كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ سُفْلٌ لَا عُلُوَّ عَلَيْهِ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ وَسُفْلٌ لَهُ عُلُوٌّ قُوِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ وَقُسِمَ بِالْقِيمَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يُقْسَمُ بِالذَّرْعِ ؛ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ مِنْ اتِّخَاذِهِ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ سِرْدَابًا أَوْ إصْطَبْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْقِسْمَةَ بِالذَّرْعِ هِيَ الْأَصْلُ ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمَذْرُوعِ لَا فِي الْقِيمَةِ فَيُصَارَ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ ، وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذِرَاعٌ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ قِيلَ أَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى .
وَقِيلَ هُوَ اخْتِلَافُ مَعْنًى وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْفَعَةَ السُّفْلِ تَرْبُو عَلَى مَنْفَعَةِ الْعُلُوِّ بِضَعْفِهِ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْعُلُوِّ ، وَمَنْفَعَةُ الْعُلُوِّ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِنَاءِ السُّفْلِ ، وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى ، وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ عَلَى عُلُوِّهِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ ، فَيُعْتَبَرَ ذِرَاعَانِ مِنْهُ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَصْلُ السُّكْنَى وَهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ ، وَالْمَنْفَعَتَانِ مُتَمَاثِلَتَانِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ

بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّفْسِيرِ ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ فَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ مِنْ السُّفْلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ وَمَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ تُسَاوِي مِائَةً مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ، وَيُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا ذِرَاعٍ ، لِأَنَّ عُلُوَّهُ مِثْلُ نِصْفِ سُفْلِهِ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ ضَعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُجْعَلَ بِإِزَاءِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ مِائَةُ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ ، وَمِائَةُ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ، لِأَنَّ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، فَخَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ خَمْسُونَ مِنْهَا سُفْلٌ وَخَمْسُونَ مِنْهَا عُلُوٌّ قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَاسِمُونَ وَشَهِدَ الْقَاسِمَانِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُقْبَلُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِهِمَا وَقَاسَمَا الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُمَا سَوَاءٌ ، لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ ، كَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَشَهِدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى

فِعْلِ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَالْقَبْضُ لَا عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا ، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا التَّمْيِيزُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَشْهُودًا بِهِ لِمَا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ فَتُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : إذَا قَسَمَا بِأَجْرٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهُمَا يَدَّعِيَانِ إيفَاءَ عَمَلٍ اُسْتُؤْجِرَا عَلَيْهِ فَكَانَتْ شَهَادَةً صُورَةً وَدَعْوَى مَعْنًى فَلَا تُقْبَلُ إلَّا أَنَّا نَقُولُ : هُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا لِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ عَلَى إيفَائِهِمَا الْعَمَلَ الْمُسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ ( وَلَوْ شَهِدَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ لَا تُقْبَلُ ) لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى الْغَيْرِ ، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي أَمِينَهُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى آخَرَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُقْبَلُ فِي إلْزَامِ الْآخَرِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ سُفْلٌ لَا عُلْوَ لَهُ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ عُلْوٌ مُشْتَرَكًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَسُفْلُهُ لِآخَرَ وَسُفْلٌ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَعُلْوُهُ لِآخَرَ وَبَيْتٌ كَامِلٌ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْكُلُّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي دَارَيْنِ لَكِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا مِنْ الْقَاضِي الْقِسْمَةَ ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يُقَالَ : تَقْسِيمُ الْعُلْوِ مَعَ السُّفْلِ قِسْمَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الْبُيُوتُ مُتَفَرِّقَةً لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ ذَلِكَ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُقْسَمُ بِالذَّرْعِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْقِسْمَةِ فِي الْمَذْرُوعِ لِكَوْنِ الشَّرِكَةِ فِيهِ لَا فِي الْقِيمَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْسَمُ بِالْقِيمَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ كَانَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا نِصْفَ قِيمَةِ الْآخَرِ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ بِذِرَاعَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ لِأَنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلْوُ مِنْ حَفْرِ الْبِئْرِ وَاِتِّخَاذِ السِّرْدَابِ وَالْإِصْطَبْلِ وَغَيْرِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّيْخَانِ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ذِرَاعُ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلْوٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ مَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ عَادَةِ أَهْلِ الْعَصْرِ وَالْبُلْدَانِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلْوِ أَوْ الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ اسْتِوَائِهِمَا أَوْ هُوَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ : أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اخْتِيَارِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلْوِ ، وَأَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ

الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى ، وَمُحَمَّدٌ عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ تَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلْوِ أُخْرَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ مَبْنَاهُ مَعْنَى فِقْهِيٌّ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْفَعَةَ السُّفْلِ تَرْبُو عَلَى مَنْفَعَةِ الْعُلْوِ بِضِعْفِهِ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْعُلْوِ دُونَ الْعَكْسِ ، وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى ، وَفِي الْعُلْوِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى لَا غَيْرُ ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ عَلَى عُلْوِهِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ فَيُعْتَبَرُ ذِرَاعَانِ مِنْهُ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَصْلُ السُّكْنَى وَهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ ، وَالْمَنْفَعَتَانِ مُتَمَاثِلَتَانِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ .
وَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَقَوْلُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّفْسِيرِ .
وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلْوِ الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ ، لِأَنَّ الْعُلْوَ عِنْدَهُ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ ، فَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ مِنْ الْعُلْوِ الْكَامِلِ فِي مُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنْ الْعُلْوِ الْمُجَرَّدِ ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ مِنْ سُفْلِ الْكَامِلِ فِي مُقَابَلَةِ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ مِنْ الْعُلْوِ الْمُجَرَّدِ فَذَلِكَ تَمَامُ مِائَةٍ ، وَيُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ ، لِأَنَّ عُلْوَهُ مِثْلُ نِصْفِ سُفْلِهِ ، فَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ مِنْ السُّفْلِ الْكَامِلِ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ مِنْ عُلْوِ

الْكَامِلِ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ فَذَلِكَ تَمَامُ مِائَةٍ ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَاسِمُونَ ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ بَعْضُ نَصِيبِي فِي يَدِ صَاحِبِي ( وَشَهِدَ الْقَاسِمَانِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ) ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا ، وَكَأَنَّهُ مَالَ إلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ كَقَوْلِهِمَا .
وَقَوْلُهُ أَوْ لِأَنَّهُ : أَيْ التَّمْيِيزَ لَا يَصْلُحُ مَشْهُودًا بِهِ لِمَا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ قَبْلُ ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ صَحِيحٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِتَرَاضِيهِمَا .
أَمَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ يَقْسِمُ فَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .

( بَابُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقُ فِيهَا ) قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ الْغَلَطَ وَزَعَمَ أَنَّ مِمَّا أَصَابَهُ شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَقَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الشُّرَكَاءَ فَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ جُمِعَ بَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ وَالْمُدَّعِي فَيُقْسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا ) ، لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيُعَامَلَانِ عَلَى زَعْمِهِمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا لِتَنَاقُضِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَنْ بَعْدُ ( وَإِنْ قَالَ قَدْ اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي وَأَخَذْتُ بَعْضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ وَهُوَ مُنْكِرٌ ( وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيَّ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتْ الْقِسْمَةُ ) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّقْوِيمِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ ) لِأَنَّهُ دَعْوَى الْغَبَنِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ لِوُجُودِ التَّرَاضِي ، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْغَبْنُ فَاحِشٌ ( لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُقَيَّدٌ بِالْعَدْلِ )

بَابُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا لَمَّا كَانَ دَعْوَى الْغَلَطِ وَالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ عَوَارِضِ الْقِسْمَةِ أَخَّرَ ذِكْرَهَا .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ بِالْقِسْمَةِ أَوْ فِي أَمْرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ تَحَالَفَا وَتُفْسَخُ الْقِسْمَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَعْوَاهُ مُتَنَاقِضًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَحُكْمُهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ فَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ وَزَعَمَ أَنَّ مِمَّا أَصَابَهُ شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَقَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْمُشْتَرِي إذَا ادَّعَى لِنَفْسِهِ خِيَارَ الشَّرْطِ ، فَإِنْ أَقَامَهَا فَقَدْ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِهَا ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اُسْتُحْلِفَ الشُّرَكَاءُ ، لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا لَزِمَهُمْ فَإِذَا أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ ، فَمَنْ حَلَفَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ نَكَلَ جَمَعَ بَيْنَ نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ الْمُدَّعِي كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَلَا تَحَالُفَ لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ فِي دَعْوَاهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا ) يَعْنِي وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِتَنَاقُضِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ : أَيْ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ الْحَقِّ بِكَمَالِهِ كَانَ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا .
قَوْلُهُ ( وَإِلَيْهِ أَشَارَ مِنْ بُعْدٍ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيَّ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتْ الْقِسْمَةُ ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ .
وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ وُجِدَ فِي الصُّورَةِ

الْأُولَى ، وَلَا تَحَالُفَ فِيهَا وَلَا سَبَبَ لَهُ سِوَى كَوْنِ التَّنَاقُضِ مَانِعًا لِصِحَّةِ الدَّعْوَى ، وَإِذَا كَانَ التَّنَاقُضُ مَوْجُودًا وَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا ، وَإِنْ قَالَ قَدْ اسْتَوْفَيْت حَقِّي وَأَخَذْت بَعْضَهُ وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ وَهُوَ يُنْكِرُ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّقْوِيمِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِهِ عَسِرٌ جِدًّا ؛ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فُسِخَتْ لِأَنَّ الرِّضَا مِنْهُمْ لَمْ يُوجَدْ ، وَتَصَرُّفُ الْقَاضِي مُقَيَّدٌ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالتَّرَاضِي لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَدَعْوَى الْغَبْنِ فِيهِ مِنْ الْمَالِكِ لَا تُوجِبُ نَقْضَهُ أَمَّا الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ كَبَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ شَرْطٌ فِي الْقِسْمَةِ ، وَالتَّعْدِيلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ ، فَإِذَا ظَهَرَ فِي الْقِيمَةِ غَبْنٌ فَاحِشٌ فَاتَ شَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ فَيَجِبُ نَقْضُهَا .
وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي .

( وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ طَائِفَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمْ بَيْتًا فِي يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِمَّا أَصَابَهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ) لِمَا قُلْنَا ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ) لِأَنَّهُ خَارِجٌ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ( وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْحُدُودِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُضِيَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا ) كَمَا فِي الْبَيْعِ .قَوْلُهُ ( وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا ) هُوَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ لَكِنْ أَعَادَهُ لِزِيَادَةِ بَيَانٍ ، وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْحُدُودِ ) قِيلَ صُورَتُهُ : دَارٌ اقْتَسَمَهَا رَجُلَانِ فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا جَانِبٌ مِنْهُ وَفِي طَرَفِ حَدِّهِ بَيْتٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَأَصَابَ الْآخَرَ جَانِبٌ وَفِي طَرَفِ حَدِّهِ بَيْتٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ دَاخِلٌ فِي حَدِّهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْجُزْءِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِمَا بَيَّنَّا : يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ تُرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَمْ تُفْسَخْ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَجَعَ بِحِصَّةِ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، فَأَمَّا فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ تُفْسَخُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ .
وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدٍ ، وَذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبُو حَفْصٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ لَهُمَا ، وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ ، كَمَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي النَّصِيبَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْإِفْرَازُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِحِصَّتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ شَائِعًا ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لَا يَنْعَدِمُ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَلِهَذَا جَازَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الْمُقَدَّمُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ثَالِثٍ وَالنِّصْفُ الْمُؤَخَّرُ بَيْنَهُمَا لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِمَا فِيهِ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مَا لَهُمَا مِنْ الْمُقَدَّمِ وَرُبُعِ الْمُؤَخَّرِ يَجُوزُ فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ وَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، بِخِلَافِ الشَّائِعِ فِي النَّصِيبَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْقِسْمَةُ لَتَضَرَّرَ الثَّالِثُ بِتَفَرُّقِ نَصِيبِهِ فِي النَّصِيبَيْنِ ، أَمَّا هَاهُنَا لَا ضَرَرَ بِالْمُسْتَحِقِّ فَافْتَرَقَا ، وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ : إذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ الْمُقَدَّمَ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ ثُمَّ اسْتَحَقَّ

نِصْفَ الْمُقَدَّمِ ، فَعِنْدَهُمَا إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ دَفْعًا لِعَيْبِ التَّشْقِيصِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ رَجَعَ بِنِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ ، وَلَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ نِصْفَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ الْبَاقِي شَائِعًا رَجَعَ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَسَقَطَ خِيَارُهُ بِبَيْعِ الْبَعْضِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نِصْفِ مَا بَاعَ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْقَلِبُ فَاسِدَةً عِنْدَهُ ، وَالْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَمْلُوكٌ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِيهِ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
قَالَ ( وَلَوْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ ثُمَّ ظَهَرَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ مُحِيطٌ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ ، إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ وَرَاءَ مَا قَسَمَ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ فِي إيفَاءِ حَقِّهِمْ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ وَالدَّيْنُ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ جَازَتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ .
وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ صَحَّ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ ، إذْ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُ الصُّورَةَ ، وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ لَمْ يُسْمَعْ لِلتَّنَاقُضِ ، إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِسْمَةِ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ الْمَقْسُومِ مُشْتَرَكًا .

( فَصْلٌ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْغَلَطِ بَيَّنَ الِاسْتِحْقَاقَ ( وَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : اسْتِحْقَاقُ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ فِي أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَاسْتِحْقَاقُ بَعْضٍ شَائِعٍ فِي النَّصِيبَيْنِ .
وَاسْتِحْقَاقُ بَعْضٍ شَائِعٍ فِي أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ .
فَفِي الْأَوَّلِ لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي الثَّانِي تُفْسَخُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي الثَّالِثِ لَمْ تُفْسَخْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِحِصَّةِ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ وَاقْتَسَمَ ثَانِيًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُفْسَخُ ، وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ الْمُقَدَّمَ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ بِأَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الدَّارِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَقِيمَةُ الثُّلُثِ الْمُقَدَّمِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ مَا بَقِيَ مِثْلُهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الثُّلُثِ الْمُقَدَّمِ ، فَعِنْدَهُمَا إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ دَفْعًا لِعَيْبِ التَّشْقِيصِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّ كُلُّ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ النِّصْفُ رَجَعَ بِنِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فَيَصِيرُ فِي يَدِ كُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَالْمَجْمُوعُ تِسْعُمِائَةٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ بِعَيْنِهِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا .

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَصِفَةُ الْحَوَالَةِ هَذِهِ إلَى الْأَسْرَارِ وَقَعَتْ سَهْوًا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَسْرَارِ فِي الشَّائِعِ وَضْعًا وَتَعْلِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَتَكْرَارًا بِلَفْظِ الشَّائِعِ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَأَقُولُ : وَفِي قَوْلِهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ أَيْضًا نَظَرٌ ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا لَا بِبَعْضٍ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ : وَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِي الشَّائِعِ لَا فِي الْمُعَيَّنِ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ لَهُمَا وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرَاضِي ، وَصَارَ كَمَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي النَّصِيبَيْنِ فِي انْعِدَامِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْإِفْرَازُ ، أَمَّا فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَوَاضِحٌ ، وَأَمَّا فِي النَّصِيبِ الْآخَرِ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِحِصَّتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ شَائِعًا ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ يَبْقَى الْإِفْرَازُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ مِنْ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهَا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْمُعَادَلَةِ وَقَدْ فَاتَتْ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لَا يَنْعَدِمُ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الشُّيُوعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ كَانَتْ دَارٌ نِصْفَيْنِ وَالنِّصْفُ الْمُقَدَّمُ مِنْهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ وَالنِّصْفُ الْمُقَدَّمُ مِنْ هَذَا النِّصْفِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ

بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ وَالنِّصْفُ الْمُؤَخَّرُ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَيْضًا فَاقْتَسَمَا الِاثْنَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُمَا مِنْ الْمُقَدَّمِ وَرُبُعِ الْمُؤَخَّرِ ، وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءً جَازَ انْتِهَاءً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِ بَيْتٍ مُعَيَّنٍ فِي عَدَمِ انْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ ، بِخِلَافِ الشَّائِعِ فِي النَّصِيبَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْقِسْمَةُ لَتَضَرَّرَ الثَّالِثُ بِتَفْرِيقِ نَصِيبِهِ فِي النَّصِيبَيْنِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا ضَرَرَ لِلْمُسْتَحِقِّ وَقَوْلُهُ ( وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ) يَعْنِي مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ لَا الْمُسْتَشْهَدَ بِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ دَفْعًا لِهَذَا اللَّبْسِ ، قَوْلُهُ ( وَلَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ نِصْفَهُ ) يَعْنِي النِّصْفَ مِنْ الثُّلُثِ الْمُقَدَّمِ الَّذِي وَقَعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ النِّصْفُ الثَّانِي رَجَعَ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّ كُلُّ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ إلَى قَوْلِهِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ وَسَقَطَ خِيَارُهُ بِبَيْعِ الْبَعْضِ فِي فَسْخِ الْقِسْمَةِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نِصْفِ مَا بَاعَ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْقَلِبُ فَاسِدَةً عِنْدَهُ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ قَوْلُهُ ( وَالْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَضَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْقِسْمَةِ الْفَاسِدَةِ .
وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَالْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَمْلُوكٌ فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى

عَيْنِ حَقِّهِ لِمَكَانِ الْبَيْعِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، قَالَ ( وَلَوْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ إلَخْ ) وَلَوْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ ثُمَّ ظَهَرَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ مُحِيطٌ وَلَمْ تُوَفِّ الْوَرَثَةَ مِنْ مَالِهِمْ وَلَمْ يَبْرَأْ الْغُرَمَاءُ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ عَبْدٌ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِوَارِثٍ لَمْ يُعْتَقْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِالتَّرِكَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الدُّيُونِ وَرَاءَ مَا قُسِمَ ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ فِي إيفَاءِ حَقِّهِمْ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ أَدَّاهُ لِلْوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِمْ جَازَتْ الْقِسْمَةُ أَيْ تَبَيَّنَ جَوَازُهَا سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا أَوْ غَيْرَ مُحِيطٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ نَحْنُ نَقْضِي حَقَّهُمَا فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تُنْقَضُ إنْ لَمْ يَرْضَ لِلْوَارِثِ أَوْ الْمُوصَى لَهُ ، لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَى مَالٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُمَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمِينَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ صَحَّ ، وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ التَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُ الصُّورَةَ فَلَمْ يَتَنَاقَضْ فِي دَعْوَاهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَدَعْوَى الْعَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُهَا ، فَالْإِقْدَام عَلَى الْقِسْمَةِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِكَوْنِ الْمَقْسُومِ مُشْتَرَكًا وَدَعْوَى الْخُصُوصِ يُنَاقِضُهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ لَمْ تَكُنْ دَعْوَى الدَّيْنِ بَاطِلَةً لِعَدَمِ التَّنَاقُضِ فَلْتَكُنْ بَاطِلَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا إذَا صَحَّتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ وَذَلِكَ سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ

.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ تَامَّةً فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ

( فَصْلٌ فِي الْمُهَايَأَةِ ) : الْمُهَايَأَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، إذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَأَشْبَهَ الْقِسْمَةَ .
وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي كَمَا يَجْرِي فِي الْقِسْمَةِ ، إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى مِنْهُ فِي اسْتِكْمَالِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، وَالتَّهَايُؤُ جَمْعٌ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ وَالْآخَرُ الْمُهَايَأَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّكْمِيلِ .
وَلَوْ وَقَعَتْ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ ، وَلَا يَبْطُلُ التَّهَايُؤُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَا بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ انْتَقَضَ لَاسْتَأْنَفَهُ الْحَاكِمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّقْضِ ثُمَّ الِاسْتِئْنَافِ ( وَلَوْ تَهَايَأَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا طَائِفَةً وَهَذَا طَائِفَةً أَوْ هَذَا عُلُوَّهَا وَهَذَا سُفْلَهَا جَازَ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ ، وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ وَلِهَذِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَأَةِ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ ) لِحُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا جَازَ ) ، وَكَذَا هَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ ( لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ ) وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ هَاهُنَا ( وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُهُمَا يَأْمُرُهُمَا الْقَاضِي بِأَنْ يَتَّفِقَا ) لِأَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْمَكَانِ أَعْدَلُ وَفِي الزَّمَانِ أَكْمَلُ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّفَاقِ ( فَإِنْ اخْتَارَاهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ ) نَفْيًا

