كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

بَيِّنَةً قُبِلَتْ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا ، فَإِنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ ( فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى ) عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى ، وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ ، لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وُجُوبُ الْحُضُورِ ، وَعَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ آخِرِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ ، وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ لِيُفِيدَ حُضُورُهُ وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِمَا قُلْنَا وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَهُ ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ إلَخْ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الْمُدَّعِي بِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُعَيِّنُهُ مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْرِهِ مِثْلُ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ كُرًّا ، لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِلْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ ، وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ لِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ فَإِنَّ اشْتِرَاكَ شَخْصَيْنِ فِيهَا مُمْكِنٌ ، فَإِذَا حَضَرَ شَخْصٌ عِنْدَ حَاكِمٍ وَقَالَ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا دِرْهَمًا مَثَلًا أَشْخَصَ إلَيْهِ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَعَلُوا كَذَلِكَ ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، عَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ : أَيْ أَجْمَعُوا .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } إلَى قَوْلِهِ { بَلْ أُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الطَّلَبِ ، فَإِذَا حَضَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ لِيُفِيدَ حُضُورَهُ ، وَلَزِمَ عَلَيْهِ إحْضَارُ الْمُدَّعَى بِهِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا ، وَلَزِمَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَهُ وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَسَنَذْكُرُهُ : أَيْ وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ .

قَالَ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا ) لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ، وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ .

قَالَ ( وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً لَزِمَهُ ذِكْرُ قِيمَتِهَا ) يَعْنِي إذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي عَيْنٍ غَائِبَةٍ لَا يَدْرِي مَكَانَهَا لَزِمَ الْمُدَّعِي ذِكْرُ قِيمَتِهَا ( لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى بِهِ مَعْلُومًا ) وَذِكْرُ الْوَصْفِ لَيْسَ بِكَافٍ ( لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ) وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ كَمَا مَرَّ ، فَذِكْرُهُ فِي تَعْرِيفِهَا غَيْرُ مُفِيدٍ ( وَالْقِيمَةُ ) شَيْءٌ ( تُعْرَفُ بِهِ ) الْعَيْنُ فَذِكْرُهَا يَكُونُ مُفِيدًا ، وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ : يَعْنِي وَالْحَالُ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَعَذَّرَتْ وَإِغْلَاقُ تَرْكِيبِهِ لَا يَخْفَى ( وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ بِنَاءً عَلَى الْقَضَاءِ بِمِلْكِ الْمُسْتَهْلِكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ قَائِمٌ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ عِنْدَهُ ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ الصُّلْحَ عَنْ الْمَغْصُوبِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَيَّنَ الْمُسْتَهْلِكُ مِلْكًا لَهُ لَمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْوَاجِبِ حِينَئِذٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَهْلِكِ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ وَهِيَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُسْتَهْلَكِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لِيَعْلَمَ الْقَاضِي بِمَاذَا يَقْضِي ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي دَعْوَى الدَّابَّةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ الْقِيمَةُ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ فَيُصَارُ إلَى التَّجْدِيدِ فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ ، وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ يُخْتَلَفُ بِهِ الْمُدَّعَى وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا ، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ .
وَقَوْلُهُ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ ، وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ .

قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ إلَخْ ) إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَقَارًا فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : تَحْدِيدُهُ ، وَذِكْرُ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِلْإِعْلَامِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ ، ثُمَّ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ ثُمَّ بِذِكْرِ حُدُودِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ صِيرَ إلَى ذَلِكَ لِلتَّعْرِيفِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابِهِمْ ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِمَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عَرَفَ هُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنَّ ذِكْرَ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ ، وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ الِاثْنَيْنِ لَا يَكْفِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلَطَ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ وَأَنَّثَ فِي الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ : أَيْ بِالْغَلَطِ فِي الْحَدِّ الْمُدَّعَى ، وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا ، كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ ، وَلَوْ غَلِطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَطَلَ قِيَاسُ زُفَرُ التَّرْكَ عَلَى الْغَلَطِ ، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا بُدَّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِهِ ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ ، بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ عَايَنُوا أَنَّهُ فِي يَدِهِ ، حَتَّى لَوْ قَالُوا سَمِعْنَا ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ ، وَكَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَا بُدَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى

الْيَدِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُ الْقَاضِي أَنَّهُ فِي يَدِهِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ لِأَنَّ الْعَقَارَ قَدْ يَكُونُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ بِأَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَحْكُمَ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَضَاءُ فِيهِ قَضَاءً بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ فِي يَدِ ثَالِثٍ ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ حَقِّهِ ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى تَقْدِيرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُطَالَبَةِ فَتَأَمَّلْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فَكَانَ مَعْنَاهُ الْمُطَالَبُ حَقَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ ، وَبِالْمُطَالَبَةِ تَزُولُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَعَنْ هَذَا : أَيْ بِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَالَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَنْقُولِ : يَجِبُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِحَقٍّ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِمَا قُلْنَا : يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ بِأَنْ قَالَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً ، فَإِنْ كَانَ مَضْرُوبًا يَقُولُ كَذَا كَذَا دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ .
وَبِالْجُمْلَةِ : لَا بُدَّ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْإِعْلَامِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ بِهِ التَّعْرِيفُ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ ) لِمَا قُلْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا ) لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ ( فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ ( وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ : لَك يَمِينُهُ " سَأَلَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُقَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى إلَخْ ) إذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى بِشُرُوطِهَا سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ ، فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْحُجَّةِ ، أَوْ يَصِيرُ مَا هُوَ بِعَرَبِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ حُجَّةً حُجَّةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِمَا ادَّعَاهُ أَوْ يُنْكِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِكَمَالِ وِلَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْقَاضِي أَمْرًا بِالْخُرُوجِ عَلَى مُوجِبِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إطْلَاقُ الْحُكْمِ تَوَسُّعٌ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ الْمُحْتَمِلَةَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الَّتِي هِيَ بِعَرْضِيَّةٍ أَنْ تَصِيرَ حُجَّةً إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ مُسْقِطًا احْتِمَالَ الْكَذِبِ فِيهَا ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ ؛ فَإِذَا سَأَلَ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَك بَيِّنَةٌ ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ : لَك يَمِينُهُ } سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ ،

.
قَالَ ( فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُضِيَ بِهَا ) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا ( وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ ) اسْتَحْلَفَهُ ( عَلَيْهَا ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ .فَإِنْ أَحْضَرَهَا قَضَى بِهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ الدَّعْوَى لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا لِمَا رَوَيْنَا ، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَك يَمِينُهُ } وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ الِاسْتِحْلَافَ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ " لَك يَمِينُهُ " .
قِيلَ إنَّمَا جَعَلَ يَمِينَ الْمُنْكِرِ حَقَّ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ خَصْمَهُ أَتْوَى حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ ، فَالشَّرْعُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ اسْتِحْلَافِهِ ، حَتَّى إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُهْلِكَةٌ لِخَصْمِهِ فَيَكُونُ إتْوَاءً بِمُقَابَلَةِ إتْوَاءٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ كَالْقِصَاصِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنَالُ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقًا ، ثُمَّ إنَّمَا رَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى الْبَيِّنَةِ لَا عَلَى الْعَكْسِ لِأَنَّ نَفْسَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِمَا ادَّعَاهُ ، لِأَنَّ فِيهِ إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَوَجَبَ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ ، فَلَوْ قَدَّمْنَا الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، إذْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الْيَمِينِ ، فَمِنْ الْجَائِزِ إقَامَتُهَا بَعْدَهَا ، وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُهُ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ .

( بَابُ الْيَمِينِ ) ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، مَعْنَاهُ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ .
وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ .
قَالَ ( وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } قَسَمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بَابُ الْيَمِينِ ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَنْكَرَ الدَّعْوَى وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ الْيَمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْيَمِينِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ إلَخْ ) إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَسْتَحْلِفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَك يَمِينُهُ } فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ : لَك يَمِينُهُ } فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ الْيَمِينَ بَعْدَمَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَجَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ التَّمْيِيزِ وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِيهِ ( قَوْلُهُ وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَا أَنْكَرَ } وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ ) اسْتِدْلَالٌ آخَرُ بِالْحَدِيثِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَيَأْتِي .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ وَصَارَ كَالنِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَهُ الْيَدُ لَا يُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ، إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إلَخْ ) وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَقَيَّدَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ احْتِرَازًا عَنْ الْمُقَيَّدِ بِدَعْوَى النِّتَاجِ ، وَعَنْ الْمُقَيَّدِ بِمَا إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ ، وَبِمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَمَا انْتَقَضَ مُقْتَضَى الْقِسْمَةِ حَيْثُ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ .
قُلْت : نَعَمْ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ حَيْثُ مَا ادَّعَى مِنْ الزِّيَادَةِ مِنْ النِّتَاجِ وَالْقَبْضِ وَسَبْقِ التَّارِيخِ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي .
فَإِنْ قُلْت : فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَارِجِ الْيَمِينُ لِكَوْنِهِ إذْ ذَاكَ مُدَّعًى عَلَيْهِ قُلْت لَا ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ عَجْزِ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَعْجِزْ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ .
الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِعَدَمِ زِيَادَةٍ يَصِيرُ بِهَا ذُو الْيَدِ مُدَّعِيًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا اعْتَضَدَتْ بِالْيَدِ وَالْمُعْتَمَدُ أَقْوَى ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَاهَا عَلَى نِتَاجِ دَابَّةٍ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، أَوْ أَقَامَاهَا عَلَى نِكَاحٍ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ ، فَإِنَّهُ يُقْضَى لِذِي الْيَدِ ، وَصَارَ كَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى الْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا : يَعْنِي فِي عِلْمِ الْقَاضِي ،

أَوْ إظْهَارًا : يَعْنِي فِي الْوَاقِعِ ، فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تُظْهِرُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ، لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَبَيِّنَتُهُ لَا تُثْبِتُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ ، بِخِلَافِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَإِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ أَوْ تُظْهِرُهُ ، وَمَا هُوَ أَكْثَرُ إثْبَاتًا فِي الْبَيِّنَاتِ فَهُوَ أَوْلَى لِتَوَفُّرِ مَا شُرِعَتْ الْبَيِّنَاتُ لِأَجْلِهِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَيِّنَةُ الْخَارِجِ تُزِيلُ مَا أَثْبَتَهُ بِالْيَدِ مِنْ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا حَتَّى تُزِيلَ مَا ثَبَتَ بِالْيَدِ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَقَبْلَهُ يَكُونُ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَتُهُ مُثْبِتَةً بَلْ مُؤَكِّدَةً لِمِلْكٍ ثَابِتٍ ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ ، بِخِلَافِ النِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ ، لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ مُثْبِتَةً لَا مُؤَكِّدَةً ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِلْإِثْبَاتِ فَتُرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْيَدَ وَالنِّتَاجَ ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُثْبِتُ النِّتَاجَ لَا غَيْرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَيِّنَةَ النِّتَاجِ لَا تُوجِبُ إلَّا أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ وَهُمَا تَسَاوَيَا فِي ذَلِكَ وَيَتَرَجَّحُ ذُو الْيَدِ بِالْيَدِ فَيُقْضَى لَهُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ ) أَيْ الْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَتَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ثُمَّ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ( قَوْلُهُ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا ) أَيْ بِالْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي

الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ تَدُلَّانِ عَلَى الْوَلَاءِ ، إذْ الْوَلَاءُ حَاصِلٌ لِلْعَبْدِ بِتَصَادُقِهِمَا وَهَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَتَرَجَّحَ صَاحِبُ الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ

.
قَالَ ( وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْضَى بِهِ بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ فَلَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ ، وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ .

( قَالَ : وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ إلَخْ ) وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قَضَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِنْ حَلَفَ قَضَى بِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ ، لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَيَحْتَمِلُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً ، بِخِلَافِ يَمِينِ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ مُقِرًّا إنْ كَانَ إقْرَارًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ : أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ تَرَفَّعَ ، أَوْ مُقِرًّا إنْ تَوَرَّعَ ، لِأَنَّ التَّرَفُّعَ أَوْ التَّوَرُّعَ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالنُّكُولِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } فَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ يُخَالِفُهُ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَلَمْ يَذْكُرْ النُّكُولَ وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ ، وَبِنُكُولِهِ صَارَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي فَتَعُودُ الْيَمِينُ إلَى جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَلِهَذَا بَدَأْنَا فِي اللِّعَانِ

بِالْأَيْمَانِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُلَوِّثُ فِرَاشَهُ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ ، وَالْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ .
رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ الْمُنْكِرَ طَلَبَ مِنْهُ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَقَالَ : لَيْسَ لَك إلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَقُضِيَ بِالنُّكُولِ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : قالون ، وَهُوَ بِلُغَةِ أَهْلِ الرُّومِ أَصَبْت .
وَإِذَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بَطَلَ الْقِيَاسُ ، عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ ، فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهَا غَيْرَ مَقْصُودٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ لِاشْتِبَاهِ الْحَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِمْهَالَ مِنْ الْقَاضِي لِيَنْكَشِفَ الْحَالُ لَا رَدُّ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ رَدَّ الْيَمِينِ لَا وَجْهَ لَهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي

قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ ) وَهَذَا الْإِنْذَارُ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ( قَالَ : وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إلَخْ ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ ، إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ لِعَدَمِ دَلَالَةِ نَصٍّ عَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ بِالنُّكُولِ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ ، فَإِنَّ لِلشَّافِعِيِّ خِلَافًا فِيهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ .

