كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ ، وَمَعَ هَذَا فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا : كُلُّ مَا هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَنَضُمُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إلَى قَوْلِنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَحْصُلُ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ أَيْضًا لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلٍ فَلَا يَضُرُّ فِي مَطْلُوبِنَا لِأَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا ، وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا فَهُوَ لَهُ ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةَ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءً فَكَذَا لَا تَفْسُدُ بَقَاءً .

( فَصْلٌ ) : ( وَلَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ) وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَيْضًا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ النُّقُودَ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ وَتَفَاضَلَ الثَّمَنَانِ فَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَمْلِكْ وَمَا لَمْ يَضْمَنْ ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا يَشْتَرِيهِ فِي ذِمَّتِهِ إذْ هِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فَكَانَ رِبْحُ مَا يَضْمَنُ ، وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ الْبَيْعُ وَفِي النُّقُودِ الشِّرَاءُ ، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا مَالَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ لَا يَجُوزُ ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا بِمَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ جَائِزٌ .
وَأَمَّا الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ فَلِأَنَّهَا تَرُوجُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا .
قَالُوا : هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالنُّقُودِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ بِأَعْيَانِهَا عَلَى مَا عُرِفَ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا لِأَنَّ ثُمْنِيَّتَهَا تَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَتَصِيرُ سِلْعَةً .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَظْهَرُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صِحَّةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا .

( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَ الْبَحْثُ عَمَّا تَنْعَقِدُ بِهِ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ غَيْرَ الْبَحْثِ عَنْهَا فُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ .
وَقَالَ ( وَلَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ ) أَيْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا ذُكِرَ فِيهَا الْمَالُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِنَا إذَا ذُكِرَ فِيهَا الْمَالُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ لَيْسَ بِحَتْمٍ فِيهَا فَإِنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَجُوزُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَالتَّقَبُّلِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْمَالُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، غَيْرَ أَنَّ فِي ذِكْرِ خِلَافِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ، أَوْ يَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِهَا صَنِيعُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُزَارَعَةِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا عُقِدَتْ ) يَعْنِي الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَقْتَضِي جَوَازَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُضَارَبَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَإِنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُضَارِبِ ، فَكَأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الرِّبْحِ مَالٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي ذَلِكَ الرِّبْحِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، وَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعُرُوض وَالنُّقُودُ كَمَا لَوْ عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ فَتَصِحُّ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ) وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا عَقَدَا الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا رَأْسَ مَالِهِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَبَاعَ الْآخَرُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَصَحَّتْ الشَّرِكَةُ كَانَا

شَرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ الَّذِي حَصَلَ فِي مَبِيعِ أَحَدِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الَّذِي بَاعَ رَأْسَ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَالُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَمْ يُمْلَكْ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْعُ ، بَلْ يَثْبُتُ وُجُوبُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ إذْ الْأَثْمَانُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا فِي ذِمَّتِهِمَا كَانَ الثَّمَنُ وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْهُ بَيْنَهُمَا ضَرُورَةً فَكَانَ الرِّبْحُ رِبْحَ مَا ضُمِنَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ ( وَتَفَاضَلَ الثَّمَنَانِ ) أَيْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا تَفَاضُلُهُمَا مَعًا فَمُحَالٌ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ ) دَلِيلٌ آخَرُ وَقَدْ قَرَّرَهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى وَجْهٍ يَجُرُّهُ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَكُونُ أَمِينًا ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ هَذَا رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ رِبْحَ مَا قَدْ ضُمِنَ .
وَقَوْلُهُ ( قَالُوا هَذَا ) أَيْ جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ( قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) وَقَيَّدَ ( بِأَعْيَانِهَا ) لِتَظْهَرَ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ فَلْسَيْنِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْفُلُوسِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِوُجُودِ النَّسِيئَةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِهَذَا وَلِمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بِأَعْيَانِهِمَا فَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُ الْبَحْثِ فِيهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ

اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَقْيَسُ ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ أَيْضًا فِي عَدَمِ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْفُلُوسِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فِي الْفُلُوسِ عِنْدَهُمَا كَانَ لِلْفُلُوسِ حُكْمُ الْعُرُوضِ ، وَالْعُرُوضُ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهَا : أَيْ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِالتِّبْرِ ) وَالنُّقْرَةُ فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِمَا ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَا تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيلِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ) وَمُرَادُهُ التِّبْرُ ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَا بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِيهِمَا ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّهُمَا خُلِقَا ثَمَنَيْنِ فِي الْأَصْلِ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ خُلِقَتْ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تُصْرَفُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِاسْتِعْمَالِهِمَا ثَمَنًا فَنَزَلَ التَّعَامُلُ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ فَيَكُونُ ثَمَنًا وَيَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ مُخْتَصَرُ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ تَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لِمَا عُرِفَ ) إشَارَةٌ إلَى ( أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لِأَيِّهِمَا ) أَيْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ) يَعْنِي رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( أَصَحُّ ) وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا ) أَيْ لِأَنَّ مَثَاقِيلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِاسْتِعْمَالِهِمَا ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ .
يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِمَثَاقِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَصَحُّ ، إلَّا عِنْدَ جَرَيَانِ التَّعَامُلِ بِاسْتِعْمَالِهِمَا فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا كَذَا قِيلَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ

ثُمَّ قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَتَاعِهِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ ، وَإِنْ خَلَطَا ثُمَّ اشْتَرَكَا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ مِلْكٍ لَا شَرِكَةُ عَقْدٍ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ .
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ وَاشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَعْدَ الْخَلْطِ كَمَا تَعَيَّنَ قَبْلَهُ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّهَا ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ .
وَمَبِيعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ

( قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ) أَيْ فِي عَدَمِ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ الْخَلْطِ فِيمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ خُلِطَ ثُمَّ اشْتَرَكَا فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ .
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ وَاشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْتَحِقُّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ( فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ ) لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ ( يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَعْدَ الْخَلْطِ كَمَا يَتَعَيَّنُ قَبْلَهُ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَشَرْطُ جَوَازِ الشَّرِكَةِ أَنْ لَا يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لِئَلَّا يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ( وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا ) أَيْ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ ( ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَمَبِيعٌ ) مِنْ وَجْهٍ ( مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ ) يَعْنِي الْخَلْطَ وَعَدَمَهُ فَلِشَبَهِهِمَا بِالْمَبِيعِ .
قُلْنَا : لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَلِشَبَهِهَا بِالثَّمَنِ قُلْنَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا بَعْدَ الْخَلْطِ ، وَهَذَا لِأَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَيْهَا تَضْعُفُ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى مَا يُقَوِّيهَا وَهُوَ الْخَلْطُ ، لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَتَتَأَكَّدُ بِهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ .

وَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَخُلِطَا لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَخْلُوطَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَمِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَتَتَمَكَّنُ الْجَهَالَةُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فَحُكْمُ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ .فَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَخُلِطَ لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ ، فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ مِثْلَهُ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ فَتَزُولُ الْجَهَالَةُ وَمِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ، فَإِنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ ، وَإِذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ فَتُمْكِنُ الْجَهَالَةُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ كَحُكْمِ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ : أَيْ قَضَاءِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَقَدْ بَيَّنَهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ قَضَاءُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي : يَعْنِي وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ كِتَابَ الْقَضَاءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لَقَالَ سَنُبَيِّنُهُ ، وَاَلَّذِي بَيَّنَهُ هُنَا فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا كَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَخَلَطَهَا الرَّجُلُ بِشَعِيرِ نَفْسِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إلَى الضَّمَانِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ الْآخَرِ ، ثُمَّ عَقَدَ الشَّرِكَةَ ) قَالَ ( وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مِلْكٌ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَتَاعِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقَدْرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الشَّرِكَةُ .

قَالَ ( وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ ) لَمَّا كَانَ جَوَازُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ مُنْحَصِرًا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَفِي ذَلِكَ تَضْيِيقٌ عَلَى النَّاسِ ذَكَرَ الْحِيلَةَ فِي تَجْوِيزِ الْعَقْدِ بِالْعُرُوضِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَقَالَ ( وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ ) لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ صَارَ نِصْفُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا عَلَى الْآخَرِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ الرِّبْحُ الْحَاصِلُ رِبْحَ مَالٍ مَضْمُونٍ فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ شَرِكَةٍ ) وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّارِحُونَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّرِكَةِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ ، وَبِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ إذَا لَمْ يَبِعْ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ الْآخَرِ ، أَمَّا إذَا بَاعَ فَهُوَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ .
ثُمَّ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عَقْدُ شَرِكَةِ مِلْكٍ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ وَهُوَ بَعِيدٌ ، لِأَنَّ غَرَضَ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيَانُ الْحِيلَةِ فِي تَجْوِيزِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ أَنَّهَا شَرِكَةُ مِلْكٍ وَإِنْ عَقَدَا الشَّرِكَةَ ، لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ كَلَا عَقْدَ لِكَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ عَرْضًا ، وَنَظْمُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ ، وَأَنَا أَذْكُرُ لَك مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ لِأَنَّهُ حَلٌّ مُفِيدٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ : عَدَمُ جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ كَمَا بَيَّنَّا ، وَالثَّانِي جَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِذَا بَاعَ

أَحَدُهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ الْآخَرِ ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ قَالَ الْقُدُورِيُّ يَجُوزُ ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ وَصَاحِبُ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ صَارَ مَعْلُومًا وَصَارَ نِصْفُ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْبَيْعِ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ الرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْ مَالَيْهِمَا رِبْحَ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا عَرْضَهُ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ ثُمَّ عَقَدَا شَرِكَةَ عِنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ يَجُوزُ لِزَوَالِ الْجَهَالَةِ لِصَيْرُورَةِ الْعُرُوضِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَكَذَا هَذَا .
وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ كَمَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ الْخَلْطِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَوْكِيلٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى الدَّرَاهِمِ .
وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِبَقَاءِ جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ الْخَلْطِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِزَوَالِ الْجَهَالَةِ أَصْلًا لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ بِهَذَا الْعَقْدِ صَارَتْ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِمَا ثُمَّ يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ تَبَعًا ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَبَيْعِ الشِّرْبِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ .
ثُمَّ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ عَدَمَ الْجَوَازِ وَعَدَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَقَالَ : وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ عِنْدِي لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ شَرِكَةُ عَقْدٍ وَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَا

الْعَقْدِ بَعْدَ الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ ، ثُمَّ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ ، وَلَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقَدْرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الشَّرِكَةُ ) نَظِيرُهُ مَا إذَا كَانَ قِيمَةُ عُرُوضِ أَحَدِهِمَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَقِيمَةُ عُرُوضِ الْآخَرِ مِائَةَ دِرْهَمٍ يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ عَرْضِهِ بِخُمُسِ عَرْضِ الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْمَتَاعُ كُلُّهُ أَخْمَاسًا وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالَيْهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَوْعِ بُرٍّ أَوْ طَعَامٍ ، أَوْ يَشْتَرِكَانِ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَذْكُرَانِ الْكَفَالَةَ ) ، وَانْعِقَادُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لِتَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَعْرَاضِ يُقَالُ عَنَّ لَهُ : أَيْ عَرَضَ ، وَهَذَا لَا يُنْبِئُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ .قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ ، فَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَّ إذَا عَرَضَ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ عَرَضَ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا عَلَى عُمُومِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ .
وَقِيلَ إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ لِأَنَّ الْفَارِسَ يُمْسِكُ الْعِنَانَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَيَتَصَرَّفُ بِالْأُخْرَى ، فَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ هُنَا شَارَكَ فِي بَعْضِ مَالِهِ وَانْفَرَدَ بِالْبَاقِي وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ .

( وَيَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي الْمَالِ ) لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةِ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ .

( وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحَ أَثْلَاثًا فَصَاحِبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَحِقُّهَا بِلَا ضَمَانٍ ، إذْ الضَّمَانُ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا فِي الرِّبْحِ لِلشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا يَشْتَرِطَانِ الْخَلْطَ ، فَصَارَ رِبْحُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَمَاءِ الْأَعْيَانِ فَيُسْتَحَقُّ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ } " وَلَمْ يَفْصِلْ ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ وَأَهْدَى وَأَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقْوَى فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفَاضُلِ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَخْرُجُ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ الشَّرِكَةِ وَمِنْ الْمُضَارَبَةِ أَيْضًا إلَى قَرْضٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِلْعَامِلِ أَوْ إلَى بِضَاعَةٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ فِي مَالِ الشَّرِيكِ ، وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةِ .
وَقُلْنَا : يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ حَتَّى لَا تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا .

وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا إنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا وَشَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي رَأْسِ الْمَالِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شُرِطَ وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ .
وَأَمَّا إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا جَازَ وَيَكُونُ مَالُ الَّذِي لَا عَمَلَ عَلَيْهِ بِضَاعَةً عِنْدَ الْعَامِلِ لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ ، وَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلْعَامِلِ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ جَازَ أَيْضًا عَلَى الشَّرْطِ وَيَكُونُ مَالُ الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِلِ مُضَارَبَةً ؛ وَلَوْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلدَّافِعِ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ وَيَكُونُ مَالُ الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِلِ بِضَاعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَالِهِ وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا أَبَدًا ( قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ) وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَ الْعَاقِدَانِ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ } ) رَوَاهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ) يَعْنِي بَيْنَ التَّفَاضُلِ وَالتَّسَاوِي ( قَوْلُهُ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إذَا أَلْحَقْتُمْ هَذَا الْعَقْدَ بِالْمُضَارَبَةِ صَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ : اعْمَلْ فِي مَالِكَ وَرِبْحُهُ لَك ، وَاعْمَلْ فِي مَالِي وَرِبْحُهُ بَيْنَنَا وَفِي الْمُضَارَبَةِ إذَا شُرِطَ عَمَلُ رَبِّ الْمَالِ فِيهَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَقَدْ جَوَّزْتُمْ هَذِهِ الشَّرِكَةَ وَإِنْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الْعَقْدُ مُضَارَبَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ أَنَّهُ يُشْبِهُهَا مِنْ وَجْهٍ ، وَمَا أَشْبَهَ الشَّيْءَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ

اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا شُرِطَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا لَا يَجُوزُ ، فَكَذَا إذَا شُرِطَ الْفَضْلُ وَالْجَامِعُ الْعُدُولُ بِالرِّبْحِ عَنْ التَّقْسِيطِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ بِشَرْطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ يَخْرُجُ الْعَقْدُ مِنْ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ إلَى قَرْضٍ أَوْ بِضَاعَةٍ ، لِأَنَّهُ إنْ شُرِطَ الْجَمِيعُ لِلْعَامِلِ صَارَ قَرْضًا ، وَإِنْ شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ صَارَ بِضَاعَةً ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ فِي مَالِ الشَّرِيكِ وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ أَيْ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ مَعًا فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةِ .
وَقُلْنَا : يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ الرِّبْحِ مَوْجُودٌ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الشَّرِكَةِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ مَالِهِ دُونَ الْبَعْضِ ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ إذْ اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِيهِ ( وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا وَمِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرُ وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمُ ، وَكَذَا مِنْ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ بِيضٌ وَمِنْ الْآخَرِ سُودٌ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَمَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشَّرِكَةِ طُولِبَ بِثَمَنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْحُقُوقِ .
قَالَ ( ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ ) مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي حِصَّتِهِ فَإِذَا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْحُجَّةُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُجُوبَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ إلَخْ ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ شَرِكَةَ الْعِنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ مَالِهِ دُونَ الْبَعْضِ ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ : أَيْ فِي هَذَا الْعَقْدِ ، إذْ اللَّفْظُ : أَيْ لَفْظُ الْعِنَانِ لَا يَقْتَضِيهِ : أَيْ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بِتَأْوِيلِ الِاسْتِوَاءِ ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ ( قَوْلُهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ إلَّا بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ مَعَ يَمِينِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ أَوْ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ الْمَالُ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَبِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الثَّمَنَانِ فِيهِمَا بِالتَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَالَانِ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ إلَّا لِيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ ، فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِشَرِكَتِهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ؛ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَلَكَ فِي يَدِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْخَلْطِ حَيْثُ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فَيُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ .

