كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

الَّتِي بَاعَهَا الْمُسْلِمُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ مِنْ النَّصْرَانِيِّ مُسْلِمٌ ( بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ أَمَّا الْأَوَّلُ ) أَيْ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ( فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ ) وَلَمْ يَتَوَسَّطْ النَّصْرَانِيُّ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا رَجَعَ الشَّفِيعُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهَا مِنْهُ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْقَبْضِ مِنْهُ كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرُدُّ الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ لَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لِحُصُولِ الْقَبْضِ مِنْهُ حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ قَبَضَهَا مِنْ الْبَائِعِ ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبًا يَرُدُّهَا عَلَيْهِ دُونَ الْمُشْتَرِي ( وَأَمَّا الثَّانِي ) أَيْ الرَّدُّ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ ( فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جُعِلَ الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ ) أَيْ الْبَائِعِ ( لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ ) وَهُوَ الْفَاسِدُ ( لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ ) دَارُ خُطَّةٍ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ بِالْإِضَافَةِ سَمَاعًا وَيَجُوزُ خُطَّةً بِالنَّصْبِ تَمْيِيزًا كَمَا فِي عِنْدِي رَاقُودٌ خَلًّا وَالْخُطَّةُ مَا خَطَّهُ الْإِمَامُ بِالتَّمْلِيكِ عِنْدَ فَتْحِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَشْجَارٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، وَوَضْعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلشَّيْءِ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ صِفَتِهِ فَإِنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ دَارًا كَمَا كَانَتْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكُهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَإِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ إنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ ، وَالْخَرَاجُ إنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْأَرَاضِي بِاعْتِبَارِ إنْزَالِهَا

وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْمَاءِ وَاسْتُشْكِلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّ فِيهَا تَوْظِيفَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ مِنْ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ .
وَأَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صُنْعٌ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ وَهَاهُنَا وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ إذْ الْخَرَاجُ يَجِبُ حَقًّا لِلْمُقَاتِلَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِمَا حَوَتْهُ الْمُقَاتِلَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ يَتَقَرَّرْ أَمْرُهُ عَلَى عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ أَرْضٌ تُسْقَى بِمَاءِ الْعُشْرِ ، وَقَدْ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّ مَاءَهَا عُشْرِيٌّ وَفِيهِ الْخَرَاجُ .

( وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا ( وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ ) وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْمَاءِ الْعُشْرِيِّ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عُشْرًا وَاحِدًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عُشْرَانِ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ ، ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِحَارِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ ، وَالْمَاءُ الْخَرَاجِيُّ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ ، وَمَاءُ جَيْحُونَ وَسَيَحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عُشْرِيٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِيهَا أَحَدٌ كَالْبِحَارِ ، وَخَرَاجِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْقَنَاطِرَ مِنْ السُّفُنِ وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا ( وَفِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ التَّغْلِبِيَّيْنِ مَا فِي أَرْضِ الرَّجُلِ التَّغْلِبِيِّ ) يَعْنِي الْعُشْرَ الْمُضَاعَفَ فِي الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجَ الْوَاحِدَ فِي الْخَرَاجِيَّةِ ، لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ ، ثُمَّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ قَالَ : ( وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنَّفْطِ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْنٌ فَوَّارَةٌ كَعَيْنِ الْمَاءِ ( وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ ) وَهَذَا ( إذَا كَانَ حَرِيمُهُ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْمَجُوسَ كَثِيرٌ بِالسَّوَادِ فَقَالَ : أَعْيَانِي أَمْرُ الْمَجُوسِ ، وَفِي الْقَوْمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } الْحَدِيثَ فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَمِلَ بِهِ وَأَمَرَ عُمَّالَهُ أَنْ يَمْسَحُوا أَرَاضِيَهُمْ وَعَامِرَهُمْ فَيُوَظِّفُوا الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَرِيعِهِمْ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَالرِّيعِ وَعَفَا عَنْ رِقَابِ دُورِهِمْ وَعَنْ رِقَابِ الْأَشْجَارِ فِيهَا ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْعَفْوُ فِي حَقِّهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَبْعَدَ عَنْ الْإِسْلَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ( وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَإِنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ عَلَيْهِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ ) وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ لِلْمَاءِ أَوْ لِحَالِ مَنْ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَظِيفَةُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي نَاقَضَ هَذَا قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعُشْرُ إذَا سَقَى أَرْضَهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَاءِ وَلَكِنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ شَرْطُ وُجُوبِ الْحُكْمِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ كَانَ الْمُسْلِمُ مَحَلًّا لِإِيجَابِ الْخَرَاجِ ، وَفِيهِ الصَّغَارُ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا صَغَارَ فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِي إنَّمَا هُوَ خَرَاجُ الْجَمَاجِمِ ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ مُطْلَقًا أَوْ إذَا

لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ صُنْعٌ يَقْتَضِيهِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا ) يَعْنِي مَا مَرَّ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضًا عُشْرِيَّةً وَجَبَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرٌ مُضَاعَفٌ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا هَذَا وَجَبَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ إذَا سَقَى أَرْضًا بِمَاءِ الْعُشْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرَانِ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ مَرَّ ، وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَصْرِفِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ ) بَيَانٌ لِلْمَاءِ الْعُشْرِيِّ وَالْخَرَاجِيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْأَنْهَارُ الَّتِي شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمَلِكِ وَيَزْدَجْرِدَ وَمَرْوَرُوذَ ، لِأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْأَنْهَارِ بِمَالِ الْخَرَاجِ فَصَارَ مَاؤُهَا خَرَاجِيًّا ، وَصَارَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً تَبَعًا ، وَجَيْحُونُ نَهْرُ تِرْمِذَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَسَيْحُونُ نَهْرُ التُّرْكِ وَهُوَ نَهْرُ خُجَنْدَ ، وَدِجْلَةُ نَهْرُ بَغْدَادَ ، وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْكُوفَةِ .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : الْآبَارُ وَالْعُيُونُ الَّتِي حُفِرَتْ وَظَهَرَتْ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ مَاؤُهَا عُشْرِيٌّ أَمَّا الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ فَالْمَاءُ أَيْضًا خَرَاجِيٌّ لِأَنَّ الْمَاءَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْأَرْضِ لِكَوْنِهِ خَارِجًا مِنْهَا ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ مَا تُسْقَى مِنْ مَاءِ الْعُشْرِ ، فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْعُشْرِ مِنْ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا لِتَوَقُّفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْأَرَاضِيَ الْعُشْرِيَّةَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : فَأَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ وَسَيَأْتِي تَحْدِيدُهَا .
وَالثَّانِي : كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا .
وَالثَّالِثُ : الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِمَتْ بَيْنَ

الْغَانِمِينَ وَالرَّابِعُ : بُسْتَانُ مُسْلِمٍ كَانَ دَارِهِ فَاتَّخَذَهُ بُسْتَانًا .
وَالْخَامِسُ : الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الَّتِي أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ وَكَانَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ : فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ لَهُ دَارٌ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا أَوْ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا وَسَقَى بِمَاءِ آبَارِهَا أَوْ الْعُيُونِ الَّتِي فِيهَا وَجَبَ الْعُشْرُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّارُ لِمَجُوسِيٍّ .
وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْخَرَاجِ أَوْ الْعُشْرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْمُضَاعَفِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ ) أَيْ عَلَى تَضْعِيفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِبَادَةِ أَوْ مَا فِيهِ مَعْنَاهَا .
( دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ ) أَيْ الْخَالِيَةِ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَالْخَرَاجِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ ضِعْفُهُ .
( وَعَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ ) .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ ) الْقِيرُ هُوَ الزِّفْتُ وَالْقَارُ لُغَةٌ فِيهِ وَالنِّفْطُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ أَفْصَحُ دُهْنٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَعَلَى عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ خَرَاجٌ بِأَنْ يُمْسَحَ مَوْضِعُ الْقِيرِ .
( إذَا كَانَ حَرِيمُهَا صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ ) فَيَكُونُ مَوْضِعُ الْعَيْنِ تَابِعًا لِلْأَرْضِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَعَلَى الرَّجُلِ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ يَعْنِي فِي حَرِيمِهَا إذَا

كَانَ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ ، وَلَا يُمْسَحُ مَوْضِعُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ مُخْتَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ لِأَنَّ حَرِيمَهُ فِي الْأَصْلِ صَالِحٌ لَهَا وَإِنَّمَا عَطَّلَهُ صَاحِبُهُ لِحَاجَتِهِ ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ فِيهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا خَرَاجَ فِيهَا وَلَا عَلَى مَا حَوْلَهَا لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَمَا لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ ) : قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى " { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } " ) الْآيَةَ .
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ

( بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ ) : لِمَا ذُكِرَ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنْ خُمُسِ الْمَعَادِنِ وَعُشْرِ الزُّرُوعِ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ مَنْ تُصْرَفْ إلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَشَرَعَ فِي بَيَانِهِ فِي هَذَا الْبَابِ ( الْأَصْلُ فِيهِ ) أَيْ فِيمَنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } الْآيَةَ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ) وَهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسْلِمُوا وَيُسْلِمَ قَوْمُهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَنَوْعٌ مِنْهُمْ أَسْلَمُوا لَكِنْ عَلَى ضَعْفٍ فَيَزِيدُ تَقْرِيرُهُمْ لِضَعْفِهِمْ ، وَنَوْعٌ مِنْهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ ، ثُمَّ سَقَطَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
رُوِيَ أَنَّهُمْ اسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ لِنَصِيبِهِمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَذَلَ لَهُمْ وَجَاءُوا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَبْدَلُوا خَطَّهُ فَأَبَى وَمَزَّقَ خَطَّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيفًا لَكُمْ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْكُمْ ، فَإِنْ ثُبْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ ، فَعَادُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا : أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَوْ عُمَرُ ؟ بَذَلْت لَنَا الْخَطَّ وَمَزَّقَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ : هُوَ إنْ شَاءَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ ( وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ) وَاخْتَلَفَ كَلَامُ

الْقَوْمِ فِي وَجْهِ سُقُوطِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْكِتَابِ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ جَوَازَ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ بِالْإِجْمَاعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَالْكِتَابِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ كَانْتِهَاءِ جَوَازِ الصَّوْمِ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ وَهُوَ النَّهَارُ ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَقَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّتِهِ كَمَا فِي الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، فَانْتِهَاؤُهَا قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِهَاءَهُ .
وَفِيهِ بَحْثٌ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ .
وَقَالَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ عَلَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ كَانَ إعْزَازَ الْإِسْلَامِ لِضَعْفِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ ، فَكَانَ الْإِعْزَازُ فِي الدَّفْعِ ، فَلَمَّا تَبَدَّلَ الْحَالُ بِغَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ صَارَ الْإِعْزَازُ فِي الْمَنْعِ فَكَانَ الْإِعْطَاءُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَنْعُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، وَالْإِعْزَازُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا : كَالْمُتَيَمِّمِ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ التُّرَابِ لِلتَّطَهُّرِ لِأَنَّهُ آلَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ لِحُصُولِ التَّطَهُّرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، فَإِذَا تَبَدَّلَ حَالُهُ بِوُجْدَانِ الْمَاءِ سَقَطَ الْأَوَّلُ وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَيِّنًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا لِلْأَوَّلِ فَكَذَا هَذَا ، وَهُوَ نَظِيرُ إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْعَشِيرَةِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ،

لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِسَبَبِ النُّصْرَةِ وَالِانْتِصَارُ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْعِشْرَةِ وَبَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ الدِّيوَانِ فَإِيجَابُهَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا بَلْ كَانَ تَقْرِيرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ الدِّيَةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الِانْتِصَارُ فَكَذَا هَذَا وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ .

( وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ قِيلَ عَلَى الْعَكْسِ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ إنْ عَمِلَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانُهُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ ، وَالْغَنِيُّ لَا يُوَازِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ .

وَقَوْلُهُ ( وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِكُلٍّ وَجْهٌ ) أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أَيْ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ .
وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ وَالنُّذُورِ لَا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ صَرْفَهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا ( ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : هُمَا وَاحِدٌ حَتَّى قَالَ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إنَّ لِفُلَانٍ نِصْفَ الثُّلُثِ وَلِلْفَرِيقَيْنِ النِّصْفَ الْآخَرَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِفُلَانٍ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَجَعَلَهُمَا صِنْفَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ( وَقَوْلُهُ وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ ) الْعَامِلُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ ( فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ ) أَيْ يَكْفِيهِ ( وَأَعْوَانُهُ ) مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ ، وَكُلُّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ رِزْقًا كَالْقُضَاةِ وَالْمُقَاتِلَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَأُجْرَتُهُ مَعْلُومَةٌ وَلَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْأَصْلِ فَيَكُونُ بَيَانَاتٍ لِحِصَّتِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ اقْتَضَتْ ذَلِكَ فَسَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ سَقَطَ

بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ تَبْقَ الْأَسْهُمُ ثَمَانِيَةً حَتَّى يَكُونَ لَهُ الثَّمَنُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ ، وَالسَّاقِطُ سَهْمُ الْكُفَّارِ فَقَطْ فَكَانَتْ الْأَسْهُمُ ثَمَانِيَةً .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ اسْتِحْقَاقًا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ ) أَيْ لَا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الزَّكَاةِ إذَا دَفَعَهَا لِلْإِمَامِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِلُ شَيْئًا وَيَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ أَخْذُهَا لِلْهَاشِمِيِّ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ ) نَظَرًا إلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ ذِمَّةِ الْمُؤَدِّي ( فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ وَالْغِنَى لَا يُوَازِيهِ ) أَيْ الْهَاشِمِيُّ ( فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ )

قَالَ ( وَفِي الرِّقَابِ يُعَانُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ ) وَهُوَ الْمَنْقُولُوَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْمَنْقُولُ ) يَعْنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رَوَى " { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ .
قَالَ : فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتِقْ النَّسَمَةَ ، قَالَ : أَوَلَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهِ } " .

( وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَفَاهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ ) لِمَا رَوَى { أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ } .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ ) لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ نِصَابًا كَانَ غَنِيًّا وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ وَمَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِالدَّيْنِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ كَانَ فَقِيرًا .
وَقَوْلُهُ ( فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ) أَيْ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَعَادِينَ لِزَوَالِ الِاخْتِلَافِ وَحُصُولِ الِائْتِلَافِ ، وَالنَّائِرَةُ الْعَدَاوَةُ وَالشَّحْنَاءُ وَقَوْلُهُ ( مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ ) أَيْ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِمُنْقَطِعِ الْحَاجِّ فُقَرَاؤُهُمْ الْمُنْقَطَعُ بِهِمْ

وَلَا يَصْرِفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ ( وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ ) وَهُوَ فِي مَكَان لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ .
قَالَ : ( فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ صَارُوا مَصَارِفَ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ ، وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

( وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ ، مِنْ جُمْلَتِهِمْ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } " وَتَأْوِيلُهُ الْغَنِيُّ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْمُسْتَغْنِيَ بِكَسْبِهِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ طَلَبُ الصَّدَقَةِ إلَّا إذَا كَانَ غَازِيًا فَيَحِلُّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْجِهَادِ عَنْ الْكَسْبِ .
وَذَكَرَ تِلْكَ الْخَمْسَةَ فِي التَّجْنِيسِ فَقَالَ : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ : الْغَازِي ، وَالْعَامِلُ عَلَيْهَا ، وَالْغَارِمُ ، وَرَجُلٌ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ إلَيْهِ .
وَذَكَرَ فِي الْمَصَابِيحِ وَفِي رِوَايَةٍ " وَابْنُ السَّبِيلِ " .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُكَرَّرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُنْقَطَعَ الْغُزَاةِ أَوْ مُنْقَطَعُ الْحَاجِّ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي وَطَنِهِ مَالٌ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ هُوَ ابْنَ السَّبِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فَقِيرٌ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الْعَدَدُ سَبْعَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَّا أَنَّهُ ازْدَادَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْفَقْرِ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ مِنْ جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ فَلِذَلِكَ غَايَرَ الْفَقِيرَ الْمُطْلَقَ فَإِنَّ الْمُقَيَّدَ يُغَايِرُ الْمُطْلَقَ لَا مَحَالَةَ .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ التَّغَايُرِ فِي حُكْمٍ آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ زِيَادَةُ التَّحْرِيضِ وَالتَّرْغِيبِ فِي رِعَايَةِ جَانِبِهِ الَّتِي اُسْتُفِيدَتْ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ اللَّامِ إلَى كَلِمَةِ فِي ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إيذَانًا بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ لِأَنَّ فِي الظَّرْفِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمْ الصَّدَقَاتُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُنْتَقَصْ الْمَصَارِفُ عَنْ السَّبْعَةِ

وَفِيهِ تَأَمُّلٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ ) يَعْنِي أَنَّهُمْ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ لَا مُسْتَحَقُّوهَا عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُمْ الْمُسْتَحَقُّونَ لَهَا حَتَّى لَا تَجُوزَ مَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ ( لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ ) لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلتَّمْلِيكِ ( وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْمَصَارِفِ فَإِلَى أَيُّهَا صُرِفَتْ أَجْزَأَك كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَإِذَا اسْتَقْبَلْت جُزْءًا مِنْهَا كُنْت مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ فَصَارُوا صِنْفًا وَاحِدًا فِي التَّحْقِيقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمْ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ( لِمَا عَرَفْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ ) أَيْ الْحَاجَةِ ( صَارُوا مَصَارِفَ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ ( فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ ) .

( وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } " .
قَالَ ( وَيَدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَدْفَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا } " وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ ) وَاضِحٌ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ رَاجِعٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ ، فَكَذَا ضَمِيرُ فُقَرَائِهِمْ لِئَلَّا يَخْتَلَّ النَّظْمُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَجَازَ الزِّيَادَةُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ ) يَعْنِي إلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا دُونَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَفُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى ، وَقَوْلُهُ { تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا } يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَجُوزَ الصَّرْفُ إلَى الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ ، وَالثَّانِي جَوَازُ دَفْعِ الزَّكَاةِ أَيْضًا .
وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ ) لِأَنَّ قَوْلَهُ " تَصَدَّقُوا " مُطْلَقٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ افْعَلُوا التَّصَدُّقَ .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِعَامٍّ ، وَمِنْهُمْ يَقُولُ : مَعْنَاهُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا } يَقْتَضِي جَوَازَ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ ، وَحَدِيثَ مُعَاذٍ يَقْتَضِي عَدَمَهُ .
فَقُلْنَا : حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الزَّكَاةِ وَالْآخَرُ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالصَّدَقَةِ الْمَنْذُورَةِ وَالْكَفَّارَاتِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْأَوَّلِ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ بَيَانُ التَّقْرِيرِ .
وَهُوَ يَمْنَعُ الْخُصُوصَ عَلَى مَا

عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَلَا يُدْفَعُ بِمَا قِيلَ كَلِمَةُ " كُلٍّ " لِتَأْكِيدِ الْأَدْيَانِ لَا لِتَأْكِيدِ الْأَهْلِ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ غَامِضٌ سَلَّمْنَاهُ ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ مُقَارِنًا عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ عَنْ التَّوَلِّي عَنْ الْبِرِّ فَلَا يَكُونُ لَهُ التَّعَلُّقُ بِالصَّدَقَةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : أُمِرْنَا بِالْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ بِآيَاتِ الْقِتَالِ ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَانَ نَاسِخًا فِي حَقِّهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَبْقَ الْحَدِيثُ مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ مَرْحَمَةٌ لَهُمْ وَمُوَاسَاةٌ ، وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَلَيْسَ فِي مَرْتَبَتِهَا فَيَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّهِمْ وَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ

( وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا يُكَفَّنُ بِهَا مَيِّتٌ ) لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ ( وَلَا يُقْضَى بِهَا دَيْنُ مَيِّتٍ ) لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ لَا سِيَّمَا مِنْ الْمَيِّتِ ( وَلَا تُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَفِي الرِّقَابِ } وَلَنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ .وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الرُّكْنُ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ تَمْلِيكُ فَقِيرٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ هَاشِمِيٍّ وَلَا مَوْلَاهُ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ مَعَ قَطْعِ الْمَنْفَعَةِ الْمَدْفُوعِ عَنْ نَفْسِهِ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَوْلُكُمْ التَّمْلِيكُ رُكْنٌ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ إذْ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا خَلَا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لِلْعَاقِبَةِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ فَهُمْ مَصَارِفُ ابْتِدَاءً لَا مُسْتَحِقُّونَ ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُمْ الْمِلْكُ فِي الْعَاقِبَةِ بِدَلَالَةِ اللَّامِ فَلَمْ تَبْقَ دَعْوَى مُجَرَّدَةً ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ ) بِدَلِيلِ أَنَّ الدَّائِنَ وَالْمَدْيُونَ إذَا تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ بَيْنَهُمَا فَلِلْمُؤَدِّي أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْقَابِضِ فَلَمْ يَصِرْ هُوَ مِلْكًا لِلْقَابِضِ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ بِأَمْرِهِ وَقَعَ عَنْ الزَّكَاةِ كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى الْغَرِيمِ فَيَكُونُ الْقَابِضُ كَالْوَكِيلِ لَهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَشْتَرِي بِهَا رَقَبَةً ) ظَاهِرٌ .

( وَلَا تُدْفَعُ إلَى غَنِيٍّ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } " وَهُوَ بِإِطْلَاقٍ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَنِيِّ الْغُزَاةِ .
وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا .

قَالَ ( وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَإِنْ عَلَا ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ عَلَى الْكَمَالِ ( وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ ) لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً ( وَلَا تَدْفَعُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَقَالَا : تَدْفَعُ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَك أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَأَجْرُ الصِّلَةِ } " قَالَهُ لِامْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ ؛ قُلْنَا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ ) أَيْ مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ وِلَادٍ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ .
وَقَوْلُهُ ( لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى } قِيلَ : بِمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي مِنْ اشْتِرَاكِ الْمَنْفَعَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ حَتَّى لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ لَهُ ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ كَمَا فِي الْوِلَادِ ، فَكَمَا أَنَّ الْوِلَادَ مَانِعٌ فَكَذَا مَا يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْوِلَادُ .
وَقَوْلُهُ ( قُلْنَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً صَنِعَةَ الْيَدَيْنِ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ وَبِهِ نَقُولُ .

قَالَ ( وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ ) لِفُقْدَانِ التَّمْلِيكِ إذَا كَسَبَ الْمَمْلُوكُ لِسَيِّدِهِ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ ( وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَقَالَا : يَدْفَعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا ( وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لِمَوْلَاهُ ( وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِيَسَارِ زَوْجِهَا ، وَبِقَدْرِ النَّفَقَةِ لَا تَصِيرُ مُوسِرَةً .وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ ) ظَاهِرٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَحُرٍّ مَدْيُونٍ عِنْدَهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ ) يَعْنِي فَإِنَّهُ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُكَفِّيَةُ الْمُؤْنَةِ بِمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ حَالَةَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، فَالصَّرْفُ إلَيْهَا كَالصَّرْفِ إلَى وَلَدٍ صَغِيرٍ لِلْغَنِيِّ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ لِلْغَنِيِّ أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِالْجُزْئِيَّةِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ كَالصَّرْفِ إلَى الْغَنِيِّ

( وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ } " بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ ، لِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ .
أَمَّا التَّطَوُّعُ فَبِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ .
قَالَ : ( وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَبَّاسٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ ) أَمَّا هَؤُلَاءِ فَلِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنِسْبَةُ الْقَبِيلَةِ إلَيْهِ .
وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَتَحِلُّ لِي الصَّدَقَةُ ؟ فَقَالَ : لَا أَنْتَ مَوْلَانَا } " بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَالْإِلْحَاقُ بِالْمَوْلَى بِالنَّصِّ وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ إلَى قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ ) ظَاهِرٌ ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ كَانَ أَنْسَبَ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْقُرْبَةِ فِيهِمَا ، وَلِهَذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْكُبْرَى حُرْمَةَ التَّطَوُّعِ أَيْضًا .
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّ الْمَفْرُوضَةَ وَالنَّافِلَةَ مُحَرَّمَتَانِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمَا ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالَ فِي التَّطْهِيرِ دُونَ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَالَ مُطَهِّرٌ حُكْمًا وَالْمَاءَ مُطَهِّرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، فَيَكُونُ الْمَالُ مُطَهِّرًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَجَعَلْنَاهُ مُتَدَنِّسًا فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) هُوَ أَبُو رَافِعٍ رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ مُسْنِدًا إلَى أَبِي رَافِعٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُوعٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ اصْحَبْنِي فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا ، فَقَالَ : حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } " فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ لَمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ عَلَى عَبْدٍ كَافِرٍ أَعْتَقَهُ قُرَشِيٌّ لِأَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ ) بِفَتْحِ التَّاءِ ( لِأَنَّهُ هُوَ الْقِيَاسُ ) فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُلْحَقَ الْمُعْتَقُ بِالْمُعْتِقِ فِي حَالَةٍ مَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ ، وَخِطَابُ الشَّرْعِ وَالْإِلْحَاقُ : إنَّمَا كَانَ بِالنَّصِّ فِي حَقِّ الصَّدَقَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ ،

وَلِهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْجِزْيَةَ دُونَ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ .

( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى رَجُلٍ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَبَانَ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ) لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ .
وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيهِ { يَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت ، وَيَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت } " وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَكِيلُ أَبِيهِ صَدَقَتَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ فَيَبْتَنِي الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَهَذِهِ إذَا تَحَرَّى فَدَفَعَ وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ ، أَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ أَوْ تَحَرَّى فَدَفَعَ ، وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لَا يَجْزِيهِ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى شَخْصٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِيهِ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرُّكْنُ عَلَى مَا مَرَّ .

وَقَوْلُهُ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ ) هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لِلصَّدَقَةِ ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ أَصْلًا ، أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلصَّدَقَةِ .
فَفِي الْأَوَّلَيْنِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي الثَّالِثِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ) وَهَلْ يَطِيبُ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ ذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُطَيِّبُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا قِيلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَقِيلَ : يَرُدُّهُ عَلَى الْمُعْطِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِيُعِيدَ الْإِيتَاءَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ) وَلَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ ( لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ ) فَإِنَّ الْأَوَانِيَ الطَّاهِرَةَ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالنَّجِسَةِ ، فَإِنْ غَلَبَتْ الطَّاهِرَةُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ إنَاءَانِ طَاهِرَانِ وَوَاحِدٌ نَجِسٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ التَّحَرِّيَ ، فَإِذَا تَحَرَّى وَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ ، وَأَمَّا إذَا غَلَبَتْ النَّجِسَةُ أَوْ تَسَاوَتَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَحَرَّى وَأَمَّا الثِّيَابُ الطَّاهِرَةُ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالنَّجِسَةِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ عَلَامَةٌ تُعْرَفُ بِهَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى مُطْلَقًا ، فَإِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ ، وَأَمَّا عَدَمُ اسْتِرْدَادِهِ فَلِأَنَّ فَسَادَ جِهَةِ الزَّكَاةِ لَا يَنْقُضُ الْأَدَاءَ ( وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ يَزِيدَ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَدْفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ مَعْنٍ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَآهَا مَعَهُ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْت ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت وَيَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت } وَجَوَّزَ ذَلِكَ وَلَمْ

يَسْتَفْسِرْ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ تَطَوُّعًا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ لَا تَخْتَلِفُ ، أَوْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرِيضَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ ) دَلِيلٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ وَإِمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ : يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَنِي الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ .
كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ ، فَإِذَا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ صَحَّ الْأَدَاءُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ ) أَيْ فِيمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ ( لَا يُجْزِيهِ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ ) يَعْنِي الْإِجْزَاءَ فِي الْكُلِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ الْإِعَادَةِ ( إذَا تَحَرَّى ) حَاصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ رَجُلًا بِلَا شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ أَوْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ ، فَالْأَوَّلُ يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ غَنِيٌّ لِأَنَّ الْفَقِيرَ فِي الْقَابِضِ أَصْلٌ .
وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَتَحَرَّى أَوَّلًا ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي كَمَا فِي الصَّلَاةِ ، فَإِذَا تَرَكَ بَعْدَمَا لَزِمَهُ لَمْ يَقَعْ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ لِأَنَّ الْفَقْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ حَصَلَ بِدُونِهِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ تَحَرَّى وَدَفَعَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ أَوْ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يُجْزِيهِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ ، فَإِذَا ظَهَرَ صَحَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ

فَتَحَرَّى إلَى جِهَةٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْعِلْمِ لَا تَكُونُ طَاعَةً ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْهُ بِهِ ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ فَصَحِيحٌ وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ شَيْءٌ ، وَيُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عِنْدَ إصَابَةِ مَحَلِّهِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَقَدْ حَصَلَ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا .
ثُمَّ قَالَ : تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الرُّكْنُ ) أَيْ التَّمْلِيكُ هُوَ الرُّكْنُ فِي الزَّكَاةِ ( كَمَا مَرَّ )

( وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ ) لِأَنَّ الْغِنَى الشَّرْعِيَّ مُقَدَّرٌ بِهِ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْوُجُوبَ ( وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا ) لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ السَّوَائِمِ أَوْ الْعُرُوضِ وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَالدَّيْنِ فِي النُّقُودِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ فِي غَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ، وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ وَسِلَاحٌ وَفَرَسٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ قِيمَتُهَا عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ مُعَدٌّ لِلتَّقَلُّبِ وَالتَّصَرُّفِ بِهِ ، فَكَانَ الدَّيْنُ مَصْرُوفًا إلَيْهِ .
فَأَمَّا الْخَادِمُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ وَالسِّلَاحُ فَمَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ فَلَا يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا إنَّ الْفَقِيهَ إذَا مَلَكَ مِنْ الْكُتُبِ مَا يُسَاوِي مَالًا عَظِيمًا وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا النَّمَاءُ شَرْطُ الْوُجُوبِ ) يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ فِي عَدَمِ جَوَازِ الدَّفْعِ مِلْكُ النِّصَابِ الْفَاضِلِ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ نَامِيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَامٍ ، وَإِنَّمَا النَّمَاءُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ( وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْفَقِيرِ الْكَسُوبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } " وَلَنَا أَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا خَفِيَّةً ، وَلَهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَحَبَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ : إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ : فَقَالَتْ : أُحِبُّك وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ حُرْمَةُ الطَّلَبِ

، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ : إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا } " مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِي السُّؤَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْإِعْطَاءَ إيَّاهُمَا .

( وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَإِنْ دَفَعَ جَازَ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ إلَى الْغِنَى .
وَلَنَا أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ فَيَتَعَقَّبُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقُرْبِ الْغِنَى مِنْهُ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ ( قَالَ : وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ ) مَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ يَوْمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ .
.

وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا ) قِيلَ : مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعِيلًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِقْدَارَ مَا لَوْ وَزَّعَهُ عَلَى عِيَالِهِ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى تَصَدُّقٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مِائَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِقْدَارَ مَا إذَا قَضَى بِهِ دَيْنَهُ لَهُ دُونَ الْمِائَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَبْسُوطِ مُقَيَّدَةً بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ فَقَالَ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَ رَجُلًا مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَهُ عِيَالٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الْمِائَتَيْنِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِائَتَيْنِ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ جُزْءًا مِنْ الْمِائَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ لِحَاجَتِهِ لِلْحَالِ وَالْبَاقِي دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ : إنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِلَّةُ الْغِنَى وَالْحُكْمُ يُقَارِنُ الْعِلَّةَ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ : أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ ، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا .
كَمَا قَالَ زُفَرُ فَمَا وَجْهُ هَذَا الْكَلَامِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَى قَوْلِهِ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ الْغِنَى حُكْمُ حُكْمِ الْأَدَاءِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِلَّةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ عِلَّةُ الْغِنَى ، فَكَانَ الْغِنَى مُضَافًا إلَى الْأَدَاءِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى

وَهِيَ الْأَدَاءُ شُبْهَةُ السَّبَبِ ، وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ حَقِيقَةً ، وَمَا كَانَ يُشْبِهُ السَّبَبَ مِنْ الْعِلَلِ لَهُ شُبْهَةُ التَّقَدُّمِ فَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ لِلْإِعْتَاقِ ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ عِلَّةُ الْعِتْقِ بِالْحَدِيثِ ، فَكَانَ الْعِتْقُ حُكْمُ حُكْمِ الشِّرَاءِ فَلِذَلِكَ جَازَتْ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ لِشُبْهَةِ تَقَدُّمِ الشِّرَاءِ عَلَى الْعِتْقِ بِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشْعِرُ بِهِ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : الْأَدَاءُ يُلَاقِي الْفَقْرَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْغِنَى بِحُكْمِهِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِأَنَّ الْمَانِعَ مَا يَسْبِقُهُ لَا مَا يَلْحَقُهُ ، وَالْجَوَازُ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَسْتَغْنِي عَنْ الْفَقْرِ ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى التَّأَخُّرِ كَمَا تَرَى ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
وَأَقُولُ : الْحُكْمُ يَتَعَقَّبُ الْعِلَّةَ فِي الْعَقْلِ وَيُقَارِنُهَا فِي الْوُجُودِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى التَّأَخُّرِ الْعَقْلِيِّ جَازَ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى التَّقَارُنِ الْخَارِجِيِّ يُكْرَهُ ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ ) هَذَا خِطَابُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا أَحَبَّ لِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ مَعَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهِ فُلُوسًا فَفَرَّقَهَا فَقَدْ قَصَّرَ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ ( وَمَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ ) لَا أَنْ يُمَلِّكَهُ نِصَابًا ( لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ ) كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَدْيُونًا أَوْ مُعِيلًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ) وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ فَرِيقٍ فِيهِمْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِيهِ رِعَايَةُ حَقِّ الْجِوَارِ ( إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا الْإِنْسَانُ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ : أَوْ زِيَادَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ ، وَلَوْ نَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ .

وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ : يُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْقُلْ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ ، أَمَّا إذَا نَقَلَ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ ، أَمَّا الْجَوَازُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ .
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِحَدِيثِ مُعَاذٍ ، وَلِأَنَّ فِي النَّقْلِ تَرْكَ رِعَايَةِ حَقِّ الْجِوَارِ ، وَأَمَّا عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِيمَا إذَا نَقَلَ إلَى قَرَابَتِهِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ وَأَجْرِ صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَأَمَّا إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ فَمَنْ كَانَ أَحْوَجَ كَانَ أَوْلَى ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْيَمِينِ : ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ فِي الصَّدَقَةِ ، فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ ، وَالْخَمِيسُ الثَّوْبُ الصَّغِيرُ طُولُهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ ، وَاللَّبِيسُ الْخَلَقُ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي أَنَّهُ اُعْتُبِرَ هَاهُنَا مَكَانُ الْمَالِ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ عَنْ رَأْسِهِ فَحَيْثُ كَانَ رَأْسُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَرَأْسُ مَمَالِيكِهِ فِي حَقِّهِ كَرَأْسِهِ فِي وُجُوبِ الْمُؤْنَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الصَّدَقَةِ فَيَجِبُ حَيْثُمَا كَانَتْ رُءُوسُهُمْ ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي الْمَالِ وَلِهَذَا إذَا هَلَكَ الْمَالُ سَقَطَتْ فَاعْتُبِرَ بِمَكَانِهِ .

( بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ مَالِكًا لِمِقْدَارِ النِّصَابِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَعَبِيدِهِ ) أَمَّا وُجُوبُهَا فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَتِهِ " { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } " رَوَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيُّ أَوْ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبِمِثْلِهِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْقَطْعِ

( بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ) صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ ، أَمَّا بِالزَّكَاةِ فَلِأَنَّهَا مِنْ الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ مَعَ انْحِطَاطِ دَرَجَتِهَا عَنْ الزَّكَاةِ ، وَأَمَّا بِالصَّوْمِ فَبِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ فَإِنَّ شَرْطَهَا الْفِطْرُ وَهُوَ بَعْدَ الصَّوْمِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَإِنَّمَا رَجَّحَ هَذَا التَّرْتِيبَ لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ هُوَ الْمُضَافُ لَا الْمُضَافُ إلَيْهِ ، خُصُوصًا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى شَرْطِهِ ، وَالصَّدَقَةُ عَطِيَّةٌ يُرَادُ بِهَا الْمَثُوبَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ بِهَا يَظْهَرُ صِدْقُ الرَّغْبَةِ فِي تِلْكَ الْمَثُوبَةِ كَالصَّدَاقِ يَظْهَرُ بِهِ صِدْقُ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي الْمَرْأَةِ .
قَالَ ( صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ ) الْوُجُوبُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ ، وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ دَارَانِ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَأُخْرَى لَا يَسْكُنُهَا وَيُؤَاجِرُهَا أَوْ لَا يُؤَاجِرُهَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا فِي الْغَنِيِّ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَبِيدُهُ ) يَعْنِي الَّتِي لِلْخِدْمَةِ فَإِنَّ الَّتِي تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ .
وَقَوْلُهُ ( صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ) صِفَتَانِ لِعَبْدٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صِفَتَيْنِ لِحُرٍّ وَعَبْدٍ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ ، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِوُجُوبِهَا وَسَبَبِ وُجُوبِهَا وَشَرْطِهَا وَمِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَبَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَجِبُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( رَوَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيُّ أَوْ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ ) قَالَ الْإِمَامُ حُمَيْدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْعُذْرِيُّ يَعْنِي بِالْعَيْنِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَصَحُّ مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي عُذْرَةَ اسْمِ قَبِيلَةٍ ، وَالْعَدَوِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى عَدِيٍّ وَهُوَ جَدُّهُ ، وَأَهْلُ

الْحَدِيثِ يَقُولُونَهُ كُنْيَةُ أَبِي صُعَيْرٍ الْعُذْرِيِّ .

وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّمْلِيكُ وَالْإِسْلَامُ لِيَقَعَ قُرْبَةً ، وَالْيَسَارُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } " وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ، وَقَدْرُ الْيَسَارِ بِالنِّصَابِ لِتَقْدِيرِ الْغِنَى فِي الشَّرْعِ بِهِ فَاضِلًا عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْمَعْدُومِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النُّمُوُّ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ حِرْمَانُ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْفِطْرَةِ .

وَقَوْلُهُ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } أَيْ صَادِرَةً عَنْ غِنًى ، فَالظَّهْرُ فِيهِ مَقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْقَلْبِ الْغَيْبُ ( وَهُوَ ) أَيْ الْحَدِيثُ ( حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِهِ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ) اسْتِدْلَالًا بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ ، لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ إمَّا عَلَى مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " { إنَّمَا الصَّدَقَةُ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى } " وَإِمَّا عَلَى النَّدْبِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ " { أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ } " .
وَقَوْلُهُ ( وَقُدِّرَ الْيَسَارُ بِالنِّصَابِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النُّمُوُّ ) أَيْ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ بِمَالٍ نَامٍ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ ، وَالنُّمُوُّ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَكُونُ وُجُوبُهُ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ كَالزَّكَاةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ ) يُشِيرُ إلَى وُجُودِ نَصِيبٍ قِيلَ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : نِصَابٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ النَّمَاءُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَنِصَابٌ يَجِبُ بِهِ أَحْكَامٌ أَرْبَعَةٌ : حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ ، وَوُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النَّمَاءُ لَا بِالتِّجَارَةِ وَلَا بِالْحَوْلِ .
وَنِصَابٌ يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ السُّؤَالِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ عِنْدَ بَعْضٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا .

قَالَ ( يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى } " الْحَدِيثَ ( وَ ) يُخْرِجُ عَنْ ( أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ ) لِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ ، وَهِيَ أَمَارَةُ السَّبَبِيَّةِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتُهُ ، وَلِهَذَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُهُ وَهُوَ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ ( وَمَمَالِيكِهِ ) لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانُوا لِلْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ لِلصِّغَارِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ .

وَقَوْلُهُ ( يُخْرِجُ ذَلِكَ ) أَيْ الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ ( عَنْ نَفْسِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى } وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَهِيَ ) أَيْ الْإِضَافَةُ ( أَمَارَةُ السَّبَبِيَّةِ ) لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ .
وَأَقْوَى وُجُوهِهِ إضَافَةُ الْمُسَبَّبِ إلَى سَبَبِهِ لِحُدُوثِهِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ أَمَارَةَ السَّبَبِيَّةِ لَكَانَ الْفِطْرُ سَبَبًا لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ يُقَالُ : صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتُهُ ) فَكَانَتْ إضَافَةً مَجَازِيَّةً ( وَلِهَذَا تَتَعَدَّدُ ) الصَّدَقَةُ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّأْسَ هُوَ السَّبَبُ دُونَ الْوَقْتِ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا مَعَ اتِّحَادِ الرَّأْسِ وَلَوْ كَانَ الرَّأْسُ هُوَ السَّبَبَ لَمَا كَانَ الْوُجُوبُ مُتَكَرِّرًا مَعَ اتِّحَادِهِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الرَّأْسَ إنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ وَهِيَ تَتَكَرَّرُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَصَارَ الرَّأْسُ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ وَصْفِهِ كَالْمُتَكَرِّرِ بِنَفْسِهِ حُكْمًا فَكَانَ السَّبَبُ هُوَ التَّكَرُّرَ حُكْمًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَمَالِيكِهِ ) بِالْجَرِّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَالْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ دُونَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ يُؤَدَّى مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : وَهُوَ الْقِيَاسُ

لَا يُؤَدَّى إلَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ أَدَّى مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ضَمِنَ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالصَّغِيرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ ، وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَكَمَا يُؤَدَّى عَنْ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ مَمَالِيكِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ .

( وَلَا يُؤَدِّي عَنْ زَوْجَتِهِ ) لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلِيهَا فِي غَيْرِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا يُمَوِّنُهَا فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ كَالْمُدَاوَاةِ .
( وَلَا عَنْ أَوْلَادِ الْكِبَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ ) لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ أَوْ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِثُبُوتِ الْإِذْنِ عَادَةً .قَالَ ( وَلَا يُؤَدِّي عَنْ زَوْجَتِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّيَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ زَوْجَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ } " .
وَهُوَ يُمَوِّنُ زَوْجَتَهُ ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْمُؤْنَةَ مُطْلَقَةً ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا كَامِلَةً لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهَا فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ كَالْمُدَاوَاةِ ، وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ الْوِلَايَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ .
( وَلَا ) يُؤَدِّي ( عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ ) بِأَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمْ وِلَايَةً فَصَارُوا كَالْأَجَانِبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ ) ظَاهِرٌ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا إذَا أَدَّى الزَّكَاةَ بِغَيْرِ إذْنِهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّدَقَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ صَرِيحًا ، وَفِي الْعَادَةِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهَا فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا عَادَةً ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْإِذْنِ صَرِيحًا

( وَلَا ) يُخْرِجُ ( عَنْ مُكَاتَبِهِ ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا الْمُكَاتَبِ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ .
وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وِلَايَةُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ فَيُخْرِجُ عَنْهُمَا .( وَلَا يُخْرِجُ عَنْ مُكَاتَبَةِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ ) وَلِأَنَّهُ لَا يُمَوِّنُهُ ( وَلَا الْمُكَاتَبُ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ ) لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَالًا .
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ .
وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ .
( وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وِلَايَةُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ ) لِأَنَّهَا لَا تُعْدَمُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَإِنَّمَا تَخْتَلُّ الْمَالِيَّةُ وَلَا عِبْرَةَ بِهَا هَاهُنَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِمْ

( وَلَا ) يُخْرِجُ ( عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلتِّجَارَةِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا تَنَافِي ، وَعِنْدَنَا وُجُوبُهَا عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِهِ كَالزَّكَاةِ فَيُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ

( وَلَا يُخْرِجُ عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلتِّجَارَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَوْلَى ) فَهُمَا حَقَّانِ ثَابِتَانِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ( فَلَا تَنَافِي ) بَيْنَهُمَا فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا ( وَعِنْدَنَا وُجُوبُهَا عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْعَبْدِ كَالزَّكَاةِ ) فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْهِ أَدَّى إلَى الثَّنْيِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا ثُنْيَا فِي الصَّدَقَةِ } " وَالثَّنْيُ مَكْسُورٌ مَقْصُورٌ : أَيْ لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَبَبُ الزَّكَاةِ فِيهِمْ الْمَالِيَّةُ وَسَبَبُ الصَّدَقَةِ مُؤْنَةُ رُءُوسِهِمْ وَمَحَلُّ الزَّكَاةِ بَعْضُ النِّصَابِ ، وَمَحَلُّ الصَّدَقَةِ الذِّمَّةُ ، فَإِذَا هُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ سَبَبًا وَمَحَلًّا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ لِأَنَّ الثَّنْيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَثْنِيَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُمَا شَيْئَانِ فَكَانَا كَنَفَقَةِ عَبِيدِ التِّجَارَةِ مَعَ الزَّكَاةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْعَ بَنَى هَذِهِ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُؤْنَةِ فَقَالَ : " { أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ } " وَهَذِهِ الْعَبِيدُ مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ لَا لِلْمُؤْنَةِ ، وَالنَّفَقَةُ الَّتِي يَغْرَمُهَا فِيهِمْ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنْهُمْ فَتَكُونُ سَاقِطَةَ الْعِبْرَةِ بِحُكْمِ الْقَصْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ هَذَا الْإِنْفَاقَ وَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ إلَّا بِالتِّجَارَةِ ، وَإِذَا سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ حُكْمًا فِي مَالِ التِّجَارَةِ أَشْبَهَ السُّقُوطَ حَقِيقَةً ، وَلَوْ سَقَطَتْ حَقِيقَةً بِالْإِبَاقِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ الْكِتَابَةِ سَقَطَتْ الصَّدَقَةُ لِعَدَمِ الْمُؤْنَةِ فَكَذَا هَذَا ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ سُقُوطَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ هَاهُنَا لِزَوَالِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُؤْنَةُ لَا لِتَنَافٍ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ .

( وَالْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَكَذَا الْعَبِيدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ الْأَشْقَاصِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ وَهُمَا يَرَيَانِهِمَا ، وَقِيلَ : هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ النَّصِيبُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ تَتِمَّ الرَّقَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ الْفِطْرَةَ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ } " الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِهِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلَا وُجُوبَ بِالِاتِّفَاقِ .

وَقَوْلُهُ ( وَالْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوِلَايَةَ وَالْمُؤْنَةَ الْكَامِلَتَيْنِ سَبَبٌ وَلَمْ يُوجَدَا .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْعَبِيدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ) يَعْنِي لَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ الْأَشْقَاصِ ) أَيْ الْكُسُورِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ الْعَبْدَيْنِ وَلَا تَجِبُ عَنْ الْخَامِسِ .
أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ جَبْرًا فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُسَمَّى عَبْدًا ، وَمُحَمَّدٌ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ جَبْرًا ، وَبِاعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَعْضِ مُتَكَامِلٌ ، وَإِلْحَاقُ أَبِي يُوسُفَ بِمُحَمَّدٍ هَاهُنَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَمَالِيكُ لِلْخِدْمَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّدَقَةُ فِي حِصَّتِهِ إذَا كَانَتْ كَامِلَةً فِي نَفْسِهَا ، وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعُذْرُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ .
فَأَمَّا وُجُوبُ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَنِي عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ لَا عَلَى الْمِلْكِ حَتَّى تَجِبُ الصَّدَقَةُ فِيمَا لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى شَيْءٍ عَمَّنْ هَذِهِ الرُّءُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَوَجْهُ قَوْلِهِ : إذَا كَانَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ( وَهُمَا يَرَيَانِهَا وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ ) أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي الْعَبِيدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ

الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا تَتِمُّ الرَّقَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ الْفِطْرَةَ ) أَيْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ( عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } " ( وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ } " الْحَدِيثَ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ ) وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ( وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِهِ ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ، لَا يُقَالُ إضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الذِّكْرِ ( وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ يَسْتَدِلُّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَرَضَ صَدَقَةً عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } " فَإِنَّ كَلِمَةَ " عَلَى " لِلْإِيجَابِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ } " فَإِنَّ الْوُجُوبَ عَلَى مَنْ خُوطِبَ بِالْأَدَاءِ وَهُمْ الْمَوَالِي ، وَكَلِمَةُ " عَلَى " فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِمَعْنَى عَنْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } أَيْ عَنْ النَّاسِ ( لَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلَا وُجُوبَ بِالِاتِّفَاقِ ) أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَلَا لِلْأَدَاءِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمَوْلَى عَنْ مَمْلُوكِهِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِ الْمَوْلَى الْأَدَاءَ عَنْهُ ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا

( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ ) مَعْنَاهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِهِ كَالنَّفَقَةِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَوْ أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ فَلَا تَقْبَلُ التَّوَقُّفَ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .

( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ ) حَقٌّ إذَا تَمَّ الْبَيْعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ اُنْتُقِضَ فَعَلَى الْبَائِعِ .
وَقَوْلُهُ ( مَعْنَاهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ ) قَالَ الْإِمَامُ حُمَيْدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ : هَذَا مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ لِأَنَّ مُضِيَّ كُلِّ يَوْمِ الْفِطْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ( وَقَالَ زُفَرُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ ) لِأَنَّ سَبَبَ الصَّدَقَةِ الْوِلَايَةُ الْكَامِلَةُ وَالْوِلَايَةُ الْكَامِلَةُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ ، لِأَنَّهُ إنْ أَجَازَهُ تَمَّ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ انْفَسَخَ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ ) وَهُوَ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي كَخِيَارِ الْعَيْبِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ بِمَعْنَى التَّصَدُّقِ ( مِنْ وَظَائِفِهِ ) أَيْ الْمِلْكِ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى الْمَالِكِ ( كَالنَّفَقَةِ ) فَإِنَّهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى الْمَالِكِ ( وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّهَا وَظِيفَةُ الْمِلْكِ لَكِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ ( لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ لَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَوْ أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ) وَكُلُّ مَا كَانَ مَوْقُوفًا فَالْمُبْتَنَى عَلَيْهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِي الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ التَّرَدُّدَ فِي الْفَرْعِ ( بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ) فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ لَكِنَّهَا تَثْبُتُ ( لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ ) أَيْ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَالِ ( فَلَا تَقْبَلُ التَّوَقُّفَ ) ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِطَرِيقِ التَّنَزُّلِ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ ، ( وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ

فَحَالَ الْحَوْلُ وَالْخِيَارُ بَاقٍ فَزَكَاتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ الْمِلْكُ لَهُ ، أَوْ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ ، أَوْ عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّ الْعُرُوضَ بَدَلُ الْعَبْدِ ، وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَى الْبَدَلِ كَحَوَلَانِهِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَذَا نُقِلَ عَنْ حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ .
وَقِيلَ : صُورَتُهُ رَجُلَانِ لِأَحَدِهِمَا عِشْرُونَ دِينَارًا وَلِآخَرَ عَرَضٌ يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ وَمَبْدَأُ حَوْلِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ ، فَفِي آخِرِ الْحَوْلِ بَاعَ صَاحِبُ الْعَرْضِ عَرْضَهُ مِنْ الْآخَرِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لِلْمُشْتَرِي ، فَازْدَادَ قِيمَةُ الْعَرْضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ ، ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ ، فَإِنْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ وَإِنْ تَقَرَّرَ لِلْمُشْتَرِي يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَنَا .

( فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ ) : ( الْفِطْرَةُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، الزَّبِيبُ بِمَنْزِلَةِ الشَّعِيرِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ صَاعٌ لِحَدِيثِ { أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا .
وَلَهُمَا فِي الزَّبِيبِ أَنَّهُ وَالتَّمْرُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ ، وَلَهُ أَنَّهُ وَالْبُرُّ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّهُ ، بِخِلَافِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْكَلُ وَيُلْقَى مِنْ التَّمْرِ النَّوَاةُ وَمِنْ الشَّعِيرِ النُّخَالَةُ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ ، وَمُرَادُهُ مِنْ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ ، أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ فَكَالشَّعِيرِ ، الْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ احْتِيَاطًا ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى الدَّقِيقِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ .

( فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ ) : لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَشُرُوطَهُ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَجِبُ عَنْهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَقَدْرُهُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ) رُوِيَ { عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَسْأَلُهُ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ الطَّعَامِ أَوْ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ أَوْ صَاعًا مِنْ الشَّعِيرِ } ( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ ( وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ أَدَاءَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ( وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا ) وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا فِي الزَّبِيبِ أَنَّهُ ) أَيْ الزَّبِيبَ ( وَالتَّمْرُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ التَّفَكُّهُ وَالِاسْتِحْلَاءُ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ التَّمْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُلْوٌ مَأْكُولٌ وَلَهُ عَجَمٌ كَمَا لِلتَّمْرِ نَوًى .
وَقَوْلُهُ ( وَمُرَادُهُ ) أَيْ مُرَادُ مُحَمَّدٍ أَوْ صَاحِبِ الْقُدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ : أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ ( مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ ) فَكَعَيْنِهِ ( وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا ) أَيْ فِي الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ ( الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ احْتِيَاطًا ) حَتَّى إذَا كَانَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا تَتَأَدَّى بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَبِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، وَأَمَّا لَوْ أَدَّى مَنًّا وَنِصْفَ مَنٍّ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَلَكِنْ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ أَدَّى نِصْفَهُ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ

بُرٍّ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِالِاحْتِيَاطِ وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ نَصَّ عَلَى دَقِيقٍ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَدُّوا قَبْلَ خُرُوجِكُمْ زَكَاةَ فِطْرِكُمْ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ دَقِيقِهِ } " وَقَوْلُهُ ( وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ مُرَاعَاةَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا بِالْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ لَمْ يُبَيِّنْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ ) فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الدَّقِيقِ تُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ تَزِيدُ ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ وَقْتُ الْبَذْرِ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى إنْ وَقَعَ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنْ الدَّقِيقِ إلَى أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ الْبُرِّ

وَالْخُبْزُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ هُوَ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَيْلًا وَالدَّقِيقُ أَوْلَى مِنْ الْبُرِّ ، وَالدَّرَاهِمُ أَوْلَى مِنْ الدَّقِيقِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ وَأَعْجَلُ بِهِ ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ تَفْضِيلُ الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْخِلَافِ إذْ فِي الدَّقِيقِ وَالْقِيمَةِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ( وَالصَّاعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ } " .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ } " وَهَكَذَا كَانَ صَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ ، وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ .

( وَالْخُبْزُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ هُوَ الصَّحِيحُ ) خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا أَدَّى مَنَوَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْحِنْطَةِ جَازَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَمِنْ الْخُبْزِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفَقِيرِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْخُبْزِ نَصٌّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الذُّرَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ حَتَّى لَوْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إبْطَالَ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْمُؤَدَّى ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالنُّصُوصِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ ذَلِكَ ( ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا فِيمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا يَعْدِلُ بِالْوَزْنِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَزْنِ فِيهِ ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ كَيْلًا .
قَالَ قُلْت لَهُ : لَوْ وَزَنَ الرَّجُلُ مَنَوَيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَأَعْطَاهُمَا الْفَقِيرَ هَلْ يَجُوزُ مِنْ صَدَقَتِهِ فَقَالَ : لَا فَقَدْ تَكُونُ الْحِنْطَةُ ثَقِيلَةً فِي الْوَزْنِ ، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيفَةً فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ نِصْفُ الصَّاعِ كَيْلًا لِأَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالتَّقْدِيرِ بِالصَّاعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمِكْيَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالدَّقِيقُ أَوْلَى مِنْ الْبُرِّ ) وَاضِحٌ .
قَالَ : ( وَالصَّاعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّاعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ مَا يَسَعُ فِيهِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ كُلُّ رِطْلٍ عِشْرُونَ

أَسْتَارًا وَالْإِسْتَارُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ } " ) .
وَهَذَا أَصْغَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ .
وَلَنَا مَا رَوَى ) أَنَسٌ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ } " وَهَكَذَا كَانَ صَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) وَكَانَ قَدْ فُقِدَ فَأَخْرَجَهُ الْحَجَّاجُ وَكَانَ يَمُنُّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ ، أَلَمْ أُخْرِجْ لَكُمْ صَاعَ عُمَرَ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ حَجَّاجِيًّا وَهُوَ صَاعُ الْعِرَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ ) جَوَابٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : يَعْنِي إنْ صَحَّ مَا رَوَيْتُمْ فَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ ، لِأَنَّ الصَّاعَ الْهَاشِمِيَّ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا ( وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ ) وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ الْعِرَاقِيَّ وَقَالَ " { صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ } " .

وَقَالَ ( وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ فِطْرَتُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَنْ مَاتَ فِيهَا مِنْ مَمَالِيكِهِ أَوْ وَلَدِهِ .
لَهُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفِطْرِ وَهَذَا وَقْتُهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ ، وَالِاخْتِصَاصُ الْفِطْرُ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ ( وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْرِجَ النَّاسُ الْفُطْرَةَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْمُصَلَّى } ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ ( فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَأَشْبَهَ التَّعْجِيلَ فِي الزَّكَاةِ ، وَلَا تَفْصِيلَ بَيْنَ مُدَّةٍ وَمُدَّةٍ هُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ ( وَإِنْ أَخَّرُوهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا ) لِأَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ وَقْتُ الْأَدَاءِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ) يَعْنِي تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ ، فَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَشْرُوطِ بِالشَّرْطِ لَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ ، حَتَّى إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إذَا جَاءَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَجَاءَ يَوْمُ الْفِطْرِ عَتَقَ الْعَبْدُ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى صَدَقَةُ فِطْرِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ بِلَا فَصْلٍ ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ فِي الْوُجُودِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ ) وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى عَكْسِهِ مَنْ مَاتَ فِيهَا مِنْ مَمَالِيكِهِ أَوْ وَلَدِهِ ) أَيْ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ .
وَعِنْدَهُ تَجِبُ لِتَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ حَيٌّ ( لَهُ أَنَّهُ ) أَيْ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ ( يَخْتَصُّ بِالْفِطْرِ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ } " ( وَهَذَا وَقْتُهُ ) أَيْ وَقْتُ الْفِطْرِ ( وَلَنَا أَنَّ ) الصَّدَقَةَ أُضِيفَتْ إلَى الْفِطْرِ .
وَ ( الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِصَاصُ لِلْفِطْرِ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ ) إذْ الْمُرَادُ فِطْرٌ يُضَادُّ الصَّوْمَ وَهُوَ فِي الْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ حَرَامٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِطْرَ كَانَ يُوجَدُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُسْتَحَبُّ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَخَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ وَنُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا كَالْأُضْحِيَّةِ ، وَقَالَ

خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ : يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَا فِطْرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ .
وَقَالَ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ : يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ بِمُضِيِّ النِّصْفِ قَرُبَ الْفِطْرُ الْخَاصُّ فَأَخَذَ حُكْمَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَوَجْهُ الصِّحَّةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَأَشْبَهَ التَّعْجِيلَ فِي الزَّكَاةِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ أَدَّى عَنْ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَخَّرُوهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْقُطْ ) يَعْنِي وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ( وَكَانَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا ) وَقَالَ الْحَسَنُ : تَسْقُطُ بِمُضِيِّ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ اُخْتُصَّتْ بِيَوْمِ الْعِيدِ فَكَانَتْ كَالْأُضْحِيَّةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ أَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ مَالِيَّةٌ وَهِيَ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَلِلْإِغْنَاءِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ ( فَلَا يَتَقَدَّرُ وَقْتُ الْأَدَاءِ فِيهَا ) بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَا تَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ إلَّا بِالْأَدَاءِ كَالزَّكَاةِ ( بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ ) فَإِنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ وَهِيَ لَمْ تُعْقَلْ قُرْبَةً ، وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الصَّوْمُ ضَرْبَانِ : وَاجِبٌ وَنَفْلٌ ، وَالْوَاجِبُ ضَرْبَانِ : مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَهُ النِّيَّةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِيهِ .
اعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ ، وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الشَّهْرُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ ، وَسَبَبُ الثَّانِي النَّذْرُ

كِتَابُ الصَّوْمِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ كِتَابَ الصَّوْمِ عَقِيبَ كِتَابِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ، وَأَخَّرَهُ عَنْ الزَّكَاةِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ لِلصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ ارْتِيَاضِ النَّفْسِ وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يَتَوَقَّفُ أَمْرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وُجُودًا أَوْ جَوَازًا كَمَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ كَذَلِكَ فَأَخَّرَ عَنْهَا حَطًّا لِرُتْبَةِ الْوَسِيلَةِ عَنْ الْمَقْصُودِ ، وَلَوْ قِيلَ : قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ بِالزَّكَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ أَوْلَى كَانَ أَسْهَلَ مَأْخَذًا ، وَيَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الصَّوْمِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَمَعْرِفَةِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ ، وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى أَكْثَرِهَا وَالْفَطِنُ يَكْتَفِي بِذَلِكَ .
قَالَ ( الصَّوْمُ ضَرْبَانِ : وَاجِبٌ ، وَنَفْلٌ ) ذَكَرَ التَّقْسِيمَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ لِيَسْهُلَ أَمْرُ التَّعْرِيفِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّوْمِ شَرْعًا تَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ وَوَاجِبٍ وَنَفْلٍ ، وَتَعْرِيفُهَا عَلَى وَجْهٍ يَشْمَلُهَا عَسِيرٌ ، فَإِذَا ذَكَرَ أَقْسَامَهَا سَهُلَ أَمْرُ تَعْرِيفِهَا ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ غَيْرَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْوَاجِبَ فِي لَفْظِ الْمُخْتَصَرِ ، وَأُرِيدَ بِهِ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ ، وَفِي ذَلِكَ الْمَحْذُورِ الْمَعْرُوفِ عَلَى مَذْهَبِنَا ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ بِالْوَاجِبِ الثَّابِتَ عَيْنًا فَيَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ ، وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ بِلَا تَشْدِيدٍ وَمَعْنَاهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِ جَاحِدِهِ ، وَمِنْهُ لَا تُكَفِّرْ أَهْلَ قِبْلَتِك أَيْ لَا تَدْعُهُمْ كُفَّارًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ كَصَوْمِ

رَمَضَانَ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ بِالِاتِّفَاقِ الْمَنْذُورُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى ، أَوْ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْعِبَادَةِ كَالنَّذْرِ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالنَّذْرِ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَلَمَّا خُصَّتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ بَقِيَ الْبَاقِي حُجَّةً مُجَوِّزَةً لَا مُوجِبَةً قَطْعًا كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنَةَ ، وَالْمُخَصِّصُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مُقَارِنًا أَوْ لَا ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } خُصَّ مِنْهُ الْمَجَانِينُ الصِّبْيَانُ وَأَصْحَابُ الْأَعْذَارِ وَلَمْ يَنْتَفِ بِهِ عَنْهُ إثْبَاتُ الْفَرِيضَةِ ، وَأَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ : إنَّ الْأَمْرَ لِتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالسَّبَبِ ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مِنْ الشَّارِعِ كَشُهُودِ الشَّهْرِ فِي رَمَضَانَ يَكُونُ الثَّابِتُ بِهِ فَرْضًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الْمَنْذُورِ فَرْقًا بَيْنَ إيجَابِ الرَّبِّ وَعَبْدِهِ ، ثُمَّ الْأَمْرُ الْوَارِدُ مِنْ الشَّارِعِ يَكُونُ لِأَدَاءِ ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِيُوفُوا مُفِيدًا لِلْفَرْضِيَّةِ ، كَمَا أَفَادَهَا لِيَصُمْهُ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهَذَا يُغْنِي عَنْ الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي .
وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ : إنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فَلَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ فَلَا يَكُونُ ثَمَّةَ تَخْصِيصٌ ، ( وَسَبَبُ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي الْفَرْضَ ( الشَّهْرُ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ ) وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ ( وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ ) فَإِنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَجَبَ صَوْمُهُ ، وَذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ ( وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ) لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ بِمَنْزِلَةِ عِبَادَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ زَمَانٌ لَا يَصْلُحُ

لِلصَّوْمِ لَا قَضَاءً وَلَا أَدَاءً وَهُوَ اللَّيَالِي فَصَارَ كَالصَّلَوَاتِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ فِي السَّبَبِيَّةِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَسَبَبُ الثَّانِي ) أَيْ الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ ( النَّذْرُ )

وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَتَفْسِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فَسَدَ الثَّانِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ } وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ ، أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ ، وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ وَالنِّيَّةُ لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ جَنْبَةُ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا ، وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اقْتِرَانُهَا بِالْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الْفَوَاتِ ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ : مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَنِصْفِهِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ قَبْلَهَا لِتَتَحَقَّقَ فِي الْأَكْثَرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ .
وَقَالَ

الشَّافِعِيُّ : فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ ، وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ : لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ .
وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ ، فَيُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ ، وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ ، وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ كَافٍ .

وَقَوْلُهُ ( وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ ) أَيْ مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ بِأَنْوَاعِهِ .
( وَسَنُبَيِّنُهُ ) أَيْ سَنُبَيِّنُ شَرْطَ الصَّوْمِ ( وَتَفْسِيرُهُ ) أَيْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَأَرَادَ بِبَيَانِ النِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ ، وَأَرَادَ بِبَيَانِ تَفْسِيرِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَالنِّيَّةُ لِتَعَيُّنِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ النِّيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ تَفْسِيرًا لِلنِّيَّةِ ، كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ وَهِيَ : أَنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ الزَّوَالِ تُجْزِيهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ( قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } " ) وَالصِّيَامُ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ ) ذَكَرَ فِي الْوَجِيزِ : الْغَزَالِيُّ يَجُوزُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ قَوْلَانِ وَهَذَا بِشَرْطِ خُلُوِّ أَوَّلِ الْيَوْمِ عَنْ الْأَكْلِ .
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ ( وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ } وَهَذَا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ ( وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ ) يَعْنِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ صِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ بَلْ نَوَى أَنَّ صِيَامَهُ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ قِيلَ : الصِّلَةُ إذَا تَعَقَّبَتْ فِعْلًا وَمَفْعُولًا وَأَمْكَنَ تَعَلُّقُهَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ دُونَ الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ : أَتَيْت فُلَانًا مِنْ بَغْدَادَ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " تَعَلَّقَتْ بِالْإِتْيَانِ لَا بِالْمَفْعُولِ كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ ، قِيلَ : قَوْلُهُ " فَلْيَصُمْ " يَحْتَمِلُ الصَّوْمَ اللُّغَوِيَّ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَكْلُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ " قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ ، وَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا رَوَاهُ لَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَاهُ فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَهُوَ مَعْنًى لِأَنَّهُ ( يَوْمُ صَوْمٍ ) لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ فَرْضٌ وَكُلُّ مَا هُوَ يَوْمُ صَوْمٍ ( يَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ وَهَذَا ) أَيْ تَوَقُّفُ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ ) يَحْتَمِلُ الْعَادَةَ وَالْعِبَادَةَ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُعَيِّنُهُ لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ النِّيَّةُ فَإِنَّهَا شُرِطَتْ ( لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى ) فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْ أَوَّلِهِ فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي أَكْثَرِهِ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا وُجِدَتْ مِنْ أَوَّلِهِ ، لِأَنَّ بِالْكَثْرَةِ تَتَرَجَّحُ جَنَبَةُ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ شَرْطًا ( بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ) حَيْثُ يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ فِيهِمَا وَلَا يُجْعَلُ الْأَكْثَرُ كَالْكُلِّ ( لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا ) مُخْتَلِفَةً كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ ( فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا

بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا ) لِئَلَّا يَخْلُوَ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْ النِّيَّةِ ، وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الصَّوْمُ رُكْنًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا وَالنِّيَّةُ الْمُتَأَخِّرَةُ فِيهِ جَائِزَةً لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَضَاءِ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ ، وَوَجْهُهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِمْسَاكَ ( يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ ) وَالْمَعْنَى بِصَوْمِ الْيَوْمِ مَا تَعَلَّقَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِمَجِيءِ الْيَوْمِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ قَدْ وَقَعَ عَنْهُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : إذَا كَانَ رُكْنًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اقْتِرَانُهَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً ، وَوَجْهُهُ : أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِحَالَةِ الشُّرُوعِ ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ إذَا قَارَنَتْ الْأَكْثَرَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْكُلِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ ( فَتَرَجَّحَتْ جَنَبَةُ الْفَوَاتِ ) وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ ) أَيْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ : إذَا لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ ( مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ) وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ) يَعْنِي فِي جَوَازِ النِّيَّةِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ( خِلَافًا لِزُفَرَ ) فَإِنَّهُ يَقُولُ : إمْسَاكُ الْمُسَافِرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لِلصَّوْمِ الْفَرْضِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ ، بِخِلَافِ إمْسَاكِ الْمُقِيمِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ مَقَامَهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُقِيمِ

وَالْمُسَافِرِ قَالَ ( وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ إلَخْ ) أَرَادَ بِهَذَا الضَّرْبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ .
قَوْلُهُ ( يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ ) أَيْ بِأَنْ يَقُولَ : نَوَيْت الصَّوْمَ ( وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ ) ظَاهِرٌ .
( وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ ) بِأَنْ يُنْوَى عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا .
قِيلَ : وَهَذَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ مُسْتَقِيمٌ ، فَأَمَّا فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَلَا لِأَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى مِنْ الْوَاجِبِ إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ ، ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِ ، فَحِينَئِذٍ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ .
وَأَجَابَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ : بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُوجِبُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَأَدَّى الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ ، وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ ، وَالْبَعْضُ بِالْمَجْمُوعِ ، لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ يَتَأَدَّى الْمَجْمُوعُ فَيَظْهَرُ لِكَلَامِهِ وَجْهُ صِحَّةٍ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ ) أَيْ لَا يَكُونُ صَائِمًا لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا ( وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ ) فِي قَوْلٍ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَقَعُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ ) دَلِيلٌ عَلَى النَّفْلِ أَيْ إنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ ( مُعَرَّضٌ عَنْ الْفَرْضِ ) لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايِرَةِ فَصَارَ كَإِعْرَاضِهِ بِتَرْكِ النِّيَّةِ ( فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ ) وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُعَرِّضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَيَجُوزُ ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ قُرْبَةٌ كَأَصْلِ الصَّوْمِ فَكَمَا لَا يَتَأَدَّى أَصْلُ الصَّوْمِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ ، وَإِذَا انْعَدَمَتْ الصِّفَةُ يَنْعَدِمُ الصَّوْمُ ضَرُورَةً .
( وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيِّنٌ فِيهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إذَا انْسَلَخَ شَعْبَانُ فَلَا صَوْمَ إلَّا رَمَضَانَ } وَكُلُّ مَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ

فِي مَكَان يُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ ) بِأَنْ يُقَالَ : يَا حَيَوَانُ ، كَمَا يُنَالُ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِأَنْ يُقَالَ : يَا إنْسَانُ .
وَاسْمُ عَلَمِهِ بِأَنْ قَالَ : يَا زَيْدُ ، لَا يُقَالُ الْمُتَوَحِّدُ فِي الْمَكَانِ إنَّمَا يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يُوجَدُ بِتَحْصِيلِهِ فَكَيْفَ يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْدُومًا لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يُنَالَ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِأَنْ نَوَى الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُنَالَ بِاسْمِ جِنْسِهِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي الْإِصَابَةَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ دُونَ نِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُتَوَحِّدَ يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ لَا بِاسْمِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ زَيْدًا لَا يُنَالُ بِاسْمِ عَمْرٍو ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ ) لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَقْبَلُهَا ( فَبَقِيَ الْأَصْلُ ) إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَضْلًا مُنَوَّعًا بُطْلَانُ الْأَصْلِ وَأَصْلُ الصَّوْمِ جِنْسُهُ ( وَذَلِكَ كَافٍ ) وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخَيُّرِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ .
وَعَنْهُ فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ .
قَالَ ( وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ ( وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا .
وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ } وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ خَارِجَ رَمَضَانَ هُوَ نَفْلٌ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَجُوزُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى إذْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى النَّشَاطِ ، وَلَعَلَّهُ يَنْشَطُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ .

( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ ) إنَّمَا ثَبَتَتْ ( كَيْ لَا يَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ ) إذْ الْقَضَاءُ لَازِمٌ لِلْحَالِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ ( وَتَخَيُّرُهُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
حَتَّى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْعَلَمَانِ فِي التَّحْقِيقِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : إذَا نَوَى الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ ، فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِ تَتَعَلَّقُ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ قَامَ السَّفَرُ مَقَامَهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ : وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ ، اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَقَوْلُهُ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ ) مِنْ الْمُسَافِرِ ( رِوَايَتَانِ ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ : يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، ( وَأَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ ) وَهُوَ إسْقَاطُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ وَهُوَ فِي الْفَرْضِ أَكْثَرُ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ : يَقَعُ عَمَّا نَوَى مِنْ النَّفْلِ ، لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ ، وَنِيَّتُهُ فِي شَعْبَانَ تَقَعُ عَمَّا نَوَى

نَفْلًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
وَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى عَنْ التَّطَوُّعِ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَقَالَ النَّاطِفِيُّ : قِيَاسُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى رِوَايَةِ نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَرِيضِ جَائِزًا عَنْ التَّطَوُّعِ .
قَالَ ( وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ) وَالْمُرَادُ مِنْ الثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ كَوْنُهُ مُسْتَحَقًّا فِيهَا مِنْ غَيْرِ اتِّصَالٍ لَهُ بِالْوَقْتِ قَبْلَ الْعَزْمِ عَلَى صَرْفِ مَالِهِ إلَى مَا عَلَيْهِ ( كَقَضَاءِ رَمَضَانَ ) وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْمُتْعَةِ وَكَفَّارَةِ رَمَضَانَ ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( لَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ ) .
وَقَوْلُهُ ( وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ ) أَيْ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ سَوَاءٌ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا ( خِلَافًا لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } ( وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ } عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ وَيَقُولُ : هَلْ عِنْدَكُنَّ مِنْ غَدَاءٍ ؟ فَإِنْ قُلْنَ لَا .
قَالَ : إنِّي إذًا لَصَائِمٌ } .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ .

قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا ، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ .وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ ) لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ } ( فَإِنْ رَآهُ صَامُوا ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ

( وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ تَطَوُّعًا ، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَقْضِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ قِيلَ : يَكُونُ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ ، وَقِيلَ : يَجْزِيهِ عَنْ الَّذِي نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ بِلَازِمِ كُلِّ صَوْمٍ ، وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رَوَيْنَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ يُكْرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ } الْحَدِيثَ ، التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ : وَكَذَا إذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا ، وَإِنْ أَفْرَدَهُ فَقَدْ قِيلَ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ وَقَدْ قِيلَ : الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ يُضْجَعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَصُومُهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِيرُ صَائِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَزِيمَتَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا نَوَى أَنَّهُ إنْ وَجَدَ غَدًا غَدَاءً يُفْطِرُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ .
وَالْخَامِسُ : أَنْ يُضْجَعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ يَصُومُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَعَنْ وَاجِبٍ آخَرَ ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ .
ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْجِهَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا ، وَأَصْلُ النِّيَّةِ لَا يَكْفِيهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ تَطَوُّعًا غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْقَضَاءِ لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا ، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْهُ وَعَنْ التَّطَوُّعِ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ نَاوٍ لِلْفَرْضِ مِنْ وَجْهٍ ، ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ جَازَ عَنْ نَفْلِهِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِأَصْلِ النِّيَّةِ ، وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَهُ لِدُخُولِ الْإِسْقَاطِ فِي عَزِيمَتِهِ مِنْ وَجْهٍ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا ) يَوْمُ الشَّكِّ هُوَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ شَعْبَانَ أَوْ أَوَّلَ رَمَضَانَ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } " ) وَقَوْلُهُ ( وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ خَمْسَةً ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَإِمَّا أَنْ يَقْطَعَ فِي النِّيَّةِ أَوْ يَتَرَدَّدَ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَلَيْهِ أَوَّلًا ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِيِّ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، فَالْوَقْتِيُّ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَغَيْرُهُ هُوَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَا عَلَيْهِ فَهُوَ الثَّالِثُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّرَدُّدُ أَصْلَ النِّيَّةِ أَوْ فِي وَصْفِهَا ، فَالْأَوَّلُ الرَّابِعُ وَالثَّانِي الْخَامِسُ .
وَهَذَا إذَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَا يَكُونُ بِنَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فِي التَّطَوُّعِ ، وَالْوَاجِبُ الْآخَرُ ، أَمَّا إذَا فَرَّقَ فَالْوُجُوهُ سَبْعَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُمَا مُسْتَقِلَّيْنِ ( فَالْأَوَّلُ أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } لَا يُقَالُ لَا يُصَامُ صِيغَةُ نَفْيٍ ، وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِتَحَقُّقِهِ حِسًّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ .
( وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ) بِمَعْنَى فِيمَا فِيهِ بِرٌّ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إنْ ظَهَرَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ ) لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَظْنُونِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الظَّنُّ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِيَقِينٍ ،

وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ أَدَّاهُ فَشَرَعَ فِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَدَّاهُ ، وَأَمَّا هَهُنَا فَلَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا شُرِعَ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ عِنْدَهُ لَا مُلْزَمًا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ .
( وَالثَّانِي أَنْ يُنْوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لَا يُصَامُ " الْحَدِيثَ ( إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ) لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إنْ ظَهَرَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ) فَيَكُونُ نَاقِصًا وَمَا فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ ، فَلَا يَتَأَدَّى الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ ، كَمَا لَوْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ ) أَيْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَا تَتَقَدَّمُوا عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ } إنَّمَا هُوَ ( بِصَوْمِ رَمَضَانَ ) لِمَا سَنَذْكُرُ ، وَهُوَ ( لَا يُوجَدُ بِكُلِّ صَوْمٍ بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُلَازِمُ كُلَّ صَوْمٍ ) فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ صَوْمُ وَاجِبٍ آخَرَ مَكْرُوهًا أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْكَرَاهَةَ لِتَنَاوُلِ عُمُومِ نَفْيِ حَدِيثٍ آخَرَ .
وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ : لِصُورَةِ النَّهْيِ لَا لِحَقِيقَةِ النَّهْيِ ، لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي التَّقَدُّمِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِثْلَ صَوْمِهِ رَمَضَانَ فِي الْفَرْضِيَّةِ أَثْبَتْنَا فِيهِ نَوْعَ كَرَاهَةٍ .
( وَالثَّالِثُ : أَنْ يُنْوَى التَّطَوُّعُ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لَا

رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " إلَّا تَطَوُّعًا " .
( وَهُوَ ) بِإِطْلَاقِهِ ( حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُكْرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ ) بِأَنْ لَا يَكُونَ مُوَافِقًا لِصَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا يَصُومُهُ رَجُلٌ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الصَّوْمَ } وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْجَوَازِ بِنَاءً .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ } الْحَدِيثَ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ ) وَفِي ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ الشَّهْرِ وَقْتٌ لِلتَّطَوُّعِ لَا لِصَوْمِ الشَّهْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّقَدُّمُ بِالتَّطَوُّعِ .
فَإِنْ قِيلَ : صَوْمُ رَمَضَانَ هُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقَدُّمُ فِيهِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ قَبْلَ الشَّهْرِ ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ مَثَلًا : قَدَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ عَلَى وَقْتِهَا ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ نَوَاهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ } وَحُكْمُ الْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ مَا وَصَلَ إلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ بِأَنَّ الْقَلِيلَ مَعْفُوٌّ فَيَجُوزُ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفَى ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَفْرَدَهُ ) يَعْنِي لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا يَصُومُهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ( الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ ) وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى : ( الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ ) وَيَقُولَانِ : لَأَنْ

نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ( وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ ) احْتِيَاطًا عَنْ وُقُوعِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ ( وَيُفْتِيَ الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ ) أَيْ بِالِانْتِظَارِ ( إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ ) أَيْ تُهْمَةِ الرَّوَافِضِ ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَنْ رَمَضَانَ .
وَقَالَ الرَّوَافِضُ : يَجِبُ أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَوْ أَفْتَى الْعَامَّةَ بِأَدَاءِ النَّفْلِ فِيهِ عَسَى أَنْ يَقَعَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَيْثُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ ، وَهُوَ أَطْلَقَهُ فَيُفْتِيهِمْ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ نَفْيًا لِهَذِهِ التُّهْمَةِ ( وَالرَّابِعُ : أَنْ يُضَجِّعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ ) التَّضْجِيعُ فِي النِّيَّةِ التَّرْدِيدُ فِيهَا ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
( وَالْخَامِسُ : أَنْ يُضَجِّعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ ) وَقَوْلُهُ ( بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ ) وَهُمَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَوَاجِبٍ آخَرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، إلَّا أَنَّ كَرَاهَةَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ نِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ أَشَدُّ مِنْ الْآخَرِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إنْ ظَهَرَ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا ) يَعْنِي لَا مُلْزِمًا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عَلَى تَقْدِيرٍ وَعَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ عَلَى تَقْدِيرٍ فَكَانَ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ ) ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ ( لِمَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ

قَالَ ( وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ صَامَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إنْ أَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ حَقِيقَةً لِتَيَقُّنِهِ بِهِ وَحُكْمًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ ، يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ ) ظَاهِرٌ ، وَهَلْ يَقْبَلُهَا أَوْ لَا لَمْ يَذْكُرْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَهُوَ مِنْ الْمِصْرِ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَا يُوجِبُ الْقَبُولَ وَهُوَ الْعَدَالَةُ وَالْإِسْلَامُ ، وَمَا يُوجِبُ الرَّدَّ ، وَمُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الرَّدِّ لِأَنَّ الْفِطْرَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ جَائِزٌ بِعُذْرٍ كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ قَبْلَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ بِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ فَكَانَ الْمَصِيرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ بِعُذْرٍ أَوْلَى وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَهُوَ مِنْ الْمِصْرِ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً أَوْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يُذْكَرُ وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ ) فَإِنَّهَا يُطْلَقُ الْقَضَاءُ بِرَدِّهَا شَرْعًا كَمَا فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ ، وَهِيَ هَهُنَا مُتَمَكِّنَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى غَيْرَهُ فِي الْمَنْظَرِ ظَاهِرًا وَالنَّظَرِ وَحِدَّةِ الْبَصَرِ وَدِقَّةِ الْمَرْئِيِّ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ ، وَيَكُونُ غَالَطَ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ .
( وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ) لِأَنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ ، وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا التَّدَاخُلُ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَالْخَاطِئِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ الْمَوْتَ لِلشُّبْهَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ، قَالَ : بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الرَّدِّ لِانْتِفَاءِ مَا يُورِثُهَا وَتَحَقُّقِ الرَّمَضَانِيَّةِ لِتَيَقُّنِهِ بِالرُّؤْيَةِ ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ يَوْمَ الصَّوْمِ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ } الْحَدِيثَ

وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْيَوْمِ يَوْمًا يَصُومُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ لَا أَدَاءً وَلَا قَضَاءً ، فَكَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَوْمَ فِطْرٍ فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً ، وَعَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } أُورِدَتْ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ قَالَ : بِعَدَمِ وُجُوبِهَا ( وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ ) لِجَوَازِ وُقُوعِ الْغَلَطِ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ فِي النَّاسِ يَتَفَقَّدُونَ الْهِلَالَ فَقَالَ وَاحِدٌ : الْهِلَالُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَمْسَحَ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَيْنَ الْهِلَالُ ؟ قَالَ : فَقَدْته .
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَعَلَّ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ حَاجِبِك قَامَتْ فَحَسِبْتهَا هِلَالًا ( وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ ) يَعْنِي بَعْدَ الثَّلَاثِينَ ( لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ ) وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ }

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ ، فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْإِخْبَارِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْمٌ أَوْ غُبَارٌ أَوْ نَحْوُهُ ، وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ مَا تَابَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَشْتَرِطُ الْمَثْنَى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ } ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يُفْطِرُونَ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَيَثْبُتُ الْفِطْرُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهَا ابْتِدَاءً كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَرَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ) لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوهِمُ الْغَلَطَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ جَمْعًا كَثِيرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْشَقُّ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَيَتَّفِقُ لِلْبَعْضِ النَّظَرُ ، ثُمَّ قِيلَ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُونَ

رَجُلًا اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إلَخْ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا قَالَ ( غَيْرُ مَقْبُولٍ ) وَلَمْ يَقُلْ مَرْدُودٍ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ التَّوَقُّفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وَقَوْلُهُ ( وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ وَهُوَ قَوْلُهُ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ ) أَيْ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ ) دُونَ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَمِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصُهُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ ( وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَشْتَرِطُ الْمُثَنَّى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ ( وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ يَعْنِي هِلَالَ رَمَضَانَ فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا تَرَى .
وَقَوْلُهُ ( وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ) يَعْنِي وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ ( لَا يُفْطِرُونَ ) وَمَبْنَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَثْبُتُ ضِمْنًا ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ابْتِدَاءً كَبَيْعِ الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ .
وَقَوْلُهُ ( كَاسْتِحْقَاقِ الرَّثِّ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ ) إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِمَا دُونَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا لَمْ

تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ ) أَيْ لَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ ( وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ : أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ وَإِلَيْهِ ) أَيْ إلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ( الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ ) وَلَفْظُهُ : فَإِنْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالْمِصْرِ ، وَنَفْيُ الْعِلَّةِ فِي عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهَا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ ( وَكَذَا إذَا كَانَ فِي مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ ) تُقْبَلُ .

قَالَ ( وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَمْ يُفْطِرْ ) احْتِيَاطًا ، وَفِي الصَّوْمِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ ، وَالْأَضْحَى كَالْفِطْرِ فِي هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ التَّوَسُّعُ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ إلَّا شَهَادَةَ جَمَاعَةٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ) كَمَا ذَكَرْنَا .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ ) وَاضِحٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ) وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَهُوَ ظُهُورُ وَقْتِ الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ ) دَلِيلُ الْأَصَحِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ) يَعْنِي فِي هِلَالِ الْفِطْرِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إلَخْ .

قَالَ ( وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } إلَى أَنْ قَالَ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } وَالْخَيْطَانِ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ ( وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ ) لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ : هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِوُرُودِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ فِي الشَّرْعِ لِتَتَمَيَّزَ بِهَا الْعِبَادَةُ مِنْ الْعَادَةِ ، وَاخْتَصَّ بِالنَّهَارِ لِمَا تَلَوْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوِصَالُ كَانَ تَعْيِينُ النَّهَارِ أَوْلَى لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْعِبَادَةِ ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ .

وَقَوْلُهُ ( وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي ) قِيلَ الْعِبْرَةُ لِأَوَّلِ طُلُوعِهِ وَقِيلَ لِاسْتِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : الْأَوَّلُ أَحْوَطُ ، وَالثَّانِي : أَرْفَقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخَيْطَانِ ) يَعْنِي أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ هُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنْ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَهُوَ الْمُسْتَطِيرُ : أَيْ الْمُنْتَشِرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ كَالْخَيْطِ الْمَمْدُودِ ، وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ وَهُوَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَالْكَاذِبُ وَذَنَبُ السِّرْحَانِ شُبِّهَا بِخَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَمَوْضِعُهُ عِلْمُ الْبَيَانِ ، وَاكْتَفَى بِبَيَانِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ بِقَوْلِهِ { مِنْ الْفَجْرِ } عَنْ بَيَانِ الْأَسْوَدِ ، لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي أَحَدِهِمَا بَيَانٌ فِي الْآخَرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ ) قِيلَ : هُوَ مَنْقُوضٌ طَرْدًا وَعَكْسًا ، أَمَّا عَكْسًا فَبِأَكْلِ النَّاسِي فَإِنَّ صَوْمَهُ بَاقٍ وَالْإِمْسَاكَ فَائِتٌ ، وَأَمَّا طَرْدًا فِيمَنْ أَكَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِمَا أَنَّ النَّهَارَ اسْمٌ لِزَمَانٍ هُوَ مَعَ الشَّمْسِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مَوْجُودٌ وَالصَّوْمُ فَائِتٌ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ : بِمَنْعِ فَوْتِ الْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِهِ الْإِمْسَاكُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ .
وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهَارِ النَّهَارُ الشَّرْعِيُّ ، وَهُوَ الْيَوْمُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } الْآيَةَ .
وَعَنْ الْحَائِضِ بِأَنَّ الْحَائِضَ خَرَجَتْ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ شَرْعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ ) الْمُرَادُ بِالطَّهَارَةِ مِنْهُمَا عَدَمُهُمَا لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الِاغْتِسَالُ .

قَالَ ( وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا تِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك } وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يَغْلِبُ النِّسْيَانُ وَلَا مُذَكِّرَ فِي الصَّوْمِ فَيَغْلِبُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَضِّلْ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَعُذْرُ النِّسْيَانِ غَالِبٌ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَالْإِكْرَاهَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ .

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ وَتَفْسِيرِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عِنْدَ إبْطَالِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَارِضٌ عَلَى الصَّوْمِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مُؤَخَّرًا ( وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ ) وَوُجُودُ مُضَادِّ الشَّيْءِ مُعْدِمٌ لَهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الضِّدَّيْنِ مَعًا ( فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ " { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا : تِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك } قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارِضٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ } فَإِنَّ الصِّيَامَ إمْسَاكٌ وَقَدْ فَاتَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ رُكْنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَهُ لَا مَحَالَةَ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى إيفَائِهِ كَمَا كَانَ فَيَجِبُ تَرْكُهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْكِتَابِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فَكَانَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ فَيُعْمَلُ بِهِ ، وَيُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى { أَتِمُّوا الصِّيَامَ } عَلَى حَالَةِ انْتِفَاءِ الْإِتْمَامِ عَمْدًا لِأَنَّ الْإِتْمَامَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَيَكُونُ ضِدُّهُ الْمُفَوِّتُ لَهُ كَذَلِكَ ، وَالنِّسْيَانُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِيٍّ فَلَا يَفُوتُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَكَيْفَ تَعَدَّى إلَى الْجِمَاعِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ ) يَعْنِي ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا نَظِيرٌ لِلْآخَرِ فِي كَوْنِ الْكَفِّ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا رُكْنًا فِي بَابِ الصَّوْمِ ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ

فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ) .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا ) بِأَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلشُّرْبِ فَتَمَضْمَضَ فَسَبَقَهُ الْمَاءُ فَدَخَلَ حَلْقَهُ ( أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) عِنْدَنَا ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي ) فَإِنَّ النَّاسِيَ قَاصِدٌ الشُّرْبَ دُونَ الْخَاطِئِ ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُ الْقَاصِدِ مَعْفُوًّا فَفِعْلُ غَيْرِ الْقَاصِدِ أَوْلَى ( وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ ) أَيْ الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَكَذَا الْإِلْحَاقُ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّسْيَانِ ، فَإِنَّ النِّسْيَانَ غَالِبُ الْوُجُودِ ، وَالْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ لَيْسَا كَذَلِكَ ( وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ ) بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، ( فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ ) فَإِنَّ الْمُقَيَّدَ إذَا صَلَّى قَاعِدًا بِعُذْرِ الْقَيْدِ قَضَى بِخِلَافِ الْمَرِيضِ

قَالَ ( فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ } ، وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ ( وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَأَمْنَى ) لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ إذَا أَمْنَى وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ عَلَى مَا قَالُوا ( وَلَوْ ادَّهَنَ لَمْ يُفْطِرْ ) لِعَدَمِ الْمُنَافِي ( وَكَذَا إذَا احْتَجَمَ ) لِهَذَا وَلِمَا رَوَيْنَا ( وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ وَالدَّمْعُ يَتَرَشَّحُ كَالْعَرَقِ وَالدَّاخِلُ مِنْ الْمَسَامِّ لَا يُنَافِي كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ( وَلَوْ قَبَّلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمٌ ) يُرِيدُ بِهِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
( وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَوُجُودِ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا ، أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ ( وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ ) أَيْ الْجِمَاعَ أَوْ الْإِنْزَالَ ( وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ ) لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ وَرُبَّمَا يَصِيرُ فِطْرًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنْ أَمِنَ يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ وَأُبِيحَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ تُعْتَبَرُ عَاقِبَتُهُ وَكُرِهَ لَهُ ، وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ .

( فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامُ : الْقَيْءُ ، وَالْحِجَامَةُ ، وَالِاحْتِلَامُ } وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِعَدَمِ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِعَدَمِ الْإِنْزَالِ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ ، أَعْنِي بِمَسِّ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ ( وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى ) وَجْهِ ( امْرَأَةٍ ) أَوْ فَرْجِهَا ( فَأَمْنَى ) أَيْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ لَا يُفْطِرُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ صُورَةً وَلَا مَعْنًى ( فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ ) فِي امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ إذَا أَمْنَى ( وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ ) يَعْنِي إذَا عَالَجَ ذَكَرَهُ بِكَفِّهِ حَتَّى أَمْنَى لَمْ يُفْطِرْ ( عَلَى مَا قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ ، وَأَبِي الْقَاسِمِ لِعَدَمِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ : الصَّائِمُ إذَا عَالَجَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَمْنَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْجِمَاعُ مَعْنًى .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْجِمَاعِ يَعْتَمِدُ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى مَا قُلْنَا وَلَمْ يُوجَدْ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ وُجِدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجِمَاعِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ ، وَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ الشَّهْوَةَ ؟ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ وَإِنْ أَرَادَ تَسْكِينَ مَا بِهِ مِنْ الشَّهْوَةِ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ وَبَالٌ } ( وَلَوْ ادَّهَنَ أَوْ احْتَجَمَ لَمْ يُفْطِرْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي ) وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ } الْحَدِيثَ ( وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ ) وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ ) فَمَا وَجَدَ فِي حَلْقِهِ مِنْ طَعْمِهِ إنَّمَا هُوَ أَثَرُهُ لَا

عَيْنُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَنْفَذٌ لَمَا خَرَجَ الدَّمْعُ .
أَجَابَ بِأَنَّ الدَّمْعَ يَرْتَشِحُ كَالْعَرَقِ : يَعْنِي أَنَّهُ دَاخِلٌ مِنْ الْمَسَامِّ وَالدَّاخِلُ مِنْهَا لَا يُنَافِي ( كَمَا إذَا اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ) فَوَجَدَ بُرُودَةَ الْمَاءِ فِي كَبِدِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مَعْبَدُ بْنُ هَوْذَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ وَقْتَ النَّوْمِ وَلِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ } " .
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ إلَى صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالِاكْتِحَالِ فِيهِ .
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى الْأَوَّلِ ( وَلَوْ قَبَّلَ وَلَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ ) فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِالْقُبْلَةِ بِالشَّهْوَةِ وَكَذَا بِالْمَسِّ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ( لِأَنَّ حُكْمَهُمَا أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ ) يَثْبُتُ بِسَبَبِ الْجِمَاعِ ، كَمَا يَثْبُتُ بِهِ ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، أَمَّا فَسَادُ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ إمَّا صُورَةً أَوْ مَعْنًى لَا بِسَبَبِهِ حَتَّى لَمْ يَفْسُدْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ ) أَيْ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ ( وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ ) وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُبَاشَرَةِ ( وَوُجُودُ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ ) وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَعْلَى عُقُوبَاتِ الْمُفْطِرِ لِإِفْطَارِهِ

فَلَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الْجِنَايَةِ نِهَايَتَهَا وَلَمْ تَبْلُغْ نِهَايَتَهَا لِأَنَّ هَهُنَا جَنَابَةٌ مِنْ جِنْسِهَا أَبْلَغُ مِنْهَا ، وَهِيَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَرْجِعِ هَذَا الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ بِهِ الْأَمْنَ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ بِهِ الْأَمْنَ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ ) أَيْ فِي جَوَازِ الْقُبْلَةِ فِي حَالِ أَمْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَدَمِهِ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ إلَخْ ( وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ ) وَهِيَ أَنْ يُعَانِقَهَا مُتَجَرِّدَيْنِ وَيَمَسَّ ظَاهِرَ فَرْجِهِ ظَاهِرَ فَرْجِهَا ( مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ وَلَا يُكْرَهُ إذَا أَمِنَ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ ) لِلصَّائِمِ ( لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ ) .

( وَلَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ ذُبَابٌ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ ) وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ لِإِمْكَانِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ ( وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ ) وَقَالَ زُفَرُ : يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ ، وَالْفَاصِلُ مِقْدَارُ الْحِمَّصَةِ وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ ( وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ سِمْسِمَةً بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَهَا ابْتِدَاءً يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهَا تَتَلَاشَى وَفِي مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ .

وَقَوْلُهُ ( وَاخْتَلَفُوا ) يَعْنِي الْمَشَايِخَ ( فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَطَرُ يُفْسِدُ وَالثَّلْجُ لَا يُفْسِدُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَلَى الْعَكْسِ ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ بِإِفْسَادِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِحُصُولِ الْمُفْطِرِ مَعْنًى وَ ( لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ ، وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ وَقَالَ زُفَرُ : يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ ) وَلَوْ أَكَلَ الْقَلِيلَ مِنْ خَارِجٍ أَفْطَرَ عَلَى مَا يُذْكَرُ فَكَذَا إذَا أَكَلَ مِنْ فَمِهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ ( بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ ) وَلَوْ ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَمْ يَفْسُدْ ( بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ ) فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنًا ( وَالْفَاصِلُ ) إنْ كَانَ ( مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ ) فَهُوَ كَثِيرٌ ( وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ ) بِخِلَافِ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي بَابِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ قَدْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَعْفُوٌّ بِالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى لَمْ يُفْتَرَضْ الِاسْتِنْجَاءُ وَاكْتُفِيَ فِي إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ ، وَهُوَ لَا يُقْلِعُ النَّجَاسَةَ فَصَارَ قَدْرُ الدِّرْهَمِ مَعْفُوًّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْرُ الْحِمَّصَةِ لَا يَبْقَى فِي فُرَجِ الْأَسْنَانِ غَالِبًا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالرِّيقِ فَصَارَ كَثِيرًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ ) فَصَارَ كَاللَّحْمِ الْمُنْتِنِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ ) أَيْ يَكْرَهُهُ فَصَارَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ .

( فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ } وَيَسْتَوِي فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ فَمَا دُونَهُ فَلَوْ عَادَ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ حَتَّى انْتَقَضَ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْفِطْرِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَكَذَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَذَّى بِهِ عَادَةً ، إنْ أَعَادَهُ فَسَدَ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَتَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْفِطْرِ .
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ فِي الْإِدْخَالِ ( فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا مِلْءَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْقِيَاسُ مَتْرُوكٌ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَفْسُدُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا ثُمَّ إنْ عَادَ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ الْخُرُوجِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ : أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعَنْهُ : أَنَّهُ يَفْسُدُ فَأَلْحَقَهُ بِمِلْءِ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ .

قَالَ ( فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ ) ذَرَعَهُ الْقَيْءُ سَبَقَ إلَى فِيهِ وَغَلَبَهُ فَخَرَجَ وَهُوَ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ } الْحَدِيثَ ) وَقَاءَ وَاسْتَقَاءَ مَمْدُودَانِ ، يُقَالُ : قَاءَ مَا أَكَلَ : إذَا أَلْقَاهُ ، وَاسْتَقَاءَ وَتَقَيَّأَ تَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَّا فِي مَوَاضِعَ نُنَبِّهُ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَيَسْتَوِي فِيهِ ) أَيْ فِي الْقَيْءِ الَّذِي ذَرَعَهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَوْ عَادَ ) يَعْنِي مَا ذَرَعَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ ) قِيلَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ خُرُوجِهِ لَا يُمْكِنُ عَنْ عَوْدِهِ فَجُعِلَ عَفْوًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ ) تَعْلِيلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُهُ ( وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ ) تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَقَاءَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ كَمَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ } .
وَقَوْلُهُ ( فَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يُرِيدُ بِهِ عَدَمَ الْخُرُوجِ وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ ( لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ ) وَهُوَ صُنْعُ الِاسْتِقَاءِ وَصُنْعُ الْإِعَادَةِ

قَالَ : ( وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِعَدَمِ الْمَعْنَى( وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ ) بِإِيصَالِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمَعْنَى ) أَيْ مَعْنَى الْفِطْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِي الْإِفْطَارِ فَيَحْتَاجُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي نُقْصَانِهَا شُبْهَةَ الْعَدَمِ وَهِيَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : تَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ .

( وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ ( وَالْكَفَّارَةُ ) لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ فِي الْمَحَلَّيْنِ اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجِبُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ ( وَلَوْ جَامَعَ مَيْتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ ، ثُمَّ عِنْدَنَا كَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلٍ : لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ ، وَفِي قَوْلٍ : تَجِبُ ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ وَقَدْ شَارَكْته فِيهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ جَامَعَ عَمْدًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ وَلَمْ يُنْزِلْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَانْتِفَاءُ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ ، وَالِاغْتِسَالُ يَجِبُ بِالِاحْتِيَاطِ .
فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا .
فَالْجَوَابُ : أَنَّا نَمْنَعُ انْتِفَاءَ مَعْنَى الْجِمَاعِ لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَ الْإِنْزَالِ ، وَالْإِنْزَالُ شِبَعٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ لُقْمَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشِّبَعُ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ ) وَلَوْ جَامَعَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ( اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ ) فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ جِنَايَةً كَامِلَةً فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحَدِّ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ( لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ ) إنَّمَا يَدَّعِي أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ كَامِلَةٌ انْتِفَاءُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ، ( وَلَوْ جَامَعَ مَيِّتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ) فَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ فَاتَ صُورَةُ الْكَفِّ فَصَارَ كَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ السَّبَبَ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَهُ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصُّورَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعْتَمِدُ

الْجِنَايَةَ الْكَامِلَةَ ( وَتَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ ) أَلَا تَرَى أَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عَنْهَا ، فَإِنْ حَصَلَ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ أَوْ لِفَرْطِ السَّفَهِ فَهُوَ كَمَنْ يَتَكَلَّفُ لِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ بِيَدِهِ لَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ ) وَالْمَعْنَى : أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ أَوْقَعَهَا الزَّوْجُ فِيهَا فَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهَا كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ .
( وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الْإِنَاثَ كَالذُّكُورِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ } ( وَلِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ جِنَايَةُ إفْسَادِ الصَّوْمِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ ) لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ ( وَقَدْ شَارَكَتْهُ فِي ذَلِكَ ) فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ وَلَا يَجْرِي فِيهِمَا التَّحَمُّلُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الثَّانِي

( وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ أَوْ يَتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ ، وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا عُرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ .

( وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ ) بَيَانُهُ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَائِبًا نَادِمًا وَالتَّوْبَةُ رَافِعَةٌ لِلذَّنْبِ بِالنَّصِّ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّارَةَ ، فَعُلِمَ أَنَّهَا ثَبَتَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ ) وَهُوَ الْإِفْطَارُ صُورَةً بِإِيصَالِ شَيْءٍ إلَى جَوْفٍ ، وَمَعْنًى بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ .
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ الْمُفْطِرَ ، وَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْت فِي رَمَضَانَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً } وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَمَّا أَفْطَرَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْحَالِ ( وَ ) الْجِنَايَةُ بِالْإِفْطَارِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ ( قَدْ تَحَقَّقَتْ ) .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ انْحِصَارِ الْكَفَّارَةِ فِي الْوِقَاعِ وَمُدَّعَاكُمْ الْجِنَايَةَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ ذَلِكَ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَثَابِتٌ بِمُسَاعَدَةِ الْخَصْمِ لَكِنَّهُ يَقُولُ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ وَنَحْنُ نَنْفِيهِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بِنَفْسِ الْوِقَاعِ لِأَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَلْزَمَ الْكَفَّارَةَ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْوِقَاعِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وِقَاعٌ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وِقَاعٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِجِنَايَةٍ فَلَا يَسْتَلْزِمُهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ بِالْإِفْطَارِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِجِهَةٍ خَاصَّةٍ ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ أُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي التَّقْرِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ تَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ الْإِعْتَاقَ كَفَّارَةً لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لَهَا كَجِنَايَةِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا ، حَيْثُ لَا يَرْتَفِعَانِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ بَلْ بِالْحَدِّ .

ثُمَّ قَالَ ( وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِحَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْت وَأَهْلَكْت .
فَقَالَ : مَاذَا صَنَعْت .
قَالَ : وَاقَعْت امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
فَقَالَ : لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ ، فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
فَقَالَ : وَهَلْ جَاءَنِي مَا جَاءَنِي إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
فَقَالَ : لَا أَجِدُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْتَى بِفَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ .
وَيُرْوَى بِعِرْقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا ، وَقَالَ : فَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي ، فَقَالَ : كُلْ أَنْتَ وَعِيَالُك ، يَجْزِيَك وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَك } ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ ( وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ( وَلِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ) وَهُوَ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِفَرْقٍ ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ ) أَيْ حَدِيثٌ ( حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ : يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ ) بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } قَالَ فِي النِّهَايَةِ : مَا مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ التَّخْيِيرِ إلَى الشَّافِعِيِّ ، وَنَفْيَ التَّتَابُعِ إلَى مَالِكٍ سَهْوٌ ، بَلْ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالتَّرْتِيبِ كَمَا نَقُولُ : دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كُتُبُهُمْ وَكُتُبُ أَصْحَابِنَا ، وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ التَّتَابُعِ هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَائِلُ بِالتَّخْيِيرِ .
احْتَجَّ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي أَفْطَرْت فِي رَمَضَانَ فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً أَوْ صُمْ شَهْرَيْنِ أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَقُلْنَا : حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَشْهُورٌ لَا يُعَارِضُهُ هَذَا الْحَدِيثُ ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ مَا بِهِ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ فِي الْجُمْلَةِ لَا التَّخْيِيرُ .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُ بِنَفْيِ التَّتَابُعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَضَاءِ .
وَمَا رَوَيْنَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَاسِدٌ

( وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مَعْنًى ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً.
قَالَ ( وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَخْ ) أَرَادَ بِالْفَرْجِ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ فَكَانَ مَا دُونَهُ هُوَ التَّفْخِيذُ وَالتَّبْطِينُ وَالْجِمَاعُ فِيهِ جِمَاعٌ مَعْنًى فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَلَيْسَ بِهِ صُورَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ

( وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ .( وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي إفْطَارِ صَوْمِهِ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا قِيَاسَ ، وَلَيْسَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ ( لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ ) لِكَوْنِهَا جِنَايَةً عَلَى الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا وَغَيْرُهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْوَقْتَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ ( فَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ ) خِلَافُ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَجِّ حَيْثُ يَسْتَوِي فِيهَا الْفَرْضُ وَالنَّفَلُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ وَهُمَا فِيهَا سَوَاءٌ

( وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ أَفْطَرَ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ } وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ ، وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً .
( وَلَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ الْمَاءَ أَوْ دَخَّلَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ) لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَهُ الدُّهْنُ ( وَلَوْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً بِدَوَاءٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ ، وَقَالَا : لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْوُصُولِ لِانْضِمَامِ الْمَنْفَذِ مَرَّةً وَاتِّسَاعِهِ أُخْرَى ، كَمَا فِي الْيَابِسِ مِنْ الدَّوَاءِ .
وَلَهُ أَنَّ رُطُوبَةَ الدَّوَاءِ تَلَاقِي رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَزْدَادُ مَيْلًا إلَى الْأَسْفَلِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَنْسَدُّ فَمُهَا ( وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُفْطِرُ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ : مُضْطَرِبٌ فِيهِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذًا ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَثَانَةَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ

( وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ ) أَيْ اسْتَعْمَلَ الدَّوَاءَ بِالْحُقْنَةِ أَوْ السُّعُوطِ وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُصَبُّ فِي الْأَنْفِ وَهُمَا عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ ( أَوْ أُقْطِرَ فِي أُذُنِهِ ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي ( أَفْطَرَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ } ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً ) الْجَائِفَةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ ، وَالْآمَّةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الدِّمَاغِ وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالرَّطْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَرْقًا بَيْنَ الدَّوَاءِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْوُصُولِ ، حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الدَّوَاءَ الْيَابِسَ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّطْبَ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ ، فَالْيَابِسُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِرَاحَةِ لِاسْتِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاطِنِ ، وَالرَّطْبُ يَصِلُ إلَى الْبَاطِنِ عَادَةً فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ أُقْطِرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُفْطِرُ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ) ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْأَصْلِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ : ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا شَكَّ فِي ذَلِكَ ، فَوَقَفَ ، وَمَا ذَكَرَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ .
وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي وُجُودِ الْمَنْفَذِ مِنْ الْإِحْلِيلِ إلَى الْجَوْفِ .
وَتَكَلَّمُوا فِي الْإِفْطَارِ فِي أَقْبَالِ النِّسَاءِ .
فَقِيلَ : هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
وَقِيلَ : يُشْبِهُ الْحُقْنَةَ فَيُفْسِدُ الصَّوْمَ بِلَا خِلَافٍ .
قِيلَ : وَهُوَ الْأَصَحُّ .

( وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ لَمْ يُفْطِرْ ) لِعَدَمِ الْفِطْرِ صُورَةً وَمَعْنًى ( وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ .قَوْلُهُ ( وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ ) الذَّوْقُ بِالْفَمِ قُوَّةٌ مُثَبَّتَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جِرْمِ اللِّسَانِ وَإِدْرَاكُ الذَّوْقِ بِمُخَالَطَةِ الرُّطُوبَةِ اللُّعَابِيَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ الْآلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْمُلَعِّبَةِ بِالْمَذُوقِ وَوُصُولِهِ إلَى الْعَصَبِ : وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُوجِبُ الْفِطْرَ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى ( وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ ) بِسَبِيلِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ الْجَاذِبَةَ قَوِيَّةٌ إذَا كَانَ صَائِمًا فَلَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ تَجْذِبَ شَيْئًا مِنْهُ إلَى الْبَاطِنِ .

( وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيِّهَا الطَّعَامَ إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا ) صِيَانَةً لِلْوَلَدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا ( وَمَضْغُ الْعَلْكِ لَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ ) لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ .
وَقِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بَعْضُ أَجْزَائِهِ .
وَقِيلَ : إذَا كَانَ أَسْوَدَ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُلْتَئِمًا لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ ، وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ ، وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ عَلَى مَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غَلَّةٍ ، وَقِيلَ : لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ : بِالنِّسَاءِ .وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى التَّعْرِيضِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَضْغُ الْعِلْكِ لَا يُفَطِّرُ ) أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ .
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ وَاحِدٌ وَالتَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ " وَمَضْغُ الْعِلْكِ لَا يُفَطِّرُ " وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ ) يَعْنِي .
أَنَّ مَنْ رَآهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَيَتَّهِمُهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ .
وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ ) ظَاهِرٌ وَالْكَرَاهَةُ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الِاسْتِحْبَابِ ، وَلَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تُوصَفُ بِهِمَا .

( وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ ارْتِفَاقٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ ، وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِلَى الصَّوْمِ فِيهِ ، وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ لِلرِّجَالِ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي دُونَ الزِّينَةِ ، وَ يُسْتَحْسَنُ دَهْنُ الشَّارِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ ، وَلَا يُفْعَلُ لِتَطْوِيلِ اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ بِقَدْرِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْقُبْضَةُ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْكَحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ إلَخْ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ مِنْهُمَا مَفْتُوحًا فَيَكُونَانِ مَصْدَرَيْنِ مِنْ كَحَلَ عَيْنَهُ كَحْلًا ، وَدَهَنَ رَأْسَهُ دَهْنًا : إذَا طَلَاهُ بِالدُّهْنِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا وَيَكُونَ مَعْنَاهُ وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْكُحْلِ وَالدُّهْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ تَكْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْكُحْلِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ .
ثُمَّ قَالَ : بِالْكُحْلِ ، ثُمَّ قَالَ وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ ، وَالثَّانِيَ : وَضْعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَالثَّالِثَ : وَضْعُ الْفَتَاوَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ ، فَأَمَّا فَائِدَةُ الْأَوَّلِ فَمَا اُسْتُفِيدَ مِنْ عَدَمِ تَفْطِيرِ الِاكْتِحَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ مَكْرُوهًا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَلَا يُفْطِرُ كَمَا إذَا ذَاقَ بِلِسَانِهِ شَيْئًا فَبِالثَّانِي نَفْيُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا فِي الْعِلْكِ ، فَأَعْلَمَ بِالثَّالِثِ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ الرَّجُلِ الزِّينَةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ ) يَعْنِي وَبِالْخِضَابِ جَاءَتْ السُّنَّةُ لَكِنْ لِحَاجَةٍ غَيْرِ الزِّينَةِ ، وَالْقُبْضَةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا } أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامِعِهِ ، وَقَالَ : مِنْ سَعَادَةِ الرَّجُلِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ .
وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آثَارِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَقْطَعُ مَا وَرَاءَ الْقَبْضَةِ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .

( وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ لِلصَّائِمِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } مِنْ خَيْرِ فَصْلٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ ، وَهُوَ الْخُلُوفُ فَشَابَهُ دَمَ الشَّهِيدِ .
قُلْنَا : هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ اللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ .
بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ رُطُوبَتَهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالرُّطُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْأَشْجَارِ ، وَلَا ذَكَرَ أَنَّهُ بَلَّهُ بِرِيقِهِ أَوْ بِالْمَاءِ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْمَاءِ لِلصَّائِمِ فِي الْفَرِيضَةِ فَكَانَ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى الرَّطْبِ بِالرُّطُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالْإِلْحَاقِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبَيْنِ وَبَيْنَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ .
وَيَنْتَفِي بِهِ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَنَّ الرَّطْبَ بِالْمَاءِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَبْقَى مِنْ الرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ أَكْثَرُ مَا يَبْقَى بَعْدَ السِّوَاكِ .
ثُمَّ لَمْ يُكْرَهْ لِلصَّائِمِ الْمَضْمَضَةُ فَكَذَا السِّوَاكُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ الْخُلُوفُ ) { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } وَمَا يَكُونُ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ فَسَبِيلُهُ الْإِبْقَاءُ كَمَا فِي دَمِ الشَّهِيدِ ، وَالْخُلُوفُ مَصْدَرُ خُلِفَ فُوهُ إذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ لِعَدَمِ الْأَكْلِ بِالضَّمِّ لَا غَيْرُ ( قُلْنَا هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ فَاللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ ) فِرَارًا عَنْ الرِّيَاءِ ( بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ ) فَيَحْتَاجُ إلَى الِانْتِصَافِ مِنْ خَصْمِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِبْقَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يُعْنَى مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ

خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } .

فَصْلٌ ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي رَمَضَانَ فَخَافَ إنْ صَامَ ازْدَادَ مَرَضُهُ أَفْطَرَ وَقَضَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُفْطِرُ ، هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ( وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا ، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ ) لِأَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ ) لِوُجُودِ الْإِدْرَاكِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ .
وَفَائِدَتُهُ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فَيَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ .

فَصْلٌ ) : لَمَّا ذَكَرَ مَسَائِلَ الصَّوْمِ شَرَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُهُ : أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ لِتَنَوُّعِهِ إلَى مَا يَزْدَادُ بِالصَّوْمِ إلَى مَا يَخِفُّ بِهِ ، وَمَا يَخِفُّ بِهِ لَا يَكُونُ مُرَخَّصًا لَا مَحَالَةَ ، فَجَعَلْنَا مَا يَزْدَادُ بِهِ مُرَخِّصًا كَخَوْفِ الْهَلَاكِ لِوُجُودِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ فِيهِ ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِاجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ حُمَّاهُ زَادَ شِدَّةً أَوْ عَيْنَهُ وَجَعًا وَإِمَّا بِقَوْلِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ .
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ .
وَأَمَّا السَّفَرُ بِنَفْسِهِ فَمُرَخِّصٌ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ ، فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لَهُ ، هَكَذَا نُقِلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَتْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الصَّوْمَ أَحَبُّ فِي السَّفَرِ مِنْ الْإِفْطَارِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ .
اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلَّ عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا صَائِمٌ ، فَقَالَ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ } الْحَدِيثَ ( وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ ) لِأَنَّ { عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } كَالْخَلَفِ عَنْ رَمَضَانَ ، وَالْخَلَفُ لَا يُسَاوِي الْأَصْلَ بِحَالٍ ( وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَدِّ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ : أَيْ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِهِ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ

وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا ) أَيْ مِنْ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ( لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْقَضَاءُ ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ ( لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَفَائِدَتُهُ ) أَيْ فَائِدَةُ لُزُومِ الْقَضَاءِ ( وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ ) بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ فَإِذَا أَوْصَى يُؤَدِّي الْوَصِيُّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا بِقَدْرِ مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ الْوَرَثَةُ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَا يَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بَلْ يَسْقُطُ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا ( وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ ( خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ) فَقَالَ : وَلَوْ زَالَ عَنْهُ الْعُذْرُ وَقَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ قَضَى فِيمَا قَدَرَ وَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ قَضَائِهِ إلَّا قَدْرَ مَا قَضَى ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْكُلِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ مَا قَدَرَ يَصْلُحُ فِيهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْبَعْضِ فَكَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْكُلِّ وَلَمْ يَصُمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ لِأَنَّهُ بِالصَّوْمِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَصْلُحَ فِيهِ قَضَاءُ يَوْمٍ آخَرَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إلَّا مِقْدَارَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أَدْرَكَ إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ) يَعْنِي أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ قَوْلَهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ( وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ

صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ الشَّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَزِمَهُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ فَصَارَ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ ( وَالْفَرْقُ لَهُمَا ) بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ( أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ ) وَقَدْ وَجَدَ ، الْمَانِعَ وَهُوَ عَدَمُ الذِّمَّةِ فِي الْتِزَامِ أَدَائِهِ قَدْ زَالَ بِالْبُرْءِ ، وَإِذَا وُجِدَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي وَزَالَ الْمَانِعُ يَظْهَرُ الْوُجُوبُ لَا مَحَالَةَ ، وَصَارَ كَصَحِيحٍ نَذَرَ فَمَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَإِذَا ظَهَرَ الْوُجُوبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْأَدَاءُ يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ ( وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ ) وَإِدْرَاكُهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ بَلْ بَعْضُهَا تَحَقَّقَ ( فَيَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهِ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَسَبَبُ الْأَدَاءِ شُهُودُ الشَّهْرِ فَكَذَا سَبَبُ الْقَضَاءِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِ السَّبَبِ أَثَرٌ فِي بَعْضِ الْحُكْمِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُ الْوُجُوبِ ، بَلْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَسْلِيمُ الْوُجُوبِ أَوْ مِثْلُهُ وَهُوَ الْخِطَابُ ، وَهَذَا مِنْ مَزَالِّ الْأَقْدَامِ فَلَا تُغْفَلُ .
وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي كُلِّ الْحُكْمِ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ فَمَا فَرَضْنَاهُ جُزْءًا لَا يَكُونُ جُزْءًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ .
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا لِسَبَبِ عِلَّةٍ تَامَّةٍ لِبَعْضِ الْحُكْمِ فَلَا مَانِعَ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يَحْرُمُ الْفَضْلُ وَالنَّسِيئَةُ ، وَأَحَدُهُمَا يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى .

( وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ ( وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِيَ ) لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ ( وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ ) لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ ( وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ .

قَالَ ( وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ ) الصَّوْمُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثَمَانِيَةٌ : أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُتَتَابِعَةٌ ، وَأَرْبَعَةٌ صَاحِبُهَا فِيهَا بِالْخِيَارِ ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ فَصَوْمُ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَضَاءُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ وَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ .
أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِيهِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ ضَبَطَهُ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِعَ فِيهِ الْعِتْقُ كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ وَاجِبًا ، وَمَا لَا فَلَا فَيَكُونُ قَضَاءُ رَمَضَانَ مِمَّا فِيهِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ ، وَلِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ ، وَالتَّتَابُعُ وَاجِبٌ فِي الْأَدَاءِ ، فَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ تَقْيِيدِ نَصِّ الْقَضَاءِ .
وَالثَّانِي أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ " فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ قِرَاءَتَهُ مُقَيَّدَةً كَمَا فَعَلْتُمْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ذَلِكَ إلَيْك ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ قَضَاءً قَالَ : نَعَمْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَغْفِرَ } فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ .
وَعَنْ الثَّانِي : مَا قِيلَ إنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ تَشْتَهِرْ اشْتِهَارَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَكَانَ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُزَادُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ .
قَوْلُهُ ( لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ ) أَيْ التَّتَابُعُ ( مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ أَخَّرَ

الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِي لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنَّهُ يُوجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَيَقُولُ : الْقَضَاءُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ ، مُسْتَدِلًّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى شَعْبَانَ " وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهَا لِآخِرِ وَقْتٍ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَيْهِ .
ثُمَّ يَجْعَلُ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ ، وَتَأْخِيرُ الْأَدَاءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَكَذَا تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا الْقَضَاءَ إلَى شَعْبَانَ قَدْ يَكُونُ اتِّفَاقِيًّا ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَإِيجَابُ الْفِدْيَةِ لَا أَصْلَ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَبِالتَّأْخِيرِ لَمْ يَثْبُتْ الْعَجْزُ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بَلْ عَلَى التَّرَاخِي ، وَلِهَذَا لَوْ تَطَوَّعَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

( وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ ( وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي .
وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي ، وَالْفِطْرَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَالْوَلَدُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا .

وَقَوْلُهُ ( وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : الْمُرَادُ بِالْمُرْضِعِ هَهُنَا الظِّئْرُ ، لِأَنَّ الْأُمَّ لَا تُفْطِرُ إذَا كَانَ لِلْوَلَدِ أَبٌ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فَرْضٌ عَلَيْهَا دُونَ الْإِرْضَاعِ ، وَقَالَ شَيْخُ شَيْخِي عَبْدُ الْعَزِيزِ : يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ يَسَارَ الْأَبِ أَوْ عَدَمَ أَخْذِ الْوَلَدِ ضَرْعَ غَيْرِ الْأُمِّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ ) قِيلَ : نَعَمْ هُوَ عُذْرٌ ، وَلَكِنْ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِمِ بَلْ لِأَجْلِ غَيْرِهِ ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ بِقَتْلِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الشُّرْبُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ مَأْمُورَةٌ بِصِيَانَةِ الْوَلَدِ مَقْصُودَةٌ ، وَهِيَ لَا تَتَأَتَّى بِدُونِ الْإِفْطَارِ عِنْدَ الْخَوْفِ فَكَانَتْ مَأْمُورَةً بِالْإِفْطَارِ وَالْأَمْرُ بِالْإِفْطَارِ مَعَ الْكَفَّارَةِ الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى الْوُجُوبِ عَنْ الْإِفْطَارِ لَا يَجْتَمِعَانِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورًا قَصْدًا بِصِيَانَةِ غَيْرِهِ بَلْ نَشَأَ الْأَمْرُ هُنَاكَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَالْحُكْمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمْرِ قَصْدًا وَضِمْنًا .
وَقَوْلُهُ ( فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ إلَخْ ) يَعْنِي إذَا خَافَتْ الْحَامِلُ أَوْ الْمُرْضِعُ عَلَى نَفْسِهَا لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَأَفْطَرَتْ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى أَصَحِّ أَقْوَالِهِ عِنْدَهُمْ ( هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي ) فَإِنَّ الْفِطْرَ حَصَلَ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ عَنْ الصَّوْمِ خِلْقَةً لَا عِلَّةً فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ كَفِطْرِ الشَّيْخِ الْفَانِي ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهَا وَوَلَدِهَا ، فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَبِالنَّظَرِ إلَى مَنْفَعَةِ وَلَدِهَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ ، وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ ( وَالْفِطْرُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ

وَالْوَلَدَ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ تَجِبُ عَلَى مَالِهِ ، وَلَمْ تَتَضَاعَفْ بِتَضَاعُفِ الْوَلَدِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً أَيْضًا ،

( وَالشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا يُطْعِمُ فِي الْكَفَّارَاتِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قِيلَ مَعْنَاهُ : لَا يُطِيقُونَهُ ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفِدَاءِ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ .

وَقَوْلُهُ ( وَالشَّيْخُ الْفَانِي ) وَصْفٌ بِمَا بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهِ بِقَوْلِهِ ( الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ ) وَسُمِّيَ فَانِيًا إمَّا لِقُرْبِهِ إلَى الْفَنَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ فَنِيَتْ قُوَّتُهُ ، وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ خَلَفُهُ وَقُلْنَا : السَّبَبُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ تَنَاوَلَهُ حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَصَامَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرٍ لَيْسَ بِعَرَضِ الزَّوَالِ حَتَّى يُصَارَ إلَى الْقَضَاءِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ ( مَعْنَاهُ لَا يُطِيقُونَهُ ) فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } كَانَ الْأَغْنِيَاءُ يُفْطِرُونَ وَيَفِدُونَ وَالْفُقَرَاءُ يَصُومُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَالْمَنْسُوخُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ إنْ وَرَدَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ ، فَبَقِيَ الشَّيْخُ الْفَانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ ) يَعْنِي بَعْدَمَا فَدَى ( بَطَلَ حُكْمُ الْفِدَاءِ ) وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا تُبْطِلُ الْخَلْفَ ، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَمَا صَلَّى

بِالتَّيَمُّمِ ، وَهَهُنَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْقُدْرَةَ هَهُنَا عَلَى الْأَصْلِ إنَّمَا هِيَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ ، لِأَنَّ دَوَامَ هَذَا الْعَجْزِ إلَى الْمَوْتِ شَرْطُ صِحَّةِ هَذَا الْخَلْفِ ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ هُوَ الَّذِي يَزْدَادُ ضَعْفُهُ كُلَّ وَقْتٍ إلَى مَوْتِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ )

( وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَوْصَى بِهِ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ .
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ .
وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ هُوَ الصَّحِيحُ ( وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ وَلَا يُصَلِّي ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ } .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ ) أَيْ قَرُبَ مِنْهُ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ ) اسْتَعْمَلَ الْأَدَاءَ فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى فِي مَعْنَى الشَّيْخِ الْفَانِي ، فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأُولَى ، لِأَنَّ عَجْزَ الْمَيِّتِ أَلْزَمُ ( ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ ) لِإِلْزَامِ الْوَارِثِ ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يُخْرِجَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ ، وَإِذَا أَوْصَى أَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ مِقْدَارَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ( عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ أَمَّا خِلَافُهُ فِي الْمِقْدَارِ فَلِأَنَّ الْمِقْدَارَ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ مُدٌّ ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِي فَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ هَذَا الدَّيْنُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ ، فَكَمَا أَنَّ دُيُونَ الْعِبَادِ تَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَكَذَلِكَ هَذَا ( وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِخْبَارِ وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً ) لِأَنَّ الصَّوْمَ فِعْلُ مُكَلَّفٍ بِهِ وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ تَبَرُّعًا ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّةَ هُوَ الْمَالُ وَالْفِعْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى الْأَمْوَالِ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالزَّكَاةِ ، وَإِذَا كَانَ تَبَرُّعًا ( يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ) وَإِنَّمَا قَالَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ تَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ ( وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ ) فَإِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِالْفِدَاءِ فِي الصَّوْمِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ

فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْقِلُهُ ، وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ بَلْ أَهَمُّ ، فَأَمَرَ الْمَشَايِخُ بِالْفِدَاءِ فِيهَا احْتِيَاطًا وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَوَّلًا : إنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ لِصَلَاةِ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : كُلُّ صَلَاةِ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ أَحْوَطُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ .
وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( { لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ } وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِعْلُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّوْمِ مِنْ الْإِطْعَامِ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ .

( وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُؤَدَّى فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى قُرْبَةٌ وَعَمَلٌ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ بِالْمُضِيِّ عَنْ الْإِبْطَالِ ، وَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ .
ثُمَّ عِنْدَنَا لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ فِيهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُبَاحُ بِعُذْرٍ ، وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ } .

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ) ذَكَرْنَاهُ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ عِنْدَنَا ) كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَبْنَى الِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِفْطَارَ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مُبَاحٌ ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ كَانَ بِالْإِفْطَارِ جَانِبًا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ جَانِبًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ ) يَعْنِي عَلَى الْأَظْهَرِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ .
فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِيُصَلِّ : أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ } .
وَوَجْهُ الْأَظْهَرِ مَا رُوِيَ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَامْتَنَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَكْلِ وَقَالَ إنِّي صَائِمٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّمَا دَعَاك أَخُوك لِتُكْرِمَهُ فَأَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ } وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ وَلَا يَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى يُفْطِرُ وَيَقْضِي .
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْإِفْطَارُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إلَّا إذَا كَانَ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا .

( وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ ( وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ ( وَصَامَا مَا بَعْدَهُ ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ( وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا وَلَا مَا مَضَى ) لِعَدَمِ الْخِطَابِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَوُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَالْأَهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ النِّيَّةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْعَدِمَةٌ فِي أَوَّلِهِ إلَّا أَنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْكَافِرِ عَلَى مَا قَالُوا ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ أَيْضًا ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لَهُ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِهِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ يَطْهُرَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ وَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ الْأَكْلِ ، وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا ، أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ .
ثُمَّ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ : إذْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ ، أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الصَّفَّارُ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ " فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ " وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ .
وَقَالَ فِي الْحَائِضِ : إذَا طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَلْتَدَعْ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَهَذَا أَمْرٌ أَيْضًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ ، لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَائِضِ : طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَا يَحْسُنُ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ .
وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِي .
بِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الصَّوْمِ حَتَّى يُنَافِيَ الْإِفْطَارَ الْمُتَقَدِّمَ ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْسُنُ لَهَا يَقْبُحُ مِنْهَا ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ شَرْعًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ ) أَيْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِمَا ( لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ

الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ ) بَلْ الْإِمْسَاكُ هُوَ الْوَاجِبُ وَلَا قَضَاءَ إلَّا لِلصَّوْمِ ( وَصَامَا مَا بَعْدَهُ ) مِنْ الْأَيَّامِ ( لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ ) وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ ( وَالْأَهْلِيَّةُ ) بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ ( وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا ) يَعْنِي إذَا أَمْسَكَا بَقِيَّةَ النَّهَارِ ، وَإِنَّمَا قُلْت هَذَا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ مَعَ قَوْلِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا مَا مَضَى ) أَيْ لَمْ يَقْضِيَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيَّامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ ( لِعَدَمِ الْخِطَابِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأَهْلِيَّةِ وَكَانَتْ مُنْتَفِيَةً قَبْلَهُمَا : فَإِنْ قِيلَ : انْتِفَاءُ الْأَهْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ إذَا أَفَاقَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ وَنَوَى الصَّوْمَ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
أُجِيبَ : بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بَلْ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ كَانَ ثَابِتًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ عِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ ظَهَرَ أَثَرُ الْوُجُوبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ فِيهِ الْكَافِرُ ( بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ) حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَ ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ ( عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلْفِطْرِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَنْ يَصُومَ أَجْزَأَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نِيَّةَ الْفِطْرِ مُنَافِيَةٌ لِلصَّوْمِ لَكِنَّهَا مُنَافِيَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً ، فَلَا تَمْنَعُ نِيَّةَ الصَّوْمِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَكَذَا الْكُفْرُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حُكْمًا لَا

حَقِيقَةً ، وَخَلَلُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ فِيهِ مُسَاوَاةَ الْأَهْلِ لِغَيْرِ الْأَهْلِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَمَبْنَاهُ كَمَا تَرَى عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ وَفَاقِدِهَا .
وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْلِ أَيْضًا فَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَوَى صَوْمَ النَّفْلِ صَحَّ .
وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَنَوَى ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ .
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُمَا فِي صِحَّةِ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ سَوَاءٌ .
فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي النَّفْلِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْفَرْضِ .

( وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ ( وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ) لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَوْلَى ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمُبِيحِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ ) لِأَنَّهَا بِالذِّمَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ ( وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ ) لِأَنَّهُ لَوْ صَامَ صَحَّ ( وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ ) يَعْنِي الْمُسَافِرَ الَّذِي نَوَى الْإِفْطَارَ ( فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ ) وَهُوَ السَّفَرُ ( فِي وَقْتِ النِّيَّةِ ) لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَدِمَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ ، قِيلَ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فِي مُسَافِرٍ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رَمَضَانَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ .
وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الثُّبُوتِ وَفِيهِ بُعْدٌ ، وَبِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحُ ، وَالصَّوْمُ هُوَ أَنْ يَكُونَ نَذْرًا مُعَيَّنًا .
وَصُورَتُهُ : نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَنَذَرَ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَنَوَاهُ أَجْزَأَهُ ، فَكَانَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ ، وَالثَّانِيَةُ فِيهِ فَلَا تَكْرَارَ .
وَقَوْلُهُ ( فَهَذَا أَوْلَى ) قِيلَ فِي وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ إنَّ الْمُرَخِّصَ وَهُوَ السَّفَرُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِفْطَارِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْإِفْطَارُ ، فَلَأَنْ لَا يُبَاحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِيهِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ) يَعْنِي مُسَافِرًا أَقَامَ وَمُقِيمًا سَافَرَ .

( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِ الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ ) لِوُجُودِ الصَّوْمِ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ إذْ الظَّاهِرُ وُجُودُهَا مِنْهُ ( وَقَضَى مَا بَعْدَهُ ) لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ ( وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ غَيْرَ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ) لِمَا قُلْنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِنْدَهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِكَافِ ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِزَمَانٍ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ .
بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ ( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ قَضَاهُ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا فَيَصِيرُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ .قَالَ ( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ ) الْإِغْمَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ لَا ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَا يَقْضِي صَوْمَ ذَلِكَ النَّهَارِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ الْإِغْمَاءُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ لَا مَحَالَةَ ، وَكَذَا النِّيَّةُ ظَاهِرًا ، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ النِّيَّةِ ، وَالْأَوَّلُ يَقْضِيهِ كُلُّهُ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ إلَخْ ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

( وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ لَمْ يَقْضِهِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ ، وَالْجُنُونُ يَسْتَوْعِبُهُ فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ ( وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِهِ قَضَى مَا مَضَى ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْقَضَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ ، وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعَبِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ وَالْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ ، وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ فِي أَدَائِهِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَوْعَبِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ ، قِيلَ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا الْتَحَقَ بِالصَّبِيِّ فَانْعَدَمَ الْخِطَابُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ ، وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ مَا يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ فِيهِ ابْتِدَاءً ، حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ فِيهِ كَاللَّيْلِ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجُنُونَ مَرَضٌ يُخِلُّ الْعَقْلَ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ كَمَا فِي الْإِغْمَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ ) أَيْ أَدَاءُ ذَلِكَ الْبَعْضِ ( لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ ) وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ ( وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعِبِ ) فَإِنَّ الْمُسْتَوْعِبَ مِنْهُ مَنَعَ الْقَضَاءَ فِي الْكُلِّ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْبَعْضِ مَنَعَ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ( وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ ) أَيْ بَعْضُهُ ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَوْ كَانَ كُلُّهُ لَوَقَعَ الصَّوْمُ فِي شَوَّالٍ فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ الشَّهْرَ كُلَّهُ ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ دُونَ الْمُضْمَرِ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ قَدْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَيَصُومُ كُلَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ .
وَهُوَ عَدَمُ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا مَضَى .
أَجَابَ بِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْوُجُوبِ بِالذِّمَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّهَا بِالْآدَمِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْتَغْرِقِ أَيْضًا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ ) أَيْ الْفَائِدَةُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ ( صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْرِجُ فِي أَدَائِهِ ، وَالْمُسْتَوْعِبُ

لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْرِجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ ) فِي الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَسَقَطَ بِسَبَبِ الْحَرَجِ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَصَارَ كَالصِّبَا لِأَنَّ الصِّبَا لَمَّا كَانَ مُمْتَدًّا كَانَ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَهُوَ مُسْقِطٌ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ ، إلَّا أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يَطُولُ عَادَةً فَلَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالصِّبَا يَطُولُ فَيُسْقِطُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْجُنُونُ يَطُولُ وَيَقْصُرُ ، فَإِذَا طَالَ اُلْتُحِقَ بِالصِّبَا ، وَإِذَا لَمْ يَطُلْ اُلْتُحِقَ بِالْإِغْمَاءِ ، وَالطَّوِيلُ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ ، وَفِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ( ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ ) الْجُنُونِ ( الْأَصْلِيِّ ) وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا ( وَالْعَارِضِيِّ ) وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ عَاقِلًا ثُمَّ يُجَنَّ ( قِيلَ هَذَا ) أَيْ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُنُونَيْنِ ( ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ) فَقَالَ : إنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْآنَ فَصَارَ كَصَبِيٍّ بَلَغَ .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقِيَاسِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ ، لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْعَارِضِيَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا ) أَيْ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ ( مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ ، وَالْإِمَامُ الرُّسْتُغْفَنِيُّ ، وَالزَّاهِدُ الصَّفَّارُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .

( وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَتَأَدَّى صَوْمُ رَمَضَانَ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُؤَدِّيهِ يَقَعُ عَنْهُ ، كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكُ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ وُجِدَ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ ( وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ إذْ لَا صَوْمَ إلَّا بِالنِّيَّةِ

وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ ) يَعْنِي أَمْسَكَ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْوِ ( صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ) قَالُوا : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْوِيلٍ ، لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِيهِ كَافِيَةٌ لِوُجُودِ النِّيَّةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ يُجْعَلُ صَائِمًا يَوْمَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ النِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ ، وَأَوَّلُوا بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مُتَهَتِّكًا اعْتَادَ الْأَكْلَ فِي رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَصْلُحْ حَالُهُ دَلِيلًا عَلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ ، وَأَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَلِيلٌ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَالْفَرْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا بِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ ، وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ ( وَقَالَ زُفَرُ : يَكُونُ صَائِمًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَدَّاهُ يَقَعُ عَنْهُ كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ ) وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبًا لِزُفَرَ ، وَقَالَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ كُلِّهِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ : هَذَا قَوْلٌ لِزُفَرَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ نَفْيًا لِمَا يَجُوزُ بِهِ صَرْفُ الْإِمْسَاكِ إلَى غَيْرِهِ لِتَعَيُّنِ الْجِهَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هِبَةَ النِّصَابِ فَقِيرًا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ فَمَا وَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَذْهَبِكُمْ ، وَبِأَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَإِنَّ دَفْعَ النِّصَابِ إلَيْهِ

جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ بِالْفَقِيرِ الْجِنْسَ فَكَانَ الدَّفْعُ مُتَفَرِّقًا ( وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عِبَادَةً وَلَا إمْسَاكَ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ قَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ كَمَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ ، وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ ) قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ ( فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ زُفَرُ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى عِنْدَهُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ ) وَقَدْ أَفْسَدَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ نَوَى .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ) وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً ( إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ ) لِكَوْنِهِ وَقْتَ النِّيَّةِ ( فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ) فَإِنَّ الْمَالِكَ إذَا ضَمِنَهُ فَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ لِتَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الشَّيْءِ كَتَفْوِيتِهِ ، لَا يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّضْمِينَ لِتَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ لِمَ لَا يَكُونُ لِلِاسْتِهْلَاكِ أَوْ لِلْغَضَبِ نَفْسِهِ مِنْ الْغَاصِبِ ، لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ شَرْطُ التَّفْوِيتِ ، وَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ مَعَ قِيَامِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ يَدًا مُحِقَّةً فَلَمْ يَكُنْ إلَّا لِلتَّفْوِيتِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ ، وَأَمَّا مَا قَالَا مِنْ تَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي غَيْرِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ .

( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ ) بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّلَاةِ ( وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ .
هُوَ يَقُولُ : التَّشْبِيهُ خَلَفٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا .
وَلَنَا أَنَّهُ وَجَبَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ لَا خَلَفًا لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَالَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْ التَّشْبِيهِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ عَنْ الصَّوْمِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نُفِسَتْ ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ صَارَتْ نُفَسَاءَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ ) قَدْ قَدَّمْنَا الْأَصْلَ الْجَامِعَ لِهَذِهِ الْفُرُوعِ ، وَكَلَامُهُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِهِ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ .
فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : بِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّشَبُّهَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا .
وَالْمُخْطِئِ ، يَعْنِي الَّذِي أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْلٌ وَكَانَ الْفَجْرُ طَالِعًا لَا الَّذِي أَخْطَأَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَنَزَلَ الْمَاءُ فِي جَوْفِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ عِنْدَهُ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّشَبُّهَ خَلْفٌ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ خَلْفًا عَنْ الْكُلِّ بَلْ وَجَبَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْوَقْتِ أَصْلًا لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُعَظَّمٌ ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُفْطِرِ فِيهِ عَمْدًا دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ } وَإِذَا كَانَ مُعَظَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ إنْ كَانَ أَهْلًا ، وَبِالْإِمْسَاكِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَلْفًا لَا يَكُونُ وُجُوبُهُ مَبْنِيًّا عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ ( بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ) الْإِمْسَاكُ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْهُ وَهُوَ قِيَامُ هَذِهِ الْأَعْذَارِ ، فَإِنَّهَا كَمَا تَمْنَعُ عَنْ الصَّوْمِ تَمْنَعُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِ ، أَمَّا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْهِمَا حَرَامٌ وَالتَّشَبُّهَ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ ، وَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِمَا بِاعْتِبَارِ الْحَرَجِ فَلَوْ

أَلْزَمْنَا التَّشَبُّهَ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ .

قَالَ ( وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ أَوْ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ ( وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ ، كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ الْفَجْرُ الثَّانِي ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ

قَالَ : ( وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يُظَنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ ) وَمَنْ أَخْطَأَ فِي الْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَلَزِمَهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَا يَأْثَمُ بِهِ ، أَمَّا فَسَادُ صَوْمِهِ فَلِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ بِغَلَطٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ .
وَأَمَّا إمْسَاكُ الْبَقِيَّةِ فَلِقَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَوْ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ وَلَا عُذْرَ بِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَاجِبٌ بِالْحَدِيثِ .
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا فَإِذَا فَوَّتَهُ قَضَاهُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، وَأَمَّا عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ فِي رَحْبَةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَأُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ مِنْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يُؤَذِّنَ ، فَلَمَّا رَقَى الْمِئْذَنَةَ رَأَى الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ فَقَالَ : الشَّمْسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ عُمَرُ : بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا ( مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِ الْإِثْمِ .
وَإِنْ جَعَلْت الْمَوْضِعَ مَوْضِعَ بَيَانِ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْكَفَّارَةِ أَيْضًا ، لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ .
وَالْجَنَفُ الْمَيْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ هُوَ مَا يَكُونُ ظَنًّا فَمَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِذَا شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَتْ .
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ مَتَى .
شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَفْطَرَ فَقَدْ كَمَّلَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47