.
قَالَ ( فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ) وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ مِنْ طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ هُوَ الصَّحِيحُ .ثُمَّ الْعَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْلَى لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ ، بَلْ الْمَذْهَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِهِ بَعْدَ مَرَّةٍ جَازَ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ وَلَيْسَ التَّكْرَارُ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا .
وَالْخَصَّافُ ذَكَرَهُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ فَصَارَ كَإِمْهَالِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ أَوْلَى ، وَإِنْ قُتِلَ بِغَيْرِ إمْهَالٍ جَازَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ ( وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْبَذْلِ وَالْإِقْرَارِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك مَا يَدَّعِيهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ ، فَإِنْ نَكَلَ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَانِيًا : فَإِنْ نَكَلَ يَقُولُ لَهُ بَقِيَتْ الثَّالِثَةُ ثُمَّ أَقْضِي عَلَيْك إنْ لَمْ تَحْلِفْ ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ ثَالِثًا فَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي

قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ .
وَقَالَا : يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ .
وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا .
لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَذْلٌ لِأَنَّ مَعَهُ لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ ، وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ

( قَالَ : وَإِذَا كَانَ الدَّعْوَى نِكَاحًا إلَخْ ) ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ ، أَوْ ادَّعَى بَعْدَ الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ ، أَوْ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَنَّهُ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ ، أَوْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ ادَّعَى الْمَجْهُولُ ذَلِكَ أَوْ اخْتَصَمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَوْ الْمُوَالَاةِ ، أَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ وَالِدُهُ ، أَوْ ادَّعَتْ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ جَانِبِ الْأَمَةِ ، لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى ذَلِكَ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا ، أَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ، أَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَأَنْكَرَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِذَا نَكَلَ يُقْضَى بِالنُّكُولِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ .
لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ السَّابِقِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ : يَعْنِي قَوْلَهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ بِإِجْرَاءِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ مُعَظِّمًا لَهُ وَدَفْعَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءَ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلَوْلَا هُوَ كَاذِبٌ فِي يَمِينِهِ لَمَا تَرَكَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَعْمَلُ بِالنُّكُولِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ سُكُوتٌ فَكَانَ حُجَّةً فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجْرِي فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ فِي مَعْنَى الْحُدُودِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ أَيْضًا ، وَعَلَيْهِ

نُقُوضٌ إجْمَالِيَّةٌ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ : رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَخَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَأَنْكَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَيَسْتَحْلِفُ ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَزِمَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ بِنُكُولِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ .
الثَّانِي : الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ وَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَزِمَ الْوَكِيلَ .
الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ تَكَلَّفْت لَك بِمَا يُقِرُّ لَك بِهِ فُلَانٌ فَادَّعَى الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مَالًا فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَقُضِيَ بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النُّكُولَ إمَّا إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ فَوْجُهُ الْإِقْرَارِ مَا تَقَدَّمَ .
وَوَجْهُ كَوْنِهِ بَدَلًا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْتَحِقُّ بِدَعْوَاهُ جَوَابًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ ، وَذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ فَإِنْ أَقَرَّ فَقَدْ انْقَطَعَتْ ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ تَنْقَطِعْ إلَّا بِيَمِينٍ ، فَإِذَا نَكَلَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ ، فَالنُّقُوضُ الْمَذْكُورَة إنْ وَرَدَتْ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهِ إقْرَارًا لَا تُرَدُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرُ الْمُدَّعِي .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدَفْعِ مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَبْقَى وَاجِبَةً مَعَ النُّكُولِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إمَّا بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ ، لَكِنَّ إنْزَالَهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ السَّابِقِ ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ مَثَلًا أَنَا

حُرٌّ وَهَذَا الرَّجُلُ يُؤْذِينِي فَدَفَعْت إلَيْهِ نَفْسِي أَنْ يَسْتَرِقَّنِي ، أَوْ قَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَلَكِنْ أَبَحْت لِهَذَا أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبِي ، أَوْ قَالَتْ أَنَا لَسْت بِامْرَأَتِهِ لَكِنْ دَفَعْت إلَيْهِ نَفْسِي وَأَبَحْت لَهُ الْإِمْسَاكَ لَا يَصِحُّ .
وَعَلَيْهِ نُقُوضٌ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا ضَمِنَ شَيْئًا آخَرَ إذَا اسْتَحَقَّ مَا أَدَّى بِقَضَاءٍ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ إنْكَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ يَرْجِعُ إلَى الدَّعْوَى .
الثَّانِي : لَوْ كَانَ بَذْلًا كَانَ إيجَابًا فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً وَهُوَ لَا يَصِحُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْحُكْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ بِالنُّكُولِ وَالْبَذْلُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ فَلَمْ يَكُنْ النُّكُولُ بَذْلًا .
الرَّابِعُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قُضِيَ لِأَنَّ بَذْلَهُ بَاطِلٌ .
الْخَامِسُ يُقْضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِالنُّكُولِ ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قُضِيَ لِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يُتَحَمَّلُ فِيهَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الْعَقْدُ فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الدَّعْوَى ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُدَّعِي يَقُولُ أَنَا آخُذُ هَذَا بِإِزَاءِ مَا وَجَبَ لِي فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ رَجَعْت بِمَا فِي الذِّمَّةِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَوَالَاتِ وَسَائِرِ الْمُدَايَنَاتِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجِبُ بِالْبَدَلِ الصَّرِيحِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ بَذْلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَالنُّكُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ بَلْ هُوَ مُوجَبٌ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ .
وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ صِحَّةِ الْبَذْلِ مِنْ الْمَأْذُونِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ كَإِهْدَاءِ الْمَأْكُولِ وَالْإِعَارَةِ وَالضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ وَنَحْوِهَا .
وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَذْلَ فِيهَا غَيْرُ عَامِلٍ ، بَلْ هُوَ

عَامِلٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اقْطَعْ يَدِي وَبِهَا آكِلَةٌ لَمْ يَأْثَمْ بِقَطْعِهَا ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النُّكُولُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْيَمِينِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَمِينِ .
لَا يُقَالُ : أَبُو حَنِيفَةَ تَرَكَ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } بِالرَّأْيِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَنْفِ وُجُوبَ الْيَمِينِ فِيهَا ، لَكِنَّهُ يَقُولُ : لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْيَمِينُ فَائِدَتَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ لِكَوْنِهِ بَذْلًا لَا يَجْرِي فِيهَا سَقَطَتْ كَسُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْ مَعْذُورٍ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ ( قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ ) يَعْنِي أَنَّ الْبَذْلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَجْرِي فَفَاتَ فَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ ، لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ وَالْبَذْلُ فِيهَا لَا يَجْرِي فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ آنِفًا أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَبَذْلُهُمَا بِالنُّكُولِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا جَرَى فِي الدَّيْنِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِيهَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَذْلَ فِي الدَّيْنِ إنْ لَمْ يَصِحَّ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْقَابِضِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا أَيْ فِي الدَّيْنِ تَرْكُ الْمَنْعِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْعَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جُعِلَ فِي الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ أَيْضًا تَرْكًا

لِلْمَنْعِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ أَمْرَ الْمَالِ هَيِّنٌ تَجْرِي فِيهِ الْإِبَاحَةُ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ أَمْرَهَا لَيْسَ بِهَيِّنٍ حَيْثُ لَا تَجْرِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ ، وَجَعْلُهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ ، وَفِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ غَيْرِ التَّرْكِ وَفِي ذَلِكَ تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَطْلَعِ الْبَحْثِ مِنْ تَعْرِيفِهِ وَهُوَ قَوْلُنَا قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدَفْعِ مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ لَعَلَّهُ أَوْلَى .

قَالَ ( وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ : الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ .
وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِقَالَ ( وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ إلَخْ ) إذَا كَانَ مُرَادُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَخْذَ الْمَالِ يُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْك هَذَا الْمَالُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : الْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَاذَا تُرِيدُ ؟ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْقَطْعَ يَقُولُ الْقَاضِي الْحُدُودُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا فَلَيْسَ لَك يَمِينٌ ، وَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْمَالَ يَقُولُ لَهُ دَعْ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَانْبَعِثْ عَلَى دَعْوَى الْمَالِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يَقْطَعْ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ ) يُرِيدُ بِهِ النُّكُولَ ( شَيْئَانِ ) : الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ النُّكُولُ فِيهِ ، وَالْقَطْعُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، يُرِيدُ بِذَلِكَ اشْتِمَالَ الْحُجَّةِ عَلَى الشُّبْهَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ بِفِعْلِهِ فِعْلَ السَّرِقَةِ

.
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالُ ، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ، وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ وَالْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ ، وَالنَّفَقَةِ وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا .

( وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالَ ) فَإِنْ قُلْت : هَلْ فِي تَخْصِيصِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَائِدَةٌ ؟ قُلْت : هِيَ تَعْلِيمُ أَنَّ دَعْوَى الْمَهْرِ لَا تَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي كُلِّ الْمَهْرِ أَوْ نِصْفٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ ( وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ) فَإِنْ قُلْت : وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ .
قُلْت : الْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ ) بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُو الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَاتَ أَبُوهُمَا وَتَرَكَ مَالًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْأُخُوَّةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى النَّسَبِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِالْمَالِ وَالنَّفَقَةِ دُونَ النَّسَبِ ( وَ ) كَذَا إذَا ادَّعَى ( الْحَجْرَ فِي اللَّقِيطِ ) بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي يَدِ مُلْتَقِطٍ فَادَّعَتْ أُخُوَّتَهُ حُرَّةٌ تُرِيدُ قَصْرَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِحَقِّ حَضَانَتِهَا وَأَرَادَتْ اسْتِحْلَافَهُ فَنَكَلَ يَثْبُتُ لَهَا الْحَجْرُ دُونَ النَّسَبِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِإِنْسَانٍ عَيْنًا ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهَا فَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنْتَ أَخِي يُرِيدُ بِذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ الرُّجُوعِ اسْتَحْلَفَ الْوَاهِبُ ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ وَلَا تَثْبُتُ الْأُخُوَّةُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ دَلِيلٌ لِلْمَجْمُوعِ : أَيْ دُونَ النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ ، فَإِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَهُ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَلِهَذَا

إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الِابْنِ ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَأَمَّا الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ فَإِنَّ دَعْوَاهُمَا تَصِحُّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلٌ عَلَى أَحَدٍ فَيُسْتَحْلَفُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ بَدَلٌ مِنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَعْمَلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ اُسْتُحْلِفَ ) بِالْإِجْمَاعِ ( ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ ، خُصُوصًا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَهَذَا إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَهَذَا الْبَذْلُ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْآكِلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ يُحْبَسُ بِهِ كَمَا فِي الْقَسَامَةِ

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ إلَخْ ) وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النَّفْسِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْقِصَاصُ ، وَفِي النَّفْسِ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ ، وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَإِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِقْرَارِ فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ كَمَا إذَا أَقَامَ مُدَّعِي الْقِصَاصِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ بِالْقِصَاصِ لَكِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَمْ يُشْبِهْ الْخَطَأَ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : مِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالسَّرِقَةِ حَيْثُ يَثْبُتُ الْمَالُ فِيهَا بَعْدَ انْتِفَاءِ الْقَطْعِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا يَجِبُ بِالنُّكُولِ وَهَاهُنَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ دُونَ الشَّهَادَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالَ ثَمَّةَ أَصْلٌ وَيَتَعَدَّى إلَى الْقَطْعِ ، وَإِذَا قُصِرَ لَمْ يَتَعَدَّ فَبَقِيَ الْأَصْلُ ، وَهَاهُنَا الْأَصْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ هُوَ الْقِصَاصُ ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِ إذَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ الْمِنَّةِ لِلْخَصْمَيْنِ لِلْقَاتِلِ بِسَلَامَةِ نَفْسِهِ وَالْمَقْتُولِ بِصِيَانَةِ دَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ شَبَهِهَا بِالْخَطَإِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ

كَالْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ حَيْثُ إعْمَالُ الْبَذْلِ ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ حَيْثُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ فِي رِوَايَةٍ وَبِالدِّيَةِ فِي أُخْرَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ الْأَطْرَافُ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لَجَازَ قَطْعُ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدِي ، كَمَا يُبَاحُ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ إذَا قَالَ خُذْ مَالِي .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مُفِيدًا كَالْقَطْعِ لِلْآكِلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ لَمْ يَأْثَمْ بِفِعْلِهِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْبَذْلِ : أَيْ الَّذِي بِالنُّكُولِ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَيَكُونُ مُبَاحًا ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ فِي السَّرِقَةِ إنَّ الْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْدَفِعُ بِالْأَرْشِ وَهُوَ أَهْوَنُ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهَا ، فَتَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْأَمْوَالِ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ بِالْأَرْشِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بَعْدَ تَعَذُّرِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ ، فَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَذْلَ فِي الْأَطْرَافِ جَائِزٌ فَيَثْبُتُ الْقَطْعُ بِهِ وَفِي الْأَنْفُسِ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ يُحْبَسُ بِهِ فِيهَا كَمَا فِي الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ يُحْبَسُونَ حَتَّى يُقِرُّوا أَوْ يَحْلِفُوا .

.
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ ، لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) كَيْ لَا يَغِيبَ نَفْسُهُ فَيَضِيعَ حَقُّهُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْخَامِلِ وَالْوَجِيهِ وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ لَا يُكْفَلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ ) كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا فَيُلَازِمَ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي ) وَكَذَا لَا يُكْفَلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ظَاهِرًا ، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ إلَخْ ) وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ كَفِيلًا عَنْ نَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ .
أَمَّا جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَنَا فَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا جَوَازُ التَّكْفِيلِ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُضُورَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يُعْدَى عَلَيْهِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَيَصِحُّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَضَرَرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهِ يَسِيرٌ فَيُتَحَمَّلُ كَالْإِعْدَاءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ .
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْوَجِيهِ وَالْخَامِلِ وَالْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْحَقِيرِ مِنْهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ مَعْرُوفًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى شَخْصُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ يُؤْخَذُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقِيرًا لَا يُخْفِي الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمُلَازَمَةِ فَلِئَلَّا يَضِيعَ حَقُّهُ ، فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ لَا يَكْفُلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ هُوَ الْحُضُورُ عِنْدَ حُضُورِ الشُّهُودِ وَذَلِكَ فِي الْهَالِكِ مُحَالٌ ، وَالْغَائِبُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَالْكَفَالَةُ وَالْمُلَازَمَةُ يُقَدَّرَانِ بِمِقْدَارِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، إذْ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ ضَرَرٍ ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ ، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ سَتُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ ) قَالَ ( وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ غَيْرِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } ( وَقَدْ تُؤَكَّدُ بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ ) وَهُوَ التَّغْلِيظُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : قُلْ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ .
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ فِيهِ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ غَلَّظَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُغَلِّظْ فَيَقُولُ : قُلْ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ ، وَقِيلَ : لَا يُغَلِّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ وَيُغَلِّظُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَقِيلَ : يُغَلِّظُ فِي الْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الْحَقِيرِ .فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ نَفْسِ الْيَمِينِ وَالْمَوَاضِعِ الْوَاجِبَةِ هِيَ فِيهَا ذَكَرَ صِفَتَهَا ، لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ الشَّيْءِ وَهُوَ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ واللَّامُشَابَهَةُ صِفَتُهُ ، وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } " وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ

قَالَ ( وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ سَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَاعِ بِسَبَبِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ .قَوْلُهُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ ) هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي زَمَانِنَا لِقِلَّةِ مُبَالَاةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا : إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ، وَلَوْ قَضَى بِهِ لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ .
وَابْنُ صُورِيَّا بِالْقَصْرِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ " رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى قَوْمًا مَرُّوا بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ سَخِمَ وَجْهُهُمَا فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالُوا : إنَّهُمَا زَنَيَا : فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ابْنِ صُورِيَّا وَهُوَ حَبْرُهُمْ فَقَالَ : أَنْشُدُك بِاَللَّهِ : أَيْ أُحَلِّفُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ هَذَا ؟ } وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَحْلِيفِ الْيَهُودِيِّ بِذَلِكَ

