كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

لَا يَجِبُ الْأَجْرُ .
لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ) وَقَوْلُهُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ تَلْوِيحٌ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ احْمِلْ هَذَا الْكُرَّ إلَى بَغْدَادَ بِنِصْفِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَرِيكًا وَلَكِنْ تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قِيمَةَ نِصْفِ الْكُرِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا لِيَحْمِلَ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ ( لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى ) وَهُوَ نِصْفُ الْحَطَبِ ( هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ ) وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يُجَاوِزُ بِأَجْرِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى حَيْثُ اشْتَرَكَ ، وَهَذَا إذَا احْتَطَبَ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَ الْآخَرُ ، وَأَمَّا إذَا احْتَطَبَا جَمِيعًا وَجَمَعَا جَمِيعًا فَهُمَا شَرِيكَانِ عَلَى السَّوَاءِ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ مِنْ الدَّقِيقِ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْإِجَارَاتِ : هُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلًا وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَتَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ ، وَنَفْعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِجَارَةُ إذَا قَالَ : فِي الْيَوْمِ ، وَقَدْ سَمَّى عَمَلًا ؛ لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَقَدْ مَرَّ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ .

قَالَ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ إلَخْ ) الْمَخَاتِيمُ جَمْعُ مَخْتُومٍ وَهُوَ الصَّاعُ سَمَّى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتِمُ أَعْلَاهُ كَيْ لَا يَزْدَادَ أَوْ يَنْقُصَ ، وَإِضَافَةُ الْعَشَرَةِ إلَى الْمَخَاتِيمِ مِنْ بَابِ الْخَمْسَةِ الْأَثْوَابِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ ، وَالْيَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ جَائِزٌ ذَكَرَهُ فِي إجَارَاتِ الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُ نِصْفَ النَّهَارِ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ فِي الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ ، وَإِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ وَهُوَ مَعْلُومٌ جَازَ الْعَقْدُ وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ دَفْعًا لِلْجَهَالَةِ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِذَلِكَ ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا ، وَذِكْرُ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَالْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْعَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي حَتَّى لَا يَجِبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْعَمَلِ ، وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِنْ مَضَى الْيَوْمَ وَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَطْلُبَ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ نَظَرًا إلَى الْأَوَّلِ وَيَمْنَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ نَظَرًا إلَى الثَّانِي فَأَفْضَى إلَى النِّزَاعِ ، وَجَعْلُ ذِكْرِ الْوَقْتِ لِلتَّعْجِيلِ

تَحَكُّمٌ لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ ، فَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْجِيلِ وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةً ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ إنَّ خِطَّتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنَّ خِطَّتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَجَعَلَ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلتَّعْجِيلِ وَبَيَّنَهَا وَبَيَّنَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ قَفِيزَ دَقِيقٍ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ الْيَوْمَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهَا جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى أَنَّ دَلِيلَ الْمَجَازِ وَهُوَ نُقْصَانُ الْأَجْرِ لِلتَّأْخِيرِ فِيهَا صَرْفُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّوْقِيتُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ التَّعْجِيلُ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَا يَصْرِفُهُ عَنْهَا فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَهَا وَبَيَّنَ الثَّانِيَةَ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَحَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ التَّعْجِيلُ ، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْيَوْمِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفُ لَا يَسْتَغْرِقُ الظَّرْفَ كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : إنْ عَمِلْت فِي بَعْضِ الْيَوْمِ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْجِيلَ فَكَانَ الْعَمَلُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَتَلْزَمَ الْجَهَالَةُ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْرُبَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ ، وَلَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ .
فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقًّا .
وَكُلُّ شَرْطٍ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ ( فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُثَنِّيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ ؛ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً وَلَا شُبْهَةَ فِي فَسَادِهِ .
وَقِيلَ أَنْ يُكْرِيَهَا مَرَّتَيْنِ ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكْرِي الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةِ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ جَائِزٌ ، وَعَلَى هَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ .
أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ دَيْنٍ وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا

اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهَا إلَخْ ) بَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ فَاسِدٌ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ، وَالشَّرْطُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُفْسِدُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ، لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ فَكَانَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُثْنِيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ تَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ إنْ كَانَ رَدَّهَا مَكْرُوبَةً فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُكْرِيَهَا مَرَّتَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ إلَّا بِالْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ أَوْ كَانَتْ تُخْرِجُ بِالْكِرَابِ مَرَّةً إلَّا أَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ حِينَئِذٍ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ ، وَالثَّانِي لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ أَثَرِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ .
وَأَمَّا كَرْيُ الْأَنْهَارِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِهَا الْجَدَاوِلُ لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَنَفَاهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ : بَلْ

الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دُونَ الْأَوَّلِ ( وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةٍ أُخْرَى لَا يَجُوزُ أَصْلًا ، وَكَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسُ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبُ بِالرُّكُوبِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِدَيْنٍ ) أَيْ بِأُجْرَةٍ هِيَ دَيْنٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ لَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ ( وَلَنَا ) فِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا ( أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ ، وَمَعْنَى الْقُوهِيِّ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ ( وَإِلَى هَذَا ) أَيْ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ ( أَشَارَ مُحَمَّدٌ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ : أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ ، إنَّك أَطَلْت الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْك الْحَيْرَةُ ، وَجَالَسْت الْحِنَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةٌ ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسَاءً .
وَالْحِنَّائِيُّ اسْمٌ مُحْدَثٌ كَانَ يُنْكِرُ الْخَوْضَ عَلَى ابْنِ سِمَاعَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَيَقُولُ : لَا بُرْهَانَ لَكُمْ عَلَيْهَا .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ النَّسَاءَ مَا يَكُونُ عَنْ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ فِي الْعَقْدِ وَتَأْخِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّ النَّسَاءَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُبَادَلَةِ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بَلْ يَحْدُثَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقْدَمَا عَلَى عَقْدٍ يَتَأَخَّرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي وُجُوبِ

التَّأْخِيرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً احْتِيَاطًا عَنْ شُبْهَةِ الْحُرْمَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي النَّسَاءِ شُبْهَةَ الْحُرْمَةِ ، فَبِالْإِلْحَاقِ بِهِ تَكُونُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ ، فَبِالْإِلْحَاقِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ لَا شُبْهَتُهَا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الَّذِي لَمْ تَصْحَبْهُ الْبَاءُ يُقَامُ فِيهِ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَصْحَبُهُ لِفِقْدَانِهَا فِيهِ وَلَزِمَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا حُكْمًا وَعَدَمُ الْآخَرِ وَتَحَقُّقُ النَّسَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ نَسْلُكَ طَرِيقًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْمُدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا دُونَ الْآخَرِ أَوَّلًا ، فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
لَا يُقَالُ : قِسْمَةٌ غَيْرُ حَاضِرَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَبَرَا مَوْجُودَيْنِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهُ قُدَّ وَ ) الثَّانِي ( أَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ ، وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ) لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ ( بِخِلَافِ مَا إذْ اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ) كَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَالزِّرَاعَةِ وَالسُّكْنَى .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لَزِمَ الْكَالِئُ بِالْكَالِئِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي الدَّيْنِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ قِيلَ : انْتَفَى الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَعْنَاهُ بِقِيَامِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا لَمْ تَصْحَبْهُ الْبَاءُ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا الْمَنَافِعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ .
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تُقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ ، وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ ، بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَنَافِعُ وَيَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهَا بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَخْ ) وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ : يَعْنِي لَا الْمُسَمَّى وَلَا أَجْرَ الْمِثْلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهِ الطَّعَامَ يَعْنِي الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ الثِّيَابَ .
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ ، لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ إذْ الْحَمْلُ يَقَعُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَالشَّائِعُ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا حَمَلَ الْكُلَّ فَقَدْ حَمَلَ الْبَعْضَ لَا مَحَالَةَ فَيَجِبُ الْأَجْرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَمْلَ الْكُلِّ حَمْلٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ الِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا .
وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَإِجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّهَا أَيْضًا فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ بِأَنَّ هُنَاكَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ وَجَبَ الْأَجْرُ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرٌ أَصْلًا فَلَا يَجِبُ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْبَيْعِ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ ) أَيْ شَرْعِيٌّ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّائِعِ شَائِعٌ شَرْعًا ، كَمَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ حَامِلَ الشَّائِعِ مَا يُحْمَلُ مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ ، وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ شَيْئًا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ كَانَ

عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَجْرًا عَلَى غَيْرِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ أَوْ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ ، وَالثَّانِي حَقٌّ لَكِنَّ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ عَلَى فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ ، لِأَنَّ عَمَلَهُ لِنَفْسِهِ أَصْلٌ وَمُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ وَعَمَلُهُ لِغَيْرِهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَاجَةِ ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاعْتَبَرَ جِهَةَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَنَافِعُ الدَّارِ وَتَسْلِيمُهَا مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ إذَا تَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَضَعْ فِيهِ الطَّعَامَ أَصْلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ وَتَسْلِيمُهُ فِي الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا مَرَّ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ فَكَانَ الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِيهِ الْأَجْرُ إلَّا بِإِيقَاعِ عَمَلٍ فِي الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَجِبُ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَجِبُ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالسَّفِينَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِحَمْلِ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَزْرَعُهَا أَوْ أَيَّ شَيْءٍ يَزْرَعُهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ) ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا ، وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ ، فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّ بِهَا غَيْرُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا .
( فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا ، كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ قَبْلَ مُضِيِّهِ وَالْخِيَارَ الزَّائِدَ فِي الْمُدَّةِ .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَنَفَقَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ فَاسِدَةً ( فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ( وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ ) وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ ( نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ ) دَفْعًا لِلْفَسَادِ إذْ الْفَسَادُ قَائِمٌ بَعْدُ .

وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا أَوْ بَيَّنَ أَنَّهَا لِلزِّرَاعَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا يَزْرَعُ فِيهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ) لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ( وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ ، فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ) كَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ فَإِنَّ ضَرَرَهُمَا بِهَا أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ ، فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ وَجَبَ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ بِنَقْضِ الْحَاكِمِ بِوُقُوعِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ يُعْقَدُ لِلِاسْتِقْبَالِ ، فَإِذَا شَاهَدَ الْمَزْرُوعَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ وَعَرَفَ أَنَّهُ ضَارٌّ أَوْ لَيْسَ بِضَارٍّ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَارْتِفَاعُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَارْتِفَاعِهَا مِنْ حَالَةِ الْعَقْدِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ مِنْ الِابْتِدَاءِ جَازَ فَكَذَا هَاهُنَا .
وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ إلَى الدِّيَاسِ مَثَلًا ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِيهِ ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الرَّابِعَ ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطٍ قَبْلَ مَجِيئِهِ ، وَهَذَا رَدُّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ ، فَإِنَّ زُفَرَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَلَكِنْ لَمَّا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْمُبَادِي .
لَا يُقَالُ : ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَكْرَارٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ بَابٍ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ

حَتَّى يُسَمَّى مَا يُزْرَعُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ وَهَذَا وَضْعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةِ فَائِدَةٍ هِيَ قَوْلُهُ فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ) الْإِجَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَ ( الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ) لِأَنَّ حُكْمَ الْفَاسِدِ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ الْجَائِزِ ، إذْ لَا حُكْمَ لِلْفَاسِدِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ مَأْمُورٌ بِنَقْضِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصَّحِيحِ حُكْمَهُ ( فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا كَمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ) وَهِيَ قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَمَلَ عَلَيْهِ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ مِنْ الْحَمْلِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ وَارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ فَانْقَلَبَ إلَى الْجَوَازِ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى ( وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بَعْدُ ) وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ : ( الْأُجَرَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ ، وَأَجِيرٌ خَاصٌّ .
فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا .
قَالَ ( وَالْمَتَاعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ ) لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُضَمِّنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ؛ وَلِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ ، فَإِذَا هَلَكَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَضْمَنُهُ كَالْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا لَضَمِنَهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ ، وَالْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهُ الْأَجْرُ ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ بِأَجْرٍ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى يُقَابِلَهُ الْأَجْرُ .
قَالَ : ( وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ ، فَتَخْرِيقُ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلَقُ الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ الْمُكَارِي الْحِمْلَ وَغَرَقُ السَّفِينَةِ مِنْ مَدِّهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ) .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُهُ بِنَوْعَيْهِ الْمَعِيبِ

وَالسَّلِيمِ وَصَارَ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ وَمُعِينِ الْقَصَّارِ .
وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنُ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْذُونًا فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمُعِينِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُصْلِحِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ .
وَبِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَحْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ قَالَ : ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِسَوْقِهِ وَقَوْدِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ .
وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَضَمَانُ الْعُقُودِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ .
قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْمِلُ لَهُ دَنًّا مِنْ الْفُرَاتِ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَ ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ ) أَمَّا الضَّمَانُ فَلِمَا قُلْنَا ، وَالسُّقُوطُ بِالْعِثَارِ أَوْ بِانْقِطَاعِ الْحَبْلِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ ، وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّهُ إذَا انْكَسَرَ فِي الطَّرِيقِ ، وَالْحِمْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ تَعَدِّيًا مِنْ الِابْتِدَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا ، وَإِنَّمَا صَارَ تَعَدِّيًا عِنْدَ الْكَسْرِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى أَصْلًا .

بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامٍ بَعْدَ الْإِجَارَةِ وَهِيَ الضَّمَانُ وَقَالَ ( الْأُجَرَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ إلَخْ ) الْأُجَرَاءُ جَمْعُ أَجِيرٍ .
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ ، وَأَجِيرٌ خَاصٌّ وَالسُّؤَالُ عَنْ وَجْهِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الْخَاصِّ دَوْرِيٌّ .
قِيلَ : وَتَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ أَيْضًا تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى يَعْلَمَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمُعَرِّفِ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرِّفِ وَهُوَ الدَّوْرُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فَلَمْ تَتَوَقَّفْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرِّفِ .
وَقِيلَ قَوْلُهُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مُفْرَدٌ وَالتَّعْرِيفُ بِالْمُفْرَدِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفٌ بِالْمِثَالِ وَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ عَلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَفِي كَوْنِهِ مُفْرَدًا لَا يَصِحُّ التَّعْرِيفُ بِهِ نَظَرٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِنْ التَّعْرِيفَاتِ اللَّفْظِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ ) بَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ يُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَخْ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ( فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا ، وَالْمَتَاعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَيَضْمَنُهُ

عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَضْمَنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ ) وَلَا حِفْظَ ( فَإِذَا هَلَكَ الْمَتَاعُ بِسَبَبٍ كَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنًا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ ، وَتَرْكُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ تَقْصِيرٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ ) فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّمَا تَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ فِي حَافِظِ الْأَمْتِعَةِ بِأَجْرٍ فَهَلَكَ الْأَمْتِعَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ الْعَيْنُ عِنْدَهُ أَمَانَةً ( بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ مَضْمُونًا لَضَمِنَهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ ) فَإِنْ قِيلَ : الِاعْتِبَارُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ الْحِفْظُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ وَقَدْ فَاتَ بِمَا أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ وَالْغَصْبُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَارِدٌ عَلَى الْعَمَلِ لِكَوْنِهِ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا وَالْحِفْظُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ بَلْ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ فَكَانَ تَبَعًا ( وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهُ الْأَجْرُ ) وَإِذَا كَانَ تَبَعًا ثَبَتَ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْعَمَلِ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ ( بِخِلَافِ الْمُودَعِ بِأَجْرٍ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى يُقَابِلَهُ الْأَجْرُ ) قَالَ ( وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ كَتَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ إلَخْ ) وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَتَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلْقِ

الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعِ الْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ الْمُكَارِي الْحَمْلَ وَغَرَقِ السَّفِينَةِ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ مَدِّهَا صَاحِبُهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَدُقَّ الثَّوْبَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى السَّلَامَةِ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْتَظِمُ الْفِعْلَ بِنَوْعَيْهِ السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ فَصَارَ كَالْأَجِيرِ الْوَحْدِ وَمُعِينِ الْقَصَّارِ .
وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ : أَيْ الْأَمْرِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إمَّا بِالْعَقْدِ أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهِ ، وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ الْحَاصِلِ فِي الْعَيْنِ مِنْ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِفِعْلِ غَيْرِ الْأَجِيرِ وَجَبَ الْأَجْرُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِالسَّلَامَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْمُورًا بِهِ ، بِخِلَافِ مُعِينِ الْقَصَّارِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُ عَمَلِهِ بِالْمُصْلِحِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ ، وَالْمُلْتَزِمُ أَنْ يَلْتَزِمَ جَوَازَ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّبَرُّعِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَضَرَّةُ لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ ، وَلَوْ عُلِّلَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي السَّلَامَةَ كَانَ أَسْلَمَ ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْوَحْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ ) جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ : انْقِطَاعُ الْحَبْلِ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الْأَجِيرِ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ فَإِنَّهُ ( مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِهِ ) أَيْ بِفِعْلِهِ ( بَنِي آدَمَ مِمَّنْ غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِسَوْقِهِ

وَقَوْدِهِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ وَضَمَانُ الْآدَمِيِّ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ ضَمَانَ الْعُقُودِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْمِلُ لَهُ دَنًّا مِنْ الْفُرَاتِ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ ) وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْفُرَاتِ لِأَنَّ الدِّنَانَ كَانَتْ تُبَاعُ هُنَاكَ ( أَمَّا الضَّمَانُ فَلِمَا قُلْنَا ) إنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِصُنْعِهِ كَمَا فِي تَخْرِيقِ الثَّوْبِ بِالدَّقِّ ( فَإِنَّ السُّقُوطَ بِالْعِثَارِ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِانْقِطَاعِ الْحَبْلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ ) وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ ( وَأَمَّا الْخِيَارُ ) مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُخَيَّرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي انْكَسَرَ ، لِأَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَإِذَا كَانَ أَمَانَةً وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ ( فَلِأَنَّهُ إذَا انْكَسَرَ فِي الطَّرِيقِ وَالْحَمْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ تَعَدِّيًا مِنْ الِابْتِدَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا ) ، وَإِنَّمَا التَّعَدِّي عِنْدَ الْكَسْرِ فَيَخْتَارُ أَيَّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْعَمَلِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى أَصْلًا .

قَالَ : ( وَإِذَا فَصَدَ الْفَصَّادُ أَوْ بَزَغَ الْبَزَّاغُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : بَيْطَارٌ بَزَغَ دَابَّةً بِدَانِقٍ فَنَفَقَتْ أَوْ حَجَّامٌ حَجَمَ عَبْدًا بِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الطِّبَاعِ وَضَعْفِهَا فِي تَحَمُّلِ الْأَلَمِ فَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِالْمُصْلِحِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَلَا كَذَلِكَ دَقُّ الثَّوْبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الثَّوْبِ وَرِقَّتَهُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّقْيِيدِ .

( وَإِذَا فَصَّدَ الْفَصَّادُ أَوْ بَزَّغَ الْبَزَّاغُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْطَارٌ بَزَّغَ إلَخْ ) وَإِنَّمَا أَعَادَ رِوَايَتَهُ لِنَوْعِ بَيَانٍ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْبَيَانِ ، أَمَّا فِي الْقُدُورِيِّ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَمَ التَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ ، وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ ضَمِنَ .
وَأَمَّا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلِأَنَّهُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ وَكَوْنِ الْحِجَامَةِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى وَالْهَلَاكِ ، وَيُفِيدُ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ ضَمِنَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ بِمُقَارِنٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالسِّرَايَةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ أَيْ السِّرَايَةَ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الطِّبَاعِ وَضَعْفِهَا فِي تَحَمُّلِ الْأَلَمِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَجْهُولِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَلَمْ يُمْكِنْ التَّقْيِيدُ بِالْمُصْلِحِ مِنْ الْعَمَلِ لِئَلَّا يَتَقَاعَدَ النَّاسُ عَنْهُ مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ دَقُّ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ مُقَارِنٌ بِالدَّقِّ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْعَمَلُ مِنْ ضَمَانِ الْقَصَّارِ ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ مُمْكِنٌ لِأَنَّ قُوَّةَ الثَّوْبِ وَرِقَّتَهُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّقْيِيدِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ عُلِمَ مِنْ رِوَايَةِ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ الْحَجَّامَ إذَا حَجَمَ الْعَبْدَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَتَجَاوَزَ الْمُعْتَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهَا قَدْرُ الضَّمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ قَدْرِ التَّجَاوُزِ حَتَّى أَنَّ الْخِتَانَ إذَا خَتَنَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ فَإِنْ بَرِئَ فَعَلَيْهِ ضَمَانٌ كَمَالِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ بَدَلِ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّيَاتِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ أَثَرُ جِنَايَتِهِ انْتَقَضَ ضَمَانُهُ .

أُجِيبَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي النَّوَادِرِ : أَنَّهُ لَمَّا بَرِئَ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ وَهِيَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لَا ثَانِيَ لَهُ فِي النَّفْسِ فَيَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَلِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ .
وَأَمَّا إذَا مَاتَ فَقَدْ حَصَلَ تَلَفُ النَّفْسِ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ فَكَانَ ضَامِنًا نِصْفَ بَدَلِ النَّفْسِ لِذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ : التَّنْصِيفُ فِي الْبَدَلِ يَعْتَمِدُ التَّسَاوِي فِي السَّبَبِ وَقَدْ انْتَفَى ، لِأَنَّ قَطْعَ الْحَشَفَةِ أَشَدُّ إفْضَاءً إلَى التَّلَفِ مِنْ قَطْعِ الْجِلْدَةِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ كَقَطْعِ الْيَدِ مَعَ حَزِّ الرَّقَبَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ إتْلَافًا وَأَنْ لَا يَقَعَ إتْلَافًا ، وَالتَّفَاوُتُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَكَانَ هَذَا هَدَرًا بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ إتْلَافًا .

قَالَ : ( وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَجِيرَ وَحْدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي الْمُدَّةِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ وَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِالْمَنَافِعِ ، وَلِهَذَا يَبْقَى الْأَجْرُ مُسْتَحَقًّا ، وَإِنْ نُقِضَ الْعَمَلُ .قَالَ ( وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ إلَخْ ) الْأَجِيرُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ ، كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِخِدْمَةِ شَخْصَيْنِ أَوْ لِرَعْيِ غَنَمِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُرَدُّ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ فَعَلَيْك بِمِثْلِهِ هَاهُنَا ، وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ ( يَبْقَى الْأَجْرُ مُسْتَحَقًّا وَإِنْ نُقِضَ الْعَمَلُ ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ .
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي خَيَّاطٍ خَاطَ ثَوْبَ رَجُلٍ بِأَجْرٍ فَفَتَقَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لِلْخَيَّاطِ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ الْعَمَلَ إلَى رَبِّ الثَّوْبِ ، وَلَا يُجْبَرُ الْخَيَّاطُ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ لَوْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ أُجْبِرَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ الْعَقْدُ قَدْ انْتَهَى بِتَمَامِ الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ هُوَ الَّذِي فَتَقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخَيَّاطَ لَمَّا فَتَقَ الثَّوْبَ فَقَدْ نَقَضَ عَمَلَهُ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَتَقَهُ أَجْنَبِيٌّ لِأَنَّهُ بِفَتْقِ الْأَجْنَبِيِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْخَيَّاطَ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا ، وَلَوْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَنَقَضَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ

قَالَ : ( وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ وَلَا مَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالْأَجِيرُ الْوَحْدُ لَا يَتَقَبَّلُ الْأَعْمَالَ فَتَكُونُ السَّلَامَةُ غَالِبَةً فَيُؤْخَذُ فِيهِ الْقِيَاسُ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ ) بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ أَوْ غَابَ أَوْ غَصَبَ ( وَلَا مَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ ) بِأَنْ انْكَسَرَ الْقَدُومُ فِي عَمَلِهِ أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ دَقِّهِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ إذَا تَعَدَّى ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ مَا إذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ ( فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِحُصُولِ الْقَبْضِ بِإِذْنِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عِنْدَهُمَا هُمَا ، لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ ) فَإِنَّهُ يَقْبَلُ أَعْيَانًا كَثِيرَةً رَغْبَةً فِي كَثْرَةِ الْأَجْرِ ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ الْحِفْظِ فِيهَا فَضَمِنَ حَتَّى لَا يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا وَلَا يَأْخُذَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ ( وَالْأَجِيرُ الْوَحْدُ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ ) بَلْ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ ( فَتَكُونُ السَّلَامَةُ غَالِبَةً فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ ، وَأَمَّا الثَّانِي ) وَهُوَ مَا إذَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ ( فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ ) بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا ، وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا ( فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ وَيَصِيرُ الْمَأْمُورُ ) أَيْ الْأَجِيرُ ( نَائِبًا مَنَابَهُ فَصَارَ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُضَمِّنُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ )

( وَإِذَا قَالَ لِلْخَيَّاطِ إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ خِطْته رُومِيًّا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ ، وَأَيَّ عَمَلٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِهِ ) وَكَذَا إذَا قَالَ لِلصَّبَّاغِ إنْ صَبَغْته بِعُصْفُرٍ فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ صَبَغْتَهُ بِزَعْفَرَانٍ فَبِدِرْهَمَيْنِ ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِأَنْ قَالَ : آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ : آجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ بِكَذَا أَوْ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، وَإِنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يَجُزْ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا ، وَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ( وَلَوْ قَالَ : إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ ) قَالَ : زُفَرُ : الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ ذُكِرَ بِمُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ ، وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ .
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ .
وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ

تَسْمِيَتَانِ ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ مَقْصُودٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ النَّوْعَيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً .
وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى التَّأْقِيتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ ، فَيَصِحُّ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى ، وَيَفْسُدُ الثَّانِي وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلُ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتُعْتَبَرُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ فَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ أَوْلَى ( وَلَوْ قَالَ : إنْ سَكَّنْتَ فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ ، وَإِنْ سَكَّنْتَهُ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ ، وَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَّنَ فِيهِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ سَكَّنَ فِيهِ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ) .

بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْإِجَارَةَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ قَالَ ( وَإِذَا قَالَ لِلْخَيَّاطِ إلَخْ ) إذَا قَالَ رَجُلٌ لِلْخَيَّاطِ إنْ خِطْت هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطَّته رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ عُمِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى لَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّرْدِيدُ بَيْنَ الصَّبْغَيْنِ أَوْ الدَّارَيْنِ أَوْ الدَّابَّتَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، أَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَلَمْ يَجُزْ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالْجَامِعِ دَفْعُ الْحَاجَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا ، وَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ وَلَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ .
وَإِذَا قَالَ : إنْ خِطَّته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ وَإِنْ خِطَّته غَدًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ ، فَإِنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ ، فَفِي أَيِّهِمَا خَاطَ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى فِيهِ .
وَقَالَ زُفَرُ : الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ قُوبِلَ بِبَدَلَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّهُ حَالَ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْيَوْمِ بِقَوْلِهِ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ حَتَّى لَوْ خَاطَهُ فِي الْغَدِ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ فَكَذَا هَاهُنَا .
وَذِكْرُ الْغَدِ

لِلتَّرْفِيهِ لِأَنَّ حَالَ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْغَدِ بِقَوْلِهِ خِطْهُ غَدًا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّرْفِيهِ فَكَذَا هَاهُنَا إذْ لَيْسَ لِتَعْدَادِ الشَّرْطِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ ، أَمَّا فِي الْيَوْمِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ إذَا كَانَ لِلتَّرْفِيهِ كَانَ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى غَدٍ ثَابِتًا الْيَوْمَ مَعَ عَقْدِ الْيَوْمِ ، وَأَمَّا فِي الْغَدِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ فِي الْيَوْمِ بَاقٍ ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضَافِ إلَى غَدٍ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَسْمِيَتَانِ لَزِمَ مُقَابَلَةُ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ بِبَدَلَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ خِطْهُ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْأَجْرِ مَجْهُولًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِوُقُوعِ الْعَمَلِ فَإِنَّ بِهِ يَتَعَيَّنُ الْأَجْرُ لِلُزُومِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّهُ حَقِيقَتُهُ فَكَانَ قَوْلُهُ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ مُقْتَصِرًا عَلَى الْيَوْمِ ، فَبِانْقِضَاءِ الْيَوْمِ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ إلَى الْغَدِ بَلْ يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الْوَقْتِ ، وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ : أَيْ لِلْإِضَافَةِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ لَكِنْ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَكُونُ مُرَادَةً لِكَوْنِهَا حَقِيقَةً ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِضَافَةِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ مَقْصُودٌ ) دَلِيلٌ آخَرُ لَهُمَا ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَمَلُ وَلَكِنْ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ ، فَيَكُونُ مُرَادُهُ التَّعْجِيلَ لِبَعْضِ أَغْرَاضِهِ فِي الْيَوْمِ مِنْ التَّجَمُّلِ وَالْبَيْعِ بِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ فَيَفُوتُ ذَلِكَ وَيَكُونُ التَّأْجِيلُ مَقْصُودًا فَصَارَ بِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ كَالنَّوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْخِيَاطَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ

ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً ) أَيْ لِلْإِضَافَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : عَبَّرَ عَنْ الْإِضَافَةِ بِالتَّعْلِيقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ النِّصْفَ فِي الْغَدِ لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ جَدِيدَةٍ ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَطِّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالتَّأْخِيرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ : أَيْ لِتَعْلِيقِ الْحَطِّ بِالتَّأْخِيرِ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْمَجَازِ ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِضَافَةِ لَا تَجْتَمِعُ تَسْمِيَتَانِ فِي الْيَوْمِ ( وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّأْقِيتُ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ ) فَإِنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرَكًا ، وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ كَانَ أَجِيرَ وَحْدٍ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ لِتَنَافِي لَوَازِمِهِمَا ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ عَدَمَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْ ، وَذِكْرُ الْوَقْتِ يُوجِبُ وُجُوبَهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْمُدَّةِ ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ ، وَلِذَلِكَ عَدَلْنَا عَنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّأْقِيتُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ التَّعْجِيلُ ( وَحِينَئِذٍ تَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ فَيَصِحُّ الْأَوَّلُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَفْسُدُ الثَّانِي وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي جَعْلِ الْيَوْمِ لِتَعْجِيلٍ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ الْأُولَى وَفَسَادَ الثَّانِيَةِ ، وَفِي جَعْلِهِ لِلتَّوْقِيتِ فَسَادَ الْأُولَى وَصِحَّةَ الثَّانِيَةِ ، وَلَا رُجْحَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ تَحَكُّمًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ فَسَادَ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ يَلْزَمُ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْأُولَى وَالضِّمْنِيَّاتُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ .
وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْمَخَاتِيمِ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ وَأَفْسَدَ الْعَقْدَ ، وَهَاهُنَا لِلتَّعْجِيلِ وَصَحَّحَهُ .

وَأُجِيبَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ حَقِيقَةٌ لَا يُتْرَكُ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْ ذَلِكَ مَانِعٌ كَمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَمَنَعْنَا ذَلِكَ عَنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ نُقْصَانُ الْأَجْرِ لِلتَّأْخِيرِ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ ثَمَّةَ عَلَى الْمَجَازِ فَكَانَ التَّأْقِيتُ مُرَادًا وَفَسَدَ الْعَقْدُ .
وَرُدَّ بِأَنَّ دَلِيلَ الْمَجَازِ قَائِمٌ ثَمَّةَ وَهُوَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْجِيلِ فَيَكُونُ مُرَادًا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ نُقْصَانَ الْأَجْرِ دَلِيلٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَازِ بِظَاهِرِ الْحَالِ .
وَمِمَّا ذَكَرْنَا عُلِمَ أَنَّ قِيَاسَ زُفَرَ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ ، وَإِذَا وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي .
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي .
قَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هِيَ الصَّحِيحَةُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ فَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ أَوْلَى ) وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ : إنْ سَكَّنْت فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ إلَخْ ) وَلَوْ قَالَ : إنْ سَكَّنْت

فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ سَكَّنْته حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ ، وَكَذَا إنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَقَالَ إنْ سَكَّنْت فِيهِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ سَكَّنْت فِيهِ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ ،

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ جَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ حِنْطَةٍ فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَكَذَا الْأَجْرُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ ، بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ .
أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ ، وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَيَصِحُّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ يُخَالِفُ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي أَخَوَاتِهَا ، وَالْإِجَارَةُ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ حِنْطَةٍ فَبِدِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ جَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ .
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ذُكِرَتْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ الْكُلِّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً كَمَا فِي نَظَائِرِهَا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْأَجْرُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَالْجَهَالَةُ الْوَاحِدَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ فَكَيْفَ الْجَهَالَتَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَسْأَلَةُ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ فِيهَا جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَتْ صَحِيحَةً .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ لِأَنَّ الْأَجْرَ ثَمَّةَ يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ .
أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَالْأَجْرُ يَجِبُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي الدَّارِ وَالدُّكَّانِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الْعَبْدِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ .
وَهَذَا الْحَرْفُ : أَيْ قَوْلُهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ، وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ يُخَالِفُ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ لَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي أَخَوَاتِهَا ( قَوْلُهُ وَالْإِجَارَةُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ إلَخْ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ ( تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ ) أَمَّا تَرْكُ الِانْتِفَاعِ مِنْ التَّمَكُّنِ فَنَادِرٌ لَا

مُعْتَبَرَ بِهِ ( وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى إيجَابِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ ) بِأَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ الْمَنْفَعَةَ ( يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ ) .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ ، وَلِهَذَا جُعِلَ السَّفَرُ عُذْرًا فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ كَإِسْكَانِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ فِي الدَّارِ ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ لَا يَبْقَى غَيْرُهُ دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ

( بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ ) : تَأْخِيرُ ذِكْرِ إجَارَةِ الْعَبْدِ عَنْ إجَارَةِ الْحُرِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ لِظُهُورِ وَجْهِهِ بِانْحِطَاطِ دَرَجَتِهِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِيَخْدُمَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ تَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ ) لَا مَحَالَةَ ( فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مِلْكِهِ مَنَافِعَهُ كَالْمَوْلَى ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَكَذَا لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُسَافِرُ بِعَبْدِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَنُوقِضَ بِمَنْ ادَّعَى دَارًا وَصَالَحَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً فَإِنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ إلَى السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ ، فَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِعَبْدِهِ يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ ، وَرُبَّمَا يَرْبُو عَلَى الْأُجْرَةِ .
وَأَمَّا فِي الصُّلْحِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَالْمُدَّعِي بِالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَلَهُ ذَلِكَ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى انْقِطَاعٌ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضُمَّ إلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ قَيْدًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَيَلْزَمَهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ كَالْمَوْلَى ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَهُ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَنَوْعًا ، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ كَذَلِكَ بَلْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ ضَرُورِيٍّ يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ الْمَوْلَى ، وَالْعُرْفُ يُوجِبُهُ ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرِ

مُؤْنَةِ الرَّدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يُوجِبُهُ ( وَلِهَذَا جُعِلَ السَّفَرُ عُذْرًا ) يَعْنِي إذَا اسْتَأْجَرَ غُلَامًا لِيَخْدُمَهُ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرَ السَّفَرَ فَهُوَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ مُنِعَ السَّفَرَ تَضَرَّرَ فَكَانَ عُذْرًا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ ( وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ ) فَصَارَ كَالِاخْتِلَافِ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِينَ ( فَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ عُرْفًا لَا يَبْقَى غَيْرُهَا دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ ) فَإِنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ رُكُوبِ الرَّاكِبِينَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ اسْتِحْسَانًا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْعِدَامِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ الْحَجْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ سَالِمًا ضَارٌّ عَلَى اعْتِبَارِ هَلَاكِ الْعَبْدِ ، وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ .( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا ) فَعَمِلَ ( فَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْإِجَارَةُ لِانْعِدَامِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ الْحَجْرِ ) فَيَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا بِالِاسْتِعْمَالِ وَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ ) فَإِنَّهُ يَجِبُ لِلْمَوْلَى قِيمَتُهُ دُونَ الْأَجْرِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ بِالْغَصْبِ ، وَالْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ سَالِمًا ضَارٍّ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَإِذَا جَازَ الدَّفْعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ )

( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَجْرَ فَأَكَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ ضَامِنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، إذْ الْإِجَارَةُ قَدْ صَحَّتْ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالٍ مُحْرَزٍ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُحْرَزٍ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ مَا فِي يَدِهِ .
( وَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى الْأَجْرَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ( وَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْأَجْرَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ عَلَى مَا مَرَّ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ إلَخْ ) وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَجْرَ فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، إذْ الْإِجَارَةُ قَدْ صَحَّتْ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ ، وَالْمَحْجُورُ مَأْذُونٌ فِي الْمَنَافِعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالٍ مُحْرَزٍ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ وَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ مُحْرَزٍ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ ، إذْ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ مَا فِي يَدِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْرَازَ إنَّمَا يَكُونُ بِيَدِ الْمَالِكِ أَوْ يَدِ نَائِبِهِ ، وَيَدُ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ بِهِمَا وَيَدُ الْعَبْدِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْغَاصِبُ إذَا اسْتَهْلَكَ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ ضَمِنَهُ وَلَا إحْرَازَ فِيهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأُمِّ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا وَهِيَ مُحْرَزَةٌ ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ فَإِنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْمَنَافِعِ وَهِيَ غَيْرُ مُحْرَزَةٍ ( وَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى الْأَجْرَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، وَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْأَجْرَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ عَلَى مَا مَرَّ ) مِنْ قَوْلِهِ وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَهُوَ الْعَاقِدُ رَجَعَ الْحُقُوقُ إلَيْهِ فَكَانَ لَهُ الْقَبْضُ وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ خُرُوجِ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ عُهْدَةِ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا آجَرَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ ، فَإِنْ آجَرَهُ الْغَاصِبُ كَانَ الْأَجْرُ لَهُ لَا لِلْمَالِكِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ آجَرَهُ الْمَوْلَى فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ إلَّا بِوَكَالَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ فَيَنْصَرِفُ الثَّانِي إلَى مَا يَلِي الْأَوَّلَ ضَرُورَةً .( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالشَّهْرُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا ، وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ كَانَ مَجْهُولًا ، وَالْإِجَارَةُ تَفْسُدُ بِالْجَهَالَةِ فَصَرَفْنَاهُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ ، كَمَا لَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ شَهْرًا وَسَكَتَ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ ( أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ ) فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الشَّيْءَ لِحَاجَةٍ تَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُهَا عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَإِذَا انْصَرَفَ الْأَوَّلُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ وَالثَّانِي مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْأَوَّلَ ضَرُورَةً .
قِيلَ مَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ مُنْكَرًا مَجْهُولًا ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ لَمَّا كَانَ فِي كَلَامِ الْمُؤَجِّرِ مِنْ الْمُنْكَرِ ، فَكَأَنَّ الْمُؤَجِّرَ قَالَ آجَرْت عَبْدِي هَذَا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْته هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الشَّهْرِ ، وَهُوَ آبِقٌ أَوْ مَرِيضٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَبَقَ أَوْ مَرِضَ حِينَ أَخَذْته وَقَالَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِسَاعَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ فَيَتَرَجَّحُ بِحُكْمِ الْحَالِ ، إذْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِهِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ .
أَصْلُهُ الِاخْتِلَافُ فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَانْقِطَاعِهِ .( قَوْلُهُ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ إلَخْ ) ظَاهِرٌ خَلَا قَوْلِهِ فَيَتَرَجَّحُ بِحُكْمِ الْحَالِ فَإِنَّهُ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْحَالَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ ، ثُمَّ لَوْ جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَبْدِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ لِلْمُؤَجِّرِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْعَقْدُ مَعَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ ، وَلَكِنَّ تَعَارُضَ كَلَامِهِمَا فِي اعْتِرَاضِ مَا يُوجِبُ السُّقُوطَ فَجُعِلَ الْحَالُ مُرَجِّحًا لِكَلَامِ الْمُؤَجِّرِ لَا مُوجِبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ دَافِعَةً لِاسْتِحْقَاقِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لَا مُوجِبَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُك أَنْ تَعْمَلَهُ قَبَاءً وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ قَمِيصًا أَوْ قَالَ : صَاحِبُ الثَّوْبِ لِلصَّبَّاغِ أَمَرْتُك أَنْ تَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَصَبَغْته أَصْفَرَ وَقَالَ الصَّبَّاغُ لَا بَلْ أَمَرْتنِي أَصْفَرَ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ صِفَتَهُ ، لَكِنْ يَحْلِفُ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ شَيْئًا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ .
قَالَ : ( وَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ ) وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ ، وَكَذَا يُخَيَّرُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ إذَا حَلَفَ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى .
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : يُضَمِّنُهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ .

( بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامِ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْأَصْلُ ذَكَرَ أَحْكَامَ اخْتِلَافِهِمَا وَهُوَ الْفَرْعُ ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ لِعَارِضٍ قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ إلَخْ ) إنْ اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْإِجَارَةِ فِي نَوْعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ فِي الْخِيَاطَةِ أَوْ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْإِذْنُ ، وَهُوَ صَاحِبُ الثَّوْبِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ ، فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ صِفَتَهُ لَكِنْ بَعْدَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى كَمَا مَرَّ قُبَيْلَ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمِ فَخَاطَهُ قَبَاءً .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْأَجِيرُ خَالَفَ وَهَاهُنَا قَدْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا مِثْلُهَا انْتِهَاءً لَا ابْتِدَاءً ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ هُنَا بَعْدَ يَمِينِ صَاحِبِ الثَّوْبِ ، وَلَمَّا حَلَفَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِخِلَافِ الْآخَرِ اعْتِبَارٌ فَكَانَتَا فِي الْحُكْمِ فِي الِانْتِهَاءِ سَوَاءً .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ يَضْمَنُهُ : أَيْ يَضْمَنُ صَاحِبُ الثَّوْبِ لِلصَّبَّاغِ قِيمَةَ زِيَادَةِ الصَّبْغِ ، فَالْأَوْلَى أَعْنِي قَوْلَهُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَالثَّانِيَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ يَضْمَنُهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الصَّبْغَ آلَةٌ لِلْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الصَّبَّاغِ بِمَنْزِلَةِ الْحَرَضِ وَالصَّابُونِ فِي عَمَلِ الْغَسَّالِ ، فَلَا يَصِيرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ

مُشْتَرِيًا لِلصَّبْغِ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ عِنْدَ فَسَادِ السَّبَبِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الصَّبَّاغَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَالْحُكْمُ فِي الْغَصْبِ كَذَلِكَ .

( وَإِنْ قَالَ : صَاحِبُ الثَّوْبِ عَمِلْته لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ الصَّانِعُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَقَوُّمَ عَمَلِهِ إذْ هُوَ يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَيُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالصَّانِعُ يَدِّعِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ حِرِّيفًا لَهُ ) أَيْ خَلِيطًا لَهُ ( فَلَهُ الْأَجْرُ وَإِلَّا فَلَا ) ؛ لِأَنَّ سَبْقَ مَا بَيْنَهُمَا يُعَيِّنُ جِهَةَ الطَّلَبِ بِأَجْرٍ جَرْيًا عَلَى مُعْتَادِهِمَا ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ الصَّانِعُ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ بِالْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْحَانُوتَ لِأَجْلِهِ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَجْرِ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِحْسَانِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ لِلدَّفْعِ ، وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الْأُجْرَةِ فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ عَمِلْته لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ الصَّانِعُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَقَوُّمَ عَمَلِهِ ، لِأَنَّهُ تَقَوُّمَهُ بِالْعَقْدِ وَيُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالصَّانِعُ يَدَّعِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ حَرِيفًا لَهُ : أَيْ خَلِيطًا لَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ تَكَرَّرَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ بَيْنَهُمَا بِأَجْرٍ فَلَهُ الْأَجْرُ وَإِلَّا فَلَا ، لِأَنَّ سَبْقَ مَا بَيْنَهُمَا بِأَجْرٍ يُعِينُ جِهَةَ الطَّلَبِ بِأَجْرٍ جَرْيًا عَلَى مُعْتَادِهِمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ الصَّانِعُ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ بِالْأُجْرَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْحَانُوتَ لِأَجْلِهِ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَجْرِ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَمَا ذَكَرَاهُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الظَّاهِرَ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلدَّفْعِ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَهُ الْفَسْخُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ ، وَأَنَّهَا تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ هَذَا عَيْبًا حَادِثًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ فَعَلَ الْمُؤَجِّرُ مَا أَزَالَ بِهِ الْعَيْبَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ .

بَابُ فَسْخِ الْإِجَارَةِ ) تَأْخِيرُ هَذَا الْبَابِ عَمَّا قَبْلَهُ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ، إذْ الْفَسْخُ يَعْقُبُ الْعَقْدَ لَا مَحَالَةَ .
قَالَ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا ) تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ لِعُيُوبٍ تَضُرُّ بِالْمَنَافِعِ الَّتِي وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ لِأَجْلِهَا ، وَكَذَا بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا ( فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَهُ الْفَسْخُ ) وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَذَهَبَتْ كِلْتَا عَيْنَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عَيْبًا لَا يَضُرُّ كَحَائِطٍ سَقَطَ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي السُّكْنَى أَوْ ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْ الْعَبْدِ فَلَا فَسْخَ لَهُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ) دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنَافِعُ وَأَنَّهَا تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الِابْتِدَاءِ فَكَانَ الْعَيْبُ حَادِثًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ قَبْلَهُ ، لِأَنَّ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ قَبْلَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا رَضِيَ بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَكَذَا إذَا أَزَالَ الْمُؤَجِّرُ مَا بِهِ مِنْ الْعَيْبِ لَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ

قَالَ : ( وَإِذَا خَرِبَتْ الدَّارُ أَوْ انْقَطَعَ شُرْبُ الضَّيْعَةِ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ ، وَهِيَ الْمَنَافِعُ الْمَخْصُوصَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَشَابَهُ فَوْتُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ فَاتَتْ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا فَأَشْبَهَ الْإِبَاقَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْآجِرَ لَوْ بَنَاهَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا لِلْآجِرِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ لَكِنَّهُ يُفْسَخُ .( وَإِذَا خَرِبَتْ الدَّارُ أَوْ انْقَطَعَ شِرْبُ الضَّيْعَةِ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ) وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا .
وَصَحَّحَ النَّقْلَ هَذَا الْقَائِلُ بِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَلَوْ سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِانْهِدَامِ الدَّارِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ لِشَرْطِ حَضْرَةِ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّهُ رَدٌّ بِعَيْبٍ وَهُوَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ وَهِيَ الْمَنَافِعُ الْمَخْصُوصَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَشَابَهَ فَوَاتَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَوْتَ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ ، وَ ) صُحِّحَ النَّقْلُ بِمَا رَوَى هِشَامٌ ( عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْمُؤَجِّرُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا لِلْمُؤَجِّرِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ لَكِنَّهُ يُفْسَخُ ) وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ فَاتَتْ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا فَأَشْبَهَ إبَاقَ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ

( وَلَوْ انْقَطَعَ مَاءُ الرَّحَى ، وَالْبَيْتُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ عَنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .( قَوْلُهُ وَلَوْ انْقَطَعَ مَاءُ الرَّحَى وَالْبَيْتُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ) أَوْرَدَهُ اسْتِشْهَادًا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ .

قَالَ : ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَوْ الْأُجْرَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ( وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ ) مِثْلُ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي فِي الْوَقْفِ لِانْعِدَامِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَوْ الْأُجْرَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ الْمَمْلُوكَةِ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى الْمَنَافِعِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِالِانْتِقَالِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِانْتِقَالِ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْمُوَرِّثُ إلَى الْوَارِثِ .
وَأَمَّا إذَا عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي فِي الْوَقْفِ ( لَمْ تَنْفَسِخْ لِانْعِدَامِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ) وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ الْمَمْلُوكَةِ ، فَإِنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ وَاقِعًا لِغَيْرِ الْعَاقِدِ وَبَقِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ إلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِالْأَجْرِ فَقَدْ مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ ، فَإِنَّهُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ حَيْثُ لَا يَجِدُ دَابَّةً أُخْرَى فِي وَسَطِ الْمَفَازَةِ ، وَلَا يَكُونُ ثَمَّةَ قَاضٍ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَيْهِ فَيَسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ مِنْهُ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنْ وَجَدَ ثَمَّةَ دَابَّةً أُخْرَى يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ قَاضٍ تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إبْقَاءِ الْإِجَارَةِ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِي الْبَقَاءَ وَهُوَ مَوْتُ

الْمُؤَجِّرِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الضَّرُورَةُ كَانَ عَدَمُ الِانْفِسَاخِ بِالِاسْتِحْسَانِ الضَّرُورِيِّ ، وَالْمُسْتَحْسَنُ لَا يُورَدُ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ كَتَطْهِيرِ الْحِيَاضِ وَالْأَوَانِي ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ فَإِنَّهُ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ وَلَمْ يَعْقِدْ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ، فَإِنَّا قَدْ قُلْنَا إنْ كُلَّمَا مَاتَ الْعَاقِدُ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِأَنَّ كُلَّمَا انْفَسَخَ يَكُونُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ لِأَنَّ الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي مِثْلِهِ .
وَوَجْهُ نَقْضِهِ هُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِأَجْلِهِ إذَا مَاتَ الْعَاقِدُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ ضَرُورَةُ الْمَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْأُجْرَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِغَيْرِ مَنْ عُقِدَ لَهُ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ فَالْفَسْخُ لِأَجْلِهِ .

قَالَ : ( وَيَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ لِفَوَاتِ بَعْضِهِ ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِيَارَ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَامَلَةٍ لَا يُسْتَحَقُّ الْقَبْضُ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَفَوَاتُ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ ، فَكَذَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ مُمْكِنٌ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ دُونَهَا وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْقَبْضِ إذَا سَلَّمَ الْمُؤَجَّرَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ .

قَالَ ( وَيَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ ) إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً عَلَى أَنَّهُ أَوْ الْمُؤَجَّرُ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ( وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ لِفَوَاتِ بَعْضِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ عَلَى الْكَمَالِ لِذَلِكَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِيَارَ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ فِي الْإِجَارَةِ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ ، وَفَوَاتُ بَعْضِ الْعَيْنِ فِي الْبَيْعِ يَمْنَعُ الْفَسْخَ فَكَذَا هَاهُنَا ( وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَامَلَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَبْضَ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ جَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَقْدُ مُعَامَلَةٍ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَوِّي لِئَلَّا يَقَعَ فِيهِ الْغَبْنُ ( وَفَوَاتُ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ ) كَمَا تَقَدَّمَ ( فَكَذَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ ) قَوْلُهُ عَقْدُ مُعَامَلَةٍ احْتِرَازٌ عَنْ النِّكَاحِ ، وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَبْضَ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّرْفِ فَإِنَّ الْخِيَارَ فِيهِمَا لَا يَصِحُّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَفَوَاتُ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ( وَإِنَّمَا كَانَ فَوَاتُهُ فِي الْإِجَارَةِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ وَفِي الْبَيْعِ يَمْنَعُ ، لِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ فِي الْبَيْعِ مُمْكِنٌ دُونَ الْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ دُونَهَا ) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ إنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ مُمْكِنٌ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْإِجَارَةِ ( يُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْقَبْضِ إذَا سَلَّمَ الْمُؤَجِّرُ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِكَمَالِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَهَذَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ حَتَّى مَضَى شَهْرٌ

وَقَدْ طَلَبَ التَّسْلِيمَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ ثُمَّ تَحَاكَمَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبْضِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ عِنْدَنَا ، وَلَا لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِيمَا بَقِيَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ حَقَّ الْفَسْخِ .
قُلْنَا : الْإِجَارَةُ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجِرُ .
بَيَانُ فَرْعٍ آخَرَ لَنَا لَا اسْتِشْهَادًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْخَصْمُ قَائِلًا بِهِ .

قَالَ : ( وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ ) عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُفْسَخُ إلَّا بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ ، إذْ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْعُذْرِ عِنْدَنَا ( وَهُوَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَدَّادًا لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ لِوَجَعٍ بِهِ فَسَكَنَ الْوَجَعُ أَوْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامَ الْوَلِيمَةِ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْمُضِيِّ عَلَيْهِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ ( وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ فَذَهَبَ مَالُهُ ، وَكَذَا مَنْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ ، وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إلَّا بِثَمَنِ مَا أَجَّرَ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْحَبْسُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى عَدَمِ مَالٍ آخَرَ .
ثُمَّ قَوْلُهُ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِي النَّقْضِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي عُذْرِ الدَّيْنِ ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عُذْرٌ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ تُنْتَقَضُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي .
وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَنْفَرِدُ الْعَاقِدُ بِالْفَسْخِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْزَامِ الْقَاضِي ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ : إذَا كَانَ الْعُذْرُ

ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ كَالدَّيْنِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ مِنْ السَّفَرِ فَهُوَ عُذْرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَضَى عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ زَائِدٌ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَذْهَبُ لِلْحَجِّ فَذَهَبَ وَقْتُهُ أَوْ لِطَلَبِ غَرِيمِهِ فَحَضَرَ أَوْ لِلتِّجَارَةِ فَافْتَقَرَ ( وَإِنْ بَدَا لِلْمُكَارِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْعَثَ الدَّوَابَّ عَلَى يَدِ تِلْمِيذِهِ أَوْ أَجِيرِهِ ( وَلَوْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ فَقَعَدَ فَكَذَا الْجَوَابُ ) عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ فَيَدْفَعُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ دُونَ الِاخْتِيَارِ ( وَمَنْ آجَرَ عَبْدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى مُوجِبِ عَقْدٍ ، وَإِنَّمَا يَفُوتُهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ ( وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطُ غُلَامًا فَأَفْلَسَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ فَهُوَ الْعُذْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ لِفَوَاتِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ رَأْسُ مَالِهِ ، وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ خَيَّاطٌ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ ، أَمَّا الَّذِي يَخِيطُ بِأَجْرٍ فَرَأْسُ مَالِهِ الْخَيْطُ وَالْمَخِيطُ وَالْمِقْرَاضُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِفْلَاسُ فِيهِ .
( وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَ الْخِيَاطَةِ ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي الصَّرْفِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقْعِدَ الْغُلَامَ لِلْخِيَاطَةِ فِي نَاحِيَةٍ ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الصَّرْفِ فِي نَاحِيَةٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا لِلْخِيَاطَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَشْتَغِلَ بِعَمَلٍ آخَرَ حَيْثُ جَعَلَهُ عُذْرًا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ ، أَمَّا هَاهُنَا الْعَامِلُ شَخْصَانِ فَأَمْكَنَهُمَا ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا يَخْدُمُهُ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ فَهُوَ

عُذْرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ إلْزَامِ ضَرَرٍ زَائِدٍ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ ، وَفِي الْمَنْعُ مِنْ السَّفَرِ ضَرَرٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا ( وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ ) لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْحَضَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ عَقَارًا ثُمَّ سَافَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ السَّفَرَ فَهُوَ عُذْرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ أَوْ إلْزَامِ الْأَجْرِ بِدُونِ السُّكْنَى وَذَلِكَ ضَرَرٌ .

قَالَ ( وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا ) تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا ( وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا تُفْسَخُ إلَّا بِالْعَيْبِ ) بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِرَارًا ( لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا ) فَكَانَتْ كَالْبَيْعِ وَالْبَيْعُ لَا يُفْسَخُ بِالْعُذْرِ فَكَذَا الْإِجَارَةُ ( وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتُفْسَخُ بِهِ ) كَالْبَيْعِ ( إذْ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزُ لِلْفَسْخِ يَجْمَعُ الْإِجَارَةَ وَالْبَيْعَ جَمِيعًا ، وَهُوَ ) أَيْ الْمَعْنَى الْجَامِعُ ( عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْعُذْرِ عِنْدَنَا ) وَالشَّافِعِيُّ مَحْجُوجٌ بِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُقْلِعَ ضِرْسَهُ لِوَجَعٍ ثُمَّ زَالَ الْوَجَعُ ، أَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَتَّخِذَ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ فَمَاتَتْ الْعَرُوسُ ، أَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْطَعَ يَدَهُ لِأَكَلَةٍ وَقَعَتْ بِهَا ثُمَّ بَرَأَتْ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى قَلْعِ الضِّرْسِ وَاِتِّخَاذِ الْوَلِيمَةِ وَقَطْعِ الْيَدِ لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّ فِي الْمُضِيِّ عَلَيْهَا إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ ، وَكَذَا الْبَاقِي .
ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى الْحَاكِمِ .
قَالَ ( ثُمَّ قَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ ( فَسْخُ الْقَاضِي ) إشَارَةٌ إلَى الِافْتِقَارِ إلَيْهِ فِي النَّقْضِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي عُذْرِ الدَّيْنِ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عُذْرٌ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ تُنْتَقَضُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي ) وَذَكَرَ وَجْهَهُ فِي الْكِتَابِ ( وَذَكَرَ فِي وَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْزَامِ الْقَاضِي ) وَفِيهِ مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَصَحَّحَ شَمْسُ

الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ ، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيُّ قَوْلَ مَنْ وَقَفَ فَقَالَ : ( إذَا كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ ) أَيْ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا ( وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ ) كَالدَّيْنِ ( يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ ) أَيْ لَأَنْ يَظْهَرَ الْعُذْرُ ( قَوْلُهُ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي السَّفَرِ ) أَيْ ظَهَرَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ ظَاهِرٌ خَلَا مَوَاضِعَ بَيَّنَهَا ( قَوْلُهُ وَمَنْ آجَرَ عَبْدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ ) هُوَ لَفْظُ أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، لَكِنْ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَمَا آجَرَ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرِّوَايَاتِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : الصَّحِيحَةُ مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَإِلَيْهِ مَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الَّذِي يَخِيطُ بِأَجْرٍ فَرَأْسُ مَالِهِ الْخَيْطُ وَالْمَخِيطُ وَالْمِقْرَاضُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِفْلَاسُ ) قِيلَ : وَقَدْ يَتَحَقَّقُ إفْلَاسُهُ بِأَنْ تَظْهَرَ خِيَانَتُهُ عِنْدَ النَّاسِ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ تَسْلِيمِ الثِّيَابِ إلَيْهِ ، أَوْ يَلْحَقُهُ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ إنَّ النَّاسَ لَا يَأْتَمِنُونَهُ عَلَى أَمْتِعَتِهِمْ ( قَوْلُهُ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا يَخْدُمُهُ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ فَهُوَ عُذْرٌ ) قِيلَ : فَإِنْ قَالَ الْمُؤَجِّرُ إنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ وَأَصَرَّ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى دَعْوَى السَّفَرِ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُ عَمَّنْ يُسَافِرُ مَعَهُ ، فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُمْ أَنَّ فُلَانًا هَلْ يَخْرُجُ مَعَكُمْ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ ثَبَتَ الْعُذْرُ وَإِلَّا فَلَا .
وَقِيلَ : يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى زِيِّهِ وَثِيَابِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ ثِيَابُهُ ثِيَابَ السَّفَرِ يَجْعَلُهُ مُسَافِرًا وَإِلَّا فَلَا .
وَقِيلَ : إذَا أَنْكَرَ الْمُؤَجِّرُ السَّفَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .

وَقِيلَ : يَحْلِفُ الْقَاضِي الْمُسْتَأْجِرُ بِاَللَّهِ إنَّك عَزَمْت عَلَى السَّفَرِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْقُدُورِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا أَوْ اسْتَعَارَهَا فَأَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ فَأَشْبَهَ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي دَارِ نَفْسِهِ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ هَادِئَةً ثُمَّ تَغَيَّرَتْ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُضْطَرِبَةً يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ مُوقِدَ النَّارِ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِي أَرْضِهِ .( مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ ) مَعْنَى الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ قَدْ تَقَدَّمَ ، وَحَصَدَ الزَّرْعَ : أَيْ جَذَّهُ ، وَالْحَصَائِدُ جَمْعُ حَصِيدٍ وَحَصِيدَةٍ وَهُمَا الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا مَا يَبْقَى مِنْ أُصُولِ الْقَصَبِ الْمَحْصُودِ فِي الْأَرْضِ ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيحُ هَادِئَةً .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : بِالنُّونِ مِنْ هَدَنَ : أَيْ سَكَنَ .
وَفِي نُسْخَةٍ هَادِئَةٌ مِنْ هَدَأَ بِالْهَمْزِ : أَيْ سَكَنَ ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْهَادِئَةِ وَالْمُطْرِبَةِ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ

قَالَ : ( وَإِذَا أَقْعَدَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَيَنْتَظِمُ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ فِيمَا يَحْصُلُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا أَقْعَدَ الْخَيَّاطُ إلَخْ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ مَعْرُوفًا وَهُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ النَّاسِ وَلَهُ جَاهٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ حَاذِقٍ فَأَقْعَدَ فِي دُكَّانِهِ رَجُلًا حَاذِقًا لِيَتَقَبَّلَ صَاحِبُ الدُّكَّانِ الْعَمَلَ مِنْ النَّاسِ وَيَعْمَلَ الْحَاذِقُ وَجَعَلَا مَا يَحْصُلُ مِنْ الْأُجْرَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ صَاحِبِ الدُّكَّانِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِلْعَمَلِ عَلَى مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّكَّانِ فَيَكُونُ الْعَامِلُ أَجِيرَهُ بِالنِّصْفِ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَإِنْ تَقَبَّلَ الْعَمَلَ الْعَامِلُ كَانَ مُسْتَأْجِرًا لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ مِنْ دُكَّانِهِ بِنِصْفِ مَا يَعْمَلُ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَالطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَالَ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ وَقَالَ : الْقِيَاسُ عِنْدِي أَوْلَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِإِجَارَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ وَهِيَ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ ، لِأَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ وَهُوَ مُتَعَارَفٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا لِلتَّعَامُلِ بِهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } فَإِنْ قِيلَ : شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ هِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا اشْتَرَكَا فِي الْحَاصِلِ مِنْ الْأَجْرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ تَقْتَضِي إثْبَاتَ الشَّرِكَةِ فِي التَّقَبُّلِ فَثَبَتَ فِيهِ اقْتِضَاءً ، إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمَا إلَّا تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالتَّقَبُّلِ وَالْآخَرِ بِالْعَمَلِ ذِكْرًا ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَأَمْكَنَنَا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِي التَّقَبُّلِ اقْتِضَاءً فَكَأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّقَبُّلِ صَرِيحًا ، وَلَوْ صَرَّحَا

بِشَرِكَةِ التَّقَبُّلِ ثُمَّ تَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا وَعَمِلَ الْآخَرُ جَازَ فَكَذَا هَذَا .
هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ أَنْسَبُ بِشَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِذَا كَانَتْ شَرِكَةً لَا إجَارَةً لَمْ تَضُرَّهُ الْجَهَالَةُ فِيمَا يُحَصِّلْ كَمَا فِي الشَّرِكَةِ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مَحْمَلًا وَرَاكِبَيْنِ إلَى مَكَّةَ جَازَ وَلَهُ الْمَحْمَلُ الْمُعْتَادُ ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّاكِبُ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْمَحْمَلُ تَابِعٌ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ يَرْتَفِعُ بِالصَّرْفِ إلَى الْمُتَعَارَفِ فَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَكَذَا إذَا لَمْ يَرَ الْوَطَاءَ وَالدُّثُرَ .
قَالَ : ( وَإِنْ شَاهَدَ الْجَمَّالُ الْحِمْلَ فَهُوَ أَجْوَدُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ وَأَقْرَبُ إلَى تَحَقُّقِ الرِّضَا .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مِقْدَارًا مِنْ الزَّادِ فَأَكَلَ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عِوَضَ مَا أَكَلَ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ حِمْلًا مُسَمًّى فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ ( وَكَذَا غَيْرُ الزَّادِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ) وَرَدُّ الزَّادِ مُعْتَادٌ عِنْدَ الْبَعْضِ كَرَدِّ الْمَاءِ فَلَا مَانِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مَحْمَلًا ) ظَاهِرٌ ، وَالْوِطَاءُ الْفِرَاشُ ، وَالدُّثُرُ جَمْعُ دِثَارٍ وَهُوَ مَا يُلْقَى عَلَيْك مِنْ كِسَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ وَرَدُّ الزَّادِ مُعْتَادٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَمِنْ عَادَةِ الْمُسَافِرِينَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْ الزَّادِ وَلَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مَكَانَهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّهُ مُعْتَادٌ عِنْدَ الْبَعْضِ كَرَدِّ الْمَاءِ ، وَالْعُرْفُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا فَلَا مَانِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ ، وَهُوَ أَنَّهُمَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ عَلَى حَمْلِ قَدْرٍ مَعْلُومٍ فِي مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ ، وَلَمْ يُقَيَّدْ بِعَدَمِ رَدِّ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَجْهُولِ فَوَجَبَ جَوَازُ رَدِّ قَدْرِ مَا نَقَصَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ وَهُوَ عَدَمُ الْمَانِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ صَارَ مُكَاتَبًا ) أَمَّا الْجَوَازُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَهَذَا لَيْسَ أَمْرَ إيجَابٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ ، أَمَّا النَّدْبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قِيلَ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ لَوْ فَعَلَهُ .

( كِتَابُ الْمُكَاتَبِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَلِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ خَرَجَ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .
وَقَوْلُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ خَرَجَ بِهِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ فِيهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ ذِكْرَ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ كَانَ أَنْسَبَ ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ بِلَا عِوَضٍ .
وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ فِيهَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِشَخْصٍ وَمَنْفَعَتُهُ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِلْإِجَارَةِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرْضِيَّاتِ ، وَقَدَّمَ الْإِجَارَةَ لِشَبَهِهَا بِالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ التَّمْلِيكُ وَالشَّرَائِطُ فَكَانَ أَنْسَبَ بِالتَّقْدِيمِ .
وَالْكِتَابَةُ عَقْدٌ بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَقَوْلُهُ عَقْدٌ يُخْرِجُ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي التَّعْلِيقِ ، فَإِنَّ التَّعْلِيقَ يَتِمُّ بِالْمَوْلَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَقْدًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَكِنَّهُ خَرَجَ بِقَوْلِهِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ

بِالْعَجْزِ يَعُودُ رَقِيقًا دُونَ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ .
وَسَبَبُهَا مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ تَعَلُّقِ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ .
وَشَرْطُهَا قِيَامُ الرِّقِّ فِي الْمَحَلِّ وَكَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا مَعْلُومًا قَدْرُهُ وَجِنْسُهُ .
وَحُكْمُهَا مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ فِي الْحَالِ وَثُبُوتُ مِلْكِ الْيَدِ حَتَّى يَكُونَ الْمُكَاتَبُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ ، وَفِي جَانِبِ الْمَوْلَى ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْبَدَلِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَتْ حَالَّةً ، وَالْمِلْكُ فِي الْبَدَلِ إذَا قَبَضَهُ .
وَأَلْفَاظُهَا الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ كَاتَبْتُك عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إذَا قَالَ قَبِلْت كَانَ ذَلِكَ كِتَابَةً ، وَلَوْ قَالَ جَعَلْت عَلَيْك أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا أَوَّلَ نَجْمِ كَذَا وَآخِرَهُ كَذَا ، فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ كَانَ كِتَابَةً .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ إلَخْ ) إذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَقَبِلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ صَارَ مُكَاتَبًا .
أَمَّا جَوَازُ هَذَا الْعَمَلِ مِنْ الْمَوْلَى فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَقْدِ لَا تَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِلِسَانِ الْعَرَبِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِغَيْرِهِ .
وَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيَانَ حُكْمٍ آخَرَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ وَاجِبٌ أَنْ يَعْمَلَ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَهَذَا لَيْسَ أَمْرَ إيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إذَا طَلَبَ الْعَبْدُ مِنْ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ وَقَدْ عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ .
وَقَالَ : إنَّمَا هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ بَعْضُ

مَشَايِخِنَا إنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وَقَوْلُهُ { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } مَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ ، فَإِنَّهَا جَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُكَاتِبُ عَبْدَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا .
وَقَالَ : فَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءٌ لِلشَّرْطِ بَيَانٌ لِكَوْنِهِ لِلنَّدْبِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءَ الشَّرْطِ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِدُونِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى النَّدْبِ إعْمَالٌ لَهُ لِأَنَّ النَّدْبِيَّةَ مُعَلَّقَةٌ بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ صَحَّ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ .

وَأَمَّا اشْتِرَاطُ قَبُولِ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ كُلِّ الْبَدَلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَفِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُعْتَقُ بِأَدَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يَجِبُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ .

وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ مِنْ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الِالْتِزَامِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ كُلِّ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَفِيهِ : أَيْ فِي وَقْتِ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَعِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعْتَقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُعْتَقُ كَمَا أَخَذَ الصَّحِيفَةَ مِنْ مَوْلَاهُ : يَعْنِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ الصَّحِيفَةَ عِنْدَ ذَلِكَ تُكْتَبُ ، وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعْتَقُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ نَفْسِهِ ، وَعِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، وَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ يَقُلْ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يَقُلْ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا عَلَى أَنَّك إذَا أَدَّيْته إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ ضَمُّ نَجْمٍ إلَى نَجْمٍ ، فَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ ضَرَبْت عَلَيْك أَلْفًا عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَيَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا لَمْ يُعْتَقْ ، فَكَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ وَمُوجِبُهُ هَاهُنَا ضَمُّ حُرِّيَّةِ الْيَدِ الْحَاصِلِ فِي الْحَالِ إلَى حُرِّيَّةِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ فَيَثْبُتُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهِ مُوجِبَهُ .
وَلَا يَجِبُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَطُّ رُبُعِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } فَإِنَّ

الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ خَفِيَّةٌ جِدًّا ، لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى أَمْوَالِ الْقُرَبِ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ ، فَكَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُعْطِيَ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ صَدَقَاتِنَا لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْإِيتَاءُ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ ، وَالْحَطُّ لَا يُسَمَّى إعْطَاءً ، وَالْمَالُ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ هُوَ مَا فِي أَيْدِينَا لَا الْوَصْفُ الثَّابِتُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِينَ ، فَحَمْلُهُ عَلَى حَطِّ رُبُعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ ، وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّدْبُ كَاَلَّذِي فِي قَوْلِهِ { فَكَاتِبُوهُمْ } .
لَا يُقَالُ : الْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ ، لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْقُرْآنَ مُوجِبًا بَلْ نَقُولُ : الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَنْ قَرِينَةِ غَيْرِ الْوُجُوبِ لِلْوُجُوبِ ، وَقَوْلُهُ { فَكَاتِبُوهُمْ } قَرِينَةٌ لِذَلِكَ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَالَ حَالًّا وَيَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَمُنَجَّمًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ حَالًّا وَلَا بُدَّ مِنْ نَجْمَيْنِ ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ قَبْلَهُ لِلرِّقِّ ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ فَكَانَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ ثَابِتًا ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ .
وَلَنَا ظَاهِرُ مَا تَلَوْنَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّنْجِيمِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيُمْهِلُهُ الْمَوْلَى ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ السَّلَمِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَفِي الْحَالِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ الْمَالُ حَالًّا ) بَدَلُ الْكِتَابَةِ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ كَوْنُهُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا غَيْرَ مُنَجَّمٍ وَمُنَجَّمًا عِنْدَنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بُدَّ مِنْ نَجْمَيْنِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي قَلِيلٍ مِنْ الزَّمَانِ ) لِخُرُوجِهِ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ مُفْلِسًا وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْعَقْدِ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ ، وَالْعَاجِزُ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَجَلٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَسْلِيمِ الْيَدِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمَا رَضِيَ بِأَخَسِّ الْبَدَلَيْنِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَجَلٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ حُرًّا فَكَانَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ ثَابِتًا ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ أَثْبَتُ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِإِعَانَتِهِ ، وَالطُّرُقُ مُتَّسِعَةٌ اسْتِدَانَةٌ وَاسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِيهَابٌ وَاسْتِعَانَةٌ بِالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَتَثْبُتُ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ } مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّنْجِيمِ ، ( وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ) وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودُ بِهِ وَوُجُودُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ } ، وَوُجُودُ الْمَعْقُودِ بِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ابْتِيَاعِ مَنْ لَا يَمْلِكُ الثَّمَنَ ( وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ ) وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَكَذَا عَلَى الْبَدَلِ ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا ، وَكَذَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ

مُسْتَوْفًى ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَكَرُّمٍ إذْ الْعَبْدُ وَمَا يَمْلِكُهُ لِمَوْلَاهُ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يُمْهِلَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُمْهِلْهُ وَطَالَبَهُ بِالْأَدَاءِ وَامْتَنَعَ عَنْهُ يُرَدُّ رَقِيقًا بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ( بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ ) فَلَيْسَ الْإِمْهَالُ فِيهِ ظَاهِرًا ، وَيَجُوزُ حَالًّا

قَالَ ( وَتَجُوزُ كِتَابَةُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ ) لِتَحَقُّقِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، إذْ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَالتَّصَرُّفُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ .
وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْهُ غَيْرُهُ لَا يَعْتِقُ وَيَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَ .( وَكِتَابَةُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَائِزَةٌ ) لِتَحَقُّقِ الرُّكْنِ مِنْهُ وَهُوَ ( الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، إذْ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَالتَّصَرُّفِ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ ) وَلَا عَجْزَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنَافِعِ ( وَخَالَفْنَا الشَّافِعِيَّ فِيهِ ، وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ مِنْهُ ( بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ ) فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ لَهُ .
وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ إذَا عَقَلَ الْعَقْدَ ، وَنُقْصَانُ رَأْيِهِ يَنْجَبِرُ بِرَأْيِ الْمَوْلَى وَالتَّصَرُّفُ نَافِعٌ فَيَصِحُّ الْإِذْنُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الْعَقْدَ ، لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ .
حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْهُ غَيْرُهُ لَا يُعْتَقُ وَيَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَ )

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : جَعَلْت عَلَيْك أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا أَوَّلُ النَّجْمِ كَذَا وَآخِرُهُ كَذَا فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ فَإِنَّ هَذِهِ مُكَاتَبَةٌ ) لِأَنَّهُ أَتَى بِتَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذِهِ مُكَاتَبَةٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ .
لِأَنَّ التَّنْجِيمَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ .
وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَكُونُ مُكَاتَبَةً اعْتِبَارًا بِالتَّعْلِيقِ بِالْأَدَاءِ مَرَّةً .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ جَعَلْت عَلَيْك أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا أَوَّلَ نَجْمِ كَذَا وَآخِرَهُ كَذَا فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ ) لِبَيَانِ مَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْكِتَابَةِ بِلَفْظِهَا .
فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ الْمَذْكُورَ مُفِيدٌ لِذَلِكَ .
فَإِنَّ قَوْلَهُ جَعَلْت عَلَيْك كَذَا عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَيَّ نُجُومًا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَمَعْنَى الضَّرِيبَةِ .
فَالْمَوْلَى يَسْتَأْدِي عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ وَلَا تَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَقُلْ فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِحَثِّ الْعَبْدِ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ عِنْدَ النُّجُومِ ، وَالْكِتَابَةُ بِدُونِهِ صَحِيحَةٌ .
وَلَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتَ حُرٌّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ هُوَ مُكَاتَبَةٌ لِأَنَّ التَّنْجِيمَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّيْسِيرِ وَذَلِكَ فِي الْمَالِ ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ إلَّا بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا إلَّا فِي الْكِتَابَةِ .
وَفِي نُسْخَةِ أَبِي حَفْصٍ : قِيلَ أَيْ فِي رِوَايَتِهِ لَا تَكُونُ مُكَاتَبَةً قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَهُوَ الْأَصَحُّ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ .
فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كِتَابَةً ، وَالتَّنْجِيمُ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْكِتَابَةِ حَتَّى يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لَهَا لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَقَدْ تَخْلُو الْكِتَابَةُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ يَخْتَصُّ بِالْكِتَابَةِ لِيَكُونَ تَفْسِيرًا فَلَا يَكُونُ كِتَابَةً .

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ) أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْبَدَلِ فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ وَإِنْ نَهَاهُ الْمَوْلَى ، وَأَمَّا عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ فَلِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِتَنَجُّزِ الْعِتْقِ وَيَتَحَقَّقُ بِتَأَخُّرِهِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ وَيَثْبُتُ لَهُ فِي الذِّمَّةِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَتَقَ بِعِتْقِهِ ) لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ ( وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ إلَّا مُقَابَلًا بِحُصُولِ الْعِتْقِ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ دُونَهُ .
قَالَ ( وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَتَهُ لَزِمَهُ الْعُقْرُ ) لِأَنَّهَا صَارَتْ أَخَصَّ بِأَجْزَائِهَا تَوَسُّلًا إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْبَدَلِ مِنْ جَانِبِهِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَانِبِهَا بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ ( وَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلَدِهَا لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ أَتْلَفَ مَالًا لَهَا غَرِمَ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ أَكْسَابِهَا وَنَفْسِهَا ، إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَأَتْلَفَهُ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْغَرَضِ الْمُبْتَغَى بِالْعَقْدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ) وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ بِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُفْسِدِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي خَرَجَ الْمُكَاتَبُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ( أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ ) لُغَةً ( وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ ) الْحَاصِلَةَ فِي الْحَالِ ( إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ ) الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا وَمَالِكِيَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَالِ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الضَّمُّ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَالِكِيَّةَ النَّفْسِ قَبْلَ الْأَدَاءِ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ ، وَلَوْ وَطِئَ الْمُكَاتَبَةَ لَزِمَهُ الْعُقْرُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ ( أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْبَدَلِ فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ ) طَوِيلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ( نَهَاهُ الْمَوْلَى عَنْهُ أَوْ لَا ) لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى وَهُوَ أَدَاءُ الْبَدَلِ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّفَرِ ( وَأَمَّا عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ فَلِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } ( وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ) كَمَا مَرَّ ( وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ ) أَيْ الْمُسَاوَاةُ بِاعْتِبَارِ التَّسَاوِي ( إنْ تَنَجَّزَ الْعِتْقُ وَيَتَحَقَّقُ إنْ تَأَخَّرَ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا لِلْمُكَاتَبِ نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ ) وَهُوَ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ ( فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ ) وَهُوَ أَصْلُ الْبَدَلِ وَإِنَّمَا كَانَ حَقًّا مِنْ وَجْهٍ لِضَعْفِهِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ مَعَ الْمُنَافِي ، إذْ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ بِهِ الْكَفَالَةُ وَلَوْ ثَبَتَ الْعِتْقُ نَاجِزًا كَمَا قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى مَا مَرَّ فَاتَتْ

الْمُسَاوَاةُ .
لَا يُقَالُ : الْمُسَاوَاةُ فَائِتَةٌ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ أَيْضًا لِأَنَّ نَوْعَ الْمَالِكِيَّةِ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحَقُّ الثَّابِتُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ فَأَيْنَ الْمُسَاوَاةُ ، لِأَنَّ نَوْعَ مَالِكِيَّتِهِ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِبُطْلَانِهِ بِعَوْدِهِ رَقِيقًا ( فَإِنْ نَجَّزَ الْمَوْلَى عِتْقَهُ عَتَقَ بِعِتْقِهِ ) لَا بِالْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ( لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ ) فَيَجُوزُ لَهُ إتْلَافُ مِلْكِهِ ( وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِحُصُولِ مَا يُقَابِلُهُ مَجَّانًا ( وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَتَهُ لَزِمَهُ الْعُقْرُ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَجْزَائِهَا تَوَسُّلًا إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْبَدَلِ مِنْ جَانِبِهِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَانِبِهَا بِنَاءً عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَدَلِ مِنْ جَانِبِهِ ( وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ ) قَابَلَهَا الشَّرْعُ بِالْأَعْيَانِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } وَأُلْزِمَ الْعُقْرَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْجَارِيَةِ وَعِنْدَ وَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ لِأَخْذِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْدِرَ بِقَدْرِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِإِيلَاجٍ وَاحِدٍ ( وَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلَدِهَا لَزِمَهُ الْجِنَايَةُ ) وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَخَصَّ بِأَجْزَائِهَا .

( فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ) : قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى قِيمَةِ نَفْسِهِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولَةٌ قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ ، وَلِأَنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْقِيمَةُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً ، وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ مَعْنًى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ لَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ وَلَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ ، وَمُوجِبُهُ الْعِتْقُ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ .
وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَيْسَتْ بِمَالٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ( وَإِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ) لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ .
قَالَ ( وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْمُبْدَلِ

بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَفِيمَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ .
وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ وَأَثَرُ الْجَهَالَةِ فِي الْفَسَادِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ حَيْثُ لَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ فِيهِ عَلَى مُرَادِ الْعَاقِدِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثَّوْبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ .

وَجْهُ تَأْخِيرِ الْفَاسِدَةِ عَنْ الصَّحِيحَةِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ ) جَمَعَ هَاهُنَا أُمُورًا يَفْسُدُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ بِهَا ذَكَرَ بَعْضَهَا أَصَالَةً وَبَعْضَهَا اسْتِشْهَادًا .
وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ ( عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ ) أَوْ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ ( فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ، أَمَّا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ فَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهُمَا فَكَانَ عَقْدًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ ، وَأَمَّا قِيمَةُ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالْوَصْفِ ) وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ وَالدَّابَّةُ .
وَأَمَّا الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَلْ أَوْلَى عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ ( فَإِنْ أَدَّى الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ عَتَقَ ) سَوَاءٌ قَالَ لَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَمْ يَقُلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ ) ، لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ( هُوَ الْقِيمَةُ ) كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ إلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ الْخَمْرِ ، قِيلَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً ، وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَيْضًا ) قِيلَ أَيْ بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ ( لِأَنَّهُ الْبَدَلُ مَعْنًى ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ ، فَعَلَى هَذَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَخُصَّ أَبَا يُوسُفَ وَأَنْ لَا يَذْكُرَ بِكَلِمَةِ عَنْ .
قُلْت : صَحِيحٌ إنْ كَانَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ كَمَا ذُكِرَ فِي

بَعْضِ الشُّرُوحِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِتْقُ بِوَاسِطَةِ حُصُولِ شَرْطٍ تَعَلَّقَ بِهِ الْعِتْقُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ كِتَابَةً عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ ) فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهِمَا إلَّا إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ ( وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ ( أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ ، وَمُوجِبُهُ الْعِتْقُ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ الْمَشْرُوطِ ، بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ ، وَ ) تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ( لَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْمُبْدَلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَهَذَا ) أَيْ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ( لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ ) سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِلْكُهُ فِي مُقَابَلَةِ بَدَلٍ فَلَا يَرْضَى بِالنُّقْصَانِ ، لِأَنَّ بِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ يَبْقَى مِلْكُهُ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَفُوتُ لَهُ شَيْءٌ ( وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْقِيمَةِ أَوْ فِي الْمُسَمَّى ( كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا ) فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا يَمْتَنِعُ الْمَوْلَى عَنْ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ بِهِ إدْرَاكُ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلَعَلَّ التَّصَوُّرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُسْقِطُ مَا قِيلَ

اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُقُوعِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا بِعَدَمِ الرِّضَا بِالزِّيَادَةِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا فِي بَقَائِهِ ( وَفِيمَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ ، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى عَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي الْقِيمَةِ ) لِاسْتِحْقَاقِ الْمُسْلِمِ تَسَلُّمَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْقِيمَةَ بِمَاذَا تُعْرَفُ .
قِيلَ : تُعْرَفُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّ مَا أَدَّى قِيمَتَهُ فَيَثْبُتُ كَوْنُ الْمُؤَدِّي قِيمَتَهُ بِتَصَادُقِهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا فَصَارَ كَضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَإِمَّا بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، فَإِنْ اتَّفَقَ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ جُعِلَ ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ أَقْصَى الْقِيمَتَيْنِ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ الْبُطْلَانُ وَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَأَثَرُ الْجَهَالَةِ فِي الْفَسَادِ ) أَيْ لَا فِي الْبُطْلَانِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُهُ لَا تُبْطِلُهُ فَإِنْ قِيلَ : الْكِتَابَةُ عَلَى ثَوْبٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ كَمَا عَتَقَ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ حَيْثُ لَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ ) وَتَقْرِيرُهُ : الثَّوْبُ عِوَضٌ وَالْعِوَضُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ، وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَيِّنُ مُرَادًا ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ فَلَا يُعْتَقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ

مُرَادِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ .
فَإِنْ قُلْت : فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ فِيمَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ يُعْتَقُ أَوْ لَا ؟ قُلْت : ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمُسَمَّى مَتَى كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ ، وَلَا تَنْعَقِدُ هَذِهِ الْكِتَابَةُ أَصْلًا عَلَى الْمُسَمَّى وَلَا عَلَى الْقِيمَةِ .

قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَمُرَادُهُ شَيْءٍ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ لِغَيْرِهِ جَازَ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَيَتَعَلَّقُ بِدَرَاهِمِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ ، حَتَّى إذَا مَلَكَهُ وَسَلَّمَهُ يُعْتَقُ ، وَإِنْ عَجَزَ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ فَأَشْبَهَ الصَّدَاقَ .
قُلْنَا : إنَّ الْعَيْنَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَعَلَى مَا هُوَ تَابِعٌ فِيهِ أَوْلَى .
فَلَوْ أَجَازَ صَاحِبُ الْعَيْنِ ذَلِكَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمَكَاسِبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مِنْهَا وَلَا حَاجَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا مُعَيَّنًا ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَجَازَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجُزْ ، غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَجِبُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يَجِبُ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهِ مَالًا ، وَلَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ ذَلِكَ الْعَيْنَ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا أَدَّاهُ لَا يُعْتَقُ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَحِينَئِذٍ

يُعْتَقُ بِحُكْمِ الشَّرْطِ ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْفَسَادِ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا فَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْمَشْرُوطِ .
وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .

قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ ) إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ لِغَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ كَالْفَرَسِ وَالْعَبْدِ أَوْ لَا كَالنُّقُودِ ، فَإِنَّهُ تَعَيَّنَ فَإِمَّا أَنْ يُجِيزَهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَإِمَّا أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُكَاتَبُ بِسَبَبٍ وَأَدَّاهُ إلَى الْمَوْلَى أَوْ لَا ، فَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالتَّعْيِينِ كَمَا لَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ لِغَيْرِهِ جَازَ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَتُعَلَّقُ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ ، حَتَّى إذَا مَلَكَهُ وَسَلَّمَهُ عَتَقَ ، وَإِنْ عَجَزَ يُرَدُّ رَقِيقًا لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَوْ فَسَدَتْ لَرَجَعَتْ بِهِ ، وَالْجَامِعُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْعَيْنَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ شَرْطُ الصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حُكْمَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ مَبْنَى جَوَازِ الْكِتَابَةِ الْحَالَةِ وَالثَّمَنُ مَعْقُودٌ بِهِ لَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ شَرْطًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ النُّقُودِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْعَيْنِ فَيَصِيرُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَايَضَةِ فَيَصِيرُ لِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمَبِيعِ فَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ ) جَوَابٌ

عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الصَّدَاقَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : مَنَافِعُ الْبُضْعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ نِكَاحِ الرَّضِيعَةِ ، فَعَلَى مَا هُوَ تَابِعٌ وَهُوَ الصَّدَاقُ أَوْلَى .
وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَتَخَلُّصِهِ مَعْلُومٌ ( وَإِنْ أَجَازَ صَاحِبُ الْعَيْنِ ذَلِكَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمَالِ الْغَيْرِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْمَالِ جَازَ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى ، مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا لَا تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ) ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَصَارَ صَاحِبُ الْمَالِ مُقْرِضًا الْمَالَ مِنْ الْعَبْدِ فَتَصِيرُ الْعَيْنُ مِنْ أَكْسَابِهِ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ ( وَالْجَامِعُ ) بَيْنَ مَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُجِزْهُ ( أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمَكَاسِبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ مِلْكَ الْمَكَاسِبِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : لِأَنَّهَا أَيْ الْمَكَاسِبَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ ( يَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مِنْهَا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْأَدَاءِ مِنْهَا فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا مُعَيَّنَةً لِغَيْرِهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ ) أَيْ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) أَنَّ مُرَادَهُ شَيْءٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَجَازَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُجِزْ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ وَجَبَ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ ، وَإِذَا لَمْ يُجِزْ وَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَالْجَامِعُ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ لِيَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ لَكِنْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ الْعَيْنَ ) بِسَبَبٍ

وَأَدَّاهُ ( فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ( إلَّا إذَا قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ بِحُكْمِ الشَّرْطِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَقُ قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْفَسَادِ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا فَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْمَشْرُوطِ ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ ) مُعَيَّنٍ ( فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ ) سِوَى النُّقُودِ ( فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ) فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشِّرْبِ يَجُوزُ ، وَفِي رِوَايَةِ آخِرِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ لَا يَجُوزُ ( وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ ) وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ ( وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) وَلَمْ نَذْكُرْهُ هَاهُنَا لِطُولِهِ .
وَذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ فَقَالَ : وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ .
وَوَجْهُ عَدَمِهِ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ حَالَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا سِوَى النُّقُودِ لِأَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فِي يَدِ الْعَبْدِ بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَاكْتَسَبَ جَازَتْ الْكِتَابَةُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ، لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا كَالْكِتَابَةِ عَلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً وَهِيَ جَائِزَةٌ

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ ) فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ جَائِزَةٌ ، وَيُقَسَّمُ الْمِائَةُ الدِّينَارِ عَلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَعَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ فَيَبْطُلُ مِنْهَا حِصَّةُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُكَاتَبًا بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ يَصْلُحُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ ، فَكَذَا يَصْلُحُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي أَبْدَالِ الْعُقُودِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى الْعَبْدُ مِنْ الدَّنَانِيرِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا فَكَذَلِكَ مُسْتَثْنًى .قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إلَخْ ) وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ جَائِزَةٌ ، وَتُقْسَمُ الْمِائَةُ دِينَارٍ عَلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَقِيمَةُ عَبْدٍ وَسَطٍ ، وَيَبْطُلُ مِنْهَا حِصَّةُ الْعَبْدِ وَيَكُونُ مُكَاتَبًا بِمَا بَقِيَ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ يَصْلُحُ بَدَلًا لِلْكِتَابَةِ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَكُلُّ مَا صَلُحَ بَدَلًا صَلُحَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي أَبْدَالِ الْعُقُودِ .
وَقَالَا بِالْمُوجِبِ : أَيْ هَذَا الْأَصْلُ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ فِيمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَاسْتِثْنَاءُ الْعَبْدِ عَيْنَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ وَالْوَصْفُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ ) مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْجِنْسَ وَلَا يُبَيِّنَ النَّوْعَ وَالصِّفَةَ ( وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ ) وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِنْسَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ دَابَّةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً فَتُتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ ، وَإِذَا بَيَّنَ الْجِنْسَ كَالْعَبْدِ وَالْوَصِيفِ فَالْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ وَمِثْلُهَا يُتَحَمَّلُ فِي الْكِتَابَةِ فَتُعْتَبَرُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ بِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ .

( وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ وَبَيَّنَ جِنْسَهُ ) كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ ( وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّوْعَ ) أَنَّهُ تُرْكِيٌّ أَوْ هِنْدِيٌّ ( وَلَا الْوَصْفَ ) أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ ( جَازَتْ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ ) مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ .
وَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ بِمَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَقَالَا : هُوَ عَلَى قَدْرِ غَلَاءِ السِّعْرِ وَرُخْصِهِ ، وَلَا يُنْظَرُ فِي قِيمَةِ الْوَسَطِ إلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدُ إرْفَاقٍ ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَيَوَانِ الْمَجْهُولِ إذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ ، وَالْوَسَطُ فِيهِ نَظَرٌ لِلْجَانِبَيْنِ ( وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ ) لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ لِأَنَّهَا أَصْلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْبَدَلَ يُعْرَفُ بِهَا ( وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ ) فَصَارَ كَأَنَّهُ أَتَى بِعَيْنِ الْمُسَمَّى ( وَإِنَّمَا صَحَّ الْعَقْدُ مَعَ الْجَهَالَةِ لِأَنَّهَا يَسِيرَةٌ ، وَمِثْلُهَا يُتَحَمَّلُ فِي الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ ( فَتُعْتَبَرُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فِيهِ ) حَتَّى لَوْ قَالَ : كَاتَبْتُك إلَى الْحَصَادِ أَوْ الدِّيَاسِ أَوْ الْقِطَافِ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَجَازَ الْكِتَابَةَ عَلَى الْوُصَفَاءِ وَهُوَ جَمْعُ وَصِيفٍ وَهُوَ الْعَبْدُ لِلْخِدْمَةِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ) فِي أَنَّ تَسْمِيَةَ الْبَدَلِ شَرْطٌ فِيهَا كَمَا هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ، وَالْبَيْعُ مَعَ الْبَدَلِ الْمَجْهُولِ أَوْ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَا الْكِتَابَةُ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ قِيَاسَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ابْتِدَاؤُهَا أَوْ مِنْ حَيْثُ الِانْتِهَاءُ ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ مَالٍ

بِمَالٍ ، وَالْكِتَابَةُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ وَهُوَ الرَّقَبَةُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَفِي أَنَّ مَبْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ كَافٍ فِي إلْحَاقِهَا بِالنِّكَاحِ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ زِيَادَةُ اسْتِظْهَارٍ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ جِنْسَهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ دَابَّةٌ أَوْ ثَوْبٌ لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ أَجْنَاسًا ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِلْأَجْنَاسِ لَوْ مَنَعَ الْجَوَازَ لَمَا جَازَتْ فِيمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ شَمِلَ أَجْنَاسًا عَالِيَةً كَالدَّابَّةِ مَثَلًا أَوْ مُتَوَسِّطَةً كَالْمَرْكُوبِ مَنَعَ الْجَوَازَ مُطْلَقًا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهَا ، وَإِنْ شَمَلَ أَجْنَاسًا سَافِلَةً كَالْعَبْدِ مَنَعَهُ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ كَالْبَيْعِ وَالْوَكَالَةِ لَا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالنِّكَاحِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا وَالْعَبْدُ كَافِرًا لِأَنَّهَا مَالٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ فِي حَقِّنَا ( وَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَلِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْخَمْرِ ) لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلَّكَهَا ، وَفِي التَّسْلِيمِ ذَلِكَ إذْ الْخَمْرُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَعْجَزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَايَعَ الذِّمِّيَّانِ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْكِتَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَاتِب عَلَى وَصِيفٍ وَأَتَى بِالْقِيمَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا عَلَى الْقِيمَةِ فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( وَإِذَا قَبَضَهَا عَتَقَ ) لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ .
فَإِذَا وَصَلَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ إلَى الْمَوْلَى سَلَّمَ الْعِوَضَ الْآخَرَ لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ بِالْعِتْقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا حَيْثُ لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْخَمْرِ ، وَلَوْ أَدَّاهَا عَتَقَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدَهُ إلَخْ ) وَإِذَا كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الْخَمْرِ جَازَ ، لِأَنَّ الْخَمْرَ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا ، وَأَيُّهُمَا أُسْلِمَ فَلِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا .
وَفِي التَّسْلِيمِ تَمْلِيكُ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْخَمْرَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ بِالتَّسْلِيمِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَالتَّسْلِيمُ نَقْلٌ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ ، وَالْمُسْلِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ نَقْلِ الْيَدِ .
كَمَا إذَا غَصَبَ الْمُسْلِمُ مِنْ الذِّمِّيِّ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ اسْتِرْدَادِ خَمْرِهِ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ .
وَإِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ التَّسْلِيمِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَايَعَ الذِّمِّيَّانِ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ ، لِأَنَّ الْعَجْزَ كَمَا وَقَعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى وَقَعَ عَنْ قِيمَتِهِ ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُسَمَّى لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ بِحَالٍ فَفَسَدَ وَتَصْلُحُ فِي الْكِتَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
فَإِنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَلَى وَصِيفٍ : أَيْ عَبْدٍ لِلْخِدْمَةِ وَأَتَى بِالْقِيمَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ كَالْجَوَابِ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنًى .
وَالرِّوَايَةُ فِي الْكِتَابَةِ رِوَايَةٌ فِي الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَبَضَ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْخَمْرِ عَتَقَ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ، فَإِذَا وَصَلَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ إلَى الْمَوْلَى سَلَّمَ الْعِوَضَ الْآخَرَ لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ بِالْعِتْقِ ،

بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا حَيْثُ لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْخَمْرِ ، وَلَوْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ لِمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ ) أَنَّهُ إذَا أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُعْتَقُ .
وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ تَضْمَنُ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ الْمَشْرُوطِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْبَدَلُ وَقَعَ الْعِتْقُ .
وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَدَّى الْخَمْرَ لَا يُعْتَقُ فَكَانَ فِي الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ رِوَايَتَانِ .
وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّاهَا إلَى مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ انْقَلَبَتْ الْكِتَابَةُ إلَى قِيمَةِ الْخَمْرِ وَلَمْ يَبْقَ الْخَمْرُ بَدَلَ هَذَا الْعَقْدِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ صَحِيحًا عَلَى الْخَمْرِ ابْتِدَاءً وَبَقِيَ عَلَى الْقِيمَةِ صَحِيحًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ صَحِيحًا وَالْخَمْرُ بَدَلٌ فِيهِ ، فَبَقَاؤُهُ صَحِيحًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ يَبْقَ بَدَلًا فَلَا يُعْتَقُ .
وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُسْلِمِ وَقَعَ الْعَقْدُ فَاسِدًا بِسَبَبِ كَوْنِ الْخَمْرِ بَدَلًا وَبَقِيَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِهَا عَنْ الْبَدَلِيَّةِ ، وَإِذَا بَقِيَ بَدَلًا عَتَقَ بِأَدَائِهَا .

( بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ ) : قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ ) لِأَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابَةِ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا يَدًا ، وَذَلِكَ بِمَالِكِيَّةِ التَّصَرُّفِ مُسْتَبِدًّا بِهِ تَصَرُّفًا يُوَصِّلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ نَيْلُ الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَكَذَا السَّفَرُ لِأَنَّ التِّجَارَةَ رُبَّمَا لَا تَتَّفِقُ فِي الْحَضَرِ فَتَحْتَاجُ إلَى الْمُسَافَرَةِ ، وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، فَإِنَّ التَّاجِرَ قَدْ يُحَابِي فِي صَفْقَةٍ لِيَرْبَحَ فِي أُخْرَى .بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ : لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ ، فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ ) قَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ ، وَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ

قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِبْدَادِ وَثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، وَبِمِثْلِهِ لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، كَمَا إذَا شَرَطَ خِدْمَةً مَجْهُولَةً لِأَنَّهُ فِي الْبَدَلِ وَبِالنِّكَاحِ فِي شَرْطٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ .
أَوْ نَقُولُ : إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَخُصُّ الْعَبْدَ فَاعْتُبِرَ إعْتَاقًا فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .

( فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا ) فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ ثَمَّةَ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ( أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِبْدَادِ وَثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ ) بِنَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّقْيِيدِ بِمَكَانٍ يُنَافِيهِ ، وَالشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ بَاطِلٌ فَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَصَحَّ الْعَقْدُ ) يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ إنَّمَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ إذَا تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ كَمَا إذَا قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي مُدَّةً أَوْ زَمَانًا ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ( لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الْكِتَابَةُ ، وَهَذَا ) أَيْ هَذَا التَّفْصِيلُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ ) مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ وَعَدَمُ صِحَّتِهِمَا بِلَا بَدَلٍ وَاحْتِمَالُهُمَا الْفَسْخَ قَبْلَ الْأَدَاءِ ( وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ ) مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ فَعَمِلْنَا فِيهِ بِالشَّبَهَيْنِ فَقُلْنَا بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ عَمَلًا بِشَبَهِ النِّكَاحِ وَبِبُطْلَانِ الْعَقْدِ إذَا تَمَكَّنَ فِي صُلْبِهِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْبَيْعِ ( أَوْ نَقُولُ : إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ ، وَالْكِتَابَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُكَاتَبِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ ، وَكُلُّ شَرْطٍ يَخْتَصُّ بِجَانِبِ الْعَبْدِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِعْتَاقِ لِدُخُولِهِ فِي الْكِتَابَةِ وَهِيَ إعْتَاقٌ ( وَهَذَا الشَّرْطُ يَخْتَصُّ بِهِ ) فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِعْتَاقِ ( وَالْإِعْتَاقُ لَا

يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ )

قَالَ ( وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ( وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ ) لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ تَبَرُّعٌ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَيُمَلِّكَهُ ، إلَّا أَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ضِيَافَةٍ وَإِعَارَةٍ لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْمُجَاهِزُونَ .
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَتَوَابِعِهِ ( وَلَا يَتَكَفَّلُ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ ، فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ وَلَا يَمْلِكُهُ بِنَوْعَيْهِ نَفْسًا وَمَالًا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ ( وَلَا يُقْرِضُ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الِاكْتِسَابِ ( فَإِنْ وَهَبَ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَصِحَّ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً ( وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ ) لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمَهْرَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ مَآلَهُ الْعِتْقُ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَقْدُ اكْتِسَابٍ لِلْمَالِ فَيَمْلِكُهُ كَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَكَالْبَيْعِ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِ وَالْبَيْعُ يُزِيلُهُ قَبْلَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ثُمَّ هُوَ يُوجِبُ لِلْمَمْلُوكِ مِثْلَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ .
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَوْقَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ .
قَالَ : فَإِنْ أَدَّى الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْأَوَّلُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَوْعَ مِلْكٍ .
وَتَصِحُّ إضَافَةُ الْإِعْتَاقِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مُبَاشِرِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ

الْأَهْلِيَّةِ أُضِيفَ إلَيْهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ( فَلَوْ أَدَّى الْأَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَتَقَ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى جُعِلَ مُعْتِقًا وَالْوَلَاءُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمُعْتِقِ ( وَإِنْ أَدَّى الثَّانِي بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ) لِأَنَّ الْعَاقِدَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ لَهُ .

قَالَ ( وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ ) الْكِتَابَةُ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ : أَيْ إلَى مَقْصُودِ الْمَوْلَى مِنْ الْبَدَلِ وَذَلِكَ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَمَقْصُودُ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْكَسْبِ لِلْإِيفَاءِ وَذَلِكَ بِفَكِّ الْحَجْرِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ ، بَلْ هُوَ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ فَكِّ الْحَجْرِ ، لَكِنْ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ قَائِمٌ ( وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ ) الْمُكَاتَبُ ( إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ ) وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ ، وَالْمُجَاهِزُ عِنْدَ الْعَامَّةِ : هُوَ الْغَنِيُّ مِنْ التُّجَّارِ ، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ الْمُجَهِّزُ وَهُوَ الَّذِي يَبْعَثُ التُّجَّارَ بِالْجِهَازِ وَهُوَ فَاخِرُ الْمَتَاعِ وَيُسَافِرُ بِهِ فَحُرِّفَ إلَى الْمُجَاهِرِ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ ( وَلَا يَتَكَفَّلُ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَا يَمْلِكُهُ بِنَوْعَيْهِ ) يَعْنِي فِي الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ الثَّانِيَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَكَانَ كَالْهِبَةِ ، وَالْأَوَّلُ إقْرَاضٌ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَتَى أَدَّى صَارَ مُقْرِضًا بِمَا أَدَّى لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ ، وَالْإِقْرَاضُ تَبَرُّعٌ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْحَالِ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعِتْقِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ كَفَالَتُهُ كَكَفَالَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَدَلُ الْكِتَابَةِ مَالٌ فِي ذِمَّتِهِ وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَضُرُّهُ فَرُبَّمَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فَيُحْبَسُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يُخِلُّ بِالِاكْتِسَابِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَالُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ هُوَ يُوجِبُ لِلْمَمْلُوكِ مِثْلَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ ) يُرِيدُ بِهِ مِلْكَ الْيَدِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ .
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ غَيْرُهُ كَالْمُعِيرِ يُعِيرُ ( بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ) فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ فَيُوجِبُ لِلثَّانِي فَوْقَ مَا

أَوْجَبَ لِلْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ ، وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْمُكَاتَبِ فَكَانَ تَمْلِيكُ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( قَوْلُهُ فَإِنْ أَدَّى الثَّانِي ) يَعْنِي إنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الثَّانِي بَدَلَ كِتَابَتِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ ( عَتَقَ الثَّانِي ) لِتَحَقُّقِ شَرْطِ عِتْقِهِ ( وَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَوْعَ مِلْكٍ ) لِأَنَّ الثَّانِيَ مُكَاتَبٌ لِلْمَوْلَى بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ فَكَانَ كِتَابَةُ الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ ، وَلِهَذَا لَوْ عَجَزَ الْأَوَّلُ كَانَ الثَّانِي مِلْكًا لِلْمَوْلَى كَالْأَوَّلِ ( وَتَصِحُّ إضَافَةُ الْإِعْتَاقِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ) يُقَالُ مَوْلَى زَيْدٍ وَمُعْتَقُ زَيْدٍ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَ مُعْتِقِهِ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَوَالِيهِ ( فَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مُبَاشِرِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ) لِكَوْنِهِ رَقِيقًا ( أُضِيفَ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمَوْلَى لِكَوْنِهِ عِلَّةَ الْعِلَّةِ ( كَالْعَبْدِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ) فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى لِتَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ لِلْعَبْدِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ( فَلَوْ أَدَّى الْأَوَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَتَقَ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى جُعِلَ مُعْتِقًا ) مُبَاشَرَةً حُكْمًا لِمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْتَقَلَ إلَيْهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُكَاتَبِ لِلْإِعْتَاقِ ( وَالْوَلَاءُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمُعْتِقِ ) مُبَاشَرَةً ، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ مُبَاشَرَةً لِئَلَّا يُرَدُّ جَرُّ الْوَلَاءِ ، فَإِنَّهُ ثَمَّةَ مَوْلَى الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِمُعْتِقٍ لِلْوَلَدِ مُبَاشَرَةً بَلْ تَسَبُّبًا بِاعْتِبَارِ إعْتَاقِ الْأُمِّ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ ، وَالتَّعَذُّرُ عَنْ عَدَمِ عِتْقِ الْأَبِ ، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ فَيَنْجَرُّ الْوَلَاءُ إلَى قَوْمِ الْأَبِ ( وَإِنْ أَدَّى الثَّانِي ) بَدَلَ الْكِتَابَةِ ( بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ فَوَلَاؤُهُ

لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ ) .

قَالَ ( وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ عَنْ رَقَبَتِهِ وَإِثْبَاتُ الدَّيْنِ فِي ذَمِّهِ الْمُفْلِسِ فَأَشْبَهَ الزَّوَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ تَنْقِيصٌ لِلْعَبْدِ وَتَعْيِيبٌ لَهُ وَشَغْلُ رَقَبَتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِاسْتِفَادَتِهِ الْمَهْرَ عَلَى مَا مَرَّ .قَالَ ( وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا ، وَإِعْتَاقُ الْعَبْدِ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الثَّالِثُ فَتَنْقِيصٌ لَهُ ) لِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَوَجَدَهُ ذَا زَوْجَةٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ

قَالَ ( وَكَذَلِكَ ) ( الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ ) لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الِاكْتِسَابَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابَةِ نَظَرًا لَهُ ، وَلَا نَظَرَ فِيمَا سِوَاهُمَا وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ .
قَالَ ( فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُضَارِبُ وَالْمُفَاوِضُ وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ هُوَ قَاسَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْإِجَارَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ يَتَمَلَّكُ الِاكْتِسَابَ وَهَذَا اكْتِسَابٌ ، وَلِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ) ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ نَظَرًا ) أَمَّا فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ فَلِمَا مَرَّ آنِفًا ، وَأَمَّا فِي الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ يُرَدُّ رَقِيقًا ، فَرُبَّمَا كَانَ الْعَجْزُ بَعْدَ أَدَاءِ نُجُومٍ وَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ نَظَرًا ( قَوْلُهُ فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ ) فَظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُضَارِبُ وَالْمُفَاوِضُ ) ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الْمُفَاوِضَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَ الشَّرِكَةِ بِلَا خِلَافٍ وَاسْتَدَلَّ بِنَقْلٍ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْخِلَافِ وَقَالَ : تَرْكُ ذِكْرِ الْخِلَافِ دَلِيلٌ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ ) يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ ( قَاسَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ ) فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ ( وَاعْتَبَرَهُ بِالْإِجَارَةِ ) أَيْ اعْتَبَرَ التَّزْوِيجَ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ فَكَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ ، وَقَاسَهُ وَاعْتَبَرَهُ مُتَرَادِفَانِ .
وَقِيلَ اُسْتُعْمِلَ الْقِيَاسُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ : أَيْ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ، وَالِاعْتِبَارُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ : أَيْ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ ظَاهِرَةٌ ، إذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ فَكَانَ ذِكْرُ الْقِيَاسِ فِيهِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْفِعْلَيْنِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِيَّةُ لَا غَيْرُ ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَاسِ إنْ كَانَ هُوَ الشَّرْعِيُّ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَوْلَوِيَّتَهُ ( وَلَهُمَا ) وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ( أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ ، وَهَذَا ) أَيْ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ ( لَيْسَ بِتِجَارَةٍ )

لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالتِّجَارَةُ ذَلِكَ ( وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ الِاكْتِسَابَ وَهَذَا اكْتِسَابٌ ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَالِ ، وَبِالتَّزْوِيجِ تَوَصَّلَ الْمَوْلَى إلَى الْمَهْرِ فَكَانَ اكْتِسَابًا .
قَوْلُهُ ) وَلِأَنَّهُ أَيْ التَّزْوِيجَ دَلِيلٌ آخَرُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اعْتِبَارَ التَّزْوِيجِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مَال ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ ( لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ ) أَيْ الْمَأْذُونُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُفَاوِضُ وَشَرِيكُ الْعَنَانِ وَالْمُكَاتَبُ ( كُلُّهُمْ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ .

( فَصْلٌ ) : قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ ) لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُكَاتِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيُجْعَلُ مُكَاتَبًا تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ مَتَى كَانَ يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَوْلَادٍ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَدْخُلُ ) اعْتِبَارًا بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ إذْ وُجُوبُ الصِّلَةِ يَنْتَظِمُهُمَا وَلِهَذَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُرِّ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ .
وَلَهُ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ كَسْبًا لَا مِلْكًا ، غَيْرَ أَنَّ الْكَسْبَ يَكْفِي الصِّلَةَ فِي الْوِلَادِ حَتَّى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ يُخَاطَبُ بِنَفَقَةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَلَا يَكْفِي فِي غَيْرِهِمَا حَتَّى لَا تَجِبَ نَفَقَةُ الْأَخِ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ قَرَابَةٌ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ بَنِي الْأَعْمَامِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِالثَّانِي فِي الْعِتْقِ ، وَبِالْأَوَّلِ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ أَسْرَعُ نُفُوذًا مِنْ الْكِتَابَةِ ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ كَانَ لِلْآخَرِ فَسْخُهُ ، وَإِذَا أَعْتَقَ لَا يَكُونُ لَهُ فَسْخُهُ .

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مَنْ يَدْخُلُ فِيهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا وَالتَّبَعُ يَتْلُو الْأَصْلَ .
قَالَ ( وَإِذْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ ) تَقْدِيمُ الْأَبِ فِي الذِّكْرِ هَاهُنَا عَلَى ابْنِهِ لِلتَّعْظِيمِ ، وَأَمَّا فِي تَرْتِيبِ الْقُوَّةِ فِي الدُّخُولِ فِي كِتَابَتِهِ فَالِابْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَبِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ أَوْ مُشْتَرًى وَالْمَوْلُودُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُشْتَرَى ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَيُقْبَلُ مِنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِ الْأَبِ ، وَالْمُشْتَرِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَيُقْبَلُ مِنْهُ الْبَدَلُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ حَالًّا ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ السِّعَايَةِ عَلَى نُجُومِ الْأَبِ لِيَظْهَرَ نُقْصَانُ حَالِهِ عَنْ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فِي التَّبَعِيَّةِ .
وَأَمَّا الْأَبُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُهُ حَالَ حَيَاةِ ابْنِهِ الْمُكَاتَبِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الْبَدَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا ، وَإِنَّمَا قَالَ دَخَلَ فِي الْكِتَابَةِ وَلَا يَقُلْ صَارَ مُكَاتَبًا ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُكَاتَبًا لَكَانَ أَصْلًا وَلَقِيَتْ كِتَابَتُهُ بَعْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ الْأَصْلِيِّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بِيعَ الْأَبُ لِمَا أَنَّ كِتَابَةَ الدَّاخِلِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا الْأَصَالَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ مِنْ الْأَوْلَادِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرَى لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ ، وَإِذَا أَعْتَقَ الصَّغِيرَ يَسْقُطُ مِنْ الْبَدَلِ مَا يَخُصُّهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشْتَرَى تَبَعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي أَمْرِ الْبَدَلِ لِتَقَرُّرِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْكِتَابَةِ .
وَأَمَّا الصَّغِيرُ

فَقَدْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ مِنْ وَجْهٍ وَكَانَ الْبَدَلُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَمُقَابَلَةِ وَالِدِهِ فَلِهَذَا يَسْقُطُ مَا يَخُصُّهُ ، ثُمَّ الْمُكَاتَبُ إذَا اشْتَرَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلَا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ جُعِلَ مُكَاتَبًا تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ( وَإِذَا اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَوْلَادٍ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَدْخُلُ اعْتِبَارًا بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ لِأَنَّ وُجُوبَ الصِّلَةِ يَنْتَظِمُهُمَا ، وَلِهَذَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُرِّ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ كَسْبًا لَا مِلْكًا لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ كَمَا عُرِفَ وَهَذَا لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ ، وَلَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ وَالْكَسْبُ يَكْفِي لِلصِّلَةِ فِي الْوِلَادِ ) لَا فِي غَيْرِهِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ مُخَاطَبٌ بِنَفَقَةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَلَا يَجِبُ نَفَقَةُ الْأَخِ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ : أَيْ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ ( تَوَسَّطَتْ بَيْنَ ) الْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ مِنْ ( بَنِي الْأَعْمَامِ وَالْقَرَابَةُ ) الْقَرِيبَةُ وَهِيَ ( الْوِلَادُ ) وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ ذُو حَظٍّ مِنْهُمَا ( فَ ) عَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ وَ ( أَلْحَقْنَاهَا بِالثَّانِيَةِ ) أَيْ الْقَرِيبَةِ فِي الْعِتْقِ حَتَّى إذَا مَلَكَ الْحُرُّ أَخَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ كَمَا إذَا مَلَكَ وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ ( وَبِالْأَوْلَى ) أَيْ بِالْبَعِيدَةِ ( فِي الْكِتَابَةِ ) حَتَّى إذَا مَلَكَ الْمُكَاتَبُ أَخَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ كَمَا إذَا مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ ( وَهَذَا أَوْلَى ) مِنْ الْعَكْسِ .
لِأَنَّا لَوْ أَلْحَقْنَاهَا بِالْوِلَادِ فِي الْكِتَابَةِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَهَا بِهِ أَيْضًا فِي الْعِتْقِ ( لِأَنَّهُ أَسْرَعُ نُفُوذًا مِنْ الْكِتَابَةِ ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ كَانَ لِلْآخَرِ فَسْخُهُ ، وَإِذَا أُعْتِقَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ) وَفِي ذَلِكَ إبْطَالٌ لِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ

وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا .

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ دَخَلَ وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا ، أَمَّا دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ بَيْعِهَا فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدُهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ هَذَا الْحَقُّ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَبِدُونِ الْوَلَدِ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ ( وَإِنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ لَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُشْتَرَى ( وَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَكَسْبُهُ لَهُ ) لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبٌ كَسَبَهُ وَيَكُونُ كَذَلِكَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالدَّعْوَةِ اخْتِصَاصُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا لِأَنَّ حَقَّ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ ثَابِتٌ فِيهَا مُؤَكَّدًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ .

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ إلَخْ ) امْرَأَةُ الْمُكَاتَبِ الْقِنَّةُ إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُكَاتَبُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَمَلَكَهَا ، فَإِنْ مَلَكَهَا مَعَ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ وَلَدَهَا دَخَلَ فِي الْكِتَابَةِ كَمَا مَرَّ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا إذَا عَجَزَ ، وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَإِنْ مَلَكَهَا وَحْدَهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
لَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ بَيْعِهَا وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَعَهَا ، لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ ، وَمَا فَضَلَ مَعَهُ فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَادَ هُوَ وَمَالُهُ لِلْمَوْلَى ، وَكُلُّ مَوْقُوفٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ يَقْبَلُ الْفَسْخَ ، وَمَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَا لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالِاسْتِيلَادِ ، لِأَنَّ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَقْوَى مِنْ الَّذِي يَقْبَلُهُ ، وَالْأَقْوَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَدْنَى إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ وَهُوَ امْتِنَاعُ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَبِدُونِ الْوَلَدِ لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ ثَبَتَ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْقِيَاسُ كَمَا يَنْفِيهِ ابْتِدَاءً يَنْفِيهِ مَعَ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الدَّلِيلِ .
فَتَخْصِيصُ نَفْيِهِ بِالِابْتِدَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُنَافٍ لِصَدْرِ الْكَلَامِ تَحَكُّمٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحَكُّمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ .
وَقَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ : يَعْنِي وَلَا نَصَّ فِيهِ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا الْوَلَدُ ( وَإِنْ وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ

وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ لَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُشْتَرِي ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُكَاتِبَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ التَّسَرِّيَ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ الْأَمَةِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْكِتَابَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَمْلِكُ التَّسَرِّيَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ أَمَتِهِ ، لَكِنْ إنْ وَطِئَ وَادَّعَى النَّسَبَ ثَبَتَ النَّسَبُ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَطْؤُهَا ، لَكِنْ إنْ وَطِئَهَا فَوَلَدَتْ وَادَّعَاهُ ثَبَتَ النَّسَبُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : جَارِيَةٌ بَيْنَ حُرٍّ وَمُكَاتَبٍ وَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَاهُ الْمُكَاتَبُ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ وَلَدُهُ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا ، وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَالِهِ مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ يَمْلِكُ الدَّعْوَةَ كَالْحُرِّ فَبِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا هَاهُنَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَيَثْبُتُ لَهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي حَقِّ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ تَبَعًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْوَلَدِ ( قَوْلُهُ وَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ ) أَيْ حُكْمُ الْوَلَدِ كَحُكْمِ الْمُكَاتَبِ ( وَكَسْبُهُ لَهُ ) أَيْ كَسْبُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ ( لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبُ كَسْبِهِ ) إذْ الْوَلَدُ كَسْبُهُ ( وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالدَّعْوَةِ اخْتِصَاصُ الْمُكَاتَبِ بِكَسْبِ وَلَدِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ زَوْجِهَا دَخَلَ الْوَلَدُ فِي كِتَابَتِهَا لِأَنَّ حَقَّ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ ثَابِتٌ فِيهَا مُؤَكَّدًا ) فَصَارَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْقَارَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَوْصَافُ الْقَارَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأُمَّهَاتِ ( كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ ) وَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ تَسْرِي إلَى الْوِلَادِ ، فَقَوْلُهُ مُؤَكَّدًا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ وَلَدِ الْآبِقَةِ فَإِنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ

وَبَيْعَ وَلَدِهَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ امْتِنَاعَ الْبَيْعِ فِي الْآبِقَةِ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ إذْ الْإِبَاقُ مِمَّا لَا يَدُومُ ، وَكَذَا بَيْعُ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْجَانِيَةِ فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا اتَّصَفَتْ بِهِمَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا إلَّا مَقْرُونًا بِشَيْءٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَكَّدٍ ، فَقَوْلُهُمْ الْأَوْصَافُ الْقَارَّةُ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ، وَقَوْلُهُمْ الشَّرْعِيَّةُ احْتِرَازٌ عَنْ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ فَإِنَّهَا لَا تَسْرِي ، وَإِذَا سَرَتْ كِتَابَتُهَا إلَى وَلَدِهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أُمِّهِ .

