كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

أَفْضَلُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَبَيْنَ الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِحِمَايَةِ الْغُزَاةِ بِاللَّيْلِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُفْرِدَ كَمَا يُكَرِّرُ التَّلْبِيَةَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، فَكَذَلِكَ الْقَارِنُ فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ تَلْبِيَةُ الْقَارِنِ أَكْثَرَ مِنْ تَلْبِيَةِ الْمُفْرَدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالسَّفَرُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَجُّ وَالسَّفَرُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَلَا يُوجِبُ عَدَمُهُ نَقْصًا فِي الْحَجِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِحْرَامِ فَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ ) يَعْنِي فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا لِيَتَرَجَّحَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْقِرَانُ رُخْصَةٌ } ( نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ : إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ) أَيْ مِنْ أَسْوَإِ السَّيِّئَاتِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّخْصَةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ لِأَنَّ الْقِرَانَ عَزِيمَةٌ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ التَّوْسِعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لِلْحَجِّ ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إسْقَاطًا لِلسَّفَرِ الْجَدِيدِ عَنْ الْغُرَبَاءِ ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَسَمَّاهُ رُخْصَةً .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُصْطَلَحُ وَيَكُونُ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ كَشَطْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ، وَالرُّخْصَةُ فِي مِثْلِهِ عَزِيمَةٌ عِنْدَنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ ( لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِيهِ ) أَيْ

فِي الْقِرَانِ شُرُوعٌ فِي التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَمَامِ الْجَوَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ إذَا قَرَنَ يَصِيرُ مُخَالِفًا ، وَلَوْ كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لَمَا كَانَ مُخَالِفًا ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ زِيَادَةٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَرْفِ النَّفَقَةِ إلَى عِبَادَةٍ تَقَعُ لِلْآمِرِ عَلَى الْخُلُوصِ وَهِيَ إفْرَادُ الْحَجِّ لَهُ وَقَدْ صَرَفَهَا إلَى عِبَادَةٍ تَقَعُ لِلْآمِرِ وَعِبَادَةٌ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَلْ دَخَلَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ نَقْصٌ بِالْقِرَانِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ دَخَلَ نَقْصٌ ، وَالْقِرَانُ الْأَفْضَلُ الَّذِي كَانَ الْعِبَادَتَانِ فِيهِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَقِيقَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا ) يَعْنِي أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ ،

قَالَ ( وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَقُولُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي ) لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ قَوْلِك قَرَنْت الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا ، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ تَحَقَّقَ إذْ الْأَكْثَرُ مِنْهَا قَائِمٌ ، وَمَتَى عَزَمَ عَلَى أَدَائِهِمَا يَسْأَلُ التَّيْسِيرَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِيهِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا ، وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ ، وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْهَا ، وَيَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَيَسْعَى بَعْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ ) وَيُقَدِّمُ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ .
وَلَا يَحْلِقُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا يَحْلِقُ الْمُفْرِدُ ، وَيَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَنَا لَا بِالذَّبْحِ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُفْرِدُ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اكْتَفَى فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ

وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صَبِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك ، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ .
وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحْرِيمِ ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِمَقَاصِدَ ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤَدِّيَانِ وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ

قَالَ ( وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ) يَعْنِي يَكُونُ قَارِنًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِوُجُودِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فَيَطُوفَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ ، وَلَوْ طَافَ لَهَا أَرْبَعَةً لَا يَصِيرُ قَارِنًا بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ ) أَيْ ذَكَرَ الْعُمْرَةَ ( فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ ) بِأَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ( لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ ) وَلَكِنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِهَا فِيهِمَا جَمِيعًا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهَا فِي قَوْلِهِ { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَكَلِمَةُ إلَى لِلْغَايَةِ ( وَلِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَا يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا ) وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ ) يَعْنِي أَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَيَّ صَلَاةٍ هِيَ فَكَذَلِكَ هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا دَخَلَ ) يَعْنِي الْقَارِنُ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ ) يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا جَمْعًا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ فَيَكُونُ وَارِدًا فِيهِ أَيْضًا دَلَالَةً .
وَقَوْلُهُ ( عِنْدَنَا ) احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ عِنْدَهُ بِالذَّبْحِ .
وَقِيلَ لَيْسَ هَذَا بِمَشْهُورٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا ) أَيْ إتْيَانُ الْقَارِنِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ جَمِيعًا هُوَ مَذْهَبُنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :

يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فَيُكْتَفَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَإِلَّا لَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ دَاخِلَةً ( وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اُكْتُفِيَ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالرُّكْنَانِ مِنْ عِبَادَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَأْدِيهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَحَيْثُ جَاءَ الشَّرْعُ بِالْقِرَانِ دَلَّ عَلَى التَّدَاخُلِ ، فَكَمَا وُجِدَ التَّدَاخُلُ فِي الْإِحْرَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَيْضًا مَوْجُودًا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ : أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صَبِيُّ بْنِ مَعْبَدٍ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ ) مَنْقُوضٌ بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ وَفِيهَا التَّدَاخُلُ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعِبَادَةُ الْمَقْصُودَةُ وَالسَّجْدَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَبِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيهَا لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهَا الْحَجُّ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا فِي وُجُودِ الْحَرَجِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى اُكْتُفِيَ فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ إلَخْ .
لَا يُقَالُ : قَوْلُهُ وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحَرُّمِ وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ وَقَعَ تَكْرَارًا فِي دَلِيلِ الْخَصْمِ وَفِي الْجَوَابِ عَنْهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَرَّةً لِأَنَّهُ ذُكِرَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْإِفْرَادِ أَفْضَلَ ، وَهَاهُنَا بِاعْتِبَارِ إفْرَادِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ ، وَمِثْلُهُ مِنْ التَّكْرَارِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } ( دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ أَشْهُرَ الْحَجِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِلْحَجِّ فَأَدْخَلَ اللَّهُ وَقْتَ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ إسْقَاطًا لِلسَّفَرِ الْجَدِيدِ عَنْ الْغُرَبَاءِ تَوْسِعَةً .

قَالَ ( فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ يُجْزِيهِ ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَأْخِيرِ سَعْيِ الْعُمْرَةِ وَتَقْدِيمُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَنَاسِكِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَهُ طَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى .
وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ ) يَعْنِي أَنَّ تَأْخِيرَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ ( بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ ) كَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ يَوْمًا ( لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ )

قَالَ ( وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَكَمَا يَجُوزُ سُبُعُ الْبَعِيرِ يَجُوزُ سُبُعُ الْبَقَرَةِ ( فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ فَالْقِرَانُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ مُرْتَفِقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ .
وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقْتُهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَصْلِ ( وَإِنْ صَامَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ جَازَ ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَقَامَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِيهِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ .
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعْتُمْ عَنْ الْحَجِّ : أَيْ فَرَغْتُمْ ، إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ

قَالَ ( وَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ ) لِمَا تَقَدَّمَ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَلِهَذَا عَيْنُ الذَّبْحِ هَاهُنَا ) ، وَقَالَ فِي الْمُفْرِدِ : ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ( وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِهِ ) وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ الْبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ فَكَيْفَ قَالَ هَاهُنَا بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً ؟ وَتَقْرِيرُهُ : نَحْنُ لَا نُنْكِرُ جَوَازَ إطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ مُفْرَدًا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى : أَيْ يُنْقَلُ إلَى الْحَرَمِ وَسُبُعُ الْبَدَنَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَهُوَ شَاةٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَلَكِنْ ثَبَتَ جَوَازُ سُبُعِ الْبَدَنَةِ أَوْ الْبَقَرَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { اشْتَرَكْنَا حِينَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ ، وَفِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ ، وَفِي الشَّاةِ وَاحِدٌ } وَأَمَّا فِي النَّذْرِ إذَا نَوَى سُبُعَ بَدَنَةٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْفَرْقُ أَنَّ النَّذْرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَالْيَمِينِ وَبَعْضُ الْهَدْيِ لَيْسَ بِهَدْيٍ عُرْفًا ( فَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) أَيْ فِي وَقْتِهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } ، وَهَذَا النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ لَكِنَّ الْقِرَانَ فِي مَعْنَاهُ ) كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ الْفَرَاغُ مِنْ الْحَجِّ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ وَهُوَ الْفَرَاغُ ( فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَجَازِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا وَالْفَرَاغُ سَبَبٌ مُخْتَصٌّ بِالرُّجُوعِ فَيَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا مَجَازَ إلَّا بِقَرِينَةٍ فَمَا هِيَ ؟ قُلْت : إطْلَاقُ ذِكْرِ الرُّجُوعِ عَنْ ذِكْرِ الْأَهْلِ ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْتُمْ عَمَّا كُنْتُمْ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ فِيهِ .
قِيلَ وَفَائِدَةُ الْفَذْلَكَةِ نَفْيُ الْإِبَاحَةِ الَّتِي تُتَوَهَّمُ مِنْ كَلِمَةِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } كَمَا فِي قَوْلِك : جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ كَامِلَةً فِي وُقُوعِهَا بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .

( فَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الدَّمُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَصُومُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّهُ صَوْمٌ مُوَقَّتٌ فَيَقْضِي كَصَوْمِ رَمَضَانَ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَصُومُ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } وَهَذَا وَقْتُهُ .
وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ كَامِلًا ، وَلَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنْصَبُ إلَّا شَرْعًا ، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَجَوَازُ الدَّمِ عَلَى الْأَصْلِ .
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ فِي مِثْلِهِ بِذَبْحِ الشَّاةِ ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ تَحَلَّلَ وَعَلَيْهِ دَمَانِ : دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ

قَوْلُهُ ( وَقَالَ مَالِكٌ يَصُومُ فِيهَا ) يَعْنِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُونَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَفِي التَّعَرُّضِ بِلَفْظِ الْمَشْهُورِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ : النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِقَوْلِهِ { فِي الْحَجِّ } فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِغَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْكِتَابِ ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْخَبَرَ مَشْهُورٌ فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ ) يَعْنِي لَوْ لَمْ يُقَيَّدْ بِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُورِثَ نَقْصًا ، وَمَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى فِيهَا ( وَلَا يُؤَدَّى بَعْدَهَا ) أَيْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنَصَّبُ إلَّا شَرْعًا ) لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالصَّوْمِ ( وَالنَّصُّ خَصَّهُ ) بَدَلًا ( بِوَقْتِ الْحَجِّ ) فَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَانَ كَمَسْأَلَةِ الْغَمُوسِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُبْدَلِ ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا مَضَى يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْبَدَلُ عَنْهُ قَبْلَهُ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا إذَا فَاتَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ فَاتَ بِنَفْسِهِ وَبِبَدَلِهِ فَكَيْفَ يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ إذَا لَمْ يَجِدْهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بِالنَّصِّ ، وَأَصْلٌ مِنْ

حَيْثُ إنَّهُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ كَالْمُبْدَلِ فِي الْإِطْلَاقِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى أَصَالَتِهِ جَازَ بِغَيْرِ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ وَقَبْلَ تَحَقُّقِ تَمَامِ الْعَجْزِ عَنْهُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَدَلِيَّةِ يَلْزَمُ الْهَدْيُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ .
قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ إذَا لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فَبِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ .
قِيلَ لِأَنَّ الدَّمَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَفِيمَا بَعْدَهُ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَبْحَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا لَجَازَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ إذَا فَاتَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ عَنْ وَقْتِهِ فَكَيْفَ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَجَوَازُ الدَّمِ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِيَوْمِ النَّحْرِ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ .
وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَا هُوَ الْمَعْهُودُ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا وَجَبَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ بِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ ذِمَّتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ، وَهَاهُنَا وَجَبَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَيَأْتِي بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَيْهِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوَازِ نَظَرًا إلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذَا جَائِزٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ

فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوَازِ .
هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ عُمَرَ ) اعْتِضَادٌ لِإِيجَابِ الدَّمِ بَعْدَ فَوَاتِ الصَّوْمِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .

( فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِالْوُقُوفِ ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ .
وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا .
وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا أَنَّ الْأَمْرَ هُنَالِكَ بِالتَّوَجُّهِ مُتَوَجِّهٌ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ ، وَالتَّوَجُّهُ فِي الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَضَتْ الْعُمْرَةُ لَمْ يَرْتَفِقْ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ ) بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا ( وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ) لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا فَأَشْبَهَ الْمُحْصَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ ( وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ قِيَاسًا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بَيِّنٌ .
وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِدَاءِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ وَلَا كَرَاهَةَ إلَّا بِالنَّهْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ عِنْدَهُ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ طَوَافٌ مَقْصُودٌ لِلْعُمْرَةِ ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ .
فَعِنْدَنَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِحْصَارِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَيَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ عِنْدَنَا ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ إرَاقَةُ الدَّمِ وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ الْعُمْرَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْحَجِّ كَتَخَلُّلِ السُّنَّةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيِ إلَيْهَا .بَابُ التَّمَتُّعِ ) وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ بَابِ الْقِرَانِ قَدْ سَبَقَ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ التَّمَتُّعَ بِقَوْلِهِ : وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ إلَخْ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ مَنْ تَرَفَّقَ بِأَدَائِهِمَا وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ، وَمَنْ تَرَفَّقَ بِهِ فِيهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامَيْنِ وَهُمَا لَيْسَا بِمُتَمَتِّعَيْنِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ : هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامٍ وَاحِدٍ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ إلَخْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ تَفْسِيرُهُ ، وَأَمَّا كَوْنُ التَّرَفُّقِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ فَهُوَ شَرْطُهُ وَسَنَذْكُرُهُ .
وَالْإِلْمَامُ هُوَ النُّزُولُ ، يُقَالُ : أَلَمَّ بِأَهْلِهِ : إذَا نَزَلَ ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ .
وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ النُّزُولِ فِي وَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ صِفَةِ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ سَاقَهُ ، فَقَوْلُهُ : إلْمَامًا صَحِيحًا احْتِرَازٌ عَنْ الْإِلْمَامِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمَتُّعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا يَأْتِي .

( وَالْمُتَمَتِّعُ عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَمَتِّعٌ بِسَوْقِ الْهَدْيِ وَمُتَمَتِّعٌ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ ) وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَيَدْخُلُهُ اخْتِلَافَاتٌ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَصِفَتُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَيَدْخُلَ مَكَّةَ فَيَطُوفَ لَهَا وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ) وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا ، هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَلْقَ عَلَيْهِ ، إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .
وقَوْله تَعَالَى { مُحَلِّقِينَ رُءُوسكُمْ } الْآيَةَ .
نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا تَحَرُّمٌ بِالتَّلْبِيَةِ كَانَ لَهَا تَحَلُّلٌ بِالْحَلْقِ كَالْحَجِّ ( وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَتَتِمُّ بِهِ .
وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ فَيَقْطَعُهَا عِنْدَ افْتِتَاحِهِ ، وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ .
قَالَ ( وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَالًّا ) ؛ لِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ ، قَالَ ( فَإِذَا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ ) وَالشَّرْطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحَرَمِ أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَكِّيِّ ، وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ ، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى مَرَّةً ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً (

وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ ) لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَاهُ ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقِرَانِ ( فَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ اعْتَمَرَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الثَّلَاثَةِ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ التَّمَتُّعُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ ( وَإِنْ صَامَهَا ) بِمَكَّةَ ( بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ جَازَ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَاد سَبَبِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَقْتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْقِرَانِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ : هَذَا التَّخْيِيرُ إنَّمَا كَانَ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَعْرُهُ مُلَبَّدًا أَوْ مَعْقُوصًا أَوْ مُضَفَّرًا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُلَبَّدًا فَإِنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا بِالْقَصِّ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَيَّنُ الْحَلْقُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ ) أَيْ : لَيْسَ لَهَا طَوَافُ الْقُدُومِ وَالصَّدْرِ ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِيهَا هُوَ الطَّوَافُ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ : ( وَتَتِمُّ بِهِ ) أَيْ : تَتِمُّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ بِوُقُوعِ الْبَصَرِ عَلَى الْبَيْتِ ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ ، فَكَمَا تُقَدَّمُ قَطْعُ التَّلْبِيَةِ هُنَاكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، ( وَلَنَا ) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ } .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ ) بَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ كَالرَّمْيِ فِي كَوْنِهِ نُسُكًا مَقْصُودًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ؛ فَكَمَا أَنَّ التَّلْبِيَةَ تُقْطَعُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ تُقْطَعُ عِنْدَ افْتِتَاحِ هَذَا الطَّوَافِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَوَّلُ نُسُكٍ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْقُدُومِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نُسُكٍ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى ، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } " قَالَ

: ( وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا ) الْمُتَمَتِّعُ إذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا ، ( فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ ) ، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا شَرْطًا ، فَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ فَكَانَ أَفْضَلَ ، وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ جَازَ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ ، وَقَوْلُهُ : ( وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ ) يَعْنِي خَلَا أَنَّهُ لَا يَطُوفُ طَوَافَ التَّحِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ صَارَ هُوَ وَالْمَكِّيُّ سَوَاءً وَلَا تَحِيَّةَ لِلْمَكِّيِّ .
وَ ( يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ ) ، وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ ) يَعْنِي طَوَافَ الْقُدُومِ ( وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً ) وَلَا تَكْرَارَ فِيهِ ، ثُمَّ الرَّمَلُ هَاهُنَا يَسْقُطُ سَوَاءً رَمَلَ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَوْ لَمْ يَرْمُلْ وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ ، فَلَمْ يَقُلْ : طَافَ وَرَمَلَ ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا شُرِعَ فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ، وَلَا سَعْيَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مَرَّةً .
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مَشْرُوعٌ لِلتَّمَتُّعِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ رَمَلُهُ وَسَعْيُهُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } ( وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَادِ

سَبَبِهِ ) وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى التَّمَتُّعِ ، وَأَدَاءُ الْمُسَبَّبِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ جَائِزٌ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي الْقِرَانِ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا .

( وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ وَسَاقَ هَدْيَهُ ) وَهَذَا أَفْضَلُ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ } ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْدَادًا وَمُسَارَعَةً ( فَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً قَلَّدَهَا بِمَزَادَةٍ أَوْ نَعْلٍ ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ .
وَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى مِنْ التَّجْلِيلِ ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَالتَّجْلِيلِ لِلزِّينَةِ ، وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ .
وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَقُودَهَا { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهَدَايَاهُ تُسَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَحِينَئِذٍ يَقُودُهَا .
قَالَ ( وَأَشْعَرَ الْبَدَنَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَلَا يُشْعِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَيُكْرَهُ ) وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِدْمَاءُ بِالْجُرْحِ لُغَةً ( وَصِفَتُهُ أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا ) بِأَنْ يَطْعَنَ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ ( مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ ) قَالُوا : وَالْأَشْبَهُ هُوَ الْأَيْسَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَنَ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مَقْصُودًا وَفِي جَانِبِ الْأَيْمَنِ اتِّفَاقًا ، وَيُلَطِّخُ سَنَامَهَا بِالدَّمِ إعْلَامًا ، وَهَذَا الصُّنْعُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا حَسَنٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ سُنَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ إذَا وَرَدَ مَاءً أَوْ كَلَأً أَوْ يُرَدُّ إذَا ضَلَّ وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ

سُنَّةً ، إلَّا أَنَّهُ عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِصِيَانَةِ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَعَرُّضِهِ إلَّا بِهِ .
وَقِيلَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةَ ، وَقِيلَ : إنَّمَا كَرِهَ إيثَارَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا أَفْضَلُ ) يَعْنِي مِنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَا رَوَيْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ : قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " { كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ ) يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ } ( وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى عَلَى مَا سَبَقَ ) فِي فَصْلٍ قُبَيْلَ الْقِرَانِ ، وَالشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، وَالتَّقْلِيدُ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَالْعَمَلُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى عِنْدَ الْإِمْكَانِ لَا مَحَالَةَ ، ثُمَّ السَّوْقُ فِي الْهَدْيِ أَفْضَل مِنْ الْقَوَدِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيقَتْ هَدَايَاهُ إذْ أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ } .
وَقَوْلُهُ : ( قَالُوا وَالْأَشْبَهُ ) يَعْنِي إلَى الصَّوَابِ فِي الرِّوَايَةِ ( هُوَ الْأَيْسَرُ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ مُقْبِلَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ كُلِّ بَعِيرَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرُّءُوسِ .
وَكَانَ الرُّمْحُ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ يَقَعُ طَعْنُهُ عَادَةً أَوَّلًا عَلَى يَسَارِ الْبَعِيرِ ، ثُمَّ كَانَ يَعْطِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَيُشْعِرُ الْآخَرَ مِنْ قِبَلِ يَمِينِ الْبَعِيرِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ لَا قَصْدًا إلَيْهِ ، فَصَارَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ فِي الْهَدْيِ إذَا كَانَ وَاحِدًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ ) أَيْ : لَا يُنَفَّرُ وَلَا يُطْرَدُ عَنْ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ ( أَوْ يُرَدَّ إذَا ضَلَّ ، وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ ) ؛ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ قَدْ تَحِلُّ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهَا وَالْإِشْعَارُ لَا يُفَارِقُهَا .
( فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً إلَّا أَنَّهُ عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً ) وَالْمُثْلَةُ هِيَ أَنْ يَصْنَعَ بِالْحَيَوَانِ مَا

يَصِيرُ بِهِ مُثُلًا ، وَقِيلَ هِيَ إيلَامُ مَا وَجَبَ قَتْلُهُ أَوْ أُبِيحَ قَتْلُهُ ( فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ) أَيْ : الْإِشْعَارَ ( مُثْلَةٌ وَإِنَّهُ ) أَيْ : فِعْلُ الْمُثْلَةِ ( مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ ) بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُثْلَةً ( فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ ) فَإِنْ قِيلَ : النَّهْيُ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِأُحُدٍ وَالْإِشْعَارُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فَأَيْنَ التَّعَارُضُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَوَى " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَامَ خَطِيبًا إلَّا نَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } " ، فَكَانَ الْإِشْعَارُ مَنْسُوخًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ لِلْمُحْرِمِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَكْرَارِ النَّسْخِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( " { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت } " ) أَيْ : لَوْ عَلِمْت أَوَّلًا مَا عَلِمْت آخِرًا ( لَمَا سُقْت الْهَدْيَ ) ، وَقِصَّةُ ذَلِكَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَفْسَخُوا إحْرَامَ الْحَجِّ وَيُحْرِمُوا بِالْعُمْرَةِ لَمَّا بَلَغُوا مَكَّةَ تَحْقِيقًا لِمُخَالَفَةِ الْكَفَرَةِ ، وَكَانُوا لَا يَفْسَخُونَ وَلَا يَحْلِقُونَ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَحْلِقُ أَوْ لَا ؟ فَاعْتَذَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْت } " إلَخْ ، وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ يَمْنَعُهُ عَنْ التَّحَلُّلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَحَلَّلَ .

قَالَ : ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى ) وَهَذَا لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مُتَمَتِّعٍ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا } وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ ( وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ) كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ جَازَ ، وَمَا عَجَّلَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ ، وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَهُوَ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .وَقَوْلُهُ : ( وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا : يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ }

( وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُحَلِّلٌ فِي الْحَجِّ كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْهُمَا .وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ ) يَعْنِي إحْرَامَ الْعُمْرَةِ وَإِحْرَامَ الْحَجِّ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّحَلُّلُ مِنْهُمَا يَقْتَضِي قِيَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْحَلْقِ ، وَلَوْ كَانَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بَاقِيًا عِنْدَهُ لَزِمَ الْقَارِنَ دَمَانِ إذَا جَنَى بِقَتْلِ الصَّيْدِ قَبْلَ الْحَلْقِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا لَزِمَ قِيمَتَانِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَاقٍ لِلتَّحَلُّلِ لَا غَيْرٍ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِبَاقٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ غَايَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ الْحَجَّ ، وَالْمَضْرُوبُ لَهُ الْغَايَةُ لَا يَبْقَى بَعْدَ وُجُودِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّحَلُّلِ لَا غَيْرَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَقَعْ الْجِنَايَةُ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَجِبُ لِأَجْلِهِ شَيْءٌ كَإِحْرَامِ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي حَقِّ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ وَيَبْقَى فِي حَقِّ الْجِمَاعِ ضَرُورَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ .

قَالَ : ( وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ، وَإِنَّمَا لَهُمْ الْإِفْرَادُ خَاصَّةً ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ) اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَا تَمَتُّعَ لَهُمْ وَلَا قِرَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ، وَإِمَامُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَوْ تَمَتَّعُوا جَازَ وَأَسَاءُوا وَلَزِمَهُمْ دَمُ الْجَبْرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُمْ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَلَكِنْ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْآفَاقِيِّ وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ إشَارَةً إلَى التَّمَتُّعِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَمَتَّعَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِأَهْلِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَمَتُّعٌ .
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْهَدْيِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَلِأَجْلِ هَذَا قُلْت : إنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَوْضُوعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَعِيدِ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ عَلَى لِسَانِهِمْ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْهَدْيِ قَرِيبٌ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَهُ ، وَالتَّمَتُّعُ الْمَفْهُومُ مِنْ تَمَتَّعَ بَعِيدٌ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُصَارُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ إذَا أَمْكَنَ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِالِاتِّفَاقِ فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِإِطْلَاقِهِ ؟ قُلْت : لَا إطْلَاقَ ثَمَّةَ بَلْ كَلِمَةُ مَنْ عَامَّةٌ خُصَّتْ بِقَوْلِهِ { : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ لَنَا ، وَتَقْرِيرُ شَرْعِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ ( بِإِسْقَاطِ إحْدَى السُّفْرَتَيْنِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالتَّرَفُّهُ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشَقُّ

عَلَيْهِ هَذَا السَّفَرُ لِقُرْبِهِ حَتَّى يُتْرِفَهُ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْتُمْ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ لَكِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا عَدَاهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْقِرَانَ وَالْمُتْعَةَ إبَانَةً لِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِهِمْ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَالنَّسْخُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً ، وَرُجُوعُ الْإِشَارَةِ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ يُنَافِي ذَلِكَ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهُ أَيْضًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْعَدَمُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النَّسْخَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَيْضًا ، حَتَّى لَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ التَّمَتُّعِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْمَامَ قَطَعَ مُتْعَتَهُ كَمَا قَطَعَ مُتْعَةَ الْآفَاقِيِّ إذَا رَجَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلَى أَهْلِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْمُتْعَةِ لَا عَلَى عَدَمِ إدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ مُتْعَتَهُ نَقَصَتْ عَنْ مُتْعَةِ الْآفَاقِيِّ بِصَيْرُورَةِ دَمِهِ دَمَ جَبْرٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ ) هَذَا رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ { حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَعِنْدَنَا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ سَفَرٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ سَفَرٍ ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ : يَعْنِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ

مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، بِخِلَافِ مَا ( إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحُّ ) بِلَا كَرَاهَةٍ ( لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ ) قَالَ الْمَحْبُوبِيُّ : هَذَا إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَهَا فَقَدْ مَنَعَ مِنْ الْقِرَانِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ .
وَإِنَّمَا خُصَّ الْقِرَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ وَاعْتَمَرَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .

( وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُمَا بِسَفْرَتَيْنِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَحَّ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ .

قَوْلُهُ : ( وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ ) بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ( لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ ، ( وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ كَذَا رُوِيَ عَنْ ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَ ( عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ) ، وَهَذَا لِأَنَّ حَدَّ التَّمَتُّعِ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ حَيْثُ أَنْشَأَ لِكُلِّ نُسُكٍ سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ مَنْ يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ ( وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا : يَعْنِي الْآفَاقِيَّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلْمَامُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ ( إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ هُوَ مَا يَكُونُ عَنْ الْوَطَنِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى مَكَّةَ وَلَيْسَ هَاهُنَا بِمَوْجُودٍ لِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي مَكَّةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَوْدُ ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ إذَا لَمْ يَسُقْ كَانَ أَوْلَى .

( وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَتَمَّمَهَا وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا شَرْطٌ فَيَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فِيهَا ، وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّوَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ) فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ أَدَّى الْأَعْمَالَ فِيهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهَا إذَا كَانَ التَّحَلُّلُ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِيهَا .
وَقُلْنَا : إنْ أَدَّى أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِيهَا كَانَ مُتَمَتِّعًا وَإِلَّا فَلَا .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِتَقَدُّمِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْإِحْرَامُ ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ بِاعْتِبَارِ الْإِتْمَامِ وَهُوَ التَّحَلُّلُ فِيهَا ، وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ فِيهَا وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ .
قِيلَ : إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ فَإِنَّ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ مِنْ الظُّهْرِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْكُلِّ لِمُعَارَضَةِ النَّصِّ النَّاطِقِ بِرُبَاعِيَّةِ الظُّهْرِ .

( وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ) ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ؛ وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .قَوْلُهُ : ( فَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ .
قَوْلُهُ : ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَأَرَادَ بِالنُّسُكِ الْعُمْرَةَ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُسُكَ الْعُمْرَةِ يَفْسُدُ إذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يَفْسُدْ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ، فَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَوْ تَحَلَّلَ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فَكَذَا هَذَا ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْمَذْكُورُ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ وَهَذَا فِي حُكْمِ الْإِتْمَامِ فِي حَقِّ عَدَمِ الْفَسَادِ فَكَذَا فِي حَقِّ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ ( ؛ وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ ) إنَّمَا يَكُونُ ( بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ هُوَ الْمُتَرَفِّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ) فَلَا بُدَّ أَنْ تُوجَدَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا فِيهِ حَتَّى يَكُونَ مُتَمَتِّعًا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الشَّافِعِيِّ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بَلْ هُوَ مِنْ الشُّرُوطِ

قَالَ ( : وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ .

( قَالَ : وَأَشْهُرُ الْحَجِّ : شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ) لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هُوَ الَّذِي يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْأَشْهُرَ فَقَالَ : أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ .
فَإِنْ قُلْت : هَلْ لِلْمُتَمَتِّعِ اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ أَوْ الْقَارِنُ أَيْضًا لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
قُلْت : قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَجَدْت رِوَايَةً فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ ذَلِكَ .
قَالَ فِي الْمُنْتَقَى : رَجُلٌ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ : أَيْ أَحْرَمَ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ قَارِنًا وَلَكِنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ : ( كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ) ، إنَّمَا فَصَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَهْم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُفْهَمُ فِي عُرْفِهِمْ مِنْ إطْلَاقِ الْعَبَادِلَةِ إلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ فَالْعَبَادِلَةُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَلَيْسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ ؛ ( وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ ) وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَالِكٍ إنَّ وَقْتَ الْحَجِّ جَمِيعُ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ .
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ .
فَإِنْ قُلْت : الْحَجُّ يَفُوتُ

بِمُضِيِّ عَشْرِ لَيَالٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ .
قُلْت : هُوَ مُتَمَسَّكُ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : فَوَاتُ الْحَجِّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ لَا لِأَنَّهُ خَرَجَ وَقْتُ الْحَجِّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ قَبْلَهُ وَهُوَ رُكْنٌ وَالرُّكْنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ اعْتَبَرْتُمْ الْفَوَاتَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ ، وَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَجُوزُ فِيهِمَا ، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْحِجَّةِ إلَى آخِرِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : الْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ : شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ اللَّيَالِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي دُخُولِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا وَجْهُ دُخُولِ شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ فِي وَقْتِهِ وَأَدَاءُ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ فِيهِمَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِهِ يَصِحُّ فِيهِمَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ وَطَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَسَعَى بَعْدَهُ فَإِنَّ هَذَا السَّعْيَ يَكُونُ السَّعْيَ الْوَاجِبَ فِي الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي

رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا ) أَيْ : مَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ ( يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } شَهْرَانِ وَبَعْضُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ ) وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ .
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ : لَفْظُ أَشْهُرٍ عَامٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ بَعْضٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْخُصُوصُ إذَا كَانَ الْعَامُّ جَمَعَا الثَّلَاثَةَ ، وَلِأَنَّ الْخُصُوصَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا بِإِخْرَاجِ بَعْضِ كُلِّ فَرْدٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اسْمُ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ .
وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِلْبَاسِ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُلْبِسٌ .
وَأَقُولُ : هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ .
فَإِنْ قُلْت : فَيَكُونُ مَجَازًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَرِينَةٍ .
قُلْت : سِيَاقُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَالَ { : الْحَجُّ أَشْهُرٌ } وَالْحَجُّ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأَشْهُرٍ ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : الْحَجُّ فِي أَشْهُرٍ ، وَالظَّرْفُ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْرَاقَ فَكَانَ الْبَعْضُ مُرَادًا .
وَعَيْنُهُ مَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ .

( فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ إحْرَامُهُ وَانْعَقَدَ حَجًّا ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهُ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ ، وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ .

وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ قَدِمَ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا ) أَيْ : عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ .
( جَازَ إحْرَامُهُ ) عِنْدَنَا ( وَانْعَقَدَ حَجًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ ) فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ أَوَانِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ الْحَجِّ وَالْمُدَّعِي وُقُوعَهُ إحْرَامًا لِلْعُمْرَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْرَامَ إذَا وُجِدَ وَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ كَمَنْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ مِنْ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَارِعًا فِي النَّفْلِ ، ( وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا كُرِهَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ لِلتَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ بَلْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ بِطُولِ الزَّمَانِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ ) أَيْ : يَسْتَلْزِمُهُ كَتَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، ( وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ ) كَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَأَمْثَالِهِمَا ، ( وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ ) يَعْنِي الْمِيقَاتَ .
لَا يُقَالُ : هَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { الْمُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُهِلٌّ بِالْعُمْرَةِ } " وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيمُهُ .
لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا الْحَدِيثُ شَاذٌّ جِدًّا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ

قَالَ ( وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَفَرَغَ مِنْهَا وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَنُسُكَاهُ هَذَانِ مِيقَاتِيَّانِ .
وَلَهُ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ فِيهَا فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ ( فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا وَفَرَغَ مِنْهَا وَقَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : هُوَ مُتَمَتِّعٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَقَدْ تَرَفَّقَ فِيهِ بِنُسُكَيْنِ .
وَلَهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى وَطَنِهِ ( فَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْشَاءُ سَفَرٍ لِانْتِهَاءِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ فِيهِ ، وَلَوْ بَقِيَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ مَكِّيَّةٌ وَالسَّفَرُ الْأَوَّلُ انْتَهَى بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ .

قَالَ : ( وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ ( ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ) يَعْنِي أَقَامَ بِهَا بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ وَحَلَقَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مُتَمَتِّعٌ .
وَالثَّانِي مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ ( أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ) وَقَالَ : وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا .
وَالثَّالِثُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ الْمِيقَاتَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ أَيْضًا مُتَمَتِّعٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يُعْلَمُ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَالرَّابِعُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَيَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ : ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) أَيْ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا صَارَ فِيهِ مُتَمَتِّعًا ( لِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَمِثْلُهُ مُتَمَتِّعٌ .
( وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ ) ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مُلْبِسٌ لِأَنَّهُ قَالَ فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَفِي كَوْنِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ .
وَرَوَى الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَنْ أَبِي عِصْمَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ : يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ ؛ لِأَنَّ

الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نُسُكَيْهِ مِيقَاتِيَّانِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا وَعَادَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَكَانَ كَالْمُلِمِّ بِأَهْلِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى عَادَ وَحَجَّ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ .
وَعِنْدَهُمَا أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَصَلَ إلَى أَهْلِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَلَمْ يَقُلْ : فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الدَّمِ ، فَقَالَ : وَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَهُوَ دَمُ قُرْبَةٍ لِكَوْنِهِ دَمَ شُكْرٍ ؛ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَيُصَارُ إلَى إيجَابِهِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ ) أَيْ : بِإِحْرَامِ عُمْرَةٍ ( فَأَفْسَدَهَا ) بِأَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ ( وَفَرَغَ مِنْهَا ) يَعْنِي مَضَى ( وَقَصَّرَ ) وَتَحَلَّلَ ( ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ) أَيْ : قَضَى الْعُمْرَةَ الَّتِي أَفْسَدَهَا ، ( وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) يَعْنِي إذَا كَانَ خُرُوجُهُ إلَى الْبَصْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتَمَرَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِلَا خِلَافٍ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُوَ مُتَمَتِّعٌ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .

( وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَأَيُّهُمَا أَفْسَدَ مَضَى فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ ( وَسَقَطَ دَمُ الْمُتْعَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقْ بِأَدَاءِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ

( وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمْ يُجِزْهَا عَنْ الْمُتْعَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ .وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمَّا يُجْزِهَا عَنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا ) إذْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا دَمُ الْمُتْعَةِ ، وَالْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، وَلَئِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَنْ اشْتَرَتْ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ آخَرُ عَلَيْهَا غَيْرَ مَا وَجَبَ بِالتَّمَتُّعِ ، ( وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ ) وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ السَّائِلَةَ كَانَتْ امْرَأَةً فَوَضَعَتْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا وَقَعَ وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهِنَّ الْجَهْلُ وَنِيَّةُ التَّضْحِيَةِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ جَهْلٍ .
ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُجْزِهَا عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ كَانَ عَلَيْهَا دَمَانِ سِوَى مَا ذَبَحَتْ : دَمُ الْمُتْعَةِ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا ، وَدَمٌ آخَرُ لِأَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ قَبْلَ الذَّبْحِ

( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ ، وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا .، ( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ : مَا يُبْكِيك لَعَلَّك نَفِسْت ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، دَعِي عَنْك الْعُمْرَةَ ، أَوْ قَالَ : اُرْفُضِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } " وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا هُوَ بِقَوْلِهِ : وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاغْتِسَالِ ، وَلَكِنْ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ قَالَتْ " { : نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ } " دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ ( وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ ) وَالْحَائِضُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ دُخُولِهِ ، ( وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ ) وَلَيْسَتْ بِمَنْهِيَّةٍ عَنْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الِاغْتِسَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْحَيْضِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا ) لِلنَّظَافَةِ .

( فَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ انْصَرَفَتْ مِنْ مَكَّةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ ) { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ } .وَقَوْلُهُ : ( وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ ) أَيْ : لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ ؛ { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ } ، رَوَتْ عَائِشَةُ " { أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : عَقْرَى حَلْقَى إنَّك لَحَابِسَتُنَا ، أَمَا كُنْت طُفْت يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَلَا بَأْسَ انْفِرِي } " فَلَمَّا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ جَازَ تَرْكُهُ بِعُذْرٍ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ كَفَّارَةٌ ، وَعَقْرَى وَحَلْقَى عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَعْلَى ، وَمَعْنَاهُ : عَقَرَ جَسَدُهَا وَأَصَابَهَا فِي حَلْقِهَا وَجَعٌ .

( وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ يُصْدَرُ إلَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا بَعْدَمَا حَلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَرْوِيهِ الْبَعْضُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ ) يَعْنِي الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ( لِأَنَّهُ وَجَبَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ) كَمَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ .
فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ صَارَ كَمُقِيمٍ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ بَاقٍ بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ ، وَمَا بَقِيَ الْوَقْتُ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْقُطُ بِالْعَارِضِ الْمُعْتَبَرِ كَالْمَرْأَةِ الَّتِي حَاضَتْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ .

( وَإِذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الِارْتِفَاقِ ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُوجِبِ ( وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) ؛ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .
وَفِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا طَيَّبَ رُبُعَ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
ثُمَّ وَاجِبُ الدَّمِ يَتَأَدَّى بِالشَّاةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الْهَدْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكُلُّ صَدَقَةٍ فِي الْإِحْرَامِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

بَابُ الْجِنَايَاتِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُحْرِمِينَ بَدَأَ بِمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنْ الْعَوَارِضِ مِنْ الْجِنَايَاتِ وَالْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ ، وَهِيَ جَمْعُ جِنَايَةٍ ، وَالْجِنَايَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا سَوَاءٌ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ ، وَلَكِنَّهُمْ أَعْنِي الْفُقَهَاءَ خَصُّوهَا بِالْفِعْلِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ .
فَأَمَّا الْفِعْلُ فِي الْمَالِ فَسَمَّوْهُ غَصْبًا ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا فِعْلٌ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيَانَ أَنَّهَا هَاهُنَا أَنْوَاعٌ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ ) التَّطَيُّبُ عِبَارَةٌ عَنْ لُصُوقِ عَيْنٍ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بِبَدَنِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِعُضْوٍ مِنْهُ ، فَلَوْ شَمَّ طِيبًا وَلَمْ يَلْتَصِقْ بِبَدَنِهِ مِنْ عَيْنِهِ شَيْءٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ تَطَيُّبَ الْمُحْرِمِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } " وَالتَّطَيُّبُ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فَكَانَ جِنَايَةً لَكِنَّهَا تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ، فَفَصَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَقَوْلُهُ : فَمَا زَادَ فُصِّلَ فِي الْبَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ ) ظَاهِرٌ .
وَالْفَاصِلُ فِي الِارْتِفَاقِ بَيْنَ الْكَامِلِ وَالْقَاصِرِ الْعَادَةُ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ لِقَضَاءِ التَّفَثِ عُضْوٌ كَامِلٌ فَتَتِمُّ بِهِ الْجِنَايَةُ وَفِيمَا دُونَهُ فِي جِنَايَتِهِ نُقْصَانٌ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ) هُوَ قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ إلَخْ ، وَقَوْلُهُ ( إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ ) يَعْنِي إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ ) يَعْنِي أَنَّ التَّصَدُّقَ فِيهِمَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِنِصْفِ صَاعٍ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ ،

قَالَ ( فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحِنَّاءُ طِيبٌ } وَإِنْ صَارَ مُلَبَّدًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِلتَّطَيُّبِ وَدَمٌ لِلتَّغْطِيَةِ .
وَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِطِيبٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ ؛ لِأَجْلِ الْمُعَالَجَةِ مِنْ الصُّدَاعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ .
ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ .وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحِنَّاءُ طِيبٌ } قَالَهُ حِينَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ ، ( وَإِنْ صَارَ مُلَبَّدًا ) بِأَنْ كَانَ الْحِنَّاءُ جَامِدًا غَيْرَ مَائِعٍ ( فَعَلَيْهِ دَمَانِ : دَمٌ لِلتَّطَيُّبِ ، وَدَمٌ لِلتَّغْطِيَةِ ) يَعْنِي إذَا غَطَّاهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَكَذَا إذَا غَطَّى رُبْعَ الرَّأْسِ ، أَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ ) أَيْ : يُغَطِّيهِ ، وَالْوَسِمَةُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَسُكُونِهَا : شَجَرَةٌ وَرَقُهَا خِضَابٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا ) أَيْ : تَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ بِالتَّغْلِيفِ ( صَحِيحٌ ) ؛ لِأَنَّ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْحِنَّاءِ ( رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَاقْتَصَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ ) خَاصَّةً وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ .

( فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِزَالَةِ الشَّعَثِ ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ ارْتِفَاقًا بِمَعْنَى قَتْلِ الْهَوَامِّ وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ فَكَانَتْ جِنَايَةً قَاصِرَةً .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ طِيبٍ ، وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ وَيُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيُزِيلُ التَّفَثَ وَالشَّعَثَ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتُوجِبُ الدَّمَ ، وَكَوْنُهُ مَطْعُومًا لَا يُنَافِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ وَالْخَلِّ الْبَحْتِ .
أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْهُ كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ ، وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ الطِّيبِ أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهِ فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ ) يَعْنِي بِزَيْتٍ خَالِصٍ ، أَمَّا الْمُطَيِّبُ بِغَيْرِهِ فَيَجِيءُ ذِكْرُهُ ( فَعَلَيْهِ دَمٌ ) إذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( إنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ ) فَإِنَّ الرَّوَائِحَ تُلْقَى فِيهِ فَيَصِيرُ غَالِيَةً فَصَارَ كَبَيْضِ الصَّيْدِ فِي الْأَصَالَةِ يَلْزَمُ بِكَسْرِهِ الْجَزَاءُ فَكَذَا بِاسْتِعْمَالِهِ .
قَوْلُهُ : ( وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ ) أَيْ : الْخَالِصِ ( وَالْحَلِّ ) أَيْ : دُهْنِ السِّمْسِمِ ، ( أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْهُ كَالْبَنَفْسَجِ ) وَهُوَ مَعْرُوفٌ ( وَالزَّنْبَقِ ) عَلَى وَزْنِ الْعَنْبَرِ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ ( وَمَا أَشْبَهَهُمَا ) كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ ( فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ ، وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ ) كَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ ؛ لِأَنَّهَا طِيبٌ بِنَفْسِهَا فَيَجِبُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي .

( وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ الدَّمُ بِنَفْسِ اللُّبْسِ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ يَتَكَامَلُ بِالِاشْتِمَالِ عَلَى بَدَنِهِ .
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى التَّرَفُّقِ مَقْصُودٌ مِنْ اللُّبْسِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الْكَمَالِ وَيَجِبُ الدَّمُ ، فَقُدِّرَ بِالْيَوْمِ ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يُنْزَعُ عَادَةً وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ .
وَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ أَوْ ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ .
وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ خِلَافًا لِزَفَرٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَبِسَهُ لُبْسَ الْقَبَاءِ وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ فِي حِفْظِهِ .
وَالتَّقْدِيرُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَطَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ ، وَلَوْ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الرُّبُعَ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ وَالْعَوْرَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْبَعْضِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) حُكْمُ اللَّيْلَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى التَّرَفُّقِ مَقْصُودٌ مِنْ اللُّبْسِ ) لِأَنَّهُ أَعَدَّ لِذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يَمْتَدُّ فَيَكُونُ الِارْتِفَاقُ كَامِلًا ، وَقَدْ يُقَصِّرُ فَيَصِيرُ نَاقِصًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ الْكَامِلِ وَالْقَاصِرِ لِيَتَعَيَّنَ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَقُدِّرَ بِالْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ ؛ ( لِأَنَّهُ يُلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يُنْزَعُ عَادَةً ) فَإِنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَلِيقُ بِالنَّهَارِ يَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَلِيقُ بِاللَّيْلِ يَنْزِعُهُ بِالنَّهَارِ ، فَإِذَا نَزَعَ دَلَّ عَلَى تَمَامِ الِارْتِفَاقِ فَيَجِبُ فِيهِ الدَّمُ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ تَتَقَاصَرُ الْجِنَايَةُ فِيهِ لِنُقْصَانِ الِارْتِفَاقِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ ، ( غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ ) ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَيَنْزِعُ ثِيَابَهُ الَّتِي لَبِسَهَا لِلنَّاسِ ، فَكَانَ اللُّبْسُ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا مَقْصُودًا ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَإِنَّ أَحْوَالَ رُجُوعِ النَّاسِ إلَى بُيُوتِهِمْ قَبْلَ اللَّيْلِ مُخْتَلِفَةٌ ، بَعْضُهُمْ يَرْجِعُ فِي وَقْتِ الضُّحَى ، وَبَعْضُهُمْ قَبْلَهُ ، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَهُ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ ) الِاتِّشَاحُ هُوَ أَنْ يُدْخِلَ ثَوْبَهُ تَحْتَ يَدِهِ الْيُمْنَى وَيُلْقِيَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ .
وَقَوْلُهُ : ( خِلَافًا لِزُفَرَ ) هُوَ يَقُولُ : الْقَبَاءُ مَخِيطٌ ، فَإِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ صَارَ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ ، فَإِنَّ الْقَبَاءَ يُلْبَسُ هَكَذَا عَادَةً .
وَقُلْنَا : مَا لَبِسَ لِبْسَ الْقَبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ الضَّمُّ إلَى نَفْسِهِ بِإِدْخَالِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْيَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَبْوِ وَهُوَ الضَّمُّ وَلَمْ يُوجَدْ ، ( وَلِهَذَا

يَتَكَلَّفُ فِي حِفْظِهِ ) وَعَلَى هَذَا لَوْ زَرَّهُ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ كَانَ لَابِسًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ إذْ ذَاكَ فِي حِفْظِهِ وَإِنَّمَا أَعَادَ قَوْلَهُ : ( وَالتَّقْدِيرُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ) لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْفُرُوعَ .
وَقَوْلُهُ : ( مَا بَيَّنَّاهُ ) هُوَ مَا قَالَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَطَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ : ( يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ ) كَالْأَتْرَاكِ وَالْأَكْرَادِ فَإِنَّهُمْ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ بِالْقَلَانِسِ الصِّغَارِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ رِفْقًا كَامِلًا ، ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ ) أَيْ : لِحَقِيقَةِ الْكَثْرَةِ ، إذْ حَقِيقَتُهَا إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا قَابَلَهَا أَقَلُّ مِنْهَا وَالرُّبْعُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً .

( وَإِذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ بِحَلْقِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِنَبَاتِ الْحَرَمِ .
وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فَتَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ بِخِلَافِ تَطِيب رُبُعِ الْعُضْوِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَكَذَا حَلْقُ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مُعْتَادٌ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ ( وَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ .
( وَإِنْ حَلَقَ الْإِبْطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِدَفْعِ الْأَذَى وَنَيْلِ الرَّاحَةِ فَأَشْبَهَ الْعَانَةَ .
ذَكَرَ فِي الْإِبْطَيْنِ الْحَلْقَ هَاهُنَا وَفِي الْأَصْلِ النَّتْفُ وَهُوَ السُّنَّةُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( إذَا حَلَقَ عُضْوًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَطَعَامٌ ) أَرَادَ بِهِ الصَّدْرَ وَالسَّاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِطَرِيقِ التَّنُّورِ فَتَتَكَامَلُ بِحَلْقِ كُلِّهِ وَتَتَقَاصَرُ عِنْدَ حَلْقِ بَعْضِهِ ( وَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ ) طَعَامٌ ( حُكُومَةُ عَدْلٍ ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ أَنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ كَمْ يَكُونُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ بِحَسَبِ ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَثَلًا مِثْلَ رُبُعِ الرُّبُعِ لَزِمَهُ قِيمَةُ رُبُعِ الشَّاةِ ، وَلَفْظَةُ الْأَخْذِ مِنْ الشَّارِبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَصَّ حَتَّى يُوَازِيَ الْإِطَارَ .
قَالَ ( وَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ الْحِجَامَةَ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا ، وَإِلَّا أَنَّ فِيهِ

إزَالَةَ شَيْءٍ مِنْ التَّفَثِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَلْقَهُ مَقْصُودٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ إزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ الدَّمُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا حَلَقَ رُبْعَ رَأْسِهِ ) ظَاهِرٌ ( وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ ) عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } فَإِنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِلْكُلِّ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ بِحَلْقِ الْقَلِيلِ ) وَهُوَ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ ، وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِاسْمِ الْجِنْسِ ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِاسْمِ الْجِنْسِ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا فِي نَبَاتِ الْحَرَمِ ، ( وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ ) ، فَإِنَّ الْأَتْرَاكَ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَبَعْضُ الْعَلَوِيَّةِ يَحْلِقُونَ نَوَاصِيَهُمْ لِابْتِغَاءِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ ، وَالِارْتِفَاقُ الْكَامِلُ تَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، ( وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ ) وَفِي قَوْلِهِ : فَتَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ قَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ : بِحَلْقِ كُلِّ الرَّأْسِ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِالْبَعْضِ أَيْضًا .
وَفِي قَوْلِهِ : وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالْقَلِيلِ ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْقَلِيلِ قَاصِرَةٌ فَكَيْفَ تُوجِبُ الدَّمَ .
وَأَمَّا حَلْقُ اللِّحْيَةِ فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ، فَإِنَّ الْأَكَاسِرَةَ كَانُوا يَحْلِقُونَ لِحَى شُجْعَانِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ مِنْ اللِّحْيَةِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ وَمَا يُشْبِهُهُ مُعْتَادٌ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ ، فَكَانَ مَقْصُودًا بِالِارْتِفَاقِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ فَأُلْحِقَ بِهِ احْتِيَاطًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَنَاسِكِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ حَتَّى وَجَبَتْ بِالْأَعْذَارِ ، بِخِلَافِ تَطْيِيبِ رُبْعِ الْعُضْوِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، إذْ الْعَادَةُ فِي الطِّيبِ لَيْسَتْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الرُّبْعِ فَكَانَ الْعُضْوُ الْكَامِلُ فِي الطِّيبِ كَالرُّبْعِ فِي الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ ، ( وَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ

مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ ( وَإِنْ حَلَقَ الْإِبِطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِدَفْعِ الْأَذَى وَنَيْلِ الرَّاحَةِ فَأَشْبَهَ الْعَانَةَ ) قِيلَ : إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِبِطَيْنِ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِحَلْقِهِمَا دَمَانِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جِنَايَاتِ الْمُحْرِمِ إذَا كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ يَجِبُ فِيهَا ضَمَانٌ وَاحِدٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَزَالَ شَعْرَ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِالتَّنُّورِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ ؟ ( ذُكِرَ فِي الْإِبِطَيْنِ الْحَلْقُ هَاهُنَا ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَفِي الْأَصْلِ ) أَيْ : الْمَبْسُوطِ ( النَّتْفُ وَهُوَ السُّنَّةُ ) بِخِلَافِ الْعَانَةِ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْحَلْقُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ ، مِنْهَا الِاسْتِحْدَادُ } " وَتَفْسِيرُهُ حَلْقُ الْعَانَةِ بِالْحَدِيدِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا حَلَقَ عُضْوًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) قِيلَ : قَوْلُهُمَا بَيَانٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ عَنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ : ( أَرَادَ بِهِ ) أَيْ : بِقَوْلِهِ عُضْوًا ( الصَّدْرَ وَالسَّاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ) مِثْلَ الْفَخِذِ وَالْعَضُدِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْجِنَايَةُ بِالْحَلْقِ إنَّمَا تَتَكَامَلُ إذَا كَانَ الْعُضْوُ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ .
قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرْت هُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ بَعْدَمَا ذَكَرَ حَلْقَ الرَّأْسِ : ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ مَتَى حَلَقَ عُضْوًا مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ مِنْ بَدَنِهِ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ حَلَقَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ ثُمَّ قَالَ : وَمِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ ، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالتَّنُّورِ : أَيْ : إزَالَتُهُ بِالنُّورَةِ ، وَلَا فَرْقَ

عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي إزَالَةِ الشَّعْرِ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالنَّتْفِ وَالتَّنُّورِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ بِحَلْقِ كُلِّهِ كَامِلَةً وَبِحَلْقِ بَعْضِهِ قَاصِرَةً .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقِيلَ الشَّارِبُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ حَلْقَ الشَّارِبِ دُونَ اللِّحْيَةِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ تَكَامُلَ الْجِنَايَةِ بِحَلْقِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَعَ اللِّحْيَةِ فِي الْحَقِيقَةِ عُضْوٌ وَاحِدٌ لِاتِّصَالِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَالرَّأْسِ : فَإِنَّ مِنْ الْعَلَوِيَّةِ مَنْ عَادَتُهُ حَلْقُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّهُ لَيْسَ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ ، وَقَوْلُهُ : ( تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ ) هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { عَشْرَةٌ مِنْ فِطْرَتِي وَفِطْرَةِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا قَصَّ الشَّارِبِ } " .
وَقَوْلُهُ : ( حَتَّى يُوَازِيَ الْإِطَارَ ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : إطَارُ الشَّفَةِ مُلْتَقَى جِلْدَتِهَا وَلَحْمَتِهَا مُسْتَعَارٌ مِنْ إطَارِ الْمُنْخُلِ وَالدُّفِّ .
قَالَ : ( وَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) الْمُرَادُ بِالْمَحَاجِمِ هَاهُنَا جَمْعُ مِحْجَمٍ اسْمُ آلَةٍ مِنْ الْحِجَامَةِ بِدَلِيلِ ذِكْرِ اسْمِ الْمَوْضِعِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مَحْجَمٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ الْحِجَامَةِ ، وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ اشْتِبَاهٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ حَلْقَهُ مَقْصُودًا وَوَسِيلَةً وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ حَلْقَهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بَلْ قَالَ : مَقْصُودًا ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَقْصُودٌ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقْصُودِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ .

وَقَوْلُهُ : ( عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ ) يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حَقِّ الْحِجَامَةِ عُضْوٌ كَامِلٌ .

( وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ الصَّدَقَةُ ، وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ .
وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ النَّوْمِ وَالْإِكْرَاهِ يَنْتَفِي الْمَأْثَمُ دُونَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ، وَهُوَ مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ حَتْمًا ، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ حَيْثُ يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ وَهَاهُنَا مِنْ الْعِبَادِ ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسَهُ عَلَى الْحَالِقِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ فِي حَقِّ الْعُقْرِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ ، وَأَمَّا الْحَالِقُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ .
لَهُ أَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ .
وَلَنَا أَنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ فِي شَعْرِهِ ( فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَلَالٍ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ ) وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا .
وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ ؛ لَأَنْ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ ( وَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ وَإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ ، فَإِذَا قَلَّمَهَا كُلَّهَا فَهُوَ ارْتِفَاقٌ

كَامِلٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَلَا يُزَادُ عَلَى دَمٍ إنْ حَصَلَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إلَّا إذَا تَخَلَّلَتْ الْكَفَّارَةُ لِارْتِفَاعِ الْأُولَى بِالتَّكْفِيرِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَلَّمَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يَدًا أَوْ رِجْلًا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيِ السَّجْدَةِ .

قَوْلُهُ : ( وَإِنْ حَلَقَ ) يَعْنِي الْمُحْرِمَ ( رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، ) الْحَالِقُ وَالْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالَيْنِ أَوْ مُحْرِمَيْنِ ، أَوْ الْحَالِقُ حَلَالٌ وَالْمَحْلُوقُ مُحْرِمٌ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَالْأَوَّلُ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِقِ فِيهِ صَدَقَةٌ سَوَاءٌ حَلَقَ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الِارْتِفَاقُ ، وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ ، وَلَا عَلَى الْمَحْلُوقِ ( إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِحُكْمِ الْفِعْلِ ، وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ وَيَنْعَدِمُ بِالنَّوْمِ ، وَقُلْنَا فِي الْحَالِقِ : إنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ ، وَتَنَاوُلُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ يُوجِبُ الْجَزَاءَ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي غَيْرِ بَدَنِهِ كَمَا فِي نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي شَعْرِهِ مُتَكَامِلَةٌ فَيَلْزَمُهُ فِيهِ الدَّمُ وَفِي غَيْرِهِ الصَّدَقَةُ ، وَفِي الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ تَقَرَّرَ السَّبَبُ وَهُوَ نَيْلُ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ ، وَالنَّوْمُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَصْلُحَانِ مَانِعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْثَمَ يَنْتَفِي بِهَا دُونَ الْحُكْمِ .
قِيلَ : ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا أَنَّ بِحَلْقِ الشَّعْرِ تَحْصُلُ الزِّينَةُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَذَكَرَ فِي الدِّيَاتِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْجَمَالِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ هُوَ الزِّينَةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَمَالٌ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ عَادِمُهُ فِي سَتْرِهِ ، وَيَحْصُلُ بِحَلْقِهِ

زِينَةُ إزَالَةِ الشُّعْثِ وَالتُّفْلِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ زَالَ التَّنَاقُضُ ، وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حَتْمًا : أَيْ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ الْمُضْطَرِّ إلَى حَلْقِ رَأْسِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا حَلَقَهُ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ( لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ ، وَفِي صُورَةِ النِّزَاعِ مِنْ الْعِبَادِ ثُمَّ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْحَالِقِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ ) وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَرْجِعُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ مَالِهِ .
وَقُلْنَا : ( الدَّمُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ ) إذَا ضَمِنَ الْعُقْرَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا ) هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى الْحَالِقِ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْمَحْلُوقِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ .
وَقَوْلُهُ : ( فِي مَسْأَلَتِنَا ) أَرَادَ بِهِ مَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ مُحْرِمًا .
وَقَوْلُهُ : ( فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَرَادَ بِهِ مَا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَخَذَ ) يَعْنِي الْمُحْرِمَ ( مِنْ شَارِبِ حَلَالٍ أَوْ قَصَّ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ : إنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ ) إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ وَالْأَخْذُ مِنْ شَارِبِهِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَلْبَسَ غَيْرُهُ مَخِيطًا فِي عَدَمِ ارْتِفَاقِهِ ، فَكَمَا لَا يَجِبُ فِي الْإِلْبَاسِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي الْحَلْقِ وَأَخْذِ الشَّارِبِ ارْتِفَاقًا لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ ،

وَلَيْسَ فِي إلْبَاسِ الْمَخِيطِ ذَلِكَ لَكِنَّ التَّأَذِّي بِتَفَثِ غَيْرِهِ أَقَلُّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ ( فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ ) وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ قَصَّ ) أَيْ الْمُحْرِمُ ( أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ ) يَعْنِي تَسْمِيَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا تَسْمِيَةً فَلِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى قَصًّا ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ مِنْ حَيْثُ الْقَصُّ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ يَكْفِيهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ جَمِيعًا فَكَانَ مَبْنَاهَا عَلَى ذَلِكَ ( فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ ) ، وَهُمَا يَقُولَانِ : كَفَّارَةُ الْإِحْرَامِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ كَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُضْطَرِّ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ لَا تَتَدَاخَلُ فَقُلْنَا بِتَقَيُّدِ التَّدَاخُلِ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ ، وَالْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةٌ فَرَجَّحْنَا اتِّحَادَ الْمَقْصُودِ بِوُجُودِ الْجَامِعِ وَهُوَ الْمَجْلِسُ ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَيَلْزَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْجِنَايَاتُ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ كَمَا إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَاهُنَا اتِّحَادَ الْمَقْصُودِ وَاتِّحَادَ الْمَحَلِّ وَكَذَا اخْتِلَافُهُمَا ، فَمَتَى اتَّحَدَ الْجَمِيعُ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ ، وَمَتَى اخْتَلَفَ الْجَمِيعُ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ مُتَعَدِّدَةً ؛ وَمَتَى اتَّحَدَ الْمَقْصُودُ وَاخْتَلَفَ الْمَحَالُّ ، فَإِنْ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ تَقَوَّى جَانِبُ الِاتِّحَادِ فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَمَتَى اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ

تَقَوَّى جَانِبُ الِاخْتِلَافِ وَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا ظَهَرَ لُزُومُ التَّعَدُّدِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ وَلُزُومُ الْوَحْدَةِ عِنْدَ اتِّحَادِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُتَّحِدٌ وَالْمَقْصُودُ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَحَلِّ النِّزَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَالَّ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَا يُشْكِلُ بِحَلْقِ الْإِبِطَيْنِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مُتَّحِدٌ وَالْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةٌ .
وَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُّ فِي اتِّحَادِ الْجَزَاءِ بَيْنَ مَا كَانَ الْمَجْلِسُ مُتَّحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَلَأَنْ كَانَتْ فَثَمَّةَ مَا يُوجِبُ اتِّحَادَ الْمَحَالِّ وَهُوَ التَّنْوِيرُ ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَّرَ جَمِيعَ الْبَدَنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَلْقَ مِثْلُ التَّنْوِيرِ ، وَلَيْسَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ مَا يَجْعَلُهَا كَذَلِكَ .

( وَإِنْ قَصَّ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) إقَامَةٌ لِلرُّبُعِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ ( وَإِنْ قَصَّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِيرَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) مَعْنَاهُ تَجِبُ بِكُلِّ ظُفُرٍ صَدَقَةٌ .
وَقَالَ زَفَرٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ الدَّمُ بِقَصِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ فِي أَظَافِيرِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ دَمًا ، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا .
وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَظَافِيرَ كَفٍّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ وَقَدْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ الْكُلِّ ، فَلَا يُقَامُ أَكْثَرُهَا مَقَامَ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ( وَإِنْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) : رَحِمَهُ اللَّهُ ( عَلَيْهِ دَمٌ ) اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَصَّهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ ، وَبِمَا إذَا حَلَقَ رُبُعَ الرَّأْسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ بِنَيْلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ وَبِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى وَيَشِينُهُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ عَلَى مَا مَرَّ .
وَإِذَا تَقَاصَرَتْ الْجِنَايَةُ تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَيَجِبُ بِقَلْمِ كُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقًا لَأَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ عَنْهُ مَا شَاءَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ قَصَّ يَدًا أَوْ رِجْلًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ : الْقُدُورِيِّ ( أَنَّ أَظَافِيرَ كَفٍّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُقَامُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ ، أَمَّا أَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ الدَّمُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْكُلِّ ، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ ، وَلَيْسَ بَعْدَ الشُّبْهَةِ إلَّا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِحَالٍ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ : ( وَقَدْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ الْكُلِّ ) وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ : أَيْ : أَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ حَالَ كَوْنِهَا مُقَامَةً مَقَامَ الْكُلِّ ، فَفِيهَا شُبْهَةُ الْكُلِّيَّةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُقَامُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ فَلِمَا قَالَ : ( لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُقِيمَ الثَّلَاثَةُ مَقَامَ خَمْسَةٍ يُقَامُ الِاثْنَانِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ ، ثُمَّ الظُّفْرُ وَالنِّصْفُ مَقَامَ الظُّفْرَيْنِ ، ثُمَّ الظُّفْرُ الْوَاحِدُ مَقَامَ ظُفْرٍ وَنِصْفٍ وَهَلُمَّ جَرًّا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى .
إلَى مَا يَتَعَسَّرُ اعْتِبَارُهُ ، لِأَنَّ الْجِسْمَ عِنْدَنَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاهَى إلَى الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ ، وَذَلِكَ مَا قُلْنَا ( وَإِنْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ ) بِالْجَرِّ صِفَةً لِلْمَعْدُودِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { : سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } ( مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَصَّهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ ) بِجَامِعِ أَنَّهُ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ وَلَا تَفْرِقَةَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ يَدٍ وَرِجْلٍ ، ( وَبِمَا إذَا حَلَقَ رُبْعَ الرَّأْسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَلَهُمَا

أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ تَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِنَيْلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ وَ ) هَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ( بِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى وَيَشِينُهُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ ) فَإِنَّ مَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَشَيْئًا مِنْ مُؤَخَّرِهِ فَإِذَا جَمَعَ الْجَمِيعَ يَصِيرُ مِقْدَارَ الرُّبْعِ ، ( وَإِذَا تَقَاصَرَتْ الْجِنَايَةُ تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ ) ، وَمِقْدَارُهَا لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقًا إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ ) حَتَّى قَالُوا لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا مِنْ كُلِّ عُضْوٍ أَرْبَعَةً ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ .

قَالَ : ( وَإِنْ انْكَسَرَ ظُفُرُ الْمُحْرِمِ وَتَعَلَّقَ فَأَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْمُو بَعْدَ الِانْكِسَارِ فَأَشْبَهَ الْيَابِسَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِوَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا أَوْ حَلَقَ مِنْ عُذْرٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ذَبَحَ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَقَدْ فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَعْذُورِ ثُمَّ الصَّوْمُ يُجْزِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعَ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان ، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ ، وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ فِيهِ التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَعْذُورِ ) قَالَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ : " { مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتُ عَلَى وَجْهِي وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي ، فَقَالَهُ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك ؟ فَقُلْت : نَعَمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ، فَقُلْت : مَا الصِّيَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ } " وَلَوْلَا تَفْسِيرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَقَدَّرْنَاهُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ الطَّعَامُ بِسِتَّةِ مَسَاكِينَ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ سِتَّةَ أَيَّامٍ ، وَالْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْمُضْطَرِّ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا ) يَعْنِي خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يُجْزِئُهُ الطَّعَامُ إلَّا فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الرِّفْقُ بِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَوُصُولُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان .
وَقَوْلُهُ : ( وَأَمَّا النُّسُكُ ) يُقَالُ : نَسَكَ لِلَّهِ نُسُكًا وَمَنْسَكًا : إذَا ذَبَحَ لِوَجْهِهِ ، ثُمَّ قَالُوا : لِكُلِّ عِبَادَةٍ نُسُكٌ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { : قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْهَدْيُ الَّذِي يَذْبَحُهُ فِي الْحَرَمِ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ عَمَّا بَاشَرَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَالْحَلْقِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ ( ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ ) كَالْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ( أَوْ فِي مَكَان ) كَمَا فِي دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ { : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ؛ وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ ، (

وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ ) وَهُوَ الْحَرَمُ ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِالِاخْتِصَاصِ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّهُ تَلْوِيثُ الْحَرَمِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَنَا .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ ) ظَاهِرٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الْقِرَانِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ وَإِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهُ قَالَ : " { أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ } " وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى قَوْلِهِ : أَوْ صَدَقَةٍ فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا الْإِطْعَامُ لَا الصَّدَقَةُ .

( فَإِنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى ( وَإِنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ : إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ .
وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُفْسِدُ إحْرَامَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ .
وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِجِمَاعٍ مَقْصُودٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .

فَصْلٌ ) قَدَّمَ جِنَايَةَ الطِّيبِ وَنَحْوِهَا عَلَى جِنَايَةِ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ ، ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ وَاللُّبْسَ كَالْوَسِيلَةِ لِلْجِمَاعِ وَالْوَسَائِلُ تُقَدَّمُ ، وَلِهَذَا قَدَّمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ذِكْرَ دَوَاعِي الْجِمَاعِ عَلَيْهِ ، ( فَإِنْ نَظَرَ ) الْمُحْرِمُ ( إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ ) أَيْ : إلَى دَاخِلِ فَرْجِهَا وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَكَارَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهَا مُنْكَبَّةً ( بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى ) أَيْ : أَنْزَلَ الْمَنِيَّ ( لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) مِنْ الْكَفَّارَةِ ( ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجِمَاعُ ) وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ صُورَةً وَهُوَ الْإِيلَاجُ وَمَعْنًى وَهُوَ الْإِنْزَالُ ، ( وَلَمْ يُوجَدْ ) ذَلِكَ ( فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى ) ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا ، ( فَإِنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) شَرْطُ الْإِنْزَالِ حَيْثُ قَالَ : ( إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى ) ، وَلِهَذَا ذَكَرَ رُوَاةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ) مِنْ الْإِدْخَالِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَالسُّرَّةِ فَإِنَّ الْفَرْجَ يُرَادُ بِهِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( وَ ) رُوِيَ ( عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَنْزَلَ فَسَدَ إحْرَامُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) يَعْنِي التَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَالْمَسَّ بِشَهْوَةٍ وَالْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ( وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ ) فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْسُدُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَنْزَلَ ، لِأَنَّهُ مُوَاقَعَةٌ مَعْنًى ، ( وَلَنَا ) عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَفْسُدُ وَأَنَّ الْإِنْزَالَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ ( أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ) بِالْإِجْمَاعِ ، ( وَهَذَا لَيْسَ بِجِمَاعٍ ) فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادُ الْحَجِّ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ

وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَوَاعِيَ الْجِمَاعِ مُلْحَقَةٌ بِهِ ( فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ ) وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الصَّوْمِ ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِالصَّوْمِ ( ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ ) حَيْثُ كَانَ رُكْنُهُ الْكَفَّ عَنْهَا ، وَقَضَاؤُهَا بِدُونِ الْإِنْزَالِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَتَحَقَّقُ

( وَإِنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ كَمَا يَمْضِي مَنْ لَمْ يُفْسِدْهُ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ قَالَ : يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا وَجَبَ وَلَا يَجِبُ إلَّا لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ خَفَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَيَكْتَفِي بِالشَّاةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ .
ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ مِنْهُمَا لَا يُفْسِدُ لِتَقَاصُرِ مَعْنَى الْوَطْءِ فَكَانَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ فِي قَضَاءِ مَا أَفْسَدَاهُ ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا .
وَلِزَفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَحْرَمَا .
وَلَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا انْتَهَيَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ .
لَهُمْ أَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ ذَلِكَ فَيَقَعَانِ فِي الْمُوَاقَعَةِ فَيَفْتَرِقَانِ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ النِّكَاحُ قَائِمٌ فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِإِبَاحَةِ الْوَقَاعِ وَلَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ مَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ بِسَبَبِ لَذَّةِ يَسِيرَةِ فَيَزْدَادَانِ نَدَمًا وَتَحَرُّزًا فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ .

وَإِنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ ) بِأَدَاءِ أَفْعَالِهِ ( كَمَا يَمْضِي : مَنْ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ قَالَ يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا ، وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } " ) ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ هِيَ نَائِمَةً أَوْ مُكْرَهَةً ، ( وَهَكَذَا ) يَعْنِي مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ بَدَنَةٌ كَمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ) وَالْجَامِعُ تَغَلُّظُ الْجِنَايَةِ ، ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ مَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " يُرِيقَانِ دَمًا " ذَكَرَهُ مُطْلَقًا ، فَيَتَنَاوَلُ الشَّاةَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَالْجَزُورُ كَامِلٌ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يَمْنَعُهُ ، وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قِيلَ : الْوُقُوفُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ خَفَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ بِالْقَضَاءِ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْبَدَنَةَ لَزِمَ إيجَابُ الْجَزَاءِ الْغَلِيظِ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةٍ خَفِيفَةٍ وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَخِفَّ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، فَإِيجَابُ الْبَدَنَةِ فِي مُقَابَلَتِهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا وَجَبَ إلَخْ .
( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجِمَاعَ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ مِنْهُمَا ) أَيْ : مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، وَقِيلَ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ

( لَا يُفْسِدُهُ لِتَقَاصُرِ مَعْنَى الْوَطْءِ ) ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يُفْسِدُهُ لِأَنَّهُ كَامِلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ارْتِفَاقٌ .
وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ ) الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : إذَا رَجَعَا لِلْقَضَاءِ يَفْتَرِقَانِ ، مَعْنَاهُ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ صَاحِبِهِ ، فَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ : كَمَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ نُسُكٌ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : وَوَقْتُ أَدَاءِ النُّسُكِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ نُسُكًا فِي الْأَدَاءِ لَا يَكُونُ نُسُكًا فِي الْقَضَاءِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَرُبَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَفْتَرِقَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ إذَا وَصَلَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ تَهِيجَ بِهِمَا الشَّهْوَةُ فَيُوَاقِعَهَا .
وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَنَا عَلَى وَجْهٍ هُوَ دَافِعٌ لِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَنَقُولُ : مُرَادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ إنْ خَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْفِتْنَةَ .
كَمَا يُنْدَبُ لِلشَّابِّ الِامْتِنَاعُ عَنْ التَّقْبِيلِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ إذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَاهُ

( وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقِ فَيَتَغَلَّظُ مُوجِبُهُ .

( وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ) فَإِنَّ حَجَّهُ يَفْسُدُ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ مُطْلَقٌ ، أَيْ : كَامِلٌ حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ كَمَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الرَّمْيِ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ وَحَلَّ لَهُ الْحَلْقُ الَّذِي كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ .
وَقَوْلُهُ : ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) دَلِيلُنَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } " وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ بِالِاتِّفَاقِ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَرْكَانِ ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمَنُ مِنْ الْفَسَادِ بَعْدَهُ لِتَأَكُّدِ حَجِّهِ بِالْوُقُوفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، فَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّأَكُّدِ فِي الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ فِي الْأَمْنِ عَنْ الْفَسَادِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَتْ الْبَدَنَةُ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ بَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَقْبَلُ الْجِنَايَةَ فَلَا يَقْتَضِي جَزَاءً .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ نُسُكُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَحَجَّتُهُ تَامَّةٌ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ : مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا أَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ .
وَقِيلَ : مِثْلُهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَكَانَ مَسْمُوعًا .
وَقَوْلُهُ : ( أَوْ لِأَنَّهُ ) قِيلَ إنَّمَا ذُكِرَ

بِكَلِمَةٍ أَوْ لِكَوْنِ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا غَيْرَ مَشْهُورٍ فَأَتَى بِهَا لِيَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِأَحَدِهِمَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إثْبَاتُ الْوُجُوبِ وَهُوَ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاشْتِهَارِ ، وَلَعَلَّهُ أَتَى بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَمِّيَّتِهِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجِمَاعَ أَعْلَى الِارْتِفَاقَاتِ لِوُفُورِ لَذَّتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَغَلَّظُ مُوجِبُهُ لِوُجُوبِ التَّطَابُقِ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْمُوجَبِ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ .

( وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ دُونَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَخَفَّتْ الْجِنَايَةُ فَاكْتَفَى بِالشَّاةِ .قَوْلُهُ : ( وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) ظَاهِرٌ .

( وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ فَيَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ .
وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ .
أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِالْحَجِّ إذْ هِيَ فَرْضٌ عِنْدَهُ كَالْحَجِّ .
وَلَنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ فَكَانَتْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُ فَتَجِبُ الشَّاةُ فِيهَا وَالْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ .وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ ) بَيَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، لَكِنْ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ طَوَافِ الْعُمْرَةِ عَلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهُ إذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ التَّفْضِيلُ بَلْ مِنْ حَيْثُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ فِي التَّرْتِيبِ إنَّمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ .
غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِمَعْنًى وَهُوَ وُقُوعُ الرُّكْنِ فِي الْإِحْرَامِ فَقَامَ أَكْثَرُ أَشْوَاطِهِ مَقَامَ كُلِّهِ ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّ طَوَافَهَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ ، فَكَانَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ فِي مَحْضِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ الدَّمُ وَلِهَذَا قُلْنَا : " إنْ لَمْ يَحْلِقْ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَجَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ كَمَا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ لِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ : فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ .

( وَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا كَانَ كَمَنْ جَامَعَ مُتَعَمِّدًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جِمَاعُ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ .
وَكَذَا الْخِلَافُ فِي جِمَاعِ النَّائِمَةِ وَالْمُكْرَهَةُ .
هُوَ يَقُولُ : الْحَظْرُ يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ جِنَايَةً .
وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي الْإِحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا ، وَهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ، وَالْحَجُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ حَالَاتِ الْإِحْرَامِ مُذَكِّرَةٌ بِمَنْزِلَةِ حَالَاتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ : ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : جِمَاعُ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ ) لَوْ قَالَ لِلْإِحْرَامِ كَانَ أَشْمَلَ لِيَتَنَاوَلَ الْعُمْرَةَ ، جَعَلَ النِّسْيَانَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي فَسَادِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ ، وَجَعَلَ الْإِكْرَاهَ وَالنَّوْمَ كَالنِّسْيَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا أَبَاحَ الْإِقْدَامَ وَأَعْدَمَ أَصْلَ الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ قَاصِدًا كَانَ النَّوْمُ أَوْلَى لِانْتِفَاءِ الْقَصْدِ ، وَإِذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةٌ ( وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي الْإِحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَلَا رَفَثَ } الْآيَةَ ، وَالرَّفَثُ اسْمٌ لِلْجِمَاعِ ( وَهُوَ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ، وَالْحَجُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ ) لِوُجُودِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ حَالَةُ الْإِحْرَامِ ( بِخِلَافِ الصَّوْمِ ) فَإِنَّهُ لَا مُذَكَّرَ لَهُ .

( فَصْلٌ ) : ( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } " إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَتَكُونُ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ فَرْضًا ، ثُمَّ قِيلَ : هِيَ سُنَّةٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ ، فَإِذَا شُرِعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَهُوَ سُنَّةٌ ، يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ وَيَدْخُلُهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ طَوَافٍ هُوَ تَطَوُّعٌ .

( فَصْلٌ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ذَكَرَ الْجِنَايَةَ عَلَى الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ قَوْلُهُ : ( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا ) طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا مُعْتَدٍ بِهِ عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُعْتَدُّ بِهِ ) وَلَا يُجْبَرُ بِشَيْءٍ ؛ ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ وَلَيْسَ بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا مِنْ مُشَابَهَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الطَّوَافِ وَهُوَ الدَّوَرَانُ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ ذَاتُ الصَّلَاةِ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ وَمِنْ حُكْمِهَا عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ ( وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ وَهُوَ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْضًا بِالْآيَةِ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهَا نَسْخٌ ، ( ثُمَّ قِيلَ هِيَ سُنَّةٌ ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُجَاعٍ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ ؛ ( لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ ) وَهُوَ إمَّا الدَّمُ عَلَى مَا قَالَ بِهِ بَعْضُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَوْ الصَّدَقَةُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَجِبُ بِتَرْكِهِ جَابِرٌ فَهُوَ وَاجِبٌ ؛ ( وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ ) دُونَ الْعِلْمِ ( فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ ) دُونَ الْفَرْضِيَّةِ .
قَالَ : ( فَإِذَا شَرَعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ ) دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا سُنَّةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّفْلِ مُلْزِمٌ فِي الْحَجِّ بِالِاتِّفَاقِ فَيَصِيرُ الطَّوَافُ وَاجِبًا ( وَيَدْخُلُهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ

اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ) ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ دُخُولَ النَّقْصِ بِتَرْكِهَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا سُنَّةً مِنْ حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا يُؤْخَذُ فِي الدَّلِيلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَهَا نَقْصٌ تَنْجَبِرُ بِسَجْدَةِ السَّهْوِ كَمَا يَنْجَبِرُ الْفَرْضُ بِهَا وَلَمْ يَظْهَرْ دُنُوُّ رُتْبَةِ النَّفْلِ عَنْ رُتْبَةِ الْفَرْضِ فِيهَا فَلْيَكُنْ هَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ يُوجِبُ نَقْصًا وَيَنْجَبِرُ بِالْكَفَّارَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْإِمَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةَ الدَّفْعِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْجَابِرَ فِي الصَّلَاةِ نَوْعًا وَاحِدًا فَلَا مَصِيرَ إلَى غَيْرِهِ وَفِي الْحَجِّ جَعَلَهُ مُتَنَوِّعًا فَأَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى مَا تَبِينُ بِهِ رُتْبَةُ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ اخْتَارَهَا الْمُصَنِّفُ ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إذَا طَافَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مُحْدِثًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ أَصْلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَتَى بِهِ مُحْدِثًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ

( وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ فَكَانَ أَفْحَشَ مِنْ الْأَوَّلِ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ ( وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ؛ وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ فَيَجِبُ جَبْرُ نُقْصَانِهَا بِالْبَدَنَةِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ ، وَكَذَا إذَا طَافَ أَكْثَرَهُ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ ( وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا ذَبْحَ عَلَيْهِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْحَدَثِ اسْتِحْبَابًا وَفِي الْجَنَابَةِ إيجَابًا لِفُحْشِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ وَقُصُورِهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ .
ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِعَادَةِ لَا يَبْقَى إلَّا شُبْهَةُ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ فِي وَقْتِهِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ .
وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ كَثِيرٌ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ اسْتِدْرَاكًا لَهُ وَيَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ .
وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَبَعَثَ بَدَنَةً أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ جَابِرٌ لَهُ ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْعَوْدُ .
وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا إنْ عَادَ وَطَافَ جَازَ ، وَإِنْ بَعَثَ بِالشَّاةِ فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ خَفَّ مَعْنَى النُّقْصَانِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَصْلًا حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَ .

( وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ ) ، وَإِدْخَالُ النَّقْصِ فِي الرُّكْنِ أَفْحَشُ مِنْ إدْخَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ ، ( وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ ) يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ فِيهَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ ، وَنَزِيدُ هَاهُنَا بَيَانًا وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ ، فَإِنَّ الْحَجَّ لَهُ فُرُوضٌ ثَلَاثَةٌ : شَرْطٌ وَرُكْنَانِ ، وَعِنْدَمَا وَقَفَ فَقَدْ حَصَلَ مِنْهَا اثْنَانِ وَهُوَ الشَّرْطُ : أَعْنِي الْإِحْرَامَ وَأَحَدَ الرُّكْنَيْنِ ، وَلَيْسَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ) وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الْجُبْرَانِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَكَانَ أَفْضَلَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ) يُرِيدُ بِهِ نُسَخَ الْمَبْسُوطِ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ ) يَعْنِي طَوَافَ الزِّيَارَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ ) إنَّ هَذِهِ لِلْوَصْلِ .
وَقَوْلُهُ : ( لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مُعْتَدٌّ بِهِ ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ .
فَإِذَا كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ بِنُقْصَانٍ وَقَدْ أَعَادَهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا شُبْهَةُ النُّقْصَانِ وَهِيَ نُقْصَانُ الطَّوَافِ بِالْحَدَثِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَ جُنُبًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ ) أَيْ : الشَّاةُ ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ سَقَطَتْ بِالْإِعَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا هَذَا دَمٌ يَلْزَمُهُ

عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ نُسُكًا عَنْ وَقْتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ مِنْ الطَّوَافَيْنِ إذَا طَافَ الْأَوَّلَ جُنُبًا إنَّمَا هُوَ الثَّانِي وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْفَسِخُ بِالثَّانِي ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمَا لَزِمَهُ دَمُ التَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُؤَدًّى فِي وَقْتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ الْأَوَّلَ مُحْدِثًا فَإِنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الْأَوَّلُ لِقِلَّةِ النُّقْصَانِ فَكَانَ الثَّانِي جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُ فِي مُعْتَمِرٍ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ جُنُبًا ثُمَّ أَعَادَ طَوَافَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، قَالَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَدُّ بِهِ هُوَ الثَّانِي لَكَانَ مُتَمَتِّعًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَمَّا طَافَ فِي رَمَضَانَ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا أَمِنَ فَسَادَهَا قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
فَإِنْ قِيلَ : التَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مُرَاعِي الْحُكْمِ لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ فِيهِ ، فَإِنْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ وَاعْتَدَّ بِالثَّانِي وَإِلَّا كَانَ هُوَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي التَّحَلُّلِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْعَوْدُ ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْجَابِرِ مِنْ جِنْسِ الْمَجْبُورِ وَهُوَ الطَّوَافُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ) ظَاهِرٌ

( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) لِأَنَّهُ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ شَاةٌ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ( وَلَوْ طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّهُ نَقْصٌ كَثِيرٌ ، ثُمَّ هُوَ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيُكْتَفَى بِالشَّاةِ .

( وَمَنْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْحَدَثِ فَتَلْزَمُهُ شَاةٌ .
فَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَعُودَ وَيَبْعَثُ بِشَاةٍ لِمَا بَيَّنَّا ( وَمَنْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَهَا ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَصْلًا .وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ يَسِيرٌ ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْوُجُودِ رَاجِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ خَفَّ مَعْنَى النُّقْصَانِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ .

( وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ الْأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ ( وَمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ ) لِأَنَّ الطَّوَافَ وَرَاءَ الْحَطِيمِ وَاجِبٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَالطَّوَافُ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَيَدْخُلَ الْفُرْجَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَطِيمِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْخَلَ نَقْصًا فِي طَوَافِهِ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ كُلَّهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلطَّوَافِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ( وَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ ) خَاصَّةً ( أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ تَلَافَى مَا هُوَ الْمَتْرُوكُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ يَمِينِهِ خَارِجَ الْحَجَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ يَدْخُلَ الْحِجْرَ مِنْ الْفُرْجَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ هَكَذَا يَفْعَلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ .
( فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي طَوَافِهِ بِتَرْكِ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الرُّبُعِ وَلَا تَجْزِيهِ الصَّدَقَةُ .، وَقَوْلُهُ : ( أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ ) يَعْنِي مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) يَعْنِي لِإِظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ تَرْكِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ وَالْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ هَاهُنَا هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَوْطٍ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ طَوَافِ الصَّدْرِ بِمَنْزِلَةِ أَقَلِّ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي وُجُوبِ الشَّاةِ ، وَإِذَا كَانَ فِي أَكْثَرِهِ شَاةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ .

( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَوَافَ الصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ طَاهِرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ، فَإِنْ كَانَ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ يُنْقَلْ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَإِعَادَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فَلَا يُنْقَلُ إلَيْهِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُنْقَلُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِعَادَةَ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِطَوَافِ الصَّدْرِ مُؤَخِّرًا لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِ الصَّدْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِتَأْخِيرِ الْآخَرِ عَلَى الْخِلَافِ ، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ طَوَافِ الصَّدْرِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا يُؤْمَرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

قَالَ ( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ) مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ .
وَفَائِدَةُ نَقْلِ طَوَافِ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ سُقُوطُ الْبَدَنَةِ عَنْهُ ، وَهَاهُنَا أَصْلٌ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَأَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ وَقَعَ عَنْهُ سَوَاءٌ نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ أَوْ نَوَى بِهِ طَوَافًا آخَرَ ، فَالْمُحْرِمُ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ حَاجًّا وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا كَانَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ لِلْحَجِّ سَوَاءٌ نَوَى التَّطَوُّعَ أَوْ طَوَافًا آخَرَ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ انْعَقَدَ لِأَدَائِهِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِنِيَّتِهِ ، كَمَا إذَا سَجَدَ يَنْوِي بِهِ تَطَوُّعًا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنِيَّتِهِ وَوَقَعَتْ السَّجْدَةُ عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، إلَى قَوْلِهِ : وَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ .

( وَمَنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَحَلَّ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُعِيدُهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَمَّا إعَادَةُ الطَّوَافِ فَلِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِيهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ .
وَأَمَّا السَّعْيُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ ، وَإِذَا أَعَادَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ ( وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ إذْ النُّقْصَانُ يَسِيرٌ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي السَّعْيِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى أَثَرِ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ ، وَكَذَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ فِي الصَّحِيحِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَأَمَّا السَّعْيُ ) يَعْنِي إنَّمَا يُعِيدُ السَّعْيَ وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ لِعَدَمِ وُرُودِ مَا وَرَدَ فِي الطَّوَافِ مِنْ النَّصِّ فِيهِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِلطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ قُرْبَةً بِدُونِ الطَّوَافِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي السَّعْيِ شَيْءٌ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ ) يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ : ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الطَّوَافَ فَقَدْ نَقَضَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ ، فَإِذَا انْتَقَضَ ذَلِكَ حَصَلَ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فَيَكُونُ تَارِكًا لِلسَّعْيِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَالْمُصَنِّفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي السَّعْيِ ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى إثْرِ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ ، وَطَوَافُ الْمُحْدِثِ كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَتَحَلَّلُ بِهِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ مَعَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ ، فَإِنْ أَعَادَ تَبَعًا لِلطَّوَافِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .

( وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ ) لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ دُونَ الْفَسَادِ .وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ ) ظَاهِرٌ .

( وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْوُقُوفِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِطَالَةِ شَيْءٌ .
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ } " فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ لَيْلًا لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ عَلَى مَنْ وَقَفَ نَهَارًا لَا لَيْلًا ، فَإِنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَدْرَكًا .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَانَ مِنْ حَقِّ الرِّوَايَةِ أَنْ يُقَالَ : وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا أَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَأَقُولُ : قَوْلُهُ : هَذَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْإِفَاضَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا تَكُونُ إلَّا قَبْلَ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتْرُكُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِدَامَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ لَيْلًا ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ } يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الِامْتِدَادُ شَرْطًا لَا فِي اللَّيْلِ وَلَا فِي النَّهَارِ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ شَرْطًا فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ؟ قُلْت : تَرَكَ ظَاهِرَهُ فِي حَقِّ النَّهَارِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ } فَبَقِيَ اللَّيْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، ( وَإِنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَدْ أَتَى بِهِ ، فَكَانَ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَدْرَكًا ؛ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ سُنَّةُ الدَّفْعِ مَعَ الْإِمَامِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ بِعَوْدِهِ وَحْدَهُ لَا مَحَالَةَ .
وَإِذَا عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ غُرُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَتْ وَلَا يُمْكِنُ

تَدَارُكُهَا فَبَقِيَ عَلَيْهِ الدَّمُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ سُنَّةَ الدَّفْعِ مَعَ الْإِمَامِ .

( وَمَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ .قَالَ : ( وَمَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، فَإِذَا تَرَكَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ،

( وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِتَحَقُّقِ تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ كَمَا فِي الْحَلْقِ ، وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا ، وَمَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً فَالْإِعَادَةُ مُمْكِنَةٌ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا يَجِبُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
( وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ ( وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) لِأَنَّ الْكُلَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِوُجُودِ تَرْكِ الْأَكْثَرِ ( وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ كُلُّ وَظِيفَةِ هَذَا الْيَوْمِ رَمْيًا وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا ( وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيُنْقِصَ مَا شَاءَ ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ .

لَكِنْ إذَا تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ : نَحْرٌ خَاصٌّ وَتَشْرِيقٌ خَاصٌّ وَيَوْمَانِ بَيْنَهُمَا نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ رَمْيِ كُلِّ يَوْمٍ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ وَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا لَكِنْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانَ كَمَنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَوَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ مَا ذَكَرَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ ) وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ( كَمَا فِي الْحَلْقِ ) فَإِنَّهُ إنْ حَلَقَ شَعْرَ الْبَدَنِ كُلَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ رُبْعِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ ) جَوَابُ مَا قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَيَّامَ الرَّمْيِ كُلَّهَا زَمَانٌ وَاحِدٌ لِلرَّمْيِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ ؛ ( لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا ) عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّرْكُ مَا دَامَ فِيهَا كَالتَّضْحِيَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ( فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ) أَيْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي شُرِعَ مَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً ، بِخِلَافِ قَصِّ الْأَظَافِيرِ فَإِنَّ تَرْكَهُ لَيْسَ بِمُوَقَّتٍ بِزَمَانٍ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ ، ( ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا ) عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ( يَجِبُ الدَّمُ ) وَهُوَ شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ ) ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالنَّفْرِ ، وَذَلِكَ آيَةُ التَّطَوُّعِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ ؟ أُجِيبَ

بِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَأَمَّا إذَا طَلَعَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ وَالرَّمْيُ ، فَلَوْ تَرَكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ فَكَانَ كَالتَّطَوُّعِ يُخَيَّرُ فِيهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَيَجِبُ بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ ) مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ نُسُكَ يَوْمٍ فَتَرْكُهُ يُوجِبُ الدَّمَ ، وَمَا كَانَ بَعْضُهُ الْأَقَلَّ فَتَرْكُهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ ، فَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَإِنْ تَرَكَهَا فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقْضِهِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ ، فَأَمَّا إذَا قَضَاهُ فِيهَا فَقَدْ سَقَطَ الدَّمُ عِنْدَهُمَا وَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ ) يَعْنِي إذَا تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ حِينَئِذٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ وَالْمَأْتِيَّ بِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَصَاةً .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ : وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ : أَيْ : لَكِنْ إذَا تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ رَمْيِ إحْدَى الْجِمَارِ وَبَلَغَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفٍ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ إحْدَى عَشْرَةَ حَصَاةً وَيَرْمِيَ عَشْرَ حَصَيَاتٍ ( فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِوُجُودِ تَرْكِ الْأَكْثَرِ ) ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ كُلَّ وَظِيفَةِ هَذَا الْيَوْمِ رَمْيًا ) نَصَبَ رَمْيًا عَلَى التَّمْيِيزِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَظَائِفَ غَيْرَهُ كَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ ، فَلَوْ اقْتَصَرَهُ عَلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَنْبَغِي .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا ) أَيْ : مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ : تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ : يَعْنِي إذَا بَلَغَ قِيمَةُ مَا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ قِيمَةَ الدَّمِ فَحِينَئِذٍ ( يَنْقُصُ مِنْ

الدَّمِ مَا شَاءَ ) حَتَّى لَا يَلْزَمَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ ) دَلِيلُ قَوْلِهِ : تَصَدَّقَ .

( وَمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ) حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ( فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ وَفِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَنَحْرِ الْقَارِنِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ ، لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ شَيْءٌ آخَرُ .
وَلَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ " وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْمَكَانِ يُوجِبُ الدَّمَ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالْمَكَانِ كَالْإِحْرَامِ فَكَذَا التَّأْخِيرُ عَنْ الزَّمَانِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ .

قَالَ : ( وَمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ) هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوجِبُ الدَّمَ بِالتَّأْخِيرِ خِلَافًا لَهُمَا .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ ) أَيْ : فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَتَأْخِيرِ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ أَوْ مِنْ الثَّالِثِ إلَى الرَّابِعِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ ) أَيْ : وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ ) سَوَاءٌ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ غَيْرَهُ ( وَنَحْرِ الْقَارِنِ ) وَالْمُتَمَتِّعِ ( قَبْلَ الرَّمْيِ وَحَلْقِ الْقَارِنِ ) وَالْمُتَمَتِّعِ ( قَبْلَ الذَّبْحِ ) وَإِنَّمَا خُصَّ الْقَارِنُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُفْرِدَ إذَا ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ أَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ النُّسُكِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ هَاهُنَا لِكَوْنِ الذَّبْحِ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَقْدِيمُ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ يَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ نُسُكٍ عَنْ نُسُكٍ فَكَانَ فِي كَلَامِهِ تَكْرَارٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّأْخِيرِ مَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْأَيَّامِ وَبِالتَّقْدِيمِ مَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْآنَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكْرَارَ .
( لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ } فَإِنْ قِيلَ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ لِلنَّاسِ بِمِنًى يَسْأَلُونَهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ : نَحَرْت قَبْلَ الرَّمْيِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : افْعَلْ وَلَا حَرَجَ ، فَمَا سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } وَذَلِكَ

دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنْ لَا شَيْءَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْقَضَاءِ أَيْضًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُفْرِدًا وَتَقْدِيمُ الذَّبْحِ عَلَى الرَّمْيِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا كَمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ فَلَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ فِيهِ شَيْئًا .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقِيلَ : الصَّحِيحُ أَنَّ رَاوِيَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُمَا ، وَالْقِيَاسُ مَعَنَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ : ( وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْمَكَانِ يُوجِبُ الدَّمَ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالْمَكَانِ كَالْإِحْرَامِ ) ، فَإِنَّ الْحَاجَّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ ( فَكَذَا التَّأْخِيرُ عَنْ الزَّمَانِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ ) بِجَامِعِ تَمَكُّنِ نُقْصَانِ التَّأْخِيرِ فِيهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَعَهُمَا أَيْضًا قِيَاسٌ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ مَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ قِيَاسُكُمْ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَاسَنَا مُرَجَّحٌ بِالِاحْتِيَاطِ ، فَإِنَّ فِيهِ الْخُرُوجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ .

( وَإِنْ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ وَقَصَّرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : ( لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُعْتَمِرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَاجِّ .
قِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ فِي الْحَجِّ بِالْحَلْقِ بِمِنًى وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ، هُوَ يَقُولُ : الْحَلْقُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَرَمِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ } .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا صَارَ كَالسَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُحَلِّلًا ، فَإِذَا صَارَ نُسُكًا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ كَالذَّبْحِ وَبَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَلَعَلَّهُمْ حَلَقُوا فِيهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ ، وَعِنْد زُفَرٍ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ .
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّوْقِيتِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ بِالدَّمِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ فَلَا يَتَوَقَّتُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالتَّقْصِيرُ وَالْحَلْقُ فِي الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِالزَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى رَجَعَ وَقَصَّرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) مَعْنَاهُ : إذَا خَرَجَ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ عَادَ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي مَكَان فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ) ظَاهِرٌ ( قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُعْتَمِرِ ) أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، ( وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَاجِّ ) إذَا حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ ، ( فَقِيلَ ) إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ ( بِالِاتِّفَاقِ ) فِي وُجُوبِ الدَّمِ ؛ ( لِأَنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ فِي الْحَجِّ بِأَنْ يَكُونَ الْحَلْقُ بِمِنًى وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ ) فَبِتَرْكِهِ يَلْزَمُ الْجَابِرَ ، ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ) عِنْدَهُمَا يَجِبُ الدَّمُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَوَجْهُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ ) يَعْنِي فِي الْحَجِّ ( يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ) أَيْ : بِيَوْمِ النَّحْرِ وَالْحَرَمِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ ، " وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ ) ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : يَعْنِي فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ فِي الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ مُؤَقَّتًا بِهِمَا كَانَ كَالْوُقُوفِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِهِ إذَا حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ كَمَا لَوْ وَقَفَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ أَوْ طَافَ بِغَيْرِ الْبَيْتِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ هُوَ الرَّأْسُ دُونَ الْحَرَمِ ، وَلَكِنَّهُ جَازَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَكَانِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ كَمَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِهِ ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ هُوَ الْجَبَلُ وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَبِالْخُرُوجِ عَنْهُمَا يَتَبَدَّلُ الْمَحَلُّ فَلَا يَجُوزُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا إلَخْ .
وَأَمَّا عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ فَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ

يُوَقَّتُ بِالزَّمَانِ كَالطَّوَافِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَمَّا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ فَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : هُوَ بِقَوْلِ الْحَلْقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَرَمِ إلَخْ .
وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنَّ الْحَلْقَ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ فِي أَوَانِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ قَبْلَ أَوَانِهِ ، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَلَوْ أَرَدْت أَنْ تَجْعَلَهُ دَلِيلًا لِلشِّقَّيْنِ .
قُلْت : فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَكَذَلِكَ هَذَا ، إذْ لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمَا لَمَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَقَدْ عَرَفْت جَوَابَ ذَلِكَ آنِفًا وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَمَّا عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ فَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إلَخْ ، وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ فَهُوَ دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ التَّحَلُّلَ عَنْ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرٌ بِابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ ، وَابْتِدَاؤُهُ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ حَتَّى كَرِهَ تَقْدِيمَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى أَشْهُرِهِ دُونَ الْمَكَانِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ ، فَكَذَلِكَ التَّحَلُّلُ عَنْهُ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ ، فَلَوْ أُخِّرَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ حَلَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا الْخِلَافُ ) أَيْ : مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي التَّوْقِيتِ ( إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ بِالدَّمِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ فَلَا يَتَوَقَّتُ بِالِاتِّفَاقِ ) ، وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ ) أَيْ : بِالزَّمَانِ ، فَإِنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ وَهُوَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِزَمَانٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ مَكْرُوهَةٌ فَكَانَتْ مُوَقَّتَةً .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَرَاهَتَهَا فِيهَا لَيْسَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُوَقَّتَةٌ

بِغَيْرِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهَا ، فَلَوْ اعْتَمَرَ فِيهَا لَرُبَّمَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فَكُرِهَتْ لِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ : غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِالزَّمَانِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَصَحِّ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ أَيْ : بِالزَّمَانِ ، بِخِلَافِ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَيْ : أَصْلَ الْعُمْرَةِ يَتَوَقَّتُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ ، ( فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ الْمُعْتَمِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ وَقَصَّرَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي مَكَانِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ ) ، وَلَوْ فَعَلَ الْحَاجُّ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التَّأْخِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( فَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ .
وَعِنْدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ ، وَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ عَلَى مَا قُلْنَا .

وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ ) يَعْنِي إذَا قَدَّمَ الْقَارِنُ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ ( فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : دَمٌ لِلْقِرَانِ ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ .
وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ) ، وَهُوَ دَمُ الْقِرَانِ ، ( وَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ عَلَى مَا قُلْنَا ) إنَّ التَّأْخِيرَ عِنْدَهُ يُوجِبُ الدَّمَ خِلَافًا لَهُمَا .
هَذَا تَقْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِيهِ : قَارِنٌ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ ، قَالَ : عَلَيْهِ دَمَانِ : دَمُ الْقِرَانِ ، وَدَمٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ .
يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ : عَلَيْهِ دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُمَا دَمَا جِنَايَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ دَمَ الْقِرَانِ ، وَقَالَ : وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ : يَعْنِي الَّذِي يَجِبُ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلًا سِوَاهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْضًا دَمَ الْقِرَانِ ، وَمَعَ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إلَى أَنْ قَالَ : وَالْحَلْقُ قَبْلَ الذَّبْحِ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْحَقُّ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : دَمٌ لِلْقِرَانِ ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ ، فَكَأَنَّهُ سَهْوٌ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْكَاتِبِ ، وَلَا عَيْبَ فِي السَّهْوِ عَلَى الْإِنْسَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : دَمُ الْقِرَانِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَدَمٌ آخَرُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ وَاجِبٌ أَيْضًا إجْمَاعًا ، وَدَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِسَبَبِ تَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ فَيَجُوزُ

أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ دَمَ الْقِرَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآخَرَ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ وَذَكَرَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ .
قُلْت : يَأْبَاهُ قَوْلُهُ : فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِوُجُوبِ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارَةِ أَصْلًا ، عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الْجَامِعُ الصَّغِيرُ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقَارِنِ مَضْمُونَةٌ بِالدَّمَيْنِ وَهُوَ اعْتِرَاضُ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ فَعَلَى الْقَارِنِ دَمَانِ ، وَلَوْ قَدَّمَ الْمُفْرِدُ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا يَتَضَاعَفُ عَلَى الْقَارِنِ .

( فَصْلٌ ) : اعْلَمْ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَصَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَصَيْدُ الْبَرِّ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ ، وَصَيْدُ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ .
وَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ وَهِيَ : الْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ ، وَالْغُرَابُ وَالْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، فَإِنَّهَا مُبْتَدِئَاتٌ بِالْأَذَى .
وَالْمُرَادُ بِهِ الْغُرَابُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ .
هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالصَّيْدِ نَوْعًا آخَرَ فُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، ( الصَّيْدُ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ) فَقَوْلُهُ : الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ .
وَقَوْلُهُ الْمُمْتَنِعُ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّنْ قَصَدَهُ إمَّا بِقَوَائِمِهِ أَوْ بِجَنَاحَيْهِ يُخْرِجُ الْحَيَوَانَاتِ الْأَهْلِيَّةَ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهِمَا وَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ .
وَقَوْلُهُ : الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَمَامُ الْمُسَرْوِلُ وَالظَّبْيُ الْمُسْتَأْنَسُ ، وَتَخْرُجُ الْإِبِلُ الْمُتَوَحِّشَةُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي الْأَوَّلِ وَالتَّوَحُّشَ فِي الثَّانِي عَارِضِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : بَرِّيٌّ وَهُوَ مَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ ، وَبَحْرِيٌّ وَهُوَ مَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ ، وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَوْلِدِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، فَالْبَطُّ وَالْإِوَزُّ بَرِّيٌّ ؛ لِأَنَّ مَوْلِدَهُمَا الْبَرُّ ، وَالضُّفْدَعُ بَحْرِيٌّ ؛ لِأَنَّ مَوْلِدَهُ الْبَحْرُ ( وَصَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ ) سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، ( وَصَيْدُ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } الْآيَةَ .
وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَيْ : بَيَّنَ عَدَمَ دُخُولِهَا فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تُتَصَوَّرُ ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عِنْدَنَا لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ اسْتِعَارَةً لَهُ ( الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ وَهِيَ : الْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ ، وَالْغُرَابُ ، وَالْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَهِيَ سِتَّةٌ ، وَسَيَأْتِي الْعُذْرُ عَنْ ذَلِكَ ، وَسُمِّيَتْ فَوَاسِقَ اسْتِعَارَةً لِخُبْثِهِنَّ ، وَقِيلَ لِخُرُوجِهِنَّ مِنْ الْحُرْمَةِ لِابْتِدَائِهِنَّ بِالْأَذَى ، وَلَمَّا كَانَ مَشْهُورًا جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الصَّيْدِ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ

وَالْمُبَاحِ وَالْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ لِتَنَاوُلِ اسْمِ الصَّيْدِ ذَلِكَ كُلَّهُ .

قَالَ : ( وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ } الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَفِيهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَقُولُ : الْجَزَاءُ تَعَلَّقَ بِالْقَتْلِ ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ ، فَأَشْبَهَ دَلَالَةُ الْحَلَالِ حَلَالًا .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِ الْجَزَاءَ ؛ وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ إذْ هُوَ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَتَوَارِيهِ فَصَارَ كَالْإِتْلَافِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ بِإِحْرَامِهِ الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّعَرُّضِ فَيَضْمَنُ بِتَرْكِ مَا الْتَزَمَهُ كَالْمُودَعِ بِخِلَافِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ لَا الْتِزَامَ مِنْ جِهَتِهِ ، عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي الدَّلَالَةِ ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ ( وَلَوْ كَانَ الدَّالُّ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) لِمَا قُلْنَا ( وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِدُ وَالنَّاسِي ) لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبَهُ الْإِتْلَافُ فَأَشْبَهَ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ( وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يَخْتَلِفُ .

قَالَ : ( وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَعَلَى الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّالُّ وَالْمَدْلُولُ حَلَالَيْنِ أَوْ مُحْرِمَيْنِ ، أَوْ الدَّالُّ حَلَالًا وَالْمَدْلُولُ مُحْرِمًا أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ .
وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، وَالثَّانِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَنَا ، وَفِي الثَّالِثِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْجَزَاءُ دُونَ الدَّالِّ كَذَلِكَ ، وَفِي الرَّابِعِ عَكْسُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ بِالنَّصِّ ، ( وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ فَأَشْبَهَ دَلَالَةَ الْحَلَالِ حَلَالًا ) ، وَقَوْلُهُ : حَلَالًا لَيْسَ بِقَيْدٍ فَإِنَّ الْمَدْلُولَ إنْ كَانَ مُحْرِمًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { هَلْ دَلَلْتُمْ عَلَيْهِ ؟ هَلْ أَشَرْتُمْ إلَيْهِ ؟ } عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُقَاوِمُ النَّصَّ الصَّرِيحَ .
قُلْت : مَا تَقَدَّمَ فِي النَّصِّ ذِكْرُ الْقَتْلِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ ، ( وَقَالَ عَطَاءٌ ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ تِلْمِيذُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : ( أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءَ ) قَالَ الطَّحَاوِيُّ : وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَيْسَ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَئِنْ كَانَ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا دَلَّ وَلَمْ يَقْتُلْهُ الْمَدْلُولُ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ فِيمَا إذَا قَتَلَهُ ، فَكَانَ

كَلَامُهُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِمَحَلِّ الْإِجْمَاعِ ؛ ( وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ) ، وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ لَا مَحَالَةَ ؛ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ : الدَّلَالَةَ ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ ( تَفْوِيتُ الْأَمْنِ مِنْ الصَّيْدِ ) أَيْ : الدَّلَالَةُ تُفَوِّتُ الْأَمْنَ مِنْ الصَّيْدِ ؛ ( لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ ) مِنْ النَّاسِ ، ( وَتَوَارِيهِ ) عَنْ أَعْيُنِهِمْ ، وَبِالدَّلَالَةِ يَزُولُ ذَلِكَ ( فَصَارَتْ كَالْإِتْلَافِ ) وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ فَأَشْبَهَ دَلَالَةَ الْحَلَالِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُحْرِمَ بِإِحْرَامِهِ الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شَرْعًا ، وَالدَّلَالَةُ مُبَاشِرَةٌ لِخِلَافِ مَا اُلْتُزِمَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَدَلَالَةِ الْمُودَعِ السَّارِقِ عَلَى الْوَدِيعَةِ ، ( بِخِلَافِ الْحَلَالِ ) فَإِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا ، ( عَلَى أَنَّ فِيهِ ) أَيْ : فِيمَا إذَا دَلَّ الْحَلَالُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ ( الْجَزَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْأَمْنِ بِدَلَالَتِهِ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ ، ( وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي الدَّلَالَةِ ) لِيَكُونَ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ ، ( أَمَّا إذَا كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ ) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا ، وَهَاهُنَا شُرُوطٌ أُخَرُ لَمْ يَذْكُرْهَا : أَحَدُهَا أَنْ يَتَّصِلَ الْقَتْلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا .
وَالثَّانِي أَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِمًا عِنْدَ أَخْذِ الْمَدْلُولِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ إنَّمَا يَتِمُّ جِنَايَةً إذَا بَقِيَ مُحْرِمًا إلَى وَقْتِ الْقَتْلِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَدْلُولُ قَبْلَ أَنْ يَنْفَلِتَ ، فَلَوْ صَدَّقَهُ وَلَمْ

يَقْتُلْهُ حَتَّى انْفَلَتَ ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّالِّ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ جُرْحٍ انْدَمَلَ ( وَلَوْ كَانَ الدَّالُّ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا ) إنَّهُ لَا الْتِزَامَ مِنْ جِهَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ مِنْ جِهَتِهِ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ عَقْدَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِكَافٍ فِي ذَلِكَ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ خَاصٍّ كَمَا فِي عَقْدِ الْوَدِيعَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَمْوَالِ النَّاسِ ، ثُمَّ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَأَخَذَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِّ .
( وَالْعَامِدُ وَالنَّاسِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ ) كَانَا قَاتِلَيْنِ أَوْ دَالَّيْنِ ؛ ( لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ } وَكُلُّ ضَمَانٍ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ فَالْعَامِدُ فِيهِ كَالنَّاسِي كَمَا فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا كَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ اشْتَرَكَا فِي إتْلَافِ شَاةِ الْغَيْرِ كَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ الْإِلْحَاقِ مُدَارٌ بِهِ الْإِتْلَافُ لِلضَّمَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ ، وَالِاتِّحَادُ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ يَرْفَعُ التَّعَدُّدَ وَيُبْطِلُ الْقِيَاسَ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَعْلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ الْقَاطِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } نَصٌّ عَلَى التَّعَمُّدِ وَهُوَ يُخَالِفُ النِّسْيَانَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ النِّسْيَانِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَمْدٍ وَنِسْيَانٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ

بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ : مُتَعَمِّدًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا التَّنْبِيهُ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ صِفَةَ التَّعَمُّدِ فِي الْقَتْلِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا بِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي الْعَمْدِ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي الْخَطَأِ أَوْلَى ، ( وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ ) فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ( سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ كَمَا وُجِدَتْ ابْتِدَاءً فَقَدْ وُجِدَتْ انْتِهَاءً فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، فَلَوْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ بَطَلَتْ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } جَعَلَ كُلَّ جَزَائِهِ بِالْفَاءِ انْتِقَامَ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ مُوجِبٌ سِوَاهُ كَمَا عُرِفَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُتَمَسَّكُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ فِي أَنَّ مُوجِبَ الْعَائِدِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَيَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْك ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ إذَا عَادَ مُسْتَحِلًّا أَوْ مُسْتَحِقًّا بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى بَابِ الرِّبَا { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } الْآيَةَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ .

( وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي بَرِّيَّةٍ فَيُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ ابْتَاعَ بِهَا هَدْيًا وَذَبَحَهُ إنْ بَلَغَتْ هَدْيًا ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ ) عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ فِي الصَّيْدِ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ ، فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ ، وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَمِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ صُورَةً ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ نَعَمًا .
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا النَّظِيرَ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالْمَنْظَرُ فِي النَّعَامَةِ وَالظَّبْيِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَرْنَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ } " وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَأَشْبَاهِهِمَا .
وَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا .
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ فِي الْحَمَامَةِ شَاةً وَيُثْبِتُ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ وَيَهْدِرُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فَحُمِلَ عَلَى الْمِثْلِ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيمِ ، وَفِي ضِدِّهِ التَّخْصِيصُ .
وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَجَزَاءُ قِيمَةِ مَا قَتَلَ مِنْ

النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ .
وَاسْمُ النَّعَمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ ، كَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِهِ دُونَ إيجَابِ الْمُعَيَّنِ .
ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا أَوْ صَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ .
لَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَلِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا } الْآيَةَ ، ذُكِرَ الْهَدْيُ مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ } وَمَفْعُولٌ لِحُكْمِ الْحَكَمِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالصِّيَامَ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِمَا .
قُلْنَا : الْكَفَّارَةُ عُطِفَتْ عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى الْهَدْيِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } مَرْفُوعٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ ثُمَّ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ ، وَيُقَوَّمَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بَرًّا لَا يُبَاعُ فِيهِ الصَّيْدُ يُعْتَبَرُ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِمَّا يُبَاعُ فِيهِ وَيُشْتَرَى .
قَالُوا : وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالْمُثَنَّى أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْغَلَطِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى هَهُنَا بِالنَّصِّ .

وَقَوْلُهُ : ( وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُومَ الصَّيْدُ ) يَعْنِي يُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَيْدٌ لَا مِنْ حَيْثُ مَا زَادَ عَلَيْهِ صَنْعَةً ، فَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا قَتَلَهُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ مُعَلَّمًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ وَهُوَ التَّوَحُّشُ وَالتَّنَفُّرُ عَنْ النَّاسِ ، وَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَلْ يُنْتَقَصُ بِهِ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِيمَةِ فِي الْإِتْلَافِ فَبِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَهِيَ بِالِانْتِفَاعِ ، وَذَلِكَ يَزْدَادُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا فَيَدْخُلُ فِي الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ : صَنْعَةً لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ بِأَمْرٍ خِلْقِيٍّ كَمَا إذَا كَانَ طَيْرٌ يُصَوِّتُ فَازْدَادَ قِيمَتُهُ لِذَلِكَ فَفِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي الْجَزَاءِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ ، وَفِي أُخْرَى يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحَمَامِ إذَا كَانَ مُطَوَّقًا .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ هُوَ ) يَعْنِي الْقَاتِلَ ( مُخَيَّرٌ فِي الْفِدَاءِ ) ظَاهِرٌ ، ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجِبُ فِي الصَّيْدِ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ ) أَيْ : فِي الْمَنْظَرِ لَا فِي الْقِيمَةِ ( فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ ) ظَاهِرٌ ، وَاسْتَدَلَّا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَوَجْهُهُ أَنَّ مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ صُورَةً ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ لِلْمِثْلِ ، ( وَالْقِيمَةُ لَا تَكُونُ نَعَمًا ، وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) وَهْم عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ( أَوْجَبُوا النَّظِيرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ : فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ ،

وَهِيَ الَّتِي بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَخْ ، ( وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ ) مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ ( مِثْلُ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ كَانَ قَوْلُهُ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ حَيْثُ الصِّفَاتُ فَأَوْجَبَ فِي الْحَمَامِ شَاةً لِمُشَابَهَةٍ بَيْنَهُمَا ( مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ وَيَهْدُرُ ) الْعَبُّ مِنْ بَابِ طَلَبَ : أَيْ : يَشْرَبُ الْمَاءَ بِمَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ الْجَرْعَ ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو ، وَالْحَمَامُ يَشْرَبُ هَكَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الطُّيُورِ فَإِنَّهَا تَشْرَبُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَيُقَالُ : هَدَرَ الْبَعِيرُ وَالْحَمَامُ إذَا صَوَّتَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ .
( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ ) اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْمِثْلَ ، وَ ( الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ) لِخُرُوجِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ صُورِيٌّ مِنْ تَنَاوُلِ النَّصِّ ، وَفِي ذَلِكَ إهْمَالُهُ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ فَحُمِلَ عَلَى الْمِثْلِ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، أَوْ لِكَوْنِ الْمِثْلِ الْمَعْنَوِيِّ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ صُورَةً فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا وَإِلَّا لَزِمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ ، أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ هَذَا مَا قَالُوا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمِثْلَ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمِثْلِ صُورَةً وَبَيْنَهُ مَعْنًى ، وَلَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُهُمَا كَالرَّقَبَةِ تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَةَ وَالْكَافِرَةَ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمِثْلُ الْمُطْلَقُ الصُّورِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { : فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } دَخَلَ مَا لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى كَمَا فِي الْمِثْلِيَّاتِ ، وَمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ

إلَّا مَعْنًى كَالْقِيَمِيَّاتِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَا يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ تَحْتَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ الْمُحْتَمَلَةِ ، فَلَوْ كَانَ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ النَّعَامَةُ عَنْ النَّعَامَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي الْمُطْلَقِ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهِ ، وَالْمَجَازُ هَاهُنَا مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ نَقُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : مُوجِبُ الْغَصْبِ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ ، وَرَدَّ الْعَيْنِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : مُوجِبُ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَابِتَةً بِالْكِتَابِ ، وَرَدُّ الْعَيْنِ بِالسُّنَّةِ ، وَهَذَا الْحَلُّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الشَّرْحِ ، وَجَهْدُ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيمِ ) دَلِيلٌ آخَرُ : يَعْنِي فِي اعْتِبَارِ الْمِثْلِ مَعْنَى تَعْمِيمٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا لَهُ نَظِيرٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ ، ( وَفِي ضِدِّهِ ) أَيْ : فِي اعْتِبَارِ الْمِثْلِ صُورَةً ( تَخْصِيصٌ ) ؛ لِتَنَاوُلِهِ مَا لَهُ نَظِيرٌ فَقَطْ ، وَالْعَمَلُ بِالتَّعْمِيمِ أَوْلَى لِكَوْنِ النَّصِّ حِينَئِذٍ أَعَمَّ فَائِدَةً .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ نَعَمًا ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فَجَزَاءٌ هُوَ قِيمَةُ مَا قُتِلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ بِمَعْنَى الْقِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَمِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ لِمَا قُتِلَ ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّعَمِ النَّعَمُ الْوَحْشِيُّ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ لَا بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّعَمَ كَمَا

يُطْلَقُ عَلَى الْأَهْلِيِّ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَحْشِيِّ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ : هَدْيًا وَهُوَ حَالٌ مِنْ جَزَاءٍ ، فَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ الْقِيمَةَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا قُوِّمَ فَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فَالْقَاتِلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، ( وَقَوْلُهُ : وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ } وَعَنْ أَثَرِ الصَّحَابَةِ : يَعْنِي أَنَّ إيجَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ النَّظَائِرَ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا إذْ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالشَّاةِ خِلْقَةً ، وَإِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْدِيرِ بِالْقِيمَةِ ، إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فَكَانَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا أَيْسَرَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ : يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ وَالْمُرَادُ الْقِيمَةُ .
قَالَ ( ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ ) يَعْنِي إذَا ظَهَرَ قِيمَةُ الصَّيْدِ بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ وَهِيَ تَبْلُغُ هَدْيًا ، فَالْخِيَارُ ( فِي أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا أَوْ صَوْمًا ) إلَى الْقَاتِلِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ ) فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ ، ( فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ الصِّيَامِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ) يَعْنِي مِنْ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ( لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ ) لِيَرْتَفِقَ بِمَا يَخْتَارُ ( كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَلِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { : يَحْكُمُ بِهِ

ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا } الْآيَةَ ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ ( ذَكَرَ الْهَدْيَ مَنْصُوبًا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ { يَحْكُمُ بِهِ } ، فَإِنَّ ضَمِيرَ بِهِ مُبْهَمٌ فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ : هَدْيًا فَكَانَ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ .
وَقِيلَ أَيْ : التَّمْيِيزُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمِثْلَ إنَّمَا يَصِيرُ هَدْيًا بِاخْتِيَارِهِمَا وَحُكْمِهِمَا ، ( أَوْ مَفْعُولٌ لِحُكْمِ الْحَكَمِ ) أَيْ : عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ الضَّمِيرِ مَحْمُولًا عَلَى مَحَلِّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { : قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا } وَفِي ذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْهَدْيِ ثَبَتَ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ وَبِالْفَصْلِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَطَفَهُمَا عَلَيْهِ ( بِكَلِمَةِ أَوْ ) وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ ، ( فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِمَا ) .
وَفِي تَوْجِيهِ هَذَا الْكَلَامِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِكَلِمَةِ أَوْ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ إلَّا إذَا كَانَ كَفَّارَةٌ مَنْصُوبًا عَلَى مَا هُوَ قِرَاءَةُ عِيسَى بْنِ عُمَرَ النَّحْوِيِّ وَهِيَ شَاذَّةٌ ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى الِاسْتِدْلَالَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كِتَابٌ وَلَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ : ( قُلْنَا ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمَا ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ كَفَّارَةٌ مَعْطُوفَةً عَلَى هَدْيًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ إعْرَابِهِمَا ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ : فَجَزَاءٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ ، ( وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } مَرْفُوعٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ ) فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ فِيهِمَا لِلْحَكَمَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْهَدْيِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ ، ( وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ ) لَا غَيْرٍ ، ( ثُمَّ الِاخْتِيَارُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ ) رِفْقًا لَهُ ، (

وَيُقَوِّمَانِ ) أَيْ : الْحَكَمَانِ ( فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ ) الْمُحْرِمُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَكَذَا يُعْتَبَرُ الزَّمَانُ الَّذِي أَصَابَهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بَرًّا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى هَاهُنَا ) فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ( بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ } قَالَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ قَبِيصَةَ أَنَّهُ أَصَابَ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَسَأَلَ عَنْهُ عُمَرَ فَشَاوَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ ، فَقَالَ قَبِيصَةُ لِصَاحِبِهِ : وَاَللَّهُ مَا عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا وَقَالَ : أَتَغْمِصُ الْفُتْيَا وَتَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يَحْكُم بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا } فَأَنَا عُمَرُ وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ .

( وَالْهَدْيُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بِمَكَّةَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ( وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي غَيْرِهَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْهَدْيِ وَالْجَامِعُ التَّوْسِعَةُ عَلَى سُكَّانِ الْحَرَمِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْهَدْيُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ .
أَمَّا الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ( وَالصَّوْمُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ ) ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي كُلِّ مَكَان ( فَإِنْ ذَبَحَ الْهَدْيَ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ عَنْ الطَّعَامِ ) مَعْنَاهُ إذَا تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَنُوبُ عَنْهُ .
وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِيهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْهَدْيِ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِي صِغَارُ النَّعَمِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ : يَعْنِي إذَا تَصَدَّقَ .
وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الطَّعَامِ يُقَوَّمُ الْمُتْلَفُ بِالطَّعَامِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَضْمُونُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ ( وَإِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ ) ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ ( وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يُقَوَّمُ الْمَقْتُولُ طَعَامًا ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ يَوْمًا ) ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الصِّيَامِ بِالْمَقْتُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إذْ لَا قِيمَةَ لِلصِّيَامِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالطَّعَامِ ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي بَابِ الْفِدْيَةِ ( فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ

بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا ) ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ يُطْعِمُ قَدْرَ الْوَاجِبِ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا كَامِلًا لِمَا قُلْنَا .

وَقَوْلُهُ : ( وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي غَيْرِهَا ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالصَّوْمُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ : ( إذَا تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ ) بِأَنْ يُصِيبَ كُلُّ مِسْكِينٍ مِنْ اللَّحْمِ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَانَ مِنْ شَرْطِ تَصَدُّقِهِ التَّفْرِيقُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مِنْ حَيْثُ الْهَدْيُ لَا مِنْ حَيْثُ الصَّدَقَةُ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَنُوبُ عَنْهُ ) أَيْ : لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ الْحَاصِلَةَ بِمَكَانٍ غَيْرِ الْحَرَمِ لَا تَنُوبُ عَنْ الْهَدْيِ ؛ حَتَّى لَوْ سَرَقَ الْمَذْبُوحُ أَوْ ضَاعَ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ ، بِخِلَافِ الْمَذْبُوحِ بِمَكَّةَ حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَإِنْ سَرَقَ أَوْ ضَاعَ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ .
قَالَ : ( وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ ) إذَا اخْتَارَ الْقَاتِلُ الْهَدْيَ ، ( يُهْدِي مَا يُجْزِيهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ ) وَهُوَ الْجَذَعُ الْكَبِيرُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ النِّيءُ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمُ الْهَدْيِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ) كَمَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ قَدْ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَثَوْبِي هَذَا هَدْيٌ فَلْيَكُنْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُطْلَقِ الْهَدْيِ وَمَا ذَكَرْت لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الثَّوْبِ قَيَّدَتْهُ بِذَلِكَ .
( وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُ صِغَارُ النَّعَمِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ ( لِأَنَّ

الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً ) فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْهَدْيِ ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ ) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، ( وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الطَّعَامِ يُقَوَّمُ الْمُتْلَفُ بِالطَّعَامِ عِنْدَنَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْمِثْلُ ثُمَّ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْمُتْلَفُ هُوَ الْمَضْمُونُ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا ) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمُتْلَفُ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ طَعَامًا .
قَوْلُهُ : ( يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ ) يَعْنِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ ) بِأَنْ قَتَلَ يَرْبُوعًا أَوْ عُصْفُورًا وَلَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ إلَّا مُدًّا مِنْ الْحِنْطَةِ ( يُطْعِمُ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا كَامِلًا لِمَا قُلْنَا ) : إنَّ الصَّوْمَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ .

( وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ( وَلَوْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ صَيْدٍ فَخَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةً ) ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِتَفْوِيتِ آلَةِ الِامْتِنَاعِ فَيَغْرَمُ جَزَاءَهُ .وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا ) ظَاهِرٌ

( وَمَنْ كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ ، وَلَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا مَا لَمْ يَفْسُدْ ( فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبِيضِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَغْرَمَ سِوَى الْبَيْضَةِ ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْفَرْخِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْضَ مُعَدٌّ ؛ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ ، وَالْكَسْرُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا .

وَقَوْلُهُ : ( مَا لَمْ يَفْسُدْ ) إشَارَةً إلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَذِرَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ صَيْدًا وَلَا مَا هُوَ بِعَرْضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَيْضِ فَرْخٌ مَيِّتٌ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَخْلُو ، أَمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَمَاتَ بِالْكَسْرِ ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ الْكَسْرِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ ( فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَغْرَمَ سِوَى الْبَيْضَةِ ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْفَرْخِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْفَرْخِ حَيًّا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَتَقْرِيرُهُ : الْبَيْضُ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ كَسْرُهُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِ ذَلِكَ الْفَرْخِ ، وَذَلِكَ إتْلَافٌ لَهُ ، وَالْإِتْلَافُ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَقَوْلُهُ : ( فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ ) أَيْ : بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَسْرِ وَالْبَاءُ صِلَةٌ كَانَ أَصْلُهُ يُحَالُ الْمَوْتُ عَلَى الْكَسْرِ : أَيْ : يُضَافُ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَيْضُ النَّعَامَةِ كَبَطْنِ الظَّبْيَةِ ، وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ الظَّبْيَةُ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا عَلَى مَا يَجِيءُ ، فَلِمَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ هَاهُنَا قِيمَةُ الْبَيْضِ وَالْفَرْخِ جَمِيعًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ضَمَانَ الْبَيْضِ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ الْفَرْخِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إذَا كَانَتْ الْبَيْضَةُ مَذِرَةً ، فَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْفَرْخِ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْبَيْضِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ( إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا ) ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ يُشْبِهُ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ، وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ جَارِيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا

وَمَاتَتْ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ دُونَ الْجَنِينِ ، فَكَيْفَ وَجَبَتْ هَاهُنَا قِيمَةُ الْجَنِينِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ ، وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ ، فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَرَجَحَ فِيهِ شَبَهُ النَّفْسِيَّةِ فِي الْجَنِينِ وَوَجَبَ الْجَزَاءُ

( وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ جَزَاءٌ ) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، الْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحَيَّةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ } " وَقَدْ ذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ ، أَوْ يُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى ، أَمَّا الْعَقْعَقُ فَغَيْرُ مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غُرَابًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَغَيْرَ الْعَقُورِ وَالْمُسْتَأْنَسَ وَالْمُتَوَحِّشَ مِنْهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ ، وَكَذَا الْفَأْرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوَحْشِيَّةُ سَوَاءٌ .
وَالضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ لَيْسَا مِنْ الْخَمْسِ الْمُسْتَثْنَاةِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَبْتَدِئَانِ بِالْأَذَى .

، ( وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ ، وَالْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } وَذَكَرَ الذِّئْبَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، فَقِيلَ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ فَمُرَادُهُ الذِّئْبُ ، أَوْ يُقَالُ : إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ السِّتَّةَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ : الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ ) أَيْ : النَّجَاسَاتِ مَعَ غَيْرِهَا أَيْ : يَأْكُلُ الْحَبَّ تَارَةً وَالنَّجَاسَةَ أُخْرَى ، وَقَعَ تَكْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ مَعَ زِيَادَةِ مَعْنًى وَهُوَ كَوْنُهُ مَرْوِيًّا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْ ذِكْرِهِ .
وَقَوْلُهُ : الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ خَبَرٌ لَا صِفَةٌ فَكَانَ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَتْلِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى ) قِيلَ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى دُبُرِ الدَّابَّةِ ، وَقِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ : فِي الْعَقْعَقِ وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى دُبُرِ الدَّابَّةِ .
( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَغَيْرَ الْعَقُورِ وَالْمُسْتَأْنَسَ وَالْمُتَوَحِّشَ مِنْهُمَا ) أَيْ : مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَغَيْرِ الْعَقُورِ ( سَوَاءٌ ) ، أَمَّا الْعَقُورُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ تَوَحُّشِهِ خِلْقَةً .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْجِنْسُ ) يَعْنِي الْحَقِيقَةَ الَّتِي تُسَمَّى كَلْبًا لَا فَرْدًا دُونَ فَرْدٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَيْسَ بِصَيْدٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ

الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَقُورًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَيْدِ بَلْ لِإِظْهَارِ نَوْعِ أَذَاهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَبْعٌ فِيهِ .

( وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالنَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ثُمَّ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالنَّمْلِ السُّودُ أَوْ الصُّفْرُ الَّذِي يُؤْذِي ، وَمَا لَا يُؤْذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهَا ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى .وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ ) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَوَحِّشَةٍ عَنْ الْآدَمِيِّ بَلْ هِيَ طَالِبَةٌ لَهُ ( وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ) يَعْنِي حَتَّى تَكُونَ مِنْ بَابِ قَضَاءِ التَّفَثِ كَالْقَمْلَةِ ( ثُمَّ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا ) فَلَا يَجِبُ بِقَتْلِهَا شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى ) يَعْنِي قَوْلَهُ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ، سَمَّاهُمَا عِلَّةً وَإِنْ كَانَا فِي مَعْنَى عِلَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِ السَّلْبِ ، وَفِي مَوْضِعِ السَّلْبِ تَكُونُ الْعِلَلُ الْكَثِيرَةُ بِمَعْنَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَفِي بِالْجَمِيعِ كَمَا أَنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْوَاحِدَةِ .

( وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ ) مِثْلَ كَفٍّ مِنْ طَعَامٍ ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ التَّفَثِ الَّذِي عَلَى الْبَدَنِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَطْعَمَ شَيْئًا ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكَيْنَا شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْبِعًا .وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ ) ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْجَزَاءُ مُنْحَصِرًا فِي الْقَتْلِ بَلْ الْإِلْقَاءُ فِي الْأَرْضِ كَالْقَتْلِ سَوَاءٌ أَخَذَهَا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَقِيلَ فِي الْقَمْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ كَفٌّ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ .
وَقَوْلُهُ : ( شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَبِّعًا ) قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : كَكِسْرَةِ خُبْزٍ .

( وَمَنْ قَتَلَ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَإِنَّ الصَّيْدَ مَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ وَيَقْصِدُهُ الْآخِذُ ( وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ .وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ ) قِصَّتُهُ أَنَّ أَهْلَ حِمْصٍ أَصَابُوا جَرَادًا كَثِيرًا فِي إحْرَامِهِمْ فَجَعَلُوا يَتَصَدَّقُونَ مَكَانَ كُلِّ جَرَادَةٍ بِدِرْهَمٍ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرَى دَرَاهِمَكُمْ كَثِيرَةً يَا أَهْلَ حِمْصٍ ، تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ .

( وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَبْحِ السُّلَحْفَاةِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ فَأَشْبَهَ الْخَنَافِسَ وَالْوَزَغَاتِ ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ وَكَذَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَلَمْ يَكُنْ صَيْدًا .

( وَمَنْ حَلَبَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ كُلَّهُ .قَالَ ( وَمَنْ حَلَبَ صَيْدَ الْحَرَمِ ) : اللَّبَنُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ .

( وَمَنْ قَتَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيْدِ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى الْإِيذَاءِ فَدَخَلَتْ فِي الْفَوَاسِقِ الْمُسْتَثْنَاةِ ، وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا لُغَةً .
وَلَنَا أَنَّ السَّبْعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ ، وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ ، وَاسْمُ الْكَلْبِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبْعِ عُرْفًا وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ ( وَلَا يُجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةٌ ) وَقَالَ زُفَرٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ اعْتِبَارًا بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ الشَّاةُ } " وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ لَا ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُؤْذٍ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُزَادُ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ظَاهِرًا .

وَقَوْلُهُ ( كَالسِّبَاعِ ) أَيْ : سِبَاعِ الْبَهَائِمِ ( وَنَحْوِهَا ) أَيْ سِبَاعِ الطَّيْرِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا لُغَةً ) يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْكَلْبَ الْمَعْرُوفَ فَإِنَّهُ أَهْلِيٌّ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يَتَكَلَّبُ : أَيْ يَشْتَدُّ فَيَتَنَاوَلُ الْأَسَدَ وَالْفَهْدَ وَالنَّمِرَ وَغَيْرَهَا ، فَكَانَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلَّا مَا كَانَ مُؤْذِيًا ، وَلَوْ كَانَ النَّصُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَكَذَا هَذَا ، ( وَلَنَا أَنَّ السَّبُعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ ) وَتَنَفُّرِهِ مِنْ النَّاسِ ، ( وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ ) وَكُلُّ مَا هُوَ صَيْدٌ يَتَنَاوَلُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ ، ( وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ ) وَكَذَلِكَ الْإِلْحَاقُ بِهَا دَلَالَةٌ ؛ لِأَنَّ الْفَوَاسِقَ مِمَّا تَعْدُو عَلَيْنَا وَعَلَى مَوَاشِينَا بِالْقُرْبِ مِنَّا ، وَالسَّبُعُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنَّا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْفَوَاسِقِ لِيُلْحَقَ بِهَا ، وَاسْمُ الْكَلْبِ وَإِنْ تَنَاوَلَهُ لُغَةً لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عُرْفًا وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ ) أَيْ : أَقْوَى وَأَرْجَحُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا فِي الْأَيْمَانِ لِبِنَائِهِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يُجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةٌ ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَشَاةٌ مَرْفُوعٌ لِكَوْنِهِ مُسْنَدًا إلَيْهِ ، وَمَعْنَاهُ : لَا يُجَاوَزُ بِقِيمَةِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصُّيُودِ قِيمَةُ شَاةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الدَّمِ ، ( وَقَالَ زُفَرُ : تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ اعْتِبَارًا بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ ) وَالْجَامِعُ الضَّمَانُ ، ( وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ الشَّاةُ } ، فَلَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ بِرَأْيٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ تُعْرَفُ سَمَاعًا ؛ ( وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ ) ، إذْ اللَّحْمُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ( لَا لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ ) كَمَا فِي بَعْضِ السِّبَاعِ ، وَالْفِيلُ يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْهِنْدِ الْمُحَارِبَةُ بِحَيْثُ يَكْسِرُ الْعَسْكَرَ ، وَهُوَ مَعْنًى مَطْلُوبٌ لِلْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ لَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَلَا لِأَجْلِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ مَعْنًى لَا تَقَوُّمَ لَهُ شَرْعًا فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْجِلْدِ ( وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُزَادُ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ظَاهِرًا )

( وَإِذَا صَالَ السَّبُعُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَقَالَ زُفَرٌ : يَجِبُ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بِالْجَمَلِ الصَّائِلِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَتَلَ سَبُعًا وَأَهْدَى كَبْشًا وَقَالَ : إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّعَرُّضِ لَا عَنْ دَفْعِ الْأَذَى ، وَلِهَذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ الْأَذَى كَمَا فِي الْفَوَاسِقِ فَلَأَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَحَقَّقِ مِنْهُ أَوْلَى ، وَمَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لَهُ ، بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَبْدُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا صَالَ السَّبُعُ عَلَى الْمُحْرِمِ ) أَيْ : وَثَبَ ( فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَجِبُ الْجَزَاءُ ) عَلَيْهِ ( اعْتِبَارًا بِالْجَمَلِ ) إذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ ، ( وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ سَبُعًا وَأَهْدَى كَبْشًا ، وَقَالَ : إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ ) عَلَّلَ الْإِهْدَاءَ بِالِابْتِدَاءِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِلتَّعْلِيلِ فَائِدَةٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ ، أَمَّا فِي الرِّوَايَاتِ فَيَدُلُّ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عُمَرَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِمَنْزِلَةِ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فَلَا يُفِيدُهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا هُوَ بِفِعْلِهِ ، وَقَوْلُهُ : رِوَايَةً فَيُفِيدُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّعَرُّضِ ) اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَةِ حَدِيثِ الْفَوَاسِقِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَتْلَهَا أُبِيحَ دَفْعًا لِلْأَذَى الْمَوْهُومِ ، فَلَأَنْ يُبَاحَ قَتْلُ السَّبُعِ دَفْعًا لِلْأَذَى الْمُحَقَّقِ أَوْلَى فَكَانَ مَأْذُونًا بِقَتْلِهِ مِنْ الشَّرْعِ ، ( وَمَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لَهُ ) لِسُقُوطِهِ بِإِذْنِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِذْنُ مِنْ الشَّرْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْجَزَاءِ ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ تَطَيَّبَ لِعُذْرٍ فَهُوَ مَأْذُونٌ مِنْ الشَّرْعِ وَلَمْ يَسْقُطْ الْجَزَاءُ .
فَالْجَوَابُ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَلَوْنَاهُ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } الْآيَةَ ، فَكَانَ فَائِدَةُ الْإِذْنِ دَفْعَ الْحُرْمَةِ لَا غَيْرَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ الْجَزَاءِ مَعَ إذْنِ صَاحِبِ

الْحَقِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
لَا يُقَالُ : فَلْيُلْحَقْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الصَّوْلِ لَيْسَتْ كَالضَّرُورَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى نَادِرَةٌ وَالثَّانِيَةَ كَثِيرَةٌ ( بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَبْدُ ) وَنُوقِضَ بِالْعَبْدِ صَالَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ وَالْإِذْنُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ مَالِكِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ مَضْمُونٌ فِي الْأَصْلِ بِأَنَّهُ آدَمِيٌّ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا حَقًّا لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا كَمَوْلَاهُ وَغَيْرِهِ ، فَإِذَا جَاءَ الْمُبِيحُ مِنْ قِبَلِهِ وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ أَسْقَطَ حَقَّهُ كَمَا إذَا ارْتَدَّ ، وَسُقُوطُ مَالِيَّتِهِ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى إنَّمَا كَانَ فِي ضِمْنِ سُقُوطِ الْأَصْلِ وَهُوَ نَفْسُهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ كَمَا إذَا ارْتَدَّ .

( فَإِنْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ صَيْدٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ ) ظَهَرَ مَعْنَاهُ لَمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ،

( وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ وَالدَّجَاجَةَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِصُيُودٍ ؛ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ ، وَالْمُرَادُ بِالْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْحِيَاضِ ؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ( وَلَوْ ذَبَحَ حَمَامًا مُسَرْوَلًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّهُ أَلُوفٌ مُسْتَأْنَسٌ وَلَا يَمْتَنِعُ بِجَنَاحَيْهِ لِبُطْءِ نُهُوضِهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَطِيءَ النُّهُوضِ ، وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ( وَكَذَا إذَا قَتَلَ ظَبْيًا مُسْتَأْنَسًا ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُبْطِلُهُ الِاسْتِئْنَاسُ كَالْبَعِيرِ إذَا نَدَّ لَا يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّيْدِ فِي الْحُرْمَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَالْمُرَادُ بِالْبَطِّ ) يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْقُدُورِيِّ الْبَطُّ ( الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ ) وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ طَيَرَانُهُ كَالدَّجَاجِ فِي الْبُطْءِ ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ لِلْمُحْرِمِ .
وَالْمُسَرْوَلِ بِالْفَتْحِ حَمَامٌ فِي رِجْلَيْهِ رِيشٌ كَأَنَّهُ سَرَاوِيلُ ، مِنْ سَرْوَلَتِهِ إذَا أَلْبَسْته السَّرَاوِيلَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَنَحْنُ نَقُولُ الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ ) تَقْرِيرُهُ الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ ( بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ ) ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ صَيْدٌ ، ( وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ ) جَوَابٌ لِمَالِكٍ وَمَعْنَاهُ الِاعْتِبَارُ لِلْمَعَانِي الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْعَوَارِضِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْحَمَامَ لَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ ، حَتَّى لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى بُرْجِ الْحَمَامِ فَأَصَابَ حَمَامًا مُسَرْوَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ لَمْ يَحِلَّ ، وَلَوْ كَانَ صَيْدُ الْحِلِّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَدَارَ صِحَّةِ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ هُوَ الْعَجْزُ دُونَ الصَّيْدِيَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَعِيرَ إذَا نَدَّ حَلَّ بِذَبْحِ الِاضْطِرَارِ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ لِوُجُودِ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، وَالْعَجْزُ فِي الْحَمَامِ غَيْرُ مَوْجُودٍ ؛ لِأَنَّهُ يَأْوِي فِي اللَّيْلِ إلَى بُرْجِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَا إذَا قَتَلَ ظَبْيًا ) ظَاهِرٌ .

( وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحِلُّ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِهِ ( فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَقَالَا : لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بِأَكْلِهَا إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ غَيْرُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَتَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَيْتَةً كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْظُورُ إحْرَامِهِ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَالذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى إحْرَامِهِ بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : ( إذَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ حَلَّ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ ) حَيْثُ ذَبَحَهُ لَهُ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ لِشَخْصٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَمَا فِي عَامَّةِ النِّيَابَاتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَبَحَهُ ، وَلَوْ ذَبَحَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِنَفْسِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ ، فَكَذَا إذَا ذَبَحَهُ لَهُ الْمُحْرِمُ .
فَإِنْ قُلْت : عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ وَتَعْلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ يَحِلُّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ مُتَعَلِّقًا بِذَبْحِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَامِلًا لَهُ ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَقِيَ يَحِلُّ عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَذَبِيحَةُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُ أَيْضًا قَوْلًا وَاحِدًا .
قُلْت : أَرَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ يَخْدُمُ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَتَقْدِيرُهُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ .
وَتَخْرُجُ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الرِّوَايَاتِ مُقَيَّدٌ بِالِاتِّفَاقِ .
فَإِنْ قُلْت : تَعْلِيلُهُ هَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَتِمَّ الدَّعْوَى ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ انْتَقَلَ إلَيْهِ ، وَلَوْ ذَبَحَ حَلَالٌ صَيْدًا حَلَّ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ أَوْ يُشِرْ إلَيْهِ .
قُلْت : التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَالْمُبَاشَرَةُ لَا تَتَقَاعَدُ عَنْ الدَّلَالَةِ ، وَإِنْ انْتَقَلَ الْفِعْلُ إلَى غَيْرِهِ حُكْمًا ( وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ ) بِالِاتِّفَاقِ ، وَذَبْحُ الْمُحْرِمِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } سَمَّاهُ قَتْلًا دُونَ الذَّبْحِ أَوْ الذَّكَاةِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ

الْحِلَّ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى النَّفْيِ .
وَنُوقِضَ بِذَبْحِ شَاةٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ ذَكَاةً وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ : ( وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ ) أَيْ : مِنْ الذَّبْحِ ( هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا ) وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّمَ مُنَجِّسٌ لِلْحَيَوَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِ عَنْ اللَّحْمِ لِيَصْلُحَ لِلْأَكْلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ مُتَعَسِّرٌ خَفِيٌّ ، وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ قَطْعُ عُرُوقِ الذَّبْحِ فَأُقِيمَ الذَّبْحُ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا ، وَالذَّبْحُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ مَعْدُومٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لِذَلِكَ هُوَ الشَّرْعُ ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا حَيْثُ أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ بِالنَّسْخِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } كَمَا قَالَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } فَأَخْرَجَهُنَّ عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُخْرِجْهَا عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ فَكَانَ مَنْهِيًّا ، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : ( إذَا أَكَلَ بَعْدَمَا أَدَّى الْجَزَاءَ ، وَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي الْجَزَاءِ ) وَقَوْلُهُ : ( وَقَالَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ ) يُرِيدُ أَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَيْتَةً ، وَكَوْنُهُ مَيْتَةً بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ الصَّيْدِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ ، وَخُرُوجُ الذَّابِحِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِحْرَامِ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ (

مُضَافَةً إلَى الْإِحْرَامِ ) بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ فَكَانَ مُتَنَاوِلًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ عَمَّا إذَا ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ وَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ ، فَإِنْ اسْتَشْكَلَ بِالْمُحْرِمِ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ شَوَاهُ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ وَلَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ آخَرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِي الْبَيْضِ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَبَعْدَ الْكَسْرِ لَمْ يَبْقَ هَذَا الْمَعْنَى .

( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ اصْطَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الْمُحْرِمُ عَلَيْهِ ، وَلَا أَمَرَهُ بِصَيْدِهِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ ؛ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ .
لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدٍ مَا لَمْ يَصِدْهُ أَوْ يُصَدْ لَهُ } " وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَذَاكَرُوا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَأْسَ بِهِ } " وَاللَّامُ فِيمَا رُوِيَ لَامُ تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُهْدَى إلَيْهِ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِهِ .
ثُمَّ شُرِطَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ مُحَرَّمَةٌ ، قَالُوا : فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَوَجْهُ الْحُرْمَةِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

وَقَوْلُهُ : ( فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ) يَعْنِي أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَكُونَ الِاصْطِيَادُ لَهُ سَوَاءً أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ .
وَقَوْلُهُ : ( تَذَاكَرُوا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ { عَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ فِي حُجْرَتِهِ ، فَقَالَ : فِيمَ أَنْتُمْ ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا بَأْسَ بِهِ } .
وَقَوْلُهُ : ( وَاللَّامُ فِيمَا رُوِيَ ) يَعْنِي مَالِكًا مِنْ قَوْلِهِ : أَوْ يُصَادُ لَهُ ( لَامُ تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُهْدَى إلَيْهِ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ ) ، وَهَذَا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الصَّيْدِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا أُهْدِيَ الصَّيْدُ إلَى الْمُحْرِمِ لَا فِيمَا إذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ اللَّحْمُ ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يُسَمَّى صَيْدًا حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ حُرْمَةَ تَنَاوُلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَبِهِ نَقُولُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ { أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } ( أَوْ يَكُونُ مَعْنَى أَوْ يُصَادُ لَهُ يُصَادُ بِأَمْرِهِ ) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ بِالرَّفْعِ أَوْ يُصَادُ ، وَحِينَئِذٍ لَا تَمَسُّكَ لَهُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ إذَا صَادَ غَيْرَهُ لِأَجْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُغَيَّا لَا عَلَى الْغَايَةِ ، وَرِوَايَةُ كُتُبِ الْحَدِيثِ مِثْلُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ بِالْأَلِفِ هَكَذَا ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَوْ يُصَدْ لَهُ لِيَصِيرَ مَعْطُوفًا عَلَى الْغَايَةِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( فِيهِ ) أَيْ : فِي شَرْطِ عَدَمِ الدَّلَالَةِ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ ( رِوَايَتَانِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47