قَالَ ( وَيَسْتَحْلِفُ الْيَهُودِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالنَّصْرَانِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا } وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ مُوسَى وَالنَّصْرَانِيَّ نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَيُغَلِّظُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ ( وَ ) يَسْتَحْلِفُ ( الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ ) وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ .
يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ أَحَدًا إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ غَيْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَيْنِ لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ مُعَظَّمَةٌ ( وَالْوَثَنِيُّ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ ) لِأَنَّ الْكَفَرَةَ بِأَسْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } قَالَ ( وَلَا يَحْلِفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ ، وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي حَيْثُ يُكَلَّفُ حُضُورَهَا وَهُوَ مَدْفُوعٌ .وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ وَفِي إيجَابِهِ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي بِحُضُورِهِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي قَسَامَةٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ فِي مَالٍ عَظِيمٍ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ ، وَفِيهِ مَا مَرَّ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى الْحَاكِمِ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت ) لِأَنَّهُ قَدْ يُبَاعُ الْعَيْنُ ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ إلَخْ ) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ أَوْ السَّبَبُ .
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ ، إمَّا أَنْ كَانَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِالتَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ يَحْلِفْ عَلَى الْحَاصِلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا إذَا عَرَضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَفْعِ السَّبَبِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِ الْقَاضِي احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا بِعْت أَيُّهَا الْقَاضِي إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْحَاصِلِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
وَنُقِلَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ يُنْظَرُ فِي إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ ، فَعَلَى الظَّاهِرِ إذَا ادَّعَى الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ وَجَحَدَ الْمُوَلَّى يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِمُتَصَوَّرٍ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالِارْتِدَادِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ وَالْأَمَةِ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ الرِّقَّ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ وَعَلَيْهَا بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ ، وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَبْتُوتَةُ نَفَقَةً وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا أَوْ ادَّعَى شُفْعَةَ الْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ لَصُدِّقَ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ فَيَتَضَرَّرُ الْمُدَّعِي .
فَإِنْ قِيلَ : بِالْحَلِفِ عَلَى السَّبَبِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اشْتَرَى

وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ أَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ وَلَيْسَ بِأَوْلَى بِالضَّرَرِ مِنْ الْمُدَّعِي ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي مَا هُوَ أَصْلٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ ، وَسُقُوطُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ ، وَإِذَا ادَّعَى الطَّلَاقَ أَوْ الْغَصْبَ أَوْ النِّكَاحَ أَوْ الْبَيْعَ يَحْلِفُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْحَاصِلِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ وَمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْك رَدُّهُ وَمَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ أَوْ بَيْعٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ السَّبَبَ ، مِمَّا يَتَكَرَّرُ فَبِالْحَلِفِ عَلَيْهِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ .

( وَيَسْتَحْلِفُ فِي الْغَصْبِ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْك رَدَّهُ وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا غَصَبْت ) لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُ ثُمَّ يَفْسَخُ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ( وَفِي النِّكَاحِ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْخُلْعُ ( وَفِي دَعْوَى الطَّلَاقِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ بِمَا ذَكَرْت وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا طَلَّقَهَا ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يُجَدَّدُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ .
وَقِيلَ : يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ .
فَالْحَاصِلُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ سَبَبًا يَرْتَفِعُ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَلِكَ أَنْ تَدَّعِيَ مَبْتُوتَةٌ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا ، أَوْ ادَّعَى شُفْعَةً بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ يَصْدُقُ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ فَيَفُوتُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ( كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا ادَّعَى الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ ) لِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَيْهَا بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ وَعَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ ، وَلَا يُكَرِّرُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ .

قَالَ : ( وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ ) لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ( وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ) لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ لِلْيَمِينِ إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ .

قَالَ ( وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ اُسْتُحْلِفَ عَلَى عِلْمِهِ إلَخْ ) وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ الْبَتَاتِ ، الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى إذَا وَقَعَتْ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى فِعْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَنُوقِضَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ سَارِقٌ أَوْ آبِقٌ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَادَّعَاهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ مَا سَرَقَ مَعَ أَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَبِالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى قَبْضَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ وَالْقَبْضُ فِعْلُ الْغَيْرِ ، وَبِالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ الثَّمَنَ وَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ بِاَللَّهِ مَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا قَالَ لِي عِلْمٌ بِذَلِكَ حَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ .
وَفِي صُوَرِ النَّقْضِ يَدَّعِي الْعِلْمَ فَكَانَ الْحَلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ضَمِنَ الْبَائِعُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ سَلِيمًا عَنْ الْعُيُوبِ ، فَالتَّحْلِيفُ يَرْجِعُ إلَى مَا ضَمِنَ بِنَفْسِهِ ، وَفِي الْبَاقِيَيْنِ الْحَلِفُ يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ لَا إلَى فِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ ( وَإِذَا وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ اُسْتُحْلِفَ عَلَى عِلْمِهِ ، لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ لِلْيَمِينِ ، إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ ) فَإِنْ قِيلَ : الْإِرْثُ كَذَلِكَ .

أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ فَيُعْلَمُ مَا صَنَعَ

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَافْتَدَى يَمِينَهُ أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشْرَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ أَبَدًا ) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ : وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا إلَخْ ) وَمَنْ افْتَدَى عَنْ يَمِينِهِ أَوْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ الْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ وَلَمْ يَحْلِفْ ، فَقِيلَ أَلَا تَحْلِفُ وَأَنْتَ صَادِقٌ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ هَذَا بِسَبَبِ يَمِينِهِ الْكَاذِبَةِ .
وَذَكَرَ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُثْمَانَ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَتَرَافَعَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ فَقَالَ الْمِقْدَادُ : لِيَحْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ وَلْيَأْخُذْ سَبْعَةَ آلَافٍ فَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ أَنْصَفَك الْمِقْدَادُ احْلِفْ إنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ : إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْك ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ .
فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ .
وَبِهِ نَقُولُ .
ثُمَّ لَمَّا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْيَمِينِ فِي لَفْظِ الْفِدَاءِ وَالصُّلْحِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يُجْبَرْ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِمَالٍ .

( بَابُ التَّحَالُفِ ) : قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَبِيعِ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ بِهَا ) لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَعَارُضَ فِي الزِّيَادَةِ ( وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ ) نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ .
( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، وَقِيلَ لِلْبَائِعِ إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ ، وَهَذِهِ جِهَةٌ فِيهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالْفَسْخِ فَإِذَا عَلِمَا بِهِ يَتَرَاضَيَانِ بِهِ ( فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ ) وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ ، وَالْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعَ يُنْكِرُهُ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ ؛ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ ، لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } .

بَابُ التَّحَالُفِ ) رَاعَى التَّرْتِيبَ الطَّبِيعِيَّ فَأَخَّرَ يَمِينَ الِاثْنَيْنِ عَنْ يَمِينِ الْوَاحِدِ لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ ( إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ ) فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ كُرَّانِ ، فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا ، لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى ، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى الْقَاضِي وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُهُ ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ فَمُثْبِتُهَا كَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا ، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتنِيهَا وَهَذِهِ مَعَهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِينَارٍ .
وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ : يَقْضِي بِهِمَا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَبْدِك هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ لِمَنْ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْجَارِيَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَبَيِّنَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يَقُولُ الْحَاكِمُ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ

وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، وَيَقُولُ الْبَائِعُ إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَهَذِهِ جِهَةٌ فِيهِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالْفَسْخِ ، فَإِذَا عَلِمَا بِهِ يَتَرَاضَيَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ ، وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فَيَحْلِفَانِ ، أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فِي يَدِهِ ، فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَكَانَ الْقِيَاسُ الِاكْتِفَاءَ بِحَلِفِهِ لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَهُوَ مَرْجُوحٌ ، وَإِنْ كَانَ فَكَذَلِكَ لِعُمُومِ الْمَشْهُورِ ، أَوْ يَتَعَارَضَانِ وَلَا تَرْجِيحَ

( وَيَبْتَدِئُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي ) وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ وَلِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فَائِدَةَ النُّكُولِ وَهُوَ إلْزَامُ الثَّمَنِ ، وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ .
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا : يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ } خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ التَّقْدِيمُ .
( وَإِنْ كَانَ بَيْعُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ بَدَأَ الْقَاضِي بِيَمِينِ أَيُّهُمَا شَاءَ ) لِاسْتِوَائِهِمَا

وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ دُونَ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ الْبَادِي بِالْإِنْكَارِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْإِنْكَارِ دُونَ شِدَّتِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالشِّدَّةِ التَّقَدُّمَ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَقَامِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْكَارِ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ، أَوْ لِأَنَّ فَائِدَةَ النُّكُولِ تَتَعَجَّلُ بِالْبُدَاءَةِ بِهِ وَهُوَ إلْزَامُ الثَّمَنِ ، وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَنِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ .
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى وَأَبُو الْحَسَنِ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ التَّقْدِيمُ : يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِيَمِينِهِ ، لَكِنْ لَا يُكْتَفَى بِهَا فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَابَضَةً أَوْ صَرْفًا يَبْدَأُ الْقَاضِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ لِاسْتِوَائِهِمَا .

( وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ ) وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ، يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يَضْمَنُ الْإِثْبَاتُ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا ، وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ ، دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ { بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا } .
قَالَ ( فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْقَى بَيْعُ مَجْهُولٍ فَيَفْسَخُهُ الْقَاضِي قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ .
أَوْ يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ يَبْقَى بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
قَالَ : ( وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ ) لِأَنَّهُ جُعِلَ بَاذِلًا فَلَمْ يَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ .

قَالَ ( وَصِفَةُ الْيَمِينِ إلَخْ ) ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ صِفَةَ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ .
وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ ، يَضُمُّ الْإِثْبَاتَ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا ، وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ وُضِعَتْ لِلنَّفْيِ كَالْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ { بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا } " وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ ، فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا ، لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ مُدَّعَى كُلٍّ مِنْهُمَا بَقِيَ بَيْعًا مَجْهُولًا فَيَفْسَخُهُ الْحَاكِمُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ .
أَوْ يُقَالُ : إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ وَسَبِيلُهُ الْفَسْخُ فَمَا لَمْ يُفْسَخْ كَانَ قَائِمًا .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ جَارِيَةٍ إذَا كَانَتْ الْمَبِيعَةَ ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ جُعِلَ بَاذِلًا لِصِحَّةِ الْبَذْلِ فِي الْأَعْوَاضِ ، وَإِذَا كَانَ بَاذِلًا لَمْ تَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضَةً لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ .

قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ وَجِنْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَدْرِ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِعَارِضِ الشَّرْطِ وَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ الْعَوَارِضِ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ إلَخْ ) وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْأَجَلَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَزْدَادُ عِنْدَ زِيَادَةِ الْأَجَلِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَكَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَالُفَ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ وَالْأَجَلُ وَرَاءَ ذَلِكَ ، كَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي أَنَّ الْعَقْدَ بِعَدَمِهِمَا لَا يَخْتَلُّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحَقَ بِهِ فَصَارَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَجِنْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَيْثُ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا كَالِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهِ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ لِكَوْنِهِ دَيْنًا وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ، بِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَالْوَصْفُ لَا يُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ يَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ الشَّرْطِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُونَا وَصْفَيْنِ وَلَا رَاجِعَيْنِ إلَيْهِ كَانَا عَارِضَيْنِ بِوَاسِطَةِ الشَّرْطِ ، وَالْقَوْلُ لِمَنْ يُنْكِرُ الْعَوَارِضَ ، وَالْحُكْمُ بِاسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِيَامُ الْعَقْدِ لِبَقَاءِ مَا يَحْصُلُ ثَمَنًا ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ الثَّمَنِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِكَوْنِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ

فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ وَهُوَ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَهُ .

قَالَ : ( فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ .
لَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ ؛ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ ، وَالتَّحَالُفُ فِيهِ يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِالِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ فَتُوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَ الْهَالِكِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ .

قَالَ ( فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا إلَخْ ) فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَتَحَالَفَانِ ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحَالُفِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِ السِّلْعَةِ قَائِمَةً أَوْ هَالِكَةً ، أَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ فَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } " وَلَا يُعَارِضُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ { وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ } لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ : أَيْ تَحَالَفَا وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً ، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمْيِيزَ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ ، فَتَحْكِيمُ قِيمَةِ السِّلْعَةِ فِي الْحَالِ مُتَأَتٍّ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ الْهَلَاكِ ، فَإِذَا جَرَى التَّحَالُفُ مَعَ إمْكَانِ التَّمْيِيزِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا غَيْرَ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ حَالَ قِيَامِهَا يُفِيدُ التَّرَادَّ وَلَا فَائِدَةَ لَهُ بَعْدَ الْهَلَاكِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( فَإِنَّهُ ) يَعْنِي التَّحَالُفَ ( يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ فَكَانَ مُفِيدًا ، كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ تَحَالَفَا وَلَزِمَ الْمُشْتَرِيَ رَدُّ الْقِيمَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ

وَالْعَقْلِيَّ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ، فَإِلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : حَكَمَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُنْكِرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ } وَلَا مَعْنَى لِمَا قِيلَ إنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنًى مَقْصُودٍ بَلْ هُوَ كَالتَّأْكِيدِ ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى عَلَى أَنَّهُ إمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ أَوْ حَالٌ فَيَكُونُ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَّا سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَكُنْ مُلْحَقًا بِالدَّلَالَةِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالتَّحَالُفُ فِيهِ : أَيْ فِي حَالِ الْقِيَامِ يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَدِّ رَأْسِ مَالِهِ بِعَيْنِهِ إلَيْهِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَكَذَا بِالتَّحَالُفِ فَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَبَطَلَ الْإِلْحَاقُ بِالدَّلَالَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَهُوَ قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ : أَيْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ لَا يَضُرُّنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا أَفْضَى إلَى التَّنَاكُرِ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ قَدْ حَصَلَ بِقَبْضِهِ وَتَمَّ بِهَلَاكِهِ ، وَلَيْسَ يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا يُنْكِرُهُ لِيَجِبَ

عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَنُوقِضَ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَبِمَا إذَا اخْتَلَفَا بَيْعًا وَهِبَةً ، فَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَالتَّحَالُفَ مَوْجُودٌ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يُرَاعَى ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ مِنْهَا فَإِنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ النُّكُولِ ، وَالنُّكُولُ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحَالُفِ ، وَالتَّحَالُفُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ فَلَا يُتْرَكُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ .
وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مِلْكِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ التَّرَادَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ ، وَلَيْسَ التَّحَالُفُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ( وَهَذَا ) أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ ( إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا ) ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ ( فَأَمَّا إذَا كَانَ عَيْنًا ) بِأَنْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَايَضَةً وَهَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا ( يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ فَتَتَوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ ) وَهُوَ التَّرَادُّ ( ثُمَّ يُرَدُّ مِثْلُ الْهَالِكِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ )

قَالَ ( وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ الْحَيَّ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ ) لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا تَبْقَى السِّلْعَةُ بِفَوَاتِ بَعْضِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَالُفُ فِي الْقَائِمِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْحَذَرِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الْقَائِمِ وَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ فَيَتَحَالَفَانِ .
هَذَا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُمْ إلَى التَّحَالُفِ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالُوا : إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا لَا يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ .
وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ

صَدَّقَهُ فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ .
وَإِذَا حَلَفَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ أَوْ كِلَاهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِيَ بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْهَالِكِ وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ .
وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ ( اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ الْآخَرُ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُ مَا رَدَّهُ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا .
فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ) لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ وَهَذَا لِفِقْهٍ .
وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَيْمَانِ تُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ

حَقِيقَةً فَلِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا وَتَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .

قَالَ ( وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا إلَخْ ) وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتهمَا مِنْك بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهمَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ ) وَاخْتِلَافُ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ لَا يَخْفَى .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ ، وَقَوْلِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَفِي مَصْرِفِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا قَالُوا : مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَخْرُجَ الْهَالِكُ مِنْ الْعَقْدِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَصَارَ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلِ الْقَائِمِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ لَمْ يَتَحَالَفَا إلَّا إذَا تَرَكَ الْبَائِعُ حِصَّةَ الْهَالِكِ فَيَتَحَالَفَانِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا وَعَلَى هَذَا عَامَّتُهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ لَمْ يَتَحَالَفَا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا آخَرَ زَائِدًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَعَلَى هَذَا يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي وَصَدَّقَهُ لَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَخْذَ الْحَيِّ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، بَلْ بِطَرِيقِ

تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ وَتَرْكِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوْلَى لِمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إنَّهُ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَكَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا .
قِيلَ : وَالصَّحِيحُ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتْرُكُ مِنْ ثَمَنِ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، إنَّمَا يَتْرُكُ دَعْوَى الزِّيَادَةِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ ) وَقَوْلُهُ فِي تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا ) وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيهِمَا ( وَيَرُدُّ الْحَيَّ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى ) وَالْجَوَابُ أَنَّ هَلَاكَ الْبَعْضِ مُحْوِجٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ وَذَلِكَ مُجْهَلٌ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ) وَالْجَوَابُ هُوَ الْجَوَابُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ) وَالْجَمِيعُ لَا يَبْقَى بِفَوَاتِ الْبَعْضِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ بِهِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْقَائِمِ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَتُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَتَفْطِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَتْنِ لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى بِنَفْيِ الْقِيَاسِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ ، فَإِنَّ الْقَصَّارَ مَثَلًا إذَا أَقَامَ بَعْضَ الْعَمَلِ فِي الثَّوْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ فَفِي حِصَّةِ الْعَمَلِ الْقَوْلُ لِرَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ ،

وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَكَانَ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَهَلَاكِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ .
وَفِيهِ التَّحَالُفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا دُونَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ السِّلْعَةَ فِي الْبَيْعِ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ بِالْهَلَاكِ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْبَاقِي .
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَهِيَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ فَبِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ فِي بَعْضٍ لَا يَتَعَذَّرُ فِي الْبَاقِي .
وَالثَّانِي يَنْفِي الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ( ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَخْ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَخْتَلِفْ صِفَةُ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّ قِيَامَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطِ التَّحَالُفِ ( فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا وَحَلَفَا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الْفَسْخَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِيَ بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ ) وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ قِيمَةٍ وَهُوَ يُنْكِرُ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ ( وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ) فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْهَالِكِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ كَانَ صَادِقًا ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي صُدِّقَ فَلَا يُفِيدُ التَّحَالُفَ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتهمَا بِمَا

يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتهمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ حِصَّةُ الْهَالِكِ ) مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ لَمْ يَنْفَسِخْ عِنْدَهُ ( وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ ) يَعْنِي يُقْسَمُ الثَّمَنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْقَبْضِ فَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ وَاحِدَةً يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي وَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الثَّمَنِ ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ عَلَى التَّفَاوُتِ ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ قِيمَةِ الْقَائِمِ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُلُثُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا ) فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي كَانَتْ قِيمَةُ الْقَائِمِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْهَالِكِ خَمْسَمِائَةٍ وَقَالَ الْبَائِعُ عَلَى الْعَكْسِ ( فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ ) لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ .
بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ ، وَطُولِبَ بِوَجْهِ تَعَيُّنِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ دُونَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَالْمَبِيعُ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ انْقِسَامِ الثَّمَنِ ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ الزِّيَادَاتِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : قِيمَةُ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّ الْأُمَّ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ بِالزِّيَادَةِ وَالْوَلَدُ

بِالْقَبْضِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ هُنَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْعَقْدِ لَا يَوْمَ الْقَبْضِ .
وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ : هَذَا إشْكَالٌ هَائِلٌ أَوْرَدْته عَلَى كُلِّ قَرْمٍ نِحْرِيرٍ فَلَمْ يَهْتَدِ أَحَدٌ إلَى جَوَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي تَخَايَلَ لِي بَعْدَ طُولِ التَّجَشُّمِ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ تَحَقَّقَ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّحَالُفُ ، أَمَّا فِي الْحَيِّ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا ، لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ مِنْ الْهَالِكِ لِمَكَانِ الْهَلَاكِ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسْخِ فِي الْهَالِكِ وَهُوَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّ الْهَالِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ فِيهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ حَتَّى قَالَ : يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْهَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ ، فَيَجِبُ إعْمَالُ التَّحَالُفِ فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ .
هَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ .
وَأَقُولُ : الْأَصْلُ فِيمَا هَلَكَ وَكَانَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ ، إلَّا إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ تُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَهُوَ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْهَالِكِ صَارَ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا فِي الْهَالِكِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ غَيْرَ مَفْسُوخٍ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ الْهَلَاكُ فَعَمِلْنَا فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَقُلْنَا بِلُزُومِ الْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ

الِانْفِسَاخِ وَبِانْقِسَامِهِ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ نَظَرًا إلَى الِانْفِسَاخِ ( وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ( وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ لِدَعْوَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْقَائِمِ لِأَنَّهَا ضِمْنِيَّةٌ ، وَالِاخْتِلَافُ الْمَقْصُودُ هُوَ مَا كَانَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا هُوَ عَلَى قِيَاسِهِ مِنْ بُيُوعِ الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ الْفِقْهُ فِي أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا قَوْلُ الْبَائِعِ ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْضًا بَيِّنَتُهُ مَعَ أَنَّ الْمَعْهُودَ خِلَافُ ذَلِكَ ، إذْ الْبَائِعُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَ ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَمْرٍ جَازَ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْآخَرِ بِاعْتِبَارَيْنِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَذَلِكَ ، فَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَسَمِ بِجَهَالَةٍ ، وَمَبْنَى الْبَيِّنَاتِ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَا عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ عِنْدَهُ بِهَزْلٍ أَوْ تَلْجِئَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً إذْ هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ نَفْسِهِ ، وَأَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي الظَّاهِرِ .
وَإِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ فِي الْأَيْمَانِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ .
الْحَالِ فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى

الْمُدَّعِي ، فَإِنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ دُونَ الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَيْمَانِ هُوَ الْحَقِيقَةُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ دَلِيلٌ لَا تَعْلِيلٌ ، وَالْفَرْقُ بَيِّنٌ عِنْدَ الْمُحَصَّلَيْنِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ( يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي التَّحَالُفِ وَتَفْرِيعَاتِهِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ ) وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ وَالْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي .

.
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَخْ ) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَنَقَدَ ثَمَنَهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ تَقَايَلَا وَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَكُونَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِقَالَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ سَوَاءٌ فَسَخَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ فَسَخَهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ لَا تَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ .
فَإِنْ قِيلَ : النَّصُّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْإِقَالَةَ فَمَا وَجْهُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِيهَا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَهُ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِقَالَةِ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ ) إذَا اخْتَلَفَ الْآجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ ( عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ( وَالْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي ) يَعْنِي اسْتَهْلَكَ غَيْرُ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ .
فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِي الْقِيمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى جَرَيَانِ التَّحَالُفِ عِنْدَ بَقَاءِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَى لِكَوْنِ النَّصِّ إذْ ذَاكَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى

قَالَ ( وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) لِأَنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا .( وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِوُجُودِ الْإِنْكَارِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ) لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرَضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَعُودُ الْبَيْعُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَخْ ) وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرٍّ حِنْطَةً ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ، لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُهُ لِكَوْنِهِ فِيهِ إسْقَاطُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ السَّاقِطُ لَا يَعُودُ ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَعُودُ الْبَيْعُ لِكَوْنِهِ عَيْنًا إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْبَائِعِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرْضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ يَعْنِي قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا تُرْفَعُ الْإِقَالَةُ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ عَادَ الْبَيْعُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَأَمَّا هُوَ فَلَا يَدَّعِي عَلَى رَبِّ السَّلَمِ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ .
قَبْلَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ فِي إقَالَةِ السَّلَمِ وَفِيمَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَمَا الْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ فِي إجْرَاءِ التَّحَالُفِ فِي صُورَةِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ دُونَ إقَالَةِ السَّلَمِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالتَّحَالُفُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ يَجْرِي فِي الْبَيْعِ لَا فِي الْفَسْخِ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ .
( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ) لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ ) لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُفْسِدُهُ عَلَى مَا مَرَّ فَيُفْسَخُ ، ( وَلَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ قَضَى بِمَا قَالَ الزَّوْجُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ( وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى بِمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا الْحَطُّ عَنْهُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرَ التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا بِالتَّحَالُفِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ كَمَا فِي الْمُشْتَرِي ، وَتَخْرِيجُ الرَّازِيِّ بِخِلَافِهِ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا نُعِيدُهُ

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ إلَخْ ) إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ .
أَمَّا قَبُولُ بَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَبُولِ بَيِّنَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَا الْبَيِّنَةُ ، وَإِنَّمَا قُبِلَتْ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي الصُّورَةِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِقَبُولِهَا كَمَا ذَكَرْنَا ( وَإِنْ أَقَامَا ) فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ( فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْبَيِّنَةُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ وَبَيِّنَتُهَا لَا تُثْبِتُ شَيْئًا لِثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ ( وَإِنْ عَجَزَا عَنْهَا تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ وَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُخِلُّ بِصِحَّتِهِ ) لِبَقَائِهِ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ( فَيَنْفَسِخُ ) الْبَيْعُ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّحَالُفُ مَشْرُوعٌ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنَّ فَائِدَتَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ وَالنِّكَاحُ هَاهُنَا لَا يُفْسَخُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَهُ فِي الْبَيْعِ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا مَعَ عَدَمِ إمْكَانِ التَّرْجِيحِ ، وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ فَأُلْحِقَ بِهِ ، وَإِنَّمَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْفَسْخَ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا كَانَ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ بِلَا بَدَلٍ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ لَهُ مُوجِبًا أَصْلِيًّا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ .
هَذَا عَلَى طَرِيقِ

تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَالْمُجَوِّزُ مُخَلِّصٌ وَمُخَلِّصُ غَيْرِهِ مَعْلُومٌ ( قَوْلُهُ وَلَكِنْ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ : أَيْ لَكِنْ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ ( فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ قُضِيَ بِمَا قَالَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ) أَوْ أَكْثَرَ قُضِيَ بِمَا قَالَتْ وَكَذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ قُضِيَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا الْحَطُّ عَنْهُ ( قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرَ التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ( وَسُقُوطُ اعْتِبَارِهَا ) إنَّمَا هُوَ ( بِالتَّحَالُفِ فَلِهَذَا يُقَدَّمُ ) التَّحَالُفُ ( فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، أَوْ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ، فَهِيَ خَمْسَةُ وُجُوهٍ .
وَأَمَّا فِي قَوْلِ الرَّازِيِّ فَلَا تَحَالُفَ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَهْرُ الْمِثْلِ شَاهِدًا لِأَحَدِهِمَا ، وَفِيمَا عَدَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ أَوْ أَقَلَّ ، وَقَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إذَا كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ أَوْ أَكْثَرَ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ تَحْكِيمَ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الدَّعَاوَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ قَالُوا : إنَّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ وُجُودَ التَّسْمِيَةِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى

مَهْرِ الْمِثْلِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِاتِّفَاقِهِمَا .
وَأَقُولُ : إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ غَيْرَهُ فَاسِدٌ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِإِيجَابِهِ ، وَأَمَّا لِتَحْكِيمِهِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَمَمْنُوعٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا بَالُهُمْ لَا يُحَكِّمُونَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا مَحْظُورَ فِيهِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا .
بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا تُعْلَمُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ فَلَا تُجْعَلُ حُكْمًا ( وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ ) فَإِنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَيْهِ ( كَمَا فِي الْمُشْتَرِي وَتَخْرِيجُ الرَّازِيِّ بِخِلَافِهِ ) وَهُوَ التَّحْكِيمُ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْلِيفُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ ) وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ : يَعْنِي فِي بَابِ الْمَهْرِ فَلَا نُعِيدُهُ

( وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا قِيمَتُهَا دُونَ عَيْنِهَا ) لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ( وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ) يَعْنِي أَنَّهُ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوَّلًا ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّازِيِّ .
وَأَمَّا عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ فَيَتَحَالَفَانِ أَوَّلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا قِيمَتُهَا دُونَ عَيْنِهَا لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ .

( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ) مَعْنَاهُ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ أَوْ فِي الْمُبْدَلِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ الْمَنْفَعَةُ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَكَلَامُنَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ( فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ ( وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَنْفَعَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ ، وَلَوْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَنَافِعِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ ) نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرَةٍ .
قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَحَالَفَا وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا لَا يُمْنَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ لِمَا أَنَّ لَهُ قِيمَةً تَقُومُ مَقَامَهُ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا ، وَلَوْ جَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا وَفَسْخُ الْعَقْدِ فَلَا قِيمَةَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ .
وَإِذَا امْتَنَعَ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَصِيرُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ

كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ .

قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ إلَخْ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ فِي الْبَدَلِ : أَيْ الْأُجْرَةِ أَوْ الْمُبْدَلِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِهِ ، فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ .
وَإِنْ أَقَامَاهَا ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَنْفَعَةِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا شَهْرًا بِعِشْرِينَ وَذَاكَ شَهْرَيْنِ بِعَشَرَةٍ فَيُقْضَى بِشَهْرَيْنِ بِعِشْرِينَ ، وَإِنْ عَجَزَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ كَمَا مَرَّ ، وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فِي كَوْنِهِمَا عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ يُقْبَلُ الْفَسْخُ ، فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الزِّيَادَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُبْدَأَ بِيَمِينِ الْآجِرِ لِتَعْجِيلِ فَائِدَةِ النُّكُولِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ أَوَّلًا عَلَى الْآجِرِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةَ التَّعْجِيلِ فَهُوَ الْأَسْبَقُ إنْكَارًا فَيُبْدَأُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ لَا يَمْتَنِعُ الْآجِرُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضِ الْأُجْرَةِ فَبَقِيَ إنْكَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ ، وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَنْفَعَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْآجِرِ لِذَلِكَ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتَحَالَفَا فِي الثَّانِي وَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ،

لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عَلَى أَصْلِهِمَا ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ فَسْخُ الْعَقْدِ وَيَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْقِيمَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ فِي الْإِجَارَةِ ، وَأَمَّا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَلِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ ، وَأَمَّا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَتَبَيَّنَ بِحَلِفِهِمَا أَنْ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا لِانْفِسَاخِهِ مِنْ أَصْلِ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ لَهَا قِيمَةٌ يُرَدُّ عَلَيْهَا الْفَسْخُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ التَّحَالُفُ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ، وَفِي الثَّالِثِ يَتَحَالَفَانِ ، وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَصِيرُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَقِيَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَفِيهِ التَّحَالُفُ ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَاضِيَةَ هَالِكَةٌ ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا تَحَالُفَ فِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالِاتِّفَاقِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ فِيهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْحَالِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَقَبْلَهُ لَا مُقَابَلَةَ فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ فَلَا يَتَحَالَفَانِ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ إلَخْ ) إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ ، وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ النَّذْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ ، فَكَانَ كَالْبَيْعِ الَّذِي اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِيهِ فِي الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَجَبَ بِهِ الْبَدَلُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ مُقَابِلًا لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُبْدَلٍ وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ سِوَى الْيَدِ وَالرَّقَبَةِ ، فَلَوْ كَانَ الْبَدَلُ مُقَابِلًا لِلرَّقَبَةِ لِلْحَالِ لَعَتَقَ عِنْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمَبِيعِ عِنْدَ تَمَامِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ مُقَابِلًا لِلْيَدِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مُقَابِلًا لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَقَبْلَهُ لَا مُقَابَلَةَ فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْمَوْلَى مِنْ الزِّيَادَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ كَالْعِمَامَةِ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ( وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْوِقَايَةِ ) لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا ( وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ، بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إلَخْ ) إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ كَالْعِمَامَةِ وَالْقَوْسِ وَالدِّرْعِ وَالْمِنْطَقَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ كَالْوِقَايَةِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ ، وَهِيَ مَا تَشُدُّهُ الْمَرْأَةُ عَلَى اسْتِدَارَةِ رَأْسِهَا كَالْعِصَابَةِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقِي الْخِمَارَ ، كَالْمِلْحَفَةِ فَهِيَ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْيَمِينِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا .
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِغًا وَلَهُ أَسَاوِرُ وَخَوَاتِيمُ النِّسَاءِ وَالْحُلِيُّ وَالْخَلْخَالُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَبِيعُ ثِيَابَ الرِّجَالِ ( وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ ) وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ ( فَهُوَ لِلرَّجُلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ ، وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ) بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَنَّهُ يُعَارِضُ ظَاهِرَ الزَّوْجِ بِالْيَدِ ( ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ ) وَهُوَ يَدُ الِاخْتِصَاصِ بِالِاسْتِعْمَالِ ، فَإِنَّ مَا هُوَ صَالِحٌ لِلرِّجَالِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلرِّجَالِ ، وَمَا هُوَ صَالِحٌ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلنِّسَاءِ ، فَإِذَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ يُرَجَّحُ بِالِاسْتِعْمَالِ .
وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا إذَا اخْتَلَفَ الْعَطَّارُ وَالْإِسْكَافُ فِي آلَاتِ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَلَمْ يُرَجَّحْ بِالِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالشَّبَهِ ، وَلَمْ نُشَاهِدْ اسْتِعْمَالَ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَشَاهَدْنَا كَوْنَ هَذِهِ الْآلَاتِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَجَعَلْنَاهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ )

( فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ) لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا أَقْوَى فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ يَدِ الزَّوْجِ ، ثُمَّ فِي الْبَاقِي لَا مُعَارِضَ لِظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ ) لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ، وَمَا يَكُونُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرَّجُلِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ ) لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ ) لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ( وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ) لِأَنَّ يَدَ الْحُرِّ أَقْوَى ( وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ) لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ .

( فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ) أَيَّهُمَا كَانَ ( لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا التَّفْصِيلُ ( قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ لَيْسَ بِقَوْلِهِ خَاصَّةً ، فَإِنَّ كَوْنَ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا ) مَعْنَاهُ مِمَّا يَصْلُحُ لَهَا ( وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا ) ظَاهِرٌ ( أَقْوَى ) لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ الزَّوْجِ ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِي فَلَا مُعَارِضَ لِظَاهِرِهِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ؛ وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرَّجُلِ إنْ كَانَ حَيًّا أَوْ لِوَرَثَتِهِ ) إنْ كَانَ مَيِّتًا ( لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ ) مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَاةِ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَمَاتِ فَقَوْلُهُ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْحُرَّ أَقْوَى ) لِكَوْنِ الْيَدِ يَدَ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيَدَ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَوْلَى وَالْأَقْوَى أَوْلَى ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْحُرَّيْنِ : فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ لِقُوَّةِ يَدِهِ فِيهِ ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِذَلِكَ ( وَلِلْحَيِّ ) مِنْهُمَا ( بَعْدَ الْمَمَاتِ ) حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا ، هَكَذَا

وَقَعَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَلِلْحُرِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ ، ثُمَّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَهْوٌ ، وَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ اخْتِيَارَ الْعَامَّةِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ ) وَلِهَذَا لَوْ اخْتَصَمَ الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي شَيْءٍ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ اسْتَوَيَا فِيهِ ، فَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ الْحُرُّ بِالْحُرِّيَّةِ فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ فَكَذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَدَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ بِاعْتِبَارِ السُّكْنَى فِيهِ وَالْحَرُّ فِي السُّكْنَى أَصْلٌ دُونَ الْمَمْلُوكِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا .

( فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا ) .
( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي ) وَكَذَا إذَا قَالَ : آجَرَنِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْهُ وَدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ .
قُلْنَا : مُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ ، وَدَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَهُوَ خَصْمٌ فِيهِ فَيَثْبُتُ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ ، فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِالْحُجَّةِ ، كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ كَمَا قُلْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ لَا يَقْبَلُهُ .
( وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ : أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي ، وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي ، وَلَوْ قَالُوا نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْوَجْهِ الثَّانِي ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَيْثُ عَرَفَهُ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ أَوْ أَضَرَّهُ شُهُودُهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَمَّسَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ .

( فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا ) : أَخَّرَ ذِكْرَ مَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَمَّنْ يَكُونُ خَصْمًا لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَلَكَاتِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْأَعْدَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا أَيْضًا ، قُلْت : نَعَمْ مِنْ حَيْثُ الْفَرْقُ لَا مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ .
قَالَ ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ إلَخْ ) إذَا ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكَهُ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْته مِنْهُ أَوْ آجَرَنِيهِ أَوْ أَعَارَنِيهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : لَا تَنْدَفِعُ وَإِنْ أَقَامَهَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : تَنْدَفِعُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ كَمَا قُلْنَا مِنْ دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَالًا فَكَمَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : ثُمَّ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا أَوْدَعَهُ فُلَانٌ يَعْرِفُونَهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، أَوْ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَا نَعْرِفُهُ ، أَوْ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَفِي الثَّانِي لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالثَّالِثُ كَالثَّانِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَكَالْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فَلِهَذَا لُقِّبَتْ الْمَسْأَلَةُ بِمُخَمِّسَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَقِيلَ لُقِّبَتْ بِذَلِكَ لِلْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ خُصُومَةٍ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ .
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ ، وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ بِدُونِ خَصْمٍ مُتَعَذِّرٌ إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ إدْخَالِ شَيْءٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ،

وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُتَعَذِّرِ مُتَعَذِّرٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ : ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ ، وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ خَصْمٌ فِيهِ ؛ وَبِنَاءُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا وَلَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ كَمَا مَرَّ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا الْبِنَاءَ لَكِنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ ضِمْنِيًّا وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ وَبِإِقْرَارِهِ ، يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ .
مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِالْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ لَا يُقَالُ : يَلْزَمُ إثْبَاتُ إقْرَارِ نَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ .
وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْحَافِظَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُدَّعِي لَا لِإِثْبَاتِ الْإِقْرَارِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَا أَخَذَ مِنْ النَّاسِ سِرًّا إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ عَلَانِيَةً فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ لَا يَقْبَلُهَا ، وَأَمَّا وَجْهُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ قَامَتْ بِمَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فَوَجَبَ قَبُولُهَا .
وَأَمَّا

الْفَصْلُ الثَّانِي فَلَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُودَعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيهِ هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ قَوْلُهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ إلَى آخِرِهِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ : أَتَعْرِفُ فُلَانًا ؟ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ : هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ : إذًا لَا تَعْرِفُهُ } وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ بَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَتْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَيْثُ عَرَفَ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ لِلْعِلْمِ بِيَقِينٍ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُودَعَ غَيْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِذًا الشَّهَادَةُ تُفِيدُ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ الْخُصُومَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ وَلَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي تَعْرِيفًا تَامًّا إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ وَقَدْ أَثْبَتَ ( قَوْلُهُ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : لَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ لَتَضَرَّرَ الْمُدَّعِي .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمُدَّعِي إنَّمَا لَحِقَهُ مِنْ نَفْسِهِ ( حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ ) أَوْ مِنْ جِهَةِ شُهُودِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا إلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ

لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَذُو الْيَدِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا بِظَاهِرِ الْيَدِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَتَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَالدَّعْوَى تَقَعُ فِي الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ ، فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِذِمَّتِهِ وَبِمَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ .

( وَإِنْ قَالَ : ابْتَعْتُهُ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ لَا بِيَدِهِ ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَيَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ .قَالَ ( إنْ قَالَ ابْتَعْته مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ إلَخْ ) وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اشْتَرَيْته مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا ، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي غَصَبْت هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي أَوْ سَرَقْته مِنِّي وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ ، وَفِعْلُهُ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ غَيْرِهِ بَلْ فِعْلُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ ذَا الْيَدِ فِيهِ خَصْمٌ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُ الْيَدِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ ، وَيَدُهُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَثْبَتَ أَنَّ يَدَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا ،

( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : سَرَقَ مِنِّي وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي الْفَاعِلَ لَا مَحَالَةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَإِقَامَةً لِحِسْبَةِ السِّرِّ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : سَرَقْت ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ كَشْفِهِ

وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي سَرَقَ مِنِّي وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ، وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ أَلْبَتَّةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ عَنْهُ شَفَقَةً عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ فَرُبَّمَا يُقْضَى بِالْعَيْنِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ جَعْلُهُ سَارِقًا فَمَا وَجْهُ الدَّرْءِ حِينَئِذٍ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ خَصْمًا وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى الْمُدَّعِي إنْ ظَهَرَ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ لِظُهُورِ سَرِقَتِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَسْرُوقِ إلَى الْمَالِكِ ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ سَارِقًا انْدَفَعَ الْخُصُومَةُ عَنْهُ وَلَمْ يُقْضَ بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي ، فَمَتَى ظَهَرَتْ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ قُطِعَتْ يَدُهُ لِظُهُورِهَا قَبْلَ أَنْ تَصِلَ الْعَيْنُ إلَى الْمَالِكِ ، فَكَأَنَّ فِي جَعْلِهِ سَارِقًا احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ غُصِبَتْ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ فَلَا يُحْتَرَزُ فِي كَشْفِهِ ،

( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : ابْتَعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ أُسْقِطَتْ الْخُصُومَةُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ) لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ وُصُولُهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ كَوْنَهُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي ابْتَعْته مِنْ فُلَانٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ قَالَ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ أَسْقَطَ الْخُصُومَةَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِتَوَافُقِهَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ وُصُولُهُ إلَى ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهِ .

بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ ) : قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِهَا بَيْنَهُمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : تَهَاتَرَتَا ، وَفِي قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُلِّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَيَتَهَاتَرَانِ أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْرَعَ فِيهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الْحَكَمُ بَيْنَهُمَا } وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرْفَةَ { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } .
وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بَلْ يَعْتَمِدُ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحِلُّ يَقْبَلُهُ ، وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ .

( بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ حُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ ( قَالَ : وَإِنْ ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : تَهَاتَرَتَا ) أَيْ تَسَاقَطَتَا مِنْ الْهِتْرِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ السَّقْطُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْخَطَأُ فِيهِ ( وَفِي قَوْلٍ : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي كُلِّ الْعَيْنِ وَفِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ) وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذِّرٌ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ فِيهِ .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ، فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّك تَقْضِي بَيْنَ عِبَادِك بِالْحَقِّ ، ثُمَّ قَضَى بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ } وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ الطَّائِيِّ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي عَيْنٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِعُنُقِ الظَّالِمِ ، ثُمَّ قَضَى بِهِ رَسُولُنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ

الْقُرْعَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ وَقْتَ إبَاحَةِ الْقِمَارِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي إيجَابِ الْحَقِّ لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ ، فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ قِمَارٌ فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ ، فَإِنَّ صِحَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبَ الْمِلْكِ بِأَنْ رَآهُ يَشْتَرِي فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْآخَرُ اعْتَمَدَ الْيَدَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الشَّهَادَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّصْنِيفِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا وَتَسَاوِيهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ

قَالَ ( فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ ) لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا ) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ ، فَأَمَّا إذَا وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى وَإِنْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ) لِتَصَادُقِهِمَا ( وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ بِهَا ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ ( إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الثَّانِي سَابِقًا ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ .
وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَنِكَاحُهُ ظَاهِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السَّبْقِ .

