كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ لِلْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ وَشَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِأَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ حِينَئِذٍ ، وَكَذَا إذَا رَأَى شَخْصَ الْمُقِرِّ حَالَ الْإِقْرَارِ لِرِقَّةِ الْحِجَابِ ، وَلَيْسَتْ رُؤْيَةُ الْوَجْهِ شَرْطًا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ .

( وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ ( وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ ) لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ وَإِنَّمَا حَمَلَ غَيْرَهُ .

قَالَ ( وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ إلَخْ ) النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشَّهَادَةِ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ ( مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ مَا لَمْ يَشْهَدْ ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ) أَيْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ ( مُوجِبَةٌ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ) وَلَا يَكُونُ النَّقْلُ إلَّا بِالْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ .
وَالْأَوَّلُ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ وَلَا تَوْكِيلَ إلَّا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، وَالثَّانِي إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَاهُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّحْمِيلِ .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْفُرُوعِ ، لَكِنَّ تَحَمُّلَهُمْ إنَّمَا يَصِحُّ بِعِيَانِ مَا هُوَ حُجَّةٌ ، وَالشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَيَجِبُ النَّقْلُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّحْمِيلَ حَصَلَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ النَّقْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّحْمِيلِ ، وَفِيهِ مُطَالَبَةٌ ؛ لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ النَّقْلَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَكِنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى التَّحْمِيلِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ ، فَلَوْ سَلَكْنَا فِيهِ أَنْ نَقُولَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ تَحْمِيلٌ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهَا إلَّا ذَلِكَ ، وَلَا تَحْمِيلَ فِيمَا لَا يَشْهَدُ ثَمَّ الْبَيَانُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ؛ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَإِنَّمَا حَمَّلَ غَيْرَهُ .

وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ .
قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ .
وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ قَضِيَّتَهُ ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي قِمْطَرِهِ فَهُوَ تَحْتَ خَتْمِهِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَذَكَّرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ .

قَالَ ( وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ إلَخْ ) الشَّاهِدُ إذَا رَأَى خَطَّهُ فِي صَكٍّ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ( ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ ) وَالْمُشْتَبَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا تَقَدَّمَ ( قِيلَ : هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْخَطِّ وَيُشْتَرَطُ الْحِفْظُ ، وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِاشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْحِفْظِ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ ( وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ ) رُخْصَةً ( وَقِيلَ هَذَا ) أَيْ عَدَمُ حِلِّ الشَّهَادَةِ ( بِالِاتِّفَاقِ ) وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَةَ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَاشْتَبَهَ فِي قِمْطَرِهِ أَيْ خَرِيطَتِهِ وَجَاءَ الْمَشْهُودُ لَهُ يَطْلُبُ الْحُكْمَ وَلَمْ يَحْفَظْهُ الْحَاكِمُ ( أَوْ قَضِيَّتَهُ ) أَيْ وَجَدَ حُكْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَرِيطَتِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَهُمَا جَوَّزَاهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ وَلِهَذَا يَكْتُبُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذْ جَازَ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ الَّذِي لَيْسَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ فِي قِمْطَرِهِ تَحْتَ خَتْمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُغَيِّرَةٌ ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ ( وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا ) الِاخْتِلَافِ ( إذَا ذَكَرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِمْ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ ) فَإِنَّهُ قِيلَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقِيلَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَّاصٌ مِنْ النَّاسِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ .
وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ ، وَلَا كَذَلِكَ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ .
أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ ، ثُمَّ إذَا فَسَّرَ لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كَوْنِهِ قَاضِيًا وَكَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ كَمَا إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ .
وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ

عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَلَاءُ يُبْتَنَى عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي أَصْلِهِ دُونَ شَرَائِطِهِ ، لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِلْمَ شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ( فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ ) بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ( وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ ) أَيْ الْمُشَاهَدَةِ وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُشَاهَدَةُ تَكُونُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ ( وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ بِالسَّمَاعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ ( وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ ) الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ لَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّهَا ( أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ ) لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا هُمْ ( وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ ) كَالْإِرْثِ فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي وَكَمَالِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالنَّسَبِ فِي الدُّخُولِ ( فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى ذَلِكَ ) وَهُوَ بَاطِلٌ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الِاسْتِحْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ فَإِنَّ الْعِلْمَ مَشْرُوطٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا عِلْمَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا عِلْمَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ ( أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ التَّوَاتُرُ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي

الْكِتَابِ ) وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَدَ فِيمَنْ يَثِقُ بِهِ شَرْطٌ وَهُوَ ( أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامَّةِ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الْخَبَرِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الشُّهْرَةُ عِنْدَهُمَا بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا قَالُوا ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ عِلْمٍ شَرْعًا لَا يُوجِبُهَا لَفْظُ الْخَبَرِ ( وَقِيلَ يُكْتَفَى فِي الْمَوْتِ بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ ) فَرَّقُوا جَمِيعًا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ : أَيْ النِّكَاحِ وَالْوِلَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْإِمَامِ الْقَضَاءَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ ، أَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ ، وَالْوِلَادَةُ فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فِي الْغَالِبِ ، وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ الْإِمَامِ لِلْقَضَاءِ .
وَأَمَّا الْمَوْتُ ( فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ ) بِخِلَافِ النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ ( وَقَوْلُهُ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ ) بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ فَيَقُولَ فِي النَّسَبِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ كَمَا يَشْهَدُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنَا أَبِي قُحَافَةَ وَالْخَطَّابِ وَلَمْ يُشَاهِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ( فَأَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ وَإِذَا فَسَّرَ ) بِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْهَدُ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي يَدِهِ ( لَا تُقْبَلُ كَذَلِكَ هَذَا ، وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِكَوْنِهِ قَاضِيًا ) وَإِنْ لَمْ

يُعَايِنْ تَقْلِيدَ الْإِمَامِ إيَّاهُ ( وَإِذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ ) جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ ، فَإِنْ سَأَلَهُ الْقَاضِي هَلْ كُنْت حَاضِرًا ؟ فَقَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ كَمَا يَشْهَدُ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى .
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَمْ يُعَايِنْ الْعَقْدَ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ بِهِ بِالتَّسَامُعِ ، وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ ؛ لِأَنِّي سَمِعْت لَا تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا ( وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْفَنُ إلَّا الْمَيِّتُ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَنْ نَثِقُ بِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا هُوَ الْأَصَحُّ .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الدُّخُولِ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مَشْهُورَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي عَدَمِ قَبُولِهَا حَرَجٌ وَتَعْطِيلٌ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ ) بَيَانُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّسَامُعِ هَلْ هِيَ مَحْصُورَةٌ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَحْصُورَةٌ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } ) وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِالتَّسَامُعِ جَائِزَةٌ كَمَا مَرَّ فَكَذَا عَلَى الْوَلَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ ذَلِكَ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ ) .

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَاءَ يَبْتَنِي عَلَى إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ النَّاسُ وَلَيْسَ كَالْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إقَامَةِ التَّسَامُعِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعِتْقِ بِالتَّسَامُعِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْوَقْفُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ مُطْلَقًا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تُقْبَلُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ دُونَ شَرَائِطِهِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْجِهَةِ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وُقِفَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ ) لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ .
قَالُوا : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى الِاتِّفَاقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ .
قُلْنَا : وَالتَّصَرُّفُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا إلَى نِيَابَةٍ وَأَصَالَةٍ .
ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ عَايَنَ الْمَالِكُ الْمِلْكَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَكَذَا إذَا عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ دُونَ الْمَالِكِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْهَا أَوْ عَايَنَ الْمَالِكَ دُونَ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ .

قَالَ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إلَخْ ) رَجُلٌ رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهُ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ عَايَنَ الْبَيْعَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَعْلَمُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي إلَّا بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْبَائِعِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْيَدِ ، وَأَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ انْسِدَادُ بَابِ الشَّهَادَةِ الْمَفْتُوحِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَجُزْ بِحُكْمِ الْيَدِ انْسَدَّ بَابُهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهَادَةِ الْعِلْمُ بِالنَّصِّ وَعِنْدَ إعْوَازِ ذَلِكَ يُصَارُ إلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَلْبُ ( قَالُوا : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ شَهَادَةِ الْقَلْبِ ( تَفْسِيرَ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ : وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ : يَعْنِي إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ .
قِيلَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ لَقَبِلَهَا الْقَاضِي إذَا قَيَّدَهَا الشَّاهِدُ بِمَا اسْتَفَادَ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ مُعَايَنَةِ الْيَدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا جَعَلْنَا الْعِيَانَ مُجَوِّزًا لِلشَّاهِدِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لِمَا قُلْنَا ، وَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْقَاضِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَأَرَادَ ذُو الْيَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي لَهُ عِنْدَ إنْكَارِ الْمُشْتَرِي أَنْ تَكُونَ الدَّارُ مِلْكَ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا ) وَهُوَ

الْخَصَّافُ ( ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ ) فَلَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ التَّصَرُّفِ إلَيْهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّصَرُّفَ كَذَلِكَ ، وَضَمُّ مُحْتَمَلٍ إلَى مُحْتَمَلٍ يَزِيدُ الِاحْتِمَالَ فَيَنْتَفِي الْعِلْمَ ( ثُمَّ ) هَذِهِ ( الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ ) أَرْبَعَةٍ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ : ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ ، أَوْ لَمْ يُعَايِنْهُمَا ، أَوْ عَايَنَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ عَرَفَ الْمَالِكَ بِوَجْهِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَعَرَفَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ وَحُقُوقِهِ وَرَآهُ فِي يَدِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَنْ عِلْمٍ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَسَمِعَ مِنْ النَّاسِ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ضَيْعَةً فِي بَلَدِ كَذَا حُدُودُهَا كَذَا وَكَذَا لَا يَشْهَدُ ؛ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي الشَّهَادَةِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ وَهُوَ إنْ عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ يُنْسَبُ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَلَمْ يُعَايِنْهُ بِوَجْهِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَسَبِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لِلْمَالِكِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ فَكَذَا جَهَالَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعْلُومٌ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ فَكَانَتْ شَهَادَةً بِمَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَا تَبْرُزُ وَلَا تَخْرُجُ كَانَ اعْتِبَارُ مُشَاهَدَتِهَا وَتَصَرُّفِهَا بِنَفْسِهَا لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ مُبْطِلًا لِحَقِّهَا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ بِالتَّسَامُعِ فِي الْأَمْوَالِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ لَيْسَتْ بِالتَّسَامُعِ بَلْ بِالْعِيَانِ ، وَالتَّسَامُعُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّسَبِ قَصْدًا وَهُوَ مَقْبُولٌ فِيهِ

كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ يَثْبُتُ الْمَالُ وَالِاعْتِبَارُ لِلْمُتَضَمِّنِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَهُوَ كَالثَّانِي لِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ .

وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ إلَّا أَنَّهُمَا صَغِيرَانِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيُدْفَعُ يَدُ الْغَيْرِ عَنْهُمَا فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ ، وَالْفَرْقُ مَا بَيِّنَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ ) مَرْدُودٌ إلَى قَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَأَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ شَخْصٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْرِفَ رِقَّهُمَا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُمَا مِلْكُ مَنْ هُمَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا أَوْ كَبِيرَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ عَاقِلًا غَيْرَ بَالِغٍ كَانَ أَوْ بَالِغًا فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، فَإِنَّ الْيَدَ فِي ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي أَيْدِي أَنْفُسِهِمَا وَذَلِكَ يَرْفَعُ يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا حُكْمًا ، حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ إنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ وَيَصْنَعُ بِهِ الْمُقَرُّ لَهُ مَا يَصْنَعُ بِمُلُوكِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لَوْ كَانَا لِتَعْبِيرِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا لَاعْتُبِرَ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ فِي يَدِ مَنْ يَدَّعِي رِقَّهُمَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ لِثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا لِلْمَوْلَى فِي الصِّغَرِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمَا رِقٌّ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَجَعَلُوا الْيَدَ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِقِيَامِ يَدِهِ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا وَهُوَ قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى

أَنْفُسِهِمَا يَدْفَعَانِ بِهَا يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ ) قَالَ : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجُوزُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالْأَدَاءُ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ وَلِسَانُهُ غَيْرُ مُوفٍ وَالتَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا ، لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ .

بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَمَا لَا تُسْمَعُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ وَمَنْ لَا تُسْمَعُ ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَحَالُّ الشَّهَادَةِ وَالْمَحَالُّ شُرُوطٌ وَالشُّرُوطُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ ، وَأَصْلُ رَدِّ الشَّهَادَةِ وَمَبْنَاهُ التُّهْمَةُ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ } وَلِأَنَّهَا خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَحُجَّتُهُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ وَبِالتُّهْمَةِ لَا يَتَرَجَّحُ ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ فَقَدْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَيْضًا فَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ مِنْ قَرَابَةٍ يُتَّهَمُ بِهَا بِإِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالْوِلَادَةِ وَقَدْ تَكُونُ لِخَلَلٍ فِي أَدَاءِ التَّمْيِيزِ كَالْعَمَى الْمُفْضِي إلَى تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِيهَا وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَجْزِ عَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ دَلِيلَ صِدْقِهِ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إلَخْ ) شَهَادَةُ الْأَعْمَى إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ كَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قُبِلَتْ عِنْدَ زُفَرَ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَالْمَشْهُودِ بِهِ غَيْرُ مَنْقُولٍ قُبِلَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ انْتَفَى أَحَدُهُمَا لَمْ تُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ .
فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِبْصَارُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ ، وَعِنْدَهُمَا اسْتِمْرَارُهُ ، حَتَّى لَوْ

عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ .
أَمَّا عَدَمُ الْقَبُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ .
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَسَيَأْتِي جَوَابٌ آخَرُ .
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَايَنَةِ حَصَلَ عَنْهُ التَّحَمُّلُ ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمُعَايَنَةِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لَا مَحَالَةَ ، وَالْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا خَلَلَ فِي الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ غَيْرُ مُوَفٍّ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ وَهُوَ عَدَمُ التَّعْرِيفِ مُنْتَفٍ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا شَهِدَا عَلَى الْمَيِّتِ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ذَكَرَ نِسْبَتَهُ .
وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ يَسْتَبِدُّ بِتَحْصِيلِ الْأَدَاءِ بَلْ الْأَدَاءُ مُفْتَقِرٌ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ ، وَفِيهِ أَيْ فِي النَّغْمَةِ بِتَأْوِيلِ الصَّوْتِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ ، فَإِنَّ بِالشُّهُودِ الْبُصَرَاءِ كَثْرَةً وَفِيهِمْ غُنْيَةً عَنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى ، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ التَّمَكُّنُ مِنْهُ لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِأَجْلِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ ، وَلَا إشَارَةَ ثَمَّةَ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُضُورِ ،

بِخِلَافِ الْأَعْمَى .
وَفِي قَوْلِهِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ ، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الِاسْمِ ، وَالنِّسْبَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ ، وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ اعْتَبَرْتُمْ النَّغْمَةَ مُمَيَّزَةً لِلْأَعْمَى فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُهُمَا عَنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالنَّغْمَةِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ .
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَاتِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّ انْتِفَاءَهُ بِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالنِّسْبَةِ وَالنِّسْبَةُ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ أَيْضًا إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كَوْنِ النِّسْبَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ لِلتَّعْرِيفِ .
وَأَمَّا وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَنْعِ الْقَضَاءِ بِالْعَمَى الطَّارِئِ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْقَضَاءِ قِيَامُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَةِ الشَّهَادَةِ حُجَّةً عِنْدَهُ ، وَلَا قِيَامَ لَهَا بِالْعَمَى فَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ ، وَالْأَمْرُ الْكُلِّيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَدَائِهَا الْقَضَاءُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَمْنَعُ الْأَدَاءَ بِالْإِجْمَاعِ فَتَمْنَعُ الْقَضَاءَ ، وَالْعَمَى الطَّارِئُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ يَمْنَعُ الْأَدَاءَ عِنْدَهُمَا فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَلَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا ) جَوَابٌ عَمَّا

يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ شَرْطٌ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ إذَا مَاتَ أَوْ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يُمْنَعُ الْقَضَاءُ وَلَا أَهْلِيَّةَ عِنْدَهُ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ انْتَهَتْ وَالشَّيْءُ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ

( قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ لَا يَلِي نَفْسَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ( قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ إلَخْ ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ

( وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ ، بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ لِأَنَّ الرَّدَّ لِلْفِسْقِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } اسْتَثْنَى التَّائِبَ .
قُلْنَا : الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ .

وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْأَبَدِ وَهُوَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ يُنَافِي الْقَبُولَ فِي وَقْتٍ مَا ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَهُمْ : أَيْ لِلْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَبِالتَّوْبَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْنِي رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا عَنْ الْقَذْفِ كَالْجَلْدِ وَالْحَدِّ وَهُوَ الْأَصْلُ يَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِعَدَمِ سُقُوطِهِ بِهَا فَكَذَا تَتِمَّتُهُ اعْتِبَارًا لَهُ بِالْأَصْلِ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَاسِقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } وَالْفَاسِقُ إذَا تَابَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ إنْ كَانَ لِلْفِسْقِ زَالَ بِزَوَالِهِ بِالتَّوْبَةِ فَقُبِلَتْ كَالْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَيْسَ لِلْفِسْقِ إذْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ لَهُ التَّوَقُّفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } لَا النَّهْيُ عَنْ الْقَبُولِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } اسْتَثْنَى التَّائِبَ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَمِيعِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إلَّا الَّذِينَ تَابُوا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا يَلِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ طَلَبِيٌّ وَهُوَ إخْبَارِيٌّ .
فَإِنْ قُلْت : فَاجْعَلْهُ بِمَعْنَى الطَّلَبِيِّ لِيَصِحَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَبِالْوَالِدِينَ إحْسَانًا } قُلْت : يَأْبَاهُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ حَصْرَ أَحَدِ

الْمُسْنَدَيْنِ فِي الْآخَرِ وَهُوَ يُؤَكِّدُ الْإِخْبَارِيَّةَ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ يَلْزَمُ جَعْلُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ كَانَ إذْ ذَاكَ جَزَاءً فَلَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ كَأَصْلِ الْحَدِّ وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ كَانَ أَبَدًا مَجَازًا عَنْ مُدَّةٍ غَيْرِ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَيْسَ بِمَعْهُودٍ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ جَعْلَهُ مَجَازًا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا بَلْ جَعْلُهُ مُنْقَطِعًا أَوْلَى دَفْعًا لِلْمَحْذُورَاتِ ، وَتَمَامُ الْعُثُورِ عَلَى هَذَا الْمَبْحَثِ يَقْتَضِي مُطَالَعَةَ تَقْرِيرِنَا فِي تَقْرِيرِنَا فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ الْفَاسِدَةِ .

( وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ) لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فَتَمَامُ حَدِّهِ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ .

قَوْلُهُ : ( وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ ) يَعْنِي إذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكُفَّارِ ، فَإِذَا أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةً عَلَى مِثْلِهِ ، وَمَنْ لَهُ ذَلِكَ وَحُدَّ فِي الْقَذْفِ كَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِّهِ ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِهَا ، وَالْعَبْدُ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ إلَّا مَا كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَجُعِلَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُسْلِمٍ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ حَيْثُ جُعِلَ الْقَذْفُ قَائِمًا فِي حَقِّهِ إلَى حُصُولِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ الزِّنَا قَائِمًا إلَى حُصُولِ نُفُوذِ الْوِلَايَةِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْحَدِّ لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا ، وَالْقَذْفُ مُوجِبٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ فَيُوجِبُ الْوَصْفَ عِنْدَ إمْكَانِهِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْحَدِّ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُدَّ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ أَيْضًا لِمُلَاقَاةِ الْحَدِّ وَقْتَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَأَوْجَبَ الرَّدَّ .
وَأَمَّا إذَا قَذَفَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَحُدَّ فِي حَالِ إسْلَامٍ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَلَوْ حُدَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَدِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُفِيدًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ فَائِدَتَهُ تَطْبِيقُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي عُرُوضِ مَا يَعْرِضُ بَعْدَ الْحَدِّ مَعَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ الْمُحْوِجِ إلَى الْفَرْقِ .
وَأَمَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ فَلَا مُنَافَاةَ فِيهِ .

( قَالَ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ } وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ فَتَكُونُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ } وَقِيلَ الْمُرَادُ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهِرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَنَافِعِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ } ) قِيلَ : مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ لِسَيِّدِهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا عَدَّ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ ذَكَرَ الْعَبْدَ مَعَ السَّيِّدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ ، وَاتِّصَالُهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَنْ يَتَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةٌ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ هُوَ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضُرَّ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ ) قِيلَ : التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ مَعَهُ وَفِي عِيَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ } مِنْ الْقُنُوعِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّائِلِ يَطْلُبُ مَعَاشَهُ مِنْهُمْ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً ، وَهُوَ الْأَجِيرُ الْوَاحِدُ فَيَسْتَوْجِبُ : أَيْ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرُ بِمَنَافِعِهِ ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ تُرِكَ بِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَبُولُهَا لِكَوْنِهَا شَهَادَةَ عَدْلٍ لِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إذْ لَيْسَ لَهُ فِيمَا شَهِدَ فِيهِ مِلْكٌ وَلَا

حَقٌّ وَلَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ ، وَلِهَذَا جَازَ شَهَادَةُ الْأُسْتَاذِ لَهُ وَوَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهِ ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ .
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَمَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأُسْتَاذِهِ ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ وَلِهَذَا يَجْرِي الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا كَمَا فِي الْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ عَادَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ، وَقَالَ : الشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِيَ مُتَحَيِّزَةٌ ) أَيْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْتَمِعَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ فِي مِلْكِ الْآخَرِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا يُقْضَى مِنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِهِ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَالْأَخَوَيْنِ وَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَغَيْرِهِمْ .
لَا يُقَالُ : فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ نَفْعٌ لِلشَّاهِدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُدُّ نَفْعَ صَاحِبِهِ نَفْعَ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَصْدِيٍّ بَلْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا .
كَرَبِّ الدَّيْنِ إذَا شَهِدَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ مُفْلِسٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ لِحُصُولِهِ ضِمْنًا ( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ } ( وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ ) وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ ( وَهُوَ ) أَيْ الِانْتِفَاعُ ( هُوَ الْمَقْصُودُ ) مِنْ الْأَمْوَالِ ( فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا ) فِي شَهَادَتِهِ بِجَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرِيمَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ إذْ هُوَ مَالُ الْمَدْيُونِ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ قَوَّامًا عَلَيْهَا هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا عَادَةً .
لَا يُقَالُ : الْغَرِيمُ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ يَأْخُذُهُ ؛ لِأَنَّ الظَّفَرَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ وَحَقُّ الْأَخْذِ بِنَاءً عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ

الزَّوْجَانِ .

( وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ مِنْ وَجْهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعَى ( وَلَا لِمُكَاتَبِهِ ) لِمَا قُلْنَا .قَالَ ( وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إلَخْ ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهِيَ لَهُ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ لِلْغُرَمَاءِ بِسَبَبِ بَيْعِهِمْ فِي دَيْنِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَوْلَى كَمَا كَانَ بِسَبَبِ قَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهِيَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا يَمْلِكُ لِمَوْلَاهُ ( وَلَا ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى ( لِمُكَاتَبِهِ لِمَا قُلْنَا ) مِنْ كَوْنِ الْحَالِ مَوْقُوفًا مُرَاعًى ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ صَارَ أَجْنَبِيًّا ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَادَ رَقِيقًا فَكَانَتْ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ .

( وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا ، وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ .( وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَعْضِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَعْضُ بَطَلَ الْكُلُّ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُتَجَزِّئَةٍ إذْ هِيَ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ ( وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا قُبِلَتْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ) قِيلَ : هَذَا إذَا كَانَا شَرِيكَيْ عِنَانٍ .
أَمَّا إذَا كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ ؛ ؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ .

( وَتَقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ ) لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَبَايِنَةٌ وَلَا بُسُوطَةَ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ .قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ إلَخْ ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ لِعَمِّهِ وَلِسَائِرِ الْأَقَارِبِ غَيْرِ الْوِلَادِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ بِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ وَمَنَافِعِهَا .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ ) وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ .( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ مَنْ عُرِفَ بِالرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ ) أَيْ التَّمَكُّنِ مِنْ اللِّوَاطَةِ ( فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ) .

( وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ ) لِأَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةُ وَالْمُغَنِّيَةُ } ( وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ ) لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ .
( وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ ) لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي ( وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ ) لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ .
( وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ ) لِلْفِسْقِ .

( وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ ) لِارْتِكَابِهِمَا الْمُحَرَّمَ طَمَعًا فِي الْمَالِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحُرْمَةِ { نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ } وَصَفَ الصَّوْتَ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّائِحَةِ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا وَاِتَّخَذَتْ ذَلِكَ مَكْسَبًا .
وَالتَّغَنِّي لِلَّهْوِ مَعْصِيَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ .
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ نَفْسَ رَفْعِ الصَّوْتِ مِنْهَا حَرَامٌ فَضْلًا عَنْ ضَمِّ الْغِنَاءِ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدُهَا هُنَا بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ وَقَيَّدَ بِهِ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي غِنَاءِ الرَّجُلِ ( وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ ) وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أَدْمَنَ عَلَى شُرْبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَمْرًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا مِثْلَ السُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمُنَصَّفِ .
وَشَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ ، فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَيْتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً ( وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً لَا يُؤْمَنُ بِهَا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ نِسْيَانِ بَعْضِ الْحَادِثَةِ ) ثُمَّ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ لَعِبٍ ( وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِتَطْيِيرِ طَيْرِهِ ) وَذَلِكَ فِسْقٌ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ يَسْتَأْنِسُ بِالْحَمَامِ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ، إلَّا إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِحَمَامَاتِ غَيْرِهِ فَتُفَرِّخُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ يَبِيعُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنْ حَمَامِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ آكِلًا لِلْحَرَامِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ

بِقَوْلِهِ وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ آلَةُ لَهْوٍ أَوْ لَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ عَنْ ذِكْرِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْمُغَنِّيَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ غِنَاؤُهُ لِنَفْسِهِ لِإِزَالَةِ وَحْشَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يَتَغَنَّى وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ ، وَحَمَلَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْوَعْظُ وَالْحِكْمَةُ وَاسْمُ الْغِنَاءِ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ إلَخْ ) مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ فَسَقَ وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَبِيرَةَ أَعَمُّ مِمَّا فِيهِ حَدٌّ أَوْ قَتْلٌ .
وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ : هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ وَهِيَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ ، وَالزِّنَا ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ .

قَالَ ( وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مِئْزَرٍ ) لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ .( وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ ) .

( أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ ) .
لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا .
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرِّبَا مَشْهُورًا بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا .( وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ أَوْ الشِّطْرَنْجِ ) إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : الْقِمَارُ ، أَوْ تَفْوِيتُ الصَّلَاةِ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ أَوْ إكْثَارُ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ الثَّالِثَةَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْأَوَّلَانِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فِي شَرْطِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ .
وَفَرَّقَ فِي الذَّخِيرَةِ ، وَجَعَلَ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ مُسْقِطًا لِلْعَدَالَةِ مُجَرَّدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ } وَالْمَلْعُونُ لَا يَكُونُ عَدْلًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إفْرَادُ قَوْلِهِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا ) قِيلَ : ؛ لِأَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ بِحِلِّ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرَّبَّا مَشْهُورًا بِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُوَ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبًا ، فَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ غَالِبًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ لِعَدَمِ عُمُومِ الْبَلْوَى .

قَالَ ( وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ .( وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ ) وَفِي نُسْخَةِ الْمُحْتَقَرَةَ ، وَفِي أُخْرَى الْمُسْتَقْبَحَةَ ، وَفِي أُخْرَى الْمُسْتَخَفَّةَ ، وَفِي أُخْرَى الْمُسَخِّفَةَ كُلُّهَا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ سِوَى الْمُسَخِّفَةِ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ التَّسْخِيفِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى السُّخْفِ : رِقَّةُ الْعَقْلِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ ، وَصَحَّحَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ ( كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِي مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ ) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ( لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ ) فَكَانَ مُتَّهَمًا .

( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ ) لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ .وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ( لِظُهُورِ فِسْقِهِ ) وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ حَتَّى لَوْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فَهُوَ عَدْلٌ .
رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَبْرَأُ مِنْهُمْ .
وَفَرَّقُوا بِأَنَّ إظْهَارَ سَبِّهِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَسْقَاطُ السَّخَفَةُ ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ دِينًا وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَمْ يَظْهَرْ فِسْقُهُ .

( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهُ الْفِسْقِ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ إلَّا تَدَيُّنُهُ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي .
أَمَّا الْخَطَّابِيَّةُ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ .
وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ .

( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ ) مِنْهُمْ ، وَالْهَوَى مَيَلَانُ النَّفْسِ إلَى مَا يَسْتَلِذُّ بِهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ ، وَإِنَّمَا سُمُّوا بِهِ لِمُتَابَعَتِهِمْ النَّفْسَ وَمُخَالَفَتِهِمْ السُّنَّةَ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ ، فَإِنَّ أُصُولَ الْأَهْوَاءِ الْجَبْرُ وَالْقَدْرُ وَالرَّفْضُ وَالْخُرُوجُ وَالتَّشْبِيهُ وَالتَّعْطِيلُ ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَرِقُ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ فِرْقَةً .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهِ الْفِسْقِ ) إذْ الْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ شَرٌّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي ( وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ تَدَيُّنٌ لَا تَرْكُ تَدَيُّنٍ ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ تَرْكُ مَا يَكُونُ دِينًا فَصَارَ كَحَنَفِيٍّ شَرِبَ الْمُثَلَّثَ أَوْ شَافِعِيٍّ أَكَلَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ .
وَالْخَطَّابِيَّةُ قِيلَ هُمْ غُلَاةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ يُنْسَبُونَ إلَى أَبِي الْخَطَّابِ رَجُلٍ كَانَ بِالْكُوفَةِ قَتَلَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَصَلَبَهُ بِالْكَنَائِسِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا الْإِلَهُ الْأَكْبَرُ وَجَعْفَرًا الصَّادِقَ الْإِلَهُ الْأَصْغَرُ .
وَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ ادَّعَى مِنْهُمْ شَيْئًا عَلَى غَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بَقِيَّةُ شِيعَتِهِ بِذَلِكَ ، وَقِيلَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ إنْ كَانُوا كَمَا قِيلَ أَوَّلًا ، وَلِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ إنْ كَانُوا كَمَا قِيلَ ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا .

قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ .
( وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ) فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ ، وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ مُحَرَّمَ دِينِهِ ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَغِيظُهُ قَهْرُهُ إيَّاهُ ، وَمِلَلُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ .

قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ ) شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ عِنْدَنَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ كَالْيَهُودِيِّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنْ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ قُبِلَتْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا } وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُخَالِفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِلَايَةُ دُونَ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } وَالْعَطْفُ قَرِينَةٌ يُرَاعَى بِهِ تَنَاسُبُ الْمَعَانِي ( وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ) وَالظَّالِمُ فَاسِقٌ ( فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْتَدِّ لِجِنْسِهِ وَلِخِلَافِ جِنْسِهِ ( وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ } ) رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى ( وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ( فَلَهُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ ) كَالْمُسْلِمِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُسْلِمُ لَهُ أَهْلِيَّةٌ عَلَى جِنْسِهِ وَعَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ دُونَ الذِّمِّيِّ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الذِّمِّيِّ كَذَلِكَ ، لَكِنَّ تَرْكَ خِلَافِ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ

عَلَيْنَا أَوْ مُطْلَقًا .
وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ .
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ إذْ لَيْسَ مَا يَمْنَعُ رِضَانَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ( قَوْلُهُ : وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ .
وَتَقْرِيرُهُ : الْفِسْقُ مَانِعٌ مِنْ حَيْثُ تَعَاطِي مُحَرَّمِ الدِّينِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ .
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ فِسْقُ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْ بَابِهِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَجْتَنِبُ مُحَرَّمَ دِينِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاجْتِنَابَ عَنْ مَحْظُورِ الدِّين يُعْتَبَرُ دَلِيلًا عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَهُمْ ارْتَكَبُوا الْكَذِبَ بِإِنْكَارِ الْآيَاتِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَقِيقَتِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاطِئُونَ عَلَى كِتْمَانِ بَعْثِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ عِنْدَنَا وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَالتَّكْذِيبُ مِنْهُمْ تَدَيُّنٌ وَمُطْبَقُونَ عَلَى كَوْنِ الْكَذِبِ عَلَى أَحَدِ مَحْظُورٍ إذْ هُوَ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَوْلَادِهِ وَهِيَ رُكْنُ الدَّلِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَعَمَّا يُقَالُ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ الْوِلَايَةُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لَقُبِلَتْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِوُجُودِهَا كَمَا ذَكَرْتُمْ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ وِلَايَتَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُسْلِمِ مَعْدُومَةٌ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى مُنِعَ لِوُجُودِ الْمَلْزُومِ ، وَقَدْ مَرَّ لَنَا جَوَابٌ آخَرُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ جَوَابٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ :

سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لَكِنْ الْمَانِعُ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ تَغَيُّظُهُ بِقَهْرِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مِلَلِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ ) أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُسْتَأْمَنُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ ) لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ وَلِهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ إلَخْ ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( أَرَادَ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنَ ) وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَمْ يُسْتَأْمَنْ عَلَى الذِّمِّيِّ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ الْمِصْرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِلَا اسْتِئْمَانٍ فَيُحْضَرُ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا فَيَصِيرُ عَبْدًا ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَالْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ رِسَالَتِنَا فِي الْفَرَائِضِ ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ : وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ : أَيْ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ دُونَ الْمُسْتَأْمَنِ اسْتِظْهَارًا عَلَى الِاخْتِلَافِ لِتَمَامِ الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءُ الْعِلَّةِ انْقِطَاعَ الْوِلَايَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَعْلَى حَالًا أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ شَهَادَتُهُ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ تُقْبَلُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ حُكْمًا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْحَرْبِيَّيْنِ إذَا كَانَا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَدَخَلَا دَارَنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَضُمَّ ذَلِكَ إلَيْهِ لِلْعِلِّيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضِ الْحُكْمِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ .
فَإِنْ قُلْت : أَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا جُزْءًا لِعِلَّةِ

انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ .
قُلْت : بَلَى لَكِنَّ تَرْكِيبَ كَلَامِهِ لَا يُسَاعِدُهُ فَتَأَمَّلْ .
وَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْزِمُ ذَلِكَ .
قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ ) الْمُسْتَأْمَنُونَ فِي دَارِنَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأُوَلُ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالتُّرْكِ وَالرُّومِ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ كَمَا مَرَّ وَلِهَذَا يُمْنَعُ التَّوَارُثُ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَوْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لِوُجُودِهِ لَكِنَّهَا قُبِلَتْ .
وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ الذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ لِشَرَفِهَا ، فَكَانَ الْوَاجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لِوُجُودِهِ لَكِنَّهَا قُبِلَتْ .
وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ الذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ لِشَرَفِهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ ، لَكِنْ تَرَكْنَا بِالنَّصِّ كَمَا مَرَّ ، وَلَا نَصَّ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ دَارِنَا فَهِيَ تَجْمَعُهُمْ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ .

( وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِهِ الْكُلَّ سَدَّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ .قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ إلَخْ ) وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتْرُكُ الْفَرْضَ وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ يُعْتَبَرُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ فِي تَعَاطِي الصَّغَائِرِ .
فَإِنْ كَانَ إتْيَانُهُ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبَ مِنْ إلْمَامِهِ بِالصَّغَائِرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَلَا تَنْقَدِحُ عَدَالَتُهُ بِإِلْمَامِ الصَّغَائِرِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَضْيِيعِ حُقُوقِ النَّاسِ بِسَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ الْمَفْتُوحِ لِإِحْيَائِهَا .

قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ ) لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَدْلًا( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يُخْتَنْ ) ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ عَدْلًا بَلْ مُسْلِمًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا ، إذْ الْمَقَادِيرُ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ بَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ إلَى عَشْرٍ ، وَبَعْضُهُمْ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ وِلَادَتِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خُتِنَا الْيَوْمَ السَّابِعَ أَوْ بَعْدَ السَّابِعِ ، لَكِنَّهُ شَاذٌّ .

( وَالْخَصِيِّ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ ، وَلِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ .( وَ ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ ( الْخَصِيِّ ) وَهُوَ مَنْزُوعُ الْخُصْيَةِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ ، وَلِأَنَّهَا قُطِعَتْ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ .

( وَوَلَدِ الزِّنَا ) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ الْوَلَدِ كَكُفْرِهِمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمِثْلِهِ فَيُتَّهَمُ .
قُلْنَا : الْعَدْلُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِبُّهُ ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ .( وَ ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ ( وَلَدِ الزِّنَا ) ؛ لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يَرْبُو عَلَى كُفْرِهِمَا وَكُفْرُهُمَا غَيْرُ مَانِعٍ لِشَهَادَةِ الِابْنِ فَفِسْقُهُمَا أَوْلَى ( وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمِثْلِهِ ) وَالْكَافُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فَيُهْتَمُّ : قُلْنَا : الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ وَحُبُّهُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ لَيْسَ بِقَادِحٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَا لَمْ يَتَحَدَّثْ بِهِ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدْلَ يَخْتَارُ ذَلِكَ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ .

قَالَ ( وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى جَائِزَةٌ ) لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ .( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وَيَشْهَدُ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالنِّسَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً .

( وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ .
وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَاسِقِ ، لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ .

( قَالَ وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّهُ كَانَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْعُمَّالِ عُمَّالِ السُّلْطَانِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ فِي أَخْذِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالْخَرَاجِ وَزَكَاةِ السَّوَائِمِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ ، لِأَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا عُمَّالًا وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ فِعْلُ مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ ، إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانَ السُّلْطَانِ مُعِينِينَ عَلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ) لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ عَوْنًا لَهُ عَلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ ذَلِكَ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلُهُ بِمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَاسِقِ ( ؛ لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ ) وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، فَيَكُونُ إيرَادُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمْ أَطْيَبُ الْأَكْسَابِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ } فَأَنَّى يُوجِبُ جَرْحًا ؟ قَالَ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ ) وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ إنْ ادَّعَى ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ مَعَهُمَا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلشَّاهِدِ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ ، فَيَكْفِي الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ لَا أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ وَالْوَصِيَّانِ إذَا أَقَرَّا أَنَّ مَعَهُمَا ثَالِثًا يَمْلِكُ الْقَاضِي نَصْبَ ثَالِثٍ مَعَهُمَا لِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِرَافِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَا وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَصِيِّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ ، وَفِي الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ بِاعْتِرَافِهِمَا فِي حَقِّهِمَا ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ) لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ ، فَلَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ .

( وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ إلَخْ ) إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ أَوْ شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ وَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى ثَالِثٍ مَعَهُمَا فَذَلِكَ خَمْسُ مَسَائِلَ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا وَالْوَصِيُّ رَاضِيًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِي الرَّابِعَةِ فَإِنَّ ظُهُورَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ بِنَسَبِ مَنْ يَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِ أَوْ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ حَقِيقَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مَا تُوجِبُ عَلَى الْقَاضِي مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِدُونِهَا وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا رَضِيَ الْوَصِيُّ وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي صَلَاحِيَّةِ مَنْ يُنَصِّبُهُ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ كَفَوْهُ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ وَلَمْ يُثْبِتُوا بِهَا شَيْئًا فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ هِيَ دَافِعَةٌ مُؤْنَةَ تَعْيِينِ الْقَاضِي .
فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ لِلْقَاضِي نَصْبُ وَصِيٍّ ثَالِثٍ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُوجِبَةً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ إذَا اعْتَرَفَا بِعَجْزِهِمَا كَانَ لَهُ نَصْبُ ثَالِثٍ وَشَهَادَتُهُمَا هَاهُنَا بِثَالِثٍ مَعَهُمَا اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِهِ فَكَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَ وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَصْبُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ إذْ ذَاكَ فَكَانَتْ هِيَ الْمُوجِبَةَ إلَّا فِي الْغَرِيمَيْنِ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ

وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ ؛ لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِمَا بِاعْتِرَافِهِمَا ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبُوهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَ فُلَانًا بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا أَنْكَرَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ أَوْ ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ ، فَلَوْ ثَبَتَ كَانَتْ مُوجِبَةً وَالتُّهْمَةُ تَرُدُّ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ ) لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ لَهُ الدَّفْعَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ ، وَلِأَنَّهُ هَتْكُ السِّرِّ وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ وَالْإِشَاعَةُ حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ ( إلَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ تُقْبَلُ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ .

قَالَ ( وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ إلَخْ ) الْجَرْحُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ لَا .
وَالثَّانِي هُوَ الْمُفْرَدُ لِتَجَرُّدِهِ عَمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي وَلَك أَنْ تُسَمِّيَهُ مُرَكَّبًا ، فَإِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ وَأَقَامَ الْغَرِيمُ بَيِّنَةً عَلَى الْجَرْحِ الْمُفْرَدِ مِثْلَ إنْ قَالُوا هُمْ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ آكِلُو رِبًا فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُهَا .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِتَمَكُّنِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِهِ بِالتَّوْبَةِ وَرَفْعِ الْإِلْزَامِ ، وَسَمَاعُهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحُكْمِ وَالْإِلْزَامِ .
وَالثَّانِي قِيلَ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ أَنَّ فِي الْجَرْحِ الْمُفْرَدِ هَتْكَ السِّرِّ وَهُوَ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ فَكَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا بِهَتْكِ وَاجِبِ السَّتْرِ وَتَعَاطِي إظْهَارِ الْحَرَامِ فَلَا يَسْمَعُهَا الْحَاكِمُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مُعَدِّلِينَ فِي الْعَلَانِيَةِ فَيُسْمَعُ مِنْهُمْ الْجَرْحُ الْمُفْرَدُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَوْ يُعْلِمَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ سِرًّا إذَا سَأَلَهُ الْقَاضِي تَفَادِيًا عَنْ التَّعَادِي وَاحْتِرَازًا عَنْ إظْهَارِ الْفَاحِشَةِ ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ السَّمَاعِ يُفِيدُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ بِعِلْمِهِ فَقَالَ وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَيْضًا ( قَوْلُهُ : إلَّا أَنَّهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ : أَيْ لَكِنْ إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ شُهُودِي فَسَقَةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ ) وَلَمْ يُظْهِرُوا الْفَاحِشَةَ وَإِنَّمَا حَكَوْهَا عَنْ

غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْمُدَّعِي ، وَالْحَاكِي لِإِظْهَارِهَا لَيْسَ كَمُظْهِرِهَا .
وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ يَسْمَعْهَا ؛ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ ، وَضَمُّ الِاسْتِئْجَارِ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَحْتَاجُ إلَى خَصْمٍ يَحْكُمُ لَهُ الْحَاكِمُ وَلَا خَصْمَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ .

قَالَ ( وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ ، وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ .
وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الْبَاطِلِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ .

( حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ ) فَكَانَ جَرْحًا مُرَكَّبًا فَدَخَلَ تَحْتَ الْحُكْمِ وَثَبَتَ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ ( وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ وَدَفَعْته إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الزُّورِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ الْمَالِ ) لِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ دَفَعْته إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَسْمُوعٍ ( قَوْلُهُ : وَلِهَذَا قِيلَ ) أَيْ وَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى جَرْحٍ فِيهِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرُ فِي الْمَتْنِ ، وَقِيلَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الدَّلِيلَيْنِ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ قُلْنَا كَذَا وَهُوَ بَعِيدٌ وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَلِذَلِكَ وَهَذَا أَسْهَلُ ، وَالْمَعْنَى إذَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ ( أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي قُبِلَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ إشَاعَةِ فَاحِشَةٍ .
أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ عَبْدٌ فَلِمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ الرِّقُّ وَهُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ أَثَرُهُ فِي سَلْبِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ وَهُوَ إكْمَالُ الْحَدِّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ حَدُّ الشُّرْبِ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ كَمَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ سُمِعَتْ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ إظْهَارَ الْفَاحِشَةِ إذَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ } وَقَدْ تَحَقَّقَتْ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ .
لَا

يُقَالُ : وَقَدْ تَحَقَّقَتْ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ أَيْضًا لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِشُهُودٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْقَاضِي سِرًّا وَلَا يُظْهِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَعَلَى هَذَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِجَرْحِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
وَالثَّانِي لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ مَقْبُولٌ ، وَمِنْ عَلَامَاتِهِ عَدَمُ التَّقَادُمِ .
وَأَمَّا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّفْعِ بِالتُّهْمَةِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ ابْنَ الْمُدَّعِي أَوْ أَبُوهُ .

قَالَ ( وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُوهِمْتُ أَيْ أَخْطَأْت بِنِسْيَانِ مَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَتُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ عَدْلٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ أُوهِمْتُ ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ .
وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ شُبْهَةٍ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ إلَخْ ) وَمَنْ شَهِدَ ثُمَّ قَالَ أَوْهَمْت بَعْضَ شَهَادَتِي قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : أَيْ أَخْطَأَتْ بِنِسْيَانِ مَا يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً : يَعْنِي تَرَكْت مَا يَجِبُ عَلَيَّ أَوْ أَتَيْت بِمَا لَا يَجُوزُ لِي ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَمَا قَامَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَالْمُتَدَارَكُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ قَالَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ اسْمِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، وَتَدَارُكُ تَرْكِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ ؛ إذْ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّاهِدُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ وَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْطِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت بَلْ هِيَ خَمْسُمِائَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ إذَا قَالَ فِي الْمَجْلِسِ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ وَوَجَبَ قَضَاؤُهُ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَوْهَمْت وَبِمَا بَقِيَ أَوْ زَادَ عِنْدَ آخَرِينَ ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدْلِ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمَقْرُونِ بِأَصْلِهَا وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا التَّدَارُكُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَوَجْهُهُ أَنَّ

الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَيُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ ) وَهُوَ قَبْلَ الْبَرَاحِ مِنْ الْمَجْلِسِ ( وَهُوَ عَدْلٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَمْ يُقْبَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِإِطْمَاعِهِ الشَّاهِدَ بِحُطَامِ الدُّنْيَا وَالنُّقْصَانَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ( فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ ) ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا مَالَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ أَلْحَقَ الْمُلْحَقَ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ فِي دَعْوَى التَّوَهُّمِ ( إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ ) فَذَكَرَ الشَّرْقِيَّ مَكَانَ الْغَرْبِيِّ أَوْ بِالْعَكْسِ ( أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ ) كَأَنْ ذَكَرَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ مَثَلًا ، فَإِنْ تَدَارَكَهُ قَبْلَ الْبَرَاحِ عَنْ الْمَجْلِسِ قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ : ) فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ عَدَالَتِهِ يَنْفِي تَوَهُّمَ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ ( وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ ) أَوَّلًا مِنْ تَقَيُّدِ مَا فِيهِ شُبْهَةُ التَّغْرِيرِ بِالْمَجْلِسِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ) قَالَ ( الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا .

بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ : تَأْخِيرُ اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ عَنْ اتِّفَاقِهَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ لِكَوْنِ الِاتِّفَاقِ أَصْلًا ، وَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ بِعَارِضِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ فَأَخَّرَهُ وَضْعًا لِلتَّنَاسُبِ .
قَالَ ( الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ إلَخْ ) الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ ، وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَى الشَّهَادَةِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى هِيَ مُطَالَبَةٌ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ مَنْ لَهُ الْخَلَاصُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ ، وَمُوَافَقَتُهَا لِلشَّهَادَةِ هُوَ أَنْ يَتَّحِدَا نَوْعًا وَكَمًّا وَكَيْفًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا وَفِعْلًا وَانْفِعَالًا وَوَضْعًا وَمِلْكًا وَنِسْبَةً .
فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَشَهِدَ الشَّاهِدُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَشَهِدَ بِثَلَاثِينَ ، أَوْ ادَّعَى سَرِقَةَ ثَوْبٍ أَحْمَرَ وَشَهِدَ بِأَبْيَضَ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَشَهِدَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْفِطْرِ بِالْبَصْرَةِ ، أَوْ ادَّعَى شَقَّ زِقِّهِ وَإِتْلَافَ مَا فِيهِ بِهِ وَشَهِدَ بِانْشِقَاقِهِ عِنْدَهُ أَوْ ادَّعَى عَقَارًا بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ مِلْكِ فُلَانٍ وَشَهِدَ بِالْغَرْبِيِّ مِنْهُ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مِلْكُهُ وَشَهِدَ أَنَّهُ مِلْكُ وَلَدِهِ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَدَتْهُ الْجَارِيَةُ الْفُلَانِيَّةُ وَشَهِدَ بِوِلَادَةِ غَيْرِهَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى .
وَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ لَفْظَيْهِمَا فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ ادَّعَى عَلَيَّ غَرِيمِي هَذَا وَالشَّاهِدُ يَقُولُ أَشْهَدُ بِذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِي مَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا ) أَمَّا أَنَّ تَقَدُّمَهَا فِيهَا شَرْطٌ لِقَبُولِهَا فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا ، وَلَا نَعْنِي بِالْخُصُومَةِ إلَّا الدَّعْوَى ،

وَأَمَّا وُجُودُهَا عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ فَلِعَدَمِ مَا يَهْدُرُهَا مِنْ التَّكْذِيبِ .
وَأَمَّا عَدَمُهَا عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَلِوُجُودِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لِتَصْدِيقِ الدَّعْوَى ، فَإِذَا خَالَفَتْهَا فَقَدْ كَذَّبَتْهَا فَصَارَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ : تَقَدُّمُ الدَّعْوَى شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ تَعَارَضَ كَلَامُ الْمُدَّعِي وَالشَّاهِدِ فَمَا الْمُرَجِّحُ لِصِدْقِ الشَّاهِدِ حَتَّى اُعْتُبِرَ دُونَ كَلَامِ الْمُدَّعِي ؟ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عِلَّةَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْتِزَامُ الْحَاكِمِ سَمَاعَهَا عِنْدَ صِحَّتِهَا وَتَقَدُّمُ الدَّعْوَى شَرْطُ ذَلِكَ ، فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ انْتَفَى الْمَانِعُ فَوَجَبَ الْقَبُولُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، لَا أَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ اسْتَلْزَمَ وُجُودَهُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّهُودِ الْعَدَالَةُ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الشُّهُودِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ .

قَالَ ( وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَلْفَيْنِ ) .
وَعَلَى هَذَا الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالثَّلَاثُ .
لَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ .

قَالَ ( وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ ) الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ شَرْطُ قَبُولِهَا كَمَا كَانَتْ شَرْطًا بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا شَرْطٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى أَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى خَاصَّةً ، فَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا بُدَّ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ التَّرَادُفُ لَا يَمْنَعُ بِلَا خِلَافٍ ، وَلِهَذَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالْعَطِيَّةِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُ بِحَيْثُ يَدُلُّ بَعْضُهُ عَلَى مَدْلُولِ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِالتَّضَمُّنِ فَقَدْ نَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَوَّزَاهُ ( فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ وَقَالَا : تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفَيْنِ وَهُوَ دَيْنٌ وَعَلَى هَذَا الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالثَّلَاثُ ) لَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ فِيهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا ، كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا ) ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُفْرَدٌ وَالْآخَرَ تَثْنِيَةٌ ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ إفْرَادًا وَتَثْنِيَةً يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ هِيَ عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ ، وَإِنْ شِئْت بِالتَّثْنِيَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَالْأَلْفَانِ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْأَلْفِ كَذَلِكَ فَكَانَ كَلَامُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامًا مُبَايِنًا لِكَلَامِ الْآخَرِ ( وَحَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ ) فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَصَارَ اخْتِلَافُهُمَا هَذَا كَاخْتِلَافِهِمَا فِي

جِنْسِ الْمَالِ .
شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِكُرِّ شَعِيرٍ وَالْآخَرُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ ، قِيلَ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا ادَّعَى أَلْفَيْنِ وَشَهِدَا بِأَلْفٍ قُبِلَتْ بِالِاتِّفَاقِ ، وَوُجُوبُ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَوُجُوبِهَا بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ فَمَا جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ حَسَبَ اشْتِرَاطِهِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ وَشَهِدَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ قُبِلَتْ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْغَصْبِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَلْقِينِ الشَّاهِدِ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ بِأَنْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِأَلْفٍ فَالْقَاضِي يَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِذَلِكَ وَوَفَّقَ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وَفَّقَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا نَقَلْت مِنْ الْمَبْسُوطِ مَا تَرَى مِنْ التَّنَافِي .
فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُحْمَلَ مَا نُقِلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ عَلَى مَا إذَا وَفَّقَ الشَّهَادَةَ بِدَعْوَى الْإِبْرَاءِ أَوْ الْإِيفَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ مَا إذَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقْت وَاحِدَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا جَوَابًا فَوَقَعَتْ وَاحِدَةً ، وَلَا مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا فَإِنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ فَيَتَضَمَّنُ الْأَقَلَّ ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَشْهَدُ بِهِ وَاحِدٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ ) لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى ، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ وَنَظِيرُهُ الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَةُ وَالنِّصْفُ وَالْمِائَةُ وَالْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ ، بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ إلَّا الْأَلْفُ فَشَهَادَةُ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَكَذَا إذَا سَكَتَ إلَّا عَنْ دَعْوَى الْأَلْفِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ ظَاهِرٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ ، وَلَوْ قَالَ كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَلَكِنِّي اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأْتُهُ عَنْهَا قُبِلَتْ لِتَوْفِيقِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَخْ ) وَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّفَاقَ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى شَرْطُ الْقَبُولِ ( إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ ) وَنَظِيرُهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِطَلْقَةٍ وَالْآخَرُ بِطَلْقَةٍ وَنِصْفِ أَوْ بِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ عَطْفٍ فَصَارَا مُتَبَايِنَيْنِ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَقَلَّ وَقَالَ ( لَمْ يَكُنْ لِي إلَّا الْأَلْفُ فَشَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْأَكْثَرِ بَاطِلَةٌ ) لِتَكْذِيبِهِ الْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يُكَذِّبْهُ إلَّا فِي الْبَعْضِ فَمَا بَالُ الْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْبَاقِي كَمَا قَضَى بِالْبَاقِي فِي الْإِقْرَارِ إذَا كَذَّبَ الْمُقِرَّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ تَكْذِيبَ الشَّاهِدِ تَفْسِيقٌ لَهُ وَلَا شَهَادَةَ لِلْفَاسِقِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُقِرِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَفْسِيقُهُ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا سَكَتَ ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْأَقَلَّ وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْأَلْفُ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ ( لِأَنَّ التَّكْذِيبَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا ) فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِدُونِ التَّوْفِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ التَّوْفِيقِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَكِنْ اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأْته

عَنْهَا قُبِلَتْ لِلتَّصْرِيحِ بِالتَّوْفِيقِ .
وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ أَحْوَالَ مَنْ يَدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ إذَا اخْتَلَفَتْ الشَّهَادَةُ لَا تَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يُكَذِّبَ الشَّاهِدَ بِالزِّيَادَةِ أَوْ يَسْكُتَ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّوْفِيقِ ، أَوْ يُوَفِّقَ .
وَجَوَابُ الْأَوَّلَيْنِ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ دُونَ الْآخَرِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالْأَلْفِ ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ( وَلَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ إنَّهُ قَضَاهُ ) لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ ( إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونُ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ .
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ ) إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ ( أَنْ لَا يَشْهَدَ بِأَلْفٍ حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ ) كَيْ لَا يَصِيرَ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ .
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِقَرْضٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَرْضِ ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْقَضَاءِ .
قُلْنَا : هَذَا إكْذَابٌ فِي غَيْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ ) إذَا ادَّعَى أَلْفًا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ ( قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالْأَلْفِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ : إنَّهُ قَضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ ) .
فَإِنْ قِيلَ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْقَضَاءِ مُتَنَاقِضَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلْفٌ بَلْ خَمْسُمِائَةٍ لَا غَيْرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ مَكَانَ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ فَكَانَ قَوْلُهُ : قَضَاهُ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ شَهَادَةً عَلَى الْمُدَّعِي بِقَبْضِ مَا هُوَ غَيْرُ مَا شَهِدَ بِهِ أَوَّلًا وَهُوَ الدَّيْنُ فَلَمْ يَعُدْ مُتَنَاقِضًا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْضَى بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونُ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ لَمَّا أَوْجَبَ الضَّمَانَ بَطَلَتْ مُطَالَبَةُ رَبِّ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَفِي ذَلِكَ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا خَالَفَهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِالْأَقَلِّ وَقَعَتْ ابْتِدَاءً وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
ا هـ .
( وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ) أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ لَا مَحَالَةَ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ مَنْ شَهِدَ بِقَضَائِهِ خَمْسَمِائَةٍ وَتَكْذِيبُهُ تَفْسِيقٌ لَهُ ، وَكَيْفَ يُقْضَى بِشَهَادَتِهِ وَجَوَابُهُ سَيَأْتِي ( قَوْلُهُ : وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ ) يَعْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ بِقَضَاءِ خَمْسِمِائَةٍ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْهَدَ بِأَلْفٍ حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ

خَمْسَمِائَةٍ كَيْ لَا يَصِيرَ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ بِعِلْمِهِ بِدَعْوَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِقَرْضِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَرْضِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَتَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالْقَضَاءِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَتْ قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ وَفِيمَا قَبْلَهَا شَهِدَ بِبَعْضِهِ ( وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْقَضَاءِ ) وَهُوَ تَفْسِيقٌ لَهُ ( قُلْنَا : هَذَا إكْذَابٌ فِي غَيْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَرْضُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُ فِيمَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ لَا مَحَالَةَ ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ لِشَخْصٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا لَهُ فَأَكْذَبَهُمْ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ إكْذَابَ الْمُدَّعِي لِشُهُودِهِ تَفْسِيقٌ لَهُ لِكَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا ، وَأَمَّا إكْذَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِتَفْسِيقٍ ؛ لِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَقْبَلْ الشَّهَادَتَيْنِ ) لِأَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ( فَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَقَضَى بِهَا ثُمَّ حَضَرَتْ الْأُخْرَى لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِالثَّانِيَةِ .قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ إلَخْ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَكَانِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرَانِ بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِالْأُولَى لَمْ يَقْبَلْهُمَا ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ ؛ إذْ الْعَرْضُ الْوَاحِدُ : أَعْنِي الْقَتْلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانَيْنِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ( فَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَقُضِيَ بِهَا ثُمَّ حَضَرَتْ الْأُخْرَى لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِمَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا ) .

( وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَقَرَةً وَقَالَ الْآخَرُ ثَوْرًا لَمْ يُقْطَعْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : لَا يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) جَمِيعًا ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي لَوْنَيْنِ يَتَشَابَهَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ لَا فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ، وَقِيلَ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَلْوَانِ .
لَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي السَّوْدَاءِ غَيْرُهَا فِي الْبَيْضَاءِ فَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ أَمْرَ الْحَدِّ أَهَمُّ وَصَارَ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِي اللَّيَالِي مِنْ بَعِيدٍ وَاللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ أَوْ يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدٍ فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا يُبْصِرُهُ وَالْبَيَاضُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَهَذَا الْآخَرُ يُشَاهِدُهُ ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ بِالنَّهَارِ عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ ، وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدَةٍ ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْكَيْفِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ فَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ بَقَرَةٍ ( وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ ) سَوَاءٌ كَانَ اللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ كَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ أَوْ لَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَقِيلَ إنْ كَانَا يَتَشَابَهَانِ قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لَمْ يُقْطَعْ وَقَالَا لَا يُقْطَعْ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ سَرِقَةَ السَّوَادِ غَيْرُ سَرِقَةِ الْبَيَاضِ فَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا قَطْعَ بِدُونِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْغَصْبِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ ، بَلْ هَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَدِّ أَهَمُّ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِيهِ إتْلَافُ نِصْفِ الْآدَمِيِّ فَصَارَ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْمُغَايَرَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ ( التَّحَمُّلَ فِي اللَّيَالِي مِنْ بَعِيدٍ ) لِكَوْنِ السَّرِقَةِ فِيهَا غَالِبًا ( وَاللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ ) كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ ( أَوْ يَجْتَمِعَانِ ) بِأَنْ تَكُونَ بَلْقَاءَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا أَسْوَدُ يُبْصِرُهُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ أَبْيَضُ يُشَاهِدُهُ الْآخَرُ ، وَإِذَا كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا وَجَبَ الْقَبُولُ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ شُهُودُ الزِّنَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ طَلَبَ التَّوْفِيقِ هَاهُنَا احْتِيَالٌ لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ وَهُوَ الْقَطْعُ ، وَالْحَدُّ يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ لَا لِإِثْبَاتِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ التَّوْفِيقَ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِيمَا ثَبَتَ بِالشُّبُهَاتِ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ إمْكَانُهُ فِيمَا يُدْرَأُ بِهَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ احْتِيَالًا لِإِثْبَاتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ فِي اخْتِلَافِ مَا كُلِّفَا نَقْلَهُ وَهُوَ مِنْ

صُلْبِ الشَّهَادَةِ كَبَيَانِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ نِصَابًا فَيُقْطَعُ بِهِ أَوْ لَا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي اخْتِلَافِ مَا لَمْ يُكَلَّفَا نَقْلَهُ كَلَوْنِ ثِيَابِ السَّارِقِ وَأَمْثَالِهِ فَاعْتِبَارُ التَّوْفِيقِ فِيهِ لَيْسَ احْتِيَالًا لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ لِإِمْكَانِ ثُبُوتِهِ بِدُونِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ بَيَانِ لَوْنِ الْبَقَرَةِ مَا كَلَّفَهُمَا الْقَاضِي بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يُكَلَّفَا نَقْلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، بِخِلَافِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَإِنَّهُمَا يُكَلَّفَانِ النَّقْلَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا فَكَانَ اخْتِلَافًا فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ جَوَابُ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ اعْتِبَارُ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ ، أَوْ يُقَالُ التَّصْرِيحُ بِالتَّوْفِيقِ يُعْتَبَرُ فِيمَا كَانَ فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَإِمْكَانُهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْغَصْبِ ) جَوَابٌ عَنْ مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ بِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ بِالنَّهَارِ إذْ الْغَصْبُ يَكُونُ فِيهِ غَالِبًا عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدٍ ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ لِيُحْتَاجَ إلَى التَّوْفِيقِ .

