا وَتَقَدُّمِ حَقِّهِمْ .

قَالَ ( وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ ) إذَا وَجَبَ دُيُونٌ عَلَى الْمَأْذُونِ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا ، فَإِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ بِيعَ بِدَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَتَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ ( يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يُبَاعُ ) لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا لَا تَفْوِيتُ مَالٍ حَاصِلٍ ، وَذَلِكَ أَيْ غَرَضُ الْمَوْلَى حَاصِلٌ فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ يَكْسِبُهُ حَتَّى إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الدَّيْنِ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( لَا بِالرَّقَبَةِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِكَسْبِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اسْتَهْلَكَ شَيْئًا تَعَلَّقَ دَيْنُهُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ فَهَذَا كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِنَايَةٍ ، وَاسْتِهْلَاكُ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ ) وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِيعَ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ ( وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ) بِالْإِذْنِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ( وَ ) كُلُّ دَيْنٍ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ( تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ اسْتِيفَاءً كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ ) ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّيْنِ التِّجَارَةُ لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ وَالتِّجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ بِلَا خِلَافٍ فَسَبَبُهَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ ، وَإِذَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَهُ كَانَ مُلْتَزِمًا ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءٌ كَانَ إضْرَارًا لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يُوجَدُ وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ فَتَتْوَى حُقُوقُ النَّاسِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً ) جَوَابٌ عَنْ

قَوْلِهِمَا إنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَهُ إلَخْ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً وَعَلِمَ الْمُعَامِلُونَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى الْمُعَامَلَةِ فَتَكْثُرُ الْمُعَامَلَةُ مَعَهُ وَيَزْدَادُ الرِّبْحُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ خَوْفَ التَّوَى يَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَالضَّرَرُ لَا يَكُونُ غَرَضًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ ) وَفِيهِ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدُّيُونِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْعُ الْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا أَوْ كَانَ وَلَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ بِهَا لَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ دَافِعًا لِلضَّرَرِ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَبِيعٌ قَبَضَهُ الْمَوْلَى حِينَ لَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ رَكِبَتْهُ دُيُونٌ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَلَا ضَمَانُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ ، بَلْ يُبَاعُ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ إنْ اخْتَارَهُ الْمَوْلَى وَيَكُونُ الْبَيْعُ جَابِرًا لِمَا فَاتَ مِنْ الْعَبْدِ ، وَالظَّاهِرُ أَيْ الدَّيْنُ لَمَّا اسْتَغْرَقَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَبِيعِ مُسَاوِيَةً لِقِيمَةِ الْعَبْدِ .
قِيلَ : وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي اسْتِيفَاءٍ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ظُهُورِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا قَبَضَ مَبِيعًا قَبْلَ تَرَكُّبِ الدُّيُونِ دُونَ غَيْرِهِ ، بَلْ الْوَاضِحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ بِالدُّيُونِ مَا وَجَبَ بِالتِّجَارَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ مَبِيعٍ ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَدُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ يُقَابِلُ مَا يَفُوتُهُ ، وَهَلَاكُهُ

فِي مِلْكِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْمُقَابَلَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ بِمِقْدَارِ مَا يُؤَدِّي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِغَبْنٍ نَادِرٍ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدُّيُونَ الَّتِي عَلَى الْعَبْدِ بِالْعَبْدِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً لِقِيمَتِهِ كَانَ ذَلِكَ شِرَاءً بِغَبْنٍ وَهُوَ نَادِرٌ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً لَا اخْتَارَ أَدَاءَ الدُّيُونِ دُونَ بَيْعِ الْعَبْدِ .
وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ .
وَالثَّانِي عَامٌّ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُمَا كَمَا سَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْكَسْبِ فَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّقَبَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي الِاسْتِيفَاءِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى إشَارَةً إلَى الْبَيْعِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ هُوَ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ خَصْمٌ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْقَاضِي الْعَبْدَ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَجْرٍ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِهِ ، إذْ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ ،

وَحَجْرُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَهُوَ كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ فِي جَوَازِ أَنْ يَبِيعَهَا الْقَاضِي عَلَى الْوَرَثَةِ إذَا امْتَنَعُوا عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ حَجْرًا لِكَوْنِهِمْ مَحْجُورِينَ عَنْ بَيْعِهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) إذَا بَاعَ الْقَاضِي الْعَبْدَ يُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ ( لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالتَّرِكَةِ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ يَضْرِبُ كُلُّ غَرِيمٍ فِي الثَّمَنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ كَالتَّرِكَةِ إذَا ضَاقَتْ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ( فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ ) أَيْ دُيُونِ الْعَبْدِ ( طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ ) وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي ، وَالدَّيْنُ مَا وَجَبَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ ( وَلَا يُبَاعُ ثَانِيًا كَيْ لَا يَمْتَنِعَ الْبَيْعُ ) فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَشْتَرِيهِ يُبَاعُ فِي يَدِهِ ثَانِيًا بِدُونِ اخْتِيَارِهِ امْتَنَعَ عَنْ شِرَائِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَيَتَضَرَّرُ الْغُرَمَاءُ ( أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي ) لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَن لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِبَيْعِهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ، فَلَوْ بِيعَ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ الْآذِنُ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِالْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَبَدَّلَ وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الذَّاتِ ( قَوْلُهُ وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ ) لِبَيَانِ الْكَسْبِ الَّذِي يَبْدَأُ بِهِ .
فَالْكَسْبُ الَّذِي لَمْ يَنْزِعْهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ ( سَوَاءٌ كَانَ حَصَلَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ

وَيَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْهِبَةِ ، لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ ) فَكَانَ كَكَسْبٍ غَيْرِ مُنْتَزَعٍ ( وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ لِحُصُولِ شَرْطِ الْخُلُوصِ لَهُ ) وَهُوَ خُلُوصُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ عَنْ الدَّيْنِ حَالَ أَخْذِ الْمَوْلَى ذَلِكَ ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ غَلَّةَ مِثْلِهِ ) وَالْغَلَّةُ كُلُّ مَا يَحْصُلُ مِنْ رِيعِ الْأَرْضِ أَوْ كِرَائِهَا أَوْ أُجْرَةِ غُلَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
وَمَعْنَاهُ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الضَّرِيبَةَ الَّتِي ضَرَبَهَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ بَعْدَمَا لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ كَمَا كَانَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رِيعِهِ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ ، وَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الدُّيُونِ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْخُذَ أَصْلًا ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا رَدَّهُ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقِيلَ لِسَلَامَةِ الْمُقَرَّرِ قَبْلَهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْمَوْلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْغُرَمَاءِ بِإِبْقَائِهِ عَلَى الْإِذْنِ بِسَبَبِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْغَلَّةِ ، فَلَوْ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْكَسْبُ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَأْخُذُهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حَيْثُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْغَلَّةِ ، فَإِنْ أَخَذَهَا رَدَّهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِمْ فِيهَا .

قَالَ ( فَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْحَجِرْ حَتَّى يَظْهَرَ حَجْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ سُوقِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْحَجَرَ لَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِهِ لِتَأَخُّرِ حَقِّهِمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ وَقَدْ بَايَعُوهُ عَلَى رَجَاءِ ذَلِكَ ، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ ، حَتَّى لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السُّوقِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ لَمْ يَنْحَجِرْ ، وَلَوْ بَايَعُوهُ جَازَ ، وَإِنْ بَايَعَهُ الَّذِي عَلِمَ بِحَجْرِهِ وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ يَنْحَجِرُ ، وَالْمُعْتَبَرُ شُيُوعُ الْحَجْرِ وَاشْتِهَارُهُ فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الظُّهُورِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَيَبْقَى الْعَبْدُ مَأْذُونًا إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ كَالْوَكِيلِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَمَا رَضِيَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الشُّيُوعُ فِي الْحَجْرِ إذَا كَانَ الْإِذْنُ شَائِعًا .
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا الْعَبْدُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ يَنْحَجِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ .

ثُمَّ إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَائِعًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْحَجِرْ بِحَجْرِهِ حَتَّى يَظْهَرَ الْحَجْرُ لَهُ وَلِأَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِمَا لَمْ يَرْضَوْا بِهِ مِنْ تَأَخُّرِ حَقِّهِمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إنْ اكْتَسَبَ شَيْئًا أَخَذَهُ الْمَوْلَى ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ فَيَتَأَخَّرُ حُقُوقُهُمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ مَوْهُومٌ وَقَدْ بَايَعُوهُ عَلَى رَجَاءِ ذَلِكَ : أَيْ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ وَهُوَ عَلَى إذْنِهِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ ، فَكَانَ كَالْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَزْلِ ، وَلَوْ حَجَرَ فِي السُّوقِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ فَكَذَلِكَ وَمُبَايَعَتُهُ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ بَايَعَهُ الَّذِي عَلِمَ بِحَجْرِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَجَزَّأُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً ، وَلَوْ حَجَرَ فِي بَيْتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ انْحَجَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ شُيُوعُ الْحَجْرِ وَاشْتِهَارُهُ ، فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الظُّهُورِ عِنْدَ الْكُلِّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ إلَّا الْعَبْدُ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ يَنْحَجِرُ لِعَدَمِ الضَّرَرِ وَالْإِضْرَارِ .

قَالَ ( وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا صَارَ الْمَأْذُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْ التَّصَرُّفِ يُعْطَى لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْإِذْنِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ ، وَكَذَا بِاللُّحُوقِ لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمًا حَتَّى يُقَسَّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ .قَالَ ( وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّصَرُّفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا كَانَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ حَالَةَ الْبَقَاءِ كَالِابْتِدَاءِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ تَعْرِيفُهُ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْحَجَرَ الْمَأْذُونُ لِانْتِفَاءِ الْأَهْلِيَّةِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا ، لِأَنَّ اللِّحَاقَ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ وَلِهَذَا يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَبْقَى مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ ، فَكَذَا لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ وَصَارَ كَالْغَصْبِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِبَاقَ حَجْرُ دَلَالَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْضَى بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَقْضِيَةِ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ ، بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا ، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِزَاعَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مُتَيَسِّرٌ .قَالَ ( وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَبْقَى مَأْذُونًا لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ ) فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْآبِقِ فِي التِّجَارَةِ وَعَلِمَ بِهِ الْعَبْدُ كَانَ مَأْذُونًا ، فَلَأَنْ لَا يُنَافِيَ بَقَاءَهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ( وَصَارَ كَالْغَصْبِ ) فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْمَالِكِ أَخْذُهُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ يَكُونَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا صَحَّ .
وَكَوْنُهُ مَغْصُوبًا لَا يُنَافِي الْإِذْنَ فَكَذَا كَوْنُهُ آبِقًا ( وَلَنَا أَنَّ الْإِبَاقَ حَجْرٌ دَلَالَةً ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْضَى بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَقْضِيَةِ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ ) وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ مِنْ الْآبِقِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّا نَجْعَلُهُ حَجْرًا دَلَالَةً ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدَّلَالَةِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ ، لِأَنَّ الِانْتِزَاعَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مُتَيَسِّرٌ ) وَإِنْ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ هَلْ يَعُودُ الْإِذْنُ ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ

قَالَ ( وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَأْذُونُ لَهَا مِنْ مَوْلَاهَا ) فَذَلِكَ حَجْرٌ عَلَيْهَا خِلَافًا لَزُفَرَ ، وَهُوَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِابْتِدَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحْصِنُهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةَ الْحَجْرِ عَادَةً ، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ قَاضٍ عَلَى الدَّلَالَةِ .( وَاسْتِيلَادُ الْمَأْذُونِ لَهَا حَجْرٌ عَلَيْهَا ) إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِخِلَافِهِ ( وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ بِحَجْرٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ ) فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَذِنَ لِأُمِّ وَلَدِهِ جَازَ ، فَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَهَا بَعْدَ الْإِذْنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ حَجْرَهَا بِالِاتِّفَاقِ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَصِّنُ أُمَّ وَلَدِهِ وَلَا يَرْضَى بِخُرُوجِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالنَّاسِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالتِّجَارَةِ فَيَكُونُ حَجْرًا دَلَالَةً ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ فِي الِابْتِدَاءِ

( وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا إنْ رَكِبَتْهَا دُيُونٌ ) لِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ ، إذْ بِهِ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَبِهِ يُقْضَى حَقُّهُمْ .( وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا إنْ رَكِبَتْهَا الدُّيُونُ لِإِتْلَافِهِ مَحَلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ ، إذْ بِهِ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَبِهِ يُقْضَى حَقُّهُمْ )

قَالَ ( وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَدَبَّرَهَا الْمَوْلَى فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا عَلَى حَالِهَا ) لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الْحَجْرِ ، إذْ الْعَادَةُ مَا جَرَتْ بِتَحْصِينِ الْمُدَبَّرَةِ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُكْمَيْهَا أَيْضًا ، وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ .قَالَ ( وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا ) مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهَا أَكْثَرَ لِتَظْهَرَ الْفَائِدَةُ فِي أَنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُ قِيمَتَهَا دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُكْمِهَا ) أَيْ حُكْمِ الْإِذْنِ وَالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ لِلْمُدَبَّرِ حَقُّ الْعِتْقِ ، وَحَقُّ الْعِتْقِ إنْ كَانَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَكِّ الْحَجْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يُقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ غَصْبٌ مِنْهُ أَوْ يُقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَيُقْضَى مِمَّا فِي يَدِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ .
لَهُمَا أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ الْإِذْنَ فَقَدْ زَالَ بِالْحَجْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْيَدَ فَالْحَجْرُ أَبْطَلَهَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَوْلَى كَسْبَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ حَجْرُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ بَعْدَ الْحَجْرِ ، وَلَهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ هُوَ الْيَدُ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً ، وَشَرْطُ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ ، وَإِقْرَارُهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا تَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ ، وَكَذَا مِلْكُهُ ثَابِتٌ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيمَا بَاشَرَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ .

قَالَ ( وَإِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ ) إذَا حُجِرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَأَقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ لِغَيْرِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمَعْنَاهُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ ) وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا كَانَ مَضْمُونًا كَالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْمِيمُ وَقَدَّمَ الْأَمَانَةَ لِذَلِكَ فَيُقْضَى بِمَا فِي يَدِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ ) لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إمَّا الْإِذْنُ أَوْ الْيَدُ ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ بَعْدَ الْحَجْرِ .
أَمَّا الْإِذْنُ فَلِزَوَالِهِ بِالْحَجْرِ ، وَأَمَّا الْيَدُ فَلِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْطَلَهَا لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا .
وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يَدَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً ثُمَّ غَابَ لَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَخْذُهَا ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ كَثَوْبٍ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي حِجْرِ رَجُلٍ وَكَانَ حُضُورُ الْعَبْدِ وَغَيْبَتُهُ سَوَاءً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُودَعُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ .
أَمَّا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَلِلْمَوْلَى أَخْذُهُ وَكَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَالُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ ( قَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَوْلَى كَسْبَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ ) بَيَانٌ لِإِبْطَالِ الْحَجْرِ يَدَهُ بِمَسَائِلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا انْتَزَعَ مَا بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ إقْرَارَ الْعَبْدِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ وَثَبَتَ الْحَجْرُ بِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ بَعْدَ الْحَجْرِ حَتَّى لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ

بِالِاتِّفَاقِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ هُوَ الْيَدُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ ) لِزَوَالِ الْمُصَحِّحِ ( وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً ) وَحُكْمًا ، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِقْرَارِ بِمَا فِي يَدِهِ .
وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّ شَرْطَ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ وَإِقْرَارُهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْإِقْرَارُ دَلِيلُ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ صِحَّتِهِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا يَصْلُحُ أَخْذُهُ فِي الدَّلِيلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُطْلَقَهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا حَمْلًا لِحَالِ الْمُقِرِّ عَلَى الصَّلَاحِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ إقْرَارُهُ دَلِيلَ تَحَقُّقِهَا لَصَحَّ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ .
وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّ النَّزْعَ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَلَا تَبْطُلُ يَدُهُ بِإِقْرَارِهِ ، لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ أَصْلًا وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى إلَخْ أَجْوِبَةٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا عُرِفَ ) إشَارَةٌ إلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ) يَعْنِي بِهِ الْإِذْنَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا ) تَوْضِيحٌ لِتَبَدُّلِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا بَاشَرَ شَيْئًا قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالرَّدِّ بِعَيْبٍ وَغَيْرِهِ بَعْدَهُ كَعَبْدٍ آخَرَ لَمْ يُبَاشِرْهُ وَلَوْلَا

تَبَدُّلُهُ لَكَانَ خَصْمًا لِصُدُورِ الْمُبَاشَرَةِ عَنْهُ حَقِيقَةً .