( قَوْلُهُ فَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْمُفْرَدَةِ احْتِرَازًا عَنْ الْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَفِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ فَإِنَّهَا فِيهِمَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ الشَّرِكَةِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمُتَضَمَّنَ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْمُتَضَمِّنِ تَبَعًا ، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ الْمُفْرَدَةُ كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فَهَلَكَتْ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَقَدْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ : بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ ، حَتَّى إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِيهَا بِالْقَبْضِ فَلَعَلَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ ، ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ ) أَيْ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَهْلَكْ مَالُهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي هَلَكَ مَالُهُ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ مَالِهِ بِشَرِكَتِهِ فِي مَالِهِ كَمَا يَشْتَرِكُ هُوَ فِي مَالِ هَذَا ( قَوْلُهُ وَأَيُّهُمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ وَهَلَكَ مَالُ الْآخَرِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ) لِأَنَّ الْمِلْكَ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِهَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ ، حَتَّى إنَّ أَيَّهُمَا بَاعَ جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يُنْتَقَضُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِهَا .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنْ ثَمَنِهِ ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِوَكَالَتِهِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ .
أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالِ الْآخَرِ ، إنْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَالْمُشْتَرَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنْ بَطَلَتْ فَالْوَكَالَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا قَائِمَةٌ فَكَانَ مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ ، وَيَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ ذَكَرَا مُجَرَّدَ الشَّرِكَةِ وَلَمْ يَنُصَّا عَلَى الْوَكَالَةِ فِيهَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلَّذِي اشْتَرَاهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الشَّرِكَةِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِكَةُ ، فَإِذَا بَطَلَتْ يَبْطُلُ مَا فِي ضِمْنِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَرَّحَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ ) فَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ بَيْعِ الْكُلِّ .
فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيُّهُمَا بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا تَنْتَقِضُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَمَا لَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا .
وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا يَنْفُذُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي حِصَّتِهِ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ قَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الْمَالِ كَمَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِمَالِ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا هُوَ حُكْمُ الشِّرَاءِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِي الْمَتَاعِ شَرِكَةَ مِلْكٍ ( قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَخْ ( قَوْلُهُ أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ ) وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ

قَالَ ( وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ ، وَلَا يَقَعُ الْفَرْعُ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ وَأَنَّهُ بِالْخَلْطِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُوَ الْمَالُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ ، وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِمَالَةً عَلَى عَمَلِهِ ، أَمَّا هُنَا بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ لَهُمَا حَتَّى يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ .
وَيُشْتَرَطُ الْخَلْطُ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ .( قَوْلُهُ وَأَنَّهُ بِالْخَلْطِ ) أَيْ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى تَأْوِيلِ الِاشْتِرَاكِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ ) يَعْنِي وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ : أَيْ مَحَلَّ الشَّرِكَةِ هُوَ الْمَالُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ ، وَيُقَالُ عَقْدُ شَرِكَةِ الْمَالِ وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا اُعْتُبِرَ التَّعْيِينُ إلَّا لِتَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الثَّمَنِ مُسْتَنِدَةً إلَى الْمَالِ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ الْخَلْطِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِمَالَةً عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ ( قَوْلُهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ اتِّحَادُ الْجِنْسِ ) يَعْنِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرِ دَنَانِيرَ تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا صَحِيحَةً عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا وَالْآخَرِ سُودًا .

وَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَعْمَالِ لِانْعِدَامِ الْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ الْخَلْطُ شَرْطًا ، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَا يُسْتَفَادُ الرِّبْحُ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ .
وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي التَّصَرُّفِ بِدُونِ الْخَلْطِ تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِهِ وَهُوَ الرِّبْحُ بِدُونِهِ ، وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ .

وَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ : أَيْ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِانْعِدَامِ الْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ ، أَمَّا أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً لَا الْمَالَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَيْهِ فَهُوَ الْأَصْلُ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَنَدِ إلَيْهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ حَدُّ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْحَقِيقَةِ يَحْصُلُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالتَّصَرُّفُ يَحْصُلُ مِنْ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْكُلِّ فِي بَعْضِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَفِي بَعْضِهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ ، فَكَانَ الْعَقْدُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ ، وَجَازَ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى عَيْنِ الْعِلَّةِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعَقْدُ وَهُوَ مَوْجُودٌ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الرِّبْحُ وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ الْمَالَانِ .
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنَانِ كَالشَّرْحِ لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ الْمَالِ لَمَا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا بِهِ شَيْئًا لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَالِ وَبَقَاءَهُ إذْ ذَاكَ بِمَنْزِلَةٍ لِكَوْنِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْعَقْدُ قَدْ وُجِدَ وَالْمَالُ مَوْجُودٌ فَلَا يُبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَقَائِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ شَرْطٌ لِوُجُودِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلُ قَدْ انْتَفَى بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمَحَلُّ فَكَذَلِكَ الْفَرْعُ .
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَالَيْنِ إذَا لَمْ يَخْتَلِطَا بَقِيَا مُتَمَيِّزَيْنِ وَلَا شَرِكَةَ مَعَ التَّمْيِيزِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عِلَّةَ فَسَادِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ لَيْسَتْ التَّمْيِيزَ بَلْ هِيَ مَا ذَكَرْنَا

مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ ) يَعْنِي لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَقْدُ دُونَ الْمَالِ كَانَ الرِّبْحُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خَلْطُ الْمَالَيْنِ وَالرِّبْحُ مُشْتَرَكٌ بِسَبَبِ الْعَقْدِ ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الْأَصْلُ بَطَلَ الْفُرُوعُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ فَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةً مِنْ الرِّبْحِ ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الشَّرِكَةِ فَعَسَاهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا قَدْرَ الْمُسَمَّى لِأَحَدِهِمَا ، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ .( قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانٌ مُسَمَّاةٌ كَانَتْ فَاسِدَةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَطِعُ بِهِ ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا شَائِعًا .

قَالَ ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يُبْضِعَ الْمَالَ ) لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَالتَّحْصِيلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَهُ فَيَمْلِكَهُ ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُودِعَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا .
قَالَ ( وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً ) ؛ لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ فَتَتَضَمَّنَهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ بِأَجْرٍ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّتِهِ ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ .
قَالَ ( وَيُوَكِّلُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ ) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ لِلتِّجَارَةِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ طُلِبَ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْعَيْنِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ قَالَ ( وَيَدُهُ فِي الْمَالِ يَدُ أَمَانَةٍ ) لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ .

قَالَ : وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ .
هَذَا بَيَانُ مَا يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ أَوْ عِنَانٍ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَالْمُعْتَادُ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ بِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ بِلَا خِلَافٍ ، وَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ جَازَ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ تَحْصِيلٌ بِعِوَضٍ وَالْإِبْضَاعُ بِدُونِهِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ أَعْلَى وَمَنْ مَلَكَ الْأَعْلَى مَلَكَ الْأَدْنَى ، وَأَنْ يُودِعَ الْمَالُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا ، وَأَنْ يَدْفَعَ مُضَارَبَةً لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الْوَضِيعَةِ وَأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الْمُضَارَبَةِ مُسْتَفَادَةً بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ فَتَضَمَّنَتْهَا الشَّرِكَةُ ، هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ ( نَوْعُ شَرِكَةٍ ) لِأَنَّهُ إيجَابُ الشَّرِكَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ غَيْرِهِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ فَكَذَا لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً ( وَالْأَوَّلُ ) أَيْ جَوَازُ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً ( أَصَحُّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ ) يَعْنِي فِي الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْمُضَارَبَةِ فَيَمْلِكُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ إذَا عَمِلَ وَلَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ لَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ إذَا عَمِلَ فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ

الرِّبْحِ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِتْبَاعِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُطْلِقَ فِي الْكَسْبِ وَأَسْبَابِهِ ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْكَسْبِ الْمُطْلَقَةِ لَهُمَا لَا أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَتْبَعَاتِ ، وَأَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ مَقْصُودًا أَعْلَى حَالًا مِنْ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ آخَرَ لَا مَحَالَةَ ، وَالْوَكِيلُ الَّذِي كَانَتْ وَكَالَتُهُ مَقْصُودَةً لَيْسَ لَهُ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ ، فَالْوَكِيلُ الَّذِي تَثْبُتُ وَكَالَتُهُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ كَيْفَ جَازَ لَهُ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ .
وَأُجِيبَ بِذَلِكَ الْجَوَابِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ وَغَيْرِهِ ، وَالشُّبْهَةُ وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَجَوَابُهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ قَبْضٌ لِأَجْلِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ ( قَوْلُهُ وَالْوَثِيقَةُ ) احْتِرَازٌ عَنْ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمَرْهُونَ مَقْبُوضٌ لِأَجْلِ الْوَثِيقَةِ .

قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ ) وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ ( كَالْخَيَّاطِينَ وَالصَّبَّاغِينَ يَشْتَرِكَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَيَكُونَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ ذَلِكَ ) وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا وَهُوَ التَّثْمِيرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ تُبْتَنَى عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِالتَّوْكِيلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَكِيلًا فِي النِّصْفِ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِقَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهُمَا ) أَيْ مَقْصُودَ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ التَّثْمِيرُ ظَاهِرٌ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا ، أَضَافَ الْمَقْصُودَ إلَى الشَّرِكَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ لِلشَّرِيكَيْنِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهُوَ تَلَبُّسُ الشَّرِيكَيْنِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ .

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَزُفَرَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَفَاوَتُ

( قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا الْعَقْدِ اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، قَالَا : إنْ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ كَالْقَصَّارَيْنِ اشْتَرَكَا أَوْ صَبَّاغَيْنِ جَازَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَصَبَّاغٍ وَقَصَّارٍ اشْتَرَكَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ صَاحِبُهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَتِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِالتَّوْكِيلِ لَا تَتَفَاوَتُ بِاتِّحَادِ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ أَوْ اخْتِلَافِهِمَا ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَمِمَّنْ لَا يُحْسِنُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُتَقَبِّلِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدَيْهِ ، بَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِأَعْوَانِهِ وَأُجَرَائِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ عَمِلَ فِي دُكَّانٍ وَالْآخَرُ فِي دُكَّانٍ آخَرَ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْخَلْطِ أَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ لَا تَجُوزُ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ زُفَرَ مَعَ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي جَوَازِهَا إذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ مُتَّفِقَةً ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ زُفَرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي الْخَلْطَ قَوْلَانِ ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ حُكْمَ الرِّوَايَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا خَلْطُ الْمَالِ ، وَذَكَرَ هُنَا حُكْمَ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ وَلَكِنْ أَطْلَقَ فِي اللَّفْظِ وَلَمْ يَذْكُرْ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيُرَى ظَاهِرُهُ مُتَنَاقِضًا .

( وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ وَالْمَالَ أَثْلَاثًا جَازَ ) وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِتَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ ، وَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَا يَأْخُذُهُ لَا يَأْخُذُهُ رِبْحًا لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ فَكَانَ بَدَلَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يُتَقَوَّمُ بِالتَّقْوِيمِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا قُوِّمَ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ ، بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ وَالرِّبْحُ يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّفِقِ ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ ) أَيْ إذَا شَرَطَا فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَلَمْ يَكُنْ مُفَاوَضَةٌ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ أَثْلَاثًا جَازَ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِتَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ : أَيْ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ فِي أَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا فِي الرِّبْحِ لَا يَجُوز إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى فَيَجُوزُ التَّفَاوُتُ حِينَئِذٍ فِي الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَكِنَّا نَقُولُ ) بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مَا يَأْخُذُهُ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَأْخُذُ رِبْحًا ، لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ آجَرَهَا بِثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ جَازَ لِمَا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَتَّحِدْ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ فَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ بَدَلَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يَتَقَوَّمُ بِالتَّقْوِيمِ ، فَإِذَا رَضِيَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَقْوِيمًا لِلْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا قُوِّمَ بِهِ وَلَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ وَهُوَ الثَّمَنُ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِمَا دَرَاهِمَ كَانَتْ أَوْ دَنَانِيرَ وَالرِّبْحُ يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّفِقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ) تَقْدِيرُهُ لَوْ جَازَ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الرِّبْحِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا لِوُقُوعِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فِي جَانِبِ الْمُضَارِبِ وَبِمُقَابَلَةِ الْمَالِ فِي جَانِبِ رَبِّ الْمَالِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا

فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَلَا الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ الرِّبْحِ مَوْجُودًا فَيَلْزَمُ فِيهَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَجُوزُ .

قَالَ ( وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ ) حَتَّى إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِالْعَمَلِ وَيُطَالِبُ بِالْأَجْرِ ( وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَفِي غَيْرِهَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً وَالْكَفَالَةُ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ ( مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ ) ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ .

( قَوْلُهُ وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ) أَيْ يَبْرَأُ دَافِعُ الْأُجْرَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ ، قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ مِنْ كُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ : أَيْ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ مَثَلًا لَوْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَوْبًا لِلصَّبْغِ ثُمَّ دَفَعَ الْآخَرُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا إلَى صَاحِبِهِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ الْعَمَلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ ( ظَاهِرٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَفِي غَيْرِهَا ) وَهُوَ الْعِنَانُ ( اسْتِحْسَانٌ ) أَيْ مَعْنَى الْكَفَالَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ .
وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً عَنْ ذِكْرِ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَتْ الْكَفَالَةُ مِنْ مُقْتَضَاهَا حَتَّى تَثْبُتَ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَهَا مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهَا بِدُونِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَمَلِ مَضْمُونًا ( يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ ) أَيْ تَقَبُّلِ صَاحِبِهِ ( عَلَيْهِ ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَمَا اُسْتُحِقَّ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( جَرَى ) هَذَا الْعَقْدُ ( مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ ) وَفِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ لِأَنَّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ لَمْ يَجْرِ هَذَا الْعَقْدُ مَجْرَاهَا حَتَّى قَالُوا : إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ مِنْ ثَمَنِ أُشْنَانٍ أَوْ صَابُونٍ أَوْ أَجْرِ أَجِيرٍ أَوْ أُجْرَةِ بَيْتٍ لِمُدَّةٍ مَضَتْ

لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَتَلْزَمُهُ خَاصَّةً لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ لَمْ يُوجَدْ ، وَنَفَاذُ الْإِقْرَارِ يُوجِبُ الْمُفَاوَضَةَ .

قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا فَتَصِحَّ الشَّرِكَةُ عَلَى هَذَا ) سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْكَفَالَةِ وَالْوَكَالَةِ فِي الْأَبْدَالِ ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ تَكُونُ عِنَانًا لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ .
قَالَ ( وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِلَايَةٍ وَلَا وِلَايَةَ فَتَتَعَيَّنُ الْوَكَالَةُ ( فَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالرِّبْحَ كَذَلِكَ يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ ) ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ أَوْ الْعَمَلِ أَوْ بِالضَّمَانِ فَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّهُ بِالْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ ، وَالْأُسْتَاذُ الَّذِي يُلْقِي الْعَمَلَ عَلَى التِّلْمِيذِ بِالنِّصْفِ بِالضَّمَانِ ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِمَا سِوَاهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَصَرَّفْ فِي مَالِكِ عَلَى أَنَّ لِي رِبْحَهُ لَمْ يَحُزْ لِعَدَمِ هَذِهِ الْمَعَانِي .
وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى وَكَانَ الرِّبْحُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوُجُوهُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا ، بِخِلَافِ الْعِنَانِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْمَلُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ فَيُلْحَقُ بِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا ( عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا ) أَيْ بِوَجَاهَتِهِمَا وَأَمَانَتِهِمَا عِنْدَ النَّاسِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا ( عَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى كَوْنِهِمَا يَشْتَرِيَانِ بِوُجُوهِهِمَا : أَيْ سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ إلَّا مَنْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً إذَا كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةُ فِي الْأَبْدَالِ : أَيْ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ، فَيَكُونُ ثَمَنُ الْمُشْتَرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَيَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ أَوْ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِذَا أُطْلِقَتْ كَانَتْ عِنَانًا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ وَهِيَ أَيْ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَهِيَ أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُ فَرْعُ الْمَالِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَالُ لَمْ تَنْعَقِدْ الشَّرِكَةُ .
وَقُلْنَا إنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ إلَى آخِرِهِ ( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ ) أَيْ فِي الرِّبْحِ ، وَإِنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا الْفَضْلُ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ضَمَانِهِمَا ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى تَحَتُّمِ الْمُسَاوَاةِ فِي اشْتِرَاطِ الرِّبْحِ ( قَوْلُهُ بِالنِّصْفِ ) قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُلْقِيَ بِأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِمَا سِوَاهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ لِزِيَادَةِ اهْتِدَائِهِ وَمَتَانَةِ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَعِلْمِهِ بِالتِّجَارَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِي الرِّبْحِ

بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي مَالٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي الْعِنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا ( وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى ) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِمَا سِوَاهَا ( قَوْلُهُ وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ) عَوْدٌ إلَى الْمَبْحَثِ لِإِتْمَامِ الْمَطْلُوبِ يَعْنِي أَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِيهَا بِالضَّمَانِ لَا بِالْمَالِ وَلَا بِالْعَمَلِ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) قِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ إلَخْ .
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ : اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ بِالضَّمَانِ وَالضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى فَكَانَ الرِّبْحُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ مُقَابَلَتِهِ بِالْمَالِ وَالْعَمَلِ وَالْوُجُوهِ : أَيْ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْمَالَ فِيهَا مَضْمُونٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ ، وَأَمَّا الْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْعِنَانِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ كَالْمُضَارِبِ يَعْمَلُ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ فَيُلْحَقُ بِهَا .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَوْ جَازَ فِي الْعِنَانِ لِشُبْهَةِ الْمُضَارَبَةِ لَصَحَّتْ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ فِي الْعِنَانِ لِأَنَّ الْعِنَانَ مُشَبَّهٌ بِالْمُضَارَبَةِ فَكَانَ عِلَّةُ تَجْوِيزِ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ مَوْجُودَةً ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِنَانَ بِالْعُرُوضِ لَوْ كَانَ مُؤَدِّيًا إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَقَطْ لَاغْتَفَرْنَاهُ ، وَلَكِنْ

انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ جَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ ، وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ مَا يَقْتَضِي اعْتِقَادَهُ حَتَّى يُلْحَقَ بِهِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَنْزِعُ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ : فَإِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ مَسَاغَهُ .
أَوْ يُصَارَ إلَى مُخَلِّصِهِ الْمَعْلُومِ فِي الْأُصُولِ .

( فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ ) ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ، وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ) ، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي أَخْذِ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحً ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْوَكَالَةِ ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا بِالْأَخْذِ وَإِحْرَازِ الْمُبَاحِ ، فَإِنْ أَخَذَاهُ مَعًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ الْآخَرُ ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَحَمَلَهُ الْآخَرُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .

( فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ ) وَجْهُ فَصْلِ الْفَاسِدِ عَنْ الصَّحِيحِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكَّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ) وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ دَلِيلَانِ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
تَقْرِيرُ الْأَوَّلِ الْمُدَّعِي أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي صِحَّةَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِمَا وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ أَخْذُ الْمُبَاحِ ، وَأَمْرُ الْمُوَكِّلِ بِأَخْذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ صَادَفَ غَيْرَ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ .
وَتَقْرِيرُ الثَّانِي التَّوْكِيلَ بِأَخْذِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، وَمَنْ تَمَلَّكَ شَيْئًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْوَكِيلِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ يَمْلِكُ بِدُونِ أَمْرِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ إثْبَاتُ الثَّابِتِ .
وَنُوقِضَ الثَّانِي بِالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِلَا عَقْدٍ ، وَصُورَةُ النَّقْضِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالشِّرَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلِلْمُعَيَّنِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) أَيْ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ .
قِيلَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْكِتَابِ ، وَكَذَا تَقْدِيمُ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى دَلِيلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَبْسُوطِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ اخْتَارُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ فِي الْمَآلِ

وَكَانَتْ جَهَالَتُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمْعِ ، فَإِذَا كَانَ رَاضِيًا فِي الِابْتِدَاءِ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَ رَاضِيًا بِنِصْفِ ثَمَنِ الْمَجْمُوعِ فِي الِانْتِهَاءِ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَهُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مُطَالَبَةِ الزِّيَادَةِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ أَيْ تَقْرِيرُ أَجْرِ الْمِثْلِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً جِنْسًا وَقَدْرًا حَيْثُ لَا يُدْرَى أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ وَأَيَّ قَدْرٍ مِنْهُ يَجْمَعَانِ ، وَلَا يَدْرِيَانِ أَيْضًا هَلْ يَجِدَانِ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ أَوْ لَا يَجِدَانِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُعَيَّنَ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى مِنْ الْحَطَبِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصِيبَا شَيْئًا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ فَهَاهُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَصَابَا .

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّاوِيَةِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْبَغْلِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الرَّاوِيَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ ) أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْمَاءُ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ إذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ وَهُوَ الْمُسْتَقِي ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَغْلُ أَوْ الرَّاوِيَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ ) الرَّاوِيَةُ فِي الْأَصْلِ بَعِيرُ السِّقَاءِ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمَاءَ : أَيْ يَحْمِلُهُ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَزَادَةِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : الْمَزَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ جِلْدَيْنِ يُقَامُ بِجِلْدٍ ثَالِثٍ بَيْنَهُمَا لِيَتَّسِعَ وَالْجَمْعُ مَزَادٌ وَمَزَايِدُ .

( وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِ ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ ) لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، كَمَا أَنَّ الرِّيعَ تَابِعٌ لِلْبَذْرِ فِي الزِّرَاعَةِ ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ) فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَنَا فَرْعٌ لِلْعَقْدِ كَمَا مَرَّ ، وَكُلُّ فَرْعٍ تَابِعٌ ، وَكَوْنُهُ تَابِعًا لِلْمَالِ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا ، وَهَاهُنَا قَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْمَالِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا تُضَافُ إلَى الشَّرْطِ .
وَالرِّيعُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ ، يُقَالُ : أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ رِيعًا : أَيْ غَلَّةً لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ .

( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَكَذَا بِالِالْتِحَاقِ مُرْتَدًّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ بِاللِّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهْم أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَوْتَ ( عَزْلٌ حُكْمِيٌّ ) لِكَوْنِ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا لِتَحْوِيلِ مِلْكِهِ إلَى وَرَثَتِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلْمِ بِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تَابِعَةً لَهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ التَّابِعِ بُطْلَانُ الْمَتْبُوعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَابِعَةٌ لِلشَّرِكَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَرْطُهَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِدُونِ الْوَكَالَةِ ، أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ آنِفًا بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا أَيْ الْوَكَالَةِ لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ ، وَإِذَا كَانَتْ شَرْطًا لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاءُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْفَسْخَ ( عَزْلٌ قَصْدِيٌّ ) فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ .

( فَصْلٌ ) وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ .
فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالثَّانِي ضَامِنٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ ، أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ .
وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَمَا أَدَّى الْآمِرُ بِنَفْسِهِ .
لَهُمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ التَّمْلِيكَ لَا وُقُوعَهُ زَكَاةً لِتَعَلُّقِهِ بِنِيَّةِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ بَعْدَمَا زَالَ الْإِحْصَارُ وَحَجَّ الْآمِرُ لَمْ يَضْمَنْ الْمَأْمُورُ عَلِمَ أَوْ لَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَصَلَ بِأَدَائِهِ وَعَرَّى أَدَاءَ الْمَأْمُورِ عَنْهُ فَصَارَ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ .
وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ .

فَصْلٌ ) وَلَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ أَبْعَدَ عَنْ مَسَائِلِ الشَّرِكَةِ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ التِّجَارَةِ أَخَّرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ سِوَى مَا نَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ ) يَعْنِي أَدَاءَ بَعْضِ مَالِهِ عَلَى يَدِ الْوَكِيلِ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ : أَيْ بَقَاءِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِالْوَكِيلِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا قَضَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَضَى الْوَكِيلُ ، فَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ، فَقَدْ فَرَّقَ هُنَاكَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ الْعَزْلُ الْحُكْمِيُّ هُنَاكَ أَيْضًا بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدَّى مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ ، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَلَمْ يَكُنْ أَدَاؤُهُ مُوجِبًا عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا فَوَضَحَ الْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ بِجَهْلِهِ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ لَلَحِقَ الْمُوَكِّلَ فِيهِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْقَابِضِ وَتَضْمِينِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَهَاهُنَا لَوْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ أَدَّى إلَى لِحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَا تَضْمِينِهِ ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بَعْدَ أَدَائِهِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَزْلُ وَكِيلِهِ ، وَحَالَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَحْكُمْ بِسُقُوطِ

الزَّكَاةِ عَنْ مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يُوجِبْ عَزْلَ الْوَكِيلِ عَنْ الْأَدَاءِ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ عَلَى الْآمِرِ ، وَعِنْدَمَا يُؤَدِّي الْمُوَكِّلُ عَنْ نَفْسِهِ الزَّكَاةَ الْحَالَّةَ حَالَةَ زَوَالِ الزَّكَاةِ وَسُقُوطِهَا عَنْهُ فَلَا تُوصَفُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهَا حَالَةُ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ .
وَقَوْلُهُ وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ لَا يَضْمَنُ إذَا ذَبَحَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْإِحْصَارُ لَمْ يُطَالَبْ بِدَمِ الْإِحْصَارِ فَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا مَقْصُودًا فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُحْصَرِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ فَعَرِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَقْصُودِ ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وَكَانَ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ أَمْرًا مَقْصُودًا ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَدَاءِ الْآمِرِ نَفْسِهِ فَعَرِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَقْصُودِ فَيَضْمَنُ .

قَالَ ( وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَيَطَأَهَا فَفَعَلَ فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ( وَهَذَا ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ إذْ هُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا ( وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَضَمَّنَتْ الْكَفَالَةَ فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ، وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ إنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً بِدَلِيلِ حِلِّ وَطْئِهَا ، وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ وَأَدَّى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي الشَّرِكَةِ وَأَدَّى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِشَيْءٍ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا قَبْلَ الْإِذْنِ وَأَدَّى ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَبَيَّنَ دُخُولَهَا فِي الشَّرِكَةِ بِقَوْلِهِ ( جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ ) أَيْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا لَيْسَ بِمُسْتَثْنًى كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ تَحْتَهَا ، وَشِرَاءُ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِمُسْتَثْنًى فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى لَمْ يُعْتَبَرْ مَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى الشَّرِكَةِ كَيْفَ كَانَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا كَمَا يَحِلُّ إذَا وَهَبَهُ نَصِيبَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّا يُوهِمُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يُشْبِهُ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَهُنَاكَ لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَبَعْدَ الْإِذْنِ يَحِلُّ ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ

مِنْهُ ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ : يَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حَلَّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهَا لِنَفْسِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ جَارِيَةً بَيْنَنَا وَقَدْ وَهَبْت نَصِيبِي مِنْهَا لَك فَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي الشَّائِعِ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا لَا تُقْسَمُ ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ حَيْثُ يَقَعُ لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَالَ فَفَعَلَ لَا يَصِيرُ هِبَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَالْعِتْقُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْهِبَةِ فَكَيْفَ صَارَ هِبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الشَّرِكَةِ بِالْهِبَةِ حُكْمًا لِلْإِذْنِ بِالْوَطْءِ ، وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْجَارِيَةِ بِالْهِبَةِ حُكْمًا لِلْإِحْلَالِ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَحْلَلْت لَك وَطْءَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُخَاطَبِ حُكْمًا لِلْهِبَةِ بِالْإِحْلَالِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَصِيرُ هِبَةً لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرْطُهَا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَهُوَ وَكِيلٌ ثُمَّ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ ، وَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا .
قَوْلُهُ ( وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ

بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ ) ظَاهِرٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

كِتَابُ الْوَقْفِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ( يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْوَقْفُ لُغَةً .
هُوَ الْحَبْسُ تَقُولُ وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا بِمَعْنًى .
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ .
ثُمَّ قِيلَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ ، وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ .
وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا وَالتَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ .
لَهُمَا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَرْضٍ لَهُ تُدْعَى ثَمْغًا : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ } " وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ مِنْهُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ حَاجَتِهِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى .
إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى } " وَعَنْ شُرَيْحٍ : جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ

فِيهِ لِلْوَاقِفِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ .
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ ، وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ جُعِلَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَهُنَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ فَلَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ فِي الْكِتَابِ : لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، أَمَّا فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمَوْلَى ، فَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .

كِتَابُ الْوَقْفِ : مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْوَقْفِ بَعْدَ الشَّرِكَةِ هِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْتِفَاعُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَقَفْت الدَّابَّةِ وُقُوفًا وَوَقَفْتهَا أَنَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ، وَوَقَفْت الدَّارَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَقْفًا وَأَوْقَفْتهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ ، وَعَرَّفَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ حَبْسُ الْمَمْلُوكِ التَّمْلِيكَ عَنْ الْغَيْرِ .
وَسَبَبُهُ طَلَبُ الزُّلْفَى .
وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْوَاقِفِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا وَكَوْنُ الْمَحَلِّ غَيْرَ مَنْقُولٍ .
وَرُكْنُهُ أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
وَحُكْمُهُ خُرُوجُ الْوَقْفِ : أَيْ الْمَوْقُوفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَمَا عَرَّفَهُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْوَقْفُ لِأَنَّهُ قَالَ : وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ ( فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ ، وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ لَفْظِهِ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : فَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا ، فَأَمَّا أَصْلُ الْجَوَازِ فَثَابِتٌ عِنْدَهُ كَالْعَارِيَّةِ تُصْرَفُ الْمَنْفَعَةُ إلَى جِهَةِ الْوَقْفِ وَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ ، وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِطَرِيقَيْنِ : قَضَاءُ الْقَاضِي بِلُزُومِهِ لِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ ، وَإِخْرَاجُهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ يَقُولَ : أَوْصَيْت بِغَلَّةِ دَارِي ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ .
وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ ( قَوْلُهُ

وَاللَّفْظُ ) أَيْ لَفْظُ الْوَقْفِ ( يَنْتَظِمُهُمَا ) : أَيْ يَتَنَاوَلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ ، وَمَا قَالَاهُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى انْتِظَامًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُرَجَّحٍ .
ثُمَّ ابْتَدَأَ بِبَيَانِ دَلِيلِهِمَا بِقَوْلِهِ : لَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
رَوَى صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ " { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغًا وَكَانَتْ نَخْلًا نَفِيسًا ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ ؟ قَالَ : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ ، وَلَكِنْ لِيُنْفَقْ مِنْ ثَمَرَتِهِ } ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى مِنْهُ " وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ عَنْهُ ، وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَانَتْ سَهْمَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَيْبَرَ حِينَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَثَمْغٌ لَقَبٌ لَهَا وَهِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ ) لِبَيَانِ نَفْيِ اسْتِبْعَادِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا تَدْخُلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمَسْجِدِ لَازِمٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً لِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ } أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، لَكِنَّهُمْ

يَحْمِلُونَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي ، وَيَقُولُونَ الشَّرْعُ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ طَرِيقٍ يَكُونُ فِيهِ حَبْسٌ عَنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ .
وَقَوْلُهُ ( جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( كَالسَّائِبَةِ ) هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ لِنَذْرٍ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ : إذَا قَدِمْت مِنْ سَفَرِي أَوْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي فَنَاقَتِي سَائِبَةٌ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ مُنْتَفَعًا بِهَا ، فَإِنَّهُ لَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ، فَكَذَا إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لَمَا جَازَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِي الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ لِأَحَدٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسْجِدِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالَ فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ : لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ .
صُورَةُ الْحُكْمِ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَاقِفُ مَا وَقَفَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيُنَازِعَهُ بَعْدَ اللُّزُومِ فَيَخْتَصِمَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي بِلُزُومِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَقِيلَ يَزُولُ الْمِلْكُ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِ الْأَمْلَاكِ عَنْ مِلْكِهِ فَالتَّعْلِيقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمِلْكِ .
وَقِيلَ لَا يَزُولُ

وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْوَاقِفَ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ وَهُوَ لَا يَسْتَدْعِي زَوَالَ أَصْلِ الْمِلْكِ ، وَلِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا ، وَلَا يُمْكِنُ التَّصَدُّقُ بِهَا هَكَذَا إلَّا إذَا بَقِيَ أَصْلُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مِلْكِهِ ، إلَّا أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُهُ .
وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمُوَلَّى أَيْ الَّذِي وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ عَمَلَ الْقَضَاءِ .
وَأَمَّا الْمُحَكَّمُ وَهُوَ الَّذِي يُفَوَّضُ إلَيْهِ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
قَالَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ خُلَاصَةِ الْفَتَاوَى : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَسَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُنَفَّذُ وَلَكِنْ لَا يُفْتَى بِهِ

وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا ، وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَإِذَا اُسْتُحِقَّ مَكَانَ قَوْلِهِ إذَا صَحَّ ( خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ) يَعْنِي يَلْزَمُ الْوَقْفُ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ فِي الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ .
ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي صِحَّتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى أُصُولِهِ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَرَضِ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ وَلَا يَمْنَعَ الْإِرْثَ كَالْعَارِيَّةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ( قَوْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ ) أَيْ يَثْبُتُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ضِمْنًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَصْدًا فَيَأْخُذُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمَ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ ( قَوْلُهُ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ ) يَعْنِي يُنَزَّلُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَقْفِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ مَنْزِلَةَ تَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ ) أَيْ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ عِنْدَ الْكُلِّ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ : يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ جَازَ لَهُ إخْرَاجُهُ مِنْ مِلْكِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ، وَلَمَا انْتَقَلَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ

شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ زَوَالِ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ الْمِلْكَ يَزُولُ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، ثُمَّ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ شَرْطُهُ فِي صَرْفِ الْغَلَّةِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَصْرِفَ غَلَّتَهُ إلَى كَذَا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا بِشَرْطِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فُلَانٌ دُونَ فُلَانٍ ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الصِّحَّةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ فِي اللُّزُومِ ، وَالصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ اللُّزُومَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ قَوْلَهُمَا لَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ، إلَّا إذَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ خُرُوجُ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ قَوْلَ الْكُلِّ .
سَلَّمْنَا أَنَّ الصِّحَّةَ هَاهُنَا بِمَعْنَى اللُّزُومِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اللُّزُومِ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ مُعَرَّفٌ بِحَبْسِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا مَحَالَةَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قُرْبَةٌ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُرُبَاتِ تَصِيرُ بِالْإِرَاقَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ بِتَوْلِيَةِ الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ

الْوَاقِفِ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِمَنَافِعِهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَالْأَصْلُ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِيهِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ وَالْبَادِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوَلِّ التَّخْصِيصَ إلَى الَّذِي جَعَلَهُ مَسْجِدًا ، وَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكَعْبَةِ

قَالَ ( وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَتِمَّتُهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ ، وَهَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهِ الْمَوْتَى سَنَةً ، وَيُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذَ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ .
وَلَوْ وَقَفَهُ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارَنٌ كَمَا فِي الْهِبَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ وَقَدْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْقَفَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي الْمَالِ ضِيقٌ ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي ذَلِكَ طَارِئٌ .
وَلَوْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ .
قَالَ : وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ .
لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ ، فَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي

الْبَيْعِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ التَّقَرُّبَ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَمَرَّةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ كَالْعِتْقِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ ) بَيَانُهُ أَنَّ الْقَبْضَ لِلْحِيَازَةِ وَالْحِيَازَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إنَّمَا هِيَ بِالْقِسْمَةِ ( قَوْلُهُ وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا يُقْسَمُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ شَرْطٌ أَوْ لَا ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَمَامُهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فَكَذَا تَمَامُهُ ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَمُحَمَّدٌ أَيْضًا يُجَوِّزُهُ وَيَعْتَبِرُهُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ : أَيْ الصَّدَقَةِ الْخَاضِعَةِ الْمُسَلَّمَةِ إلَى الْفَقِيرِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَهِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( قَوْلُهُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ الْمَوْضِعُ صَغِيرًا لَا يَصْلُحُ لِمَا أَرَادَهُ الْوَاقِفُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقِسْمَةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَعْلَ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَجُوزُ أَصْلًا لَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ حَالَ كَوْنِهِ مُشَاعًا وَلَا بَعْدَهَا ، أَمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَضْعُ غَيْرَ صَالِحٍ لِذَلِكَ لِصِغَرِهِ فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ ، وَالْمُهَايَأَةُ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُمَا وُجِدُوا مَثَلًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ جَازَ وَصَارَ

بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ .
لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ : يَعْنِي لَا إلَى مَالِكٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ فَمُوجَبُ الْوَقْفِ يَتَأَبَّدُ ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْوَقْفِ مُقْتَضَاهُ ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُوجَبَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ .
قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَنَاقُضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَكَانَ مُوجَبُهُ عَدَمَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْوَاقِفِ ، ثُمَّ قَالَ هُنَا : مُوجَبُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أُخْرَى ، فَيَكُونُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ .
وَقِيلَ أَرَادَ هَاهُنَا مَا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْوَقْفُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا أَوْفَقُ .
وَأَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَقْفِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا جُعِلَ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَأُخْرَى إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ انْقَطَعَتْ الْجِهَةُ عَادَ الْوَقْفُ إلَى مِلْكِهِ إنْ كَانَ حَيًّا ، وَإِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ قَالَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ، وَذَلِكَ

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ أَصْلًا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ .
وَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالتَّعْلِيلِ ، وَإِلَى الثَّانِي بِذِكْرِ الْمَذْهَبِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ إلَخْ ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ لَا مَحَالَةَ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ ) لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَفُوهُ

( وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ ) وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاسَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَقَدْ يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ ، وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ فِيهِ تَبَعًا أَوْلَى .
( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ) وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ : مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ أَدْرُعًا وَأَفْرَاسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلْحَةُ حَبَسَ دُرُوعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } " وَيُرْوَى أَكْرَاعَهُ .
وَالْكُرَاعُ : الْخَيْلُ .
وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الْإِبِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا ، وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَرَاجِلِ وَالْمَصَاحِفِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْقِيَاسُ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى

قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقْفُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ ، وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا .

وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ ) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ قَوْلِهِ ( وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا ، كُرَاعًا أَوْ غَيْرَهُ ، تَعَامَلُوا فِيهِ أَوْ لَا .
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالْأَكَرَةُ جَمْعُ أَكَّارٍ وَهُوَ الذِّرَاعُ كَأَنَّهَا جَمْعُ آكِرٍ تَقْدِيرًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْبِنَاءُ فِي الْوَقْفِ ) أَيْ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ الَّتِي عَلَيْهَا ذَلِكَ الْبِنَاءُ كَوَقْفِ الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِشَيْءٍ كَمَا فِي الْمُتَعَارَفِ مِثْلِ الْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمَرَاجِلِ ( عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ( فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ ) أَيْ وَقْفُ الْمَنْقُولِ ( تَبَعًا أَوْلَى ) وَالْمُرَادُ بِالْكُرَاعِ هُنَا هُوَ الْخَيْلُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ السِّلَاحِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي مَا مَرَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْبِيدَ ، وَالتَّأْبِيدُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولِ وَالْمَرَاجِلُ : قُدُورُ النُّحَاسِ .
وَقَوْلُهُ ( إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ ) يَعْنِي أَنَّ وَقْفَ الْمَصَاحِفِ صَحِيحٌ ، فَكَذَا الْكُتُبُ .
ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْفِ الْكُتُبِ جَوَّزَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَقَوْلُهُ ( كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ الَّذِي خُلِقَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ لَا يُمْكِنُ بِهِمَا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ فِي مِلْكِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ) احْتِرَازٌ عَنْ حَمْلِ النَّاقَةِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَذَا وَقْفُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا .
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَمَا لَا يَتَأَبَّدُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَتْ الْمَنْقُولَاتُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ

الْعَقَارِ ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِالْعَقَارِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقْفُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ أَيْضًا كَالدَّرَاهِمِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ تَرْكُ الْأَصْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِمُعَارِضٍ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْمَرَاجِلِ وَالْقَدُومِ وَغَيْرِهِمَا ، فَلْتَكُنْ صُورَةُ النِّزَاعِ مَقِيسَةً عَلَى ذَلِكَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُمَا مُعَارِضًا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ كَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَأَمْثَالِهَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) اسْتِظْهَارٌ عَلَى أَنَّ إلْحَاقَ غَيْرِ الْعَقَارِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لِقُوَّتِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّعَامُلَ اعْتِمَادًا عَلَى شُهْرَةِ كَوْنِ التَّعَامُلِ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ فَجَازَ أَنْ يُتْرَكَ بِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ ) أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا ؛ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إلَى وَصِيَّةٍ ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ) أَيْ إذَا لَزِمَ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَتَصِحَّ مُقَاسَمَتُهُ ، فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاعًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ رَاجِحٌ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ بَيْعٌ اتِّسَاعًا ، أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا : يَعْنِي مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ } وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ ) فَظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ ) أَيْ الْوَاقِفُ هُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ لَا الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( خَالِصٌ ) صِفَةُ عَقَارٍ : أَيْ لَوْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَهُوَ خَالِصٌ لَهُ لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِ فَوَقَفَ مِنْهُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ هَاهُنَا غَيْرَ الْوَاقِفِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالَبًا وَمُطَالِبًا ، فَإِنَّ مُقَاسِمَ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ الْوَقْفُ مُطَالَبٌ مِنْ مَالِكِ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَقْفٍ وَمَالِكُ النِّصْفِ مُطَالَبٌ وَهُوَ الْوَاقِفُ بِعَيْنِهِ الْمُقَاسِمُ لِنِصْفِ الْوَقْفِ فَكَانَ مُطَالَبًا وَمُطَالِبًا ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَيُرْفَعُ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي لِيُقَاسِمَهُ ، أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ الْبَاقِيَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ أَجْوَدَ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إدْخَالِ الدَّرَاهِمِ فِي الْقِسْمَةِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ إدْخَالَ الدَّرَاهِمِ فِي الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ يَأْخُذُ

الدَّرَاهِمَ أَوْ يُعْطِيهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يُعْطِي بِمُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ ، وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ جَازَ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْتَرِي شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ وَيَقِفُهُ وَهُوَ جَائِزٌ .

قَالَ ( وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ) لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا ، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إلَّا بِالْعِمَارَةِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ ، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا .
وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ : أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِمَارَةَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَهُ ، وَإِنْ خَرِبَ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ ؛ لِأَنَّهَا بِصِفَتِهَا صَارَتْ غَلَّتُهَا مَصْرُوفَةً إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْعِمَارَةِ ضَرُورَةُ إبْقَاءِ الْوَقْفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ .

وَقَوْلُهُ لِأَنَّ { الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ } هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ، وَلِإِحْرَازِهِ مَعَانِيَ جَمَّةً جَرَى مَجْرَى الْمِثْلِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا : أَنَّ غَلَّةَ الْوَقْفِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَانَتْ الْعِمَارَةُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ : أَيْ لَا يَفُوزُ الْمُتَوَلِّي بِهِمْ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ وَعُسْرَتِهِمْ ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ إلَى الْمُتَوَلِّي هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ ) يَعْنِي حَتْمًا لِأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ فِي مَالِهِ أَيَّ مَالٍ شَاءَ ، وَهَذِهِ الْغَلَّةُ أَيْضًا مِنْ مَالِهِ ، فَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ بِذَلِكَ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ) يَعْنِي لَا عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ : أَيْ لَا تُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إلَى زِيَادَةِ عِمَارَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ بَلْ تُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ .
وَعِنْدَ آخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .

قَالَ ( فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ سُكْنَى ) لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ ( فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا ، وَإِذَا عَمَّرَهَا رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) يُرِيدُ بِهِ إجَارَةَ الْحَاكِمِ وَعِمَارَتَهَا بِأُجْرَتِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى .
وَالثَّانِي هُوَ تَرْكُ الْعِمَارَةِ .
وَاسْتُفِيدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمُرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا .
وَقَوْلُهُ ( فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ ) بَيَانُهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ مَالِهِ فِي الْحَالِ وَلِرَجَائِهِ إصْلَاحَ الْقَاضِي وَعِمَارَتَهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَلَا تَمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمَالِكٍ .
وَنُوقِضَ بِالْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الدَّارَ وَلَيْسَ بِمَالِكِهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا أُقِيمَتْ الْعَيْنُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى أُبِيحَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ وَلِهَذَا لَمْ تَقُمْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَالِكِ جَوَازُ تَمْلِيكِ غَيْرِهِ .

قَالَ ( وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ ) صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِمَارَةِ لِيَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ .
فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ صَرَفَهَا فِيهَا ، وَإِلَّا أَمْسَكَهَا حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَانَ الْحَاجَةِ فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْمَرَمَّةِ صَرْفًا لِلْبَدَلِ إلَى مَصْرِفِ الْمُبْدَلِ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ ) يَعْنِي النَّقْضَ ( بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ : وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ ، وَالْعَيْنُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ غَيْرَ حَقِّهِمْ .قَالَ ( وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : قَوْلُهُ وَآلَتِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى الْبِنَاءِ : يَعْنِي مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الْوَقْفِ بِأَنْ بَلِيَ خَشَبُ الْوَقْفِ وَفَسَدَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الثِّقَاتِ ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ انْهَدَمَتْ الْآلَةُ ، وَالنَّقْضُ بِضَمِّ النُّونِ الْبِنَاءُ الْمَنْقُوضُ ، وَفِي الصِّحَاحِ ذَكَرَهُ بِكَسْرِ النُّونِ لَا غَيْرُ .

قَالَ ( وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ فَصْلَيْنِ شَرْطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَجَعْلَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ الرَّازِيِّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ .
وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ ، وَفِيمَا إذَا شَرَطَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ ؛ وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً ، فَإِذَا مَاتُوا فَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، فَاشْتِرَاطُهُ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفِّذَةِ ، وَشَرْطَ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ } " وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يَجْعَلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا جَائِزٌ ، كَمَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ

جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً ، وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ } " .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ .
وَقَوْلُهُ ( فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الْغَلَّةِ أَوْ كُلَّهَا لِنَفْسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ جَازَ فَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ يَعْتِقْنَ بِمَوْتِهِ ، فَاشْتِرَاطُهُ لَهُنَّ كَاشْتِرَاطِهِ لِسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَيْضًا تَبَعًا لِمَا بَعْدَ الْوَفَاةِ ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ : أَيْ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ تَغْلِيبًا لِلْمُدَبَّرِينَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ جَائِزٌ بِدُونِ وَاسِطَةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَكَذَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ إلَى نَفْسِهِ انْتِهَاءً بِوَاسِطَةِ اشْتِرَاطِ صَرْفِ الْغَلَّةِ إلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ : أَيْ بِطَرِيقِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَاشْتِرَاطُهُ الْكُلَّ أَوْ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ قَدْرًا مِنْ

مَالِهِ لِلْفَقِيرِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لَهُ وَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ ، فَقَوْلُهُ وَشَرْطِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ كَانَ مَانِعًا عَنْ الْجَوَازِ فِي الْكُلِّ ، فَكَذَا إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ } ) ذَكَرَ الْحَدِيثَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ إلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا بِقَوْلِهِ لَهُمَا إنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ ، وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ .

وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ .وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّوَسُّعِ فِي الْوَقْفِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ ، وَالْوَقْتُ يَتِمُّ بِذَلِكَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ ، فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الِاسْتِبْدَالُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إذَا شُرِطَ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ أَوْ شُرِطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا .وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ ، وَالْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى التَّوْسِعَةِ كَمَا مَرَّ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ الْخِلَافُ ( بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ جَعْلَ غَلَّةِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْوَاقِفُ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيُرَوَّى النَّظَرُ فِيهِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ أَيْضًا ، وَبِهَذَا الْبِنَاءِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ .
ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَنْقَلِبْ الْوَقْفُ جَائِزًا بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَبَّدًا وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ التَّأْبِيدَ فَكَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ شَرْطًا فَاسِدًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْمُفْسِدُ قَوِيًّا .

وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ وَقَالَ أَقْوَامٌ : إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ .
قَالَ مَشَايِخُنَا : الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّي إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ ، كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ فِيهِ ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ .
وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ وِلَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ

( قَوْلُهُ وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ ) أَيْ فَقَدْ نَصَّ الْقُدُورِيُّ فِي فَصْلِ الْوِلَايَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ إلَى قَوْلِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ ، وَقَالَ أَقْوَامٌ : إنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ شَرَطَ أَوْ سَكَتَ ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي ، فَلِهَذَا أَوَّلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَقَالُوا : الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَخْ ، وَمَعْنَاهُ إذَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي وَقَدْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ حِينَ وَقَفَهُ كَانَ لَهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَمَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً وَأَخْرَجَهَا إلَى الْقَيِّمِ لَا تَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ .
قَالَ قَاضِي خَانْ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ فَلَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالتَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ ) اسْتِدْلَالٌ لِأَبِي يُوسُفَ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : " وَلَنَا " إشَارَةً إلَى أَنَّهُ

الْمُخْتَارُ ، وَكَلَامُهُ الْبَاقِي ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : ( وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِلْكِهِ ) أَمَّا الْإِفْرَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فَقَامَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ ثُمَّ يُكْتَفَى بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِمِلْكِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِسُقُوطِ حَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .

فَصْلٌ ) فَصَلَ أَحْكَامَ الْمَسْجِدِ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِمُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ لِمَا قَبْلَهُ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَمَنْعِ الشُّيُوعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمَسْجِدِ ، فَإِنَّ الْوَقْفَ إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ وَلَمْ يَكُنْ مُوصًى بِهِ وَلَا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّ الْوَقْفَ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ : الْحَبْسُ ، وَالصَّدَقَةُ ، فَإِذَا قَالَ وَقَفْت فَكَأَنَّهُ قَالَ حَبَسْت الْعَيْنَ عَلَى مِلْكِي وَتَصَدَّقْت بِالْغَلَّةِ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَصِحُّ ، فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَوْ أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَازِمًا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَأَمَّا إذَا قَالَ جَعَلْت أَرْضِي مَسْجِدًا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلَوْ أَزَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا لَوْ أَزَالَهُ بِالْإِعْتَاقِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، حَتَّى لَوْ صَلَّى جَمَاعَةٌ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ سِرًّا لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، فَإِنْ أَذَّنَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَقَامَ وَصَلَّى وَحْدَهُ صَارَ مَسْجِدًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ كَالْجَمَاعَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يُتَمَّمُ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ لَهُمَا أَنَّ مُوجِبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ ،

وَالسِّرْدَابُ بِكَسْرِ السِّينِ مُعَرَّبُ سِرْدَابَةَ .
وَهُوَ بَيْتٌ يُتَّخَذُ تَحْتَ الْأَرْضِ لِلتَّبْرِيدِ .

قَالَ : وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الطَّرِيقِ ، وَعَزَلَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ ، وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا .

وَقَوْلُهُ ( فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ) أَيْ لَا يَكُونُ مَسْجِدًا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ تَعَالَى ، قَالَ تَعَالَى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } أَضَافَ الْمَسَاجِدَ إلَى ذَاتِهِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمَاكِنِ لَهُ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ خُلُوصَ الْمَسَاجِدِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْعِبَادِ فِي أَسْفَلِهِ أَوْ فِي أَعْلَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْخُلُوصُ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ : أَيْ مَا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ مُسْتَغَلٌّ أَوْ دَكَاكِينُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَمْ يَقُلْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ لِيَتَهَيَّأَ لَهُ مَا ذُكِرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دُخُولٍ مَخْصُوصٍ فِي مِصْرٍ مَخْصُوصٍ ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ زِيَادَةَ التَّعْمِيمِ بِلَفْظِ الْكُلِّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا يَعْنِي مِنْ الضَّرُورَةِ .

قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا ، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ .قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا ) وَسْطَ بِالسُّكُونِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ صَحْنِ الدَّارِ لَا لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحْنِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ ) فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى ، حَتَّى لَوْ عُزِلَ بَابُهُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ صَارَ مَسْجِدًا .

قَالَ ( وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ .

وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي ، أَوْ إلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ إنَّهُ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ( يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) إلَى أَنْ قَالَ : وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا وَمُحَمَّدٌ يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا .
وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَرَّ بِمَزْبَلَةٍ فَقَالَ : هَذَا مَسْجِدُ أَبِي يُوسُفَ ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِعَوْدِهِ إلَى مِلْكِ الْبَانِي يَصِيرُ مَزْبَلَةً عِنْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ ، وَمَرَّ أَبُو يُوسُفَ بِإِصْطَبْلٍ فَقَالَ : هَذَا مَسْجِدُ مُحَمَّدٍ : يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَعُودُ مِلْكًا فَرُبَّمَا يَجْعَلُهُ الْمَالِكُ إصْطَبْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْجِدًا ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَبْعَدَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ .
اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهُ سَقَطَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَاسْتُظْهِرَ بِالْكَعْبَةِ ، فَإِنَّ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَدْ كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا لِلطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ .
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : عُيِّنَ هَذَا الْجُزْءُ مِنْ مِلْكِهِ مَصْرُوفًا إلَى قُرْبَةٍ بِعَيْنِهَا ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَادَ إلَى مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ وَارِثِهِ وَصَارَ كَحَشِيشِ الْمَسْجِدِ وَحَصِيرِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ .
إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ .

قَالَ ( وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ ، وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ ) كَمَا هُوَ أَصْلُهُ ، إذْ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْوَقْفُ لَازِمٌ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَدُفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ ، وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ وَالْحَوْضُ ، وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَفِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لِلْمُتَوَلِّي فِيهِ ، وَقِيلَ يَكُونُ تَسْلِيمًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ ، فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ ، وَالْمَقْبَرَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا قِيلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ عُرْفًا .
وَقِيلَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّقَايَةِ وَالْخَانِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِّبَ الْمُتَوَلِّي يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ ، وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِحَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُعْتَمِرِينَ ، أَوْ جَعَلَ

دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ .
أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ فِي الْغَلَّةِ تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَفِيمَا سِوَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالسِّقَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، وَالْفَارِقُ هُوَ الْعُرْفُ فِي الْفَصْلَيْنِ .
فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ ، وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ .
وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَرْفِ هَذَا الْغَلَّةِ لِغِنَاهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً أَوْ خَانًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَالْإِضَافَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِقَاءِ وَالسُّكْنَى وَالنُّزُولِ وَالدَّفْنِ فِي السِّقَايَةِ وَالْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَوْلُهُ ( فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ) أَيْ فِي السِّقَايَةِ وَالْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَقْبَرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( سُكْنَى الْحَاجِّ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى ) الْحَاجُّ اسْمُ جَمْعٍ بِمَعْنَى الْحُجَّاجِ كَالسَّامِرِ بِمَعْنَى السُّمَّارِ فِي قَوْله تَعَالَى { سَامِرًا تَهْجُرُونَ } وَالثَّغْرُ مَوْضِعُ الْمَخَافَةِ مِنْ فُرُوجِ الْبُلْدَانِ ، وَيُقَالُ رَابِطُ الْجَيْشِ : أَقَامَ فِي الثَّغْرِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْبُيُوعِ قَالَ ( الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إذَا كَانَا بِلَفْظَيْ الْمَاضِي ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ ، وَالْإِنْشَاءُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمَوْضُوعُ لِلْإِخْبَارِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْآخَرُ لَفْظُ الْمَاضِي ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ .
وَقَوْلُهُ رَضِيت بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُك بِكَذَا أَوْ خُذْهُ بِكَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ هُوَ الصَّحِيحُ لِتَحَقُّقِ الْمُرَاضَاةِ .

كِتَابُ الْبُيُوعِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرَ بَعْضَ حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا بَقِيَ مِنْهَا ، وَذَكَرَ الْبُيُوعَ بَعْدَ الْوَقْفِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَالْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَقِيلَ : هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ .
وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ لُغَةً .
وَاصْطِلَاحًا يُقَالُ : بَاعَ الشَّيْءَ إذَا شَرَاهُ ، وَيُقَالُ بَاعَهُ الشَّيْءَ وَبَاعَ مِنْهُ ، وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَنْوَاعِ الْآتِي ذِكْرُهَا جَمَعُوهُ ، وَجَوَازُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَبِالسُّنَّةِ { فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ } ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ ، وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُلَبِّينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ سَلْبُ شَرْعِيَّتِهِ ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ .
وَشَرْطُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ .
وَحُكْمُهُ إفَادَةُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ شَرْعًا ، فَلَا يُشْكِلُ بِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مَعَ كَوْنِهِ مِلْكًا لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ مُطْلَقًا لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ وَعِتْقِ الْقَرِيبِ وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي الْجَارِيَةِ وَالْخِيَارَاتِ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ .
وَأَنْوَاعُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَبِيعِ أَرْبَعَةٌ : بَيْعُ السِّلَعِ

بِمِثْلِهَا وَيُسَمَّى مُقَايَضَةً .
وَبَيْعُهَا بِالدَّيْنِ : أَعْنِي الثَّمَنَ .
وَبَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ كَبَيْعِ النَّقْدَيْنِ وَيُسَمَّى الصَّرْفَ .
وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَيُسَمَّى سَلَمًا .
وَبِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ الْمُسَاوَمَةُ ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَلْتَفِتُ إلَى الثَّمَنِ السَّابِقِ ، وَالْمُرَابَحَةِ ، وَالتَّوْلِيَةِ ، وَالْوَضِيعَةِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ) الِانْعِقَادُ هَاهُنَا تَعَلُّقُ كَلَامِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بِالْآخَرِ شَرْعًا عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمَحَلِّ .
وَالْإِيجَابُ الْإِثْبَاتُ .
وَيُسَمَّى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ إيجَابًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْآخَرِ خِيَارُ الْقَبُولِ ، فَإِذَا قَبِلَ يُسَمَّى كَلَامُهُ قَبُولًا وَحِينَئِذٍ لَا خَفَاءَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ إيجَابًا وَالْمُتَأَخِّرِ قَبُولًا .
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِلَفْظَيْنِ مَاضِيَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُوجِبُ بِعْت وَالْمُجِيبُ اشْتَرَيْت لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ ، فَالْبَيْعُ يُعْرَفُ بِهِ ، أَمَّا أَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءٌ فَلِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْبَيْعِ لَا مَحَالَةَ ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرْعِيًّا فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَبِيعِ شَرْعًا ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ لِأَنَّ تَلَقِّي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْهُ وَالشَّرْعُ قَدْ اسْتَعْمَلَ الْمَوْضُوعَ لِلْإِخْبَارِ لُغَةً فِي الْإِنْشَاءِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ ، هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ شَيْءٍ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَإِلَّا لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ .
أَحَدُهُمَا الْمَاضِي ، وَالْآخَرُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ ) وَإِنَّمَا لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ فِيهِ لَفْظَ الْمَاضِي الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ وُجُودِهِ فَكَانَ الِانْعِقَادُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْمُسْتَقْبَلِ إنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ كَانَ عِدَةً لَا بَيْعًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي كَانَ مُسَاوَمَةً .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلًا بِدُونِ نِيَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْحَالِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَأُسْنِدَ ذَلِكَ إلَى تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
ثُمَّ قِيلَ فِي تَعْلِيلِهِ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ فَصَحَّتْ النِّيَّةُ .
وَقِيلَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْحَالِ وَفِي وُقُوعِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ ضَرْبُ تَجَوُّزٍ ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالسِّينِ أَوْ سَوْفَ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَلَا وُضِعَ لَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ الشَّيْخُ مِنْ لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ ذَلِكَ فَلَا خَفَاءَ فِي عَدَمِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِهِ ، وَنِيَّةُ الْحَالِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا الْمَحَلَّ ، وَإِنْ أَرَادَ مَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ وَهُوَ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْجَوَازِ بِهِ وَإِنْ كَانَ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ لَا فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْقُولِ ، لَا يُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ لَكِنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا هِيَ لِدَفْعِ الْمُحْتَمَلِ وَهُوَ الْعِدَةُ لَا لِإِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّ الْمَجَازَ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَنْفِي إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ لَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تَحْتَاجُ إلَى مَا يَنْفِي إرَادَةَ الْمَجَازِ عَلَى أَنَّهُ دَافِعٌ لِلْمَعْقُولِ دُونَ الْأَثَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : الْمُضَارِعُ

حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ فِي غَيْرِ الْبُيُوعِ وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا هُوَ اللَّفْظُ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعُ فِيهَا مَجَازٌ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ النِّكَاحِ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا قَالَ زَوِّجْنِي فَقَالَ الْآخَرُ زَوَّجْتُك انْعَقَدَ ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ ، وَهُوَ مَا قَالَ إنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَوْلُهُ ( رَضِيت أَوْ أَعْطَيْتُك ) هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ انْعِقَادَ الْبَيْعِ لَا يَنْحَصِرُ فِي لَفْظِ بِعْت وَاشْتَرَيْت ، بَلْ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ يَنْعَقِدُ بِهِ ، فَإِذَا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَقَالَ رَضِيت أَوْ أَعْطَيْتُك الثَّمَنَ أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَقَالَ رَضِيت أَوْ أَعْطَيْت : أَيْ الْمَبِيعَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ انْعَقَدَ لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت هَذَا مِنْك بِكَذَا فَقَالَ خُذْهُ : يَعْنِي بِعْت بِذَلِكَ فَخُذْهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ بِالْبَدَلِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْبَيْعِ فَقَدَّرَ الْبَيْعَ اقْتِضَاءً فَصَارَ كُلُّ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى بِعْت وَاشْتَرَيْت سَوَاءٌ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ، وَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُقُودِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى اللَّفْظِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ كَمَا فِي الْمُفَاوَضَةِ إذَا لَمْ يُبَيِّنَا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيهِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ( يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ لِتَحَقُّقِ ) الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّرَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي الْخَسِيسِ كَالْبَقْلِ وَأَمْثَالِهِ ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَكْفِي فِي تَحَقُّقِهِ

قَالَ ( وَإِذَا أَوْجَبَ ) أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ لِحُكْمٍ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَاعْتُبِرَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ ، وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ ، إلَّا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ صَفَقَاتُ مَعْنًى .
قَالَ ( وَأَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ) وَالرُّجُوعِ ، وَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِذَا أَوْجَبَ ) إذَا قَالَ الْبَائِعُ مَثَلًا بِعْتُك هَذَا بِكَذَا فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ قَالَ فِي الْمَجْلِسِ قَبِلْت ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ، وَهَذَا يُسَمَّى خِيَارَ الْقَبُولِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ لَكَانَ مَجْبُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَانْتَفَى التَّرَاضِي ، فَمَا فَرَضْنَاهُ بَيْعًا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا هَذَا خَلَفٌ ، وَإِذَا كَانَ إيجَابُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْحُكْمِ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ كَانَ لِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إيجَابِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ إيجَابَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَكِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَائِعِ وَهُوَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ خَالِيًا عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِيجَابَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ كَانَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً لِلْبَائِعِ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ لِلْمُشْتَرِي إنْ سَلِمَ ثُبُوتُهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ لَا يَمْنَعُ الْحَقِيقَةَ لِكَوْنِهَا أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى السَّاعِي قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَإِنَّ الْمُزَكِّيَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفَقِيرِ بِالْمَدْفُوعِ ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ زَالَتْ مِنْ الْمُزَكِّي فَعَمِلَ الْحَقُّ عَمَلَهُ لِانْتِفَاءِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ مَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ خِيَارِ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ بِالْمَجْلِسِ وَلِمَ لَا يَبْطُلُ الْإِيجَابُ عَقِيبَ خُلُوِّهِ عَنْ الْقَبُولِ أَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ فِي إبْطَالِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْمُشْتَرِي ، وَفِي إبْقَائِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْبَائِعِ ، وَفِي التَّوَقُّفِ عَلَى الْمَجْلِسِ يُسْرًا بِهِمَا جَمِيعًا .

وَالْمَجْلِسُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَجُعِلَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَكُونُ الْخُلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ كَذَلِكَ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا اشْتَمَلَا عَلَى الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَوَقَّفُ الْإِيجَابُ فِيهِمَا عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ ) إذَا كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بِعْتُك عَبْدِي فُلَانًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ لِرَسُولِهِ بِعْت هَذَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاذْهَبْ فَأَخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَوَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ الْمُرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ اشْتَرَيْت أَوْ قَبِلْت تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا .
لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ .
{ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَلِّغُ تَارَةً بِالْكِتَابِ وَتَارَةً بِالْخِطَابِ } ، وَكَانَ ذَلِكَ سَوَاءً فِي كَوْنِهِ مُبَلِّغًا .
وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ فَنُقِلَ كَلَامُهُ إلَيْهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ ) يَعْنِي إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فِي شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي قَبُولَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا غَيْرُ .
فَإِنْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِتَضَرُّرِ الْبَائِعِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَضُمُّونَ الْجَيِّدَ إلَى الرَّدِيءِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَيُنْقِصُونَ عَنْ ثَمَنِ الْجَيِّدِ لِتَرْوِيجِ الرَّدِيءِ بِهِ ، فَلَوْ ثَبَتَ خِيَارُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي الْجَيِّدِ وَتَرَكَ الرَّدِيءَ فَزَالَ الْجَيِّدُ عَنْ يَدِ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ لَا مَحَالَةَ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي الصُّورَةِ الْمَوْضُوعَةِ صَحِيحٌ ،

وَأَمَّا إذَا وُضِعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ مَثَلًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ : يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ فِي الْمَجْلِسِ هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ : إنَّهُ يَصِحُّ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِئْنَافَ إيجَابٍ لَا قَبُولٍ ، وَرِضَا الْبَائِعِ قَبُولًا .
قَالَ : وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ لِلْبَعْضِ الَّذِي قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَفِي الْقَفِيزَيْنِ بَاعَهُمَا بِعَشَرَةٍ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتَكُونُ حِصَّةُ كُلِّ بَعْضٍ مَعْلُومَةً ، فَأَمَّا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى عَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِقَبُولِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً .
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا سَيَأْتِي ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ مُتَفَرِّقَةً كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا صَفَقَاتٌ مَعْنًى ) وَالصَّفْقَةُ ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ فِي الْبَيْعِ وَالْبَيْعَةِ .
ثُمَّ جُعِلَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعَقْدِ نَفْسِهِ ، وَالْعَقْدُ يَحْتَاجُ إلَى مَبِيعٍ وَثَمَنٍ وَبَائِعٍ وَمُشْتَرٍ وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ ، وَبِاتِّحَادِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ بَعْضٍ وَتَفَرُّقِهَا يَحْصُلُ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقُهَا ، فَإِذَا اتَّحَدَ الْجَمْعُ اتَّحَدَتْ الصَّفْقَةُ ، وَكَذَا إذَا اتَّحَدَ سِوَى الْمَبِيعِ كَقَوْلِهِ بِعْتهمَا بِمِائَةٍ فَقَالَ قَبِلْت ، وَاتِّحَادُ الْجَمِيعِ سِوَى الثَّمَنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَكُونُ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَبِيعِ كَأَنْ قَالَ بِعْتهمَا بِمِائَةٍ فَقَالَ قَبِلْت أَحَدَهُمَا بِسِتِّينَ وَالْآخَرَ بِأَرْبَعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ صَفْقَةً وَاحِدَةً أَيْضًا كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَاتِّحَادُ الْجَمِيعِ سِوَى الْبَائِعِ كَأَنْ قَالَ بِعْنَا

هَذَا مِنْك بِمِائَةٍ فَقَالَ قَبِلْت يُوجِبُ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ ، وَاتِّحَادُ الْجَمِيعِ سِوَى الْمُشْتَرِي كَأَنْ قَالَ بِعْته مِنْكُمَا بِمِائَةٍ فَقَالَا قَبِلْنَا كَذَلِكَ وَتَفَرُّقُ الْجَمِيعِ يُوجِبُ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ وَتَفَرُّقَ الْمَبِيعِ .
وَالثَّمَنُ إنْ كَانَ بِتَكْرِيرِ لَفْظِ الْمَبِيعِ فَكَذَلِكَ ، وَكَذَا تَفَرُّقُهُمَا بِتَكْرِيرِ لَفْظِ الشِّرَاءِ ، هَذَا كُلُّهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الْبَائِعِ مَعَ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ بِلَا تَكْرِيرِ لَفْظِ الْبَيْعِ فَكَذَا تَفَرُّقُ الْمُشْتَرِي مَعَ تَفَرُّقِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ بِدُونِ تَكْرِيرِ لَفْظِ الشِّرَاءِ فَيُوجِبُ التَّفَرُّقَ قِيَاسًا لَا اسْتِحْسَانًا .
وَقِيلَ لَا يُوجِبُ التَّفَرُّقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُوجِبُهُ عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ ، قَالَ : وَأَيُّهُمَا قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ ، هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَدَّ الْإِيجَابِ تَارَةً يَكُونُ صَرِيحًا وَأُخْرَى دَلَالَةً ، فَإِنَّ الْقِيَامَ دَلِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ وَالرُّجُوعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ الرُّجُوعُ صَرِيحًا ، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحٌ يُعَارِضُهَا وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الْقِيَامِ قَبِلْت وُجِدَ الصَّرِيحُ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الدَّلَالَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّرِيحَ إنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ عَمَلِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعَارِضُهَا

وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } " وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ .
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ لَا بَعْدَهَا أَوْ يَحْتَمِلَهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ .

( وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ثُمَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْخِيَارُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ( بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } " ) فَإِنَّ التَّفَرُّقَ عَرْضٌ فَيُقَوَّمُ بِالْجَوْهَرِ وَهُوَ الْأَبْدَانُ ( وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثٌ : قَبْلَ قَبُولِهِمَا .
وَبَعْدَ قَبُولِهِمَا ، وَبَعْدَ كَلَامِ الْمُوجِبِ قَبْلَ قَوْلِ الْمُجِيبِ .
وَإِطْلَاقُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْأَوَّلَيْنِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ .
وَالثَّالِثُ حَقِيقَةٌ فَيَكُونُ مُرَادًا ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا مُرَادٌ وَالْآخَرَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِرَادَةِ .
لَا يُقَالُ : الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الْجَوَاهِرِ فَيَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ وُجُودِ كَلَامِهِمَا ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ كَلَامِهِمَا حُكْمُ كَلَامِهِمَا شَرْعًا لَا حَقِيقَةُ كَلَامِهِمَا ، وَالْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّفَرُّقُ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ التَّفَرُّقُ عَرْضٌ فَيُقَوَّمُ بِالْجَوْهَرِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حَمْلُ التَّفَرُّقِ عَلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ وَهُوَ مُحَالٌ بِإِجْمَاعِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ فَيَكُونُ إسْنَادُ التَّفَرُّقِ إلَيْهَا مَجَازًا ، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ مَجَازِكُمْ عَلَى مَجَازِهِمْ ؟ .

وَأُجِيبَ بِأَنَّ إسْنَادَ التَّفْرِيقِ وَالتَّفَرُّقِ إلَى غَيْرِ الْأَعْيَانِ سَائِغٌ شَائِعٌ ، فَصَارَ بِسَبَبِ فَشْوِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ ، قَالَ تَعَالَى { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَةَ وَقَالَ { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } وَالْمُرَادُ التَّفَرُّقُ فِي الِاعْتِقَادِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } " وَهُوَ أَيْضًا فِي الِاعْتِقَادِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُ ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : حَمْلُهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ رَدٌّ إلَى الْجَهَالَةِ ، إذْ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَلَا غَايَةَ مَعْرُوفَةٌ فَيَصِيرُ مِنْ أَشْبَاهِ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِفَسَادِهِ عَادَةً ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَدٌّ مَعْرُوفٌ .
أَوْ نَقُولُ : التَّفَرُّقُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْمَعَانِي بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ .
وَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّفَرُّقِ بِالْأَقْوَالِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَدَاءِ حَمْلِهِ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ إلَى الْجَهَالَةِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ : أَعْنِي حَمْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى الْأَقْوَالِ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

قَالَ ( وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ ) لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا ) الْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا ثَمَنًا كَانَتْ أَوْ مُثَمَّنًا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ ، لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةً فِي التَّعْرِيفِ الْمُنَافِي لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَقْدُ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي التَّعْرِيفِ ، وَكَوْنُ التَّقَابُضِ نَاجِزًا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْأَعْرَاضُ رِبَوِيَّةً ، أَمَّا إذَا كَانَتْ رِبَوِيَّةً فَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ الصِّحَّةَ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبَا وَهَذَا الْبَابُ لَيْسَ لِبَيَانِهِ .

( وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ ) لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُقَالَ ( وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ) الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْإِشَارَةِ لَا يَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ كَعَشَرَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَالصِّفَةُ كَكَوْنِهَا بُخَارِيًّا أَوْ سَمَرْقَنْدِيًّا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِالْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ فَالتَّسْلِيمُ يَمْتَنِعُ بِهَا ( وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ ) وَيَفُوتُ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْبَيْعِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا ) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ } " .
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِهِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ ، وَهَذَا يُسَلِّمُهُ فِي بِعِيدِهَا .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ ) قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمَبِيعُ مَا تَعَيَّنَ فِي الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَهَذَا عَلَى الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ ثَمَنٌ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْإِيضَاحِ : الثَّمَنُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ نَقَلَهُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ بِثَمَنٍ .
وَقِيلَ الْمَبِيعُ مَا يَحِلُّهُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَعْيَانِ ابْتِدَاءً ، وَقَوْلُهُ ابْتِدَاءً احْتِرَازٌ عَنْ الْمُسْتَأْجَرِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحِلُّهُ الْعَقْدُ ، بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى أَحَدِ طَرِيقَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَالثَّمَنُ مَا يُقَابِلُهُ وَيَنْقَسِمُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى مَحْضٍ وَمُتَرَدِّدٍ ، فَالْمَبِيعُ الْمَحْضُ هُوَ الْأَعْيَانُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إلَّا الثِّيَابَ الْمَوْصُوفَةَ وَقَعَتْ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ بَدَلًا عَنْ عَيْنٍ فَإِنَّهَا أَثْمَانٌ ، وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا بَلْ لِيَصِيرَ مُلْحَقًا بِالسَّلَمِ فِي كَوْنِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَالثَّمَنُ الْمَحْضُ هُوَ مَا خُلِقَ لِلثَّمَنِيَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمُتَرَدِّدُ بَيْنَهُمَا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَإِنَّهَا مَبِيعَةٌ نَظَرًا إلَى الِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا ، أَثْمَانٌ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ كَالنَّقْدَيْنِ ، فَإِنْ قَابَلَهَا النَّقْدَانِ فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ ، وَإِنْ قَابَلَهَا عَيْنٌ وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ فَهِيَ مَبِيعَةٌ وَأَثْمَانٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يُجْعَلَ مَبِيعًا مِنْ الْآخَرِ فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَإِنْ كَانَتْ أَعْنِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا الْبَاءُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَقَدْ وَصَفَهَا كَانَتْ ثَمَنًا ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي غَيْرِهَا

كَأَنْ يُقَالَ : اشْتَرَيْت الْكُرَّ بِهَذَا الْعَبْدِ كَانَ مَبِيعًا وَلَا يَصِحُّ إلَّا سَلَمًا بِشُرُوطِهِ .
هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَقُولُ : الْأَعْيَانُ ثَلَاثَةٌ : نُقُودٌ أَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ، وَسِلَعٌ كَالثِّيَابِ وَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمُقَدَّرَاتٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، وَبَيْعُ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدَيْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَبِيعِ الْمَحْضِ وَالثَّمَنِ الْمَحْضِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مَبِيعًا وَثَمَنًا ، وَالتَّمْيِيزُ فِي اللَّفْظِ بِدُخُولِ الْبَاءِ وَعَدَمِهِ قَالَ ( وَالْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ جَائِزٌ ) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَلِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ } لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مَا يَمْنَعُ الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ ، فَرُبَّمَا يُطَالَبُ الْبَائِعُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَالْمُشْتَرِي يُؤَخِّرُ إلَى بَعِيدِهَا .

قَالَ ( وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ) ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ ، وَفِيهِ التَّحَرِّي لِلْجَوَازِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ( فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا ) وَهَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِالْبَيَانِ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا كَالثُّنَائِيِّ وَالثُّلَاثِيِّ وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالَى بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْبَيْعُ إذَا أُطْلِقَ اسْمُ الدِّرْهَمِ ، كَذَا قَالُوا ، وَيَنْصَرِفُ إلَى مَا قَدَّرَ بِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ) وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ دُونَ الْقَدْرِ كَأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقُلْ بُخَارِيًّا أَوْ سَمَرْقَنْدِيًّا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدَهَا .
وَاعْلَمْ أَنِّي أَذْكُرُ لَك فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْأَقْسَامَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُتَصَوَّرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إجْمَالًا ثُمَّ أَنْزِلْهَا عَلَى مَتْنِ الْكِتَابِ حَلًّا لَهُ ، فَإِنِّي مَا وَجَدْت مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ تَصَدَّى لِذَلِكَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَأَقُولُ : إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ ، أَوْ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الرَّوَاجِ ، أَوْ فِي الرَّوَاجِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، أَوْ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا بَلْ فِي مُجَرَّدِ الِاسْمِ كَالْمِصْرِيِّ وَالدِّمَشْقِيِّ مَثَلًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إلَى الْأَرْوَجِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُنَازَعَةِ تُوقِعُهُمَا فِي الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ يَجُوزُ وَيَتَصَرَّفُ إلَى الْأَرْوَجِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَيْسَتْ مُوقَعَةً فِي الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً ) يَعْنِي فِي الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ ، فَإِنَّ الْمِصْرِيَّ أَفْضَلُ فِي الْمَالِيَّةِ مِنْ الْمَغْرِبِيِّ إذَا فُرِضَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الرَّوَاجِ ( فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي ، إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا .
فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ يَكُونُ أَحَدُهَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ الْبَيْعُ

إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ ) إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ ، لِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهَا أَرْوَجَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْمَالِيَّةِ أَوْ مَعَ اسْتِوَاءٍ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِيهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ فَسَادُ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ : يَعْنِي مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الرَّوَاجِ إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي .
أَعَادَهُ لِلتَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ كَالثُّنَائِيِّ وَهُوَ مَا يَكُونُ الِاثْنَانِ مِنْهُ دَانَقًا وَالثُّلَاثِيِّ وَهُوَ مَا يَكُونُ الثَّلَاثَةُ مِنْهُ دَانَقًا وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاصِرِيِّ بِبُخَارَى ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالَى بِفَرْغَانَةَ وَفُقَهَاءُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُسَمُّونَ الدِّرْهَمَ عَدْلِيًّا ، وَكُلُّ هَذَا يَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الرَّوَاجِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا ) أَيْ فِي الْمَالِيَّةِ : يَعْنِي مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الرَّوَاجِ إشَارَةً إلَى الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ ( جَازَ الْبَيْعُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الدَّرَاهِمِ كَذَا قَالُوا ) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَشَايِخِ ( وَيَنْصَرِفُ ) اسْمُ الدَّرَاهِمِ ( إلَى مَا قُدِّرَ بِهِ ) مِنْ الْمِقْدَارِ كَعَشَرَةٍ وَنَحْوِهَا ( مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ ) مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الرَّوَاجِ ( وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ ) وَظَهَرَ مِنْ هَذَا تَعْقِيدُ كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ وَمِثَالُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ كَالثُّنَائِيِّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً وَفَصَلَ بَيْنَ الشَّرْطِ هَذَا وَبَيْنَ جَزَائِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ جَازَ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ كَالثُّنَائِيِّ إلَى قَوْلِهِ جَازَ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ كَالثُّنَائِيِّ إلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً لِأَنَّ مَا كَانَ اثْنَانِ مِنْهُ نِقَادًا وَثَلَاثَةٌ مِنْهُ دَانَقًا لَا يَكُونَانِ فِي

الْمَالِيَّةِ سَوَاءً ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً وَمُجَازَفَةً ) وَهَذَا إذَا بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ } " بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ .قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً ) الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا عُرْفًا ، وَسَيَأْتِي فِي الْوَكَالَةِ ، وَبِالْحُبُوبِ غَيْرُهُمَا كَالْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ وَأَمْثَالِهِمَا ، كُلُّ ذَلِكَ إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً جَازَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ .
وَإِذَا بِيعَ ( مُجَازَفَةً ) فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا ( بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ } ) لَا يُقَالُ : لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَنْعِ عِنْدَ اتِّفَاقِ النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ الشَّرْطِ .
وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ صَدْرُ الْحَدِيثِ .
وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ مَانِعَةٌ إذَا مَنَعَتْ التَّسْلِيمَ ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْ الْعَاقِدَانِ قِيمَتَهُ بِدِرْهَمٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا

قَالَ ( وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِمَا أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَيُنْدَرُ هَلَاكُهُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ وَالْهَلَاكَ لَيْسَ بِنَادِرٍ قَبْلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ

قَالَ ( وَيَجُوزُ ) بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ إذَا بَاعَ الطَّعَامَ أَوْ الْحُبُوبَ ( بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُمَا جَازَ ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَانِعَةَ مَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي الْبَيْعِ مُتَعَجِّلٌ فَيَنْدُرُ هَلَاكُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْإِنَاءِ وَالْحَجَرِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَقِيلَ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ الْعَبِيدِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَأْخُذُ أَيَّهُمْ شَاءَ وَيَرُدُّ الْبَاقِينَ ، أَوْ اشْتَرَى بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تُفْضِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ ، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ كُلَّ مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْجَهَالَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ عَدَمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الْأُولَى وَلِعَدَمِ الثَّمَنِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوَازَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمِكْيَالُ لَا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهَا ، أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ كَالزِّنْبِيلِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِإِنَاءٍ مَجْهُولِ الْقَدْرِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا ، وَكَذَا الْحَجَرُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ بِنَادِرٍ قَبْلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ الْبَيْعَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ يَذْكُرَ الْقَدْرَ ، فَفِي الْمُجَازَفَةِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمِعْيَارِ ، وَفِي غَيْرِهَا هُوَ مَا يُسَمَّى مِنْ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَإِنَّ " الْفَرْضَ عَدَمُ الْمُجَازَفَةِ ، وَالْمِكْيَالُ إذَا لَمْ

يَكُنْ مَعْلُومًا لَمْ يُسَمَّ شَيْءٌ مِنْ الْقَدْرِ ( وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ فَإِنَّ الْمِعْيَارَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَتَقَاعَدْ عَنْ الْمُجَازَفَةِ ( وَأَظْهَرُ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ .

( قَالَ وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا وَقَالَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) لَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُصْرَفُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَإِلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ وَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُلُّ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَمِثْلُهَا غَيْرُ مَانِعٍ ، وَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ .
ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سَمَّى جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ الْآنَ فَلَهُ الْخِيَارُ ، كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ ) إذَا قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهَا فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْمَبِيعُ عِلَّةُ مَا فِيهَا مِنْ الْقُفْزَانِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمَبِيعُ قَفِيزٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجُمْلَةُ الْقُفْزَانِ كَالْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا .
لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ إلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ النِّزَاعُ وَإِذَا تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ صُرِفَ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ إلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَجُوزُ ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا انْعِقَادُهُ فَاسِدًا لَكِنْ يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا إذَا كَانَ فَاسِدًا بِحُكْمِ أَجَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ شُرِطَ الْخِيَارُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ قَوِيٌّ يَمْنَعُ مِنْ الِانْقِلَابِ وَيُقَيِّدُهُ بِالْمَجْلِسِ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ فَالْفَسَادُ فِيهِ لَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَلْ لِأَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ لِضَعْفِهِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَبِامْتِدَادِ الْأَجَلِ ( وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ إزَالَتُهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ ) أَمَّا أَنَّ إزَالَتَهَا بِأَيْدِيهِمَا فَلِأَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِيَدِهِمَا احْتِرَازًا عَنْ الْبَيْعِ بِالرَّقْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ إزَالَتَهَا إمَّا بِيَدِ الْبَائِعِ إنْ كَانَ هُوَ الرَّاقِمُ ، أَوْ بِيَدِ الْغَيْرِ إنْ كَانَ الرَّاقِمُ غَيْرَهُ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهَا ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ

كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ فَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ وَأُجِيبَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ الْفَسَادُ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا بِالنَّصِّ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ عَلَى مَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالِاسْتِحْسَانُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّهِ أَيْضًا لَكِنَّهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ تَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ فَكَانَ رَاضِيًا بِهِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا عَلِمَهَا وَلَمْ يُسَمِّ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَالْوَجْهُ أَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ مَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَاهُ لِمَا يَأْتِي فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَفِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَوْ اسْتَلْزَمَ الْخِيَارَ لَاطَّرَدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الرَّجُلَانِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بِأَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا الْكُلَّ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَلَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ ، فَهَاهُنَا تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ وَلَمْ يُوجَدْ الْخِيَارُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يُخَيَّرَ الْمُشْتَرِي لِلُزُومِ انْصِرَافِ الْبَيْعِ إلَى الْوَاحِدِ لِعِلْمِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قِنًّا مَعَ مُدَبَّرٍ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْقِنِّ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِيَارَ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ وَالتَّفْرِيقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى الْكُلِّ وَالْمُشْتَرِي يَقْبَلُ الْبَعْضَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ

لَمْ يَقَعْ عَلَى الْكُلِّ حَتَّى يَكُونَ صَرْفُهُ إلَى الْبَعْضِ تَفْرِيقًا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ فِي وُقُوعِهِ عَلَى نَصِيبِهِ يَلْزَمُ شِرَاءُ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى قِنًّا وَمُدَبَّرًا فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْصَرِفُ إلَى الْقِنِّ فَقَطْ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْقِنِّ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ انْصِرَافَ الْبَيْعِ إلَى قَفِيزٍ وَاحِدٍ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، وَالْعَوَامُّ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَحْكَامِ الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا فَيَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا إنَّ الْكُلَّ مَبِيعٌ فَمِنْ أَيْنَ التَّفْرِيقُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْكَثْرَةِ وَقَصْدُهُمَا أَيْضًا الْكَثْرَةُ وَمَا ثَمَّةَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ عَنْ الصَّرْفِ إلَى الْجَمِيعِ ، وَلِهَذَا لَوْ عُلِمَ الْمِقْدَارُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ ، وَالصَّرْفُ إلَى الْأَقَلِّ بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ صَرْفُ الْعَقْدِ إلَى بَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مِنْ الْمَبِيعِ وَقَصَدَهُ الْعَاقِدَانِ ، وَلَيْسَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ إلَى ذَلِكَ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَحْثِ عَنْهُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سُمِّيَ جَمِيعُ قُفْزَانِهَا ) يَعْنِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لَكِنْ لَا بِذَلِكَ التَّعْلِيلِ بَلْ بِمَا قَالَ لِأَنَّهُ عُلِمَ ذَلِكَ الْآنَ ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي حَدْسِهِ أَوْ ظَنِّهِ أَنَّ الصُّبْرَةَ تَأْتِي بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَزَادَتْ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَا يُقَابِلُهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الزَّائِدِ مَجَّانًا ، وَفِي تَرْكِهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ نَقَصَتْ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَكَان آخَرَ وَهَلْ يُوَافِقُ أَوْ

لَا فَصَارَ كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ ، وَهَكَذَا فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الذِّرَاعَانِ ، وَكَانَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا ، وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ ) لِمَا بَيَّنَّا غَيْرَ أَنَّ بَيْعَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعِ غَنَمٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ .
وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ فَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ ، وَتَقْضِي إلَيْهَا فِي الْأَوَّلِ فَوَضَحَ الْفَرْقُوَأَمَّا إذَا بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَمِيعِ فَاسِدٌ ، وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الصَّرْفُ إلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ ) إلَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الشِّيَاهِ مَوْجُودٌ وَفِي ذَلِكَ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَحُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ إذَا بِيعَتْ مُزَارَعَةً حُكْمُ الْغَنَمِ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ ، وَأَمَّا إذَا بَيَّنَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، أَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، أَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَصَحِيحٌ .
أَمَّا الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ ، وَجُمْلَةُ الثَّمَنِ صَارَتْ مَعْلُومَةً بِبَيَانِ ذُرْعَانِ الثَّوْبِ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا وَبَيَّنَ جُمْلَةَ الثَّمَنِ صَارَ جَمِيعُ الذُّرْعَانِ مَعْلُومًا ، وَكَذَا كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٌ كَالْخَشَبِ وَالْأَوَانِي ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا .

قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ) لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ ، فَلَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِالْمَوْجُودِ ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَالْقَدْرُ لَيْسَ بِوَصْفٍ

قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ) فَلَا يَخْلُو عِنْدَ الْكَيْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَذَاكَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الْبَيْعِ بِانْتِفَاءِ الرِّضَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَالزَّائِدُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْمِائَةُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ وَصْفًا ، وَالْقَدْرُ أَيْ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لَيْسَ بِوَصْفٍ فَالْبَيْعُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَكَانَ لِلْبَائِعِ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِصَفْقَةٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَكَذَا قَبْضُ الْمُشْتَرِي وَكَانَ كُلٌّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ مُخَيَّرًا فِيهَا إنْ شَاءَ بَاشَرَهَا أَوْ تَرَكَهَا وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مَذْرُوعًا كَأَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ تَرْكِهِ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ الْمَبِيعِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَصْفٌ فِي الْبَيْعِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَالذِّرَاعُ فِي الثَّوْبِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، أَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ فَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَهُمَا مِنْ الْأَعْرَاضِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْوَصْفَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يُنْقَضُ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ ، فَلِهَذَا أَيْ فَلِكَوْنِ الذَّرْعِ وَصْفًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْمَوْجُودَ بِكُلِّ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ : يَعْنِي الْمَكِيلَ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ

لَيْسَ بِوَصْفٍ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ

( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ ، وَالْوَصْفُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَخْتَلُّ الرِّضَا .
قَالَ ( وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا بَاعَهُ مَعِيبًا ، فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ

( وَقَالَ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يَأْخُذُ بِكُلِّ الثَّمَنِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ كَانَ الزَّائِدُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ أَعْمَى فَإِذَا هُوَ بَصِيرٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَشْكَلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ مُنِعَ أَنْ يَكُونَ الذِّرَاعُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَصْفًا ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ .
لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ شَيْءٌ طَوِيلٌ وَعَرِيضٌ يُقَالُ شَيْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ ، ثُمَّ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ لَا مَحَالَةَ ، فَكَيْفَ جُعِلَ الذِّرَاعُ الزَّائِدُ وَصْفًا دُونَ الْقَفِيزِ ؟ وَجَوَابُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا تَعَيَّبَ بِالتَّنْقِيصِ فَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ وَصْفٌ ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ أَصْلٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا لِوُجُودِهِ تَأْثِيرٌ فِي تَقَدُّمِ غَيْرِهِ وَلِعَدَمِهِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ غَيْرِهِ فَهُوَ وَصْفٌ ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَصْلٌ .
وَقِيلَ مَا لَا يَنْقُصُ الْبَاقِي بِفَوَاتِهِ فَهُوَ أَصْلٌ ، وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ وَصْفٌ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي .
وَالْمَكِيلُ لَا يَتَعَيَّبُ بِالتَّبْعِيضِ ، وَالْمَذْرُوعُ يَتَعَيَّبُ ، وَعَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ إذَا انْتَقَصَ مِنْهَا الْقَفِيزُ فَالتِّسْعَةُ تُشْتَرَى بِالثَّمَنِ الَّذِي يَخُصُّهَا مَعَ الْقَفِيزِ الْوَاحِدِ فِيمَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ ، وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْوَاحِدُ مِنْ الثَّوْبِ أَوْ الدَّارِ إذَا انْتَقَصَ فَإِنَّ الْبَاقِيَ لَا يُشْتَرَى بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ يُشْتَرَى مَعَهُ ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْعَتَّابِيَّ إذَنْ مَثَلًا إذَا كَانَ خَمْسَ

عَشَرَةَ ذِرَاعًا فَالْخَمْسَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ تَزِيدُ فِي قِيمَةِ الْخَمْسَةِ وَفِي قِيمَةِ الْعَشَرَةِ أَيْضًا .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُرِفَ أَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَصْلٌ وَمِنْ حَيْثُ الذَّرْعِ وَصْفٌ ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ التُّجَّارِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ الْمَعِيبَ إذَا امْتَنَعَ رَدُّهُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ، كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَأَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى نُقْصَانِ أُصْبُعٍ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالنُّقْصَانِ ، وَكَمَالُ الْأَصَابِعِ وَصْفٌ فِيهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حَدِّ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ ، أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْوَصْفِ الْمَقْصُودِ لَا فِي الْوَصْفِ الْمَقْصُودِ بِالتَّنَاوُلِ ، فَإِنَّهُ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ حَقِيقَةً كَمَا إذَا قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ حُكْمًا كَمَا إذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ لِحَقِّ الْبَائِعِ كَمَا إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَخَاطَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ أَخَذَ شَبَهًا بِالْأَصْلِ فَأَخَذَ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ ،

( وَلَوْ قَالَ بِعْتُكهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذَكَرِ الثَّمَنِ فَيَنْزِلُ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُلِّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ( وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ) لِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ فَيَتَخَيَّرُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا ، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ آخِذًا بِالْمَشْرُوطِ .

وَلَوْ قَالَ بِعْتُكهَا : يَعْنِي الثِّيَابَ أَوْ الْمَذْرُوعَاتِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَفِي نَظَرٍ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ ثِيَابًا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي الْأَرْضَ فَإِذَا بَاعَهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ أَوْ تُرِكَ ، لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذِكْرِ الثَّمَنِ فَنُزِّلَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْوَصْفَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا كَانَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ ، وَهَذَا : أَيْ أَخْذُهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي آخِذًا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَهُوَ لَمْ يَبِعْ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تَأْتِي لِلشَّرْطِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَنُوقِضَ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الذِّرَاعَ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا بِذِكْرِ الثَّمَنِ كَانَ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ، وَمُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ : وَأُجِيبَ بِأَنَّ الذِّرَاعَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَبِيعَةٌ كَالْقَفِيزِ ، وَوُصِفَ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَالْجَمَالِ وَالْكِتَابَةِ ثُمَّ لَوْ جَعَلْنَا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مُنْقَسِمَةً عَلَى الْإِفْرَادِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ ذِرَاعٍ لَزِمَ إلْغَاءُ جِهَةِ الْوَصْفِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَقُلْنَا بِالْوَصْفِيَّةِ عِنْدَ تَرْكِ ذِكْرِهِ ، وَبِالْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ عَمَلًا بِالشَّبِيهَيْنِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُولٌ لِلْوَصْفِيَّةِ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهَا .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إذَا لَمْ يُفْرَدْ

كُلُّ ذِرَاعٍ بِالذِّكْرِ كَانَ كَوْنُ كُلِّ ذِرَاعٍ مَبِيعًا ضِمْنًا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصْفَ يَصِيرُ أَصْلًا إذَا كَانَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ ، وَإِنْ وُجِدَتْ زَائِدَةً أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْجَمِيعَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ فُسِخَ ، أَمَّا خِيَارُ الْفَسْخِ فَلِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ لَزِمَهُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ فَكَانَ فِي مَعْنَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ فَيَتَخَيَّرُ ، وَأَمَّا لُزُومُ الزِّيَادَةِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا مَشْرُوطًا ، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ آخِذًا بِالْمَشْرُوطِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ذِرَاعٍ إنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ فَسَدَ الْبَيْعُ إذَا وَجَدَهَا أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى أَثْوَابٍ عَشَرَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ أَحَدَ عَشَرَ أَوْ تِسْعَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الذِّرَاعَ لَوْ كَانَ أَصْلًا بِإِفْرَادِ ذِكْرِ الثَّمَنِ امْتَنَعَ دُخُولُ الزِّيَادَةِ فِي الْعَقْدِ ، كَمَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ فَإِذَا هِيَ أَحَدَ عَشَرَ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِصَفْقَةٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَاهُنَا دَخَلَتْ فِي تِلْكَ الصَّفْقَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَثْوَابَ مُخْتَلِفَةٌ فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْمَبِيعَةُ مَجْهُولَةً جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَالذُّرْعَانُ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الذِّرَاعَ الزَّائِدَ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ بَائِعًا بَعْضَ الثَّوْبِ وَفَسَدَ الْبَيْعُ فَحَكَمْنَا بِالدُّخُولِ تَحَرِّيًا فِي الْجَوَازِ وَالْقَفِيزُ الزَّائِدُ لَيْسَ كَذَلِكَ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لَهُمَا أَنَّ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ عُشْرُ الدَّارِ فَأَشْبَهَ عَشْرَةَ أَسْهُمٍ .
وَلَهُ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِمَا يَذْرَعُ بِهِ ، وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ دُونَ الْمَشَاعِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، بِخِلَافِ السَّهْمِ .
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الذِّرَاعَانِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْخَصَّافُ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ ) شِرَاءُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ( مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ ) أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَشِرَاءُ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ ( وَلَهُمَا أَنَّ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ ) كَعَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ فِي كَوْنِهَا عُشْرًا فَتَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِأَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّرَاعَ حَقِيقَةٌ فِي الْآلَةِ الَّتِي يُذْرَعُ بِهَا وَإِرَادَتُهَا هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةٌ فَيَصِيرُ مَجَازًا لِمَا يَحِلُّهُ بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ ، وَمَا يَحِلُّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ يَقْتَضِي مَحَلًّا حِسِّيًّا ، وَالْمُشَاعُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَمَا يَحِلُّهُ لَا يَكُونُ مُشَاعًا فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الذِّرَاعُ لِعَدَمِ مُجَوِّزِ الْمَجَازِ ( وَذَلِكَ ) أَيْ الْعَشَرَةُ الْأَذْرُعُ غَيْرُ مَعْلُومٍ هُنَا ، إذْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْعَشَرَةَ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ مِنْ الدَّارِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، بِخِلَافِ السَّهْمِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ لَا يَقْتَضِي مَحَلًّا حِسِّيًّا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّائِعِ فَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ صَاحِبَ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ يَكُونُ شَرِيكًا لِصَاحِبِ تِسْعِينَ سَهْمًا فِي جَمِيعِ الدَّارِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا مِنْهَا ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يَدْفَعَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ فِي قَدْرِ نَصِيبٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ كَمَا إذَا قَالَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ، كَمَا إذَا قَالَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِ الدَّارِ فِي الصَّحِيحِ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْجَوَازِ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ

الْخَصَّافُ أَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ جَهَالَةِ جُمْلَةِ الذُّرْعَانِ .
وَأَمَّا إذَا عُرِفَتْ مِسَاحَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرَ مَا لَوْ بَاعَ كُلَّ شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ بِدِرْهَمٍ إذَا كَانَ عَدَدُ جُمْلَةِ الشِّيَاهِ مَعْلُومًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ .

وَلَوْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ ( وَلَوْ بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا جَازَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ وَلَهُ الْخِيَارُ ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ ) لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ .
وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا ، وَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا قَبُولَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْدُومِ فَافْتَرَقَا .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ ) عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي مِقْدَارِهِ وَمِنْهُ عِدْلُ الْحِمْلِ إذَا اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَكَانَ تِسْعَةً أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ .
أَمَّا إذَا زَادَ فَلِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ فَيَجِبُ رَدُّهُ ، وَالْأَثْوَابُ مُخْتَلِفَةٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَأَمَّا إذَا نَقَصَ فَلِوُجُوبِ سُقُوطِ حِصَّةِ النَّاقِصِ عَنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَهِيَ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَانَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا أَوْ رَدِيئًا ، وَحِينَئِذٍ لَا تُدْرَى قِيمَتَهُ بِيَقِينٍ حَتَّى تَسْقُطَ فَكَانَتْ جَهَالَتُهَا تُوجِبُ جَهَالَةَ الْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يُشَكُّ فِي فَسَادِهِ ، وَإِذَا بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا بِقَوْلِهِ كُلُّ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ لِكَوْنِ الثَّمَنِ مَعْلُومًا ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ شَرْطُ عَقْدِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ .
وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ فِي صَفْقَةٍ فَكَانَ قَبُولُ الْبَيْعِ فِي الْمَعْدُومِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْمَوْجُودِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي صَفْقَةٍ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ فِي الْقِنِّ خِلَافًا لَهُمَا كَذَلِكَ هَذَا .
وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلٌ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ كُلُّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا هَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ مَرْوِيٌّ ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ فِي الْهَرَوِيِّ .

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْفَائِتَ فِي الصِّفَةِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا أَصْلُ الثَّوْبِ ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُ الصِّفَةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ عَلَى مَذْهَبِهِ فَفَوَاتُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى أَنْ يَفْسُدَ .
قَالَ الشَّيْخُ : وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ ثَمَنَ النَّاقِصِ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَلَا يَضُرُّ الْبَاقِي .
وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْجَامِعِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِلْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْعَقْدِ فَشَرْطُ قَبُولِهِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَكَانَ فَاسِدًا ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ وَلَا قَصَدَ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَعْدُومِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ذَلِكَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إيرَادَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ غَلِطَ فِي الْعَدَدِ .
وَهَرَوِيٌّ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَرْوِيٌّ بِسُكُونِهَا مَنْسُوبٌ إلَى هَرَاةَ وَمَرْوَ قَرْيَتَانِ بِخُرَاسَانَ

( وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِذَا هُوَ عَشْرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِعَشْرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَأْخُذُهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ ، وَفِي الثَّانِي يَأْخُذُ بِعَشْرَةٍ إنْ شَاءَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِعَشْرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ ) ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةُ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهَا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِبَدَلٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ انْتَقَضَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ .
وَقِيلَ فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْزُونِ حَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالُوا : يَجُوزُ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْهُ .

قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا ) إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ نِصْفُ ذِرَاعٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا زَادَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةٍ بِلَا خِيَارٍ ، وَفِي النُّقْصَانِ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَإِذَا زَادَ أَخَذَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ نَقَصَ بِعَشَرَةٍ إنْ شَاءَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَخَذَهُ فِي الْأَوَّلِ بِعَشَرَةٍ وَنِصْفٍ ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ قَابَلَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ نِصْفِ الذِّرَاعِ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ .
فَيُجَزَّأُ عَلَيْهِ ) مِنْ التَّجْزِئَةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَجْرِي عَلَيْهِ أَيْ عَلَى النِّصْفِ حُكْمُ الْمُقَابَلَةِ ، وَيُخَيَّرُ كَمَا لَوْ بَاعَ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَنَقَصَ ذِرَاعٌ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِفْرَادِ الْبَدَلِ صَارَ كُلُّ ذِرَاعٍ ) كَثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَالثَّوْبُ إذَا بِيعَ عَلَى أَنَّهُ كَذَا ذِرَاعًا فَنَقَصَ ذِرَاعٌ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ وَنِصْفُ الذِّرَاعِ لَيْسَ بِذِرَاعٍ ، فَكَانَ الشَّرْطُ مَعْدُومًا وَزَالَ مُوجِبُ كَوْنِهِ أَصْلًا فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَصْفُ فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَالتِّسْعَةُ كَزِيَادَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَسُلِّمَ لَهُ مَجَّانًا .
وَقِيلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي تَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْقَمِيصِ وَالْأَقْبِيَةِ ، أَمَّا فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا تُسَلَّمُ الزِّيَادَةُ لَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ اتَّصَلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِعَدَمِ تَضَرُّرِهِ بِالْقَطْعِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ : إذَا بَاعَ ذِرَاعًا مِنْهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهُ جَازَ

كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْهَا .

( فَصْلٌ ) .
( وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ بِنَاؤُهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ ) وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ قَرَارٍ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ .( فَصْلٌ ) مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مُتَنَاوِلٌ اسْمَ الْمَبِيعِ عُرْفًا دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ صَرِيحًا .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ إقْرَارٍ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الدُّخُولِ ، وَنَعْنِي بِالْقَرَارِ الْحَالَ الثَّانِيَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا وُضِعَ لَأَنْ يَفْصِلَهُ الْبَشَرُ فِي ثَانِي الْحَالِ لَيْسَ بِاتِّصَالِ قَرَارٍ ، وَمَا وُضِعَ لَا لَأَنْ يَفْصِلَهُ فِيهِ فَهُوَ اتِّصَالُ قَرَارٍ ، وَعَلَى هَذَا ( دَخَلَ بِنَاءُ الدَّارِ فِي بَيْعِهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ ) لَا يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ تَنَاوُلَهُ الْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ ( لِأَنَّ بِتَنَاوُلِهِ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صِفَةً لَهَا ) وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ دَاعِيَةً لِلْيَمِينِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْبِنَاءُ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَى الْيَمِينِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ وَحَنِثَ بِالدُّخُولِ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ( وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ مُتَّصِلٌ بِهِ ) أَيْ بِالْأَرْضِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ ( اتِّصَالَ قَرَارٍ ) فَيَكُونُ تَابِعًا لَهُ .

( وَمَنْ بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْقَرَارِ فَأَشْبَهَ الْبِنَاءَ ( وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْفَصْلِ فَشَابَهَ الْمَتَاعَ الَّذِي فِيهَا .وَإِذَا بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرَةِ ) كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً مُثْمِرَةً أَوْ غَيْرَهَا عَلَى الْأَصَحِّ ( وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لِلِاتِّصَالِ فَأَشْبَهَ الْبِنَاءَ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ لِلْفَصْلِ فَأَشْبَهَ الْمَتَاعَ الْمَوْضُوعَ فِي الدَّارِ ) وَنُوقِضَ بِالْحَمْلِ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأُمِّ لِلْفَصْلِ وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأُمِّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ، فَإِنَّ الْبَشَرَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَصْلُ الْحَمْلِ عَنْ الْأُمِّ .

( وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً فَهُوَ لِلْقَطْعِ لَا لِلْبَقَاءِ فَصَارَ كَالزَّرْعِ .
( وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ اقْطَعْهَا وَسَلِّمْ الْمَبِيعَ ) وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهَا زَرْعٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ وَتَسْلِيمُهُ ، كَمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُتْرَكُ حَتَّى يَظْهَرَ صَلَاحُ الثَّمَرِ وَيُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ التَّسْلِيمُ الْمُعْتَادُ ، وَالْمُعْتَادُ أَنْ لَا يُقْطَعَ كَذَلِكَ وَصَارَ كَمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ .
قُلْنَا : هُنَاكَ التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ أَيْضًا حَتَّى يُتْرَكَ بِأَجْرٍ ، وَتَسْلِيمُ الْعِوَضِ كَتَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ ، .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحِ وَيَكُونُ فِي الْحَالَيْنِ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا ) بَاعَ نَخْلًا ( أَوْ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا ) أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْته مَعَ ثَمَرَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ ، إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ } وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا وُضِعَ لِلْقَرَارِ يَدْخُلُ وَمَا وُضِعَ لِلْفَصْلِ لَا يَدْخُلُ ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَرْضٌ فِيهَا نَخْلٌ عَلَيْهِ ثَمَرٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ } وَلَمْ يَذْكُرْ النَّخْلَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْحَالِ الثَّانِي وَالْحَالُ الْأُولَى لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً أَوْ مَوْضُوعًا وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ سَلِّمْ الْمَبِيعَ ) فَارِغًا لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَنْ مِلْكِهِ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ وَرَفْعِ الزَّرْعِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُتْرَكُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ ، وَيَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّسْلِيمُ الْمُعْتَادُ ، وَالْمُعْتَادُ أَنْ لَا يُقْطَعَ ) وَقَاسَهُ عَلَى مَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى الْحَصَادِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُعْتَادَ عَدَمُ الْقَطْعِ إلَى وَقْتِ الْبُدُوِّ وَالِاسْتِحْصَادِ ؛ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَبِيعُونَ لِلْقَطْعِ سَلَّمْنَاهُ ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُسْقِطُهُ وَقَدْ عَارَضَهُ دَلَالَةُ الرِّضَا بِذَلِكَ وَهِيَ إقْدَامُهُ عَلَى بَيْعِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي تَفْرِيغَ مِلْكِهِ وَتَسْلِيمَهُ إيَّاهُ فَارِغًا ( قَوْلُهُ هُنَاكَ ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَتَقْرِيرِهِ ( التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ ) فِي صُورَةِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَيْضًا ( وَلَا يَتْرُكُهُ إلَّا بِأَجْرٍ وَتَسْلِيمُ الْعِوَضِ تَسْلِيمُ الْمُعَوَّضِ ) لَا يُقَالُ : فَلْيَكُنْ فِيمَا نَحْنُ

فِيهِ كَذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ) فِي كَوْنِهِ لِلْبَائِعِ ( فِي الصَّحِيحِ ) وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا يَصِحُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَمَا صَحَّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِلْقَرَارِ

وَأَمَّا إذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ وَقَدْ بَذَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ لَمْ يَدْخُلُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا كَالْمَتَاعِ ، .
وَلَوْ نَبَتَ وَلَمْ تَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ فَقَدْ قِيلَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ ، وَقَدْ قِيلَ يَدْخُلُ فِيهِ ، وَكَأَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْمَشَافِرُ وَالْمَنَاجِلُ ، وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْهُمَا .
وَلَوْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا وَمِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ قَالَ مِنْ مَرَافِقِهَا لَمْ يَدْخُلَا فِيهِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا دَخَلَا فِيهِ .
وَأَمَّا الثَّمَرُ الْمَجْذُوذُ وَالزَّرْعُ الْمَحْصُودُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ .

( قَوْلُهُ وَأَمَّا إذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ ) يَعْنِي مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَا فَرْقَ : يَعْنِي : الثَّمَرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ ( وَأَمَّا الْأَرْضُ إذَا بِيعَتْ وَقَدْ بَذَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا كَالْمَتَاعِ ) وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْفَنْ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ ، وَأَمَّا إذَا عَفِنَ فِيهَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ بَيْعَ الْعَفَنِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَصِحُّ فَكَانَ تَابِعًا وَلَوْ نَبَتَ وَلَمْ يَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ ) قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَدْخُلُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ يَدْخُلُ .
قَالَ الشَّيْخُ ( وَكَأَنَّ ) وَصَحَّحَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ تَشْدِيدَ النُّونِ ( هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ ) يَعْنِي فَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْمَشَافِرُ وَالْمَنَاجِلُ لَمْ يَجْعَلْهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ جَعَلَهُ تَابِعًا مُشَفَّرًا كَبَعِيرٍ شَفَّتْهُ وَالْجَمْعُ مَشَافِرُ .
وَالْمِنْجَلُ مَا يُحْصَدُ بِهِ الزَّرْعُ وَالْجَمْعُ مَنَاجِلُ .
قَالَ ( وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ بِعْت الْأَرْضَ أَوْ الشَّجَرَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي بِعْت بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا .
وَالثَّالِثُ بِعْت بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا وَمِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا .
وَالرَّابِعُ بِعْت بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَادَةِ يُذْكَرُ لِمَا هُوَ تَبَعٌ لَا بُدَّ لِلْمَبِيعِ مِنْهُ كَالطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ .
وَالْمَرَافِقُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالتَّوَابِعِ كَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ لَيْسَا كَذَلِكَ فَلَا يَدْخُلَانِ .
وَفِي

الرَّابِعِ يَدْخُلَانِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ أَوْ عَلَى الشَّجَرِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَرُ مَجْذُوذًا وَالزَّرْعُ مَحْصُودًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ لَا يَدْخُلَانِ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا أَوْ قَدْ بَدَا جَازَ الْبَيْعُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، إمَّا لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي ، وَقَدْ قِيلَ لَا يَجُوزُ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ( وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ ) تَفْرِيغًا لَمِلْكِ الْبَائِعِ ، وَهَذَا .
إذَا اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ( وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى النَّخِيلِ فَسَدَ الْبَيْعُ ) ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ فِي بَيْعٍ ، وَكَذَا بَيْعُ الزَّرْعِ بِشَرْطِ التَّرْكِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا قُلْنَا ، وَاسْتَحْسَنَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْعَادَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ لِمَعْنًى مِنْ الْأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ .
وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَتَرَكَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ ، وَإِنْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ لِحُصُولِهِ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ ، وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ .
لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَتَرَكَهَا عَلَى النَّخِيلِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّخِيلَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ وَالْحَاجَةِ فَبَقِيَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ وَتَرَكَهُ حَيْثُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ فَأَوْرَثَتْ خُبْثًا .

قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا ) بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الظُّهُورِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ ، وَالثَّانِي جَائِزٌ بَدَا صَلَاحُهَا بِصَلَاحِهَا لِانْتِفَاعِ بَنِي آدَمَ أَوْ عَلَفِ الدَّوَابِّ ، أَوْ لَمْ يَبْدُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَصَارَ كَمَبِيعِ الْجَحْشِ وَالْمُهْرِ ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ لَا يَجُوزُ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَالثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
قَالَ الشَّيْخُ : وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ : يَعْنِي رِوَايَةً وَدِرَايَةً ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَابِ الْعُشْرِ ، وَلَوْ بَاعَ الثِّمَارَ فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ وَتَرَكَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ حَتَّى أَدْرَكَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ جَائِزًا فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ لَمَا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي ، وَنَفْيُ جَوَازِهِ مُفْضٍ إلَى نَفْيِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ إذَا بَاعَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهَا سَلَمًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَرَأَيْت لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ } وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ هَذَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا أَوْ بِطَرِيقِ السَّلَمِ ، وَإِذَا جَازَ الْبَيْعُ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ تَفْرِيغًا لِمِلْكِ الْبَائِعِ .
قَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَازِ : أَيْ الْجَوَازِ إذَا ( اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا أَوْ

بِشَرْطِ الْقَطْعِ ) أَمَّا إذَا قَالَ اشْتَرَيْته عَلَى أَنِّي أَتْرُكُهُ عَلَى النَّخْلِ فَقَدْ فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ وَشَرْطُ الْقَطْعِ سَوَاءٌ فَكَانَ تَرْكُهَا عَلَى النَّخِيلِ شُغْلَ مِلْكِ الْغَيْرِ ، أَوْ أَنَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ لِأَنَّهُ إعَارَةٌ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٌ فِيهِ ، لِأَنَّ تَرْكَهَا عَلَى النَّخْلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَجْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَالثَّانِي إعَارَةٌ وَالْأَوَّلُ إجَارَةٌ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ صَفْقَةً أَنْ لَوْ جَازَتْ إعَارَةُ الْأَشْجَارِ أَوْ إجَارَتُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، نَعَمْ هُوَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا بَاعَ الزَّرْعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ ، فَإِنَّ إعَارَتَهَا وَإِجَارَتَهَا جَائِزَةٌ فَيَلْزَمُ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ لَمْ تَتَنَاهَ فِي عِظَمِهَا وَأَمَّا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ شَرْطَ التَّرْكِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَحْسَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَالَ : لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ لِتَعَارُفِ النَّاسِ بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا لِأَنَّهُ شُرِطَ فِيهِ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ لِمَعْنًى فِي الْأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّعَامُلَ جَرَى فِي اشْتِرَاطِ التَّرْكِ وَلَكِنَّ الْمُعْتَادَ فِي مِثْلِهِ الْإِذْنُ فِي تَرْكِهِ بِلَا شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ ، وَلَوْ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ الَّتِي لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ التَّرْكَ وَتَرَكَهَا ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ بِأَنْ يُقَوَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَيُقَوَّمَ بَعْدَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ مَا زَادَ حَصَلَ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ وَهِيَ حُصُولُهَا بِقُوَّةِ الْأَرْضِ

الْمَغْصُوبَةِ .
وَإِذَا تَرَكَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ بَعْدَمَا تَنَاهَى لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ مِنْ النِّيءِ إلَى النُّضْجِ لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ فِي الْجِسْمِ ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ إذَا صَارَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَزْدَادُ فِيهَا مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ شَيْءٌ ، بَلْ الشَّمْسُ تُنْضِجُهَا وَالْقَمَرُ يُلَوِّنُهَا وَالْكَوَاكِبُ تُعْطِيهَا الطَّعْمَ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا عَنْ التَّرْكِ وَالْقَطْعِ وَتَرَكَهَا عَلَى النَّخِيلِ بِاسْتِئْجَارِ النَّخِيلِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ لِبُطْلَانِ إجَارَةِ النَّخِيلِ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ ، فَإِنَّ التَّعَارُفَ لَمْ يَجْرِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِاسْتِئْجَارِ الْأَشْجَارِ ، وَلِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْكِ بِالْإِجَارَةِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَلِّصٌ سِوَاهَا ، وَهَاهُنَا يُمْكِنُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ الثِّمَارَ مَعَ أُصُولِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا فَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ بَقَاءَ الْإِذْنِ فَإِنْ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ ، وَفِي بُطْلَانِ الْمُتَضَمَّنِ بُطْلَانُ الْمُتَضَمِّنِ كَالْوَكَالَةِ الثَّانِيَةِ فِي ضِمْنِ الرَّهْنِ تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَاطِلَ مَعْدُومٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ أَصْلًا وَلَا وَصْفًا شَرْعًا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَتَضَمَّنُ شَيْئًا حَتَّى يَبْطُلَ بِبُطْلَانِهِ ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ ابْتِدَاءً عِبَارَةً عَنْ الْإِذْنِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ وَتَرَكَهُ حَيْثُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ وَقْتِ الزَّرْعِ ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ قَدْ يَتَقَدَّمُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ لِلْبَرْدِ ، وَالْفَاسِدُ مَا لَهُ تَحَقُّقٌ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا لِشَيْءٍ وَيَفْسُدُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِفَسَادِ الْمُتَضَمَّنِ ،

وَإِذَا انْتَفَى الْإِذْنُ كَانَ الْفَضْلُ خَبِيثًا وَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ .
وَلَوْ اشْتَرَى الثِّمَارَ مُطْلَقًا عَنْ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ عَلَى النَّخِيلِ وَتَرَكَهَا وَأَثْمَرَتْ مُدَّةَ التَّرْكِ ثَمَرَةً أُخْرَى فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ : يَعْنِي قَبْلَ تَخْلِيَةِ الْبَائِعِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالثِّمَارِ فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ وُجِدَ وَحَدَثَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ وَاخْتَلَطَ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الزَّائِدِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِجَوَازِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِهِ وَيَقُولُ اجْعَلْ الْمَوْجُودَ أَصْلًا وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا ، وَلِهَذَا شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ أَكْثَرَ

وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ .
وَلَوْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ، وَكَذَا فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ ، وَالْمَخْلَصُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْأُصُولَ لِتَحْصُلَ الزِّيَادَةُ عَلَى مِلْكِهِ .( قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ ) يَعْنِي أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إذَا حَدَثَ شَيْءٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِذَا حَدَثَ بَعْدَهُ يَشْتَرِكَانِ ( وَالْمُخَلِّصُ ) أَيْ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ فِيمَا إذَا حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْأُصُولَ لِتَحْصُلَ الزِّيَادَةُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : إنَّمَا يَجُوزُ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ أَصْلًا وَالْحَادِثِ تَبَعًا إذَا كَانَ ثَمَّةَ ضَرُورَةٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا لِانْدِفَاعِهَا بِبَيْعِ الْأُصُولِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47