لِلتُّهَمَةِ ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِي الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا هَذَا الْعَبْدُ وَالْآخَرَ الْآخَرُ جَازَ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا جَبْرًا مِنْ الْقَاضِي وَبِالتَّرَاضِي فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ .
وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْسِمُ الْقَاضِي .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عِنْدَهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْقَاضِي عِنْدَهُ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ ، بِخِلَافِ أَعْيَانِ الرَّقِيقِ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ ) اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ لَا يُسَامَحُ فِيهَا ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا جَازَ وَيُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ ) وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الدَّارَيْنِ عِنْدَهُمَا كَدَارٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ قِيلَ لَا يُجْبِرُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْقِسْمَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ فِيهِمَا أَصْلًا بِالْجَبْرِ لِمَا قُلْنَا ، وَبِالتَّرَاضِي لِأَنَّهُ بَيْعُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ رَقَبَتِهِمَا لِأَنَّ بَيْعَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا بِبَعْضِ الْآخَرِ جَائِزٌ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَيَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي وَيُعْتَبَرُ إفْرَازًا أَمَّا يَكْثُرُ التَّفَاوُتُ فِي أَعْيَانِهِمَا فَاعْتُبِرَ مُبَادَلَةً ( وَفِي الدَّابَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ عَلَى الرُّكُوبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ) اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ .
وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الرَّاكِبِينَ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ حَاذِقٍ وَأَخْرَقَ .
وَالتَّهَايُؤُ فِي الرُّكُوبِ فِي دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَتَحَمَّلُ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ

وَالدَّابَّةُ تَحْمِلُهَا .
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَجُوزُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالدَّابَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَجُوزُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ النَّصِيبَيْنِ ، يَتَعَاقَبَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ .
وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فِي الْعَقَارِ وَتَغَيُّرُهُ فِي الْحَيَوَانِ لِتَوَالِي أَسْبَابِ التَّغَيُّرِ عَلَيْهِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ .
وَلَوْ زَادَتْ الْغَلَّةُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا عَلَيْهَا فِي نَوْبَةِ الْآخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّهَايُؤُ عَلَى الْمَنَافِعِ فَاسْتَغَلَّ أَحَدُهُمَا فِي نَوْبَتِهِ زِيَادَةً ، لِأَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّهَايُؤُ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمَنَافِعُ فَلَا تَضُرُّهُ زِيَادَةُ الِاسْتِغْلَالِ مِنْ بَعْدُ ( وَالتَّهَايُؤُ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الدَّارَيْنِ جَائِزٌ ) أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ فَضَلَ غَلَّةُ أَحَدِهِمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الدَّارَيْنِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ ، وَالْإِفْرَازُ رَاجِحٌ لِاتِّحَادِ زَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ يَتَعَاقَبُ الْوُصُولُ فَاعْتُبِرَ قَرْضًا وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَوْبَتِهِ كَالْوَكِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْفَضْلِ ، وَكَذَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدَيْنِ عِنْدَهُمَا اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ أَكْثَرُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْجَوَازُ ، وَالتَّهَايُؤُ فِي الْخِدْمَةِ جُوِّزَ ضَرُورَةً ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِإِمْكَانِ قِسْمَتِهَا لِكَوْنِهَا عَيْنًا ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي الِاسْتِغْلَالِ فَلَا يَنْقَسِمَانِ ( وَلَا يَجُوزُ فِي الدَّابَّتَيْنِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ) وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الرُّكُوبِ ( وَلَوْ كَانَ

نَخْلٌ أَوْ شَجَرٌ أَوْ غَنَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَتَهَايَئَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً يَسْتَثْمِرُهَا أَوْ يَرْعَاهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْمَنَافِعِ ضَرُورَةٌ أَنَّهَا لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا ، وَهَذِهِ أَعْيَانٌ بَاقِيَةٌ تَرِدُ عَلَيْهَا الْقِسْمَةُ عِنْدَ حُصُولِهَا .
وَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ كُلَّهَا بَعْدَ مُضِيِّ نَوْبَتِهِ أَوْ يَنْتَفِعَ بِاللَّبَنِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ اسْتِقْرَاضًا لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، إذْ قَرْضُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ .

( فَصْلٌ فِي الْمُهَايَأَةِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْأَعْرَاضِ وَهِيَ الْمُهَايَأَةُ ، وَأَخَّرَهَا عَنْ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ لِكَوْنِهَا فَرْعًا عَلَيْهَا ، وَإِخَالُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ بِالْبَابِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي بَابِ دَعْوَى الْغَلَطِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُهَايَأَةُ لَيْسَتْ مِنْهُمَا لَكِنَّهَا بَابٌ مِنْ كِتَابِ الْقِسْمَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا فَصْلٌ مِنْ كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
وَالْمُهَايَأَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الظَّاهِرَةُ لِلْمُتَهَيِّئِ لِلشَّيْءِ وَقَدْ تُبْدَلُ الْهَمْزَةُ أَلِفًا ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَرْضَى بِهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَخْتَارُهَا ، أَوْ أَنَّ الشَّرِيكَ الثَّانِي يَنْتَفِعُ بِالْعَيْنِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الشَّرِيكُ الْأَوَّلُ .
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهَا لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا ، إذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي نَوْبَتِهِ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا مِنْ انْتِفَاعِ الشَّرِيكِ بِمِلْكِهِ فِي نَوْبَتِهِ ، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَهُوَ الْمُهَايَأَةُ بِعَيْنِهَا وَلِلْحَاجَةِ إلَيْهَا إذْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَأَشْبَهَ الْقِسْمَةَ ، وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي إذَا طَلَبَهَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ وَأَبَى غَيْرُهُ وَلَمْ يَطْلُبْ قِسْمَةَ الْعَيْنِ كَمَا يَجْرِي فِي الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى مِنْهَا فِي اسْتِكْمَالِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ جَمَعَ الْمَنَافِعَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ .
وَالتَّهَايُؤُ جَمْعٌ عَلَى التَّعَاقُبِ وَلِهَذَا : أَيْ وَلِكَوْنِ الْقِسْمَةِ أَقْوَى إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ وَالْآخَرُ الْمُهَايَأَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّكْمِيلِ ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُهُمَا

الْقِسْمَةَ يُقْسَمُ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ وَلَا تَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَا بِمَوْتِهِمَا ، لِأَنَّهُ لَوْ انْتَقَضَتْ لَاسْتَأْنَفَهُ الْحَاكِمُ لِجَوَازِ أَنْ يَطْلُبَ الْوَرَثَةُ الْمُهَايَأَةَ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّقْضِ ثُمَّ الِاسْتِئْنَافِ ، وَلَوْ تَهَايَآ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا طَائِفَةً وَهَذَا طَائِفَةً أَوْ هَذَا عُلْوَهَا وَهَذَا سُفْلَهَا جَازَ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ ، فَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يَسْكُنَ هَذَا فِي جَانِبٍ مِنْ الدَّارِ وَيَسْكُنَ هَذَا فِي جَانِبٍ آخَرَ مِنْهَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ إفْرَازٌ لَا مُبَادَلَةٌ لِتَحَقُّقِ مَعْنَاهُ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَنَافِعِ أَحَدِهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْبَيْتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ .
وَلَوْ كَانَ مُبَادَلَةً كَانَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِالْعِوَضِ فَيُلْحَقُ بِالْإِجَارَةِ وَيُشْتَرَطُ التَّأْقِيتُ ، قِيلَ ( قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِكَوْنِهِ إفْرَازًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ إفْرَازًا كَانَتْ الْمَنَافِعُ حَادِثَةً عَلَى مِلْكِهِ ، وَمَنْ حَدَثَتْ الْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَغِلَّ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ ذَلِكَ وَهُوَ بِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً كَانَ كَذَلِكَ أَيْضًا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لِنَفْيِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمَا إذَا تَهَايَآ وَلَمْ يَشْتَرِطَا الْإِجَازَةَ فِي أَوَّلِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْلِكْ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ ( وَلَوْ تَهَايَآ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا جَازَ ، وَكَذَا هَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ ، مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ ، وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ هَاهُنَا ) وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ هَذَا إفْرَازٌ أَوْ مُبَادَلَةٌ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى صُورَةِ

الْإِفْرَازِ فَكَانَ مَعْلُومًا ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْمَنْفَعَةُ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا يَسِيرًا كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالْأَرَاضِي تُعْتَبَرُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ مُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الْمُهَايَأَةِ ، وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَطْلُبْ الْآخَرُ قِسْمَةَ الْأَصْلِ أُجْبِرَ عَلَيْهَا .
وَقِيلَ تُعْتَبَرُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ عَارِيَّةً مِنْ وَجْهٍ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَتْ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَأَنَّهُ يَحْرُمُ رِبَا النَّسَاءِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا عِوَضٌ وَهَذَا بِعِوَضٍ ، وَرِبَا النَّسَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِيمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ فِي الْأَعْيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَجْلِسِ الْمُخْتَلِفِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ تُعْتَبَرُ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَجُوزَ بِدُونِ رِضَاهُمَا لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ ، وَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ ، وَقِسْمَةُ الْأَعْيَانِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ ، فَكَذَا فِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُهُمَا كَالدَّارِ مَثَلًا بِأَنْ يَطْلُبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْكُنَ فِي مُقَدَّمِهَا وَصَاحِبُهُ فِي مُؤَخَّرِهَا وَالْآخَرُ يَطْلُبُ أَنْ يَسْكُنَ جَمِيعَ الدَّارِ شَهْرًا وَصَاحِبُهُ شَهْرًا آخَرَ يَأْمُرُهُمَا الْقَاضِي أَنْ يَتَّفِقَا ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَزِيَّةً فَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا ، إذْ التَّهَايُؤُ فِي الْمَكَانِ أَعْدَلُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي زَمَانِ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَفِي الزَّمَانِ أَكْمَلَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِجَمِيعِ جَوَانِبِ الدَّارِ فِي نَوْبَتِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاتِّفَاقِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ ، فَإِنْ

اخْتَارَاهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ تَهَايَآ فِي الْعَبْدَيْنِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُقْسَمُ ) أَيْ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ ) يَعْنِي رَوَى الْخَصَّافُ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا قَالَ الْمَشَايِخُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْقَاضِي عِنْدَهُ أَيْضًا ) قَالَ الْكَرْخِيُّ : مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الدُّورَ لَا تُقْسَمُ : أَيْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْسِمُهَا ، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ ، وَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي الْأُصُولِ فَكَذَا فِي الْمَنَافِعِ ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةُ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ ) أَوْجُهٌ لِبَقَاءِ قَوْلِهِ فِي الْأُصُولِ بِلَا تَأْوِيلٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ تَهَايَآ فِيهِمَا ) وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ ) يَعْنِي بَيْنَ جَوَازِ التَّهَايُؤِ فِي الِاسْتِغْلَالِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَعَدَمِهِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالدَّابَّةِ الْوَاحِدَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ ) لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ مُتَنَاهِيَةٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ زَادَتْ الْغَلَّةُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا ) يَعْنِي فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنْفَعَةِ تُعْتَبَرُ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ وَهِيَ عِنْدَهُ فِي الدَّارَيْنِ لَا تَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ ) يَعْنِي فِي الِاسْتِخْدَامِ الْخَالِي عَنْ الِاسْتِغْلَالِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ أَكْثَرُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ التَّفَاوُتِ مِنْ

حَيْثُ الزَّمَانُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا كِيَاسَةٌ وَحِذْقٌ وَلَبَاقَةٌ يُحَصِّلُ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَّةِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآخَرُ .
ثُمَّ التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلَالِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَفِي اسْتِغْلَالِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَعُورِضَ بِأَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ رَاجِعٌ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى الْغَلَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهَا فِيهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ كَالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَمْنَعُ مِنْ رُجْحَانِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِ الْأَصَحِّ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّهَايُؤُ فِي الْخِدْمَةِ جُوِّزَ ضَرُورَةً ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ وَبَيَانُ الضَّرُورَةِ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَبْقَى فَتَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِإِمْكَانِ قِسْمَتِهَا لِكَوْنِهَا أَعْيَانًا فَيَسْتَغِلَّانِهِ عَلَى طَرِيقِ الشَّرِكَةِ ، ثُمَّ يَقْسِمَانِ مَا حَصَلَ مِنْ الْغَلَّةِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : عِلَلُ جَوَازِ التَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ بِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةُ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ ، وَعَلَّلَهُ هُنَا بِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَبْلُ تَتِمَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْجَوَازِ تَعَذُّرُ الْقِسْمَةِ وَقِلَّةُ التَّفَاوُتِ جَمِيعًا ، لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ ) وَجْهٌ آخَرُ لِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ وَلَا يَجُوزُ فِي الدَّابَّتَيْنِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الرُّكُوبِ وَهُوَ قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ إلَخْ

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ نَخْلٌ أَوْ شَجَرٌ إلَخْ ) وَاضِحٌ

( كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ ) : ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَاطِلَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لُغَةً : مُفَاعَلَةٌ مِنْ الزَّرْعِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : هِيَ عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : هِيَ جَائِزَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ } وَلِأَنَّهُ عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ ذَا الْمَالِ قَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى الْعَمَلِ وَالْقَوِيُّ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ الْمَالَ ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ دَفْعِ الْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَدُودِ الْقَزِّ مُعَامَلَةً بِنِصْفِ الزَّوَائِدِ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ هُنَاكَ لِلْعَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ شَرِكَةٌ .
وَلَهُ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ } وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ أَوْ مَعْدُومٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ ، وَمُعَامَلَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ خَيْبَرَ كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ وَهُوَ جَائِزٌ ( وَإِذَا فَسَدَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ سَقَى الْأَرْضَ وَكَرَبَهَا وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ .
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَلِلْآخَرِ الْأَجْرُ كَمَا فَصَّلْنَا ، إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلَهُمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا .
وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ

كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ : لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ فِيهِ الْقِسْمَةُ ذَكَرَ الْمُزَارَعَةَ بَعْدَهَا ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَاهَا لُغَةً وَشَرِيعَةً فَأَغْنَانَا عَنْ ذِكْرِهِ .
وَسَبَبُهُ سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ وَشَرْعِيَّتُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
قَالَ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَاطِلَةٌ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ لِتَبْيِينِ مَحَلِّ النِّزَاعِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ أَصْلًا أَوْ عَيَّنَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً كَانَتْ فَاسِدَةً بِالْإِجْمَاعِ ( وَقَالَا : هِيَ جَائِزَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ ) وَلِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْقِيَاسِ وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ هُنَالِكَ لِلْعَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا ) يَعْنِي لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ أَكْلُ الْحَيَوَانِ فَيُضَافُ إلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ لَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْعَامِلُ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشَّرِكَةُ .
( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَقِيلَ : وَمَا الْمُخَابَرَةُ ؟ قَالَ : الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ } ( وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ ) فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ بِدُونِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِجَارَةِ ( فَتَكُونُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ ) عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْخَارِجِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ نَصِيبَهُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبُعُ يَبْلُغُ مِقْدَارَ عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ( أَوْ مَعْدُومٌ ) عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْخَارِجِ ( وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ ، وَمُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ ) وَهِيَ أَنْ يَقْسِمَ الْإِمَامُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ ( بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ )

لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْكُلَّ جَازَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَلَكَهَا غَنِيمَةً ، فَكَانَ مَا تَرَكَ فِي أَيْدِيهِمْ فَضْلًا وَلَمْ يُبَيِّنْ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ( وَهُوَ ) أَيْ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ ( جَائِزٌ ) فَلَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِمَحْجُوزِهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِظُهُورِ فَسَادِهِ ، فَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِيهَا أَغْلَبُ حَتَّى اُشْتُرِطَتْ فِيهَا الْمُدَّةُ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا فَسَدَتْ عِنْدَهُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ ، وَفِيمَا إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ) مَنْقُوضٌ بِمَنْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ فَإِنَّ الزَّرْعَ لَهُ وَإِنْ كَانَ نَمَاءَ مِلْكِ صَاحِبِ الْبَذْرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغَاصِبَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَتَحْصِيلِهِ ، فَكَانَ إضَافَةُ الْحَادِثِ إلَى عَمَلِهِ أَوْلَى وَالْمُزَارِعُ عَامِلٌ بِأَمْرِ غَيْرِهِ فَجُعِلَ الْعَمَلُ مُضَافًا إلَى الْآمِرِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فَصَّلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ) وَاضِحٌ ،

( ثُمَّ الْمُزَارَعَةُ لِصِحَّتِهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا شُرُوطٌ : أَحَدُهَا كَوْنُ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ ( وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعُ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ ( وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْمُدَّةِ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ أَوْ مَنَافِعِ الْعَامِلِ وَالْمُدَّةُ هِيَ الْمِعْيَارُ لَهَا لِيَعْلَمَ بِهَا ( وَالرَّابِعُ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ ) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَإِعْلَامًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْأَرْضِ أَوْ مَنَافِعُ الْعَامِلِ .
( وَالْخَامِسُ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَمَا لَا يُعْلَمُ لَا يَسْتَحِقُّ شَرْطًا بِالْعَقْدِ .
( وَالسَّادِسُ أَنْ يُخَلِّيَ رَبُّ الْأَرْضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَامِلِ ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ ) لِفَوَاتِ التَّخْلِيَةِ ( وَالسَّابِعُ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ ) لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ ، فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ( وَالثَّامِنُ بَيَانُ جِنْسِ الْبَذْرِ ) لِيَصِيرَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا .

وَقَوْلُهُ ( بَيَانُ الْمُدَّةِ ) يُرِيدُ بِهِ مُدَّةً يُمْكِنُ خُرُوجُ الزَّرْعِ فِيهَا ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَ مُدَّةً لَا يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ مُدَّةً لَا يَعِيشُ أَحَدُهُمَا إلَى مِثْلِهَا غَالِبًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ ( عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ ( أَوْ مَنَافِعِ الْعَامِلِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَالْمُدَّةُ هِيَ الْمِعْيَارُ لَهَا أَيْ لِلْمَنَافِعِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ أَيْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْأَرْضِ ) إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ ( أَوْ مَنَافِعِ الْعَامِلِ ) إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ ، فَفِي الْأَوَّلِ الْعَامِلُ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ ، وَفِي الثَّانِي رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ بِالْإِعْلَامِ .
وَقَوْلُهُ ( فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ) لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهَا مَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ يَقَعُ إجَارَةً مَحْضَةً ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ .
وَقَوْلُهُ ( بَيَانُ جِنْسِ الْبَذْرِ ) وَجْهُ الْقِيَاسِ لِيَصِيرَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا إذَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ عَسَى أَنْ لَا يَرْضَى ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُعْطَى بَذْرًا لَا يَحْصُلُ الْخَارِجُ بِهِ إلَّا بِعَمَلٍ كَثِيرٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ بَيَانُ مَا يُزْرَعُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَى الْمُزَارِعِ أَوْ لَمْ يُفَوِّضْ بَعْدَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَهِيَ عِنْدَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ ) لِأَنَّ الْبَقَرَ آلَةُ الْعَمَلِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ الْخَيَّاطِ ، ( وَإِنْ كَانَ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ ) لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ ( وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ جَازَتْ ) لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِآلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ ثَوْبَهُ بِإِبْرَتِهِ أَوْ طَيَّانًا لِيُطَيِّنَ بِمَرِّهِ ( وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْبَذْرَ وَالْبَقَرَ عَلَيْهِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا شُرِطَ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ .
لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قُوَّةٌ فِي طَبْعِهَا يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ ، وَمَنْفَعَةُ الْبَقَرِ صَلَاحِيَةٌ يُقَامُ بِهَا الْعَمَلُ كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَجَانَسَا فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لَهَا ، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ تَجَانَسَتْ الْمَنْفَعَتَانِ فَجُعِلَتْ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ .
وَهَاهُنَا وَجْهَانِ آخَرَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْأَرْضُ وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتِمُّ شَرِكَةً بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ .
وَالثَّانِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ .
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي رِوَايَةٍ

اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمُزَارَعَاتِ الْفَاسِدَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَيَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِلْبَذْرِ قَابِضًا لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ .

قَالَ ( وَهِيَ عِنْدَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ) قِيَامُ الْمُزَارَعَةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : الْأَرْضُ ، وَالْبَذْرُ ، وَالْعَمَلُ ، وَالْبَقَرُ لَا مَحَالَةَ ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ لِأَحَدِهِمَا أَوَّلًا ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ شَرِكَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ شَيْءٌ لَمْ تُتَصَوَّرْ الشَّرِكَةُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا بِالتَّنْصِيفِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْأَكْثَرِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ : أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ لِآخَرَ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِيهِ .
وَالثَّانِي أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْبَاقِي لِآخَرَ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِأَحَدِهِمَا وَالْبَاقِي لِآخَرَ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ إلَّا الرَّابِعُ .
وَوَجْهُ كُلِّ وَاحِدٍ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَسَأُوَضِّحُهُ .
وَالْمَذْكُورُ مِنْ بُطْلَانِ الرَّابِعِ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى جَوَازِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَفَسَادَهَا عَلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إجَارَةً وَتَتِمُّ شَرِكَةً ، وَانْعِقَادُهَا إجَارَةً إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَوْ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ وَالْبَذْرِ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْأَرْضِ وَالْعَامِلُ أَيْضًا ، لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِمَا دُونَ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ .
أَمَّا فِي الْأَرْضِ فَأَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَتَعَامَلَ النَّاسُ فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا اشْتِرَاطَ الْبَذْرِ عَلَى الْمُزَارِعِ وَحِينَئِذٍ كَانَ

مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَأَمَّا فِي الْعَامِلِ فَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ وَالتَّعَامُلُ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا يَشْتَرِطُونَ الْبَذْرَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ حِينَئِذٍ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ بِذَلِكَ فَاقْتَصَرْنَا عَلَى الْجَوَازِ بِالنَّصِّ فِيهِمَا وَبَقِيَ غَيْرُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صُوَرِ الْجَوَازِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، أَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهِ هُوَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَوْرِدَ الْأَثَرِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صُوَرِ الْعَدَمِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْآخَرِينَ ، أَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ غَيْرِ مُتَجَانِسَيْنِ وَلَكِنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ ذَلِكَ : وَالضَّابِطُ فِي مَعْرِفَةِ التَّجَانُسِ مَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ وَهُوَ أَنَّ مَا صَدَرَ فِعْلُهُ عَنْ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَهُوَ جِنْسٌ وَمَا صَدَرَ عَنْ غَيْرِهَا فَهُوَ جِنْسٌ آخَرُ .
فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا عَلَيْنَا فِي تَطْبِيقِ الْوُجُوهِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مِمَّا كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مِنْ جِنْسٍ وَالْعَمَلَ وَالْبَقَرَ مِنْ جِنْسٍ ؛ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ الِاسْتِئْجَارُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ أَوْ رَبُّ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِمَّا فِيهِ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَبَاطِلٌ ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ شَيْئَانِ غَيْرُ مُتَجَانِسَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فَإِنَّ الْأَشْرَافَ أَوْ الْأَصْلَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَتْبِعَ الْأَخَسَّ وَالْفَرْعَ .
وَوَجْهُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : لَوْ شَرَطَ الْبَذْرَ

وَالْبَقَرَ عَلَيْهِ : أَيْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَازَ ، فَكَذَا إذَا شَرَطَ الْبَقَرَ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَمَلِ إذَا شَرَطَ الْبَقَرَ عَلَيْهِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَذْرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَرْضِ اسْتَتْبَعَتْهُ لِلتَّجَانُسِ وَضَعُفَ جِهَةُ الْبَقَرِ مَعَهُمَا فَكَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ .
وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ فَلَمْ تَسْتَتْبِعْهُ ، وَكَذَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَكَانَ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ بَاطِلًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِينَ فَكَانَ أَرْجَحَ ، وَيَلْزَمُ الْجَوَازُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّصَّ فِي الْمُزَارَعَةِ لِمَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ ضَعَّفَ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ .
وَقَوْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الدَّلِيلِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ إلَى قُوَّةٍ فِي طَبْعِهَا تُوُهِّمَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْقَوْلِ بِالطَّبِيعَةِ فَدَفَعَ ذَلِكَ .
وَهَاهُنَا وَجْهَانِ آخَرَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُمَا فَاسِدَانِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَ ذَلِكَ .
وَبَقِيَ عَلَيْهِ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمْ يُسَلِّمْ الْأَرْضَ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةَ الْأَرْضِ صَارَتَا مُسَلَّمَتَيْنِ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ لِسَلَامَةِ الْخَارِجِ لَهُ حُكْمًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا لِأَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ بِأَمْرِهِ فِي إلْقَاءِ بَذْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَثَمَّةَ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهُ : أَيْ الْقُدُورِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ أَرْبَعَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ وَالْأَرْضُ مِنْ آخَرَ

وَالْبَقَرُ مِنْ آخَرَ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ { أَنَّهُ وَقَعَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْغَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا لِكُلِّ يَوْمٍ وَأَلْحَقَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ } فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ اشْتِرَاطِ الْفَدَّانِ عَلَى أَحَدِهِمَا مَقْصُودًا بِهِ ، وَفِيهَا الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ لَا أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ مِثْلِ الْأَرْضِ وَأَعْطَى لِصَاحِبِ الْعَمَلِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَجْرَ الْفَدَّانِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَأَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ ( فَإِنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مُسَمَّاةً فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ بِهِ تَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَسَاهَا لَا تُخْرِجُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ ، فَصَارَ كَاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ لِأَحَدِهِمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَا أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ بَذْرَهُ وَيَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي بَعْضٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي جَمِيعِهِ بِأَنْ لَمْ يُخْرِجْ إلَّا قَدْرَ الْبَذْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْخَرَاجِ ، وَالْأَرْضُ خَرَاجِيَّةٌ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ صَاحِبُ الْبَذْرِ عُشْرَ الْخَارِجُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْآخَرِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ مُشَاعٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ، كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْعُشْرِ ، وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَالْأَرْضُ عُشْرِيَّةٌ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا شَرَطَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَّاقِي ) مَعْنَاهُ لِأَحَدِهِمَا ، لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ، لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا مَا يَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِآخَرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى ( وَكَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ ) لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يُصِيبَهُ آفَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَبُّ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا التِّبْنُ ( وَكَذَا إذَا شَرَطَا التِّبْنَ نِصْفَيْنِ وَالْحَبُّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ) لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ ( وَلَوْ شَرَطَ الْحَبَّ نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلتِّبْنِ صَحَّتْ ) لِاشْتِرَاطِهِمَا الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، ( ثُمَّ التِّبْنُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ

وَفِي حَقِّهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الشَّرْطِ .
وَالْمُفْسِدُ هُوَ الشَّرْطُ ، وَهَذَا سُكُوتٌ عَنْهُ .
وَقَالَ مَشَايِخُ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ : التِّبْنُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ ، وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْحَبِّ وَالتَّبَعُ يَقُومُ بِشَرْطِ الْأَصْلِ .
( وَلَوْ شَرَطَا الْحَبَّ نِصْفَيْنِ وَالتِّبْنَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ صَحَّتْ ) لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ( وَإِنْ شَرَطَا التِّبْنَ لِلْآخَرِ فَسَدَتْ ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا التِّبْنُ وَاسْتِحْقَاقُ غَيْرِ صَاحِبِ الْبَذْرِ بِالشَّرْطِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ ) لِصِحَّةِ الِالْتِزَامِ ( وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ شَرِكَةً ، وَلَا شَرِكَةَ فِي غَيْرِ الْخَارِجِ ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَدَتْ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ وَلَا تَفُوتُ الذِّمَّةُ بِعَدَمِ الْخَارِجِ قَالَ ( وَإِذَا فَسَدَتْ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ النَّمَاءُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَتَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا إذْ لَا مِثْلَ لَهَا ) وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ ( وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ .
وَلَا مِثْلَ لَهَا فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا .
وَهَلْ يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ ؟ فَهُوَ عَلَى

الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ( وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ حَتَّى فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَعَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ ) هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْإِجَارَةِ وَهِيَ إجَارَةٌ مَعْنًى ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْأَرْضِ الْخَارِجَ لِبَذْرِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ طَابَ لَهُ جَمِيعُهُ ) لِأَنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّهُ الْعَامِلُ أَخَذَ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ الْأَرْضِ وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ ) لِأَنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَذْرِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ ، وَفَسَادُ الْمِلْكِ فِي مَنَافِعِ الْأَرْضِ أَوْجَبَ خُبْثًا فِيهِ .
فَمَا سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ طَابَ لَهُ وَمَا لَا عِوَضَ لَهُ تَصَدَّقَ بِهِ

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ إلَخْ ) مَعْلُومِيَّةُ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ شَرْطُ جَوَازِهَا لِمَا بَيَّنَّا : يَعْنِي قَوْلَهُ فِي بَيَانِ شُرُوطِهَا .
وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ إلَخْ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ شَرْطًا لِلْجَوَازِ فَعَدَمُهُ مَانِعٌ عَنْهُ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ وَانْتِفَاؤُهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ، وَكَذَا شُيُوعُ الْخَارِجِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ شَرْطُ الْجَوَازِ ، فَإِذَا انْتَفَى فَسَدَتْ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْخَرَاجِ ) وَالْأَرْضُ خَرَاجِيَّةٌ ، وَالْخَرَاجُ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ بِأَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً بِحَسَبِ الْخَارِجِ وَقُفْزَانًا مَعْلُومَةً .
وَأَمَّا إذَا كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ مُشَاعًا نَحْوُ الثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ الْمُزَارَعَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ .
وَالْمَاذِيَانَاتُ جَمْعُ الْمَاذِيَانِ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ النَّهْرِ وَأَعْظَمُ مِنْ الْجَدْوَلِ ، وَقِيلَ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ السَّيْلِ ثُمَّ تُسْقَى مِنْهُ الْأَرْضُ .
وَالسَّوَاقِي جَمْعُ السَّاقِيَةِ وَهُوَ فَوْقُ الْجَدْوَلِ وَدُونَ النَّهْرِ .
كَذَا فِي الْمُغْرِبِ ، وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ ) فَإِنَّ الْعُرْفَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَبَّ وَالتِّبْنَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَتَحْكِيمُ الْعُرْفِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّبَعُ يَقُومُ بِشَرْطِ الْأَصْلِ ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْحَبُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِاشْتِرَاطِهِمَا فِيهِ نَصًّا كَانَ التَّبَعُ وَهُوَ التِّبْنُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أَيْضًا تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الشَّرِكَةَ فَكَانَ مَعْنَاهُ وَالتَّبَعُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ) يَعْنِي أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ ذِكْرِ التِّبْنِ كَانَ التِّبْنُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْعَقْدِ ، فَإِذَا نَصَّا عَلَيْهِ كَأَنَّمَا صَرَّحَا

بِمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ وَصْفُ الْعَقْدِ ، فَكَانَ وُجُودُ الشَّرْطِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً .
وَأَمَّا إذَا شَرَطَا التِّبْنَ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْبَذْرِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَهُ يَكُونُ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ حُكْمَ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَّا التِّبْنُ ، وَكُلُّ شَرْطٍ شَأْنُهُ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةً .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ ) الْمُزَارَعَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً ، فَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ ، فَإِنْ أَخْرَجَتْ فَالْخَارِجُ عَلَى مَا شَرَطَا لِصِحَّةِ الِالْتِزَامِ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ صَحِيحًا يَجِبُ فِيهِ الْمُسَمَّى وَهَذَا عَقْدٌ صَحِيحٌ فَيَجِبُ فِيهِ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ شَرِكَةً : يَعْنِي فِي الِانْتِهَاءِ ، وَلَا شَرِكَةَ فِي غَيْرِ الْخَارِجِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ إجَارَةً ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ الْأُجْرَةِ : أَجَابَ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى وَقَدْ فَاتَ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ .
وَاسْتَشْكَلَ بِمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا بِعَيْنِ فِعْلِ الْأَجِيرِ وَهَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ كَمَلًا فَلْيَكُنْ هَذَا مِثْلَهُ ، لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ قَدْ صَحَّتْ وَالْأَجْرُ مُسَمًّى وَهَلَكَ الْأَجْرُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَجْرَ هَاهُنَا هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ قَبَضَ الْبَذْرَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْخَارِجُ وَقَبْضُ الْأَصْلِ قَبْضٌ لِفَرْعِهِ وَالْأُجْرَةُ الْعَيْنُ إذَا هَلَكَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْأَجِيرِ لَا يَجِبُ لِلْأَجِيرِ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَا هَاهُنَا ، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُخْرِجَ الْأَرْضُ وَأَنْ لَا تُخْرِجَ فِي وُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ ، لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ وَالذِّمَّةُ لَا تَفُوتُ بِعَدَمِ

الْخَارِجِ .
فَإِنْ أَخْرَجَتْ شَيْئًا فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ مِنْهُ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى قَدْرِ الْمَشْرُوطِ لَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا إذْ لَا مِثْلَ لَهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْحَوَالَةِ نَوْعُ تَغْيِيرٍ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ثُمَّ قَالَ : وَلَا يُجَاوَزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ فَبِمَجْمُوعِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَةِ يُعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْلُغُ أَجْرَ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا إلَّا فِي الشَّرِكَةِ فِي الِاحْتِطَابِ ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي جَمِيعِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ يَبْلُغُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ مِنْ قَبِيلِ الشَّرِكَةِ فِي الِاحْتِطَابِ لِأَنَّ الْأَجْرَ غَيْرُ مَعْلُومٍ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَارِجِ وَهَذِهِ حَوَالَةٌ بِلَا

تَغْيِيرٍ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ فَيُصَارُ إلَى الْمِثْلِ وَلَا مِثْلَ لَهَا فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا ، وَهَلْ يُزَادُ عَلَى قَدْرِ الْمَشْرُوطِ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ أَوْ لَا ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَارِّ ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ حَتَّى فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ لِلْبَقَرِ مَدْخَلًا فِي الْإِجَارَةِ لِجَوَازِ إيرَادِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ وَالْمُزَارَعَةُ إجَارَةٌ مَعْنًى فَتَنْعَقِدُ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ فَاسِدًا وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ( وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ تَأْوِيلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : لِصَاحِبِ الْبَقَرِ وَالْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ وَبَقَرِهِ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَجِبَ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ مَكْرُوبَةً أَمَّا الْبَقَرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِحَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا ، وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ بِدُونِ عَقْدٍ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِدُونِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْأَرْضِ إلَخْ ) وَاضِحٌ خَلَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى فَارِقٍ بَيْنَ خُبْثٍ يُمْكِنُ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَأَوْجَبَ التَّصَدُّقَ بِالْفَضْلِ ، وَبَيْنَ خُبْثٍ يُمْكِنُ فِي عَمَلِ الْعَامِلِ فَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ .
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَذْرِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ : يَعْنِي فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ احْتِيَاجًا بَالِغًا فَكَانَ الْخُبْثُ شَدِيدًا فَأَوْرَثَ وُجُوبَ التَّصَدُّقِ ، وَعَمَلُ الْعَامِلِ وَهُوَ إلْقَاءُ الْبَذْرِ وَفَتْحُ الْجَدَاوِلِ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ لِجَوَازِ حُصُولِهِ بِدُونِهِ عَادَةً ، كَمَا إذَا هَبَّتْ

الرِّيحُ فَأَلْقَتْ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ وَأَمْطَرَتْ السَّمَاءُ فَكَانَ مَا يُمْكِنُ بِهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ فَلَمْ يُوَرِّثْ وُجُوبَ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَإِذَا عُقِدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ مِنْ الْعَمَلُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ .
فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَهْدِمَ دَارِهِ ( وَإِنْ امْتَنَعَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ الْبَذْرُ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْعَمَلِ ) لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ ضَرَرٌ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ ، إلَّا إذَا كَانَ عُذْرٌ يَفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةَ فَيَفْسَخُ بِهِ الْمُزَارَعَةَ .
قَالَ ( وَلَوْ امْتَنَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَقَدْ كَرَبَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عَمَلُ الْكِرَابِ ) قِيلَ هَذَا فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَلْزَمُهُ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ .

قَالَ ( وَإِذَا عُقِدَتْ الْمُزَارَعَةُ ) فِي هَذَا بَيَانُ صِفَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِكَوْنِهِ لَازِمًا أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ لَازِمٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، أَمَّا بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَسْخُهُ إلَّا بِعُذْرٍ ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَازِمٌ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَيْسَ الْبَذْرُ مِنْ جِهَتِهِ وَغَيْرُ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ هُوَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَوْ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ عَلَى الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ وَهُوَ اسْتِهْلَاكُ الْبَذْرِ فِي الْحَالِ فَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَهْدِمَ دَارِهِ ( وَإِنْ امْتَنَعَ غَيْرُهُ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ ضَرَرٌ ) سِوَى مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إقَامَةَ الْعَمَلِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا ( وَالْعَقْدُ لَازِمٌ ) مِنْ جِهَتِهِ ( بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ إلَّا إذَا كَانَ عُذْرٌ يَفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةَ ) كَالْمَرَضِ الْمَانِعِ لِلْعَامِلِ عَنْ الْعَمَلِ وَالدَّيْنِ الَّذِي لَا وَفَاءَ بِهِ عِنْدَهُ إلَّا بِبَيْعِ الْأَرْضِ ( فَتُفْسَخُ بِهِ الْمُزَارَعَةُ ، وَلَوْ امْتَنَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مِنْ قِبَلِهِ وَقَدْ كَرَبَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عَمَلِ الْكِرَابِ ) لِأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ مُجَرَّدُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ قَوَّمَهُ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَقَدْ فَاتَ ( قِيلَ هَذَا ) الْجَوَابُ ( فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ ) .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ ) اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الْإِجَارَاتِ ، فَلَوْ كَانَ دَفَعَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَسْتَحْصِدْ الزَّرْعَ حَتَّى مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ تَرَكَ الْأَرْضَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ وَيَقْسِمَ عَلَى الشَّرْطِ ، وَتَنْتَقِضُ الْمُزَارَعَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّنَتَيْنِ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْعَامِلِ فَيُحَافِظُ فِيهِمَا عَلَى الْقِيَاسِ ( وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ بَعْدَ مَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ انْتَقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ ( وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِلَ ) لِمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ ) قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ لِكَوْنِهَا عَقْدًا فِيهِ الْإِجَارَةُ ( وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الْإِجَارَاتِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ أَوْ الْأُجْرَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَبْقَى الْعَقْدُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ نَظَرًا لِلْمُزَارِعِ ، فَإِنَّهُ فِي الزَّرْعِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، فَلَوْ لَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ وَانْتَقَلَ الْأَرْضُ إلَى وَرَثَةِ رَبِّهَا لَقَلَعُوا الزَّرْعَ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُزَارِعُ ، وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( فَلَوْ كَانَ دَفْعُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إلَخْ ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ الزَّرْعِ ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ قَبْلَهُ مَذْكُورٌ فِيمَا يَلِيهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا نَبَتَ الزَّرْعُ أَوْ لَمْ يَنْبُتْ ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ جَوَابَ النَّابِتِ فِي قَوْلِهِ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ( فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ) وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا لَمْ يَنْبُتْ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى دُخُولِهِ فِي إطْلَاقِ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ( وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ بَعْدَمَا كَرَبَ الْعَامِلُ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ انْتَقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِلَ ) لِمَا سَيُذْكَرُ بُعَيْدَ هَذَا

( وَإِذَا فُسِخَتْ الْمُزَارَعَةُ بِدَيْنٍ فَادِحٍ لَحِقَ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا جَازَ ) كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ( وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ إنَّمَا قُوِّمَ بِالْخَارِجِ فَإِذَا انْعَدَمَ الْخَارِجُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ( وَلَوْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ لَمْ تُبَعْ الْأَرْضُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ ) لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُزَارِعِ ، وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ ( وَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَبْسِ إنْ كَانَ حَبَسَهُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ بَيْعَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ ) .