قَالَ ( وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيَعْتِقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ مِلْكُ رَقَبَتِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا ، وَوَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمَأْذُونِ لَهَا ، وَهَذَا آيَةُ كَمَالِهِ ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَظَرًا لِلْمُوَرِّثِ وَالنَّظَرُ فِي ضِدِّهِ عِنْدَ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ .
أَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ .
وَلَهُ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافُهُ عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ كَمِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَالْمُحِيطُ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِهَا فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ ، وَإِذَا عُرِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ فَالْعِتْقُ فُرَيْعَتُهُ ، وَإِذَا نَفَذَ عِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ قَلِيلِهِ ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا لَانْسَدَّ بَابُ الِانْتِفَاعِ بِكَسْبِهِ فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَالْمُسْتَغْرَقُ يَمْنَعُهُ .

قَالَ ( وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ ) إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُحِيطَ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ أَوْ لَا تُحِيطُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ أَحَاطَتْ بِمَالِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ ، فَالْأَوَّلُ كَمَا إذَا أُذِنَ لِلْعَبْدِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَالْمَأْذُونُ أَيْضًا يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ ( وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ كَسْبِهِ لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيُعْتَقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ قَدْ وُجِدَ ) فَإِنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْفَرْعِ ( وَلِهَذَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا ) يَعْنِي الرَّقَبَةَ ( وَوَطْءَ الْأَمَةِ الْمَأْذُونِ لَهَا ، وَهَذَا ) أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ مِلْكِ الْإِعْتَاقِ وَحِلِّ الْوَطْءِ ( آيَةُ كَمَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ) فَكَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْكَسْبِ مَوْجُودًا عَلَى الْكَمَالِ فَيَمْلِكُهُ وَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنَّ الْمَانِعَ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ إحَاطَةُ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي التَّرِكَةِ إذَا اسْتَغْرَقَتْهَا الدُّيُونُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ إعْتَاقَ الْوَارِثِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَظَرًا لِلْمُوَرِّثِ ) بِإِيصَالِ مَالِهِ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، وَلَا نَظَرَ لِلْمُوَرِّثِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ ( بَلْ النَّظَرُ فِي ضِدِّهِ ) أَيْ فِي ضِدِّ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالْمِيرَاثُ صِلَةٌ ، وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ النَّظَرَ وَقَدْ فَاتَ فَاتَ الْمِلْكُ وَلَا عِتْقَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ( أَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ ) لِيُرَاعَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الْعِتْقِ حَتَّى تُقْضَى

دُيُونُهُ ( وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ عِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافَةً عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ كَمِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ ( وَالْمَالُ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِهَا فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحِيطَ بِالتَّرِكَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي الرَّقَبَةِ فَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُحِيطُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى ، لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ ، فَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ كَالرَّقِيقِ ، لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ ، وَالْمَوْتُ وَالرِّقُّ يُنَافِيَانِ ذَلِكَ ، بَلْ مُنَافَاةُ الْمَوْتِ أَظْهَرُ وَالْمَيِّتُ جُعِلَ كَالْمَالِكِ حُكْمًا لِقِيَامِ حَاجَتِهِ إلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ فَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ ( وَإِذَا عُرِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمَا وَعَدَمُهُ عِنْدَ عُرْفِ الْعِتْقِ وَعَدَمِهِ لِكَوْنِهِ فَرْعَهُ ) فَمَنْ قَالَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ نَفَذَ الْعِتْقُ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَبْطَلَهُ ، وَفِي الثَّانِي يَمْلِكُ الْمَوْلَى كَسْبَهُ ( وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَهُ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لَا يَعْرَى عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا لَانْسَدَّ بَابُ الِانْتِفَاعِ بِكَسْبِهِ فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْقَلِيلُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَالْمُسْتَغْرِقُ يَمْنَعُهُ ) وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ .
وَنَقَلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَنْ بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ جَائِزٌ .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ ( وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ .
أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ ، وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ أَزَالَ الْمُحَابَاةَ ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُحَابَاةِ وَالْفَاحِشُ سَوَاءٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ ، وَالْمَوْلَى يُؤْمَرُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْبَيْعِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَاعْتَبَرْنَاهُ تَبَرُّعًا فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ غَيْرَ تَبَرُّعٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِانْعِدَامِهَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا عِنْدَهُمَا ، وَمِنْ الْمَوْلَى يَجُوزُ وَيُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تَجُوزُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَلَا إذْنَ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ إذْنٌ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ، غَيْرَ أَنَّ إزَالَةَ الْمُحَابَاةِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَهَذَانِ الْفَرْقَانِ عَلَى أَصْلِهِمَا .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ) إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ الَّذِي لَزِمَتْهُ دُيُونٌ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ( لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ) وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ ( وَإِذَا بَاعَ مِنْهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ( لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ) بِمَيْلِهِ إلَيْهِ عَادَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : التُّهْمَةُ فِيهِ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَوْهُومٌ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضَ ) مَرْوِيٌّ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ ، بَلْ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ عَدَمُ الْوَاوِ .
وَقَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ الْوَاوِ فَيَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ : أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ : أَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ : وَبَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَهَذَا أَوْجَهُ ، وَلَكِنَّ النُّسْخَةَ بِالْوَاوِ تَأْبَاهُ .
قُلْت : ذَلِكَ أَوْجَهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ بِالْقُرْبِ دُونَ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ جَوَازُ الْمُحَابَاةِ مَعَهُ مُطْلَقًا ، وَلَا يُرَدُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إشْكَالًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ .

وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوَاوِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ هَكَذَا : وَإِنْ بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ جَازَ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ : أَيْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ ، أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ فَافْتَرَقَا : أَيْ الْمَوْلَى وَالْمَرِيضُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ دُونَ الْوَارِثِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَإِنْ بَاعَ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ إلَخْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى ، إنْ شَاءَ أَزَالَ الْمُحَابَاةَ بِإِيصَالِ الثَّمَنِ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَتَخْصِيصُهُمَا بِهَذَا الْحُكْمِ اخْتِيَارٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ .
قِيلَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِسَبِيلٍ مِنْ تَخْلِيصِ كَسْبِهِ لِنَفْسِهِ بِالْقِيمَةِ بِدُونِ الْبَيْعِ ، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْلَى ، فَصَارَ الْعَبْدُ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ مَوْلَاهُ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ ( قَوْلُهُ وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ ) أَيْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَذْهَبِ صَاحِبَيْهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ لِبَيَانِ تَسَاوِي الْمُحَابَاةِ بِالْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ ، فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا بَاعَ مِنْ مَوْلَاهُ بِنُقْصَانٍ يَسِيرٍ أَوْ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ فَلَا يُخَيَّرُ ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى ( وَوَجْهُ ذَلِكَ ) أَيْ وَجْهُ الْجَوَازِ مَعَ التَّخْيِيرِ ( أَنَّ الِامْتِنَاعَ ) عَنْ الْبَيْعِ بِالنُّقْصَانِ ( لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا

يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْجَوَازِ وَالتَّخْيِيرِ ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ ، وَالْمَوْلَى يُؤْمَرُ بِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْبَيْعِ .
أَمَّا التَّبَرُّعُ فَلِخُلُوِّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ ( فَلِدُخُولِهِ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَاعْتَبَرْنَاهُ تَبَرُّعًا فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ غَيْرَ تَبَرُّعٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِانْعِدَامِهَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا ، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ لَا تَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَا إذْنَ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ إذْنٌ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْغُرَمَاءِ فَيُزَالُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ ، وَهَذَانِ الْفَرْقَانِ ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَذَا الْفَرْقَانِ : قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَكَوْنُهُ مُثْبَتًا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرْقَيْنِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِإِزَالَتِهَا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَثِيرَةِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا مَعَ الْأَجْنَبِيِّ أَصْلًا وَتَجُوزُ مَعَ الْمَوْلَى وَيُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ الْمُحَابَاةِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا وَمَعَ الْمَوْلَى بِمِثْلِ

الْقِيمَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ .

قَالَ ( وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ الْبَيْعُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ ؛ وَلِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَيَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ أَخْذِ الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا التَّمَكُّنُ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ تَتْبَعُ الْفَائِدَةَ ( فَإِنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بَطَلَ الثَّمَنُ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ ، فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ سُقُوطِهِ يَبْقَى فِي الدَّيْنِ وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ وَجَازَ أَنْ يَبْقَى حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَمْسَكَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ وَلِهَذَا كَانَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي الدَّيْنِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ( وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ أَوْ بِنَقْضِ الْبَيْعِ ) كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ .

قَالَ ( وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى شَيْئًا ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، إلَى قَوْلِهِ : فَإِنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ : أَيْ الْعَبْدَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بَطَلَ الثَّمَنُ ، وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَالثَّابِتُ فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ سَقَطَ بِالتَّسْلِيمِ فَحَقُّ الْمَوْلَى سَقَطَ بِهِ ، فَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُهُ عَلَى عَبْدِهِ ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَرْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَسْتَوْجِبُهُ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِعَيْنِهِ بِالْعَقْدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ مِلْكِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ عَبْدِهِ شَيْئًا أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ ( وَإِنْ أَمْسَكَ الْمَوْلَى الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ جَازَ لَهُ لِأَنَّهُ بَائِعٌ ، وَلِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ ، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ ) فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ اسْتَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ حَتَّى حَبَسَ الْمَبِيعَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُهُ عَلَى مَا قُلْتُمْ آنِفًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي الدَّيْنِ إذَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ) يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا إذَا كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ كَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْمَوْلَى اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ دَيْنٌ لَمَّا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُزِيلُ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يُزِيلُ يَدَهُ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الثَّمَنَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْيَدُ بَاقِيَةً تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَبِالدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ ( وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ لَكِنَّهُ

يُخَيَّرُ بَيْنَ إزَالَةِ الْمُحَابَاةِ وَنَقْضِ الْبَيْعِ كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ يَسِيرَةً أَوْ كَثِيرَةً ( لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَهُوَ رِوَايَةُ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلًا بِمَا ذُكِرَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمَأْذُونَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ ( وَمَا بَقِيَ مِنْ الدُّيُونِ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ) ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَزِمَ الْمَوْلَى إلَّا بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ ضَمَانًا فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ ( فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ لَا غَيْرَ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونِ لَهُمَا وَقَدْ رَكِبَتْهُمَا دُيُونٌ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا اسْتِيفَاءً بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُتْلِفًا حَقَّهُمْ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ شَيْئًاقَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى ) عَبْدَهُ ( الْمَأْذُونَ ) لَهُ ( وَعَلَيْهِ دُيُونٌ ) لَزِمَتْهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ جُحُودِ الْوَدِيعَةِ أَوْ إتْلَافِ الْمَالِ ( فَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْغُرَمَاءِ قِيمَتَهُ ) بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلِمَ بِالدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَعَدَمِهِ وَلَا يُوجِبُ أَزْيَدَ مِنْ مِقْدَارِ مَا أَتْلَفَهُ ( فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ ) وَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ( فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ بِقَدْرِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ

قَالَ ( وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ ، فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ ) ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ ، إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ وَالْبَائِعُ مُتْلِفٌ حَقَّهُمْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَالتَّغْيِيبِ فَيُخَيَّرُونَ فِي التَّضْمِينِ ( وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْمَرْهُونِ ( فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى بِعَيْبٍ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ وَيَكُونَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ زَالَ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمَالِكِ وَيَسْتَرِدَّ الْقِيمَةَ كَذَا هَذَا .

قَالَ ( وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ ) مَعْنَاهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ بِدُونِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ وَالدَّيْنُ حَالٌّ ( فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ ) ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ وَقَدْ أَتْلَفَاهُ ، أَمَّا الْبَائِعُ فَبِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَبِالْقَبْضِ وَالتَّغْيِيبِ ، فَيُخَيَّرُ الْغُرَمَاءُ فِي التَّضْمِينِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ بِمُجَرَّدِهِمَا ، بَلْ بِتَغْيِيبِ مَا فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَهُوَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَسْعَوْنَهُ أَوْ يَبِيعُونَهُ كَمَا يُرِيدُونَ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَفُوتُ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّغْيِيبِ لَا بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ( وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَلَهُمْ الْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ ) وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِإِذْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَمَانٌ فَكَذَا إذَا أَجَازُوا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ وَفَّى بِدُيُونِهِمْ وَوَصَلَ إلَيْهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ تَضْمِينُ الْبَائِعِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدُّيُونُ عَلَى الْمَأْذُونِ مُؤَجَّلَةً إلَى أَجَلٍ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهَا جَازَ بَيْعُهُ ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُمْ ، فَإِنْ حَلَّ ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَحَلَّ حَقِّهِمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ ، وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ ، وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي الْمَرْهُونِ ) يَعْنِي أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ بِدُونِ إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ أَجَازَهُ الْمُرْتَهِنُ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ( فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى ) إلَخْ

مَعْنَاهُ إذَا قَبِلَهُ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا رَدَّهُ فَقَدْ فَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا فَعَادَ إلَى الْحَالِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى قَدْ رَفَعَ عَنْهُمْ الْمُؤْنَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْوَصِيِّ إذَا بَاعَ التَّرِكَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ .
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْبَيْعِ بَلْ لَهُمْ الِاسْتِسْعَاءُ وَقَدْ فَاتَ بِالْبَيْعِ ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ مُنْحَصِرٌ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فَافْتَرَقَا .

قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَأَعْلَمَهُ بِالدَّيْنِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ ، فَالْأَوَّلُ تَامٌّ مُؤَخَّرٌ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ ، وَبِالْبَيْعِ تَفُوتُ هَذِهِ الْخِيرَةُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ .
قَالُوا : تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي ) مَعْنَاهُ إذَا أَنْكَرَ الدَّيْنَ وَهَذَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْمُشْتَرِي خَصْمُهُمْ وَيَقْضِي لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى دَارًا وَوَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا وَغَابَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ .
وَعَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا لِكُلِّ مَنْ يُنَازِعُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَقَدْ قَامَ بِهِمَا فَيَكُونُ الْفَسْخُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ .

قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَأَعْلَمَهُ بِالدَّيْنِ ) إذَا قَالَ الْمَوْلَى هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي أَبِيعُهُ مَدْيُونٌ يُرِيدُ بِهِ سُقُوطَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ بِعَيْبِ الدَّيْنِ لِيَكُونَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لَازِمًا فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اللُّزُومَ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ ( فَلَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ ) بِهِ وَكَلِمَةُ بِهِ مَحْذُوفَةٌ مِنْ الْمَتْنِ ( وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ ) فَالْأَوَّلُ يَعْنِي الِاسْتِسْعَاءَ ( تَامٌّ مُؤَخَّرٌ وَالثَّانِي نَاقِصٌ ) إنْ لَمْ يَفِ بِدُيُونِهِمْ ( مُعَجَّلٌ وَبِالْبَيْعِ تَفُوتُ هَذِهِ الْخِيَرَةُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ .
قَالَ الْمَشَايِخُ : تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ ) قَبِلَ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ وُصُولَ الثَّمَنِ إلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرَّدِّ لِجَوَازِ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَكِنْ لَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ فَيَبْقَى لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ وَالِاسْتِسْعَاءُ فِي الدُّيُونِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ حَيْثُ قَبَضُوا الثَّمَنَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَبَضُوا الثَّمَنَ وَرَضُوا بِهِ سَقَطَ حَقُّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَاقِصًا إذَا لَمْ يَفِ بِالدُّيُونِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا بَاعَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْجَانِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَمَا بَالُ هَذَا لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِقَضَاءِ الدُّيُونِ مِنْ مَالِهِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ

الْجِنَايَةِ الدَّفْعُ عَلَى الْمَوْلَى ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ طُولِبَ بِهِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَقْضِي دَيْنَهُ وَذَلِكَ عِدَةٌ مِنْهُ بِالتَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا أَقْضِي دَيْنَهُ يَحْتَمِلُ الْكَفَالَةَ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ عِدَةً .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِدَةَ أَدْنَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَثْبُتُ بِهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ ( فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي إذَا أَنْكَرَ الدَّيْنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ فِي الدَّعْوَى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ بِلَا خِلَافٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُشْتَرِي خَصْمُهُمْ وَيَقْضِي لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا لِكُلِّ مَنْ يُنَازِعُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ خَصْمًا لَادَّعَى عَلَيْهِ ، وَالدَّعْوَى تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ قَدْ قَامَ بِهِمَا فَيَكُونُ الْفَسْخُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا لَهَا شَفِيعٌ ثُمَّ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَغَابَ الْوَاهِبُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ وَعَنْهُمَا ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ بِالْإِذْنِ فَالْإِخْبَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْجُورَ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ حَجْرِهِ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَيْ لَا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ ، ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ حَضَرَ فَقَالَ هُوَ مَأْذُونٌ بِيعَ فِي الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ( وَإِنْ قَالَ هُوَ مَحْجُورٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ .

قَالَ ( وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا ) رَجُلٌ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانِ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ ، لِأَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فَإِخْبَارُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَى إذْنِهِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( كَيْ لَا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَةً إلَى قَبُولِ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْعَثُ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ فِي التِّجَارَةِ ، فَلَوْ لَوْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَبْعَثَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عِنْدَ كُلِّ تَصَرُّفٍ أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي كَسْبِهِ وَفَاءٌ لَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ لِأَنَّ بَيْعَهَا لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لِلْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَحِقَهُمَا الدَّيْنُ لَا يُبَاعَانِ فِيهِ فَكَانَتْ خَالِصَ حَقِّ الْمَوْلَى وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا وَلَا يُبَاعُ ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ فِي وَسَطِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ ، إلَى أَنْ قَالَ : لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ ( فَإِنْ حَضَرَ مَوْلَاهُ فَقَالَ هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ بَيْعٌ فِي الدَّيْنِ

لِظُهُورِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَإِنْ قَالَ هُوَ مَحْجُورٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْبَيِّنَةُ ، لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْإِذْنَ كَدَعْوَاهُ الْإِعْتَاقَ وَالْكِتَابَةَ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ جُحُودِ الْمَوْلَى ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ .

( فَصْلٌ ) : ( وَإِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصِبَاهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْوَلِيُّ التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ وَيَمْلِكَ حَجْرَهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا لِلْمُنَافَاةِ وَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ بِالْوَلِيِّ ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى تَنْفِيذِهِ مِنْهُ .
أَمَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَتَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ فَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا .
وَلَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ عَلَى مَا عُرِفَ تَقْرِيرُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .
وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ الْهِدَايَةِ لَا لِذَاتِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ نَظَرًا إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ ، وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ وَاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ ضَارٌّ مَحْضٌ فَلَمْ يُؤَهَّلْ لَهُ .
وَالنَّافِعُ الْمَحْضُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يُؤَهَّلُ لَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَيُجْعَلُ أَهْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَا قَبْلَهُ ، لَكِنْ قَبْلَ الْإِذْنِ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ نَظَرًا ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ ، وَذِكْرُ الْوَلِيِّ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ الْأَبَ وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْوَصِيَّ وَالْقَاضِي وَالْوَالِي ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الشُّرَطِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ تَقْلِيدُ الْقُضَاةِ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْقِلَ كَوْنَ الْبَيْعِ سَالِبًا لِلْمِلْكِ جَالِبًا لِلرِّبْحِ ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ

فَكُّ الْحَجْرِ وَالْمَأْذُونُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا ، فَلَا يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ .

( فَصْلٌ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ إذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ بَيَّنَ أَحْكَامَ إذْنِ الصَّبِيِّ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ ، وَلِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي الْجَوَازِ ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنْ الْفَاحِشِ إذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ كَانَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ وَعَدَمِ التَّقْيِيدِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَصَيْرُورَتُهُ مَأْذُونًا بِالسُّكُوتِ وَصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِمَا فِي يَدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْعَبْدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الْإِذْنِ ، وَبَقَاءُ الْعِلَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُولَ لَا مَحَالَةَ ، بِخِلَافِ حَجْرِ الرَّقِيقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلرِّقِّ نَفْسِهِ بَلْ لِحَقِّ الْمَوْلَى ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِإِذْنِهِ لِكَوْنِهِ رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ حِينَئِذٍ ، وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ وَالِيًا لِلْمُنَافَاةِ ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مَوْلِيًّا عَلَيْهِ سِمَةُ الْعَجْزِ وَكَوْنُهُ وَالِيًا سِمَةُ الْقُدْرَةِ فَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَا يَصِحَّانِ مِنْهُ ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ بِخِلَافِ الصَّوْمِ النَّفْلِ وَالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُقَامَانِ بِالْوَلِيِّ فَيَصِحَّانِ مِنْهُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِ ) يَعْنِي قُلْت بِصِحَّتِهَا كَصِحَّتِهِمَا إذَا كَانَتْ فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهِ صَحَّ تَصَرُّفُهُ بِنَفْسِهِ فِيهِ وَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِنَفْسِهِ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ ( وَقَدْ تَحَقَّقَتْ ) فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا ( إمَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَتَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ فَلَا ضَرُورَةَ .
وَلَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ ) أَمَّا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ

مَشْرُوعٌ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ ، وَأَمَّا أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَعْلَمُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنْ الْفَاحِشِ وَالْأَهْلِيَّةُ لِهَذَا التَّصَرُّفِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا أَنَّهُ فِي مَحَلِّهِ فَلِكَوْنِ الْمَبِيعِ مَالًا مُتَقَوِّمًا .
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَلِأَنَّهُ صَدَرَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَالْوَلِيُّ لَهُ هَذَا التَّصَرُّفُ فَكَذَا مَنْ أُذِنَ لَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ الْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِهِ ، فَصُدُورُهُمَا مِنْ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَإِنْ أَذِنَ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصِبَاهُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَجْرَ الصَّبِيِّ لِذَاتِهِ بَلْ بِالْغَيْرِ وَهُوَ عَدَمُ الْهِدَايَةِ فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي كَوْنِ حَجْرِهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ زَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَادِيًا فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ لَمَّا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ لِلْعَبْدِ الْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ الْهِدَايَةُ بِالْإِذْنِ لَمْ يَبْقَ الْوَلِيُّ وَلِيًّا .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ وِلَايَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ لِلنَّظَرِ لَهُ ، فَإِنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ بِالْحَدِيثِ ، وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ : أَيْ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ لَهُ وَبِمُبَاشَرَةِ نَفْسِهِ فَكَانَ مَرْحَمَةً فِي حَقِّهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، وَلِاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ فَإِنَّ حَالَ الصَّبِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَبَدَّلَ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى غَيْرِهَا فَأَبْقَيْنَا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ لِيُتَدَارَكَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ

الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : نَافِعٌ مَحْضٌ ، وَضَارٌّ مَحْضٌ ، وَمُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا .
فَالْأَوَّلُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يُؤَهَّلُ لَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ وَبَعْدَهُ .
وَالثَّانِي كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يُؤَهَّلُ لَهُ أَصْلًا .
وَالثَّالِثُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يُؤَهَّلُ لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ لِأَنَّ نُقْصَانَ رَأْيِهِ يَنْجَبِرُ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ لَا قَبْلَهُ ، لَكِنْ قَبْلَ الْإِذْنِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ نَظَرًا فَإِنَّهُ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَيْنِ ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا بَاعَ شَيْئًا بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ كَانَ نَافِعًا مَحْضًا كَقَبُولِ الْهِبَةِ فَيَجِبُ نُفُوذُهُ بِلَا تَوَقُّفٍ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْوَضْعُ لَا الْجُزْئِيَّاتُ الْوَاقِعَةُ اتِّفَاقًا ( وَذِكْرُ الْوَلِيِّ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ الْأَبَ وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ ) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّرْتِيبَ ؛ لِأَنَّ وَصِيَّ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ وَتَرْتِيبُهُ وَلِيُّهُ وَهُوَ الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّ الْأَبِ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْوَالِي ( بِخِلَافِ صَاحِبِ الشَّرْطِ ) يُرِيدُ بِهِ أَمِيرَ الْبَلْدَةِ كَأَمِيرِ بُخَارَى فَكَانَ الْوَالِي أَكْبَرَ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَقْلِيدِ الْقَاضِي دُونَ صَاحِبِ الشَّرْطِ ، وَقَوْلُهُ ( وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْقِلَ ) قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إلَخْ ) كَذَلِكَ ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّعْمِيمَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ دُونَ الْوَلِيِّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ انْحِجَارِ الْمَوْلَى وَعَدَمُ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ لَيْسَ مِنْ التَّعْمِيمِ فِي تَصَرُّفِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ ، وَبِأَنَّ

دَيْنَ الصَّبِيِّ لِكَوْنِهِ حُرًّا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ لَا بِمَالِهِ فَجَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْوَلِيُّ ، وَدَيْنُ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرَقًا

وَيَصِيرُ مَأْذُونًا بِالسُّكُوتِ كَمَا فِي الْعَبْدِ .

وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ وَكَذَا بِمَوْرُوثِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِوَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بَعْدَ الْإِذْنِ بِمَا هُوَ كَسْبُهُ ) عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا لِوَلِيِّهِ وَلِغَيْرِهِ لِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فَكَانَ كَالْبَالِغِينَ ، وَأَوْرَدَ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ ، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ فَكَيْفَ أَفَادَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ ؟ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَفَادَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا ( وَكَذَا بِمَوْرُوثِهِ فِي ظَاهِرِ الرَّاوِيَةِ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِي كَسْبِهِ لِحَاجَتِهِ فِي التِّجَارَةِ إلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فِي التِّجَارَةِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِي الْمَوْرُوثِ ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْحَجْرَ لَمَّا انْفَكَّ عَنْهُ بِالْإِذْنِ الْتَحَقَ بِالْبَالِغِينَ ، وَلِهَذَا نَفَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بَعْدَ الْإِذْنِ تَصَرُّفُهُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ كَالْبَالِغِينَ فَكَانَ الْمَوْرُوثُ وَالْمُكْتَسَبُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ سَوَاءً لِكَوْنِهِمَا مَالِيَّةً

وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَلَا كِتَابَتِهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ يَصِيرُ مَأْذُونًا بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .( وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ ) بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي تَزْوِيجِ أَمَتِهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ ( وَلَا كِتَابَتَهُ ) وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكَانِهَا لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْهُ ( وَالْمَعْتُوهُ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ ) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ( بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ يَصِيرُ مَأْذُونًا بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ دُونَ غَيْرِهِمْ ) مِنْ الْأَقَارِبِ كَالِابْنِ لِلْمَعْتُوهِ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ دُونَ الْقَاضِي فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى الْمَعْتُوهِ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَذِكْرُ الْوَلِيِّ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ الْأَبَ وَالْجَدَّ إلَخْ ( وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ ) إذَا بَلَغَ مَعْتُوهًا ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ عَتِهَ فَأَذِنَ لَهُ الْأَبُ فِي التِّجَارَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ قِيَاسًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْغَصْبِ ) : الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ : أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ .
حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا إثْمَ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ .

كِتَابُ الْغَصْبِ : إيرَادُ الْغَصْبِ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ مَآلًا حَتَّى إنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ لَمَّا صَحَّ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا صَحَّ بِدَيْنِ الْغَصْبِ وَلَمْ يَصِحَّ بِدَيْنِ الْمَهْرِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ مِنْ التِّجَارَةِ دُونَ الثَّانِي ، فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْعِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ مُنَاسِبًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِرَقَبَةِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ ، فَذِكْرُ أَحَدِ الْمُتَجَانِسَيْنِ مُتَّصِلًا بِالْآخَرِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ .
وَالْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ : أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَوِّمًا أَوْ غَيْرَهُ ، يُقَالُ غَصَبَ زَوْجَةَ فُلَانٍ وَخَمْرَ فُلَانٍ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ ، فَقَوْلُهُ أَخْذُ مَالٍ يَشْمَلُ الْمَحْدُودَ وَغَيْرَهُ .
وَقَوْلُهُ مُتَقَوِّمٍ احْتِرَازٌ عَنْ الْخَمْرِ .
وَقَوْلُهُ مُحْتَرَمٍ احْتِرَازٌ عَنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ .
وَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ : أَيْ يَدَ الْمَالِكِ لِبَيَانِ أَنَّ إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْغَصْبِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ إثْبَاتُ يَدِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ .
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا لِعَدَمِ إزَالَةِ الْيَدِ ، وَعِنْدَهُ مَضْمُونَةٌ لِإِثْبَاتِ الْيَدِ ، وَاسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَى

الْبِسَاطِ لَيْسَ بِغَصْبٍ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْبَسْطَ فِعْلُ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ الْغَاصِبُ مُزِيلًا لِيَدِهِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ فِعْلِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْغَصْبُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ .
وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا إثْمَ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ .

.
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ فَكَانَ أَدْفَعَ لِلضَّرَرِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ ) وَهَذَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَوْمَ الْغَصْبِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَوْمَ الِانْقِطَاعِ ) لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ .
وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّقْلَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ ، وَلِهَذَا لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ جِنْسُهُ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ كَمَا وُجِدَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ إلَخْ ) الْمَغْصُوبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ سَيَجِيءُ .
وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ : أَيْ يَكُونُ بِمَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ : فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتُدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالْمِثْلُ إذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ ، لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَثَلًا مِثْلُ الْحِنْطَةِ جِنْسًا ، وَمَالِيَّةُ الْحِنْطَةِ الْمُؤَدَّاةِ مِثْلُ مَالِيَّةِ الْحِنْطَةِ الْمَغْصُوبَةِ ، لِأَنَّ الْجَوْدَةَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ فَكَانَ أَدْفَعَ لِلضَّرَرِ ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ فَوَّتَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الصُّورَةَ وَالْمَعْنَى ، فَالْجَبْرُ التَّامُّ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِمَا هُوَ مِثْلٌ لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَإِنْ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ الْكَامِلِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَوْمَ الْغَصْبِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَوْمَ الِانْقِطَاعِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ ( وَلِمُحَمَّدٍ إلَخْ ) كَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ .
قِيلَ إنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ لِتَثْبُتَ الْأَقْوَالُ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الزَّمَانِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْأَوْقَاتِ يَوْمُ الْغَصْبِ ثُمَّ يَوْمُ الِانْقِطَاعِ ثُمَّ يَوْمُ الْخُصُومَةِ ، وَإِيرَادُ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَتَأَتَّ إلَّا بِتَقْدِيمِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ .

قَالَ ( وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ ) مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ مُرَاعَاةُ الْحَقِّ فِي الْجِنْسِ فَيُرَاعَى فِي الْمَالِيَّةِ وَحْدَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ .
وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ .قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( مَعْنَاهُ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا مِثْلَ لَهُ ( الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ ) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ وَاَلَّذِي لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ ، لِأَنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَلِكَ كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِثْلِ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ قِيمَتُهُ وَلِتَعَذُّرِ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ فِي الْجِنْسِ فَيُرَاعَى فِي الْمَالِيَّةِ وَحْدَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ ) كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ ( فَهُوَ كَالْمَكِيلِ حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ ) قِيلَ : وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَكِيلِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْمَوْزُونُ لِأَنَّ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ مَا لَيْسَ بِمِثْلٍ ، وَهُوَ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْقُمْقُمِ وَالطَّشْتِ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّ مِنْ الْمَكِيلِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَفِيهِ الْقِيمَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ ، وَلَعَمْرِي إنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْقِسْمِ كَانَ أَنْسَبَ فَتَأَمَّلْ

قَالَ ( وَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ) مَعْنَاهُ مَا دَامَ قَائِمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ } " وَلِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَيَجِبُ إعَادَتُهَا بِالرَّدِّ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ عَلَى مَا قَالُوا ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلَفًا ؛ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ ، إذْ الْكَمَالُ فِي رَدِّ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ .
وَقِيلَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، ( وَالْوَاجِبُ الرَّدُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَصَبَهُ ) لِتَفَاوُتِ الْقِيَمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ ( فَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهَا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَظْهَرَهَا ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْهَلَاكُ بِعَارِضٍ ، فَهُوَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا إذَا ادَّعَى الْإِفْلَاسَ وَعَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ فَيُحْبَسُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ مَا يَدَّعِيهِ ، فَإِذَا عَلِمَ الْهَلَاكَ سَقَطَ عَنْهُ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ .

لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } أَيْ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ عَيْنُ مَا أَخَذَتْ الْيَدُ حَتَّى تَرُدَّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ } وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَرِوَايَةُ الْفَائِقِ وَالْمَصَابِيحِ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَحَرْفِ النَّفْيِ ، وَمَعْنَاهُ : أَنْ لَا يُرِيدَ بِأَخْذِهِ سَرِقَتَهُ وَلَكِنْ إدْخَالُ الْغَيْظِ عَلَى أَخِيهِ ، فَهُوَ لَاعِبٌ فِي مَذْهَبِ السَّرِقَةِ جَادٌّ فِي إدْخَالِ الْأَذَى عَلَيْهِ ، أَوْ قَاصِدٌ لِلْعَبْدِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُ يَجِدُ فِي ذَلِكَ لِيَغِيظَهُ ( وَلِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ ) بِدَلِيلِ جَوَازِ إذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا حُكْمَ لِشِرَائِهِ فِي حَقِّهِ سِوَى التَّصَرُّفِ بِالْيَدِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَدْيُونًا فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَائِبَةُ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ ( وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَيَجِبُ ) عَلَيْهِ ( إعَادَتُهَا بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ ) أَيْ رَدُّ الْعَيْنِ هُوَ الْمُوجِبُ ( الْأَصْلِيُّ عَلَى مَا قَالُوا ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلَفًا لِأَنَّهُ قَاصِرٌ ، إذْ الْكَمَالُ فِي رَدِّ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ .
وَقِيلَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ وَيَظْهَرُ مُخَلِّصٌ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ) فَمِنْهَا مَا إذَا أَبْرَأَ الْغَاصِبَ عَنْ الضَّمَانِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْحَالِ ثَابِتًا لَمَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ .
وَمِنْهَا صِحَّةُ الْكَفَالَةِ مَعَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ بِالْعَيْنِ .
وَمِنْهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْغَاصِبَ إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ غَصَبَ شَيْئًا وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا انْتَقَصَ النِّصَابُ

بِمُقَابَلَةِ وُجُوبِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ .
قِيلَ : وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ لَوْ كَانَ الْقِيمَةُ لَجَازَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيمَةِ ، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ إنَّمَا هُوَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يُوجَدَ فَلَهُ شُبْهَةُ الْوُجُودِ فِي الْحَالِ وَالْقِيمَةِ كَذَلِكَ ، فَكَانَ الْإِبْرَاءُ صَحِيحًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْأَنْوَارِ ، وَعَنْ مَسْأَلَةِ الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا صَحِيحَةٌ ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ ، وَعَنْ مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ ثُمَّ الْوَاجِبُ الرَّدُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَصَبَهُ لِتَفَاوُتِ الْقِيَمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ ، ( فَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهَا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لِأَظْهَرَهَا ) وَمِقْدَارُ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَرْضَ الْمَالِكُ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ ، فَإِنْ رَضِيَ أَوْ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً وَلَمْ يُظْهِرْهَا ( قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا ) بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَامَ الْمَالِكُ بَيِّنَةً عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ ( لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْهَلَاكُ بِعَارِضٍ ، فَالْغَاصِبُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ فِي السِّيَرِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا عَيَّبَ الْمَغْصُوبَ وَالْقَاضِي يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَلَوُّمٍ فَمَا وَجْهُهُ ؟ قِيلَ : فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، وَقِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الذَّخِيرَةِ جَوَابُ الْجَوَازِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ جَوَابُ الْأَفْضَلِ .

قَالَ ( وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ .قَالَ ( وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ إلَخْ ) الْغَصْبُ كَائِنٌ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَا فِي الْعَقَارِ وَهُوَ كُلُّ مَا لَهُ أَصْلٌ كَالدَّارِ وَالضَّيْعَةِ وَالنَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ وَاحِدٌ ، وَقِيلَ التَّحْوِيلُ هُوَ النَّقْلُ مِنْ مَكَان وَالْإِثْبَاتُ فِي مَكَان آخَرَ كَمَا فِي حَوَالَةِ الْبَاذِنْجَانِ ، وَالنَّقْلُ يُسْتَعْمَلُ بِدُونِ الْإِثْبَاتِ فِي مَكَان آخَرَ ( لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ ) حَوَالَةٌ ( يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ ) وَلَا نَقْلَ فِي الْعَقَارِ وَالْغَصْبُ بِدُونِ الْإِزَالَةِ لَا يَتَحَقَّقُ

( وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الْوَصْفَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ وَجُحُودِ الْوَدِيعَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا ، وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَعُدَ الْمَالِكُ عَنْ الْمَوَاشِي .
وَفِي الْمَنْقُولِ : النَّقْلُ فِعْلٌ فِيهِ وَهُوَ الْغَصْبُ .
وَمَسْأَلَةُ الْجُحُودِ مَمْنُوعَةٌ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالضَّمَانُ هُنَاكَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ وَبِالْجُحُودِ تَارِكٌ لِذَلِكَ .
قَالَ ( وَمَا نَقَصَهُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ أَوْ سُكْنَاهُ ضَمِنَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ كَمَا إذَا نَقَلَ تُرَابَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْعَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيمَا قَالَهُ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ بِسُكْنَاهُ وَعَمَلِهِ ، فَلَوْ غَصَبَ دَارًا وَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا وَأَقَرَّ بِذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ غَصْبَ الْبَائِعِ وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْغَصْبِ هُوَ الصَّحِيحُ قَالَ ( وَإِذَا انْتَقَصَ بِالزِّرَاعَةِ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْبَعْضَ فَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ .
قَالَ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ) وَسَنَذْكُرُ الْوَجْهَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .

( فَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْمَنُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ ) بِالسُّكْنَى وَوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ( وَمِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ ) مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ( عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ) وَإِنَّمَا قِيلَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا آجَرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّهَا فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَقِيقَةً وَفِي يَدِ الْآجِرِ حُكْمًا لَكِنَّهُمَا يَدَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ( فَيَتَحَقَّقُ الْوَصْفَانِ ) يَعْنِي إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ وَإِثْبَاتَ يَدِ الْغَاصِبِ ( وَهُوَ الْغَصْبُ ) أَيْ تَحَقُّقُ الْوَصْفَيْنِ هُوَ الْغَصْبُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ ) فِي تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ ( وَجُحُودُ الْوَدِيعَةِ فِي الْعَقَارِ ) فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وَدِيعَةً فِي يَدِ شَخْصٍ فَجَحَدَهُ كَانَ ضَامِنًا بِالِاتِّفَاقِ ، فَالْقَوْلُ بِالضَّمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ جُحُودَ الْوَدِيعَةِ غَصْبٌ مَعَ عَدَمِ الْقَوْلِ بِهِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْجُحُودِ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ ، وَكَأَنَّ التَّكَلُّفَ بِإِثْبَاتِ إزَالَةِ الْيَدِ مِنْ جَانِبِ الشَّافِعِيِّ لِلْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الْغَصْبِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْبَاطِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ ) أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ ( وَهَذَا ) أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعُ ( وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ، لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ ) أَيْ بِإِخْرَاجِ الْمَالِكِ ( عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الْعَقَارِ بِمَعْنَى الضَّيْعَةِ أَوْ الدَّارِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْإِخْرَاجُ ( فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْعَقَارِ ) فَانْتَفَى إزَالَةُ الْيَدِ وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا بَعُدَ الْمَالِكُ عَنْ الْمَوَاشِي ) حَتَّى تَلِفَتْ ، فَإِنَّ

ذَلِكَ لَا يَكُونُ غَصْبًا لَهَا ( وَفِي الْمَنْقُولِ النَّقْلُ فِعْلٌ فِيهِ وَهُوَ الْغَصْبُ ، وَمَسْأَلَةُ الْجُحُودِ مَمْنُوعَةٌ ) ذَكَرَ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَوْ كَانَتْ عَقَارًا لَا يَضْمَنُ وَإِنْ جَحَدَ .
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ جُحُودُ الْوَدِيعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي الْعَقَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَلَوْ سَلِمَ فَالضَّمَانُ هُنَاكَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ بِالْجُحُودِ تَارِكٌ لِذَلِكَ ) قَالَ ( وَمَا نَقَصَهُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ أَوْ سُكْنَاهُ ضَمِنَهُ ) وَمَا نَقَصَهُ الْغَاصِبُ مِنْ الْعَقَارِ بِفِعْلِهِ أَوْ سُكْنَاهُ ضَمِنَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِأَنَّهُ إتْلَافٌ ، وَالْعَقَارُ يَضْمَنُ بِهِ كَمَا إذَا نَقَلَ تُرَابَهُ ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْعَيْنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَيَدْخُلُ فِيمَا قَالَهُ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ( إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ بِسُكْنَاهُ وَعَمَلِهِ ) بِأَنْ كَانَ عَمَلُهُ الْحِدَادَةَ أَوْ الْقِصَارَةَ فَوَهَى جِدَارُ الدَّارِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَانْهَدَمَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ بَعْدَمَا غَصَبَهَا وَسَكَنَ فِيهَا لَا بِسُكْنَاهُ وَعَمَلِهِ بَلْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( فَلَوْ غَصَبَ دَارًا وَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا وَأَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الدَّارِ ) عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ ( فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْغَصْبِ ) لَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ لِلْمَالِكِ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْبَائِعِ بِالْغَصْبِ فِي حَقِّ

الْمُشْتَرِي بَاطِلٌ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ تَحَقَّقَ الْغَصْبُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَمْكَنَهُ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ وَيَأْخُذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ الضَّمَانَ عَلَى الْبَائِعِ بِالِاتِّفَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا شَهِدَا بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ وَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِتْلَافُهُمَا كَإِتْلَافِ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ عِنْدَهُمَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْجَمِيعِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْإِتْلَافَ فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَالْعَقَارُ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ .
وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْإِتْلَافَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، بَلْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِبَيِّنَتِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ قُضِيَ لَهُ بِهَا فَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْبَائِعُ ضَامِنًا ( وَإِنْ نَقَصَتْ بِالزِّرَاعَةِ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ ) ، وَيُعْرَفُ النُّقْصَانُ بِأَنْ يُنْظَرَ بِكَمْ تُسْتَأْجَرُ هَذِهِ الْأَرْضُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا وَبِكَمْ تُسْتَأْجَرُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهَا فَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا نُقْصَانُهَا ، وَهَذَا قَوْلُ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَإِذَا هَلَكَ النَّقْلِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ضَمِنَهُ ) وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ : وَإِذَا هَلَكَ الْغَصْبُ وَالْمَنْقُولُ هُوَ الْمُرَادُ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْغَصْبَ فِيمَا يُنْقَلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ إذْ هُوَ السَّبَبُ .
وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهِ يَجِبُ الْقِيمَةُ أَوْ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ السَّبَبُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ .قَالَ ( وَإِذَا هَلَكَ النَّقْلِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ضَمِنَهُ ) ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ النُّسَخِ وَبَيَّنَ الْمُرَادَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْعَيْنَ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ إذْ هُوَ السَّبَبُ ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهِ تَجِبُ الْقِيمَةُ ) يَعْنِي عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ ( وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلَفًا أَوْ تَتَقَرَّرُ ) أَيْ الْقِيمَةُ ( بِذَلِكَ السَّبَبِ ) يَعْنِي عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ خَلَفٌ عَنْهُ ، فَإِنْ هَلَكَ الْعَيْنُ تَقَرَّرَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ وَاجِبَةً عِنْدَ الْغَصْبِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْغَصْبِ السَّابِقِ هُوَ السَّبَبُ ( تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ ) وَلَا فَصْلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يَكُونُ الْهَلَاكُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ

( وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ ) ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ ، بِخِلَافِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ إذَا رَدَّ فِي مَكَان الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ الرَّغَبَاتِ دُونَ فَوْتِ الْجُزْءِ ، وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ .
أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّات لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا .

( وَإِنْ نَقَصَ ) الْمَغْصُوبُ ( فِي يَدِ الْغَاصِبِ ) وَلَمْ يَنْجَبِرْ نُقْصَانُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ ( ضَمِنَ النُّقْصَانَ ) سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ فِي بَدَنِهِ مِثْلُ أَنْ كَانَ جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ ، أَوْ نَاهِدَةَ الثَّدْيَيْنِ فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا ، أَوْ فِي غَيْرِ بَدَنِهِ مِثْلُ أَنْ كَانَ عَبْدًا مُحْتَرِفًا فَنَسِيَ الْحِرْفَةَ ( لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِالْغَصْبِ ) وَقَدْ فَاتَ مِنْهُ جُزْءٌ ( فَ ) تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ وَ ( مَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ ) وَأَمَّا إذَا انْجَبَرَ نُقْصَانُهُ مِثْلُ أَنْ وَلَدَتْ الْمَغْصُوبَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا وَفِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ شَيْئًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ بِفُتُورِ الرَّغَبَاتِ لَا بِفَوَاتِ جُزْءٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْقِيمَةِ وَالِانْتِظَارِ إلَى الذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَسْتَرِدُّهُ ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ مِنْ قِبَلِ الْغَاصِبِ بِنَقْلِهِ إلَى هَذَا الْمَكَانِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الضَّرَرَ وَيُطَالِبَهُ بِالْقِيمَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ ، فَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ ( وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ ، يَعْنِي إذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِفَوَاتِ وَصْفٍ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ شَيْئًا لِنُقْصَانِهِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْوَصْفِ وَإِنْ فَحُشَ النُّقْصَانُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِمِائَةٍ مَثَلًا فَاعْوَرَّتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَصَارَتْ تُسَاوِي خَمْسِينَ كَانَ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ ، فَلَوْ

اخْتَارَ الْبَيْعَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ تَمَامِ الْمِائَةِ كَمَا شُرِطَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ وَالْأَوْصَافُ لَا تُضْمَنُ بِهِ ( أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ ) وَهُوَ الْقَبْضُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ لَا عَلَى الْأَوْصَافِ ، وَالْغَصْبُ فِعْلٌ يَحِلُّ الذَّاتَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَصِفَاتِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمُرَادُهُ ) أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ ( غَيْرُ الرِّبَوِيِّ ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ ) كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ عِنْدَهُ أَوْ إنَاءَ فِضَّةٍ فَانْهَشَمَ فِي يَدِهِ فَ ( لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ) لَكِنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ مِثْلَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا ( وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا .
وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَجَّرَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُسْتَعَارَ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ .
أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا عِنْدَنَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَمَا هَذَا حَالُهُ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ ، إذْ الْفَرْعُ يَحْصُلُ عَلَى وَصْفِ الْأَصْلِ وَالْمِلْكُ الْمُسْتَنِدُ نَاقِصٌ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْخَبَثُ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ ) أَيْ وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَهُ وَقَبَضَ الْأُجْرَةَ فَصَارَ مَهْزُولًا فِي الْعَمَلِ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ دَخَلَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ وَنُقْصَانُهُ وَصْفُهُ مِمَّا تَعَذَّرَ فِيهِ الرَّدُّ فَوَجَبَ رَدُّ قِيمَةِ النُّقْصَانِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِهَا .
وَعَلَى هَذَا إذَا آجَرَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُسْتَعَارَ وَالْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ ، أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ مُسْتَنِدًا إذَا ضَمِنَ وَلَهُمَا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ : أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ وَضَمَانُهُ لَكِنَّهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ ، إذْ الْفَرْعُ يَحْصُلُ عَلَى وَصْفِ الْأَصْلِ ، أَصْلُهُ حَدِيثُ الشَّاةِ الْمَصْلِيَّةِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَنِدًا فَأَنَّى يَكُونُ الْخُبْثُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْمِلْكُ الْمُسْتَنِدُ نَاقِصٌ ) يَعْنِي لِكَوْنِهِ ثَابِتًا فِيهِ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ دُونَ الْفَائِتِ ( فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْخُبْثُ ) .

( فَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى ضَمِنَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الضَّمَانِ ) ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ لِأَجَلِ الْمَالِكِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ فَيَزُولُ الْخَبَثُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَغَرِمَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ مَا كَانَ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ ، فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا .( فَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى ضَمِنَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الضَّمَانِ ، لِأَنَّ الْخُبْثَ لِأَجْلِ الْمَالِكِ ، وَلِهَذَا لَوْ سَلَّمَ الْغَلَّةَ مَعَ الْعَبْدِ إلَى الْمَالِكِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ فَيَزُولُ الْخُبْثُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْغَاصِبُ الْعَبْدَ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّ وَغَرِمَهُ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الْخُبْثَ مَا كَانَ لِأَجْلِهِ إلَّا إذَا لَمْ يَجِدْ الْغَاصِبُ غَيْرَهُ ) أَيْ غَيْرَ الْغَلَّةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ الْأَجْرِ أَوْ الْمَالِ ( لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، وَلِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ ) وَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خُبْثٌ ( فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ ) أَيْ وَقْتَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ( فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا ) أَنَّهُ مُحْتَاجٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَ الْغَلَّةَ مَكَانَ الثَّمَنِ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغَاصِبَ أَوْ الْمُودَعَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ وَجَوَابُهُمَا فِي الْوَدِيعَةِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَى مَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ ، أَمَّا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ كَالثَّمَنَيْنِ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا الثَّمَنَ .
أَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا أَوْ أَطْلَقَ إطْلَاقًا وَنَقَدَ مِنْهَا يَطِيبُ لَهُ ، وَهَكَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا كَانَتْ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ لِيَتَحَقَّقَ الْخَبَثُ .
وَقَالَ مَشَايِخُنَا : لَا يَطِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ ، وَكَذَا بَعْدَ الضَّمَانِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً ) الْغَاصِبُ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمُودِعُ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ فِيهِ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ مَرَّ فِي الدَّلَائِلِ .
وَجَوَابُهُمَا فِي الْوَدِيعَةِ أَظْهَرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَى مَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ ، فَكَانَ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ الرِّبْحُ خَبِيثًا ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الشِّرَاءَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ الْخُبْثِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي ، ثُمَّ هَذَا : أَيْ عَدَمُ طِيبِ الرِّبْحِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ كَالْعُرُوضِ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالثَّمَنَيْنِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ .
فَقَوْلُهُ ( فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ ( اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا ، أَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا أَوْ أَطْلَقَ إطْلَاقًا وَنَقَدَ مِنْهَا بِطِيبٍ لَهُ ، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ ، فَفِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَطِيبُ ، وَفِي الْبَاقِي يَطِيبُ .
وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَجْهًا آخَرَ لَا يَطِيبُ فِيهِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الْبَائِعِ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ .
وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْجَوَابِ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا كَانَتْ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ كَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ لِيَتَحَقَّقَ الْخَبَثُ .
قَالُوا : وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِهِ لِكَثْرَةِ الْحَرَامِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ

مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : لَا يَطِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ وَكَذَا بَعْدَ الضَّمَانِ بِكُلِّ حَالٍ : أَيْ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ بِقَوْلِهِ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ ، وَقَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا نَقَدَ مِنْهَا وَلَمْ يُشِرْ فَسَلَامَةُ الْمَبِيعِ حَصَلَتْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، فَأَمَّا أَنْ يَصِيرَ عَنْهَا عِوَضًا فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ الْخُبْثِ ، وَإِنْ أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِعْلَامُ جِنْسِ الثَّمَنِ وَقَدْرِهِ حَصَلَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ فَكَانَ لِلْعَقْدِ تَعَلُّقٌ بِهَا فَتُمْكِنُ شُبْهَةُ الْخُبْثِ أَيْضًا ، وَسَبِيلُ مِثْلِهِ التَّصَدُّقُ فَاسْتَوَتْ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي الْخُبْثِ وَوُجُوبِ التَّصَدُّقِ

قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ ) ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ .( وَإِنْ اشْتَرَى بِأَلْفٍ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ ) بَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا غَصَبَ ( فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ) بِأَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَصِرْ فَلَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ .

( فَصْلٌ ) : قَالَ ( وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا ، كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً ) وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمَالِكِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضَمِّنُهُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطُحِنَتْ .
وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ ، فَصَارَ كَمَا إذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ أَصْلًا وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا .
وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَحَقُّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إحْدَاثُ الصَّنْعَةِ ، بِخِلَافِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْمَلُ الْفُصُولَ الْمَذْكُورَةَ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَاحْفَظْهُ .
وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ

قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
وَوَجْهُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَاءِ صَاحِبِهَا أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى } " أَفَادَ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فَتْحُ بَابِ الْغَصْبِ فَيَحْرُمُ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَنَفَاذِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ مَعَ الْحُرْمَةِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ .
وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِهِ ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ فِيهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ .
وَفِي الْحِنْطَةِ يَزْرَعُهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْغَصْبِ وَحُكْمُهُ مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ عَارِضٌ وَحَقُّهُ الْفَصْلُ عَمَّا قَبْلَهُ ( وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمِ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا ) قَوْلُهُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، مِثْلُ أَنْ صَارَ الْعِنَبُ زَبِيبًا بِنَفْسِهِ أَوْ خَلًّا أَوْ الرُّطَبُ تَمْرًا فَإِنَّ الْمَالِكَ فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمِنَهُ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِالذَّبْحِ الْمُجَرَّدِ مِلْكُ مَالِكِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ اسْمُهَا يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ وَشَاةٌ حَيَّةٌ .
وَقَوْلُهُ وَعِظَمِ مَنَافِعِهَا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ إذَا غَصَبَهَا وَطَحَنَهَا ، فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِعَيْنِ الْحِنْطَةِ كَجَعْلِهَا هَرِيسَةً وَكِشْكًا وَنَشَاءً وَبَذْرًا وَغَيْرَهَا يَزُولُ بِالطَّحْنِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَالَ اسْمُهَا يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهَا إذَا طَحَنَتْ صَارَتْ تُسَمَّى دَقِيقًا لَا حِنْطَةً ، وَمِثْلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا ) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الذَّبْحَ وَحْدَهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ ، بَلْ الذَّبْحُ وَالطَّبْخُ بِمَنْزِلَةِ طَحْنِ الْحِنْطَةِ .
وَالْأَمْثِلَةُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ ( قَوْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ ) يَعْنِي زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ وَتَمَلُّكَ الْغَاصِبِ وَضَمَانَهُ ( عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي

إلَى الرِّبَا ) إذْ الدَّقِيقُ عَيْنُ الْحِنْطَةِ مِنْ وَجْهٍ ، لِأَنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي إحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَتَفْرِيقُ الْأَجْزَاءِ لَا يُبَدِّلُ الْعَيْنَ كَالْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْرِي الرِّبَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ ( وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ جَائِزٌ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( وَعَنْهُ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ ) وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّهُ ( لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ ) قَوْلُهُ ( وَلِلشَّافِعِيِّ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ يُوجِبُ بَقَاءَهُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ ، وَلَوْلَا بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْعَيْنُ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ ( وَتُتْبِعُهُ الصَّنْعَةَ ) الْحَادِثَةَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ ( كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطَحَنَتْ ) فَإِنَّ الدَّقِيقَ يَكُونُ لِمَالِكِ الْحِنْطَةِ كَذَلِكَ هَذَا .
فَإِنْ قِيلَ : تَمْثِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فِعْلُ الْغَاصِبِ دُونَ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَحْظُورَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَصَارَ كَمَا إذَا عُدِمَ الْفِعْلُ أَصْلًا ) وَحِينَئِذٍ صَارَتْ صُورَةُ النِّزَاعِ كَالْمُسْتَشْهَدِ بِهِ لَا مَحَالَةَ ( وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَأَرَّبَهَا ) أَيْ جَعَلَهَا عُضْوًا عُضْوًا ، فَإِنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهِ مَحْظُورًا ( وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً )

لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّاةِ تَزْدَادُ بِطَبْخِهَا وَشَيِّهَا ، وَكَذَلِكَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ تَزْدَادُ بِجَعْلِهَا دَقِيقًا ( وَإِحْدَاثُهَا صَيَّرَ ) جِنْسَ ( حَقِّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ ( وَحَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْغَاصِبِ ( فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) وَمَا هُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُرَجَّحٌ عَلَى الْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ : إذَا تَعَارَضَ ضَرْبًا بِالتَّرْجِيحِ كَانَ الرُّجْحَانُ فِي الذَّاتِ أَحَقَّ مِنْهُ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ تَابِعَةٌ لَهُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالشَّيِّ وَالطَّبْخِ ، لِأَنَّ الصَّنْعَةَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْعَيْنُ هَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ ( قَوْلُهُ وَلَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَحْظُورٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ لِهَذَا الْفِعْلِ جِهَتَيْنِ : جِهَةُ تَفْوِيتِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَحَلِّ وَهُوَ مَحْظُورٌ ، وَجِهَةُ إحْدَاثِ صَنْعَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ حَيْثُ هَذِهِ الْجِهَةُ لَا الْجِهَةُ الْأُولَى .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الشَّاةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ حُدُوثُ الْفِعْلِ مِنْ الْغَاصِبِ عَلَى وَجْهٍ يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ ، وَاسْمُ الشَّاةِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ بَاقٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ مَسْلُوخَةٌ كَمَا يُقَالُ شَاةٌ حَيَّةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْكَلَامُ فِيهَا بَعْدَ التَّأْرِيبِ وَلَا يُقَالُ شَاةٌ مَأْرُوبَةٌ بَلْ يُقَالُ لَحْمٌ مَأْرُوبٌ فَقَدْ حَصَلَ الْفِعْلُ وَتَبَدَّلَ الِاسْمُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهَا فَقَدْ أَبْقَى اسْمَ الشَّاةِ فِيهَا مَعَ تَرْجِيحِ جَانِبِ اللَّحْمِيَّةِ فِيهَا ، إذْ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا اللَّحْمُ ثُمَّ السَّلْخُ ، وَالتَّأْرِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ بَلْ

يُحَقِّقُهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلُ تَبْدِيلِ الْعَيْنِ ، بِخِلَافِ الطَّبْخِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَا هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِاللَّحْمِ كَمَا كَانَ فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا ( قَوْلُهُ وَهَذَا الْوَجْهُ ) أَيْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِبَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى عَدَمِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْمَالِكِ ، وَبِفَوَاتِ الِاسْمِ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْمِلْكِ شَامِلٌ لِعَامَّةِ فُصُولِ مَسَائِلِ الْغَصْبِ ، فَإِنَّهُ إذَا غَصَبَ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ .
وَأَمَّا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ لَمْ يَنْقَطِعْ ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ قَائِمٌ لَمْ يَتَبَدَّلْ اسْمُهُ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَحِلُّ لَهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُهُ ) أَيْ وَجْهُ الْقِيَاسِ ( أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ لِلْغَاصِبِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الْمَالِكُ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ) وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ضِيَافَةِ أَنْصَارِيٍّ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَاةً صَلِيَّةً : أَيْ مَشْوِيَّةً فَأَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَجَعَلَ يَلُوكُهَا وَلَا يَسِيغُهَا ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
إنَّهَا تُخْبِرُنِي أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : كَانَتْ شَاةَ أَخِي ، وَلَوْ كَانَتْ أَعَزَّ مِنْ هَذَا لَمْ يُنَفِّسْ عَلَيَّ بِهَا وَسَأُرْضِيهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا إذَا رَجَعَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى } قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي الْمُحْبَسِينَ فَأَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ مَعَ كَوْنِ الْمَالِكِ مَعْلُومًا .

بَيَانُ أَنَّ الْغَاصِبَ قَدْ مَلَكَهَا لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يَحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ إذَا أَمْكَنَ وَثَمَنُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ عَيْنِهِ ، وَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهَا وَعَلَى حُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَنَفَاذُ بَيْعِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ نَفَاذَ ذَلِكَ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبَاحَةَ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَالَ الْيَتِيمِ ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ) أَشَارَ إلَى قَوْلِهِ كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ تَعْلِيلِ مَسْأَلَةٍ : وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ .

قَالَ ( وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ، وَقَالَا : يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمَضْرُوبُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ .
وَلَهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَمَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا وَأَنَّهُ بَاقٍ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْعَيْنِ ، وَكَذَا الصَّنْعَةُ فِيهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا .

قَالَ ( وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا ) إذَا غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ .
وَقَالَا : يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ إحْدَاثَهَا حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ تِبْرًا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَبَعْدَمَا ضَرَبَهُ صَلُحَ لِذَلِكَ .
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَغَايُرِهِمَا مَعْنًى وَاسْمًا ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الضَّرْبِ كَانَ يُسَمَّى تِبْرًا وَفِضَّةً وَذَهَبًا وَبَعْدَهُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَالْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهِيَ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا وَجَرَيَانُ الرِّبَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ ( قَوْلُهُ وَصَلَاحِيَّتُهُ لِرَأْسِ الْمَالِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ إلَخْ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الصَّلَاحِيَّةَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ يَحْدُثُ بِالصَّنْعَةِ لَا أَنَّهُ هَلَكَ الْعَيْنُ بِهَا مِنْ وَجْهٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الصَّنْعَةُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً مُتَقَوِّمَةً ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ كَمَنْ اسْتَهْلَكَ قَلْبَ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا عِنْدَنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَدَّى إلَى الرِّبَا ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ وَزْنِهَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ

الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْجَوْدَةِ وَالصَّنْعَةِ ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَالِكِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا قُلْنَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا ، وَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ مَكْسُورًا فَرَضِيَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ مَا بَيْنَ الْمَكْسُورِ وَالصَّحِيحِ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ فَبَقِيَتْ الصَّنْعَةُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الصَّنْعَةُ مُتَقَوِّمَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ

قَالَ ( وَمِنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ .
وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ .
ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ : إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالِي السَّاجَةِ ، مَا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ .
وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .

( وَمَنْ غَصَبَ سَاجَةً ) بِالْجِيمِ وَهِيَ الْخَشَبَةُ الْعَظِيمَةُ ، لِأَنَّ السَّاحَةَ بِالْحَاءِ سَتَأْتِي بَعْدَ هَذَا ( فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا ) وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السَّاجَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا ، وَسَيَظْهَرُ لَك وَجْهُ ذَلِكَ إنْ تَأَمَّلْت فِي قَوْلِهِ وَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ إلَخْ ( وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ ) أَيْ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ) الشَّافِعِيُّ ( إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ ) وَالسَّفِينَةُ مَعَ مَنْ عَلَيْهَا فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَنْزِعَ لَوْحَهُ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِذَلِكَ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ وَاقِفَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ عِنْدَهُ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ .
فَإِنْ قِيلَ : عَدَمُ جَوَازِ نَزْعِ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ عِنْدَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ تَلَفَ النَّاسِ لَا لِأَنَّ الْمَالِكَ مَلَكَ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ .
قُلْنَا : ثَبَتَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمَالِكِ وَغَيْرُهُ ، وَجَعَلَ حَقَّ غَيْرِهِ أَوْلَى لِأَنَّ بِإِبْطَالِهِ زِيَادَةَ ضَرَرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى ضَرَرِ الْمَالِكِ فَكَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ ( ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالَيْ السَّاجَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ ،

وَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى السَّاجَةِ يُنْقَضُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَجَوَابُ الْكِتَابِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَبَنَى عَلَيْهَا ( يُرَدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) قِيلَ : لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ السَّاجَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا تَصْلُحُ لِلْإِحْرَاقِ تَحْتَ الْقُدُورِ وَلِأَبْوَابِ الدُّورِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْضِ ، وَالتَّغْيِيرُ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ .

قَالَ ( وَمِنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَّهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا ، وَكَذَا الْجَزُورُ ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا ) هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَجْهُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ حَيْثُ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ .

قَالَ ( وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ ) وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا وَكَذَلِكَ الْجَزُورُ وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ مِنْ الْجَزْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ غَاصِبَهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لِجِزَارَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهِ لَا نُقْصَانًا حَيْثُ أُعِدَّ لِلْجَزْرِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ مِنْهُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ إزَالَةِ الْحَيَاةِ عَنْ الْحَيَوَانِ نُقْصَانٌ فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَاهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الِاسْمَانِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا : أَيْ يَدَ الشَّاةِ وَالْجَزُورِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، بِخِلَافِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ لَا يُضَمِّنَهُ شَيْئًا : يَعْنِي فِي ذَبْحِ الشَّاةِ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالسَّلْخَ فِي الشَّاةِ زِيَادَةً عَلَى مَا مَرَّ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَبَقَاءُ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ وَلَكِنَّهُ لَا يَعُمُّ الْجَزُورَ بِظَاهِرِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَعُمُّهُ مِنْ قَوْلِهِ فَوَّتَ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ إذَا لَمْ يَجْعَلْ الْبَيَانَ مُنْحَصِرًا فِيهَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
قِيلَ : لَيْسَ لِتَقْيِيدِهِ بِغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَائِدَةٌ ، فَإِنَّ حُكْمَ مَأْكُولِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ عَطَفَ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ

قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ .
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ : هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ فِيهِمَا : يَعْنِي فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ فَكَانَ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ رَدَّ ذَلِكَ الظَّاهِرِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَفَى أَنْ يَقُولَ : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ .
وَالثَّانِي أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَطْعِ طَرَفِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ : إنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ .
وَفِي الثَّانِي لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ نَفْيُ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ بَيْنَ تَضْمِينِ قِيمَتِهَا وَبَيْنَ إمْسَاكِ الْجُثَّةِ وَتَضْمِينِ نُقْصَانِهَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الْكُتُبِ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي فَقَالَ : وَفِي الْمُنْتَقَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ حِمَارٍ أَوْ رِجْلَهُ وَكَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ .
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْآدَمِيَّ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ ( وَإِنْ خَرَقَ خَرْقًا كَبِيرًا يُبْطِلَ عَامَّةَ مَنَافِعِهِ فَلِمَالِكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ أَحْرَقَهُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ يَتْرُكُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ : وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ ، ثُمَّ إشَارَةُ الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا وَالْفَائِتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ .

قَالَ ( وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْخَرْقِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ رُبُعِ الْقِيمَةِ فَهُوَ فَاحِشٌ ، وَمَا أَوْجَبَ دُونَهُ فَهُوَ يَسِيرٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ فَاحِشٌ ، وَمَا أَوْجَبَ دُونَهُ فَهُوَ يَسِيرٌ .
وَأَشَارَ فِي الْقُدُورِيِّ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ .
قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَبْقَى لِلْبَاقِي مَنْفَعَةُ الثِّيَابِ بِأَنْ لَا يَصْلُحَ لِثَوْبٍ مَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ ) قِيلَ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْغَالِبُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الثَّوْبَ إذَا قُطِعَ يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ ( وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ) يَعْنِي أَنْ لَا يَبْقَى جَمِيعُ مَنَافِعِهِ بَلْ يَفُوتُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ ( وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْجَوْدَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا دُونَ غَيْرِهِ ( لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا ) فَقَالَ : وَإِذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَلَمْ يَخِطْهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ .
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَائِتَ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا قُطِعَ قَمِيصًا يَصْلُحُ لِلْقَمِيصِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِلْقَبَاءِ وَأَمْثَالِهِ ، وَالسَّاقِطُ مِنْ الْقِيمَةِ أَقَلُّ مِنْ الرُّبُعِ ، وَمَعَ هَذَا اعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَاحِشًا .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ ، وَإِنْ خَرَقَهُ خَرْقًا كَبِيرًا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَيَتْرُكَ

الثَّوْبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَطْعِ كَانَ صَالِحًا لِاِتِّخَاذِ الْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ فَيَمِيلُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَضَمَّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، أَوْ إلَى جَانِبِ الْبَقَاءِ وَأَخْذِ الْعَيْنِ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْقَطْعِ ، وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظِ الثَّوْبِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِي الَّذِي يُلْبَسُ كَالْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ وَفِيمَا لَمْ يُلْبَسْ كَالْكِرْبَاسِ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى قِيلَ لَهُ اقْلَعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } " وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا ، وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَيُؤْمَرُ الشَّاغِلُ بِتَفْرِيغِهَا ، كَمَا إذَا شَغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ ( فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونَانِ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدُفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا مَعْنَاهُ قِيمَةُ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ ، إذْ لَا قَرَارَ لَهُ فِيهِ فَتَقُومُ الْأَرْضُ بِدُونِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَتَقُومُ وَبِهَا شَجَرٌ أَوْ بِنَاءٌ ، لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ ، لَكِنْ كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ يَحْكِي عَنْ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ : إنْ كَانَتْ قِيمَةُ السَّاحَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ السَّاحَةِ أَكْثَرَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا .
قَالُوا : هَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ فِي لُؤْلُؤَةٍ سَقَطَتْ مِنْ يَدِ إنْسَانٍ فَابْتَلَعَتْهَا دَجَاجَةُ إنْسَانٍ ، يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الدَّجَاجَةِ وَاللُّؤْلُؤَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الدَّجَاجَةِ أَقَلَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ اللُّؤْلُؤَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدَّجَاجَةَ وَضَمِنَ قِيمَتَهَا لِمَالِكِهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ اللُّؤْلُؤَةَ وَضَمِنَ صَاحِبُ الدَّجَاجَةِ قِيمَةَ اللُّؤْلُؤَةِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ قَرْنُ الشَّاةِ فِي قِدْرِ الْبَاقِلَّائِيِّ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ ، يُنْظَرُ أَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً فَيُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِدَفْعِ قِيمَةِ الْآخَرِ إلَى صَاحِبِهِ وَيَتَمَلَّكُ مَالَ صَاحِبِهِ وَيَتَخَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَلَفِ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَلَهُ أَمْثَالٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } صَحَّحَهُ فِي الْمُغْرِبِ بِتَنْوِينِ عِرْقٍ : أَيْ لِذَوِي عِرْقٍ ظَالِمٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُغْرَسُ فِي الْأَرْضِ غَرْسًا عَلَى وَجْهِ الِاغْتِصَابِ لِيَسْتَوْجِبَهَا وَصَفَ الْعِرْقَ بِالظُّلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ صَاحِبِهِ مَجَازًا ، وَقَدْ رُوِيَ بِالْإِضَافَةِ أَيْ لَيْسَ لِعِرْقِ غَاصِبٍ ثُبُوتٌ بَلْ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ إلَخْ ) يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّجَرِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا وَمَعَ الشَّجَرِ الْمُسْتَحَقِّ قَلْعُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْأَرْضِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ لِلْغَاصِبِ فَيُسَلِّمُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَكَذَا الْبِنَاءُ

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الثَّوْبِ : لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الصَّبْغِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ ، بِخِلَافِ السَّمْنِ فِي السَّوِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ .
وَلَنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَالْخِيَرَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَصْلِ ، بِخِلَافِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لَهُ بَعْدَ النَّقْضِ ؛ أَمَّا الصِّبْغُ فَيَتَلَاشَى ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا انْصَبَغَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ لِيَضْمَنَ الثَّوْبَ فَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَصْلِ الصِّبْغَ .
قَالَ أَبُو عِصْمَةَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ : وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَهُ وَيَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِمَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ الصَّبْغَ بِالْقِيمَةِ ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ تَعَيَّنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَيَتَأَتَّى ، هَذَا فِيمَا إذَا انْصَبَغَ الثَّوْبُ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا لِوَجْهٍ فِي السَّوِيقِ ، غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ : يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا .
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ، وَالصُّفْرَةُ كَالْحُمْرَةِ .
وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَهُوَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ السَّوَادُ فَهُوَ نُقْصَانٌ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يُزِيدُ فِيهِ السَّوَادُ فَهُوَ

كَالْحُمْرَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا تُنْقِصُهُ الْحُمْرَةُ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَرَاجَعَتْ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى ثَوْبٍ تُزِيدُ فِيهِ الْحُمْرَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْخَمْسَتَيْنِ جُبِرَتْ بِالصَّبْغِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا إلَخْ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاحَةِ ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ فِي فَصْلِ السَّاحَةِ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ إذَا لَمْ تَتَضَرَّرْ الْأَرْضُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا شَغْلَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ ) يَعْنِي بِالْعَصْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ بِالْجِيمِ بِقَوْلِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخَيْرُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَ لَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ : يَعْنِي إنْ شَاءَ سَلَّمَ الثَّوْبَ إلَى مَالِكِهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ صَبْغِهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ تَخْيِيرَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِجَوَازِ وُقُوعِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا ، وَتَخْيِيرُ الْمَالِكِ أَوْلَى لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصَّبْغَ صِفَةٌ فَيَكُونُ كَالتَّابِعِ لَهُ ، وَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ ( قَالَ أَبُو عِصْمَةَ الْمَرْوَزِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ ، وَاحْتُرِزَ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ مُتَّصِلٌ بِمَا يَلِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الِانْصِبَاغِ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الِانْصِبَاغِ كَذَلِكَ ، لَكِنْ وَقَعَ مِنْ أَبِي عِصْمَةَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ تَصْحِيحًا لِلنَّقْلِ ( وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا ) فِي مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ وَالِانْصِبَاغِ ( الْوَجْهُ ) يَعْنِي جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ وَتَعْلِيلَهَا ( فِي السَّوِيقِ ) مِنْ حَيْثُ الْخَلْطُ وَالِاخْتِلَاطُ بِغَيْرِ فِعْلٍ ( غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ ، وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ : يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا .
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْقِيمَةِ ( الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ )

أَيْ سَمَّى الْمِثْلَ بِالْقِيمَةِ ( لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ) أَيْ لِقِيَامِ الْمِثْلِ مَقَامَ الْمَغْصُوبِ ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ وَبِهِ بِتَأْوِيلِ مَا يُقَوَّمُ ( قَوْلُهُ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَخْ ) مَعْنَاهُ إنْ نَظَرَ إلَى ثَوْبٍ تَزِيدُ فِيهِ الْحُمْرَةُ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً مَثَلًا يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ اسْتَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّوْبِ عَشْرَةً وَاسْتَوْجَبَ الصَّبَّاغُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصَّبْغِ خَمْسَةً ، فَالْخَمْسَةُ بِالْخَمْسَةِ قِصَاصٌ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ النُّقْصَانِ وَهُوَ خَمْسَةٌ ، وَهَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .

وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ ، وَالْمُبَدَّلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ ، نَعَمْ قَدْ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ يُصَادِفُ الْقِنَّ .
قَالَ ( وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ( إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ بِالْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ وَقَدْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ وَهُوَ الْغَاصِبُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِهِ رِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَيْثُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَأَخَذَهُ دُونَهَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ .
وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلَ مَا ضَمَّنَهُ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ حَيْثُ لَمْ يُعْطِ لَهُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْخِيَارُ لِفَوَاتِ الرِّضَا .