( قَالَ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ إلَخْ ) دَعْوَى نِكَاحِ الْمَرْأَةِ إلَى رَجُلَيْنِ ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَاقِبَةً أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا .
فَالْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُقَدَّمَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَا ، فَإِنْ أَقَرَّتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ بَيِّنَةٌ فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَإِنْ أَقَرَّتْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ أَقَامَاهَا ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، لِأَنَّ النَّقْلَ إلَى بَيْتِهِ أَوْ الدُّخُولَ بِهَا دَلِيلُ سَبْقِ تَارِيخِ عَقْدِهِ ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً عَلَى سَبْقِ نِكَاحِهِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَوْلَى مِنْ الدَّلَالَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ سَبْقَ التَّارِيخِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخًا لَمْ يُقْضَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلِاشْتِرَاكِ ، وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا ، فَأَيَّهمَا أَقَرَّتْ لَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْآخَرِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَوْلُهُ فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى إذَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِيهَا ، أَمَّا إذَا احْتَمَلَتْ ذَلِكَ فَيَتَسَاوَيَانِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ ، وَأَيْضًا قَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا ، وَلَوْ عَايَنَّا تَقَدُّمَ الْأَوَّلِ حَكَمْنَا بِهِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ

بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ وَأَقَامَهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ وَمَضَى فَلَا يُنْقَضُ بِمَا دُونَهُ ، إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الْمُدَّعِي الثَّانِي وَقْتًا سَابِقًا فَيُقْضَى لَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ ) مَرَّ بَيَانُهُ .

قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ ) مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّينَ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ ، فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ .
فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا أَخْتَارُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصَمَ فِيهِ لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ ، وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحِمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ ، وَنَظِيرُهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ ( وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ ) لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاحْتَمَلَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي لَهُ بِالشَّكِّ ( وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ ، وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا لِمَا بَيَّنَّا .
إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا

أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ .

قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ إلَخْ ) عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا سَيَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( وَأَقَامَا ) عَلَى ذَلِكَ ( بَيِّنَةً ) مِنْ غَيْرِ تَأْقِيتٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ) الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ وَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ إنْ كَانَ قَدْ نَقَدَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى وَالْحُجَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ دَعْوَاهُمَا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) لِأَنَّ شَرْطَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ ( فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمْلِكْ الْكُلِّ ) وَلَمْ يَحْصُلْ ( فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ ) فَإِنْ قِيلَ : كَذِبُ إحْدَى الْبَيْتَيْنِ مُتَيَقَّنٌ لِاسْتِحَالَةِ تَوَارُدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَمُلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْبَيِّنَتَانِ أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِكَوْنِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، بَلْ شَهِدُوا بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ سَبَبًا فِي وَقْتٍ أَطْلَقَ لَهُ الشَّهَادَةَ بِهِ فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَا أَخْتَارُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ ) وَالْعَقْدُ مَتَى انْفَسَخَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَعُودُ إلَّا بِتَجَدُّدٍ وَلَا يُوجَدُ .
فَإِنْ قِيلَ هُوَ مُدَّعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ ) أَيْ فِي النِّصْفِ الْمَقْضِيِّ بِهِ ( لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي ) وَهُوَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ

يَدَّعِي الْكُلَّ وَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِهِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ وَزَالَ الْمَانِعُ وَهُوَ مُزَاحَمَةُ الْآخَرِ ( قَوْلُهُ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ ، وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعَ احْتِمَالِ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُقْضَى لَهُ بِالشَّكِّ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا لَكِنَّهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَوْلَى ( لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ) وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ " مَا " مَعَ الْبُعْدِ بُعْدِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ فَهُوَ بُعْدٌ .
فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَبْضُ الْقَابِضِ وَشِرَاءُ غَيْرِهِ حَادِثَانِ فَيُضَافَانِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيُحْكَمُ بِثُبُوتِهِمَا فِي الْحَالِ ، وَقَبْضُ الْقَابِضِ مَبْنِيٌّ عَلَى شِرَائِهِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ظَاهِرًا فَكَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ بَعْدَ شِرَاءِ الْقَابِضِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّارِيخَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى ( وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ ) وَبَيِّنَةُ غَيْرِ الْقَابِضِ قَدْ تَكُونُ مِمَّا يَنْقُضُ الْيَدَ وَقَدْ لَا تَكُونُ ( فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ ) وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ هُنَاكَ أَوْلَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ ثَمَّةَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا .

فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَكَانَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ( وَكَذَا إذَا ذَكَرَ الْآخَرُ ) يَعْنِي بَيِّنَةَ الْخَارِجِ ( وَقْتًا ) فَذُو الْيَدِ أَوْلَى ، لِأَنَّ بِذِكْرِ الْوَقْتِ لَا يَزُولُ احْتِمَالُ سَبْقٍ فِي ذِي الْيَدِ ( وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ( إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ الْخَارِجِ أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ ) فَإِنَّهُ تَنْقُضُ بِهَا الْيَدَ ( لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ ) ،

.
قَالَ : ( وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبَضَا ) مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ ( وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ ، وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا ( وَالْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ ، وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ وَالتَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحٌ ، وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ .
وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ وَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ وَهَذَا أَصَحُّ .

( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ ) احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ ( وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ ( لِكَوْنِهِ مُعَايَنَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) كَانَ أَقْوَى ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ ثَابِتَيْنِ مَعًا ، وَالشِّرَاءُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ دُونَ الْهِبَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَبْضِ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا هِبَةً وَقَبْضًا وَالْآخَرُ صَدَقَةً وَقَبْضًا فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ التَّسَاوِيَ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَازِمَةٌ لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ دُونَ الْهِبَةِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِاللُّزُومِ تَرْجِيحٌ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ : أَيْ بِمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ ، إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا تَرْجِيحَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ ( وَهَذَا ) أَيْ الْحُكْمُ بِالتَّنْصِيفِ بَيْنَهُمَا ( فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ) كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى صَحِيحٌ ( وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا ) كَالدَّارِ وَالْبُسْتَانِ ( عِنْدَ الْبَعْضِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ قَبْضَهُ فِي الْكُلِّ ، ثُمَّ الشُّيُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ طَارِئٌ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ فَالصَّدَقَةِ ( وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ ) وَلَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ ( لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ فَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ ) قِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ

وَمُحَمَّدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ عَلَى قِيَاسِ هِبَةِ إيرَادِ الدَّارِ لِرَجُلَيْنِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ فَإِنَّمَا نَقْضِي لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ ، وَعَنْ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِرَجُلَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَانِعٌ صِحَّتَهَا .

قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَهُمَا سَوَاءٌ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ ، إذْ التَّزَوُّجُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ صَحِيحٌ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِوَقَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ إلَخْ ) إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يُقْضَى بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَيُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ، وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إذَا كَانَ نَقَدَهُ إيَّاهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الشِّرَاءُ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَاتِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ لِكَوْنِهَا حُجَّةً مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ ، فَإِنْ قَدَّمْنَا النِّكَاحَ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ بَعْدَهُ يَبْطُلُ إذَا لَمْ تُجِزْ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ قَدَّمْنَا الشِّرَاءَ صَحَّ الْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ وَالتَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ إنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُهُ فَتَعَيَّنَ تَقَدُّمُهُ وَوَجَبَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ .
وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالنِّكَاحُ إذَا تَأَخَّرَ لَمْ يُوجِبْ مِلْكَ الْمُسَمَّى كَمَا إذَا تَأَخَّرَ الشِّرَاءُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ مِلْكِ الْعَيْنِ

وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى .
بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَاهَا فَالرَّهْنُ أَوْلَى ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْهِبَةِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ) أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ ، وَلَا تُرَدُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهَا بَيْعٌ انْتِهَاءً وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً

( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلَمْ يَتَلَقَّ الْآخَرُ مِنْهُ .( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَالتَّارِيخِ ، فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا يُتَلَقَّى الْمِلْكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يُتَلَقَّ مِنْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا .
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ : يُقْضَى بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ لِلتَّارِيخِ عِبْرَةٌ ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى لِمَنْ أَرَّخَ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِمَنْ لَمْ يُؤَرِّخْ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ وَسَيَأْتِيك تَمَامُ بَيَانِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ : ( وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ ) مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ وَذَكَرَا تَارِيخًا ) فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا ثُمَّ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ( وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ) لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ شِرَاءُ غَيْرِهِ .

( وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ وَأَقَامَاهَا وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ أَرَّخَا تَارِيخَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ ثَابِتًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ بَاطِلًا .
قِيلَ لَا تَفَاوُتَ فِيمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إذَا أُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى عَلَى مَا سَيُذْكَرُ بُعَيْدَ هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ ) لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ ذَا الْيَدِ أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الذَّخِيرَةِ : دَارً فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بِكَذَا وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ ) كَأَنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ زَيْدٍ مَثَلًا وَآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ عَمْرٍو ( وَذَكَرَا تَارِيخًا وَاحِدًا فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا ) وَادَّعَيَا وَأَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا ( ثُمَّ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ( وَلَوْ أُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يُحْكَمُ بِهِ ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ

كَالثَّابِتِ عِيَانًا ، وَلَوْ عَايَنَّا بِيَدِهِ الْمِلْكَ حَكَمْنَا بِهِ .
فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ شِرَاءُ غَيْرِهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
وَأَمَّا الْبَاقِي فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ : مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَمَنْ ثَبَتَ لَهُ عِيَانًا فَيُحْكَمُ بِهِ ، إلَّا إذَا تَبَيَّنَ تَقَدُّمُ شِرَاءِ غَيْرِهِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي الْفَرْقِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ إنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ التَّعَاقُبُ ضَرُورِيًّا ، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ مِلْكٌ فِي وَقْتٍ وَمِلْكُ غَيْرِهِ مَشْكُوكٌ إنْ تَأَخَّرَ لَمْ يَضُرَّ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكٌ فَتَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ بِالْوَقْتِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فَكَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَا مُتَعَاقِبَيْنِ جَازَ أَنْ يَقَعَا مَعًا ، وَفِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ أَيْضًا ، فَضَعْفُ قُوَّةِ الْوَقْتِ عَنْ التَّرْجِيحِ لِتَضَاعُفِ التَّعَارُضِ

وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا ) لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ .( وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا ، لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ) وَلِطَلَاقِ الْبَاعَةِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُمَلِّكَيْنِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِمَّنْ مُمَلِّكَيْهِمْ .

قَالَ : ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَ أَوْلَى ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً .
وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَوُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى .
وَلَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدَّفْعِ ، وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا حَيْثُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ ، الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الَّذِي وَقَّتَ أَوْلَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الَّذِي أَطْلَقَ أَوْلَى لِأَنَّهُ ادَّعَى أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ وَرُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ .
وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ ، وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ ؛ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُهُ احْتِمَالُ عَدَمِ

التَّقَدُّمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ إلَخْ ) وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا فَذُو الْيَدِ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ .
رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا كَانَتْ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَتْ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَقَالَ : لَا أَقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى تَارِيخٍ وَغَيْرِهِ إلَّا لِلنِّتَاجِ ، لِأَنَّ النِّتَاجَ دَلِيلٌ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ دُونَ التَّارِيخِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَتَا بِالتَّارِيخِ عَلَى الشِّرَاءِ وَإِحْدَاهُمَا أَسْبَقُ مِنْ الْأُخْرَى ، فَإِنَّ الْأَسْبَقَ أَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ ) فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنًا وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ ، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا قَبُولُ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ حَتَّى تَنْدَفِعَ عَنْهُ دَعْوَى الْمُدَّعَى عَنْهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ .
وَلَمَّا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ صَارَتْ هَاهُنَا بَيِّنَتُهُ بِذِكْرِ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ مُتَضَمِّنَةً دَفْعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ التَّلَقِّي مِنْ قِبَلِهِ فَتُقْبَلُ لِكَوْنِهَا لِلدَّفْعِ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا ) كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ

الْأَوَّلِ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَقْتِ ( لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ الدَّلِيلِ فِي الْجَانِبَيْنِ ( وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَوُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْدَمُ ، وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى ) وَقَدْ مَرَّ ( وَلَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا .
تَضَمَّنَتْ مَعْنَى ) الدَّفْعِ لِمَا مَرَّ ( وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا تَعَيَّنَ التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ، وَهَاهُنَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ بِذِكْرِ تَارِيخِ إحْدَاهُمَا لَمْ يَحْصُلْ الْيَقِينُ بِأَنَّ الْآخَرَ تَلَقَّاهُ مِنْ جِهَتِهِ لِإِمْكَانِ أَنَّ الْأُخْرَى لَوْ وُقِّتَتْ كَانَ أَقْدَمَ تَارِيخًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُرِّخَا وَكَانَ تَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَقْدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ بِأَيْدِيهِمَا ) فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَالْآخَرُ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ التَّارِيخُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، قِيلَ : الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ لَا يَسْتَقِيمُ لِمُحَمَّدٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ( وَلَوْ كَانَتْ ) الْعَيْنُ ( فِي يَدِ ثَالِثٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ) أَيْ وُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِ الْخَارِجَيْنِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْأُخْرَى ( فَهُمَا سَوَاءٌ ) يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الَّذِي وُقِّتَ أَوْلَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الَّذِي أُطْلِقَ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ

الزَّوَائِدِ ) الْمُتَّصِلَةِ كَالسَّمْنِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْأَكْسَابِ فَكَانَ مِلْكًا لِلْأَصْلِ ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ التَّارِيخِ ( لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ ، وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُّهُ ) أَيْ يُزَاحِمُهُ ( احْتِمَالُ عَدَمِ التَّقَدُّمِ ) لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يُؤَرَّخْ سَابِقٌ عَلَى الْمُؤَرَّخِ مِنْ حَيْثُ إنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ حُكْمًا وَلَا حَقَّ مِنْ حَيْثُ إنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ تَارِيخِ الْمُؤَرَّخِ ، وَلِذَا كَانَ غَيْرُ الْمُؤَرَّخِ سَابِقًا مِنْ وَجْهٍ لَاحِقًا مِنْ وَجْهٍ كَانَ الْمُؤَرَّخُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَاسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَاللُّحُوقِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَلَكَا مَعًا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى التَّارِيخِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ دَعْوَى التَّارِيخِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الشِّرَاءِ اتَّفَقَا عَلَى الْحُدُوثِ ، وَلَا بُدَّ لِلْحُدُوثِ مِنْ التَّارِيخِ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ ،

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ إلَخْ ) وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ ( بَيِّنَةً بِالنِّتَاجِ فَذُو الْيَدِ أَوْلَى ) وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ الْخَارِجُ أَوْلَى ، وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ يُثْبِتُ بِهَا أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ ، وَذُو الْيَدِ لَا يُثْبِتُ بِهَا اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ وَهُوَ الْأَوَّلِيَّةُ بِالنِّتَاجِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ ( فَاسْتَوَيَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيُقْضَى لَهُ ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ ، أَمَّا قَبْلَهُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَافِعَةٌ لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى حُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْخَارِجُ عَلَى ذِي الْيَدِ فِعْلًا نَحْوَ الْغَصْبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الرَّهْنِ ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَى ذَلِكَ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِأَنَّ ذَا الْيَدِ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِظَاهِرِ يَدِهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَصْلُ الْمِلْكِ وَالْخَارِجُ يُثْبِتُ الْفِعْلَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا فَكَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَضَاءِ لِذِي الْيَدِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ( خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ )

لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَيَقَّنُ كَذِبَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ نِتَاجَ دَابَّةٍ مِنْ دَابَّتَيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَسْأَلَةِ كُوفَةَ وَمَكَّةَ .
وَوَجْهُ صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي خَارِجَيْنِ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الْقَاضِي يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَا ذَكَرْنَا فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا ظَاهِرًا مُطْلَقًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّتَاجِ لَيْسَتْ بِمُعَايِنَةٍ لِلِانْفِصَالِ مِنْ الْأُمِّ بَلْ بِرُؤْيَةِ الْفَصِيلِ يَتَّبِعُ النَّاقَةَ وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي التَّحْلِيفِ ؛ فَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَحْلِفُ ذُو الْيَدِ لِلْخَارِجِ ، وَعِنْدَهُ يُسْتَحْلَفُ

وَلَوْ تَلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى أَيُّهُمَا كَانَ ) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ قَضَى بِالنِّتَاجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ذُو الْيَدِ ) لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ ، وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ .

( لَوْ تَلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ ) مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ( الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ ) فَكَانَ هُنَاكَ بَائِعَانِ ( وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَ مَنْ تَلَقَّى مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ ) فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ قَدْ حَضَرَا وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ يُقْضَى ثَمَّةَ لِصَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ هَاهُنَا ( وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى ) خَارِجًا كَانَ أَوْ ذَا يَدٍ ( لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا ) أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ التَّلَقِّي لِلْآخَرِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ( وَلَوْ قُضِيَ بِالنِّتَاجِ لِذِي الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ الثَّالِثُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يُقْضَى لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ذُو الْيَدِ لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ ) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْمِلْكُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ آخَرَ ، فَإِنْ أَعَادَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَتَهُ قُضِيَ لَهُ بِهَا تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ يُقْضَى بِهَا لِلثَّالِثِ ( وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ ) فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ قَطْعًا فَكَانَ الْقَضَاءُ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِهِ كَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ عَنْ خِلَافِ النَّصِّ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّفْعَ لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي كَانَ

مَوْجُودًا وَالْقَضَاءُ كَانَ خَطَأً فَأَنَّى يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُرَجِّحُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَفَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَضَاءَهُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَيُرَجِّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَهُ حَالَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَنْ اجْتِهَادِ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يَدْفَعُ الْبَيِّنَةَ مِنْ ذِي الْيَدِ ، فَإِذَا أَقَامَا مَا تُدْفَعُ بِهِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ .

قَالَ ( وَكَذَلِكَ النَّسْجُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً ) كَغَزْلِ الْقُطْنِ ( وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ كَحَلْبِ اللَّبَنِ وَاِتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَاللِّبَدِ وَالْمِرْعِزَّى وَجَزِّ الصُّوفِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ مِثْلُ الْخَزِّ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ .

قَالَ ( وَكَذَلِكَ النَّسْجُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى فِي النِّتَاجِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ، وَمَا ذَهَبَا إلَيْهِ اسْتِحْسَانٌ تُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ بِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نُتِجَهَا ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ } فَلَا يُلْحَقُ بِالنِّتَاجِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ إذَا دَعَاهُ بِهِ كَانَ كَدَعْوَى النِّتَاجِ ، كَمَا إذَا ادَّعَتْ غَزْلَ قُطْنٍ أَنَّهُ مِلْكُهَا غَزَلَتْهُ بِيَدِهَا ، وَكَمَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ نَسَجَهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ ، أَوْ ادَّعَى لَبَنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ حَلَبَهُ مِنْ شَاتِه ، أَوْ ادَّعَى جُبْنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ صَنَعَهُ ، فِي مِلْكِهِ ، أَوْ لِبَدًا بِأَنَّهُ صَنَعَهُ ، أَوْ مَرْعَزِيًّا وَهِيَ كَالصُّوفِ تَحْتَ شَعْرِ الْعَنْزِ ، أَوْ صُوفًا مَجْزُوزًا بِأَنَّهُ مِلْكُهُ جَزَّهُ مِنْ شَاتِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَادَّعَى ذُو الْيَدِ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِذَلِكَ لِذِي الْيَدِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، وَمَا تَكَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ ؛ فَالْخَزُّ وَهُوَ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا ، قِيلَ هُوَ يُنْسَجُ فَإِذَا بَلِيَ يُغْزَلُ مَرَّةً أُخْرَى وَيُنْسَجُ ، فَإِذَا ادَّعَى ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ مِنْ خَزِّهِ ، أَوْ ادَّعَى دَارًا أَنَّهَا مِلْكُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ ، أَوْ ادَّعَى غَرْسًا أَنَّهُ مِلْكُهُ غَرَسَهُ ، أَوْ ادَّعَى حِنْطَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ زَرَعَهَا أَوْ حَبًّا آخَرَ مِنْ الْحُبُوبِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَادَّعَى ذُو الْيَدِ مِثْلَ ذَلِكَ

وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لِتَكَرُّرِهَا ، أَمَّا الْخَزُّ فَلِمَا نَقَلْنَاهُ ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِيَةِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الْغَرْسُ وَالْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ تُزْرَعُ ثُمَّ يُغَرْبَلُ التُّرَابُ فَتُمَيَّزُ الْحُبُوبُ ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ ( فَإِنْ أَشْكَلَ ) شَيْءٌ لَا يَتَيَقَّنُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ فِيهِ ( يَرْجِعُ إلَى ) الْعُدُولِ مِنْ ( أَهْلِ الْخِبْرَةِ ) وَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( فَإِنْ أَشْكَلَ ) عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ ( كَانَ بِخَيْرِ النِّتَاجِ ) كَمَا رَوَيْنَا ( وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ )

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَهَذَا تَلَقَّى مِنْهُ ، وَفِي هَذَا لَا تَنَافِي فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ ..
وَقَالَ : ( وَإِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ إلَخْ ) وَإِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَذُو الْيَدِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَذُو الْيَدِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْخَارِجَ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَذُو الْيَدِ تَلَقَّى مِنْهُ ، وَلَا تَنَافِيَ فِي هَذَا فَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِلْخَارِجِ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ) قَالَ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيَكُونُ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُمْكِنٌ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ذُو الْيَدِ مِنْ الْآخَرِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا يَعْكِسُ الْأَمْرَ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا هَاهُنَا ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ .

( قَالَ : وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَهَا ذُو الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتَا وَتُرِكَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُقْضَى بِهِمَا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يَقْبِضْ لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ كَمَا مَرَّ ، وَلَا يُعْكَسُ ) أَيْ لَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهُ ( لِأَنَّ ) ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ( الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ ) وَذَلِكَ ( لَا يَجُوزُ ) وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ ، وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَاهُنَا ، ( وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَإِلَّا فَلَا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ ( وَ ) هَاهُنَا ( لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ ) لِلْخَارِجِ لِأَنَّا إذَا قَضَيْنَا بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إنَّمَا نَقْضِي لِيَزُولَ مِلْكُهُ إلَى الْخَارِجِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ( فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ ) وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ .

ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَيَا لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ .
وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .( ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَى الثَّمَنَانِ لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ ) فَإِنَّ الْبَيْعَيْنِ لَمَّا ثَبَتَا عِنْدَهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا الثَّمَنَ عِنْدَ مُشْتَرِيهِ فَيُتَقَاصَّ الْوُجُوبُ بِالْوُجُوبِ ( وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ ) لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ ، فَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ دَعْوَاهُمَا مِثْلَ هَذَا الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ ، وَفِي مِثْلِ الْإِقْرَارِ تَتَهَاتَرُ الشُّهُودُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ لِوُجُودِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْعَيْنِ ذِكْرُ التَّارِيخِ وَلَا دَلَالَةَ تَارِيخٍ حَتَّى يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرُ لَاحِقًا ، وَإِذَا جَازَ الْبَيْعَانِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي الْقَبُولِ تَسَاقَطَا فَبَقِيَ الْعَيْنُ عَلَى يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَتْ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ) لِأَنَّ الْجَمْعَ عِبَارَةٌ عَنْ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَهَاهُنَا لَمْ يُمْكِنْ

وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ وَلَمْ تُثْبِتَا قَبْضًا وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ أَثْبَتَا قَبْضًا يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ جَائِزَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ أَوْ سَلَّمَ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ .

( وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ ) وَقْتَيْنِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقَ أَوْ وَقْتُ ذِي الْيَدِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقَ ( فَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْقَبْضِ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ فَإِنَّهُ جَازَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا بَعْدَمَا قَبَضَهَا ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ( وَإِنْ كَانَ وَقْتُ ذِي الْيَدِ أَسْبَقَ يُقْضَى بِالْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) جَمِيعًا ، يَعْنِي سَوَاءٌ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا ، أَمَّا إذَا شَهِدُوا بِهِ فَلَا إشْكَالَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْهَدُوا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ مِنْ الْخَارِجِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ ، أَوْ سَلَّمَ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ عَارِيَّةٍ أَوْ إجَارَةٍ بِاعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ .

قَالَ : ( وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ ) لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ الشَّاهِدِينَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ بِقُوَّةٍ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ .قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ الشَّاهِدَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ بِقُوَّةٍ فِيهَا ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يَتَرَجَّحُ بِخَبَرٍ آخَرَ وَلَا الْآيَةُ بِآيَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ بِنَفْسِهِ ، وَالْمُفَسَّرُ يُرَجَّحُ عَلَى النَّصِّ وَالنَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ ( كَمَا عُرِفَ ) فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَالشَّهَادَةُ الْعَادِلَةُ تَتَرَجَّحُ عَلَى الْمَسْتُورَةِ بِالْعَدَالَةِ لِأَنَّهَا صِفَةُ الشَّهَادَةِ ، وَلَا تَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لِلشَّهَادَةِ بَلْ هِيَ مِثْلُهَا وَشَهَادَةُ كُلِّ عَدَدٍ نِصَابٌ كَامِلٌ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ فَسَلَّمَ لَهُ بِلَا مُنَازَعٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا ( وَقَالَا : هِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ) فَاعْتَبَرَا طَرِيقَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَتُقَسَّمُ أَثْلَاثًا ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ لَا يَحْتَمِلُهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الزِّيَادَاتِ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا سَلِمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ) لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ فَيَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ ، وَالنِّصْفُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ صَاحِبُهُ لَا يَدَّعِيهِ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ سَالِمٌ لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ دَعْوَاهُ كَانَ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِهِ وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الدَّارِ وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ) وَعِنْدَهُمَا هِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ يُضْرَبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ كَأَصْحَابِ الْعَوْلِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ وَغُرَمَاءُ الْمَيِّتِ إذَا ضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ دُيُونِهِ وَالْمُدْلِي بِسَبَبٍ غَيْرِ صَحِيحٍ يَضْرِبُ : أَيْ يَأْخُذُ بِحَسَبِ كُلِّ حَقِّهِ بِقَدْرِ مَا يُصِيبُهُ حَالَ الْمُزَاحَمَةِ كَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَعِنْدَهُمَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالتَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ، وَمَتَى وَجَبَتْ لَا بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ؛ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَفُضُولِيٌّ آخَرُ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ، فَعَلَى هَذَا أَمْكَنَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْعَوْلِ وَعَلَى الْمُنَازَعَةِ وَالِافْتِرَاقِ .
وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْعَوْلِ فِيهِ الْعَوْلُ فِي التَّرِكَةِ .
أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ .
وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ؛ أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى انْضِمَامِ الْإِجَازَةِ إلَيْهِ ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ حَقَّ

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ كَانَ فِي الثَّمَنِ فَتَحَوَّلَ بِالشِّرَاءِ إلَى الْمَبِيعِ وَمِمَّا افْتَرَقُوا فِيهِ مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الشَّهَادَةُ ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا صَحِيحًا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، فَيَقُولُ مُدَّعِي النِّصْفِ : لَا دَعْوَى لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَانْفَرَدَ بِهِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ أَقَامَا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِيهِ فَكَانَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيُجْعَلُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ الرُّبْعُ ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِيهَا ، فَمَا مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ ، فَيَضْرِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ دَعْوَاهُ فَاحْتَجْنَا إلَى عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ صَحِيحٌ وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ ، فَيَضْرِبُ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ وَيَضْرِبُ مُدَّعِي النِّصْفِ بِسَهْمٍ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا .
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ لَا تَحْتَمِلُهَا الْمُخْتَصَرَاتُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ ) فَمِنْ نَظَائِرِهَا : الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ .
وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ إذَا أَدَانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَوْلَى الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا ، وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ، فَتَذَكُّرُ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الِاسْتِخْرَاجَ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَتْ

الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا إلَخْ ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِئَلَّا يَكُونَ فِي إمْسَاكِهِ ظَالِمًا حَمْلًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ، فَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا فَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا وَمُدَّعِي الْكُلِّ يَدَّعِي عَلَيْهِ النِّصْفَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ أَقَامَهَا فَلَهُ جَمِيعُ الدَّارِ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَدَّعِهِ وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ

قَالَ ( وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ عِنْدَهُ ، وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ ( وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا .
وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ .

( قَالَ : وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ إلَخْ ) إذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ عِنْدَهُ وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى ، لِأَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ شُهُودِهِ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَهَادَةِ الْحَالِ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ ، وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا أَقَامَاهَا وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا ، هَذَا إذَا كَانَا خَارِجَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَا الْيَدِ فَإِنْ وَافَقَ سِنُّ الدَّابَّةِ تَارِيخَهُ أَوْ أَشْكَلَ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ ، إمَّا لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي شُهُودِهِ ، أَوْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيتِ بِالْإِشْكَالِ ، وَإِنْ كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ بَيْنَ وَقْتِ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ : تَهَاتَرَ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَوْلُهُ وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ ) يَعْنِي فِي الْخَارِجَيْنِ ( بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ ، وَذَلِكَ مَانِعٌ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَيُمْنَعُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا ، فَتُتْرَكُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ قَضَاءَ تَرْكٍ كَأَنَّهُمَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : الْأَصَحُّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ الْجَوَابِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ : يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا ، وَفِيمَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فِي دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ .
أَمَّا إذَا كَانَ مُشْكِلًا فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَحِقَهُمَا ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي اعْتِبَارِهِ إبْطَالُ حَقِّهِمَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا ، وَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا

لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا التَّوْقِيتَ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ هِيَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَيْفَ تُتْرَكُ فِي يَدِهِ مَعَ قِيَامِ حُجَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَى أَبُو اللَّيْثِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَقْتَيْنِ لَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ وَتُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَاءَ تَرْكٍ ؛ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ .
وَقَوْلُهُ يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الدَّعَاوَى بِلَا حُجَّةٍ ، وَاتِّفَاقُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ذِي الْيَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ وُجُودِ الْمُكَذِّبِ

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ .( وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُمَا سَوَاءٌ ) لِأَنَّ الْمُودَعَ لَمَّا جَحَدَ صَارَ غَاصِبًا ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .

( فَصْلٌ فِي التَّنَازُعِ بِالْأَيْدِي ) قَالَ ( وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى ) لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ( وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفُهُ فَالرَّاكِبُ أَوْلَى ) بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ حَيْثُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ ( وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَعَلَيْهِ حِمْلٌ لِأَحَدِهِمَا فَصَاحِبُ الْحِمْلِ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ ( وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا ( وَلَوْ تَنَازَعَا فِي بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقُعُودَ لَيْسَ بِيَدٍ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا .

( فَصْلٌ فِي التَّنَازُعِ بِالْأَيْدِي ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وُقُوعِ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ شَرَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِذِكْرِ بَيَانِ وُقُوعِهِ بِظَاهِرِ الْيَدِ لِمَا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى ، وَلِهَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى الْيَدِ ( قَالَ : إذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ إلَخْ ) إذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَكِبَهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الرُّكُوبَ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ يَعْنِي غَالِبًا ( وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفَهُ فَالرَّاكِبُ فِي السَّرْجِ أَوْلَى ) لِمَا ذَكَرْنَا وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ النَّوَادِرِ ، وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ فِي السَّرْجِ فَإِنَّهَا بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ ، وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ حِمْلٌ فَصَاحِبُ الْحِمْلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ ( وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَلَابِسُهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا ) وَلِهَذَا يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا ( وَلَوْ تَنَازَعَا فِي بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَوْ كَانَا جَالِسَيْنِ عَلَيْهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ ) لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِسَاطِ إمَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ أَوْ بِكَوْنِهِ فِي بَيْتِهِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ يَدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا وَلَا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُتْرَكُ فِي أَيْدِيهِمَا ، وَبِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا ادَّعَاهَا سَاكِنُهَا حَيْثُ لَمْ يُقْضَ بِهَا بَيْنَهُمَا لَا بِطَرِيقِ التَّرْكِ وَلَا بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّ عَدَمَ يَدِ الْغَيْرِ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ ، لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا قَدْ تَكُونُ بِالِاخْتِطَاطِ لَهُ وَزَوَالُ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، لِأَنَّهَا

بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي مَكَانِهَا الَّذِي يُثْبِتُ يَدَ الْمُحْتَطِّ لَهُ فِيهِ عَلَيْهَا لَمْ تَتَحَوَّلْ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ فَكَانَتْ يَدُهُ ثَابِتَةً عَلَيْهَا حُكْمًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْقَاضِي ، وَجَهَالَةُ ذِي الْيَدِ لَا تُجَوِّزُ الْقَضَاءَ لِغَيْرِهِ ، لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِهِ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمُدَّعَى لَيْسَ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُدَّعِيَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ .( وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَمْسِكٌ بِالْيَدِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ اسْتِمْسَاكًا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الرُّجْحَانَ ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَمِيصِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْيَدُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ الِاسْتِعْمَالُ

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ : أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ حَيْثُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ ، فَلَوْ كَبِرَ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الرِّقُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ .

( وَإِذَا كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ ) يَدَّعِي رِقَّهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ لَمْ يَنْفِ فَهُوَ عَبْدُ ذِي الْيَدِ ، وَإِنْ نَفَاهُ فَقَالَ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ ثُبُوتَ الْيَدِ عَلَيْهِ وَتَأَيَّدَ بِالظَّاهِرِ فَيَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ ) غَيْرِ ذِي الْيَدِ ( فَهُوَ عَبْدُ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ ) قِيلَ : الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ مِنْ الْمَضَارِّ لَا مَحَالَةَ ، وَأَقْوَالُهُ فِيهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرِّقَّ لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِدَعْوَى ذِي الْيَدِ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِدَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا تَتَقَرَّرُ يَدُهُ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا تَتَقَرَّرُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ فِي رِقِّهِ كَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي فِي يَدِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ كَمَتَاعٍ لَا يَدَ لَهُ فِي نَفْسِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِالْمُلْتَقِطِ إذَا ادَّعَى رِقَّ لَقِيطٍ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَبْدَهُ ، وَبِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْعَوَارِضِ إذْ الْأَصْلُ الْحُرِّيَّةُ وَهُوَ يَدْفَعُ الْعَارِضَ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ ذُو الْيَدِ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ فَرْضَ الِالْتِقَاطِ يُضْعِفُ الْيَدَ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَمِينٌ فِي اللَّقِيطِ وَيَدُ الْأَمِينِ فِي الْحُكْمِ يَدُ غَيْرِهِ فَكَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الرِّقُّ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَصْلَ يُتْرَكُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَالْيَدُ عَلَى مِنْ ذَلِكَ شَأْنُهُ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فَيُتْرَكُ بِهِ الْأَصْلُ ، فَلَوْ كَبَّرَ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ لِظُهُورِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ

صِغَرِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ ، وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ تَعَلُّقٍ فَصَارَ كَدَابَّةٍ تَنَازَعَا فِيهَا وَلِأَحَدِهِمَا حِمْلٌ عَلَيْهَا وَلِلْآخَرِ كُوزٌ مُعَلَّقٌ بِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ مُدَاخَلَةُ لَبِنِ جِدَارِهِ فِيهِ وَلَبِنِ هَذَا فِي جِدَارِهِ وَقَدْ يُسَمَّى اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ ، وَهَذَا شَاهِدٌ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ بَعْضَ بِنَائِهِ عَلَى بَعْضِ بِنَاءِ هَذَا الْحَائِطِ .
وَقَوْلُهُ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْهَرَادِيِّ أَصْلًا ، وَكَذَا الْبَوَارِي لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا تُبْنَى لَهَا أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ إلَخْ ) وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ هَرَادِيُّ جَمْعُ هَرْدِيَّةٍ وَهِيَ قَصَبَاتٌ تُضَمُّ مَلْوِيَّةً بِطَاقَاتٍ مِنْ الْكَرْمِ يُرْسَلُ عَلَيْهَا قُضْبَانُ الْكَرْمِ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ عَنْ اللَّيْثِ ، يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَرَدُّوك ( فَهُوَ ) أَيْ الْحَائِطُ ( لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ تَعَلُّقٍ بِهِ ، فَصَارَ كَدَابَّةٍ تَنَازَعَا فِيهَا وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ وَلِلْآخَرِ كُوزٌ مُعَلَّقٌ بِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ ) الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ ( مُدَاخَلَةُ لَبِنِ جِدَارِهِ فِيهِ وَلَبِنِ هَذَا فِي جِدَارِهِ ، وَقَدْ يُسَمَّى اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ ) وَتَفْصِيلُ التَّرْبِيعِ إذَا كَانَ الْحَائِطُ مِنْ مَدَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَنْ تَكُونَ أَنْصَافُ لَبِنِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دَاخِلَةً فِي أَنْصَافِ لَبِنِ غَيْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَبِالْعَكْسِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَشَبٍ فَالتَّرْبِيعُ أَنْ تَكُونَ سَاحَةُ أَحَدِهِمَا مُرَكَّبَةً فِي الْأُخْرَى ، وَأَمَّا إذَا ثَقَبَ فَأَدْخَلَ فَلَا يَكُونُ تَرْبِيعًا ( وَهَذَا شَاهِدٌ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ بَعْضَ بِنَائِهِ عَلَى بَعْضِ بِنَاءِ هَذَا الْحَائِطِ ) وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مِنْ الِاتِّصَالِ مَا يَكُونُ اتِّصَالَ مُجَاوَرَةٍ وَمُلَازَقَةٍ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ اتِّصَالُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى وَقَوْلُهُ وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ) يَعْنِي قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْهَرَادِيِّ أَصْلًا ، وَكَذَا الْبَوَارِي لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهَا أَصْلًا ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ وَذَلِكَ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ لَا الْهَرَادِيِّ وَالْبَوَارِيِّ ، وَإِنَّمَا يُوضَعَانِ لِلِاسْتِظْلَالِ وَالْحَائِطُ لَا يُبْنَى لَهُ ( حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَرَادِيُّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا )

وَمَعْنَاهُ إذَا عُرِفَ كَوْنُهُ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ فِي أَيْدِيهِمَا وَقَدْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ يُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا لَا أَنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا

( وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِوَائِهِمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَلِلْآخَرِ مَوْضِعُ جِذْعِهِ ) فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ ، ثُمَّ قِيلَ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ بَيْنَهُمَا ، وَقِيلَ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ كَثِيرِ الْجُذُوعِ دُونَ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْوَضْعِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ

( وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ ) فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ ، فَإِنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلْجُذُوعِ الثَّلَاثَةِ كَمَا لَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ مِنْهَا ( وَإِنْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَلِلْآخَرِ مَوْضِعُ جِذْعِهِ فِي رِوَايَةِ ) كِتَابِ الْإِقْرَارِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ ، وَلِصَاحِبِ الْقَلِيلِ مَا تَحْتَ جِذْعِهِ يُرِيدُ بِهِ حَقَّ الْوَضْعِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ( وَفِي رِوَايَةِ ) كِتَابِ الدَّعْوَى ( لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ ) حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَجْذَاعِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْجِذْعِ مَوْضِعُ جِذْعِهِ مَعَ أَصْلِ الْحَائِطِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ قِيلَ : مَا بَيْنَ الْخَشَبِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ كَمَا فِي السَّاحَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ صَاحِبِ بَيْتٍ وَصَاحِبِ أَبْيَاتٍ كَمَا نَذْكُرُهُ ( وَقِيلَ ) يَكُونُ ذَلِكَ ( عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا ) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَوْضِعِ الْقِيلِ الْأَوَّلِ : وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ، لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِعَشْرِ خَشَبَاتٍ لَا لِخَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ ( قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ ) رُجُوعٌ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ إلَخْ : يَعْنِي ذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ ( أَنْ يَكُونَ ) الْحَائِطُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَكْثَرِ ( نِصْفَيْنِ ) لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ( وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبِهِ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ

خَشَبَتِهِ ) وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ ( وَوَجْهُ الْأَوْلَى أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ الْكَثِيرِ دُونَ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْوَضْعِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ ) فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ رَفْعَ الْخَشَبَةِ الْمَوْضُوعَةِ ، إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَيَثْبُتُ لِلْآخَرِ حَقُّ الْوَضْعِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ جَائِزًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَعْلِ الْجِذْعَيْنِ كَجِذْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّسْقِيفَ بِهِمَا نَادِرٌ كَجِذْعٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْخَشَبَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثِ لِإِمْكَانِ التَّسْقِيفِ بِهِمَا

( وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) وَيُرْوَى الثَّانِي أَوْلَى .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ التَّصَرُّفَ وَلِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ أَقْوَى .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْحَائِطَيْنِ بِالِاتِّصَالِ يَصِيرَانِ كَبِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ ثُمَّ يَبْقَى لِلْآخَرِ حَقُّ وَضْعِ جُذُوعِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ وَصَحَّحَهَا الْجُرْجَانِيُّ .( لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالٌ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٌ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : لِأَحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالٌ ، وَعَلَى الْأُولَى وَقَعَ فِي الدَّلِيلِ وَجْهُ الْأَوَّلِ وَعَلَى الثَّانِيَةِ وَجْهُ الثَّانِي ، وَمَعْنَاهُ : إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ وَاتِّصَالُ التَّرْبِيعِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ( فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ التَّصَرُّفِ وَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ صَاحِبُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفُ أَقْوَى ، وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ .
وَيُرْوَى أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى لِأَنَّ الْحَائِطَيْنِ بِالِاتِّصَالِ صَارَا كَبِنَاءٍ وَاحِدٍ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالِاشْتِرَاكِ ، ثُمَّ يَبْقَى لِلْآخَرِ حَقُّ وَضْعِ جُذُوعِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِرَفْعِهَا لِكَوْنِهَا حُجَّةً مُطْلَقَةً ، وَهَذَا رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ وَصَحَّحَهَا الْجُرْجَانِيُّ ، وَلَوْ كَانَ الِاتِّصَالُ بِطَرَفَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى عَلَى اخْتِيَارِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ عَشْرَةُ أَبْيَاتٍ وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتٌ فَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِعْمَالِهَا وَهُوَ الْمُرُورُ فِيهَا .( وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَشَرَةُ أَبْيَاتٍ ) مِنْ دَارٍ ( وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتٌ وَاحِدٌ فَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَهُوَ الْمُرُورُ ) وَصَبُّ الْوُضُوءِ وَكَسْرُ الْحَطَبِ وَوَضْعُ الْأَمْتِعَةِ وَغَيْرُهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا خَرَّاجًا وَلَّاجًا دُونَ الْآخَرِ ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلَّةِ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا جَمِيعُ الثَّوْبِ وَفِي يَدِ الْآخَرِ هُدْبُهُ حَيْثُ يُلْغَى صَاحِبُ الْهُدْبِ ، وَإِذَا تَنَازَعَا فِي مِقْدَارِ الشِّرْبِ حَيْثُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرَاضِي وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ جُعِلَتْ السَّاحَةُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكَةً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْهُدْبَ لَيْسَ بِثَوْبٍ لِكَوْنِهِ اسْمًا لِلْمَنْسُوجِ فَكَانَ جَمِيعُ الْمُدَّعَى فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ فَأُلْغِيَ ، وَالشِّرْبُ تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَرَاضِي دُونَ الْأَرْبَابِ ، فَبِكَثْرَةِ الْأَرَاضِيِ كَثُرَ الِاحْتِيَاجُ إلَى الشِّرْبِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَثْرَةِ حَقٍّ لَهُ فِيهِ ، وَأَمَّا فِي السَّاحَةِ فَالِاحْتِيَاجُ لِلْأَرْبَابِ وَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ فَاسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَصَارَ هَذَا نَظِيرَ تَنَازُعِهِمَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47