( وَإِذَا فُسِخَتْ الْمُزَارَعَةُ بِدَيْنٍ فَادِحٍ ) أَيْ ثَقِيلٍ ، مِنْ فَدَحَهُ الْأَمْرُ : أَيْ أَثْقَلَهُ ( لِحَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَحْوَجَهُ إلَى بَيْعِهَا جَازَ ) الْفَسْخُ ( كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ) وَالتَّشْبِيهُ بِالْإِجَارَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ فَإِنَّهُ عَلَيْهَا لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ ( وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ إنَّمَا قُوِّمَ بِالْخَارِجِ ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْخَارِجُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ) وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهَذَا الْجَوَابُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لَا عَلَى عَمَلِ الْعَامِلِ فَيَبْقَى عَمَلُ الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ فَلَا يَتَقَوَّمُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ حَتَّى كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ فَكَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى مَنَافِعِ الْأَجِيرِ فَيَتَقَوَّمُ مَنَافِعُهُ وَعَمَلُهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِأَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ مَحَالَةٌ إلَى مُزَارَعَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَجِيرِ وَعَمَلَهُ إنَّمَا يَتَقَوَّمُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ إنَّمَا قُوِّمَ بِالْخَارِجِ ( فَإِذَا انْعَدَمَ الْخَارِجُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ) ثُمَّ الْفَسْخُ بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ وَعَمَلِ الْعَامِلِ مُتَصَوَّرٌ فِي

صُوَرٍ ثَلَاثٍ : مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ وَهُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ ظَهَرَ حُكْمُهُ .
وَمَا إذَا فَسَخَ وَقَدْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ بَعْدُ ، وَحُكْمُهُ أَنْ لَا تُبَاعَ الْأَرْضُ بِالدَّيْنِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُزَارِعِ ، وَفِي التَّأْخِيرِ إنْ كَانَ إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ لَكِنَّ التَّأْخِيرَ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ ، وَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَبْسِ إنْ كَانَ حَبْسُهُ فِي الدَّيْنِ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا فِي ذَلِكَ وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الصُّورَةَ الثَّالِثَةَ مَا إذَا فَسَخَ بَعْدَمَا زَرَعَ الْعَامِلُ الْأَرْضَ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَيْنٌ قَائِمٌ ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِهْلَاكٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَبْلَ التَّبْذِيرِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِنْمَاءُ مَالٍ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ زِرَاعَةَ أَرْضِ الصَّبِيِّ وَلَا يَمْلِكَانِ اسْتِهْلَاكَ مَالِهِ فَكَانَ لِلْمُزَارِعِ فِي الْأَرْضِ عَيْنٌ قَائِمٌ ، وَلَعَلَّ هَذَا اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَالُ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا عَنْ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ كَانَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّرْعِ عَلَيْهِمَا عَلَى مِقْدَارِ حُقُوقِهِمَا ) مَعْنَاهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ ، لِأَنَّ فِي تَبْقِيَةِ الزَّرْعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ تَعْدِيلَ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْتَهَى بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَهَذَا عَمَلٌ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ فِي مُدَّتِهِ وَالْعَقْدُ يَسْتَدْعِي الْعَمَلَ عَلَى الْعَامِلِ ، أَمَّا هَاهُنَا الْعَقْدُ قَدْ انْتَهَى فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إبْقَاءَ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَخْتَصَّ الْعَامِلُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَأَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ( وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ) لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْمُزَارِعِ ، ( وَلَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ ) أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا قِيلَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ اقْلَعْ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَكُمَا أَوْ أَعْطِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ أَوْ أَنْفِقْ أَنْتَ عَلَى الزَّرْعُ وَارْجِعْ بِمَا تُنْفِقُهُ فِي حِصَّتِهِ ، لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ نَظَرٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ .
وَرَبُّ الْأَرْضِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ لِأَنَّ بِكُلِّ ذَلِكَ يُسْتَدْفَعُ الضَّرَرُ ( وَلَوْ مَاتَ الْمُزَارِعُ بَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ فَقَالَتْ وَرَثَتُهُ نَحْنُ نَعْمَلُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ وَأَبَى رَبُّ الْأَرْضِ فَلَهُمْ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ( وَلَا أَجْرَ لَهُمْ بِمَا عَمِلُوا ) لِأَنَّا أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ نَظَرًا لَهُمْ ، فَإِنْ أَرَادُوا قَلْعَ الزَّرْعِ

لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْمَالِكُ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَصَادِ وَالرِّفَاعِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَصِ .
فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْعَامِلِ فَسَدَتْ ) وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّورَةِ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُزَارَعَاتِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاهَى بِتَنَاهِي الزَّرْعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فَيَبْقَى مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَا عَقْدَ فَيَجِبُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا .
وَإِذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَضِيهِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْحَمْلِ أَوْ الضِّمْنِ عَلَى الْعَامِلِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِلتَّعَامُلِ اعْتِبَارًا بِالِاسْتِصْنَاعِ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخِي .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي دِيَارِنَا .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ كَالسَّقْيِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ ، وَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَأَشْبَاهِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا .
وَالْمُعَامَلَةُ عَلَى قِيَاسُ هَذَا مَا كَانَ قَبْلَ إدْرَاكِ الثَّمَرِ مِنْ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ كَالْجَدَادِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا ؛ وَلَوْ شَرَطَ الْجَدَادَ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ .
وَمَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ وَلَا عَقْدَ ، وَلَوْ شَرَطَ الْحَصَادَ فِي الزَّرْعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ ، وَلَوْ أَرَادَا فَصْلَ الْقَصِيلِ أَوْ جَدَّ التَّمْرِ بُسْرًا أَوْ الْتِقَاطَ الرُّطَبِ فَذَلِكَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا

أَنْهَيَا الْعَقْدَ لَمَّا عَزَمَا عَلَى الْفَصْلِ وَالْجَدَادِ بُسْرًا فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ إلَخْ ) إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرِكْ يَبْقَى الزَّرْعُ وَكَانَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَمَّا انْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَبْقَ لِلْعَامِلِ حَقٌّ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ ، وَهُوَ يَسْتَوْفِيهَا بِتَرْبِيَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَلَا تُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّرْعِ وَهِيَ مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالسَّقْيِ وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ عَلَيْهِمَا عَلَى مِقْدَارِ نَصِيبِهِمَا حَتَّى يُسْتَحْصَدَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِي تَبْقِيَةِ الزَّرْعِ ) دَلِيلَ وُجُوبِ الْأَجْرِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّا لَوْ أَمَرْنَا الْعَامِلَ بِقَلْعِ الزَّرْعِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ تَضَرَّرَ بِهِ ، وَإِنْ أَبْقَيْنَاهُ بِلَا أَجْرٍ تَضَرَّرَ رَبُّ الْأَرْضِ فَبَقَّيْنَاهُ بِالْأَجْرِ تَعْدِيلًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَبْقَى الزَّرْعُ بِلَا أَجْرٍ وَلَا اشْتِرَاكٍ فِي النَّفَقَةِ وَلَا اشْتِرَاكٍ فِي الْعَمَلِ ، وَكَلَامُهُ فِيهِ أَيْضًا وَاضِحٌ ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَاحْتَاجَ الزَّرْعُ إلَى النَّفَقَةِ فَأَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .
لَا يُقَالُ : هُوَ مُضْطَرٌّ لِإِحْيَاءِ حَقِّهِ فَلَا يُوصَفُ بِالتَّبَرُّعِ ، لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ الْقَاضِي يَمْنَعُ الِاضْطِرَارَ ( وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُزَارِعِ ) وَلَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ ذَلِكَ مُكِّنَ مِنْهُ ، وَيُخَيَّرُ رَبُّ الْأَرْضِ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ

بِدَلِيلِهَا .
فَإِنْ قِيلَ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ وَهَاهُنَا يَتَضَرَّرُ رَبُّ الْأَرْضِ وَاسْتِدْفَاعُ الضَّرَرِ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِي ذَلِكَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَنْعِ عَنْ الْقَلْعِ كَرَبِّ الْأَرْضِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِ الْقَلْعِ لِانْتِفَاعِهِ بِنَصِيبِهِ وَبِأَجْرِ الْمِثْلِ فَرُدَّ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمُزَارِعِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ، فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ لَا يَفِي بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ مَاتَ الْمُزَارِعُ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ إلَخْ ( قَوْلُهُ وَالْمَالِكُ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ ) يَعْنِي الْمَذْكُورَةَ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ رَجَعَ بِالنَّفَقَةِ رَجَعَ بِكُلِّهَا إذْ الْعَمَلُ عَلَى الْعَامِلِ مُسْتَحَقٌّ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا امْتَنَعَ عَنْ الْعَمَلِ إلَخْ .
قَالَ ( وَكَذَا أُجْرَةُ الْحَصَادِ وَالرِّفَاعِ ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَالرِّفَاعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ : هُوَ أَنْ يَرْفَعَ الزَّرْعَ إلَى الْبَيْدَرِ .
وَالتَّذْرِيَةُ : تَمْيِيزُ الْحَبِّ مِنْ التِّبْنِ بِالرِّيحِ .
وَلَمَّا كَانَ الْقُدُورِيُّ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَقِيبَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الزَّرْعِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرِكْ رُبَّمَا يُوهِمُ اخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الصُّورَةِ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرِكْ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُزَارَعَاتِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ اشْتِرَاطَ مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُفْسِدُهَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ فَكَذَا الْمُزَارَعَةُ لِأَنَّ فِيهَا

مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَالْفَاصِلُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ أَعْمَالِهَا وَغَيْرِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَنْبُتُ وَيَنْمِي وَيَزِيدُ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مِنْ أَعْمَالِهَا وَمَا لَا فَلَا وَعَلَى هَذَا فَالْحَصَادُ وَالدِّيَاسُ وَالتَّذْرِيَةُ وَرَفْعُهُ إلَى الْبَيْدَرِ إذَا شُرِطَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَسَدَتْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا شُرِطَتْ عَلَى الْعَامِلِ جَازَتْ لِلتَّعَامُلِ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِصْنَاعِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي دِيَارِنَا ، وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَ الْأَعْمَالَ ثَلَاثَةً : مَا كَانَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ كَالسَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِهَا ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِهِمَا ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَالْحَمْلِ إلَى الْبَيْتِ وَالطَّحْنِ وَأَشْبَاهِهِمَا وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَعْمَالِهَا فَيَكُونَانِ عَلَيْهِمَا ، لَكِنْ فِيمَا هُوَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَفِيمَا هُوَ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِيَتَمَيَّزَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ فِي مِلْكِهِ إلَيْهِ خَاصَّةً ( وَالْمُعَامَلَةُ قِيَاسُ هَذَا ) أَيْ الْمُسَاقَاةُ أَيْضًا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ ) سَمَّاهُ مُشْتَرَكًا بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ .
وَقِيلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَجْمُوعَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْقَرْيَةِ .

( كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ ) : ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَا : جَائِزَةٌ إذَا ذَكَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَسَمَّى جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ مُشَاعًا ) وَالْمُسَاقَاةُ : هِيَ الْمُعَامَلَةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ ، وَلَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ إلَّا تَبَعًا لِلْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْمُضَارَبَةُ ، وَالْمُعَامَلَةُ أَشْبَهُ بِهَا لِأَنَّ فِيهِ شَرِكَةً فِي الزِّيَادَةِ دُونَ الْأَصْلِ .
وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَا الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ دُونَ الْبَذْرِ بِأَنْ شَرَطَا رَفْعَهُ مِنْ رَأْسِ الْخَارِجِ تَفْسُدُ ، فَجَعَلْنَا الْمُعَامَلَةَ أَصْلًا ، وَجَوَّزْنَا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لَهَا كَالشُّرْبِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالْمَنْقُولِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ ، وَشَرْطُ الْمُدَّةِ قِيَاسٌ فِيهَا لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَعْنًى كَمَا فِي الْمُزَارَعَةُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ يَجُوزُ وَيَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرٍ يَخْرُجُ ، لِأَنَّ الثَّمَرَ لِإِدْرَاكِهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ وَيَدْخُلُ فِيمَا مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ ، وَإِدْرَاكُ الْبَذْرِ فِي أُصُولِ الرَّطْبَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الثِّمَارِ ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا خَرِيفًا وَصَيْفًا وَرَبِيعًا ، وَالِانْتِهَاءُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَتَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ غَرْسًا قَدْ عُلِّقَ وَلَمْ يَبْلُغْ الثَّمَرُ مُعَامَلَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِقُوَّةِ الْأَرَاضِيِ وَضَعْفِهَا تَفَاوُتًا فَاحِشًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ نَخِيلًا أَوْ أُصُولَ رُطَبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا أَوْ أَطْلَقَ فِي الرُّطَبَةِ تَفْسُدُ الْمُعَامَلَةُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتْ الْمُدَّةُ ( وَيُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْجُزْءِ مُشَاعًا

) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُزَارَعَةِ إذْ شَرْطُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ ( فَإِنْ سَمَّيَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَقْتًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ ( وَلَوْ سَمَّيَا مُدَّةً قَدْ يَبْلُغُ الثَّمَرُ فِيهَا وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَازَتْ ) لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ ، ثُمَّ لَوْ خَرَجَ فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ أَصْلًا لِأَنَّ الذَّهَابَ بِآفَةٍ فَلَا يَتَبَيَّنُ فَسَادَ الْمُدَّةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا ، وَلَا شَيْءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ وَأُصُولِ الْبَاذِنْجَانِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ ، لِأَنَّ جَوَازَهَا بِالْأَثَرِ وَقَدْ خَصَّهُمَا وَهُوَ حَدِيثُ خَيْبَرَ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لَا يَخُصُّهُمَا لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ فَالْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُولَةً سِيَّمَا عَلَى أَصْلِهِ ( وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ أَنْ يُخْرِجَ الْعَامِلَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ ( وَكَذَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ) بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَ نَخْلًا فِيهِ تَمْرٌ مُسَاقَاةً وَالتَّمْرُ يَزِيدُ بِالْعَمَلِ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْتَهَتْ لَمْ يَجُزْ ) وَكَذَا عَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ الزَّرْعَ وَهُوَ بَقْلٌ جَازَ ، وَلَوْ اُسْتُحْصِدَ وَأُدْرِكَ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ

، وَلَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ التَّنَاهِي وَالْإِدْرَاكِ ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَكَانَ اسْتِحْقَاقًا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ .
قَالَ ( وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَصَارَ كَالْمُزَارَعَةِ إذَا فَسَدَتْ .

كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ : كَانَ مِنْ حَقِّ الْمُسَاقَاةِ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا ، وَلِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلُ خَيْبَرَ ، إلَّا أَنَّ اعْتِرَاضَ مُوجِبَيْنِ صَوَّبَ إيرَادَ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ : أَحَدُهُمَا شِدَّةُ الِاحْتِيَاجِ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا ، وَالثَّانِي كَثْرَةُ تَفْرِيعِ مَسَائِلِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَاقَاةِ ( وَالْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ ) بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : وَمَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ هُوَ مَفْهُومُهَا الشَّرْعِيُّ فَهِيَ مُعَاقَدَةُ دَفْعِ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ : يَعْنِي شَرَائِطَهَا هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ ، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُزَارَعَةِ وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ .
وَجَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ وَالْمُزَارَعَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا تَبَعًا لَهَا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ النَّخِيلُ وَالْكَرْمُ فِي أَرْضٍ بَيْضَاءَ تُسْقَى بِمَاءِ النَّخِيلِ فَيَأْمُرُ بِأَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ أَيْضًا بِالنِّصْفِ ، وَقَدْ ذُكِرَ دَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مِسَاسَ الْحَاجَةِ إلَى تَجْوِيزِهَا وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ أَلْحَقَاهَا بِالْمُضَارَبَةِ فَجَازَتْ مُنْفَكَّةً عَنْ الْمُعَامَلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِدْرَاكُ الْبَذْرِ فِي أُصُولِ الرَّطْبَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الثَّمَنِ ) مَعْنَاهُ : لَوْ دَفَعَ رَطْبَةً قَدْ انْتَهَى جُذَاذُهَا عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَسْقِيَهَا حَتَّى يَخْرُجَ بَذْرُهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَذْرٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي

مَعْنَى الثَّمَرِ لِلشَّجَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ إدْرَاكَ الْبَذْرِ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَعِنْدَ الْمُزَارِعِينَ فَكَانَ ذِكْرُهُ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَالْبَذْرُ يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ ، فَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِيهِ يَكُونُ صَحِيحًا وَالرَّطْبَةُ لِصَاحِبِهِ .
وَقَوْلُهُ ( غَرْسًا قَدْ عَلَّقَ ) أَيْ نَبَتَ وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِثْمَارِ ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ نَخِيلًا أَوْ أُصُولَ رَطْبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا ) مَعْنَاهُ : حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهُمَا وَيَنْقَطِعُ نَبَاتُهَا ، وَقَوْلُهُ ( أَوْ أَطْلَقَ فِي الرَّطْبَةِ ) يَعْنِي لَمْ يَقُلْ حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهَا ( فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ ) مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّطْبَةِ جَذَّةٌ مَعْلُومَةٌ ، فَإِنْ كَانَ فَهِيَ جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ فِي النَّخِيلِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الثَّمَرَةِ الْأُولَى ، وَقَدْ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ فِي كَلَامِهِ قَيْدَيْنِ لَا غِنًى عَنْهُمَا فَكَانَ إيجَازًا مُخِلًّا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ ) دَلِيلُ الرَّطْبَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ دَلِيلُ النَّخِيلِ وَالرَّطْبَةِ إذَا شَرَطَ الْقِيَامَ عَلَيْهِمَا حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَكَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَقَوْلُهُ ( لَا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا ) أَيْ فِي الْوَقْتِ أَنَّثَهُ بِتَأْوِيلِ الْمُدَّةِ .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخِيلِ وَالشَّجَرِ ) هَذَا بَيَانُ مَا تَجْرِي فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَمَا لَا تَجْرِي فِيهِ ، وَخَصَّصَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازَهَا بِمَا وَرَدَ فِيهِ الْأَثَرُ مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ وَكَانَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ ( وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ ) وَعُمُومُ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَثَرَ خَيْبَرَ خَصَّهُمَا لِأَنَّ أَهْلَهَا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِهِ ، فَإِنَّ بَابَهُ عِنْدَهُ أَوْسَعُ لِأَنَّهُ يَرَى التَّعْلِيلَ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ وَبِكُلِّ

وَصْفٍ قَامَ دَلِيلُ التَّمْيِيزِ عَلَى كَوْنِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْأَوْصَافِ ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُهُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ ، وَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ بِعَيْنِهِ مَعْلُولٌ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قَدَّمْنَاهُ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ بِقَوْلِهِ : ( وَإِذَا عُقِدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إلَخْ ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى ضَرَرٍ فَكَانَتْ لَازِمَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي الْحَالِ بِإِلْقَاءِ بَذْرِهِ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ لَازِمَةً مِنْ جِهَتِهِ ، ثُمَّ عُذْرُ صَاحِبِ الْكَرْمِ لُحُوقُ دَيْنٍ فَادِحٍ لَا يُمْكِنْهُ الْإِيفَاءُ إلَّا بِبَيْعِ الْكَرْمِ ، وَعُذْرُ الْعَامِلِ الْمَرَضُ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ) لِأَنَّهَا جُوِّزَتْ بِالْأَثَرِ فِيمَا يَكُونُ أَجْرُ الْعَامِلِ بَعْضَ الْخَارِجِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ ) وَاضِحٌ .

قَالَ ( وَتَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهَا ، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يَقُومُ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرَ ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الْأَرْضُ اسْتِحْسَانًا فَيَبْقَى الْعَقْدُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْآخَرِ ( وَلَوْ الْتَزَمَ الْعَامِلُ الضَّرَرَ يُتَخَيَّرُ وَرَثَةُ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبُسْرِ وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ ( وَلَوْ مَاتَ الْعَامِلُ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الْأَرْضِ ) لِأَنَّ فِيهِ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ( فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَصْرِمُوهُ بُسْرًا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثَةِ ) الَّتِي بَيَّنَّاهَا .
( وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا فَالْخِيَارُ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ ) لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ ، وَهَذَا خِلَافَةٌ فِي حَقٍّ مَالِيٍّ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لَا أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ فِي الْخِيَارِ ( فَإِنْ أَبَى وَرَثَةُ الْعَامِلِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ كَانَ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْأَرْضُ ) عَلَى مَا وَصْفنَا .
قَالَ ( وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُعَامَلَةِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ أَخْضَرُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ، وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يُدْرِكَ لَكِنْ بِغَيْرِ أَجْرٍ ) لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ هَاهُنَا وَفِي الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَهَاهُنَا لَا

أَجْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَمَلَ كَمَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ انْتِهَائِهَا .وَقَوْلُهُ ( وَالْخَارِجُ بُسْرٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ ) جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ إبْقَاءً لِلْعَقْدِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ .
وَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَقَدْ انْتَقَضَتْ الْمُسَاقَاةُ بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْبُسْرُ بَيْنَ وَرَثَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ نِصْفَيْنِ إنْ شَرَطَا أَنْصَافًا ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالْإِجَارَةُ تُنْتَقَضُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا خِلَافَةٌ فِي حَقٍّ مَالِيٍّ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : كَانَ لِلْمُوَرِّثِ الْخِيَارُ وَقَدْ مَاتَ وَالْخِيَارُ لَا يُوَرَّثُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخَارِجُ بُسْرٌ أَخْضَرُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ ) يَعْنِي صُورَةَ الْمَوْتِ ( سَوَاءٌ وَالْعَامِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَمِلَ كَمَا كَانَ يَعْمَلُ لَكِنْ بِغَيْرِ أَجْرٍ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ ) وَإِنْ أَبَى خُيِّرَ الْآخَرُ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا : أَيْ فِيمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ هَاهُنَا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ

قَالَ ( وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْعُذْرِ فِيهَا .
وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ سَارِقًا يَخَافُ عَلَيْهِ سَرِقَةَ السَّعَفِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ صَاحِبَ الْأَرْضِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَتُفْسَخُ بِهِ .
وَمِنْهَا مَرَضُ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْعَمَلِ ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ اسْتِئْجَارَ الْأُجَرَاءِ زِيَادَةَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عُذْرًا ، وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَتَأْوِيلُ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ بِيَدِهِ فَيَكُونَ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ ( وَمَنْ دَفَعَ أَرْضًا بَيْضَاءَ إلَى رَجُلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ) لِاشْتِرَاطِ الشَّرِكَةِ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَا بِعَمَلِهِ ( وَجَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ : إذْ هُوَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانُ فَيَفْسُدُ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ فَيَجِبُ قِيمَتُهَا وَأَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْغِرَاسِ لِتَقَوُّمِهَا بِنَفْسِهَا وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ بَيَّنَّاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، وَهَذَا أَصَحُّهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ ) يُرَدُّ بِهِ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا ، فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَى آخِرِهِ ( وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْعُذْرِ فِيهَا ) أَيْ فِي الْإِجَارَةِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِيهِ رِوَايَتَانِ ) يَعْنِي فِي كَوْنِ تَرْكِ الْعَمَلِ عُذْرًا رِوَايَتَانِ : فِي إحْدَاهُمَا لَا يَكُونُ عُذْرًا ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَفِي الْأُخْرَى عُذْرٌ ، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَمَلُ بِيَدِهِ ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ الْعَمَلُ كَانَ عُذْرًا ، أَمَّا إذَا رُفِعَ إلَيْهِ النَّخِيلُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِأُجَرَائِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْمُعَامَلَةِ .
( وَمَنْ دَفَعَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ إلَى رَجُلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِ الشَّرِكَةَ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ ) وَهُوَ الْأَرْضُ ( وَكَانَ جَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ ، وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ إذَا هُوَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانِ فَكَانَ فَاسِدًا وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ ) فَإِنَّهُ لَوْ قَلَعَ الْغِرَاسَ وَسَلَّمَهَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بَلْ الْمَشْرُوطُ تَسْلِيمُ الشَّجَرِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهَا شَجَرًا وَجَبَ قِيمَتُهَا وَأَجْرُ مِثْلِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْغِرَاسِ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مُتَقَوِّمَةٌ

بِنَفْسِهَا لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَمَلِ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ بِالْعَقْدِ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ ( وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) وَهُوَ شِرَاءُ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَ الْغِرَاسِ مِنْ الْعَامِلِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ ، أَوْ شِرَاؤُهُ جَمِيعَ الْغِرَاسِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ ، فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْغِرَاسِ نِصْفِهَا أَوْ جَمِيعِهَا لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً عِنْدَ الْعَقْدِ لَا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهَذَا ) يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْهِدَايَةِ ( أَصَحُّهُمَا ) لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ ثَوْبَهُ وَبِصَبْغِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ فِي أَنَّ الْغِرَاسَ آلَةٌ يَجْعَلُ الْأَرْضَ بِهَا بُسْتَانًا كَالصَّبْغِ لِلثَّوْبِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَتْ الْآلَةُ مُتَّصِلَةً بِمِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَوْبِهِ وَأَجْرُ عَمَلِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الذَّبَائِحِ ) : قَالَ ( الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَلِأَنَّ بِهَا يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمُ الطَّاهِرُ .
وَكَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ يَثْبُتُ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَأْكُولِ وَغَيْرُهُ ، فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْهَا .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا } وَهِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ كَالْجُرْحِ فِيمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ ، وَاضْطِرَارِيَّةٌ وَهِيَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنُ .
وَالثَّانِي كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ .
وَهَذَا آيَةُ الْبَدَلِيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَعْمَلُ فِي إخْرَاجِ الدَّمِ وَالثَّانِيَ أَقْصَرُ فِيهِ ، فَاكْتَفَى بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ ، إذْ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ .
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ إمَّا اعْتِقَادًا كَالْمُسْلِمِ أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ ، وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَارِجَ الْحَرَمِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

كِتَابُ الذَّبَائِحِ : الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ كَوْنُهُمَا إتْلَافًا فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ فِي الْمَآلِ ، فَإِنَّ الزِّرَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِإِتْلَافِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْبُتُ مِنْهَا ، وَالذَّبْحُ إتْلَافُ الْحَيَوَانِ بِإِزْهَاقِ رُوحِهِ فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَحْظُورًا عَقْلًا ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَحَلَّهُ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْحَيَوَانِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَلَيْسَ الذَّبْحُ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ ، لِأَنَّ الْمَحْظُورَ الْعَقْلِيَّ ضَرْبَانِ : مَا يُقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ فَلَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ تَجْوِيزٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِ مَنْفَعَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ نَظَرًا إلَى نَفْعِهِ كَالْحِجَامَةِ لِلْأَطْفَالِ وَتَدَاوِيهِمْ بِمَا فِيهِ أَلَمٌ لَهُمْ ، وَالذَّكَاةُ الذَّبْحُ ، وَأَصْلُ تَرْكِيبِ التَّذْكِيَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَمِنْهُ ذَكَاءُ السِّنِّ بِالْمَدِّ لِنِهَايَةِ الشَّبَابِ ، وَذَكَا النَّارَ بِالْقَصْرِ لِتَمَامِ اشْتِعَالِهَا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ ( الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ ) الذَّبْحُ شَرْطُ حِلِّ أَكْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } بَعْدَ قَوْلِهِ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } إلَخْ .
اسْتَثْنَى مِنْ الْحُرْمَةِ الْمُذَكَّى فَيَكُونُ حَلَالًا ، وَالْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْمُشْتَقِّ

مَعْلُومٌ لِلصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ جُعِلَتْ شَرْطًا ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُذَكَّى مَيْتَةٌ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا بِالْحُرْمَةِ ، وَلِأَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ لِنَجَاسَتِهِ لِمَا تَلَوْنَا ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْ اللَّحْمِ ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِالذَّكَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا لِيَتَمَيَّزَ النَّجِسُ مِنْ الطَّاهِرِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْجَرَادُ وَالسَّمَكُ لِأَنَّ حِلَّهُمَا بِلَا ذَبْحٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ .
وَكَمَا يَثْبُتُ بِالذَّبْحِ الْحِلُّ فِي الْمَأْكُولِ يَثْبُتُ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُنْبِئُ عَنْ الطَّهَارَةِ ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا } يَعْنِي أَنَّهَا إذَا يَبِسَتْ مِنْ رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ طَهُرَتْ وَطَابَتْ كَمَا أَنَّ الذَّبِيحَةَ بِالذَّكَاةِ تَطْهُرُ وَتَطِيبُ ( وَهِيَ ) يَعْنِي الذَّكَاةَ ( اخْتِيَارِيَّةٌ كَالْجُرْحِ فِيمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ ) وَهِيَ الصَّدْرُ وَاللَّحْيَانِ ، وَاضْطِرَارِيَّةٌ وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ .
قَوْلُهُ ( وَالثَّانِي كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ ) وَاضِحٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالْبَدَلِ لِأَنَّ الْأَبْدَالَ تُعْرَفُ بِالنَّصِّ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ أَمَارَةُ الْبَدَلِيَّةِ فَقَالَ كَالْبَدَلِ ( وَمِنْ شَرْطِهِ ) أَيْ وَمِنْ شَرْطِ الذَّبْحِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ ، إمَّا اعْتِقَادًا كَالْمُسْلِمِ ، أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ يَدَّعِي مِلَّةَ التَّوْحِيدِ ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ وَقْتَ الذَّبْحِ اسْمَ عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَارِجَ الْحَرَمِ كَمَا سَيَجِيءُ .

قَالَ ( وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ ) لِمَا تَلَوْنَا .
وَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَيَحِلُّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ امْرَأَةً ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضْبِطُ وَلَا يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ لَا تَحِلُّ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ بِالْقَصْدِ .
وَصِحَّةُ الْقَصْدِ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِيِّ يَنْتَظِمُ الْكِتَابِيَّ وَالذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ وَالْعَرَبِيَّ وَالتَّغْلِبِيَّ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْمِلَّةِ عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } وَلِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي التَّوْحِيدَ فَانْعَدَمَتْ الْمِلَّةُ اعْتِقَادًا وَدَعْوَى .
قَالَ ( وَالْمُرْتَدِّ ) لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ .
فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ إذَا تَحَوَّلَ إلَى غَيْرِ دِينِهِ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ لَا مَا قَبْلَهُ .
قَالَ ( وَالْوَثَنِيِّ ) لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْمِلَّةَ .
قَالَ ( وَالْمُحَرَّمُ ) يَعْنِي مِنْ الصَّيْدِ ( وَكَذَا لَا يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ فِي الْحَرَمِ مِنْ الصَّيْدِ ) وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُحَرَّمِ يَنْتَظِمُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ ، وَالذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا الصَّنِيعُ مُحَرَّمٌ فَلَمْ تَكُنْ ذَكَاةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ غَيْرَ الصَّيْدِ صَحَّ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ ، إذْ الْحَرَمُ لَا يُؤَمِّنُ الشَّاةَ ، وَكَذَا لَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُ عَلَى الْمُحْرِمُ .

قَالَ ( وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ إلَخْ ) ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا حَلَالٌ إذَا أَتَى بِهِ مَذْبُوحًا ، وَأَمَّا إذَا ذَبَحَ بِالْحُضُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ لَا يَذْكُرَ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَقَوْلُهُ لِمَا تَلَوْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِخُرُوجِ الْوَثَنِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَلَا يَكُونُ قَاطِعًا فِي الْإِفَادَةِ ضَمَّ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ .
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا اصْطَادَ سَمَكَةً حَلَّ أَكْلُهَا : وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمِ الْعَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ( وَيَحِلُّ إذَا كَانَ الذَّابِحُ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ ) قِيلَ يَعْنِي يَعْقِلُ لَفْظَ التَّسْمِيَةِ ، وَقِيلَ يَعْقِلُ أَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ بِالتَّسْمِيَةِ ( وَالذَّبِيحَةُ ) يَعْنِي يَقْدِرُ عَلَى الذَّبْحِ وَيَضْبِطُهُ : أَيْ يَعْلَمُ شَرَائِطَ الذَّبْحِ مِنْ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الذَّابِحُ ( صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ مَعْتُوهًا ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَهِيَ بِالْقَصْدِ ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ بِمَا ذَكَرْنَا : يَعْنِي قَوْلَهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُهُ ، وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا .
قِيلَ أَرَادَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ عَادَتَهُ فِي مِثْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا .
وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ ،

وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إشَارَةً إلَى الْآيَةِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ وَعَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ .
قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ الْأَقْلَفَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ يَقُولُ : شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ وَذَبِيحَتُهُ لَا تَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ كَذَا ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْمِلَّةِ ) فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ ) وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ إذَا تَحَوَّلَ إلَى غَيْرِ دِينِهِ ) يُرِيد بِهِ مِنْ أَدْيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، أَمَّا إذَا تَمَجَّسَ فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ .

قَالَ ( وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أُكِلَ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي تَرْكُ التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي حُرْمَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا .
فَمِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَحْرُمُ ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَحِلُّ ، بِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَا يَنْفُذُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ ، لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ } وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْحِلِّ لَمَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ كَالطَّاهِرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا فَالْمِلَّةُ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا كَمَا فِي النَّاسِي ، وَلَنَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } الْآيَةَ ، نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ .
وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا .
وَالسُّنَّةُ وَهُوَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي آخِرِهِ { فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك } عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ .
وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا ، إذْ لَا فَصْلَ فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى ،

لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَالسَّمْعُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ لَجَرَتْ الْمُحَاجَّةُ وَظَهَرَ الِانْقِيَادُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلُ .
وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ النَّاسِي وَهُوَ مَعْذُورٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الْعَامِدِ وَلَا عُذْرَ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ ثُمَّ التَّسْمِيَةُ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهِيَ عَلَى الْمَذْبُوحِ .
وَفِي الصَّيْدِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ وَهِيَ عَلَى الْآلَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي الْأَوَّلِ الذَّبْحُ وَفِي الثَّانِي الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ دُونَ الْإِصَابَةِ فَتُشْتَرَطُ عِنْدَ فِعْلٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، حَتَّى إذَا أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَذَبَحَ غَيْرَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى وَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ ، وَكَذَا فِي الْإِرْسَالِ ، وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى بِالشَّفْرَةِ وَذَبَحَ بِالْأُخْرَى أُكِلَ ، وَلَوْ سَمَّى عَلَى سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ صَيْدًا لَا يُؤْكَلُ .

قَالَ ( وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ إلَخْ ) إنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ اضْطِرَارِيًّا عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشُمُولِ الْجَوَازِ وَمَالِكٍ بِشُمُولِ الْعَدَمِ .
وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَصَّلُوا ، إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ ، وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ } سَوَّى بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَعَدَمِهَا وَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَبِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْحِلِّ لَمَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ ، كَالطَّهَارَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لَمْ تَجُزْ صَلَاةُ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ لَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ سَلَّمْنَا أَنَّهَا شَرْطٌ لَكِنَّ الْمِلَّةَ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا كَمَا فِي النَّاسِي .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَعَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ فَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ مَعْهُودَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى النَّاسِي هَيْئَةٌ مَذْكُورَةٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهَاهُنَا إنْ لَمْ تَكُنْ هَيْئَةٌ تُوجِبُ النِّسْيَانَ وَهِيَ مَا يَحْصُلُ لِلذَّابِحِ عِنْدَ زَهُوقِ رُوحِ حَيَوَانٍ مِنْ تَغَيُّرِ الْحَالِ فَلَيْسَ هَيْئَةٌ مُذْكَرَةٌ بِمَوْجُودَةٍ ، وَلِمَانِعِ أَنْ يَمْنَعَ بُطْلَانَ التَّالِي أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ التَّنَزُّلِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ : يَعْنِي أَنَّ إقَامَةَ الْمِلَّةِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ النَّاسِي وَهُوَ مَعْذُورٌ لَا يَدُلُّ فِي حَقِّ الْعَامِدِ وَلَا عُذْرَ لَهُ ، وَأَمَّا مَا شَنَّعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ

رَحِمَهُ اللَّهُ بِكَوْنِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَوَاضِحٌ .
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَإِنَّ فِيهِ النَّهْيَ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ ، وَهُوَ تَأْكِيدُهُ بِمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَنْ أَكْلِ مَتْرُوك التَّسْمِيَةِ ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَهُوَ أَقْرَبُ لَا مَحَالَةَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ لَجَرَتْ الْمُحَاجَّةُ وَظَهَرَ الِانْقِيَاد وَارْتَفَعَ الْخِلَاف فِي الصَّدْر الْأَوَّل ، لِأَنَّ ظَاهِر مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ اللِّسَانِ ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى ، إذْ الْإِنْسَانُ كَثِيرُ النِّسْيَانِ ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } فَيُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْعَمْدِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ حَالَ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ ، وَصِلَةُ عَلَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ يُقَالُ ذَكَرَ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ بِاللِّسَانِ ، وَذَكَرَهُ إذَا ذَكَرَ بِالْقَلْبِ .
وَقَوْلُهُ { وَلَا تَأْكُلُوا } عَامٌّ مُؤَكَّدٌ بِمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ الَّتِي تُفِيدُ التَّأْكِيدَ ، وَتَأْكِيدُ الْعَامِّ يَنْفِي احْتِمَالَ الْخُصُوصِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّاسِيَ ذَاكِرًا لِعُذْرٍ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، كَمَا أَقَامَ الْأَكْلَ نَاسِيًا مَقَامَ الْإِمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ لِذَلِكَ

، وَمَجَالُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ وَاسِعٌ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ وَفِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ ( وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّشْنِيعِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي حُرْمَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا إلَخْ ( وَالسُّنَّةُ ) وَهُوَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ .
{ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهُ عَدِيٌّ عَمَّا إذَا وَجَدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا آخَرَ قَالَ لَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك } عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ وَعِنْدَ الرَّمْيِ لَكِنَّهَا فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهِيَ عَلَى الْمَذْبُوحِ ، وَفِي الصَّيْدِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ وَهِيَ عَلَى الْآلَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ، وَالْمَقْدُورُ لَهُ فِي الْأَوَّلِ الذَّبْحُ ، وَفِي الثَّانِي الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ ، وَقَدْ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ تَفْرِيعَاتٍ وَهِيَ وَاضِحَةٌ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا غَيْرَهُ .
وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ ) وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إحْدَاهَا أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا لَا مَعْطُوفًا فَيُكْرَهُ وَلَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ .
وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا قَالَ .
وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : بِاسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ .
لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ وَاقِعًا لَهُ .
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْقُرْآنِ صُورَةً فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ وَالشَّرِكَةِ بِأَنْ يَقُولَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ فُلَانٍ ، أَوْ يَقُولَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَفُلَانٍ .
أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ مَفْصُولًا عَنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَقَبْلَ أَنْ يُضْجِعَ الذَّبِيحَةَ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ هَذِهِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالْبَلَاغِ } وَالشَّرْطُ هُوَ الذِّكْرُ الْخَالِصُ الْمُجَرَّدُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ ، وَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ يُرِيدُ التَّسْمِيَةَ حَلَّ ، وَلَوْ عَطَسَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى نِعَمِهِ دُونَ التَّسْمِيَةِ .
وَمَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسُنُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ }

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا غَيْرَهُ إلَخْ ) الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ وَقَوْلُهُ ( وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ غَيْرَ مَكْسُورٍ لَا يَحْرُمُ ، قِيلَ هَذَا إذَا كَانَ يَعْرِفُ النَّحْوَ .
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : إنْ خَفَضَهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَابِحًا بِهِمَا ، وَإِنْ رَفَعَهُ حَلَّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ ، وَإِنْ نَصَبَهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَرَى الْخَطَأَ فِي النَّحْوِ مُعْتَبَرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا لَا يَحْرُمُ وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ لَا بَأْسَ بِهِ ( وَلَوْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ التَّسْمِيَةَ حَلَّ بِلَا خِلَافٍ ) وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هَاهُنَا الذِّكْرُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } : أَيْ قَائِمَاتٍ صَفَفْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَأَرْجُلَهُنَّ وَهُنَاكَ التَّكْبِيرُ ، وَبِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ مُكَبِّرًا ( وَلَوْ عَطَسَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ) وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَطِيبِ وَإِذَا عَطَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ مُطْلَقًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَهَاهُنَا الذِّكْرُ عَلَى الذَّبْحِ

قَالَ ( وَالذَّبْحُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ } ، وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَجْرَى وَالْعُرُوقِ فَيَحْصُلُ بِالْفِعْلِ فِيهِ إنْهَارُ الدَّمِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ فَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ سَوَاءً .
قَالَ ( وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ أَرْبَعَةٌ : الْحُلْقُومُ ، وَالْمَرِيءُ ، وَالْوَدَجَانِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } .
وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ الثَّلَاثُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَيَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِاقْتِضَائِهِ ، وَبِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ وَلَا يُجَوِّزُ الْأَكْثَرَ مِنْهَا بَلْ يَشْتَرِطُ قَطْعَ جَمِيعِهَا ( وَعِنْدَنَا إنْ قَطَعَهَا حَلَّ الْأَكْلُ ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَا : لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنْ قَطَعَ نِصْفَ الْحُلْقُومِ وَنِصْفَ الْأَوْدَاجِ لَمْ يُؤْكَلْ .
وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُكِلَ .
وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَطَعَ الثَّلَاثَ : أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ يَحِلُّ ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ كُلِّ فَرْدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا أَصْلٌ

بِنَفْسِهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ فَيُعْتَبَرُ أَكْثَرُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إنْهَارُ الدَّمِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ، إذْ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَجْرَى الدَّمِ .
أَمَّا الْحُلْقُومُ فَيُخَالِفُ الْمَرِيءَ فَإِنَّهُ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَاءِ ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى النَّفَسِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَأَيَّ ثَلَاثٍ قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَا هُوَ إنْهَارُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالتَّوْحِيَةُ فِي إخْرَاجِ الرُّوحِ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ أَوْ الطَّعَامِ ، وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا احْتِيَاطًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ .

( وَالذَّبْحُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ وَسَطَهُ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلَهُ ) وَأَتَى بِلَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانًا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ الذَّبْحَ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَذْبَحٌ غَيْرُهُمَا ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ } وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ الذَّبْحِ فَوْقَ الْحَلْقِ قَبْلَ الْعُقْدَةِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعُقْدَةِ فَهُوَ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِلْإِمَامِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حِلِّ مَا بَقِيَ عُقْدَةُ الْحُلْقُومِ مِمَّا يَلِي الصَّدْرَ .
وَرِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ أَيْضًا تُسَاعِدُهُ ، وَلَكِنْ صَرَّحَ فِي ذَبَائِحِ الذَّخِيرَةِ أَنَّ الذَّبْحَ إذَا وَقَعَ أَعْلَى مِنْ الْحُلْقُومِ لَا يَحِلُّ ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ لِأَنَّهُ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ كَمَا تَرَى ، وَلِأَنَّ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مَجْمَعُ الْعُرُوقِ وَالْمَجْرَى فَيَحْصُلُ بِالْفِعْلِ فِيهِ إنْهَارُ الدَّمِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ ، وَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ سَوَاءً ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْعُقْدَةِ .
قَالَ ( وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ إلَخْ ) الْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ أَرْبَعَةٌ : الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ ، وَالْوَدَجَانِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ مَا يُقْطَعُ مِنْهَا لِلْحِلِّ ؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ : وَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِ جَمِيعِهَا ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ رَجَعَ إلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا

نَذْكُرُهُ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ .
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ اكْتَفَى بِقَطْعِ الثَّلَاثِ أَيُّهَا كَانَتْ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، وَإِنْ قَطَعَ الْجَمِيعُ فَهُوَ أَوْلَى وَهُوَ وَجْهٌ رَابِعٌ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } وَالْفَرْيُ : الْقَطْعُ لِلْإِصْلَاحِ ، وَالْإِفْرَاءُ : الْقَطْعُ لِلْإِفْسَادِ فَيَكُونُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ أَنْسَبَ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ .
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ جَمَعَ الْأَوْدَاجَ وَمَا ثَمَّةَ إلَّا الْوَدَجَانِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَعِيشُ بَعْدَ قَطْعِهِمَا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَفْظًا وَمَعْنًى .
أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الْأَوْدَاجَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَصْلًا .
وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إسَالَةُ الدَّمِ النَّجِسِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ مَجْرَاهُ ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَبِمَا يَقْتَضِيهِ ، فَإِنَّ الْأَوْدَاجَ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ ، وَقَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِدُونِ قَطْعِ الْحُلْقُومِ مُتَعَذِّرٌ فَثَبَتَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِالِاقْتِضَاءِ ، وَجَوَابُهُ سَيَجِيءُ .
وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إنْهَارُ الدَّمِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا مَنَابَ الْآخَرِ ، إذَا كُلٌّ مِنْهُمَا مَجْرَى الدَّمِ ، أَمَّا الْحُلْقُومُ فَيُخَالِفُ الْمَرِيءَ ، فَإِنَّ الْمَرِيءَ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَاءِ وَالْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ .
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْعَكْسِ ، وَلَيْسَ يُجِيدُ فَلَا بُدَّ

مِنْ قَطْعِهِمَا وَهُوَ قَرِيبٌ ، وَجَوَابُهُ سَيَجِيءُ .
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَيُعْتَبَرُ أَكْثَرُ كُلٍّ مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ كَمَا تَرَى .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَأَيُّ ثَلَاثٍ قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَا وَهُوَ إنْهَارُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالتَّوْحِيَةُ : أَيْ التَّعْجِيلُ فِي إخْرَاجِ الرُّوحِ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ أَوْ الطَّعَامِ .
وَبِهَذَا يَحْصُلُ جَوَابُ أَبِي يُوسُفَ ، وَبِقَوْلِهِ ( وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ ) جَوَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقَالُ : الْأَوْدَاجُ جَمْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ } لِأَنَّ مَا تَحْتَهُ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً وَالِانْصِرَافُ إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ ) قِيلَ : يَعْنِي أَكْثَرَ الْمُرَخَّصِ فِيهِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ ، فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ لَمَّا كَانَا بَاقِيَيْنِ كَانَ أَكْثَرُ الْمُرَخَّصِ بَاقِيًا فَلَا يَحِلُّ .
وَقِيلَ لَمَّا كَانَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ مُرَجَّحًا كَانَ لِلنِّصْفِ الْبَاقِي حُكْمُ الْأَكْثَرِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا وَرُبَّمَا لَوَّحَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا حَتَّى لَا يَكُونَ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ هَذَا الذَّبْحُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرُ وَالسِّنِّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ } وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَمَا إذَا ذُبِحَ بِغَيْرِ الْمَنْزُوعِ ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت } وَيُرْوَى { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ وَصَارَ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالثِّقْلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ وَلِأَنَّ فِيهِ إعْسَارًا عَلَى الْحَيَوَانِ وَقَدْ أُمِرْنَا فِيهِ بِالْإِحْسَانِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا السِّنَّ الْقَائِمَ وَالظُّفْرَ الْقَائِمَ ) فَإِنَّ الْمَذْبُوحَ بِهِمَا مَيْتَةٌ لِمَا بَيَّنَّا ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ نَصًّا .
وَمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا يَحْتَاطُ فِي ذَلِكَ ، فَيَقُولُ فِي الْحِلِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِي الْحُرْمَةِ يَقُولُ يُكْرَهُ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ .
قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ الذَّابِحُ شَفْرَتَهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَةَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا ثُمَّ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً

وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ فَقَالَ : لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ ، هَلَّا حَدَدْتهَا قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا } قَالَ ( وَمَنْ بَلَغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ أَوْ قَطَعَ الرَّأْسَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : قَطَعَ مَكَانَ بَلَغَ .
وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ } وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنْ يَمُدَّ رَأْسَهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَذْبَحُهُ ، وَقِيلَ أَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَفِي قَطْعِ الرَّأْسِ زِيَادَةَ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا فِيهِ زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ مَكْرُوهٌ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ مَا يُرِيدُ ذَبْحَهُ بِرِجْلِهِ إلَى الْمَذْبَحِ ، وَأَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ : يَعْنِي تَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ ، وَبَعْدَهُ لَا أَلَمَ فَلَا يُكْرَهُ النَّخْعُ وَالسَّلْخُ ، إلَّا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى زَائِدٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْأَلَمِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَلِهَذَا قَالَ : تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ .
قَالَ ( فَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ قَفَاهَا فَبَقِيَتْ حَيَّةً حَتَّى قَطَعَ الْعُرُوقَ حَلَّ ) لِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ بِمَا هُوَ ذَكَاةٌ ، وَيُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ الْأَلَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا جَرَحَهَا ثُمَّ قَطَعَ الْأَوْدَاجَ ( وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْعُرُوقِ لَمْ تُؤْكَلْ ) لِوُجُودِ الْمَوْتِ بِمَا لَيْسَ بِذَكَاةٍ فِيهَا .
قَالَ ( وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنْ الصَّيْدِ فَذَكَاتُهُ الذَّبْحُ ، وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ فَذَكَاتُهُ الْعَقْرُ وَالْجُرْحُ ) لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْعَجْزُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ( وَكَذَا مَا

تَرَدَّى مِنْ النَّعَمِ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ) لِمَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْعَجْزِ وَقَدْ تَحَقَّقَ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ ، كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ النُّدْرَةَ بَلْ هُوَ غَالِبٌ .
وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ فِيمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّاةَ إذَا نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ ، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَا تَحِلُّ بِالْعَقْرِ لِأَنَّهَا لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرُ فَلَا عَجْزَ ، وَالْمِصْرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي الْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِمَا ، وَإِنْ نَدَّا فِي الْمِصْرِ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ، وَالصِّيَالُ كَالنَّدِّ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ .
قَالَ ( وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ ، فَإِنْ ذَبَحَهَا جَازَ وَيُكْرَهُ .
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ فَإِنْ نَحَرَهُمَا جَازَ وَيُكْرَهُ ) أَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَلِاجْتِمَاعِ الْعُرُوقِ فِيهَا فِي الْمَنْحَرِ وَفِيهِمَا فِي الْمَذْبَحِ ، وَالْكَرَاهَةُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَهِيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَلَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ وَالْحِلَّ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ إنَّهُ لَا يَحِلُّ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ إلَخْ ) الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ الْمَنْزُوعَةِ جَائِزٌ مَكْرُوهٌ ، وَأَكْلُ الذَّبِيحِ بِهَا لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرَ وَالسِّنَّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ } اسْتَثْنَاهُمَا بِالْإِطْلَاقِ عَمَّا يَجُوزُ أَكْلُهُ فَيَتَنَاوَلُ الْحُرْمَةَ بِالْمَنْزُوعِ وَالْقَائِمِ ، وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ ، وَإِنْهَارُ الدَّمِ بِهَا مُطْلَقًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَغَيْرِ الْمَنْزُوعِ ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت } وَيُرْوَى { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ بِالْمَنْزُوعِ وَغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا غَيْرَ الْمَنْزُوعِ بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ " فَإِنَّهُمْ لَا يُقَلِّمُونَ الْأَظْفَارَ وَيُحَدِّدُونَ الْأَسْنَانَ وَيُقَاتِلُونَ بِالْخَدْشِ وَالْعَضِّ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِهِ الْمَعْقُولِ .
وَتَقْرِيرُهُ : إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إنْهَارَ الدَّمِ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ الْمَنْزُوعَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، فَإِنَّهُ أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آلَةٌ جَارِحَةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ فَصَارَ كَاللِّيطَةِ وَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَالسِّكِّينِ الْكَلِيلِ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نُفَسِّرُهَا : اللِّيطَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ : قِشْرُ الْقَصَبِ ، وَالْمَرْوَةُ : الْحَجَرُ الْحَادُّ ( وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ بِالثِّقَلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ } قِيلَ إنَّمَا يَكُونُ

ذَلِكَ إذَا عُلِمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ أَنَّ التَّحْدِيدَ لِذَبْحِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْبُوحَ لَا عَقْلَ لَهُ ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ سُوءَ أَدَبٍ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْوَهْمَ فِي ذَلِكَ كَافٍ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهَا .
وَالنُّخَاعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالضَّمِّ لُغَةٌ فِيهِ ، فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إلَى السَّهْوِ .
وَقَالَ : وَهُوَ خَيْطٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ مُمْتَدٌّ إلَى الصُّلْبِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ مُرَكَّبٌ مِنْ عِظَامٍ وَأَعْصَابٍ وَعُرُوقٍ هِيَ شَرَايِينُ وَأَوْتَارٌ ، وَمَا ثَمَّةَ شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ أَصْلًا .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَصْلَ الْجَامِعَ فِي إفَادَةِ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ كُلُّ مَا فِيهِ زِيَادَةُ أَلَمٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ .
قَالَ ( وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنْ الصَّيْدِ ) قَدْ مَرَّ أَنَّ الذَّبْحَ الِاضْطِرَارِيَّ بَدَلٌ عَنْ الِاخْتِيَارِيِّ فَلَا مَصِيرَ إلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَجْزِ عَنْ الثَّانِي ، وَهَذَا مَخْرَجُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ ( وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَحِلُّ الْأَكْلُ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي مَا تَوَحَّشَ وَمَا تَرَدَّى ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ النُّدْرَةَ ، وَلَئِنْ كَانَتْ فَالْمُعْتَبَرَةُ حَقِيقَةُ الْعَجْزِ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَقَوْلُهُ وَفِي الْكِتَابِ ) يُرِيدُ بِهِ الْقُدُورِيَّ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَالنَّحْرُ : قَطْعُ الْعُرُوقِ عِنْدَ الصَّدْرِ ، وَالذَّبْحُ : قَطْعُهَا تَحْتَ اللَّحْيَيْنِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ الْأَوَّلُ وَفِي غَيْرِهِ الثَّانِي ، وَالْعَكْسُ يَجُوزُ .
وَيُكْرَهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَقَوْلُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ) أَيْ فِي غَيْرِ الذَّبْحِ وَهُوَ تَرْكُ السُّنَّةِ

قَالَ ( وَمَنْ نَحَرَ نَاقَةً أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا تَمَّ خَلْقُهُ أُكِلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا حَتَّى يُفْصَلَ بِالْمِقْرَاضِ وَيَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَتَنَفَّسُ بِتَنَفُّسِهَا ، وَكَذَا حُكْمًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ الْوَارِدِ عَلَى الْأُمِّ وَيُعْتَقَ بِإِعْتَاقِهَا .
وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْهَا فَالْجُرْحُ فِي الْأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاتِهِ كَمَا فِي الصَّيْدِ .
وَلَهُ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى تُتَصَوَّرَ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُفْرَدُ بِالذَّكَاةِ ، وَلِهَذَا يُفْرَدُ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقٍ مُضَافٍ إلَيْهِ ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَبِهِ ، وَهُوَ حَيَوَانٌ دَمَوِيٌّ ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الذَّكَاةِ وَهُوَ الْمَيْزُ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِجُرْحِ الْأُمِّ ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَنْهُ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْجُرْحِ فِي الصَّيْدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِ نَاقِصًا فَيُقَامُ مَقَامَ الْكَامِلِ فِيهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ .
وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَحَرِّيًا لِجَوَازِهِ كَيْ لَا يَفْسُدَ بِاسْتِثْنَائِهِ ، وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا كَيْ لَا يَنْفَصِلَ مِنْ الْحُرَّةِ وَلَدَ رَقِيقٍ .

( وَقَوْلُهُ أَشْعَرَ ) مَعْنَاهُ نَبَتَ شَعْرُهُ مِثْلُ أَعْشَبَ الْمَكَانُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ خَلَا أَنَّهُ لَمْ يُجِبْ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّا بِهِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ رُوِيَ { ذَكَاةُ أُمِّهِ } بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ ، فَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ ، وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي التَّشْبِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ .
قِيلَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ ذَكَاةِ الْجَنِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَعَيْنَاك عَيْنَاهَا وَجِيدُك جِيدُهَا سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ ) لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } .
وَقَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ ذُكِرَ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَتَنَاوَلُ سِبَاعَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ لِأَكْلِ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ .
وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً .
وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَرَامَةُ بَنِي آدَمَ كَيْ لَا يَعْدُوَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ إلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إبَاحَتِهِمَا ، وَالْفِيلُ ذُو نَابٍ فَيُكْرَهُ ، وَالْيَرْبُوعُ وَابْنُ عِرْسٍ مِنْ السِّبَاعِ الْهَوَامِّ

فَصْلٌ فِيمَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ ) : ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَقِيبَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الذَّبَائِحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ تُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَوْصَافَ السَّبْعِ لِيَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ ( كَيْ لَا يَعْدُوَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ إلَيْهِمْ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ أَنَّ الِاخْتِطَافَ مِنْ فِعْلِ الطُّيُورِ وَالِانْتِهَابَ مِنْ فِعْلِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : فَالْمُرَادُ بِذِي الْخَطْفَةِ مَا يَخْطِفُ بِمِخْلَبِهِ مِنْ الْهَوَاءِ كَالْبَازِي وَالْعُقَابِ ، وَمِنْ ذِي النُّهْيَةِ مَا يَنْتَهِبُ بِنَابِهِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ ( قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي الضَّبُعِ .
وَالثَّعْلَبُ ) لِأَنَّ لَهُمَا نَابًا يُقَاتِلَانِ بِهِ فَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُمَا كَالذِّئْبِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إبَاحَتِهِمَا فَإِنْ قِيلَ : يُعَارِضُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقِيلَ أَيُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقِيلَ أَشَيْءٌ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ } فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَنَا مَشْهُورٌ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ إنْ صَحَّ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثُ } وَابْنُ عِرْسٍ دُوَيْبَّةٌ ، وَالرَّخَمُ جَمْعُ رَخَمَةٍ وَهُوَ طَائِرٌ أَبْلَقُ يُشْبِهُ النِّسْرَ فِي الْخِلْقَةِ ، وَالْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ وَضِعَافِهِ ، وَأَمَّا الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ وَالْأَبْقَعُ فَهُوَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : نَوْعٌ يَلْتَقِطُ الْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ، وَنَوْعٌ مِنْهُ لَا يَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَنَوْعٌ يَخْلِطُ بِأَكْلِ الْحَبِّ مَرَّةً وَالْجِيَفِ أُخْرَى وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي

الْكِتَابِ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ

وَكَرِهُوا أَكْلَ الرَّخَمِ وَالْبُغَاثِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ ) لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَيْسَ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ .

قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ ، وَكَذَا الْغُدَافُ )( قَوْلُهُ وَكَذَا الْغُدَافُ ) وَهُوَ غُرَابُ الْقَيْظِ لَا يُؤْكَلُ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَلَحْمُهُ نَبَتَ مِنْ الْحَرَامِ فَيَكُونُ خَبِيثًا عَادَةً ، وَمَا يَأْكُلُ الْحَبَّ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِ ، وَمَا خَلَطَ كَالدَّجَاجِ وَالْعَقْعَقِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ الدَّجَاجَةَ وَهِيَ مِمَّا يَخْلِطُ .

( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ ) لِأَنَّهُ يُخَلَّطُ فَأَشْبَهَ الدَّجَاجَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَكْلُ الضَّبُعِ وَالضَّبِّ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالزُّنْبُورِ وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا ) أَمَّا الضَّبُعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا الضَّبُّ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ .
وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إبَاحَتِهِ ، وَالزُّنْبُورُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ .
وَالسُّلَحْفَاةُ مِنْ خَبَائِثِ الْحَشَرَاتِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا اسْتِدْلَالًا بِالضَّبِّ لِأَنَّهُ مِنْهَا .وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الضَّبُعُ فَلَمَّا ذَكَرْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ : يَعْنِي أَنَّهُ ذُو نَابٍ ( وَقَوْلُهُ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ ) يَعْنِي نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُعَارِضُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ : لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي ، فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ } وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي الْآكِلِينَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَاظِرَ وَالْمُبِيحَ إذَا تَعَارَضَا يُرَجَّحُ الْحَاظِرُ ، عَلَى أَنَّ الْمُبِيحَ مُؤَوَّلٌ بِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْبِغَالِ ) لِمَا رَوَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْدَرَ الْمُتْعَةَ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ }وَلَا تُؤْكَلُ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَذَهَبَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ إلَى إبَاحَتِهِ ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَشَبُّثًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } الْآيَةُ ، وَبِحَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِي إلَّا حُمَيْرَاتٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكِ } وَاسْتِدْلَالًا بِحِلِّ أَكْلِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
أَمَّا الْآيَةُ فَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُرْمَةِ لَحْمِ الْحُمُرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حُرْمَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَدْلُولِهَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَكْلِ ثَمَنِهَا .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَالنَّصُّ النَّاهِي عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَائِمٌ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْفَرَسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْأَكْلُ مِنْ أَعْلَى مَنَافِعِهَا ، وَالْحَكَمُ لَا يَتْرُكُ الِامْتِنَانَ بِأَعْلَى النِّعَمِ وَيَمْتَنُّ بِأَدْنَاهَا ، وَلِأَنَّهُ آلَةُ إرْهَابِ الْعَدُوِّ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ احْتِرَامًا لَهُ وَلِهَذَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَتِهِ تَقْلِيلَ آلَةِ الْجِهَادِ ، وَحَدِيثُ .
جَابِرٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ .
ثُمَّ قِيلَ : الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ .
وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَأَمَّا لَبَنُهُ فَقَدْ قِيلَ : لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرْبِهِ تَقْلِيلُ آلَةِ الْجِهَادِ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْفَرَسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَالْحَكِيمُ لَا يَتْرُكُ الِامْتِنَانَ بِأَعْلَى النِّعَمِ وَيَمْتَنُّ بِأَدْنَاهَا بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ وَهُوَ فَاسِدٌ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ تَرْكَ أَعْلَى النِّعَمِ وَالذَّهَابَ إلَى مَا دُونَهُ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْأَعْلَى وَالْحَمْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ ) يَعْنِي كَوْنَ الْكَرَاهَةِ لِلتَّحْرِيمِ ( أَصَحُّ ) لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قُلْت فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُك فِيهِ ؟ قَالَ التَّحْرِيمُ وَمَبْنَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ : رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ ، وَهَذَا يُلَوِّحُ إلَى التَّنْزِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُهُ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ ) لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَلَ مِنْهُ حِينَ أُهْدِيَ إلَيْهِ مَشْوِيًّا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ } ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا مِنْ أَكَلَةِ الْجِيَفِ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ

قَالَ ( وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَهُرَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ إلَّا الْآدَمِيَّ وَالْخِنْزِيرَ ) فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِمَا ، أَمَّا الْآدَمِيُّ فَلِحُرْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَالْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ كَمَا فِي الدِّبَاغِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الذَّكَاةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَصْلًا .
وَفِي طَهَارَتِهِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ تَبَعًا وَلَا تَبَعَ بِدُونِ الْأَصْلِ وَصَارَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّيَّالَةِ وَهِيَ النَّجِسَةُ دُونَ ذَاتِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ ، فَإِذَا زَالَتْ طَهُرَ كَمَا فِي الدِّبَاغِ .
وَهَذَا الْحُكْمُ مَقْصُودٌ فِي الْجِلْدِ كَالتَّنَاوُلِ فِي اللَّحْمِ وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ إمَاتَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدِّبَاغِ ، وَكَمَا يَطْهُرُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ شَحْمُهُ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ خِلَافًا لَهُ .
وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ ؟ قِيلَ : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَكْلِ .
وَقِيلَ يَجُوزُ كَالزَّيْتِ إذَا خَالَطَهُ وَدَكُ الْمَيْتَةِ .
وَالزَّيْتُ غَالِبٌ لَا يُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ

قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكَ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِطْلَاقِ جَمِيعِ مَا فِي الْبَحْرِ .
وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ وَالْإِنْسَانَ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَطْلَقَ ذَاكَ كُلَّهُ ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَاحِدٌ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ فَأَشْبَهَ السَّمَكَ .
قُلْنَا : قَوْله تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ .
{ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ دَوَاءٍ يُتَّخَذُ فِيهِ الضُّفْدَعُ } ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السَّرَطَانِ وَالصَّيْدُ الْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ مُبَاحٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ ، وَالْمَيْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا رَوَى مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَكِ وَهُوَ حَلَالٌ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَكْلُ الطَّافِي مِنْهُ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ بِالْحَدِيثِ .
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ .
النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوا ، وَمَا لَفَظَهُ الْمَاءُ فَكُلُوا ، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوا } وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَمَيْتَةُ الْبَحْرِ مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ لِيَكُونَ مَوْتُهُ مُضَافًا إلَى الْبَحْرِ لَا مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكُ ) وَاضِحٌ وَالطَّافِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ طَفَا الشَّيْءُ فَوْقَ الْمَاءِ يَطْفُو إذَا عَلَا ، وَالْمُرَادُ مِنْ السَّمَكِ الطَّافِي الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَيَعْلُو ، وَالْجِرِّيثُ نَوْعٌ مِنْ السَّمَكِ وَالْمَارْمَاهِي كَذَلِكَ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجِرِّيثِ وَالْمَارْمَاهِيِّ وَأَنْوَاعِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ بِلَا ذَكَاةٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ الْجَرَادُ إلَّا أَنْ يَقْطَعَ الْآخِذُ رَأْسَهُ أَوْ يَشْوِيَهُ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْبَرِّ ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ جَزَاءٌ يَلِيقُ بِهِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالْقَتْلِ كَمَا فِي سَائِرِهِ .
وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .
وَسُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهَا الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ فَقَالَ : كُلْهُ كُلَّهُ .
وَهَذَا عُدَّ مِنْ فَصَاحَتِهِ ، وَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، بِخِلَافِ السَّمَكِ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي الطَّافِي ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي السَّمَكِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ بِآفَةٍ يَحِلُّ كَالْمَأْخُوذِ ، وَإِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَا يَحِلُّ كَالطَّافِي ، وَتَنْسَحِبُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَقِفُ الْمُبَرِّزُ عَلَيْهَا : مِنْهَا إذَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَمَاتَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا أُبِينَ وَمَا بَقِيَ .
لِأَنَّ مَوْتَهُ بِآفَةٍ وَمَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ .
وَفِي الْمَوْتِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ رِوَايَتَانِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَقَوْلُهُ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } إلَخْ وَقَوْلُهُ ( وَتَنْسَحِبُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ سَمَكَةً أُخْرَى فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا طَيْرُ الْمَاءِ وَغَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَهَا فِي حَظِيرَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ صَيْدٍ فَمُتْنَ فِيهَا كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُؤْخَذُ بِغَيْرِ صَيْدٍ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ ، وَإِذَا مَاتَتْ السَّمَكَةُ فِي الشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِتَأْكُلَ مِنْهُ فَمَاتَتْ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا ، وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ } ، وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْمَوْتِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ رِوَايَتَانِ ) إحْدَاهُمَا أَنَّهَا تُؤْكَلُ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَكَانَ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ الْمَاءُ عَلَى الْيَبَسِ ، وَالْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الزَّمَانِ وَلَيْسَتَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي الْغَالِبِ ، وَأَطْلَقَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَمْ يَنْسِبْهُمَا لِأَحَدٍ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ ( الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مُوسِرٍ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَعَنْهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ ، ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبَةٌ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الِاخْتِلَافَ .
وَجْهُ السُّنَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا } وَالتَّعْلِيقُ بِالْإِرَادَةِ يُنَافِي الْوُجُوبَ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْمُقِيمِ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَارَ كَالْعَتِيرَةِ .
وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا } وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ ، وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا وَقْتُهَا .
يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ بِالْوُجُودِ ، وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ فِيمَا رُوِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا هُوَ ضِدُّ السَّهْوِ لَا التَّخْيِيرُ .
وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ ، وَهِيَ شَاةٌ تُقَامُ فِي رَجَبٍ عَلَى مَا قِيلَ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالْمِلْكِ ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْحُرُّ ؛ وَبِالْإِسْلَامِ لِكَوْنِهَا قُرْبَةً ، وَبِالْإِقَامَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْيَسَارِ لِمَا رَوَيْنَا

مِنْ اشْتِرَاطِ السَّعَةِ ؛ وَمِقْدَارُهُ مَا يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّوْمِ ، وَبِالْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ ، وَسَنُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَتَجِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي الصَّغِيرِ وَهَذِهِ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ .
وَالْأَصْلُ فِي الْقُرَبِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَنْهُ صَدَقَةُ فِطْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ يُضَحِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُضَحِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَقِيلَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ وَالصَّدَقَةُ بَعْدَهَا تَطَوُّعٌ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ وَيَأْكُلَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعَ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ

( كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ ) أَوْرَدَ الْأُضْحِيَّةَ عَقِيبَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ذَبْحٌ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ ، وَالْأُضْحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ : اسْمُ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَهِيَ أُفْعُولَةٌ وَكَانَ أَصْلُهُ أُضْحُويَةٌ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَتْ الْحَاءُ لِتُنَاسِبَ الْيَاءَ ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَضَاحِيٍّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ : أُضْحِيَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِكَسْرِهَا وَضَحِيَّةٌ بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ كَهَدِيَّةٍ وَهَدَايَا وَأَضْحَاةٌ وَجَمْعُهُ أَضْحَى كَأَرْطَاةَ وَأَرْطَى وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَضْحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى .
وَشَرَائِطُهَا سَتُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ .
وَسَبَبُهَا الْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ ، إذْ الْأَصْلُ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا ، وَكَذَا إذَا لَازَمَهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
ثُمَّ إنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ أُضِيفَ السَّبَبُ إلَى حُكْمِهِ .
يُقَالُ يَوْمُ الْأَضْحَى فَكَانَ كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ ، وَلَا نِزَاعَ فِي سَبَبِيَّةِ ذَلِكَ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْوَقْتِ امْتِنَاعُ التَّقْدِيمِ عَلَيْهِ كَامْتِنَاعِ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا ، لَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الْوَقْتُ سَبَبًا لَوَجَبَ عَلَى الْفَقِيرِ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ ، لِأَنَّ الْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضَ عَدَمُهُ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ أَفَاتَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ

بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ ، فَلَوْ كَانَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَالْخَارِجِ وَاصْطِلَامُ الزَّرْعِ آفَةٌ .
لَا يُقَالُ : أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ إقَامَتِهَا تَمْلِكُ قِيمَةِ مَا يَصْلُحُ لِلْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ تَجِبْ إلَّا بِمِلْكِ النِّصَابِ فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا بِالْمُمْكِنَةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ نَظَرًا إلَى شَرْطِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْغِنَى كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ التَّمْلِيكُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِتْلَافِ كَالْإِعْتَاقِ ، وَالْمُضَحِّي إنْ تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ فَقَدْ حَصَلَ النَّوْعَانِ : أَعْنِي التَّمْلِيكَ وَالْإِتْلَافَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَصَلَ الْأَخِيرُ .
وَأَمَّا حُكْمُهَا فَالْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْوُصُولُ إلَى الثَّوَابِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعُقْبَى قَالَ ( الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَالْجَوَامِعُ اسْمُ كِتَابٍ فِي الْفِقْهِ صَنَّفَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهَا لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي أَدَائِهَا .
وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ يَتَقَرَّبُ بِهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ .
قَوْلُهُ وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي } .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّرْكِ اعْتِقَادًا أَوْ التَّرْكِ أَصْلًا ، فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَصْلًا حَرَامٌ قَدْ تَجِبُ

الْمُقَاتَلَةُ بِهِ ، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْأَذَانِ وَلَا مُقَاتَلَةَ فِي غَيْرِ الْحَرَامِ ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الِاخْتِصَاصُ ( بِالْوُجُودِ ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَضْلًا عَنْ الِاخْتِصَاصِ ( وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ ) لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَيْضًا تُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ يُفْضِي إلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ ، وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ اخْتَصَّ بِأَسْبَابٍ : أَيْ بِشَرَائِطَ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا وَهِيَ تَحْصِيلُ الشَّاةِ وَالِاشْتِغَالُ بِذَبْحِهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ تَعَيَّنَ لَهُ السَّفَرُ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَالسَّفَرُ مُؤَثِّرٌ فِي التَّخْفِيفِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ زِيَادَةِ ثَمَنِ الْمَاءِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الْأُضْحِيَّةِ وَلَا عُشْرَهَا فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَقْوَى حَرَجًا مِنْ زِيَادَةِ ثَمَنِ الْمَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ " فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَرَادَ مِنْ قَصْدِ التَّضْحِيَةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ ، كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فَلْيَتَوَضَّأْ .
قَوْلُهُ ( وَالْعَتِيرَةُ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قِيلَ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ فِي تَفْسِيرِهَا اخْتِلَافًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُوَافِقُ تَفْسِيرَ الْمُصَنِّفِ وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا إذَا وَلَدَتْ النَّاقَةُ أَوْ الشَّاةُ وَذَبَحَ أَوَّلَ وَلَدِهَا فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ ، وَهِيَ

مَنْسُوخَةٌ بِالْأُضْحِيَّةِ .
وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وَبِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ الْفَرْضُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ فَرْضٍ وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " ضَحُّوا " أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ ، وَقَوْلُهُ " فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ " أَيْ طَرِيقَتُهُ ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُمَا كَانَ لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالَةِ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ ) بَيَانٌ لِلشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا .
قَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ { مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ } الْحَدِيثُ .
وَقَوْلُهُ ( سَنُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ ) أَيْ مِقْدَارَ الْوَقْتِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ ) يَعْنِي سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ ) أَيْ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ( وَيَأْكُلَ ) أَيْ الصَّغِيرُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَالِهِ ( مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعَ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ ) كَالْغِرْبَالِ وَالْمُنْخُلِ كَمَا فِي الْجِلْدِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقِيلَ ذَلِكَ

يَصِحُّ فِي جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ ، وَأَمَّا فِي لَحْمِهَا فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ أَوْ يَأْكُلَ .

قَالَ ( وَيَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةً أَوْ يَذْبَحُ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً عَنْ سَبْعَةٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقُرْبَةُ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } .
وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
وَتَجُوزُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَنْ السَّبْعَةِ فَعَمَّنْ دُونَهُمْ أَوْلَى ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبُعِ ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ لِانْعِدَامِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْبَعْضِ ، وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } قُلْنَا : الْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَيِّمُ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ يُؤَيِّدُهُ مَا يُرْوَى " { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } وَلَوْ كَانَتْ الْبَدَنَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ تَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثَلَاثَةُ الْأَسْبَاعِ جَازَ نِصْفُ السُّبُعِ تَبَعًا ، وَإِذَا جَازَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَقِسْمَةُ اللَّحْمِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا جُزَافًا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ

قَالَ ( وَيَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةً ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبُعِ لَا يَجُوزُ ) كَمَا إذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنًا وَبَقَرَةً فَضَحَّيَا بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ السُّبُعِ فَلَمْ يَجُزْ نَصِيبُهَا وَلَا نَصِيبُ الِابْنِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( يَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ وَنِصْفُ سُبُعٍ وَنِصْفُ السُّبُعُ لَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْبَعْضُ لَمْ يَجُزْ الْبَاقِي .
وَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ ) بِأَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا بَعْضُ اللَّحْمِ مَعَ الْأَكَارِعِ وَمَعَ الْآخَرِ الْبَعْضُ مَعَ الْجِلْدِ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ ) لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَمْ يَجُزْ مُجَازَفَةٌ عِنْدَ وُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ .

قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ فِيهَا سِتَّةٌ مَعَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَيُمْنَعُ عَنْ بَيْعِهَا تَمَوُّلًا وَالِاشْتِرَاكُ هَذِهِ صِفَتُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً يَشْتَرِيهَا وَلَا يَظْفَرُ بِالشُّرَكَاءِ وَقْتَ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُمْ بَعْدَهُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةً فَجَوَّزْنَاهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ لِلتَّضْحِيَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الْخِلَافِ ، وَعَنْ صُورَةِ الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاشْتِرَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِمَا بَيَّنَّاوَقَوْلُهُ ( وَقَدْ أَمْكَنَ ) يَعْنِي دَفْعَ الْحَرَجِ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ لِلتَّضْحِيَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً ثُمَّ بَاعَهَا وَاشْتَرَى مِثْلَهُ لَمْ يَكُنْ بَأْسٌ .
( وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) أَرُدُّ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ بَيْعِهَا إلَى آخِرِهِ .

قَالَ ( وَلَيْسَ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْمُسَافِرِ أُضْحِيَّةٌ ) لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ إذَا كَانَا مُسَافِرَيْنِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ : وَلَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ جُمُعَةٌ وَلَا أُضْحِيَّةٌ

قَالَ ( وَوَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ) ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الذَّبْحُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْعِيدَ ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَيَذْبَحُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ ذَبَحَ شَاةً قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ ذَبِيحَتَهُ ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ } غَيْرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْمِصْرِيُّ دُونَ أَهْلِ السَّوَادِ ، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِاحْتِمَالِ التَّشَاغُلِ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْقَرَوِيِّ وَلَا صَلَاةَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي نَفْيِهِمَا الْجَوَازَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ نَحْرِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَكَانُ الْأُضْحِيَّةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي السَّوَادِ وَالْمُضَحِّي فِي الْمِصْرِ يَجُوزُ كَمَا انْشَقَّ الْفَجْرُ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ .
وَحِيلَةُ الْمِصْرِيِّ إذَا أَرَادَ التَّعْجِيلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إلَى خَارِجِ الْمِصْرِ فَيُضَحِّيَ بِهَا كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي الصَّرْفِ مَكَانُ الْمَحَلِّ لَا مَكَانُ الْفَاعِلِ اعْتِبَارًا بِهَا ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِوَقَوْلُهُ ( وَمَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ " وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ " فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ نَحْرِ الْإِمَامِ وَمَا بَعْدَهُ .

وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ ، حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِهَا أَجْزَأَتْهُمْ وَكَذَا عَلَى عَكْسِهِ .
وَقِيلَ هُوَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًاوَقَوْلُهُ ( وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ ) مَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَقَوْلُهُ ( أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ وَهُوَ جَائِزٌ ) أَيْ الْعَكْسُ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْعِيدِ هُوَ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ ، وَأَهْلُ الْجَبَّانَةِ هُمْ الْأَصْلُ وَقَدْ صَلَّوْا فَيَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا

قَالَ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا أَيَّامُ ذَبْحٍ } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَقَدْ قَالُوهُ سَمَاعًا لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَهْتَدِي إلَى الْمَقَادِيرِ ، وَفِي الْأَخْبَارِ تَعَارُضٌ فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْأَقَلُّ ، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا كَمَا قَالُوا وَلِأَنَّ فِيهِ مُسَارَعَةً إلَى أَدَاءِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا لِمُعَارِضٍ .
وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ ، وَالْكُلُّ يَمْضِي بِأَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا نَحْرٌ لَا غَيْرُ وَآخِرُهَا تَشْرِيقٌ لَا غَيْرُ ، وَالْمُتَوَسِّطَانِ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ ، وَالتَّضْحِيَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهَا تَقَعُ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً ، وَالتَّصَدُّقُ تَطَوُّعٌ مَحْضٌ فَتَفْضُلُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا ، وَالصَّدَقَةُ يُؤْتَى بِهَا فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ

قَالَ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيهَا ) أَيْ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ الْمُرَادُ بِهَا اللَّيْلَتَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ لَا غَيْرُ ، فَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا لَيْلَةُ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، لِأَنَّ وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ ، وَيَفُوتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ ، فَلَا يَجُوزُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ أَلْبَتَّةَ لِوُقُوعِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَلَا فِي لَيْلَةِ التَّشْرِيقِ الْمَحْضِ لِخُرُوجِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَتْ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلْأَيَّامِ ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّضْحِيَةُ فِيهَا ) أَيْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ( أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ ) أَمَّا فِي حَقِّ الْمُوسِرِ فَلِأَنَّهَا تَقَعُ وَاجِبَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَوْ سُنَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالتَّصَدُّقُ بِالثَّمَنِ تَطَوُّعٌ مَحْضٌ ، وَلَا شَكَّ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْوَاجِبِ أَوْ السُّنَّةِ عَلَى التَّطَوُّعِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ فَلِأَنَّ فِيهَا جَمْعًا بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَالتَّصَدُّقُ وَالْإِرَاقَةُ قُرْبَةٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَفْضَلُ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَتَشْبِيهُهُ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الطَّوَافَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ لِفَوَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ الَّتِي لَا تَفُوتُ ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ

( وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ .
وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ عِنْدَنَا ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا ، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً( لَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ ) بِأَنْ عَيَّنَ شَاةً فَقَالَ : لِلَّهِ عَلِيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِبُ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا ( أَوْ كَانَ ) الْمُضَحِّي ( فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً وَإِنْ كَانَ ) مَنْ لَمْ يُضَحِّ ( غَنِيًّا ) وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ شَاةً بِعَيْنِهَا ( تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ ) عَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا ( وَعَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ عِنْدَنَا فَإِذَا فَاتَ وَقْتُ التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ ) وَالْحَقُّ مُسْتَحَقٌّ ( وَجَبَ التَّصَدُّقُ ) بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ ( إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا ، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً ) وَالْجَامِعُ بَيْنُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ بِجِنْسٍ خِلَافُ الْأَدَاءِ .

قَالَ : ( وَلَا يُضَحِّي بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى الْمَنْسِكِ وَلَا الْعَجْفَاءِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا أَرْبَعَةٌ : الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرْجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي } قَالَ ( وَلَا تُجْزِئُ مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ ) .
أَمَّا الْأُذُنُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } أَيْ اُطْلُبُوا سَلَامَتَهُمَا .
وَأَمَّا الذَّنَبُ فَلِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ فَصَارَ كَالْأُذُنِ .
قَالَ ( وَلَا الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا وَذَنَبِهَا ، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ جَازَ ) لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا وَلِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ عَفْوًا ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ .
فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ : وَإِنْ قُطِعَ مِنْ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْأَلْيَةِ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الثُّلُثَ تَنْفُذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ فَاعْتُبِرَ قَلِيلًا ، وَفِيمَا زَادَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَاعْتُبِرَ كَثِيرًا ، وَيُرْوَى عَنْهُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ يَحْكِي حِكَايَةَ الْكَمَالِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ ، وَيُرْوَى الثُّلُثُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْوَصِيَّةِ " { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَخْبَرْت بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ ، فَقَالَ قَوْلِي هُوَ قَوْلُك .
قِيلَ هُوَ رُجُوعٌ مِنْهُ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِك .
وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا رِوَايَتَانِ عَنْهُمَا

كَمَا فِي انْكِشَافِ الْعُضْوِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مُتَيَسَّرٌ ، وَفِي الْعَيْنِ قَالُوا : تُشَدُّ الْعَيْنُ الْمَعِيبَةُ بَعْدَ أَنْ لَا تَعْتَلِفَ الشَّاةُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُقَرَّبُ الْعَلَفُ إلَيْهَا قَلِيلًا قَلِيلًا ، فَإِذَا رَأَتْهُ مِنْ مَوْضِعٍ أُعْلِمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ تُشَدُّ عَيْنُهَا الصَّحِيحَةُ وَقُرِّبَ إلَيْهَا الْعَلَفُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا رَأَتْهُ مِنْ مَكَان أُعْلِمَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ ثُلُثًا فَالذَّاهِبُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَالنِّصْفُقَالَ ( وَلَا يُضَحَّى بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ ) هَذَا بَيَانُ مَا لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ مَانِعٌ وَالْيَسِيرَ غَيْرُ مَانِعٍ ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ يَسِيرِ الْعَيْبِ ، وَالْيَسِيرُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي لَحْمِهَا ، وَلِلْعَوَرِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَلَفِ مَا يُبْصِرُ بِعَيْنَيْنِ ، وَقِلَّةُ الْعَلَفِ تُورِثُ الْهُزَالَ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ .
وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا : هِيَ مَا لَا يُمْكِنُهَا الْمَشْيُ بِرِجْلِهَا الْعَرْجَاءِ ، وَإِنَّمَا تَمْشِي بِثَلَاثِ قَوَائِمَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَضَعُ الرَّابِعَةَ عَلَى الْأَرْضِ وَتَسْتَعِينُ بِهَا جَازَ .
وَالْعَجْفَاءُ : الَّتِي لَا تُنَقَّى : هِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا نِقًى : أَيْ مُخٌّ مِنْ شِدَّةِ الْعَجَفِ ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِك ) أَيْ قَوْلِي الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مَانِعٌ لَا مَا دُونَهُ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِك الَّذِي هُوَ أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ إذَا بَقِيَ أَجْزَأَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الرُّبُعَ أَوْ الثُّلُثَ مَانِعٌ .
وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فِي الْكَشَّافِ الْعُضْوُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ ) وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ ، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ لِمَا قُلْنَا ( وَالْخَصِيِّ ) لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ وَقَدْ صَحَّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ } ( وَالثَّوْلَاءِ ) وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ لَا تَعْتَلِفُ فَلَا تُجْزِئُهُ .
وَالْجَرْبَاءُ إنْ كَانَتْ سَمِينَةً جَازَ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْجِلْدِ وَلَا نُقْصَانَ فِي اللَّحْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي اللَّحْمِ فَانْتَقَصَ .
وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْأَسْنَانِ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ ، وَعَنْهُ إنْ بَقِيَ مَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِلَافُ بِهِ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .
وَالسَّكَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا خِلْقَةً لَا تَجُوزُ ، لِأَنَّ مَقْطُوعَ أَكْثَرِ الْأُذُنِ إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ فَعَدِيمُ الْأُذُنِ أَوْلَىوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودُ ) أَلَا تَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْإِبِلِ جَائِزَةٌ وَلَا قَرْنَ لَهُ ، وَالْكَبْشُ الْأَمْلَحُ مَا فِيهِ مُلْحَةٌ ، وَهِيَ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ شُعَيْرَاتٌ سُودٌ .
وَالْوَجْءُ نَوْعٌ مِنْ الْخِصَاءِ ، وَهُوَ أَنْ تُرَضَّ الْعُرُوقُ مِنْ غَيْرِ إخْرَاجِ الْخُصْيَتَيْنِ .