قَالَ ( وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا

قَالَ ( وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدَ فُلَانٍ بِأَلْفٍ إلَخْ ) رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ وَآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ دَعْوَى الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إثْبَاتُهُ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ ؛ إذْ الشِّرَاءُ بِأَلْفٍ غَيْرُهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَاخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالسَّبَبُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ دَعْوَى السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِيَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَادَّعَاهُ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ صَحِيحَةٌ فَكَانَ مَقْصُودُهُ السَّبَبَ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَوَّلًا أَلْفًا فَزَادَ فِي الثَّمَنِ وَعَرَّفَ بِهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّيِّدَ الشَّهِيدَ أَبَا الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيَّ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ وَقَالَ : تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا بِجِنْسَيْنِ كَأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ .
وَوَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الشِّرَاءَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْأَلْفُ وَالْخَمْسُمِائَةِ مُلْصَقَيْنِ بِالشِّرَاءِ ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ خَمْسَمِائَةٍ فَلَا يُقَالُ اشْتَرَى بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلِهَذَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِأَصْلِ الثَّمَنِ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ ) سَوَاءٌ ادَّعَى الْبَيْعَ بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ

الْمَقْصُودَ هُوَ السَّبَبُ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْكِتَابَةِ ، أَمَّا إذَا كَانَ يَدَّعِيهَا الْعَبْدُ فَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مَقْصُودًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الْمَوْلَى فَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْعَقْدِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَالَ الْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى هُوَ الْعِتْقُ وَالْأَدَاءُ هُوَ السَّبَبُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ الْبَدَلُ وَالسَّبَبُ هُوَ الْكِتَابَةُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى الْكِتَابَةَ وَالْعَبْدُ مُنْكِرٌ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَسْخِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَقْرِيرَهُ بَدَلُ الْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكِتَابَةَ .
أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى هُوَ الْعِتْقُ ، وَالْعِتْقُ لَا يَقَعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْكِتَابَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ قَوْلَهُ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَسْخِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْفَسْخَ وَيُخَاصِمَ لِأَدْنَى الْبَدَلَيْنِ

( وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَقْدُ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْعَبْدَ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ السَّبَبِ

( وَكَذَا الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَرْأَةَ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ الْقَاتِلَ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَبَقِيَ الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ وَفِي الرَّهْنِ ، إنْ كَانَ الْمُدَّعَى هُوَ الرَّهْنَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ فَعَرِيَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ الدَّعْوَى ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ .

( وَكَذَا الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ) أَمَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ هُوَ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالْقَاتِلَ فَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مَقْصُودًا وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِ الْعَقْدِ لِيَثْبُتَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي الْأَلْفَ ، أَوْ قَالَ مَوْلَى الْعَبْدِ أَعْتَقْتُك عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي الْأَلْفَ ، أَوْ قَالَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ صَالَحْتُك بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْقَاتِلُ يَدَّعِي الْأَلْفَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَنَّهُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا ادَّعَى أَلْفَيْنِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنْ ادَّعَى أَقَلَّ الْمَالَيْنِ يُعْتَبَرُ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِنْ التَّوْفِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالسُّكُوتِ عَنْهُمَا ( لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَتَبْقَى الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ ، وَفِي الرَّهْنِ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الرَّاهِنَ لَا تُقْبَلُ ) لِعَدَمِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كَانَ دَعْوَاهُ غَيْرَ مُفِيدَةٍ وَكَانَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَهِنَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ يَقْضِي بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ إجْمَاعًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ بِأَلْفٍ غَيْرِهِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُرْتَهِنَ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ مَتَى شَاءَ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ لِدَعْوَى الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَيْنٍ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَيَثْبُتُ

الرَّهْنُ بِالْأَلْفِ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلدَّيْنِ .
وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْآجِرَ أَوْ الْمُسْتَأْجِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْآجِرُ فَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ يَقْضِي بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ إذَا ادَّعَى الْأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا انْقَضَتْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي وُجُوبِ الْأَجْرِ وَصَارَ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جَازَتْ عَلَى الْأَلْفِ ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرَ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَانَ ذَلِكَ اعْتِرَافًا مِنْهُ بِمَالِ الْإِجَارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى اتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ وَاخْتِلَافُهُمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَقَرَّ بِالْأَكْثَرِ لَمْ يَبْقَ نِزَاعٌ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَقَلِّ فَالْآجِرُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ سِوَى ذَلِكَ .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ : فَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى إذَا كَانَتْ فِي الْعَقْدِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ فَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِاعْتِرَافِهِ .

وَفِي الْإِجَارَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْآجِرُ فَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ .

قَالَ ( فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِأَلْفٍ اسْتِحْسَانًا ، وَقَالَا : هَذَا بَاطِلٌ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا ) وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
لَهُمَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْعَقْدِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ السَّبَبُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَا هُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّبَعِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوِي دَعْوَى أَقَلِّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرِهِمَا فِي الصَّحِيحِ .
ثُمَّ قِيلَ : لِاخْتِلَافٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجَ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا قَدْ يَكُونُ الْمَالَ وَمَقْصُودَهُ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِأَلْفٍ اسْتِحْسَانًا ) إذَا اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قُبِلَتْ بِأَلْفٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هَذَا بَاطِلٌ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا .
وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
لَهُمَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْعَقْدُ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَا تَسْمِيَةِ مَهْرٍ ، وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي النِّكَاحِ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ كَالْعَمِّ وَالْأَخِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّابِعِ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ ثَابِتًا ( قَوْلُهُ : وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِذَلِكَ ، وَلُزُومُ الْمَهْرِ لِصَوْنِ الْمَحَلِّ الْخَطِيرِ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ مَجَّانًا كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا اخْتِلَافَ لِلشَّاهِدَيْنِ فِيهَا فَيَثْبُتُ الْأَصْلُ ، لَكِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْمَالُ فَيُقْضَى بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فِيمَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَهُوَ الْمَالُ وَالتَّكْذِيبُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّكْذِيبَ فِي الْأَصْلِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مُرَادَ الْمُعْتَرِضِ لَيْسَ بُطْلَانَ الْأَصْلِ بَلْ بُطْلَانُ التَّبَعِ ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنْ يَبْطُلَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ فِي الدَّعْوَى وَيَلْزَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِدَافِعٍ لِذَلِكَ كَمَا تَرَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا كَانَ كَالدَّيْنِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ

، فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَسْتَوِي دَعْوَى أَقَلِّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرِهِمَا ) بِكَلِمَةٍ أَوْ وَالصَّوَابُ كَلِمَةُ الْوَاوِ بِدَلَالَةِ يَسْتَوِي .
وَقَوْلُهُ : ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّيْنُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّعْوَى بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ كَمَا فِي الدَّيْنِ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ .
وَوَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْعَقْدُ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ مَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْمَقْصُودِ : أَعْنِي الدَّيْنَ .
وَقَالَ ( ثُمَّ قِيلَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجُ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا قَدْ يَكُونُ الْمَالَ ) بِخِلَافِ الزَّوْجِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْقَبُولَ ( وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ ) يَعْنِي مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي وَمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ يَدَّعِي ( وَهَذَا أَصَحُّ ) ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي الْعَقْدَ أَوْ الْمَالَ أَوْ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَهْرِ هَلْ يُوجِبُ خَلَلًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ لَا .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُوجِبُ ذَلِكَ .
وَقَالَا يُوجِبُهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ ) ( وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ) وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُورَثِ لَا يَقْضِي بِهِ لِلْوَارِثِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ الْمُورَثِ فَصَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لِلْوَارِثِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ ضَرُورَةً ، وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْجَرِّ وَالنَّقْلِ ( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ) لِأَنَّ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ .
( وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ نَشْهَدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ ؛ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا صَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُدَّعِي .
وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ

مُنْقَضِيَةٌ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ، وَبِخِلَافِ الْآخِذِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ ، وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .
( وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُفِعَتْ إلَى الْمُدَّعِي ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ( وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ ) لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هَاهُنَا الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ .

فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ : ذَكَرَ أَحْكَامَ الشَّهَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَيِّتِ عَقِيبَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْيَاءِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْوَاقِعِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّهَادَةِ بِالْمِيرَاثِ ، هَلْ تِحْتَاحُ إلَى الْجَرِّ وَالنَّقْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ هَذَا الْمُدَّعِي وَارِثُ الْمَيِّتِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ أَوْ لَا .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بُدَّ مِنْهُ ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ مِلْكَ الْمُورَثِ مِلْكُ الْوَارِثِ لِكَوْنِ الْوِرَاثَةِ خِلَافَةً وَلِهَذَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةً بِهِ لِلْوَارِثِ .
وَهُمَا يَقُولَانِ مِلْكُ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ ، وَيَحِلُّ الْوَارِثُ الْغَنِيُّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ ، وَالْمُتَجَدِّدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّقْلِ لِئَلَّا يَكُونَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُثْبِتًا إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ حِينَئِذٍ ضَرُورَةً وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يُسَوِّيَ أَسْبَابَهُ وَيُبَيِّنَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَجَعَلَ الْيَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ دَلِيلَ الْمِلْكِ .
لَا يُقَالُ : قَدْ تَكُونُ الْيَدُ يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا ضَمَانَ فِيهَا لِتَنْقَلِبَ بِوَاسِطَتِهِ يَدَ مِلْكٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ بِأَنْ يَمُوتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا وَدِيعَةُ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَرَكَ الْحِفْظَ وَهُوَ تَعَدٍّ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا لَهُ كَانَتْ لِأَبِيهِ

أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ بِالِاتِّفَاقِ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْجَرَّ فِي الشَّهَادَةِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ قِيَامَ الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُغْنِي عَنْ الْجَرِّ وَقَدْ وُجِدَتْ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ يَدُ الْمُعِيرِ وَالْمُودِعِ ، وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ ، فَكَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْقِلَابِ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَمَنْ أَقَامَهَا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ وَلَمْ يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ الْجَرِّ ، وَمَا قَامَ مَقَامَهُ ، وَتُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِشَهَادَتِهِمْ بِمِلْكِ الْمُورَثِ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ ) مَسْأَلَةٌ أَتَى بِهَا اسْتِطْرَادًا إذْ هِيَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمِيرَاثِ ، وَصُورَتُهَا : إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ قُبِلَتْ فَكَذَا هَذَا وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَخَذَهَا مِنْ الْمُدَّعِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَتُرَدُّ الدَّارُ إلَى الْمُدَّعِي .
وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا : إنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُنْقَضِيَةٌ تَزُولُ بِأَسْبَابِ الزَّوَالِ فَرُبَّمَا زَالَتْ بَعْدَمَا كَانَتْ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ ) دَلِيلٌ آخَرُ : أَيْ الْيَدُ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى يَدِ مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَالْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ،

وَبِخِلَافِ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ ؛ وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدَ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ وَالشَّهَادَةُ خَبَرٌ وَلَيْسَ الْمُخْبَرَ بِهِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ كَالْمُعَايَنِ الْمَحْسُوسِ عَدَمُ زَوَالِهِ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ دُفِعَتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هُوَ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ) : قَالَ ( الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ : الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَرْعُ شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَاسْتَحَقَّتْ التَّأْخِيرَ فِي الذِّكْرِ ، وَجَوَازُهَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَزِمَتْ الْأَصْلَ لَاحِقًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ ، وَالْإِنَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهَا لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَأَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ وَلِهَذَا جُوِّزَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ : أَعْنِي الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ بَعُدَتْ ( إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً ) أَيْ لَكِنْ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ وَهَذِهِ كَذَلِكَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ لَمَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ جَوَازِهِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ، لَكِنْ لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَهُوَ أَصْلٌ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ آخَرَ جَازَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ هُوَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ هُوَ مَا عَايَنُوهُ مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ بَدَلًا عَنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَلَمْ يَمْتَنِعُ إتْمَامُ الْأُصُولِ بِالْفُرُوعِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَدَلِيَّةُ فِيهَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ) احْتِمَالٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ : يَعْنِي أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ ، فَإِنَّ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ تُهْمَةَ الْكَذِبِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ ، وَفِي شَهَادَةِ الْفُرُوعِ تِلْكَ التُّهْمَةُ مَعَ زِيَادَةِ تُهْمَةُ كَذِبِهِمْ

مَعَ إمْكَانِ احْتِرَازٍ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي عَدَدِ الْأُصُولِ عِنْدَ إشْهَادِهِمْ حَتَّى إنْ تَعَذَّرَ إقَامَةُ بَعْضٍ قَامَ بِهَا الْبَاقُونَ ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .

( وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ .

قَوْلُهُ : ( وَيَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ غَيْرِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ فَذَلِكَ أَرْبَعٌ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتِمَّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمَا ( وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ) فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِأَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ كُلِّ أَصْلٍ فَرْعَانِ ( وَلِأَنَّ نَقْلَ الشَّهَادَةِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ مَعْنًى ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ ، فَإِذَا شَهِدَا بِهَا فَقَدْ تَمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ إذَا شَهِدَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَإِنَّ النِّصَابَ لَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى وَاحِدٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ .
قَالَ : الْفَرْعُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ مُعَبِّرٌ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِرِوَايَةِ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ

( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ .

( وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ : اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ( وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ ( وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا .

قَالَ ( وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ : شَاهِدُ الْأَصْلِ إلَخْ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَكَمِّيَّةِ الشُّهُودِ الْفُرُوعِ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِشْهَادِ وَأَدَاءِ الْفُرُوعِ فَقَالَ : وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ : شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْ الْأَصْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحَمُّلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْفَرْعَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ بَلْ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْفَرْعِ كَمَا يَشْهَدُ الْأَصْلُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ مِثْلَ مَا سَمِعَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَشْهَدُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ لِقَوْلِهِ لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْأَصْلُ عِنْدَ التَّحْمِيلِ أَشْهَدَنِي نَفْسَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ .
قَالَ ( وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ إلَخْ ) هَذَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْفُرُوعِ الشَّهَادَةَ ( يَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ : أَعْنِي الْفَرْعَ وَذَكَرَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ وَذَكَرَ التَّحْمِيلَ ) وَالْعِبَارَةُ الْمَذْكُورَةُ تَفِي بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ أَوْسَطُ الْعِبَارَاتِ ( وَلَهَا ) أَيْ لِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ( لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا مِنْ الْمَالِ وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ الْآنَ فَذَلِكَ

ثَمَانِي شِينَاتٍ وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا خَمْسُ شِينَاتٍ ( وَأَقْصَرُ مِنْهُ ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِكَذَا وَفِيهِ شِينَانِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شَيْءٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .

( وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي : فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ .

( وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ ) لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي ؛ لِأَنَّهُ ( لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ ) بِالِاتِّفَاقِ .
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ يَقَعُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حَتَّى إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ : يَعْنِي يَتَخَيَّرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ وَلَا تَوْكِيلَ إلَّا بِأَمْرِهِ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ حَتَّى لَوْ أَشْهَدَ إنْسَانًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ الْأَدَاءِ لَمْ يَصِحَّ مَنْعُهُ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِتَصِيرَ الشَّهَادَةُ حُجَّةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي نَفْسِهَا مَا لَمْ تُنْقَلْ ، وَلَا بُدَّ لِلنَّقْلِ مِنْ التَّحْمِيلِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُضْطَرِبٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ فِي كَلَامِهِ التَّحْمِيلَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ لِيَصِيرَ حُجَّةً وَعُطِفَ عَلَيْهِ فَيَظْهَرُ بِالنَّصْبِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّحْمِيلُ مِمَّا يَحْصُلُ بَعْدَ النَّقْلِ وَالنَّقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ .
ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِقِيَامِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مُزَيَّفٌ ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَسَعُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ شَهِدَ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ فِي نَقْلِ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ يَجِبُ

عَلَيْهِ إقَامَتُهَا وَيَأْثَمُ بِكِتْمَانِهَا مَتَى وُجِدَ الطَّلَبُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ عَنْهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْأَمْرُ لِصِحَّتِهَا ، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا مَضَرَّةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِهَةٌ فِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِبْطَالُ وِلَايَتِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ مَضَرَّةٌ فِي حَقِّهِ ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا يُشْتَرَطُ الْأَمْرُ وَصَارَ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ إذَا أَنْكَحَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لِسَدِّ الْخَلَلِ .
وَأَمَّا عِبَارَةُ الْمَشَايِخِ فَهِيَ مُشْكِلَةٌ لَيْسَ فِيهَا إشْعَارٌ بِالْمَطْلُوبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ كَلَامٌ فِي أَوَّلِ الشَّهَادَاتِ بِوَجْهٍ آخَرَ مُفِيدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ .
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ ، قَالُوا : الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُجَوِّزَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِسَاسُ الْحَاجَةِ فَلَا تَجُوزُ مَا لَمْ يُوجَدْ وَلَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْأُصُولُ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا يَمْنَعُهُمْ الْحُضُورَ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِعَجْزِ الْأُصُولِ عَنْ إقَامَتِهَا ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ السَّفَرُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَجِّزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ كَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ وَامْتِدَادِ الْمَسْحِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ وَحُرْمَةِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ لَهُ الْإِشْهَادُ ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَ ( إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ قَالُوا : الْأَوَّلُ ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( أَحْسَنُ ) ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ شَرْعًا يَتَحَقَّقُ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي عَدَّدْنَاهَا فَكَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ أَحْسَنَ ( وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ) وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ قَوْلَهُمْ فَكَانَ كَنَقْلِ إقْرَارِهِمْ

قَالَ ( فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ ( وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ ) لِمَا قُلْنَا ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ ، كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ .
قَالَ ( وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازَ وَنَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا .
قَالَ ( وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ .

( فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودُ الْأَصْلِ شُهُودَ الْفُرُوعِ جَازَ ) وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ أَصْلَيْنِ فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : إمَّا أَنْ يَعْرِفَهُمَا الْقَاضِي أَوْ لَا يَعْرِفَهُمَا ، أَوْ عَرَفَ الْأُصُولَ دُونَ الْفُرُوعِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنْ عَرَفَهُمَا بِالْعَدَالَةِ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمَا يَسْأَلْ عَنْهُمَا ، وَإِنْ عَرَفَ الْأُصُولَ دُونَ الْفُرُوعِ يَسْأَلُ عَنْ الْفُرُوعِ ، وَإِنْ عَرَفَ الْفُرُوعَ يَسْأَلْ عَنْ الْأُصُولِ ، فَإِنْ عَدَّلَ الْفُرُوعُ الْأُصُولَ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ لِكَوْنِهِمْ عَلَى صِفَةِ الشَّهَادَةِ .
( وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ لِمَا قُلْنَا ) إنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ ، وَقَوْلُهُ : ( غَايَةُ الْأَمْرِ ) رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَنْفِيذَ شَهَادَةِ نَفْسِهِ بِهَذَا التَّعْدِيلِ فَكَانَ مُتَّهَمًا ، فَأَشَارَ إلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ : أَيْ غَايَةُ مَا يَرِدُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الشُّبْهَةِ أَنْ يُقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَعْدِيلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِسَبَبِ ( أَنَّ فِي تَعْدِيلِهِ مَنْفَعَةً ) لَهُ مِنْ حَيْثُ تَنْفِيذُ الْقَاضِي قَوْلَهُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ ( لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ ) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا شَهِدَ فِيمَا شَهِدَ لِيَصِيرَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْقَاضِي قَوْلَهُ عَلَى مُوجِبِ مَا شَهِدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ فِيهِ فِي الْوَاقِعِ ( كَيْفَ ) يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْعٌ يَفُوتُ بِتَرْكِ التَّعْدِيلِ ( لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ ) حَتَّى إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْعُدُولِ حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ( فَلَا تُهْمَةَ ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ ) وَقَالُوا لَا نُخْبِرُك (

جَازَتْ ) شَهَادَتُهُمْ ( وَ ) لَكِنْ ( يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِ الْأُصُولِ ) بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ الْمُزَكِّينَ غَيْرِ الْفُرُوعِ ( عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُقْبَلُ ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ ( لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا تُقْبَلُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ الشَّهَادَةِ دُونَ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا نَقَلُوا ) فَقَدْ أَقَامُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ الْقَاضِي ( يَتَعَرَّفُ الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرَ الْأُصُولُ بِأَنْفُسِهِمْ فَشَهِدُوا ) وَإِذَا قَالُوا لَا نَعْرِفُ أَنَّ الْأُصُولَ عُدُولٌ أَوْ لَا ؟ قِيلَ : ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ لَا نُخْبِرُك سَوَاءٌ ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : لَا يَرُدُّ الْقَاضِي شَهَادَةَ الْفُرُوعِ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ غَيْرَهُمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْأَصْلِ بَقِيَ مَسْتُورًا وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأُصُولِ الشَّهَادَةَ ) بِأَنْ قَالُوا مَا لَنَا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ شَهَادَةٌ ثُمَّ جَاءَ الْفُرُوعُ يَشْهَدُونَ بِشَهَادَتِهِمْ ( لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ خَبَرِ الْأُصُولِ وَخَبَرِ الْفُرُوعِ ، وَهُوَ ) أَيْ التَّحْمِيلُ ( شَرْطُ ) صِحَّةِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ .

( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا : لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ .قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَخْ ) إذَا شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلَيْنِ ( عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَا أَخْبَرَانَا ) الْأَصْلَانِ ( أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ الْمُدَّعِي بِامْرَأَةٍ وَقَالَا ) الْفَرْعَانِ ( لَا نَعْلَمُ أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا هِيَ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةُ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ .
وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعِ مَحْدُودَةٍ بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي ) بَعْدَمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْدُودُ بِهَا فِي يَدِهِ ( لَا بُدَّ مِنْ ) شَاهِدَيْنِ ( آخَرَيْنِ ) يَشْهَدَانِ بِأَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ .

قَالَ ( وَكَذَا ) ( كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ ( وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا ) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا ، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ ، وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ .
وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ والأوزجندية خَاصَّةٌ ، ( وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ .
ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَكَذَلِكَ ( إذَا كَتَبَ قَاضِي بَلَدٍ إلَى آخَرَ ) شَاهِدَانِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ كَذَا فَاقْضِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي فُلَانًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْكِتَابَ يَقُولُ الْقَاضِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَحْضَرْته هُوَ فُلَانٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَمَكُّنِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ( فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ) عَلَى الشَّهَادَةِ ( إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ ) فَلَا يَلْزَمُ مَا قِيلَ تَمْثِيلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ ، إذْ الْعَدَدُ مِنْ شَأْنِهِمْ دُونَ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُ وَوُفُورَ وِلَايَتِهِ قَامَ مَقَامَ الْعَدَدِ ( وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ ) يَعْنِي بَابَ الشَّهَادَةِ وَبَابَ كِتَابِ الْقَاضِي ( فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخْذِهَا وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ ) يَعْنِي الَّتِي لَا خَاصَّةَ دُونَهَا .
قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْفَخْذُ آخَرُ الْقَبَائِلِ السِّتِّ : أَوَّلُهَا الشَّعْبُ ، ثُمَّ الْقَبِيلَةُ ، ثُمَّ الْفَصِيلَةُ ، ثُمَّ الْعِمَارَةُ ، ثُمَّ الْبَطْنُ ، ثُمَّ الْفَخْذُ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ : إنَّ الْفَصِيلَةَ بَعْدَ الْفَخْذِ ؛ فَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ ، وَالْقَبَائِلُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ ، وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ تَجْمَعُ الْبُطُونَ ، وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ ، وَالْفَخْذُ بِسُكُونِ الْخَاءِ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ ( وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ الْجَوَازِ ( لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ الْعَامَّةِ وَالتَّمِيمِيَّةُ عَامَّةٌ ) بِالنِّسْبَةِ إلَى بَنِي تَمِيمٍ ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ فَكَمْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ نِسَاءٌ اتَّحَدَتْ أَسَامِيهِنَّ وَأَسَامِي آبَائِهِنَّ ( وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخْذِ ؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ ) ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ

يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ ، فَذِكْرُ الْفَخْذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ ؛ لِأَنَّ الْفَخْذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجَسَدِ الْأَدْنَى فِي النِّسْبَةِ وَهُوَ أَبٌ الْأَبِ

( فَصْلٌ ) ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ .
وَقَالَا : نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ .
وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقُولٌ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا ، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا ، وَيَقُولُ : إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ : إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا .
وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا ، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ إلَخْ ) شَاهِدُ الزُّورِ ، وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ أَوْ شَهِدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ فَجَاءَ حَيًّا يُعَزَّرُ ، وَتَشْهِيرُهُ تَعْزِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَقَوْلُهُ : وَلَا أُعَزِّرُهُ : يَعْنِي لَا أَضْرِبُهُ ، وَقَالَا : نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ .
لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، مِنْ السُّخَامِ : وَهُوَ سَوَادُ الْقَدْرِ ، أَوْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ .
لَا يُقَالُ : الِاسْتِدْلَال بِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى مَذْهَبِهِمَا ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِجَوَازِ التَّسْخِيمِ لِكَوْنِهِ مُثْلَةً وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَلَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ إلَى أَرْبَعِينَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا إثْبَاتُ مَا نَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ التَّعْزِيرِ بِالضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الضَّرْبِ مَشْرُوعٌ فِي تَعْزِيرِهِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى السِّيَاسَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ هَذِهِ ) أَيْ شَهَادَةَ الزُّورِ ( كَبِيرَةٌ ) ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْت لَا يَسْكُتُ } ( وَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ ) بِإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ ( وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزِّرُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ ) وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرَةٌ ، وَمَا كَانَ يَخْفَى مَا يَعْمَلُهُ عَلَيْهِمْ وَسَكَتُوا عَنْهُ فَكَانَ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا وَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ( وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيُكْتَفَى بِهِ .
وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ ) فَإِنَّهُ إذَا تَصَوَّرَ الضَّرْبَ يَخَافُ فَلَا يَرْجِعُ وَفِيهِ تَضْيِيعٌ لِلْحُقُوقِ ( فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) وَذَلِكَ بِتَرْكِ الضَّرْبِ ( وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ ) وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } .
( وَ ) بِدَلَالَةِ ( التَّسْخِيمِ ) هَذَا تَأْوِيلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ، وَأَوَّلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْخِيمِ التَّخْجِيلُ بِالتَّفْضِيحِ وَالتَّشْهِيرِ ، فَإِنَّ الْخَجِلَ يُسَمَّى مُسْوَدًّا مَجَازًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } ( وَتَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَا نُقِلَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ إلَى سُوقِهِ ، إنْ كَانَ سُوقِيًّا ، أَوْ إلَى قَوْمِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَكُنْ سُوقِيًّا بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا ) أَيْ مُجْتَمَعِينَ ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ أَكْثَرَ جَمْعًا لِلْقَوْمِ ( وَيَقُولُ : إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ : إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا أَيْضًا يُشَهَّرُ ، وَالْحَبْسُ وَالتَّعْزِيرُ مِقْدَارُهُ مُفَوَّضٌ إلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِيمَنْ كَانَ تَائِبًا أَوْ مُصِرًّا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ .
وَقَدْ قِيلَ إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ لَا يُعَزَّرُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ،

وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قُلْنَا .
ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَابَ هَلْ تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا ؟ إنْ كَانَ فَاسِقًا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى الزُّورِ فِسْقُهُ وَقَدْ زَالَ بِالتَّوْبَةِ ، وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَعِنْدَ آخَرِينَ سَنَةٌ .
قَالُوا : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا لَا تُقْبَلُ أَصْلًا ، وَكَذَا إنْ كَانَ عَدْلًا عَلَى رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً ، وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ .
قَالُوا : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
قَالَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) وَذَكَرَ أَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ رِوَايَتِهِ هِيَ مَعْرِفَةُ شَاهِدِ الزُّورِ بِأَنَّهُ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ ، فَأَمَّا إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الَّذِي شَهِدَ بِقَتْلِ شَخْصٍ وَظَهَرَ حَيًّا أَوْ بِمَوْتِهِ وَكَانَ حَيًّا إمَّا لِنُدْرَتِهِ وَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ كَذَبْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ فَشَهِدَتْ وَهُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ) ( قَالَ : إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ( وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ .
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ .

كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ : تَنَاسُبُ هَذَا الْكِتَابِ لِكِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ فَصْلِ شَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرٌ ، إذْ الرُّجُوعُ عَنْهَا يَقْتَضِي سَبْقَ وُجُودِهَا وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ كَوْنُهَا زُورًا وَهُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ دِيَانَةً ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَلَاصًا مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ ، فَإِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ بِأَنْ قَالُوا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ رَجَعْنَا عَمَّا شَهِدْنَا بِهِ أَوْ شَهِدْنَا بِزُورٍ فِيمَا شَهِدْنَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ سَقَطَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ بِهَا عَلَى الْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَا قَضَاءَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِتْلَافِ ، وَلَا إتْلَافَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَمَّا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلَى الْمُدَّعِي فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنْ كَانَتْ حَقًّا فِي الْوَاقِعِ وَرَجَعُوا عَنْهَا صَارُوا كَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ يَكْتُمُهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ ، وَالْكَلَامُ الْمُنَاقِضُ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ عَقْلًا وَشَرْعًا فَلَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّسَلْسُلِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ رُجُوعِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَلَيْسَ لِبَعْضٍ عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحٌ فَيَتَسَلْسَلُ الْحُكْمُ وَفَسْخُهُ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْآخَرَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ كَالْأَوَّلِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ سَاوَاهُ وَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّرْجِيحِ ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ

بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، فَقَضَاءُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلتَّلَفِ لَكِنَّهُ كَالْمَلْجَإِ مِنْ جِهَتِهِمْ ، فَكَانَ التَّسْبِيبُ مِنْهُمْ تَعَدِّيًا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِمْ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضٌ وَذَلِكَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ فَعَلَامَ الضَّمَانُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَوَعَدَ بِتَقْرِيرِهِ مِنْ بَعْدُ ، وَاكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ التَّعْزِيرِ فِي الْفَصْلَيْنِ بِذَكَرِهِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ .
قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ إلَخْ ) الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ فَالرُّجُوعُ مُخْتَصٌّ بِهِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ فَسْخَ الشَّهَادَةِ يَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إقْرَارٌ بِضَمَانِ مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ ، وَالْإِقْرَارُ بِذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَرْتَفِعُ مَا دَامَتْ الْحُجَّةُ بَاقِيَةً فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهَا ، وَالرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَيْسَ بِرَفْعٍ لِلْحُجَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ كَمَا مَرَّ ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ مُرَتَّبٌ عَلَى ارْتِفَاعِهَا أَوْ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ .
لَا يُقَالُ : الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بَقَاءً ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَقَاءُ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : مَجْلِسُ الْحُكْمِ مَحَلُّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي النِّكَاحِ وَوُجُودِ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَصِحَّةِ الْفَسْخِ ( وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ

تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ ، وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ ) وَشَهَادَةُ الزُّورِ جِنَايَةٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا تَتَقَيَّدُ بِهِ ( وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا ) وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَوْ عَجَزَ عَنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الشَّاهِدَيْنِ ( لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي بَيِّنَةً عَلَيْهِمَا وَلَا يُحَلِّفُهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَدَعْوَى الرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ بَاطِلَةٌ ( حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ ) بَيِّنَتُهُ ( لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ ) وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ضَمَّنَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي ، وَمَعْنَاهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُعْطِ شَيْئًا إلَى الْآنَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي وَمَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي تَضْمِينَهُ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بَدَلٌ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ : أَيْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ دَعْوَى الرُّجُوعِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَقِيلَ هُوَ الضَّمَانُ ، وَمَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ صَحِيحٌ وَهُوَ الرُّجُوعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلدَّلِيلِ فَإِنَّهَا قَبُولُ الْبَيِّنَةِ لَا وُجُوبُ الضَّمَانِ فَتَأَمَّلْ .

( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ .
قُلْنَا : تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهِ يَتَحَقَّقُ ، وَلِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ .
قَالَ ( فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ

( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ عُلِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ وَلِمَا يَأْتِي مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ الشُّهُودِ دُونَ بَعْضٍ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْإِتْلَافِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ .
وَقُلْنَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذْ لَمْ يُمْكِنْ إضَافَتُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ هُوَ الْقَاضِي ، وَإِضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ مُتَعَذِّرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْمُلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ يَفْسُقُ وَلَيْسَ بِمُلْجَإٍ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْمُلْجَأَ حَقِيقَةً مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْقَاضِي لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ صَرْفَ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَامٌّ فَيُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِأَجْلِهِ ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَاعْتُبِرَ السَّبَبُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ كُلٍّ مِنْكُمْ وَمِنْ الشَّافِعِيِّ تَرَكَ أَصْلَهُ الْمَعْهُودَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ ثُمَّ الرُّجُوعِ ، فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا عِنْدَكُمْ ، وَمَا جَعَلْتُمْ كَالْمُبَاشِرِ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ ، جَعَلَ الْمُسَبَّبَ كَالْمُبَاشِرِ .
قُلْنَا : فِعْلُ الْمُبَاشِرِ الِاخْتِيَارِيُّ قَطَعَ النِّسْبَةَ أَوْ صَارَ شُبْهَةً كَمَا سَيَجِيءُ ، وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهُ مُبَاشِرًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَاهِدَيْ السَّرِقَةِ إذَا رَجَعَا : لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت

أَيْدِيَكُمَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَازَ أَنْ يُهَدِّدَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرُجِمْت ، وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ : يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِتْلَافِ ، وَالْإِتْلَافُ يَتَحَقَّقُ بِالْقَبْضِ ، وَفِي ذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا أُلْزِمَا دَيْنًا بِشَهَادَتِهِمَا ، فَلَوْ ضَمِنَا قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الْمُدَّعِي كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنًا بِمُقَابَلَةِ دَيْنٍ أَوْجَبَا وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا .
وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَقَالَ : إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ بَعْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَهُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ بِشَهَادَتِهِمَا أَزَالَاهُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِهَا ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِزَالَةُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِمَا بِأَخْذِ الضَّمَانِ لَا تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ ، وَإِذَا كَانَ دَيْنًا فَبِإِزَالَةِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ

مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
قَالَ ( وَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ إلَخْ ) الْمُعْتَبَرُ فِي بَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَقِّ فِي الْحَقِيقَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَمَا زَادَ فَهُوَ فَضْلٌ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ ، إلَّا أَنَّ الشُّهُودَ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ الِاثْنَيْنِ يُضَافُ الْقَضَاءُ وَوُجُوبُ الْحَقِّ إلَى الْكُلِّ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ .
وَإِذَا رَجَعَ وَاحِدٌ زَالَ الِاسْتِوَاءُ وَظَهَرَ إضَافَةُ الْقَضَاءِ إلَى الْمُثَنَّى وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ فَرَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِشَهَادَةِ مَنْ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ .
قِيلَ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ فَرْدٌ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ شَيْءٍ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَصْلُحَ فِي الْبَقَاءِ لِلْإِثْبَاتِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي الِابْتِدَاءِ لِذَلِكَ ، كَمَا فِي النِّصَابِ فَإِنَّ بَعْضَهُ لَا يَصْلُحُ فِي الِابْتِدَاءِ لِإِثْبَاتِ الْوُجُوبِ وَيَصْلُحُ فِي الْبَقَاءِ بِقَدْرِهِ .

( وَإِنْ شَهِدَا بِالْمَالِ ثَلَاثَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ ، وَالْمُتْلِفُ مَتَى اسْتَحَقَّ ( سَقَطَ الضَّمَانُ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ ) فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ ضَمِنَ ( الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ ) لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمْ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ

( وَإِذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ فَرَجَعَ وَاحِدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ( لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِلْمَشْهُودِ بِهِ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ ) التَّامَّةِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمُتْلِفِ يُسْقِطُ الضَّمَانَ فِيمَا إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ زَيْدٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ عَلَى الْمُتْلِفِ بِالضَّمَانِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمُتْلِفُ عَمْرٌو وَأَخَذَ الضَّمَانَ مِنْ الْمُتْلِفِ سَقَطَ الضَّمَانُ الثَّابِتُ لِزَيْدٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْمُتْلِفِ فَلَأَنْ يَمْنَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ ( فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْحَقِّ ) قِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاجِعِ الْأَوَّلِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ ، وَبَعْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ كَانَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ بَاقِيًا فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي أَتْلَفَ نِصْفَ الْحَقِّ فَيَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ أَوْ الِانْقِلَابِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا ، ثُمَّ إذَا رَجَعَ الْأَوَّلُ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَاحْتُمِلَ كَذِبُ غَيْرِهِ ، فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا ، أَوْ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنْهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَعِنْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ وُجِدَ الْإِتْلَافُ ، وَلَكِنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ بَقَاءُ النِّصَابِ مَنَعَ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي ارْتَفَعَ الْمَانِعُ وَوَجَبَ الضَّمَانُ بِالْمُقْتَضِي .

( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ ) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ ( وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ ) لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ ( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرَةُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ( فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبْعُ الْحَقِّ ) لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبْعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ ( وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ ) لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ } فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا ( وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشَرَةُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) لِمَا قُلْنَا

( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ ) ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْحَقِّ بَاقٍ لِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ، فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبُعُ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبُعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ) فَتَعَيَّنَ لِلْقِيَامِ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ ، وَإِذَا ثَبَتَ نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ضَمِنَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ) بِالنَّصِّ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ } وَإِذَا كَانَتَا كَرَجُلٍ صَارَ كَأَنَّهُ شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا ) وَفِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ ، وَإِنَّمَا تَمَّ أَنْ لَوْ قَالَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ مُكَرَّرٌ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ كَكَلِمَةِ كُلٍّ ( وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشْرُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا ) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ ، فَالرَّجُلُ يَبْقَى بِبَقَائِهِ نِصْفُ الْحَقِّ .

( وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَاهِدَةٍ بَلْ هِيَ بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ .( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ شَطْرُ الْعِلَّةِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَضَاءُ مُضَافًا إلَى شِهَادِ رَجُلَيْنِ دُونَهَا فَلَا تَضْمَنُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا .

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ وَتُتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً ضَرُورَةَ الْمِلْكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ ( وَكَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ) لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لَمَّا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَبَيْنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ( وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ إلَخْ ) وَإِنْ شَهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ هَاهُنَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ عِنْدَنَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ بِالنَّصِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ ( قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ مُتَقَوِّمَةً لَكَانَتْ بِالتَّمَلُّكِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ هُوَ عَيْنُ الدَّاخِلِ فِي الْمِلْكِ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّقَوُّمِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ تَقَوُّمُهَا فِي الْأُخْرَى لَكِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ الدُّخُولِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا إنَّمَا تُضْمَنُ وَتَتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ خَطِيرٌ لِحُصُولِ النَّسْلِ بِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي حَالَةِ الْإِزَالَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ عِنْدَ التَّمَلُّكِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِهِ عِنْدَ الْإِزَالَةِ كَالْمَشْهُودِ وَالْوَلِيِّ ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا عَلَى زَوْجٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِتْلَافَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَضْمُونٌ بِالنَّصِّ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يُلْتَحَقُ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ( وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ )

وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ .

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَعْنًى .
نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ ( وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ضَمِنَا النُّقْصَانَ ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ بِلَا عِوَضٍ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ السَّابِقُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إلَخْ ) شَهِدَا بِأَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَلْفُ قِيمَتَهُ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ ، وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ضَمِنَا لِلْبَائِعِ أَلْفًا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَلْفِ مِنْ قِيمَتِهِ بِلَا عِوَضٍ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ بِأَنْ شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبِأَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَتَقَرَّرَ الْبَيْعُ ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ لِإِتْلَافِهِمَا الزَّائِدَ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ وَالْبَائِعُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ وَالرِّضَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ لَكِنَّ حُكْمَهُ مُضَافٌ إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَشْهُودُ بِهِ ، وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ ، وَالْبَائِعُ لَمَّا كَانَ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْبَيْعِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ ، إذْ الْعَاقِلُ يُتَحَرَّزُ عَنْ الِانْتِسَابِ إلَى الْكَذِبِ حَسَبَ طَاقَتِهِ ، فَلَوْ أَوْجَبَا الْبَيْعَ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِتْلَافُ .

( وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ ، ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَاوَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ) بِالِارْتِدَادِ أَوْ مُطَاوَعَةِ ابْنِ الزَّوْجِ ، وَعَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ لِشُبْهَةٍ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ شَخْصٌ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالتَّخْلِيَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبُضْعُ إلَى الْمَرْأَةِ كَمَا كَانَ ، وَالْفَسْخُ يُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَكَانَ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِالرُّجُوعِ ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ اللُّزُومِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ كُلُّ الْمُبْدَلِ إلَى مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهِ أَشْبَهَ الْفَسْخَ .

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِهَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ) فَقُضِيَ بِذَلِكَ ( ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ) وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ .
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْعِتْقَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي ذَلِكَ شَرْعًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْحُجَّةِ .
وَقِيلَ لَمَّا ثَبَتَ الْوَلَاءُ ثَبَتَ الْعِوَضُ فَانْتَفَى الضَّمَانُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ الضَّمَانُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ إتْلَافٍ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ .

( وَإِنْ شَهِدُوا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهَ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعَانُ وَالْمُكْرِهَ يُمْنَعُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةَ لَمْ يُوجَدْ ، وَكَذَا تَسْبِيبًا لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا ، وَهَاهُنَا لَا يُفْضِي لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِمَّا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ ، ثُمَّ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ ، بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالْبَاقِي يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعَا إلَخْ ) إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقِصَاصِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الدِّيَةَ فِي مَالِهِمَا ( وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْتَصُّ مِنْهُمَا لِوُجُودِ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ ) أَيْ فَأَشْبَهَ الْمُسَبِّبَ هَاهُنَا وَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُكْرَهُ إنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ ، أَوْ فَأَشْبَهَ الْقَاضِيَ الْمُكْرَهَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُلْجَإِ بِشَهَادَتِهِمَا ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَرَ الْوُجُوبَ كَفَرَ إنْ كَانَ اسْمَ مَفْعُولٍ .
وَقِيلَ أَشْبَهَ الْوَلِيَّ الْمُكْرَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجَإٍ إلَى الْقَتْلِ .
وَقَوْلُهُ : ( بَلْ أَوْلَى ) أَيْ التَّسْبِيبُ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْإِفْضَاءُ وَالْإِفْضَاءُ هَاهُنَا أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُمْنَعُ عَنْ الْقَتْلِ وَلَا يُعَانُ عَلَيْهِ ، وَالْوَلِيُّ يُعَانُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ إفْضَاءً ، وَمَعَ ذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرَهِ لِلتَّسْبِيبِ فَمِنْ الشَّاهِدِ أَوْلَى ( وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً لَمْ يُوجَدْ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ إيمَاءً إلَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْقَتْلِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ فَكَيْفَ يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ ، وَكَذَا تَسْبِيبًا ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ إلَى الشَّيْءِ هُوَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : ظُهُورُ إيثَارِ حَيَاتِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعًا أَوْ طَبْعًا ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ فَصَارَ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَالثَّانِي

مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مُعَارَضٌ بِطَبْعِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ التَّشَفِّيَ بِالْقِصَاصِ ظَاهِرًا وَلِهَذَا تَنَزَّلَ فَقَالَ ( وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ تَسْبِيبًا ، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ إلَى غَيْرِهِ ، وَالْفِعْلُ هَاهُنَا وَهُوَ الْقَتْلُ وُجِدَ مِنْ الْوَلِيِّ بِاخْتِيَارِهِ الصَّحِيحِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ إلَى الشُّهُودِ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ نِسْبَتَهُ إلَى الشُّهُودِ لَكِنْ لَا أَقَلَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً يَنْدَرِئُ بِهَا الْقِصَاصُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَا تَدْفَعُ الدِّيَةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْقِصَاصِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ) فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ مَا سَقَطَ بِالشُّبُهَاتِ سُقُوطُ مَا ثَبَتَ بِهَا ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الدَّلِيلُ الْجَوَابَ عَنْ صُورَةِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ هُنَاكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ عَنْ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ فَاسِدٌ وَاخْتِيَارَ الْمُكْرَهِ صَحِيحٌ ، وَالْفَاسِدُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَجُعِلَ الْمُكْرَهُ كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ كَالْمَوْجُودِ مِنْ الْمُكْرَهِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَلِيُّ مَعَهُمَا أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ وَتَضْمِينِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ حَقِيقَةً وَالشَّاهِدَيْنِ حُكْمًا ، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْحَقِيقِيِّ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَلِيُّ لَمْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْوَلِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
قَالَا : كَانَا عَامِلَيْنِ لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : ضُمِّنَا لِإِتْلَافِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ

حُكْمًا ، وَالْمُتْلِفُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَضْمَنُ بِتَسْبِيبِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ ، وَعَلَيْهِ يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ تَصْنِيفِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لَا تَصْنِيفِ عَلَاءِ الدِّينِ الْعَالِمِ .

قَالَ ( وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ ( وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ ( وَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ضَمِنُوا وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ .
وَلَهُ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا

قَالَ ( وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا بِالِاتِّفَاقِ ) ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ .
وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نُشْهِدْ الْفُرُوعَ عَلَى شَهَادَتِنَا ، أَوْ يَقُولُوا أَشْهَدْنَاهُمْ غَالِطِينَ أَوْ رَجَعْنَا عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأُصُولِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا ، وَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُمْ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ الْأُصُولُ وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : ضَمِنُوا ( لَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ ) وَقَدْ عَايَنَ شَهَادَتَهُمْ ، وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْأُصُولِ شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حَتَّى تَكُونَ سَبَبًا لِلْإِتْلَافِ ( وَلَهُ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ قَامَا مَقَامَ الْأَصْلَيْنِ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمَا إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ) وَالْقَضَاءُ يَحْصُلُ بِشَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمَا فَصَارَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا ، وَفِي ذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ الضَّمَانُ فَكَذَا هَاهُنَا .

( وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ : وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّضْمِينِ ( وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ ) لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ .

( وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا ) فَعِنْدَهُمَا ( يَجِبُ الضَّمَانُ ) عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ ) بَيْنَ تَضْمِينِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ( وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ ) وَالْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ حَتَّى يَضْمَنَ كُلُّ فَرِيقٍ نِصْفَ الْمُتْلَفِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ ) ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ كَانَتْ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا لِيُجْعَلَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ كَالْمُنْفَرِدِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَتَأْخِيرُ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ .
قَوْلَ مُحَمَّدٍ ( وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ ) وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ؛ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا .

قَالَ ( وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ) ( ضَمِنُوا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ ، إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِهَا إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فَصَارَتْ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ

قَالَ ( وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا إلَخْ ) إذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا ، فَإِنْ ثَبَتُوا عَلَى التَّزْكِيَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا سَمِعُوا مِنْ إسْلَامِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا مِنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ ؛ إذْ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ رَجَعُوا عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا ضَمِنُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّهُ الزِّنَا وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ ، وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُثْنِي عَلَى الشُّهُودِ كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ ؛ إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا ، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ أُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ لِتَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ ، وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ مَا جَعَلُوا غَيْرَ الْمُوجِبِ مُوجِبًا .

( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى مُثْبِتِي السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ : أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ .
وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ إلَخْ ) إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى دُخُولِهَا ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً ، وَقَوْلُهُ : خَاصَّةً رَدٌّ لِقَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا .
وَقُلْنَا : السَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ لَا مَحَالَةَ ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لَا يُصَارُ إلَى الشَّرْطِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ مَعَ الْمُلْقِي فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ ( قَوْلُهُ : أَلَا تَرَى ) تَوْضِيحٌ لِلْإِضَافَةِ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْيَمِينِ وَيْحُكُمْ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالدُّخُولِ ( وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ) وَمَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ ، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ ثَابِتَةً بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَرَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ ظَنَّ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا هَاهُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَعَدٍّ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ وَشَبَّهَهُ بِحَفْرِ الْبِئْرِ .
قِيلَ وَهُوَ غَلَطٌ ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشَرَةٌ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي أَوْ لَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ ( قَوْلُهُ : وَمَعْنَى

الْمَسْأَلَةِ ) يُرِيدُ بِهِ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي صَدْرِ الْبَحْثِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( كِتَابُ الْوَكَالَةِ ) : قَالَ ( كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ .
وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا } .

كِتَابُ الْوَكَالَةِ : عَقَّبَ الشَّهَادَاتِ بِالْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا خُلِقَ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ يَحْتَاجُ فِي مَعَاشِهِ إلَى تَعَاضُدٍ وَتَعَاوُضٍ ، وَالشَّهَادَاتُ مِنْ التَّعَاضُدِ وَالْوَكَالَةُ مِنْهُ ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا فَصَارَتْ كَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَأُوثِرَ تَأْخِيرُهَا .
وَالْوِكَالَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا اسْمُ التَّوْكِيلِ مِنْ وَكَّلَهُ بِكَذَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ : أَيْ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ .
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إقَامَةِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ .
وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ } وَلَمْ يَلْحَقْهُ النَّكِيرُ .
وَالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ } وَبِالْإِجْمَاعِ .
فَإِنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
وَسَبَبُهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا .
وَرُكْنُهَا لَفْظُ وَكَّلْت وَأَشْبَاهُهُ .
رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ عَبْدِي هَذَا أَوْ هَوِيت أَوْ رَضِيت أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ .
وَشَرْطُهَا أَنْ يَمْلِكَ الْمُوَكِّلُ التَّصَرُّفَ .
وَيَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ .
وَصِفَتُهَا أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَمْلِكُ كُلٌّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ .
وَحُكْمُهَا جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ .
قَالَ ( كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ إلَخْ ) هَذِهِ ضَابِطَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ ، فَإِنَّ مَبْنَاهُ الِاحْتِيَاجُ ، فَقَدْ يَتَّفِقُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ

الْمُبَاشَرَةِ ( فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ بِتَزْوِيجِهَا إيَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ } .
وَاعْتُرِضَ عَلَى الضَّابِطَةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ وَمُنْعَكِسَةٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ بِنَفْسِهِ ، وَالتَّوْكِيلُ بِهِ بَاطِلٌ ، وَالْوَكِيلُ يَعْقِدُ بِنَفْسِهِ ، وَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَالذِّمِّيُّ إذَا وَكَّلَ مُسْلِمًا فِي الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ ، وَجَازَ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمِّيُّ بِنَفْسِهِ فِيهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ عَقْدُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مِنْ شُرُوطِهِ لِكَوْنِ الْمَحَالِّ شُرُوطًا كَمَا عُرِفَ ، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي يَسْتَقْرِضُهَا الْوَكِيلُ مِلْكُ الْمُقْرِضِ ، وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ .
رُدَّ بِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلنَّقْضِ لَا دَافِعٌ ، وَبِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ جَائِزٌ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مَوْجُودٌ فِيهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ ، وَقَيْدُ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَأَنَّ مَحَلَّ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ هُوَ الثَّمَنُ وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ ، وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ الدَّرَاهِمُ الْمُسْتَقْرَضَةُ وَهِيَ لَيْسَتْ مِلْكَهُ .
لَا يُقَالُ هَلَّا جَعَلْتُمْ الْمَحَلَّ فِيهِ بَدَلَهَا وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِإِيفَاءِ الْقَرْضِ لَا بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِدًّا بِهِ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالذِّمِّيُّ جَازَ لَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ وَالْمُمْتَنِعُ تَوَكُّلُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ وَلَيْسَ

كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ عَنْ التَّوْكِيلِ وَإِنْ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَقَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ وَهُوَ حُرْمَةُ اقْتِرَابِهِ مِنْهَا وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ بِأَنَّهُ دَلِيلٌ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ وَهُوَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَجْزٌ أَصْلًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَهِيَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْأَفْرَادِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ الْخَاصَّ وَأَرَادَ الْعَامَّ وَهُوَ الْحَاجَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لِلْعَجْزِ حَاجَةٌ خَاصَّةٌ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنَاطُ هُوَ الْحَاجَةَ وَقَدْ تُوجَدُ بِلَا عَجْزٍ .

قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا ، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ ) لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ ، وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ .
فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا ) وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي غَيْبَتِهِ دُونَ حَضْرَتِهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ .
لَهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ ( كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ .
وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ ، غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ

مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ .

قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ إلَخْ ) الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ بِالْخُصُومَةِ ، وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا .
أَمَّا بِالْخُصُومَةِ فَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا فِي الْخُصُومَةِ لِكَوْنِهِ ذَكِيًّا حَاضِرَ الْجَوَابِ ، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ عَقِيلٌ وَقَرَّهُ فَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، وَأَمَّا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا فَلِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ بِاسْتِيفَائِهَا فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبِ شُبْهَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ) دَلِيلٌ عَلَى الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا يُعْفَى عَنْهَا .
وَتَقْرِيرُهُ : الْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَفَا وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِ الْوَكِيلَ ، بَلْ الظَّاهِرُ هُوَ الْعَفْوُ لِلنَّدَبِ الشَّرْعِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ، يَقُولُ هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى بِالتَّوْكِيلِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .
قُلْنَا : سَائِرُ حُقُوقِهِ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ : يَعْنِي يَسْتَوْفِي الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّهِ الرُّجُوعُ وَالظَّاهِرُ فِي حَقِّهِ عَدَمُ الرُّجُوعِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الصِّدْقُ لَا سِيَّمَا فِي الْعُدُولِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ

الشُّبْهَةِ : أَيْ شُبْهَةِ الْعَفْوِ فَإِنَّهُ فِي حُضُورِهِ مِمَّا لَا يَخْفَى .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ إذْ هُوَ يَسْتَوْفِيهِ بِنَفْسِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ : يَعْنِي لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ أَوْ ؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي جَوَازَ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا وَاسْتَثْنَى إيفَاءَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُمَا فَبَقِيَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَقَالَ ( هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُضْطَرِبٌ .
وَقِيلَ : هَذَا الِاخْتِلَافُ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا ) أَمَّا إذَا حَضَرَ فَلَا اخْتِلَافَ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَالْإِنَابَةُ فِيهَا شُبْهَةٌ لَا مَحَالَةَ ، وَهَذَا الْبَابُ مِمَّا يُحْتَرَزُ فِيهِ عَنْ الشُّبُهَاتِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورُ إلَى الشَّهَادَةِ ) وَالشَّرْطُ الْمَحْضُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ مُبَاشَرَتُهُ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي وَانْتِقَاءِ الْمَانِعِ .
لَا يُقَالُ : الْمَانِعُ وَهُوَ الشُّبْهَةُ مَوْجُودٌ كَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الشَّرْطِ

لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْوُجُوبِ وَالظُّهُورِ وَالْوُجُودِ ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ ، وَبِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الظُّهُورُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَكَّلَ الْمَطْلُوبَ بِالْقِصَاصِ وَكِيلًا بِالْجَوَابِ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ .
وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُعْتَبَرَةً لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْعَفْوِ صَحِيحَةٌ ، لَكِنَّ هَذَا الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ صِحَّتُهُ ، لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَالَهُ مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ .

( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا .
وَقَالَا : يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ .
لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا هُنَالِكَ ، ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَالَ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا .
قَالَ : وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ .

قَالَ ( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ ) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِدُونِ رِضَا الْخَصْمِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهَا إلَّا بِرِضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ هُوَ الْمُدَّعِيَ أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِالْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ ( وَقَالَا : يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهَلْ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ أَوْ لَا ؟ عِنْدَهُ يَرْتَدُّ خِلَافًا لَهُمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ مَجَازًا لِقَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ وَأَرَادَ اللُّزُومَ ، فَإِنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلُّزُومِ فَيَكُونُ ذَكَرَ اللَّازِمَ وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلُّزُومِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ .
وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ ، بَلْ إنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ وَإِلَى التَّوْجِيهِ بِجَعْلِهِ مَجَازًا ( لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ) ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ وَالْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْخَصْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ حَقُّهُ لَا مَحَالَةَ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِالتَّقَاضِي : أَيْ بِقَبْضِ الدُّيُونِ وَإِيفَائِهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ، فَإِنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ .
وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْغَيْرِ لَا يَكُونُ

خَالِصًا لَهُ .
سَلَّمْنَا خُلُوصَهُ لَهُ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ لِمَكَانِ ضَرَرِ شَرِيكِهِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْمَرِيضِ ) بَيَانُ وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا فَكَانَ خَالِصُ حَقِّهِ وَيُزَادُ جَوَابًا عَنْ التَّنَزُّلِ بِأَنَّ تَوَقُّعَ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنْ آفَاتِ التَّأْخِيرِ وَالْمَوْتِ أَشَدُّ مِنْ اللَّازِمِ بِتَفَاوُتِ الْجَوَابِ فَيُحْمَلُ الْأَسْهَلُ ، وَالْمَرَضُ الْمَانِعُ عَنْ الْحُضُورِ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ عَنْهُ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ بِظَهْرِ الدَّابَّةِ أَوْ الْحَمَّالُ فَإِذَا ازْدَادَ مَرَضُهُ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ لَمْ يَزْدَدْ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَإِرَادَةُ السَّفَرِ كَالسَّفَرِ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ مِنْهُ دَعْوَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ أَوْ بِالسُّؤَالِ عَنْ رُفَقَائِهِ كَمَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ ( وَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ امْرَأَةً مُخَدَّرَةً وَهِيَ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ : يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ ) وَأَمَّا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُخَدَّرَةِ وَغَيْرِهَا الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي عَدَمِ جَوَازِ

الْوَكَالَةِ إلَّا بِالْعُذْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي جَوَازِهَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : تُقْبَلُ مِنْ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ وَالرَّجُلِ .

( قَالَ : وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِيُمَلِّكَهُ مَنْ غَيْرَهُ .

قَالَ ( وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ ، وَلَوْ وُكِّلَ بِهِ جَازَ عِنْدَهُ ، وَمَنْشَأُ هَذَا التَّوَهُّمِ أَنَّ جَعْلَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِلْعَهْدِ : أَيْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ لِلْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ احْتِرَازًا عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ بِكَلِمَةِ مِنْ جِنْسُ التَّصَرُّفِ ( قَوْلُهُ : وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ ) يَحْتَمِلُ أَحْكَامَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَجِنْسَ الْأَحْكَامِ ، فَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْأَحْكَامُ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ .
وَالثَّانِي احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَيَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْأَحْكَامِ شَرْطًا وَاحِدًا ، وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَذِنَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ صَحَّ وَالْأَحْكَامُ لَا تَلْزَمُهُ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا جَعَلْتهمَا شَرْطًا وَاحِدًا لَزِمَك الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ وَيَلْزَمُهُ جِنْسُ الْأَحْكَامِ وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ .
قُلْت : غَلَطٌ ، فَإِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ فَوَاتُ رَأْيِهِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْوَكِيلَ ) دَلِيلُ اشْتِرَاطِ مَا شُرِطَتْ بِهِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ

تَمْلِيكَ التَّصَرُّفِ وَتَمْلِيكُ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ مُحَالٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَكِيلُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ ، وَالثَّانِي مُسْلَمٌ وَيُنْتَقَضُ بِتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَلِهَذَا لَوْ تَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ صَحَّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَكِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَكِيلٌ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ خِلَافَةٌ عَنْ الْوَكِيلِ فِيمَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَتَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَا الْكَلَامُ فِيهِ .
وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا لِجَوَازِ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِأَمْرَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَنْ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ وَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ بِحَيْثُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامُ مَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ لِأَهْلِيَّتِهِ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُهُ أَوْ لَا لِعَارِضٍ عَرَضَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوَسُّعِ .

( وَ ) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ( الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ ) لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا .وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ وَالْغَبْنَ الْفَاحِشَ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْقِلْ وَالْمَجْنُونِ ، وَيَقْصِدُهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ هَازِلًا ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ مِنْ الْفَاحِشِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ لَكِنْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَوَكُّلَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ وَمَعْرِفَةُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى " الإل نيم " فِي الْمَتَاعِ وَ " الإل يازده " فِي الْحَيَوَانِ وَ " الإل دوازده " فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ .

( وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ ) لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ( وَإِنْ وَكَّلَا صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا جَازَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ وَيَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِمَا ) لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ .
أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ كَمَا إذَا عَثَرَ عَلَى عَيْبٍ .

( وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ الْبَالِغُ مِثْلَهُمَا جَازَ ) وَيُفْهَمُ جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ كَانَ فَوْقَهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ .
وَكُلُّ وَكَالَةٍ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ فِيهَا صَحِيحَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَ الْمَأْذُونُ ذَلِكَ جَازَ لِانْتِفَاءِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ، أَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ : الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ ؛ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ .
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أُعْتِقَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ لُزُومِهَا حَقَّ الْمَوْلَى قَدْ زَالَ ، وَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ لَمْ تَلْزَمْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قِصَرُ أَهْلِيَّتِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُلْزَمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي هَذَا الْوَقْتِ فَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِيهِمَا إشَارَةً إلَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَأْذُونَيْنِ تَعَلَّقَ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنْ بِتَفْصِيلٍ وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ إذَا وُكِّلَ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا ، وَإِذَا وُكِّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا بَلْ يَكُونُ عَلَى الْآمِرِ يُطَالِبُهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ لَيْسَ بِضَمَانِ ثَمَنٍ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرَى ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ إنَّمَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47