( فَصْلٌ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَسَائِلَ تَتَّصِلُ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ .
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا ) فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ صَبَرَ إلَى أَنْ تُوجَدَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ فَضَمِنَهَا الْغَاصِبُ مَلَكَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ ( الْغَصْبُ عُدْوَانٌ مَحْضٌ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ) كَمَا لَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا وَغَيَّبَهُ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَلَنَا الْمَالِكُ مَلَكَ الْبَدَلَ وَهُوَ الْقِيمَةُ بِكَمَالِهِ ) يَعْنِي يَدًا وَرَقَبَةً ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ بَدَلَ شَيْءٍ خَرَجَ الْمُبْدَلُ عَنْ مِلْكِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَدَخَلَ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْبَدَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ مَالِكِ الْبَدَلِ ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَالْمُدَبَّرُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ مُنَاسِبًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأَسْرَارِ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الْغَصْبُ يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ أَوْ التَّرَاضِي .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَبْسُوطِ : وَهَذَا وَهْمٌ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ الْوَلَدُ ، وَلَوْ كَانَ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ لَكَانَ إذَا تَمَّ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ يَمْلِكُ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ وَمَعَ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَعْضُ الشُّنْعَةِ ، فَالْغَصْبُ عُدْوَانٌ مَحْضٌ وَالْمِلْكُ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ ، فَيَكُونُ سَبَبُهُ مَشْرُوعًا مَرْغُوبًا فِيهِ ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ سَبَبًا لَهُ ، فَإِنَّهُ تَرْغِيبٌ لِلنَّاسِ

فِيهِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ مَرْغُوبٌ لَهُمْ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ مِثْلِهِ إلَى الشَّرْعِ .
وَقِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِكَوْنِ الْغَصْبِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ أَنَّهُ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا بَلْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ، وَالثَّابِتُ بِهِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثُبُوتِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( نَعَمْ قَدْ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ بِالْقَضَاءِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ ، فَإِنَّ مَوْلَاهُ لَوْ بَاعَهُ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ الْبَيْعُ وَفُسِخَ التَّدْبِيرُ .
وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ : يَعْنِي نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ ، لَكِنْ هُوَ فِي ضِمْنِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْفَصْلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ فَحِينَئِذٍ كَانَ مُصَادِفًا لِلْقِنِّ لَا لِلْمُدَبَّرِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِمُصَادَفَتِهِ الْقِنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَمْ يَنْفَسِخْ التَّدْبِيرُ وَالْكَلَامُ فِيهِ .
قَالَ ( وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ( إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) فَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ بَلْ يَكُونُ لِلْمَالِكِ ( لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ بِالْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ ) فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ يَمِينَ الْغَاصِبِ وَلِلْغَاصِبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ، بَلْ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَنْفِي الزِّيَادَةَ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ .
وَكَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عُدَّتْ مُشْكِلَةً .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَرَّقَ

بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ الْمُودَعَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَسْقَطَهَا وَارْتَفَعَتْ الْخُصُومَةُ .
وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَعَلَيْهِ هَاهُنَا الْيَمِينُ وَالْقِيمَةُ ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا الْيَمِينُ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْوَدِيعَةِ .
وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : ذِكْرُ أَوْصَافِ الْمَغْصُوبِ فِي دَعْوَى الْغَصْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ جَارِيَةً لَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ بِهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَنْبَغِي أَنْ تُحْفَظَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، لِأَنَّهُ قَالَ : أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ غَصَبَ جَارِيَةً لَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ جِنْسَهَا وَصِفَتَهَا وَقِيمَتَهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَصَحَّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَمْتَنِعُ عَنْ إحْضَارِ الْمَغْصُوبِ عَادَةً ، وَحِينَ يُغْصَبُ إنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ الشُّهُودِ مُعَايَنَةُ فِعْلِ الْغَصْبِ دُونَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَغْصُوبِ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عِلْمِهِمْ بِالْأَوْصَافِ لِأَجْلِ التَّعَذُّرِ ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ فِعْلُ الْغَصْبِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، فَصَارَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ ، وَهُوَ مَا قَالَ : تَأْوِيلُهَا أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْغَصْبِ فَلَا تُقْبَلُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَغْصُوبِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَغْصُوبِ وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ( فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ ) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَ بَعْدَ تَمَامِ الرِّضَا أَوْ لَا ،

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا الْمَالِكُ أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ وَالْعَيْنُ لِلْغَاصِبِ ، لِأَنَّهُ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِهِ رِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَيْثُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ ، فَإِنْ قِيلَ : أَخْذُهُ الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الرِّضَا فَكَانَتْ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَأَخْذُهُ دُونَهَا ) أَيْ أَخْذُ الْمَالِكِ مَا دُونَ الزِّيَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الرِّضَا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ عَدَمُ الْحُجَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ كَانَتْ بِاخْتِيَارِهِ ( وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلُ مَا ضَمِنَهُ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ ) يَعْنِي مَا إذَا ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ( فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ) أَيْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ ( فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) وَقَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْدَادِهَا لِأَنَّهُ تَوَفَّرَ عَلَيْهِ بَدَلُ مِلْكِهِ بِكَمَالِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ( الْأَصَحُّ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِزَوَالِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ حَيْثُ لَمْ يُعْطِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَمَا لَمْ يَتِمَّ الرِّضَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ فَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ ) لِأَنَّ مِلْكَهُ الثَّابِتَ فِيهِ نَاقِصٌ لِثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا أَوْ ضَرُورَةً ، وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ دُونَ الْأَوْلَادِ ، وَالنَّاقِصُ يَكْفِي لِنُقُودِ الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ كَمِلْكِ الْمُكَاتَبِ .قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ إلَخْ ) وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ فَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْغَاصِبُ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ لِأَنَّ مِلْكَهُ الثَّابِتَ فِيهِ نَاقِصٌ لِثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا أَوْ ضَرُورَةَ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ دُونَ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَالنَّاقِصُ يَكْفِي لِنُفُوذِ الْبَيْعِ دُونَ الْإِعْتَاقِ بِالنَّصِّ كَمِلْكِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ ، وَقُيِّدَ بِإِعْتَاقِ الْغَاصِبِ ثُمَّ بِتَضْمِينِهِ احْتِرَازٌ عَنْ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ ثُمَّ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ : فِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قِيَاسًا عَلَى الْوَقْفِ .
وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَصِحُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ

قَالَ ( وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا ، وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يُتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يَطْلُبَهَا مَالِكُهَا فَيَمْنَعُهَا إيَّاهُ ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً لِوُجُودِ الْغَصْبِ ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، كَمَا فِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا ، إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ ، حَتَّى لَوْ مَنَعَ الْوَلَدَ بَعْدَ طَلَبِهِ يَضْمَنُهُ ، وَكَذَا إذَا تَعَدَّى فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ ، وَفِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ لَا يَضْمَنُ وَلَدَهَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ لِعَدَمِ الْمَنْعِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ إذَا هَلَكَ بَعْدَهُ لِوُجُودِ الْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّرْعُ ، عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا .
وَلَوْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ، وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا ، وَيَجِبُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ ، فَلَأَنْ يَجِبَ بِمَا هُوَ فَوْقَهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَمْنِ أَوْلَى وَأَحْرَى .

( وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا ) كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ ( وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالتَّعَدِّي أَوْ بِالْجُحُودِ عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ ) وَالْأَكْسَابُ الْحَاصِلَةُ بِاسْتِغْلَالِ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ مِنْ نَمَائِهِ فِي شَيْءٍ حَتَّى تُضْمَنَ بِالتَّعَدِّي لِمَا أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ ، وَمَنَافِعُهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا فَكَذَا بَدَلُهَا .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، فَكَانَ كَالظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنِعَ مِنْ الْمَخْرَجِ ( وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْغَصْبِ ، وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَضْمَنَ الْوَلَدَ إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا ، لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَوَلَدَتْ ، وَالرِّوَايَةُ فِي الْأَسْرَارِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ يُعَدُّ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ لَا إزَالَةَ ثَمَّةَ ظَاهِرًا ، إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ الطَّلَبِ ، حَتَّى لَوْ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ أَوْ تَعَدَّى فِيهِ قُلْنَا بِالضَّمَانِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ

وَأَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّسْلِيمَ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ لَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ بَلْ بِالتَّسْلِيمِ بَعْدَهُ فَإِنَّ تَفْوِيتَ يَدِهِ يَحْصُلُ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْغَاصِبِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْأُمَّ مَضْمُونَةٌ أَلْبَتَّةَ ، وَالْأَوْصَافُ الْقَارَّةُ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِي الشِّرَاءِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِصِفَةٍ قَارَّةٍ فِي الْأُمِّ بَلْ هُوَ لُزُومُ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ ، فَإِنْ وُصِفَ بِهِ الْمَالُ كَانَ مَجَازًا .
فَإِنْ قِيلَ : وَقَدْ وُجِدَ الضَّمَانُ فِي مَوَاضِعَ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا فَكَانَ أَمَارَةَ زَيْفِهَا ، وَذَلِكَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ أَزَالَ يَدَ الْغَاصِبِ ، وَالْمُلْتَقِطُ إذَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِشْهَادِ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا ، وَالْمَغْرُورُ إذَا مَنَعَ الْوَلَدَ يَضْمَنُ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا فِي حَقِّ الْوَلَدِ ، وَيَضْمَنُ الْأَمْوَالَ بِالْإِتْلَافِ تَسَبُّبًا كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ إزَالَةُ يَدِ أَحَدٍ وَلَا إثْبَاتُهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا قُلْنَا إنَّ الْغَصْبَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يُوجِبُ الضَّمَانَ مُطَّرِدٌ لَا مَحَالَةَ ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَانَ غَصْبًا فَلَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ حُكْمًا نَوْعِيًّا يَثْبُتُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهُ بِشَخْصٍ مِنْ الْعِلَّةِ مِمَّا يَكُونُ تَعَدِّيًا ( قَوْلُهُ وَفِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ إنْ قَاسَ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ فَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْمَنْعِ ، وَإِنْ قَاسَ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمَانَ

فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّرْعُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأُمَّ مَضْمُونَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا ( وَإِذَا أَطْلَقَ ) يَعْنِي لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ سَوَاءٌ هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ أَوْ بَعْدَهُ ( فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ) أَيْ إتْلَافٍ لِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ وَزَوَائِدَهُ كَانَ آمِنًا فِي الْحَرَمِ صَيْدًا ، وَذَلِكَ فِي بُعْدِهِ عَنْ أَيْدِينَا ، فَالْوُقُوعُ فِي أَيْدِينَا تَلَفٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَيَضْمَنُ لِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِينَا ( وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ ) الْجَزَاءُ ( بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ ) فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِسَبَبِ إخْرَاجِ الصَّيْدِ عَنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَجَبَ جَزَاءٌ آخَرُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحَرَمِ ( قَوْلُهُ وَيَجِبُ ) يَعْنِي الضَّمَانَ ( بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ بِالنَّصِّ فَلَأَنْ يَجِبَ بِمَا هُوَ فَوْقَهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مُسْتَحَقِّ الْأَمْنِ أَوْلَى )

قَالَ ( وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِهِ انْجَبَرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ ) .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُهُ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ ، وَكَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَزَّ صُوفَ شَاةِ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرِ غَيْرِهِ أَوْ خَصَى عَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ عَلَّمَهُ الْحِرْفَةَ فَأَضْنَاهُ التَّعْلِيمُ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ أَوْ الْعُلُوقُ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا ، وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ أَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ وَأَخَذَ أَرْشَهَا وَأَدَّاهُ مَعَ الْعَبْدِ يُحْتَسَبُ عَنْ نُقْصَانِ الْقَطْعِ ، وَوَلَدُ الظَّبْيَةِ مَمْنُوعٌ ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ .
وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ ، إذْ الْوِلَادَةُ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ أَصْلِهِ لِلْبَرَاءَةِ ، فَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ خَلَفِهِ ، وَالْخِصَاءُ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً ؛ لِأَنَّهُ غَرَضُ بَعْضِ الْفَسَقَةِ ، وَلَا اتِّحَادَ فِي السَّبَبِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ الْقَطْعُ وَالْجَزُّ ، وَسَبَبَ الزِّيَادَةِ النُّمُوُّ ، وَسَبَبَ النُّقْصَانِ التَّعْلِيمُ ، وَالزِّيَادَةُ سَبَبَهَا الْفَهْمُ .

قَالَ ( وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ إلَخْ ) مَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، فَلَوْ غَصَبَهَا فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَمَاتَ الْوَلَدُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الْجَارِيَةِ وَرَدُّ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِاَلَّذِي ثَبَتَ فِيهَا بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ بِالْغَصْبِ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، وَقَدْ فَاتَ جُزْءٌ مَضْمُونٌ مِنْهَا فَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ كَمَا لَوْ فَاتَ كُلُّهَا ، فَإِنْ رُدَّتْ الْجَارِيَةُ وَالْوَلَدُ وَقَدْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَابِرَةً لِذَلِكَ النُّقْصَانِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَلَكَهُ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ .
كَمَا فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا تُسَاوِي ذَلِكَ النُّقْصَانَ فَإِنَّهُ لَا يَنْجَبِرُ بِهَا ، بَلْ يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ مَعَ وُجُوبِ رَدِّهِمَا إلَى الْحَرَمِ ، وَكَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ ، وَكَمَا إذَا جَزَّ صُوفَ شَاةِ غَيْرِهِ فَنَبَتَ مَكَانَهُ آخَرُ ، أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرِ الْغَيْرِ فَنَبَتَتْ قَوَائِمُ أُخْرَى مَكَانَهَا .
أَوْ خُصِيَ عَبْدُ غَيْرِهِ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ بِسَبَبِ الْخِصَاءِ ، أَوْ عَلَّمَهُ الْحِرْفَةَ فَأَضْنَاهُ التَّعْلِيمُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجَبِرُ الصُّوفُ بِالصُّوفِ ، وَالْقَوَائِمُ بِالْقَوَائِمِ ، وَلَا مَا نَقَصَ مِنْ الْجُزْءِ بِالْخِصَاءِ وَالتَّعْلِيمِ بِمَا زَادَ مِنْ الْقِيمَةِ فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ عِنْدَهُمَا وَالْعُلُوقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا عُرِفَ ذَلِكَ يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ .
وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً وَزَنَى بِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ النُّقْصَانُ نُقْصَانًا لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ

لَمَّا أَثَّرَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ ، كَالْبَيْعِ لَمَّا أَزَالَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ أَدْخَلَ الثَّمَنَ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ خَلَفًا عَنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ حَتَّى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَوَاتٍ ، وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً ثُمَّ هَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ أَوْ قَطَعَتْ يَدَ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ وَأَخَذَ أَرْشَهَا وَأَدَّاهُ مَعَ الْعَبْدِ يُحْتَسَبُ عَنْ نُقْصَانِ الْقَطْعِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ النُّقْصَانُ لِكَوْنِهِ إلَى خَلَفٍ ( قَوْلُهُ وَوَلَدُ الظَّبْيَةِ مَمْنُوعٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا ، وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نُقْصَانَ الظَّبْيَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا يَنْجَبِرُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَكَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأُمَّ إذَا مَاتَتْ لَا تَنْجَبِرُ قِيمَتُهَا بِقِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ ، وَهَذَا الْمَنْعُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُهَا عَلَى الظَّاهِرِ فَهُوَ أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِلزِّيَادَةِ وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ إذْ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوِلَادَةِ قَدْرُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ وَيَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تُوجِبُ الْمَوْتَ فَالنُّقْصَانُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ دُونَ مَوْتِ الْأُمِّ وَرَدُّ الْقِيمَةِ كَرَدِّ الْعَيْنِ ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَ الْجَارِيَةِ كَانَ النُّقْصَانُ مَجْبُورًا بِالْوَلَدِ فَكَذَا إذَا رَدَّ قِيمَتَهَا ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا رَدَّ الْأُمَّ

بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ هَلْ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِرَدِّ الْوَلَدِ ، وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ هَالِكًا كَيْفَ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِهِ ، وَالْخِصَاءُ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً لِأَنَّهُ غَرَضُ بَعْضِ الْفَسَقَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الشَّرْعِ ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمَسَائِلِ فَلَيْسَ فِيهِ اتِّحَادُ السَّبَبِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَذْكُورُ جَوَابُ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا ، وَأَصْلُ نُكَتِهِ الْخَصْمِ وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَابِرًا لِنُقْصَانٍ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ ، فَإِطْلَاقُ الْجَابِرِ عَلَيْهِ تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْوَلَدُ خَلَفًا وَبَدَلًا عَنْ النُّقْصَانِ لَمَا بَقِيَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ بِضَمَانِ الْغَاصِبِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مَالِكٍ وَاحِدٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْمَوْلَى لَا مَحَالَةَ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمِلْكُ لَيْسَ بِبَدَلٍ بَلْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ النُّقْصَانُ بَطَلَتْ الْخَلْفِيَّةُ بَقِيَ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَلَدُ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ خَلَفًا عَنْ الْمَضْمُونِ ؟ فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ عَدَمِ عَدِّهِ نُقْصَانًا لَا تَضْمِينُهُ ، هَذَا الْجَوَابُ صَالِحٌ لِلدَّفْعِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي أَيْضًا .
فَلِلَّهِ دَرُّ الْمُصَنِّفِ مَا أَلْطَفَهُ ذِهْنًا ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَحَبِلَتْ ثُمَّ رَدَّهَا وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ عَلِقَتْ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ فِي الْأَمَةِ أَيْضًا ) لَهُمَا أَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ .
كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ .
أَوْ زَنَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ ، وَكَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ .
وَلَهُ أَنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرُدَّتْ وَفِيهَا ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً فَقُتِلَتْ بِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ ، أَوْ دُفِعَتْ بِهَا بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ .
كَذَا هَذَا .
بِخِلَافِ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ لِيَبْقَى ضَمَانُ الْغَصْبِ بَعْدَ فَسَادِ الرَّدِّ .
وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءِ التَّسْلِيمِ .
مَا ذَكَرْنَا شَرْطُ صِحَّةِ الرَّدِّ وَالزِّنَا سَبَبٌ لِجَلْدٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا ) قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَغْصِبُ الْجَارِيَةَ فَيَزْنِي بِهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَتَحْمِلُ فَتَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا ، قَالَ .
هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يَوْمَ عَلِقَتْ .
وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ ضَمَانٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَمَةِ أَيْضًا إذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا بَعْدَمَا يَرُدُّهَا ، وَتَابَعَهُ الْمُصَنِّفُ فِي قَوْلٍ ثُمَّ يَرُدُّهَا فَتَحْبَلُ بِتَقْدِيمِ الرَّدِّ عَلَى الْحَبَلِ ، وَوَقَعَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ بِتَقْدِيمِ الْحَبَلِ عَلَى الرَّدِّ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَبَلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرَّدِّ ، قَالَ : الرَّدُّ قَدْ صَحَّ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَصِحَّتُهُ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ صِحَّتَهُ حَيْثُ هَلَكَتْ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ) لَا بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَالْهَلَاكُ بِذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ أَوْ زَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ ، وَكَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ ) وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِالْحَبَلِ ( فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ) فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا لَكِنْ يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْحَبَلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرَدُّهَا وَفِيهَا ذَلِكَ ( فَصَارَ كَمَا إذَا جَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَقُتِلَتْ بِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ دَفَعَتْ بِهَا بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ

كَذَا هَذَا .
بِخِلَافِ الْحُرَّةِ ) إذَا زَنَى بِهَا رَجُلٌ مُكْرَهَةً فَحَبِلَتْ وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا ( لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ ) وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ فَلَا يَبْقَى ضَمَانُ الْغَصْبِ بَعْدَ فَسَادِ الرَّدِّ بِكَوْنِهَا حُبْلَى ( قَوْلُهُ وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ بِطَرِيقِ الْفَرْقِ ، وَهُوَ أَنَّ فَصْلَ الشِّرَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْبَائِعِ ابْتِدَاءُ التَّسْلِيمِ : أَيْ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَمَوْتُهَا بِالنِّفَاسِ لَا يَعْدَمُ التَّسْلِيمَ ( وَمَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ ( شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّدِّ ) وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ تَمْثِيلُ مَا لَمْ يُوجَدْ بِشَرْطِهِ عَلَى مَا وُجِدَ بِشَرْطٍ وَهُوَ تَمْثِيلٌ فَاسِدٌ ، قِيلَ : وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْعَيْنَ إذْ الْأَوْصَافُ لَا تَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ وُجِدَ ، فَلَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ .
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَالْأَوْصَافُ دَاخِلَةٌ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَرَدَّهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، وَإِذَا دَخَلَتْ الْأَوْصَافُ فِيهِ كَانَ الرَّدُّ بِدُونِهَا رَدًّا فَاسِدًا .
وَأَمَّا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَا بِهَا مِنْ الْحُمَّى وَالضَّعْفِ وَقْتَ الْمَوْتِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مَادَّةً كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ حَدَثَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُرَكَّبَةً مِنْهُمَا فَلَا يُضَافُ إلَى سَبَبٍ قَائِمٍ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالشَّكِّ ( قَوْلُهُ وَالزِّنَا سَبَبٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ زَيْتٌ فِي يَدِهِ إلَخْ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الزِّنَا الَّذِي وُجِدَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنَّمَا يُوجِبُ الْجَلْدَ الْمُؤْلِمَ لَا

الْجَارِحَ وَلَا الْمُتْلِفَ ، وَلَمَّا جُلِدَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِجَلْدٍ مُتْلِفٍ كَانَ غَيْرَ مَا وَجَبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَضْمَنُ .

قَالَ ( وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ بِاسْتِعْمَالِهِ فَيَغْرَمُ النُّقْصَانَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُهَا ، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بَيْنَ مَا إذَا عَطَّلَهَا أَوْ سَكَنَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ سَكَنَهَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ عَطَّلَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَتَّى تُضْمَنَ بِالْعُقُودِ فَكَذَا بِالْغُصُوبِ .
وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِحُدُوثِهَا فِي إمْكَانِهِ إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَيَمْلِكُهَا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ ، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا ، وَلِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ ، وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ فِي الْمُخْتَلِفِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا ، بَلْ تُقَوَّمُ ضَرُورَةً عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ ، إلَّا أَنَّ مَا اُنْتُقِصَ بِاسْتِعْمَالِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ .

قَالَ ( وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَخْ ) مَنَافِعُ الْغَصْبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، لَكِنْ إنْ نَقَصَ بِاسْتِعْمَالِهِ غَرِمَ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَضْمُونَةٌ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَلَا فَرْقَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، وَرُبَّمَا سَمَّى الْأَوَّلَ غَصْبًا وَالثَّانِي إتْلَافًا فِي شُمُولِ الْعَدَمِ عِنْدَنَا وَشُمُولِ الْوُجُودِ عِنْدَهُ .
وَفَصَّلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إنْ سَكَنَهَا فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ عَطَّلَهَا فَكَانَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ ) لِكَوْنِهَا غَيْرَ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ ( وَيَضْمَنُ بِالْعُقُودِ ) صَحِيحَةً كَانَتْ أَوْ فَاسِدَةً بِالْإِجْمَاعِ ( فَكَذَا بِالْغُصُوبِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجْعَلُ غَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ مُتَقَوِّمًا كَمَا لَوْ وَرَدَ عَلَى الْمَيْتَةِ ( وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي إمْكَانِهِ ) أَيْ تَصَرُّفِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَسْبِهِ ( إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى ) وَمَا حَدَثَ فِي إمْكَانِ الرَّجُلِ فَهُوَ فِي مِلْكِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْعَبْدِ إلَّا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ إلَى إقَامَةِ التَّكَالِيفِ ، فَالْمَنَافِعُ حَاصِلَةٌ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا حُدُوثَهَا عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ لَكِنْ لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبَهَا وَإِتْلَافَهَا وَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا تَحْقِيقَ غَصْبِهَا وَإِتْلَافَهَا لَكِنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمَنَافِعُ لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ .
وَاعْتُرِضَ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يَسْرُعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي تَبْقَى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ حَيْثُ الْفِنَاءُ وَالْبَقَاءُ

غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَبِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا جَازَ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ إلَى مَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ مَا تَكُونُ بَيْنَ بَاقٍ وَبَاقٍ لَا بَيْنَ بَاقٍ وَأَبْقَى ، فَكَانَ السُّؤَالُ غَيْرَ وَارِدٍ ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بَيْنَ جَوْهَرَيْنِ لَا بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَبْلَى دُونَ الْآخَرِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شِرَاءَ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ جَائِزٌ لِلْوَصِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ كَمَا ذَكَرْنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ الْأَحْسَنَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هُوَ مَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ ) أَيْ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ، أَوْ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ ، وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ إنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا ، وَثَالِثًا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ إلَى آخِرِهِ ( وَفِي الْمُخْتَلِفِ ) يَعْنِي فِي مُخْتَلِفِ أَبِي اللَّيْثِ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْمَنَافِعُ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا لِأَنَّ التَّقَوُّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَالْإِحْرَازَ ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَبْقَى غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ بَلْ يَتَقَوَّمُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ ( عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ ) عَلَيْهَا بِالتَّرَاضِي ، وَلَا عَقْدَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ( إلَّا أَنَّ ) أَيْ لَكِنَّ ( مَا يَنْقُصُ بِاسْتِعْمَالِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يَتَقَوَّمُ ) : قَالَ ( وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا ، فَإِنْ أَتْلَفَهُمَا لِمُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَضْمَنُهَا لِلذِّمِّيِّ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ بَاعَهُمَا الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ .
لَهُ أَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ الضَّمَانُ .
وَلَنَا أَنَّ التَّقْوِيمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ ، إذْ الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ لَهُمْ كَالشَّاةِ لَنَا .
وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ فَيَتَعَذَّرُ الْإِلْزَامُ ، وَإِذَا بَقِيَ التَّقَوُّمُ فَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَضْمَنُهُ .
بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهُمَا ، إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ لِكَوْنِهِ إعْزَازًا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَتْ الْمُبَايَعَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا .
وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ يَكُونُ لِلذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ ، وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا إذَا كَانَ لِمَنْ يُبِيحُهُ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ .

فَصْلٌ ) : فِي غَصْبِ مَا لَا يَتَقَوَّمُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ غَصْبُ مَا يَتَقَوَّمُ لِتَحْقِيقِ الْغَصْبِ فِيهِ حَقِيقَةً بَيَّنَ غَصْبَ مَا لَا يَتَقَوَّمُ بِاعْتِبَارِ عَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا إمَّا بِاعْتِبَارِ دِيَانَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِتَقَوُّمِهِ أَوْ بِتَغَيُّرِهِ فِي نَفْسِهِ إلَى التَّقْوِيمِ ( قَالَ : وَإِنْ أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ إلَخْ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إتْلَافُ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الْمُسْلِمِ .
وَإِتْلَافُ الذِّمِّيِّ خَمْرَ الْمُسْلِمِ ، وَإِتْلَافُ الذِّمِّيِّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ ، وَإِتْلَافُ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الذِّمِّيِّ .
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي الْأَوَّلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا فِي الْآخَرَيْنِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَهَا الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ .
قَالَ ( سَقَطَ تَقَوُّمُهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِلَا خِلَافٍ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمِّيِّ فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } أَوْ إذَا سَقَطَ تَقَوُّمُهَا ( فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ الضَّمَانُ ) أَيْ مَا يَضْمَنُ بِهِ ( وَلَنَا أَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ ، إذْ الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا ) دَلَّ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَ عَمَّا لَهُ : مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ ؟ فَقَالُوا : نَعْشِرُهَا ، قَالَ : لَا تَفْعَلُوا ، وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا ، فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إلَّا لِتَدَيُّنِهِمْ بِذَلِكَ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ )

يَعْنِي لَا نُجَادِلُهُمْ عَلَى التَّرْكِ ( وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ ) يَعْنِي لَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّرْكِ بِالْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَحِينَئِذٍ تَعْذُرُ الْإِلْزَامُ عَلَى تَرْكِ التَّدَيُّنِ فَبَقِيَ التَّقَوُّمُ فِي حَقِّهِمْ ، وَإِذَا بَقِيَ فَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالنَّصِّ فَيَضْمَنُهُ ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا مَاتَ الْمَجُوسِيُّ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَصِحَّةُ النِّكَاحِ تُوجِبُ تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي دِيَانَتِهِمْ ثُمَّ لَمْ نَتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ) جَوَابٌ لِمَقِيسٍ عَلَيْهِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ ( لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهُمَا ، إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ) وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي الْكِتَابِ بِتَأْوِيلِ الشَّرَابِ أَوْ الْمَذْكُورِ ( لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِهِ لِكَوْنِهِ إعْزَازًا لَهُ ) بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَمْنُوعِينَ عَنْ تَمْلِيكِهَا وَتَمَلُّكِهَا ، فَإِنْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا مُبَايَعَةٌ جَازَ لَهُمْ التَّمْلِيكُ وَالتَّمَلُّكُ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ جَازَ تَسْلِيمُ مِثْلِهَا وَتَسَلُّمُهُ قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمَلُّكِ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ ، كَذَا قِيلَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ إلَى آخِرِهِ لَا تُسَاقُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْعَطْفِ حِينَئِذٍ ( وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ ) يَعْنِي بِعَدَمِ الْجَوَازِ لِقَوْلِهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ لَا تَدَيُّنٌ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي دِينِهِمْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } ( وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لِلذِّمِّيِّ ) فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُ الذِّمِّيِّ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُرْتَدَّ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ أَيْضًا فِي الْحَقِيقَةِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ ( أَنَّا مَا ضَمَّنَا لَهُمْ تَرْكُ التَّعَرُّضِ ) لِلْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لِلذِّمِّيِّ ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ ( مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ ) بِالتَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ .
وَاسْتَشْكَلَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا ، وَفِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ أَصْلِيٌّ ، فَالنَّصْرَانِيُّ مُقِرٌّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الِارْتِدَادِ ( وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ : يَعْنِي لَمَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى .
وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي اعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ مَا قَالَهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُرْمَتِهِ قَائِمٌ فَلَمْ يَعْتَبِر اعْتِقَادَهُمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ هَذَا مَا قَالُوهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَالٌّ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى عَلَى مَا

قَرَّرْتُمْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } وَكَانَ ذَلِكَ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ .

قَالَ ( فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ فَلِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ) ، وَالْمُرَادُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَمِنْهُ إلَى الشَّمْسِ ، وَبِالْفَصْلِ الثَّانِي إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا التَّخْلِيلَ تَطْهِيرٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْمَالِيَّةُ بِهِ وَبِهَذَا الدِّبَاغِ اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْجِلْدَ وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ ، وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا ضَمِنَ الْخَلَّ وَلَمْ يَضْمَنْ الْجِلْدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ) وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا الْخَلُّ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ ، يَجِبُ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيه الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ خَلَّفَهُ قِيمَتَهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُمَا يُعْطِي مَا زَادَ

الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
أَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِهِ فَيَطْرَحُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ وَصَنْعَتُهُ مُتَقَوِّمَةٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لَهُ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ ، كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا ، بِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّبْغِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّنْعَةِ ، وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قِيلَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً .
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
ثُمَّ قِيلَ : يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ .
وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدِ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ .
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا .
وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الدِّبَاغَةِ هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ فَلَا يَضْمَنُهُ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغَةِ

تَابِعَةٌ لِلْجِلْدِ فَلَا تُفْرَدُ عَنْهُ ، وَإِذَا صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَكَذَا صِفَتُهُ ، وَلَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قَالُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : صَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ .
وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَأَعْطَى مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَبْغِ الْجِلْدِ ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنْ الْخَلِّ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَرْكَهُ عَلَيْهِ وَتَضْمِينَهُ فَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ .
وَقِيلَ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَمَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ ، وَلَوْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهِمَا ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ صَارَ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ خَلًّا إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ بِأَنْ كَانَ الْمُلْقَى فِيهِ خَلًّا قَلِيلًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ كِلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ خَلْطَ الْخَلِّ بِالْخَلِّ فِي التَّقْدِيرِ وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لِلْغَاصِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَلْطِ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَهُ ، وَلَا ضَمَانَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَيَضْمَنُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ .
وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ أَجْرَوْا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُلْقَى فِيهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَقَوِّمًا .
وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ وَقَدْ أَثْبَتْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47