( وَهَذَا ) الَّذِي ذَكَرْنَا ( إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ قَائِمَةً وَقْتَ الشِّرَاءِ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا سَلِيمَةً ثُمَّ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ مَانِعٍ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَلَيْهِ غَيْرُهَا ، وَإِنْ فَقِيرًا تُجْزِئُهُ هَذِهِ ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا بِالشِّرَاءِ فَلَمْ تَتَعَيَّنْ بِهِ ، وَعَلَى الْفَقِيرِ بِشِرَائِهِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِهِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا : إذَا مَاتَتْ الْمُشْتَرَاةُ لِلتَّضْحِيَةِ ؛ عَلَى الْمُوسِرِ مَكَانَهَا أُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ ، وَلَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ فَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ ظَهَرَتْ الْأُولَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى الْمُوسِرِ ذَبْحُ إحْدَاهُمَا وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا ( وَلَوْ أَضْجَعَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ حَالَةَ الذَّبْحِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مُلْحَقَةٌ بِالذَّبْحِ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ اعْتِبَارًا وَحُكْمًا ( وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَانْفَلَتَتْ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْ فَوْرِهِ ، وَكَذَا بَعْدَ فَوْرِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ) لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ .

وَقَوْلُهُ ( فَتَعَيَّنَتْ ) يَعْنِي هَذِهِ الشَّاةَ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ ) فَإِنَّهُ إذَا نَقَصَ بَعْدَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَحِلَّ الْوُجُوبِ فِيهِمَا جَمِيعًا الْمَالُ لَا الذِّمَّةُ ، فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ سَقَطَ الْوُجُوبُ ( وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ ) يَعْنِي كَوْنَ الْوُجُوبِ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشِّرْعَةِ لَا بِالشِّرَاءِ وَعَلَى الْفَقِيرِ بِالْعَكْسِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ وَقَدْ تَعَدَّدَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْأَصْلِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ مُوسِرًا لَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَجِبُ .
وَرَوَى الزَّعْفَرَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ وَهُوَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ .
وَقَوْلُهُ ( فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا ) مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ ، فَإِنَّهُ إذَا أَصَابَهَا مَانِعٌ غَيْرُ الِانْكِسَارِ بِالِاضْطِرَابِ حَالَةَ الْإِضْجَاعِ لِلذَّبْحِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْإِجْزَاءُ بِالِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّ تَأْدِي الْوَاجِبِ بِالتَّضْحِيَةِ لَا بِالْإِضْجَاعِ وَهِيَ مَعِيبَةٌ عِنْدَهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ قَبْلَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ ) دَلِيلُ مُحَمَّدٍ .
وَدَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْفَوْرَ لَمَّا انْقَطَعَ خَرَجَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَيَّنَتْ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الذَّبْحِ الَّذِي وُجِدَ بَعْدَ الْفَوْرِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا حَصَلَ بِفِعْلٍ آخَرَ .

قَالَ ( وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ) لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا وَلَمْ تُنْقَلْ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ ( وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا .
إلَّا الضَّأْنَ فَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْهُ يُجْزِئُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يُعْسِرَ عَلَى أَحَدِكُمْ فَلْيَذْبَحْ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ } قَالُوا : وَهَذَا إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ خُلِطَتْ بِالثُّنْيَانِ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ .
وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ ، وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ .
وَالثَّنِيُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَعَزِ سَنَةٌ ، وَمِنْ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَتَيْنِ ، وَمِنْ الْإِبِلِ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَقَرِ الْجَامُوسُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ يَتْبَعُ الْأُمَّ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ ، حَتَّى إذَا نَزَا الذِّئْبُ عَلَى الشَّاةِ يُضَحَّى بِالْوَلَدِ .قَالَ ( وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الْجَذَعُ مِنْ الشِّيَاهِ مَا تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ الْفَحْلِ هُوَ الْمَاءُ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَحِلٍّ لِهَذَا الْحُكْمِ ، وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ الْأُمِّ هُوَ الْحَيَوَانُ وَهُوَ مَحِلٌّ لَهُ فَاعْتُبِرَ بِهَا

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى سَبْعَةٌ بَقَرَةً لِيُضَحُّوا بِهَا فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ النَّحْرِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ اذْبَحُوهَا عَنْهُ وَعَنْكُمْ أَجْزَأَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ شَرِيكُ السِّتَّةِ نَصْرَانِيًّا أَوْ رَجُلًا يُرِيدُ اللَّحْمَ لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ) وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ تَجُوزُ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَلَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْكُلِّ الْقُرْبَةَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهَا كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ عِنْدَنَا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ عَنْ الْغَيْرِ عُرِفَتْ قُرْبَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى عَنْ أَمَتِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَكَذَا قَصْدُ اللَّحْمِ يُنَافِيهَا .
وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْبَعْضُ قُرْبَةً وَالْإِرَاقَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْقُرْبَةِ لَمْ يَقَعْ الْكُلُّ أَيْضًا فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ الْمَيِّتِ ، لَكِنَّا نَقُولُ : الْقُرْبَةُ قَدْ تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ كَالتَّصَدُّقِ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ ( فَلَوْ ذَبَحُوهَا عَنْ صَغِيرٍ فِي الْوَرَثَةِ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ جَازَ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ ( وَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَذَبَحَهَا الْبَاقُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ لَا تُجْزِيهِمْ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْضُهَا قُرْبَةً ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ وُجِدَ الْإِذْنُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَكَانَ قُرْبَةً .

قَوْلُهُ ( لَكِنْ مِنْ شَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِالْكُلِّ الْقُرْبَةَ ) لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : النَّصُّ وَرَدَ فِي الْأُضْحِيَّةِ فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَاتِ الْقُرَبِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ ؟ قُلْنَا : اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ زُفَرُ وَلَمْ يُجَوِّزْ عِنْدَ اخْتِلَافِهَا .
لَكِنَّا نَقُولُ : إذَا كَانَتْ الْجِهَاتُ قُرَبًا اتَّحَدَ مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا قُرْبَةً فَجَازَ الْإِلْحَاقُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا غَيْرَ قُرْبَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا ، وَإِذَا بَطَلَ فِي ذَلِكَ بَطَلَ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ ) يُشِيرُ إلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَتَجَزَّأُ ، وَبَعْضُ الْإِرَاقَةِ وَقَعَ نَفْلًا أَوْ لَحْمًا فَصَارَ الْكُلُّ كَذَلِكَ ، وَلَمْ يُعْكَسْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ يَنْقَلِبُ تَطَوُّعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَالْإِرَاقَةُ قَدْ تَصِيرُ لِلَحْمٍ مَعَ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ إذَا لَمْ تُصَادِفْ مَحِلَّهَا أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَالْإِرَاقَةُ لِلَحْمٍ لَا تَصِيرُ قُرْبَةً بِحَالٍ .

قَالَ ( وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَيُطْعِمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيَدَّخِرُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا } وَمَتَى جَازَ أَكْلُهُ وَهُوَ غَنِيٌّ جَازَ أَنْ يُؤَكِّلَهُ غَنِيًّاوَقَالَ ( وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ إلَخْ ) الْأُضْحِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْذُورَةً أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهَا وَلَا أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ لِأَنَّ سَبِيلَهَا التَّصَدُّقُ ، وَلَيْسَ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَدَقَتِهِ ، وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ .

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّدَقَةَ عَنْ الثُّلُثِ ) لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثَةٌ : الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَالْإِطْعَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًاوَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا } وَالْقَانِعُ : هُوَ السَّائِلُ ، مِنْ الْقَنُوعِ لَا مِنْ الْقَنَاعَةِ ، وَالْمُعْتَرُّ : هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَلَا يَسْأَلُ .

قَالَ ( وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا ( أَوْ يَعْمَلُ مِنْهُ آلَةً تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ ) كَالنِّطْعِ وَالْجِرَابِ وَالْغِرْبَالِ وَنَحْوِهَا ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَائِهِ ) اسْتِحْسَانًا ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ ، ( وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَالْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ ) اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ ، وَاللَّحْمُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ فِي الصَّحِيحِ ، فَلَوْ بَاعَ الْجِلْدَ أَوْ اللَّحْمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ انْتَقَلَتْ إلَى بَدَلِهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ } يُفِيدُ كَرَاهَةَ الْبَيْعِ ، الْبَيْعُ جَائِزٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِوَقَوْلُهُ ( كَالْخَلِّ ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ ( وَالْأَبَازِيرُ ) التَّوَابِلُ جَمْعُ أَبْزَارٍ بِالْفَتْحِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازًا عَمَّا قَبْلُ إنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّحْمِ إلَّا الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ ، فَلَوْ بَاعَ بِشَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إنَّ اللَّحْمَ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ ، إنْ بَاعَهُ بِشَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ جَازَ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِاللَّحْمِ ثَوْبًا فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْقُرْبَةَ انْتَقَلَتْ إلَى بَدَلِهِ ) لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْبَدَلِ مِنْ حَيْثُ التَّمَوُّلِ سَاقِطٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جِهَةُ الْقُرْبَةِ وَسَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ .

قَالَ ( وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا شَيْئًا } وَالنَّهْيُ عَنْهُ نَهْيٌ عَنْ الْبَيْعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إقَامَةَ الْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ أُقِيمَتْ الْقُرْبَةُ بِهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَ لَبَنَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ كَمَا فِي الصُّوفِ .

قَالَ ( وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحَ ) وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ ، وَإِذَا اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ }قَوْلُهُ ( مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ ) ، تَمَامُ الْحَدِيثِ { أَمَّا أَنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِك وَسَبْعُونَ ضَعْفًا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَالْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً } .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا الْكِتَابِيُّ ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ قُرْبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَلَوْ أَمَرَهُ فَذَبَحَ جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ ، وَالْقُرْبَةُ أُقِيمَتْ بِإِنَابَتِهِ وَنِيَّتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ الْمَجُوسِيَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فَكَانَ إفْسَادًا .

قَالَ ( وَإِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ ، وَهُوَ قَوْلُنَا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ ، كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا فَصَارَ الْمَالُ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَعَسَاهُ يَعْجَزُ عَنْ إقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ فَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : يَفُوتُهُ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْهَدَ الذَّبْحَ فَلَا يَرْضَى بِهِ .
قُلْنَا : يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مُسْتَحَبَّانِ آخَرَانِ ، صَيْرُورَتُهُ مُضَحِّيًا لِمَا عَيَّنَهُ ، وَكَوْنُهُ مُعَجِّلًا بِهِ فَيَرْتَضِيهِ ، وَلِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَسَائِلُ اسْتِحْسَانِيَّةٌ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ طَبَخَ لَحْمَ غَيْرِهِ أَوْ طَحَنَ حِنْطَتَهُ أَوْ رَفَعَ جَرَّتَهُ فَانْكَسَرَتْ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَعَطِبَتْ كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ ضَامِنًا ، وَلَوْ وَضَعَ الْمَالِكُ اللَّحْمَ فِي الْقِدْرِ وَالْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَالْحَطَبَ تَحْتَهُ ، أَوْ جَعَلَ الْحِنْطَةَ فِي الدَّوْرَقِ وَرَبَطَ الدَّابَّةَ عَلَيْهِ ، أَوْ رَفَعَ الْجَرَّةَ وَأَمَالَهَا إلَى نَفْسِهِ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَسَقَطَ فِي الطَّرِيقِ ، فَأَوْقَدَ هُوَ النَّارَ فِيهِ وَطَبَخَهُ ، أَوْ سَاقَ الدَّابَّةَ فَطَحَنَهَا ، أَوْ أَعَانَهُ عَلَى رَفْعِ الْجَرَّةِ فَانْكَسَرَتْ

فِيمَا بَيْنَهُمَا ، أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ مَا سَقَطَ فَعَطِبَتْ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ : ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَرِيحًا فَهِيَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ بِعَيْنِهَا وَيَتَأَتَّى فِيهَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَةً مِنْ صَاحِبِهِ ، وَلَا يُضَمِّنُهُ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِيمَا فَعَلَ دَلَالَةً ، فَإِذَا كَانَا قَدْ أَكَلَا ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِيهِمَا ، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَا لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِنْ ، تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ اللَّحْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ عَنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُوَقَوْلُهُ ( حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُضَحِّي فَقِيرًا ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ غَنِيًّا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَكَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ ) يَعْنِي لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ وَاشْتَرَى بِقِيمَتِهَا غَيْرَهَا ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَهَا انْتَقَصَ مِنْ الْأُولَى تَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا كُلِّهِ .

وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَشَاحَّا : يَعْنِي إنْ تَشَاحَّا عَنْ التَّحْلِيلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ .
وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ .

( وَمَنْ غَصَبَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَجَازَ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ ) لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِسَابِقِ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُودِعَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا لِأَنَّهُ يُضَمِّنُهُ بِالذَّبْحِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِسَابِقِ الْغَصْبِ ) يَعْنِي فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ وَارِدَةً عَلَى مِلْكِهِ ، وَهَذَا يَكْفِي فِي التَّضْحِيَةِ .
لَا يُقَالُ : الِاسْتِنَادُ يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ وَالتَّضْحِيَةُ بِالْإِرَاقَةِ وَالْإِرَاقَةُ قَدْ فَاتَتْ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْمُضَحِّي ، لِأَنَّا نَقُولُ : الْإِرَاقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْمَمْلُوكِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صِفَةً لِلشَّاةِ لِيَصِحَّ أَنْ يُقَالَ يَظْهَرُ الِاسْتِنَادُ فِيهَا أَوْ لَا يَظْهَرُ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ وَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَكُونُ الْإِرَاقَةُ وَالتَّضْحِيَةُ وَاقِعَةً عَلَى مِلْكِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ ) : قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصًّا أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ مِنْهَا ( فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) : ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ لُحُومُ الْأُتُنِ وَأَلْبَانُهَا وَأَبْوَالُ الْإِبِلِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ ) وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلتَّدَاوِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا ، وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُكِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ ) أَوْرَدَ الْكَرَاهِيَةَ بَعْدَ الْأُضْحِيَّةِ ، لِأَنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ لَمْ تَخْلُ مِنْ مُتَأَصِّلٍ أَوْ فَرْعٍ تَرِدُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ ، أَلَا يُرَى أَنَّ فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَفِي التَّصَرُّفِ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ وَفِي إقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ كَيْفَ تَحَقَّقَتْ الْكَرَاهَةُ ، وَفِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) : قَوْلُهُ ( وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ ) يَرِدُ عَلَيْهِ لَبَنُ الْخَيْلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ حَيْثُ جَعَلَ لَبَنَهُ حَلَالًا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ وَأَكْلَ لَحْمِهِ مُحَرَّمًا مَعَ أَنَّ لَبَنَ الْخَيْلِ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَيْدٍ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ عَدَمُ تَقْلِيلِ آلَةِ الْجِهَادِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي اللَّبَنِ فَكَانَ شُرْبُهُ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالِادِّهَانُ وَالتَّطَيُّبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ { إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } { وَأُتِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَرَابٍ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ : نَهَانَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الشُّرْبِ فَكَذَا فِي الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِزِيِّ الْمُشْرِكِينَ وَتَنَعُّمٌ بِنِعَمِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُسْرِفِينَ ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : يُكْرَهُ وَمُرَادُهُ التَّحْرِيمُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِرْآةِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } " قِيلَ مَعْنَاهُ : يُرَدِّدُ ، مِنْ جَرْجَرَ الْفَحْلُ : إذَا رَدَّدَ صَوْتَهُ فِي حَنْجَرَتِهِ ، وَنَارًا مَنْصُوبٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ الثِّقَاتِ ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ) أَيْ لِأَنَّ الِادِّهَانَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ مِنْهَا ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اسْتِعْمَالٌ لَهَا وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ .
قِيلَ صُورَةُ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَيَصُبَّ الدُّهْنَ عَلَى الرَّأْسِ ، وَأَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ ثُمَّ صَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ لَا يُكْرَهُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَأَرَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ .
الْمُضَبَّبُ الْمَشْدُودُ بِالضِّبَابِ جَمْعُ ضَبَّةٍ ، وَهِيَ حَدِيدَةٌ عَرِيضَةٌ .
وَالْمِشْحَذُ : الْمِسَنُّ .
وَالثُّفْرُ : مَا يُجْعَلُ تَحْتَ ذَنَبِ الدَّابَّةِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ آنِيَةِ الرَّصَاصِ وَالزُّجَاجِ وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي التَّفَاخُرِ بِهِ .
قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ التَّفَاخُرُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ الشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرُّكُوبُ عَلَى السَّرْجِ الْمُفَضَّضِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الْمُفَضَّضِ وَالسَّرِيرِ الْمُفَضَّضِ إذَا كَانَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ ) وَمَعْنَاهُ : يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفَمِ ، وَقِيلَ هَذَا وَمَوْضِعُ الْيَدِ فِي الْأَخْذِ وَفِي السَّرِيرِ وَالسَّرْجِ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُكْرَهُ ذَلِكَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ يُرْوَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُرْوَى مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكُرْسِيُّ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا ، وَكَذَا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَالْمِشْحَذِ وَحَلْقَةِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ جَعَلَ الْمُصْحَفَ مُذَهَّبًا أَوْ مُفَضَّضًا ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثَّفْرِ إذَا كَانَ مُفَضَّضًا ، وَكَذَا الثَّوْبُ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَلَى هَذَا ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْلُصُ ، فَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي لَا يَخْلُصُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ مُسْتَعْمِلَ جُزْءٍ مِنْ الْإِنَاءِ مُسْتَعْمِلَ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَيُكْرَهُ ، كَمَا إذَا اسْتَعْمَلَ مَوْضِعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّوَابِعِ فَلَا يُكْرَهُ .
كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ وَمِسْمَارِ الذَّهَبِ فِي الْفَصِّ .

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّوَابِعِ ) حُكِيَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَعَتْ فِي دَارِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَانِقِيِّ بِحَضْرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَئِمَّةِ عَصْرِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَقَالَتْ الْأَئِمَّةُ : يُكْرَهُ ، فَقِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ : مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ : إنْ وَضَعَ فَمَه عَلَى الْفِضَّةِ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا ، فَقِيلَ لَهُ : مَا الْحُجَّةُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ فِضَّةٌ فَشَرِبَ مِنْ كَفِّهِ أَيُكْرَهُ ؟ فَوَقَفَ كُلُّهُمْ وَتَعَجَّبَ أَبُو جَعْفَرٍ .

قَالَ ( وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا أَوْ خَادِمًا فَاشْتَرَى لَحْمًا فَقَالَ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ وَسِعَهُ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ يُعْتَقَدُ فِيهِ حُرْمَةُ الْكَذِبِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى قَبُولِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ ( وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ) مَعْنَاهُ : إذَا كَانَ ذَبِيحَةَ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يَقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ وَالصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ ، وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُمْ اسْتِصْحَابُ الشُّهُودِ عَلَى الْإِذْنِ عِنْدَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُبَايَعَةِ فِي السُّوقِ ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ بَعَثَنِي مَوْلَايَ إلَيْك هَدِيَّةً وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا ( قَالَ وَيُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إلَّا قَوْلُ الْعَدْلِ ) .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِيمَا بَيْنَ أَجْنَاسِ النَّاسِ ، فَلَوْ شَرَطْنَا شَرْطًا زَائِدًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهَا عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا عَبْدًا أَوْ حُرًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
أَمَّا الدِّيَانَاتُ فَلَا يَكْثُرُ وُقُوعُهَا حَسَبِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا زِيَادَةَ شَرْطٍ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا قَوْلُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ وَالْكَافِرَ لَا يَلْتَزِمُ الْحُكْمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْلِمَ ، بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47