قَالَ ( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا ) لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأُمِّ أَرْجَحُ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ .
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ امْرَأَةً زَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَأَوْلَادُهَا عَبِيدٌ وَلَا يَأْخُذُهُمْ بِالْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَأْذَنُ لَهُ الْمَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِالْقِيمَةِ ) لِأَنَّهُ شَارَكَ الْحُرَّ فِي سَبَبِ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْغُرُورُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا رَغِبَ فِي نِكَاحِهَا إلَّا لِيَنَالَ حُرِّيَّةَ الْأَوْلَادِ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَوْلُودٌ بَيْنَ رَقِيقَيْنِ فَيَكُونُ رَقِيقًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَخَالَفَنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْحُرِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ مَجْبُورٌ بِقِيمَةٍ نَاجِزَةٍ وَهَاهُنَا بِقِيمَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ) هَذَا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوْصَافَ الْقَارَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ وَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ دَاخِلًا فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ وَكَسْبُهُ لَهَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأُمِّ أَرْجَحُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا اسْتَوْضَحَ بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِمَا وَكَسْبُهُ لَهَا أَيْ فِي الدُّخُولِ يَتْبَعُهُمَا وَفِي الْكَسْبِ يَتْبَعُهَا خَاصَّةً ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الدُّخُولِ هُوَ الْكَسْبُ ، وَإِنَّمَا كَانَ تَبَعِيَّةُ الْأُمِّ أَرْجَحَ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا بِحَيْثُ يُقْرَضُ مِنْهُ بِالْمِقْرَاضِ .
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ امْرَأَةً زَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَأَوْلَادُهَا عَبِيدٌ ، وَلَا يَأْخُذُهُمْ الْمُكَاتَبُ بِقِيمَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَى الْمُسْتَحِقِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِالْقِيمَةِ ) لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْغُرُورُ ، لِأَنَّهُ مَا رَغِبَ فِي نِكَاحِهَا إلَّا لِيَنَالَ حُرِّيَّةَ الْأَوْلَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَوْلَادِ وَالْمَهْرُ فِي الْحَالِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ ، هَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَفِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ يَتَأَخَّرُ أَدَاؤُهَا إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ مَجْبُورٌ بِقِيمَةٍ نَاجِزَةٍ إلَخْ ) ثُمَّ إذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ لِأَنَّ الْغُرُورَ حَصَلَ مِنْهَا ( وَلَهُمَا أَنَّهُ مَوْلُودٌ بَيْنً رَقِيقَيْنِ ، وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ رَقِيقَيْنِ رَقِيقٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَلَدِ أَنْ يَتْبَعَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ .
لَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ حُرًّا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ) وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ

فِي التَّقْرِيرِ ( وَهَذَا ) أَيْ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ ( لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ مَجْبُورٌ بِقِيمَةٍ نَاجِزَةٍ وَهَاهُنَا بِقِيمَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ) فَكَانَ الْمَانِعُ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِهِ مَوْجُودًا وَهُوَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالْمُسْتَحَقِّ فِي التَّأْخِيرِ ( فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ ) .

قَالَ ( وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ وَطِئَهَا عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّ التِّجَارَةَ وَتَوَابِعَهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْكِتَابَةِ ، وَهَذَا الْعُقْرُ مِنْ تَوَابِعِهَا ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَمَا سَقَطَ الْحَدُّ وَمَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ لَا يَجِبُ الْعُقْرُ .
أَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ فِي شَيْءٍ فَلَا تَنْتَظِمُهُ الْكِتَابَةُ كَالْكَفَالَةِ .وَإِذَا ( اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَمَةً وَوَطِئَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ) أَوْ بِإِذْنِهِ لَكِنَّهُ قَالَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِيَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ) إلَى الْإِعْتَاقِ ( وَإِنْ وَطِئَهَا عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ ) فِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ( وَ ) حُكْمُ ( الْمَأْذُونِ لَهُ كَذَلِكَ ) قِنًّا كَانَ أَوْ مُدَبَّرًا ، وَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ تَقْرِيرُهُ الْكِتَابَةُ أَوْجَبَتْ الشِّرَاءَ وَالشِّرَاءُ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْحَدِّ وَسُقُوطُ الْحَدِّ أَوْجَبَ الْعُقْرَ ، فَالْكِتَابَةُ أَوْجَبَتْ الْعُقْرَ ، وَلَا كَذَلِكَ النِّكَاحُ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا ثُمَّ وَطِئَهَا فَرَدَّهَا أُخِذَ بِالْعُقْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ ) لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ تَارَةً يَقَعُ صَحِيحًا وَمَرَّةً يَقَعُ فَاسِدًا ، وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ يَنْتَظِمَانِهِ بِنَوْعَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ فَكَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى .

( فَصْلٌ ) : قَالَ ( وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْمَوْلَى فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا ، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) لِأَنَّهَا تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ عَاجِلَةٌ بِبَدَلٍ وَآجِلَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَتُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، وَنَسَبُ وَلَدِهَا ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فِي وَلَدِهَا وَمَا لَهُ مِنْ الْمِلْكِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ بِالدَّعْوَةِ .
وَإِذَا مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ الْعُقْرَ مِنْ مَوْلَاهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِنَفْسِهَا وَبِمَنَافِعِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا .
ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَتَرَكَتْ مَالًا تُؤَدَّى مِنْهُ مُكَاتَبَتُهَا وَمَا بَقِيَ مِيرَاثٌ لِابْنِهَا جَرْيًا عَلَى مُوجَبِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ حُرٌّ ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْمَوْلَى إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ لِحُرْمَةِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَدَّعِ وَمَاتَتْ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ سَعَى هَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ تَبَعًا لَهَا ، فَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ وَبَطَلَ عَنْهُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ إذْ هُوَ وَلَدُهَا فَيَتْبَعُهَا .

فَصْلٌ : مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ مَسَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَفَصَّلَهَا بِفَصْلٍ ( قَوْلُهُ وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْمَوْلَى ) وَذَلِكَ بِأَنْ ادَّعَاهَا ( فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا ) وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ إذَا ادَّعَى أَوْ كَذَّبَتْهُ ، لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهَا وَلَهَا حَقُّ الْمِلْكِ وَالْحَقِيقَةُ رَاجِحَةٌ فَيَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ وَإِنَّمَا تَتَخَيَّرُ ( لِأَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ عَاجِلَةٌ بِبَدَلٍ وَآجِلَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا وَنَسَبُ وَلَدِهَا ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى ) سَوَاءٌ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ ( وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فِي وَلَدِهَا ) لِأَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَوْلَى كَالتَّحْرِيرِ ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ تَحْرِيرَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ قَصْدًا ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ ضِمْنًا لِلدَّعْوَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا لَهُ مِنْ الْمِلْكِ ) دَلِيلُ قَوْلِهِ وَنَسَبُ وَلَدِهَا ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي الْكِتَابَةِ نَاقِصٌ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي مُكَاتَبَتِهِ بِدَلِيلِ جَوَازِ إعْتَاقِ الْمَوْلَى مُكَاتَبَتَهُ دُونَ الْمُكَاتَبِ ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا ادَّعَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَلَأَنْ يَثْبُتَ مِنْ الْمَوْلَى أَوْلَى ، ( فَإِنْ اخْتَارَتْ الْكِتَابَةَ وَمَضَتْ عَلَيْهَا أَخَذَتْ الْعُقْرَ مِنْ مَوْلَاهَا ) أَيْ مَهْرَ مِثْلِهَا ( لِاخْتِصَاصِهَا بِنَفْسِهَا وَبِمَنَافِعِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا ) يَعْنِي قَبْلَ فَصْلِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَخَصَّ بِأَجْزَائِهَا تَوَسُّلًا إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكِتَابَةِ ( ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى ) يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّهَا عَلَى الْكِتَابَةِ ( عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) عَلَى مَا نَذْكُرُهُ

.
فَإِنْ قِيلَ : وَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ لِأَنَّ الْأَكْسَابَ هَاهُنَا تُسَلَّمُ لَهَا وَهَذَا آيَةُ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْمُعَاوَضَةَ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ وَتُشْبِهُ الشَّرْطَ ، وَبِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَسْقُطُ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ فَلَمَّا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ بَطَلَتْ جِهَةُ الْكِتَابَةِ بِهِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ ، وَقُلْنَا بِسَلَامَةِ الْأَكْسَابِ عَمَلًا يُشْبِهُ الْمُعَاوَضَةَ ، وَقُلْنَا بِسُقُوطِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَمَلًا يُشْبِهُ الشَّرْطَ ( وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَتَرَكَتْ مَا لَا تُؤَدِّي مِنْهُ مُكَاتَبَتَهَا وَمَا بَقِيَ مِيرَاثٌ لِابْنِهَا جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ حُرٌّ وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ ) وَهِيَ مَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابَةِ ( لَمْ يَلْزَمْ الْمَوْلَى ) بِالسُّكُوتِ لِأَنَّ نَسَبَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَ الْوَطْءِ وَهَذِهِ مُحَرَّمٌ وَطْؤُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ ) لِحَاجَتِهَا إلَى اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ ) لِتَعَلُّقِ عِتْقِهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ ( وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إيجَابِ الْبَدَلِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا عَتَقَتْ قَبْلَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَوْفِيرُ الْغَرَضِ عَلَيْهِ فَسَقَطَ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ لِامْتِنَاعِ إبْقَائِهَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ ) وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مِلْكِ السَّيِّدِ فِي الْحَالِ ، وَالْحُرِّيَّةُ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ وَحَاجَةُ أُمِّ الْوَلَدِ إلَى اسْتِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى كَحَاجَةِ غَيْرِهَا فَكَانَ جَائِزًا .
لَا يُقَالُ : أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ بِلَا بَدَلٍ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا جِهَتَيْ عِتْقٍ تَلَقَّتَاهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ ، وَعُورِضَ بِأَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَيْفَ يُقَابِلُهَا بَدَلٌ مُتَقَوِّمٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا ثَابِتٌ يَدًا وَرَقَبَةً ، وَالْكِتَابَةُ لِرَفْعِ الْأَوَّلِ فِي أَوَّلِ الْحَالِ وَلِرَفْعِ الثَّانِي فِي الثَّانِي ، وَالْمِلْكُ يَجُوزُ أَنْ يُقَابَلَ بِبَدَلٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا كَمِلْكِ الْقِصَاصِ إذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُ يُقَابِلُ حِصَّةَ الْآخَرِينَ بِالْمَالِ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ لِتَعَلُّقِ عِتْقِهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إيجَابِ الْبَدَلِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا عَتَقَتْ قَبْلَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَوْفِيرُ الْغَرَضِ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ لِامْتِنَاعِ إبْقَائِهَا بِلَا فَائِدَةٍ ) بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَدَلِ ، وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ وَالْأَكْسَابِ يُعْتَقُ الْأَوْلَادُ وَتَخْلُصُ لَهَا الْأَكْسَابُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْكِتَابَةُ عَقْدٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ وَعَدَمُ بُطْلَانِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَحْقِيقَ كَلَامِهِ أَنَّ بُطْلَانَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ يُتَصَوَّرُ بِاعْتِبَارَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ تَبْطُلَ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَلَى إيفَاءِ الْبَدَلِ ، وَالثَّانِي أَنْ تَبْطُلَ بِانْتِهَائِهِ بِإِيفَائِهِ ، وَبِالْأَوَّلِ يَعُودُ رَقِيقًا وَأَوْلَادُهُ

وَأَكْسَابُهُ لِمَوْلَاهُ ، وَبِالثَّانِي يُعْتَقُ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَيَخْلُصُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْسَابِهِ ، وَحَيْثُ احْتَجْنَا هَاهُنَا إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لِلْمُكَاتَبِ وَكَانَ النَّظَرُ لَهُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ صِرْنَا إلَيْهِ .
لَا يُقَالُ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ بُطْلَانَهُ بِامْتِنَاعِ بَقَائِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ ثُمَّ عَلَّلَهُ بِالنَّظَرِ لَهُ ، وَالْمَعْلُولُ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، لِأَنَّ لِلْكِتَابَةِ جِهَتَيْنِ : جِهَةٌ هِيَ لِلْمُكَاتَبِ ، وَجِهَةٌ هِيَ عَلَيْهِ ، وَعَلَّلَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى وَالْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَتَأَمَّلْهُ فَلَعَلَّهُ سَدِيدٌ ( وَلَوْ أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةَ ) بِالنَّصْبِ : أَيْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَلَوْ أَدَّتْ الْكِتَابَةَ وَهُوَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ ( قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ )

قَالَ ( وَإِنْ كَاتَبَ مُدَبَّرَتَهُ جَازَ ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ وَلَا تَنَافِي ، إذْ الْحُرِّيَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ مُجَرَّدُ الِاسْتِحْقَاقِ ( وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا أَوْ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَسْعَى فِي أَقَلَّ مِنْهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا وَثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَالْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ وَالْمِقْدَارِ ، فَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمِقْدَارِ ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ الْخِيَارِ .
أَمَّا الْخِيَارُ فَفَرْعُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ لَمَّا تَجَزَّأَ بَقِيَ الثُّلُثَانِ رَقِيقًا وَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ بِبَدَلَيْنِ مُعَجَّلٌ بِالتَّدْبِيرِ وَمُؤَجَّلٌ بِالْكِتَابَةِ فَتُخَيَّرُ .
وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ الْمَالَيْنِ فَتَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ .
وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَابَلَ الْبَدَلَ بِالْكُلِّ وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا الثُّلُثَ بِالتَّدْبِيرِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَجِبَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَهَا الْكُلَّ بِأَنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ يَسْقُطُ كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُنَا يَسْقُطُ الثُّلُثُ وَصَارَ كَمَا إذَا تَأَخَّرَ التَّدْبِيرُ عَنْ الْكِتَابَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ مُقَابَلٌ بِثُلُثَيْ رَقَبَتِهَا فَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ قُوبِلَ بِالْكُلِّ صُورَةً وَصِيغَةً لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مَعْنًى وَإِرَادَةً لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ كَانَ جَمِيعُ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ الْبَاقِيَةِ

لِدَلَالَةِ الْإِرَادَةِ ، كَذَا هَاهُنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ الْكِتَابَةُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِيهِ لِأَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِالْكُلِّ إذْ لَا اسْتِحْقَاقَ عِنْدَهُ فِي شَيْءٍ فَافْتَرَقَا قَالَ ( وَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ ) لِمَا بَيَّنَّا .
( وَلَهَا الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ مُدَبَّرَةً ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فِي جَانِبِ الْمَمْلُوكِ ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا فَمَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ سَعَتْ فِي ثُلُثَيْ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا ، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْخِيَارِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
أَمَّا الْمِقْدَارُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا .

( وَإِنْ كَاتَبَ مُدَبَّرَتَهُ ) وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ مُنَاسِبَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَوَضْعُهَا فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْمُدَبَّرِ ، وَإِنَّمَا جَازَ كِتَابَتُهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْحَاجَةُ ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالتَّدْبِيرِ مُجَرَّدُ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتُهَا وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُنَافَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهَا تَخَيَّرَتْ بَيْنَ السَّعْيِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مُدَبَّرَةً لَا قِنَّةً وَفِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَدْ أَوْضَحَ كَلَامَهُ فَتَعْرِضُ لِبَعْضِهِ زِيَادَةُ إيضَاحٍ ( قَوْلُهُ فَتَخَيَّرَ ) لِأَنَّ فِي التَّخْيِيرِ فَائِدَةً وَإِنْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ أَكْثَرِ الْمَالَيْنِ أَيْسَرَ بِاعْتِبَارِ الْأَجَلِ ، وَأَدَاءُ أَقَلِّهِمَا أَعْسَرُ لِكَوْنِهِ حَالًّا فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا ( قَوْلُهُ وَجَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فَتَخْتَارُ الْأَقَلَّ ) قَدْ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ عِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالتَّدْبِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهَا بِهِ وَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَوَجَبَتْ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لَا غَيْرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لَهَا فَتَبْقِيَتُهَا لِذَلِكَ فَلِرُبَّمَا يَكُونُ بَدَلُهَا أَقَلَّ فَيَحْصُلُ النَّظَرُ بِوُجُوبِهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّهُ قَابَلَ الْبَدَلَ بِالْكُلِّ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى ذَاتِهَا فَقَالَ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهَا كَالْقِنَّةِ فَتَصِيرُ كُلُّهَا مُكَاتَبَةً ( وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا الثُّلُثَ بِالتَّدْبِيرِ ) فَيَسْقُطُ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْبَدَلِ وَإِلَّا لَكَانَ مَا فَرَضْنَاهُ سَالِمًا غَيْرَ سَالِمٍ هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَمَا إذَا تَأَخَّرَ التَّدْبِيرُ عَنْ الْكِتَابَةِ ) وَصُورَتُهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُدَبِّرُهُ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ثُلُثُ الْبَدَلِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي

تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا ) أَيْ مَكْشُوفًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، لِأَنَّ إخْرَاجَهَا عَنْ الْمِلْكِ بِغَيْرِ الْإِعْتَاقِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنْ أَعْتَقَهَا خَرَجَ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَنْ مَالٍ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ كُلِّهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهَا فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ ثُلُثِهَا فَاسْتِحْقَاقُ الثُّلُثِ ثَابِتٌ قَطْعًا ( وَالظَّاهِرُ ) الْبَيِّنُ ( أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ ) فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ ثُلُثَيْ رَقَبَتِهَا فَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عَتَقَ الْجَمِيعُ إذَا أَدَّتْ كُلَّ الْبَدَلِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الثُّلُثَيْنِ لَا الْكُلِّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِتَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْجَوَابُ مَا مَرَّ أَنَّا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لِلْمُدَبَّرِ ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ أَنْ يَبْقَى بَعْضُهُ غَيْرَ حُرٍّ وَيَغْرَمُ كُلَّ الْبَدَلِ ، فَاعْتَبَرْنَا الْمُقَابَلَةَ الصُّورِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى نَظَرًا لَهُ ( قَوْلُهُ إذْ لَا اسْتِحْقَاقَ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ الْبَدَلُ فِي مُقَابَلَةِ الْكُلِّ ، فَإِذَا عَتَقَ بَعْضُ الرَّقَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّدْبِيرِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ( وَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ ( وَلَهَا الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ مُدَبَّرَةً ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فِي جَانِبِ الْمَمْلُوكِ ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْجِنَايَةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ ، وَإِذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى

فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ ( فَإِنْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا فَمَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا تَخَيَّرَتْ بَيْنَ السَّعْيِ فِي ثُلُثَيْ مَالِ الْكِتَابَةِ وَثُلُثَيْ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا ، فَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا فِي الْخِيَارِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ ( وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ ، وَالْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ هَذِهِ وَمَا تَقَدَّمَتْ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبَدَلَ هَاهُنَا مُقَابَلٌ بِالْكُلِّ إلَخْ .

قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ ) لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ ( وَسَقَطَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ إلَّا مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ دُونَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ، وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً فِي جَانِبِ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يُفْسَخُ بِرِضَا الْعَبْدِ وَالظَّاهِرُ رِضَاهُ تَوَسُّلًا إلَى عِتْقِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَعَ سَلَامَةِ الْأَكْسَابِ لَهُ لِأَنَّا نُبْقِي الْكِتَابَةَ فِي حَقِّهِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ فَكَانَ رِبًا ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْحُرِّ وَمُكَاتَبِ الْغَيْرِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَاعْتَدَلَا فَلَا يَكُونُ رِبًا ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَالْأَجَلُ رِبًا مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ رِبًا وَالْأَجَلُ فِيهِ شُبْهَةٌ .

قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ إلَخْ ) وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ وَسَقَطَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَى تَحَصُّلِ شَيْءٍ وَحَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى سَقَطَ الْوَسِيلَةُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى فَلَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً فِي جَانِبِ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يُفْسَخُ بِرِضَا الْعَبْدِ ) وَاللُّزُومُ كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْفَسْخِ فَقَطْ أَسْقَطَ حَقَّهُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى أَوْ آجَرَهُ بِرِضَاهُ ( وَالظَّاهِرُ رِضَاهُ تَوَسُّلًا إلَى عِتْقِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ) فَإِنَّهُ إذَا رَضِيَ بِهِ بِبَدَلٍ فَبِلَا بَدَلٍ يَكُونُ أَرْضَى ، وَقَوْلُهُ ( مَعَ سَلَامَةِ الْأَكْسَابِ لَهُ لِأَنَّا نُبْقِي الْكِتَابَةَ فِي حَقِّهِ ) إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ قَدْ يَكُونُ رَاضِيًا بِبَدَلٍ نَظَرًا إلَى سَلَامَةِ الْأَكْسَابِ لَهُ فَقَدْ تَكُونُ الْأَكْسَابُ كَثِيرَةً تَفْضُلُ بَعْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ مِنْهَا لَهُ جُمْلَةً .
وَوَجْهٌ أَنَّ الْأَكْسَابَ سَالِمَةٌ لَهُ لِأَنَّا نُبْقِي الْكِتَابَةَ فِي حَقِّهِ لِتَبْقَى الْأَكْسَابُ عَلَى مِلْكِهِ نَظَرًا لَهُ ، وَحِينَئِذٍ صَارَ الظَّاهِرُ كَالْمُتَحَقِّقِ الْوَاقِعِ فَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهِ ( وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ) بِمَا هُوَ مَالٌ ( لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ ) وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ بَدَلًا عَنْ أَلْفٍ ( وَذَلِكَ رِبًا ) لَا يُقَالُ : هَلَّا جَعَلْت إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ لِيَجُوزَ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ بَيْنَ

الْحُرَّيْنِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى مُكَاتَبِ الْغَيْرِ أَلْفٌ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ إلَّا بِهِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَاعْتَدَلَا ) وَكَانَا اعْتِيَاضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ بِمَا هُوَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ ( فَلَمْ يَكُنْ ) ثَمَّةَ ( رِبًا ) وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُتَمَوَّلُ بِهِ وَهُوَ يَعْتَمِلُ الْإِحْرَازَ وَذَلِكَ فِي الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لَفْظًا وَمَعْنًى ، أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ أَعْطَى مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ بِاللَّامِ وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُ قَالَ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمَ الْمَالِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَاتَ الِاعْتِدَالُ إذْ الدَّيْنُ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَإِنْ أَرَادَ حُكْمَ الْمَالِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ الْمَالَ مَا يُتَمَوَّلُ بِهِ وَيُحْرَزُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَعَيْنِ الدَّرَاهِمِ لِتَوَقُّفِ قُدْرَةِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ تَوَقُّفَهَا عَلَى عَيْنِ الدَّرَاهِمِ ، وَضَمَّنَ أَعْطَى مَعْنَى اعْتَبَرَ ، وَمَعْنَاهُ اعْتَبَرَ لِلْأَجَلِ حُكْمَ الْمَالِ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِهَةً فِي شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ لَهُ تِلْكَ الْجِهَةَ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ وَنَظَرًا لِلْمُكَاتَبِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ ) وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ

وَجْهٍ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لَهُ شَبَهًا بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَمِينًا وَالْأَجَلُ رِبًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَفِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا ، وَشُبْهَةُ الرِّبَا إذَا وَقَعَتْ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ كَانَتْ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ رِبًا وَالْأَجَلُ فِيهِ شُبْهَةٌ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ حَالًّا وَالْبَاقِيَ إلَى أَجَلِهِ أَوْ يُرَدُّ رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ حَالًّا وَالْبَاقِيَ إلَى أَجَلِهِ ) لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الزِّيَادَةَ بِأَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا وَصَارَ كَمَا إذَا خَالَعَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ جَازَ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بَدَلُ الرَّقَبَةِ حَتَّى أُجْرِيَ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْأَبْدَالِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُبْدَلِ فَكَذَا بِالْبَدَلِ ، وَالتَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ مَعْنًى فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْجَمِيعِ ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِ لَا يُقَابِلُ الْمَالَ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِالْمُبْدَلِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ دَارِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَهُمَا يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ ثُلُثَيْ جَمِيعِ الثَّمَنِ حَالًّا وَالثُّلُثَ إلَى أَجَلِهِ وَإِلَّا فَانْقُضْ الْبَيْعَ ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى ، قَالَ ( وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُقَالُ لَهُ أَدِّ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًّا أَوْ تُرَدُّ رَقِيقًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ هَاهُنَا فِي الْقَدْرِ وَالتَّأْخِيرِ فَاعْتُبِرَ الثُّلُثُ فِيهِمَا .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ الْأَجَلَ ) لِأَنَّ الْمَرِيضَ تَصَرَّفَ فِيهِ وَهُوَ حَقُّهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ دَفْعًا لِضَرَرِ تَأْخِيرِ حَقِّهِمْ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ( فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ حَالًّا ) وَهُوَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ( وَالْبَاقِي ) وَهُوَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ ( إلَى أَجَلِهِ أَوْ يُرَدُّ رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ حَالًّا وَالْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الزَّائِدَ عَلَى قِيمَتِهِ ) وَمَنْ لَهُ تَرْكُ شَيْءٍ لَهُ تَرْكُ وَصْفِهِ وَالتَّعْجِيلُ وَصْفٌ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ ( وَصَارَ ) ذَلِكَ ( كَمَا إذَا خَالَعَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ جَازَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ ) وَلَوْ قَالَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الزِّيَادَةَ وَثُلُثَ الْأَلْفِ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا كَانَ أَحْسَنَ فَتَأَمَّلْ ( وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بَدَلُ الرَّقَبَةِ ) بِدَلِيلِ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْأَبْدَالِ مِنْ جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ عَلَى الْأَلْفَيْنِ وَجَوَازُ الْحَبْسِ عَلَى الْمُمَاطَلَةِ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى وَهُوَ الْأَلْفَانِ ، وَبَدَلُ الرَّقَبَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُبْدَلِ ، فَإِنَّ الْمُبْدَلَ لَمَّا كَانَ مُتَقَوِّمًا كَانَ حُكْمُ بَدَلِهِ حُكْمَهُ فَجَمِيعُ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ جَازَ لِلْمَرِيضِ إسْقَاطُ ثُلُثِهِ فَيَجُوزُ تَأْجِيلُهُ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَعْنًى ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْخُلْعِ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمُبْدَلِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ اخْتِلَافُهُمْ إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ دَارِهِ

بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إلَى سِتَّةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ التَّأْجِيلَ ؛ فَعِنْدَهُمَا يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَدَاءِ ثُلُثَيْ جَمِيعِ الثَّمَنِ حَالًّا وَالثُّلُثِ إلَى أَجَلِهِ ، وَبَيْنَ نَقْضِ الْبَيْعِ وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لَا فِي الزِّيَادَةِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى : يَعْنِي الدَّلِيلَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ( وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ أَدَّى ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًّا أَوْ يُرَدُّ رَقِيقًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْقَدْرِ ) وَهُوَ إسْقَاطُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ( وَالتَّأْخِيرِ ) وَهُوَ تَأْجِيلُ الْأَلْفِ الْآخَرِ ( فَاعْتُبِرَ الثُّلُثُ فِيهِمَا ) أَيْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ فِي الْإِسْقَاطِ وَالتَّأْخِيرِ ، لَكِنْ لَمَّا سَقَطَ ذَلِكَ الثُّلُثُ لَمْ يَبْقَ التَّأْخِيرُ أَيْضًا وَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ لَا فِي حَقِّ الْإِسْقَاطِ وَلَا فِي حَقِّ التَّأْخِيرِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْحُرُّ عَنْ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ أَدَّى عَنْهُ عَتَقَ ، وَإِنْ بَلَغَ الْعَبْدُ فَقَبِلَ فَهُوَ مُكَاتَبٌ ) وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْحُرُّ لِمَوْلَى الْعَبْدِ كَاتِبْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَكَاتَبَهُ الْمَوْلَى عَلَى هَذَا يُعْتَقُ بِأَدَائِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ ، وَإِذَا قَبِلَ الْعَبْدُ صَارَ مُكَاتَبًا ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَارَتِهِ وَقَبُولُهُ إجَازَةٌ ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَأَدَّى لَا يُعْتَقُ قِيَاسًا لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ لِلْعَبْدِ الْغَائِبِ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْقَائِلِ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ لُزُومِ الْأَلْفِ عَلَى الْعَبْدِ .
وَقِيلَ هَذِهِ هِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ( وَلَوْ أَدَّى الْحُرُّ الْبَدَلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ .

( بَابُ مَنْ يُكَاتِبُ عَنْ الْعَبْدِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَصِيلِ فِي الْكِتَابَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالنَّائِبِ فِيهَا ، وَقَدَّمَ أَحْكَامَ الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَصَرُّفِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْحُرُّ عَنْ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَخْ ) قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِذَا كَاتَبَ الْحُرُّ عَنْ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَدَّى عَنْهُ عَتَقَ ، وَإِنْ بَلَغَ الْعَبْدُ وَقَبِلَ فَهُوَ مُكَاتَبٌ .
وَاخْتَلَفَ شَارِحُوهُ فِي تَصْوِيرِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَنْ يَقُولَ الْحُرُّ لِمَوْلَى الْعَبْدِ كَاتِبْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَكَاتَبَهُ الْمَوْلَى عَلَى هَذَا يُعْتَقُ بِأَدَائِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ ، وَإِذَا قَبِلَ الْعَبْدُ صَارَ مُكَاتَبًا : يَعْنِي إنَّ هَذَا الْعَقْدَ نَافِذٌ فِي حَقِّ مَالِ الْعَبْدِ مِنْ حُرْمَةِ الْبَيْعِ وَنُفُوذِ عِتْقِهِ بِأَدَاءِ هَذَا الْقَائِلِ وَمَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ لُزُومِ الْبَدَلِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَرَى بَيْنَ فُضُولِيٍّ وَمَالِكٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ ، فَإِذَا قَبِلَهُ كَانَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُ فَيَصِيرُ مُكَاتَبًا ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ وَكَّلَهُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ نَفَذَ عَقْدُهُ عَلَيْهِ ، فَكَذَا إذَا أَجَازَ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَنْ يَقُولَ كَاتِبْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَأَدَّى عَتَقَ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ حَتَّى يُعْتَقَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ لِمَا مَرَّ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ لِلْعَبْدِ الْغَائِبِ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ : أَيْ فِي تَوَقُّفِ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ الْقَائِلِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَيَتَوَقَّفُ فِي لُزُومِ الْأَلْفِ الْعَبْدُ .
قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ ،

فَإِنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُجِيزِ فِيمَا لَهُ وَفِيمَا عَلَيْهِ ، وَهَاهُنَا لَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا لَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَالَهُ هَاهُنَا إسْقَاطٌ وَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ وَمَا عَلَيْهِ إلْزَامٌ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَدَّى الْحُرُّ الْبَدَلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَدَاءِ وَلَا هُوَ مُضْطَرٌّ فِي أَدَائِهِ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى إلَى الْمَوْلَى ؟ فِيهِ تَطْوِيلٌ طَالِعْ النِّهَايَةَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَبْدٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَائِبٌ ، فَإِنْ أَدَّى الشَّاهِدُ أَوْ الْغَائِبُ عَتَقَا ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كَاتِبْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ ، وَهَذِهِ كِتَابَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ : يَصِحُّ عَلَى نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاضِرَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً جَعَلَ نَفْسَهُ فِيهِ أَصْلًا وَالْغَائِبُ تَبَعًا ، وَالْكِتَابَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوعَةٌ كَالْأَمَةِ إذَا كُوتِبَتْ دَخَلَ أَوْلَادُهَا فِي كِتَابَتِهَا تَبَعًا حَتَّى عَتَقُوا بِأَدَائِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ وَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَرِدُ بِهِ الْحَاضِرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِيهِ ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِيهِ .
قَالَ ( وَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَا وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ ) أَمَّا الْحَاضِرُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْغَائِبُ فَلِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ عَلَيْهِ وَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقَبُولِ لِحَاجَتِهِ إلَى اسْتِخْلَاصِ عَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَأَيُّهُمَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ ) لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْغَائِبُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْغَائِبَ بِشَيْءٍ ) لِمَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْغَائِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِشَيْءٍ ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ لِلشَّاهِدِ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَافِذَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْغَائِبِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِقَبُولِهِ ، كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ

، حَتَّى لَوْ أَدَّى لَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ ، كَذَا هَذَا .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَبْدٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ إلَخْ ) إذَا قَالَ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ كَاتِبْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى عَبْدِك فُلَانٍ الْغَائِبِ فَفَعَلَ جَازَ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ أَنْ يَصِحَّ عَلَى نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا ، وَيَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ ، كَمَنْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ وَأَمَةَ غَيْرِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاضِرَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً جَعَلَ نَفْسَهُ فِيهِ أَصْلًا وَالْغَائِبَ تَبَعًا ، وَالْكِتَابَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوعَةٌ كَالْأَمَةِ إذَا كُوتِبَتْ دَخَلَ أَوْلَادُهَا فِي كِتَابَتِهَا تَبَعًا حَتَّى عَتَقُوا بِأَدَائِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَالْمُسْتَشْهَدِ بِهَا لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَابِعَةٌ لَهَا .
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ الْأَوْلَادَ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ وَتُعْتَقُ الْأَوْلَادُ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْأُمَّ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْغَائِبِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْكِتَابَةِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَيْهِمَا مَقْصُودًا ، حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ الْحَاضِرَ نَفَذَ عِتْقُهُ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ الْغَائِبُ ، وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ الْغَائِبُ سَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَيَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتُهُ لَا غَيْرُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ مَا هُوَ تَبَعٌ مَحْضٌ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِهِ نُفُوذَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ وَجْهٍ بِلَا تَوَقُّفٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِلْقِيَاسِ .
وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَالنَّظَرُ إلَى ثُبُوتِ هَذَا الْعَقْدِ بِالتَّبَعِيَّةِ فِي الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ جِهَةُ أَصَالَةٍ أَوْ لَا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ وَنَظَرًا لِلْمُكَاتَبِ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَرِدُ بِهِ الْحَاضِرُ فَلَهُ : أَيْ

فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَاضِرَ بِكُلِّ الْبَدَلِ ، لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِيهِ ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِيهِ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي مُجَرَّدِ التَّبَعِيَّةِ لَا مُعْتَبَرَ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَا ) تَكْرَارٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ : فَإِنْ أَدَّى الشَّاهِدُ أَوْ الْغَائِبُ عَتَقَا ، لَكِنَّهُ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ ( وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ ، أَمَّا الْحَاضِرُ فَلِأَنَّهُ الْبَدَلُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْغَائِبُ فَ ) الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يُجْبَرَ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ( لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ إذَا أَدَّى الْمُرْتَهِنُ ) لِفِكَاكِ عَيْنِهِ ( يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقَبُولِ لِحَاجَتِهِ إلَى اسْتِخْلَاصِ عَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ ، وَأَيُّهُمَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ ) وَمِثْلُهُ لَا يَرْجِعُ ( وَالْغَائِبُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ ) وَمِثْلُهُ أَيْضًا لَا يَرْجِعُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْغَائِبُ هَاهُنَا كَمُعِيرِ الرَّهْنِ وَمُعِيرُ الرَّهْنِ مُضْطَرٌّ وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِمَا أَدَّى فَكَيْفَ قَالَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَهُوَ فِي حَقِّ جَوَازِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ دَيْنٍ عَلَيْهِ لَا فِي الِاضْطِرَارِ ، فَإِنَّ الِاضْطِرَارَ إنَّمَا هُوَ إذَا فَاتَ لَهُ شَيْءٌ حَاصِلٌ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ إنَّمَا هُوَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ الْحُرِّيَّةُ ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ عَدَمُ الرِّبْحِ لَا يُسَمَّى خُسْرَانًا .
فَإِنْ قِيلَ : حَقُّ الْحُرِّيَّةِ حَاصِلٌ بِالْكِتَابَةِ وَرُبَّمَا فَاتَهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فَكَانَ مُضْطَرًّا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَوَهَّمٌ ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ ( وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ

يَأْخُذَ الْغَائِبَ بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ فِيهِ تَبَعٌ ( فَإِنْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْغَائِبُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ لِلشَّاهِدِ ) وَإِنْ رَدَّهُ الْغَائِبُ لَا أَثَرَ لِرَدِّهِ وَقَبُولِهِ فِي ذَلِكَ ( لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَافِذَةٌ عَلَى الْحَاضِرِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْغَائِبِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِقَبُولِهِ ) فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ( كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ حَتَّى لَوْ أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، كَذَا هَذَا ) .

قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَتْ الْأَمَةُ عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ ابْنَيْنِ لَهَا صَغِيرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَأَيُّهُمْ أَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ وَيُعْتَقُونَ ) لِأَنَّهَا جَعَلَتْ نَفْسَهَا أَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ وَأَوْلَادَهَا تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ .

( وَإِذَا قَبِلَتْ الْأَمَةُ الْكِتَابَةَ عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ ابْنَيْنِ لَهَا صَغِيرَيْنِ جَازَ ) وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَمَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْعَبْدِ لَرُبَّمَا تَوَهَّمَ أَنَّ الْجَوَازَ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِمَا فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْأَمَةِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا ، إذْ الْأُمُّ الْحُرَّةُ لَا وِلَايَةَ لَهَا فَكَيْفَ بِالْأَمَةِ ؟ ( وَأَيُّهُمْ أَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ وَيُعْتَقُونَ لِأَنَّهَا جَعَلَتْ نَفْسَهَا أَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ وَأَوْلَادُهَا تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ) وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ إذَا أَدَّتْ فَقَدْ أَدَّتْ دَيْنًا عَلَى نَفْسِهَا ، وَكُلٌّ مِنْ الْوَلَدَيْنِ إنْ أَدَّى فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ غَيْرُ مُضْطَرٍّ ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَا رُجُوعَ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ الِابْنُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ لَا أَصَالَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَبَعِيَّةَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أَدَّى كَانَ أَدَاؤُهُ كَأَدَاءِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَوْ أَدَّتْ الْأُمُّ عَتَقُوا ، فَكَذَا إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا .
قِيلَ وَهَذِهِ فَائِدَةُ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي صَغِيرَيْنِ دُونَ صَغِيرٍ وَاحِدٍ لِيُعْلَمَ هَذَا الْمَعْنَى ( قَوْلُهُ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ) يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ، فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي حَقِّ وَلَدِهَا لِأَنَّ وَلَدَهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى .
وَأَقُولُ : لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هَهُنَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لَهَا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ .
وَأَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَاتَبَ وَقَبَضَ بَعْضَ الْأَلْفِ ثُمَّ عَجَزَ فَالْمَالُ لِلَّذِي قَبَضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ مُكَاتَبٌ بَيْنَهُمَا وَمَا أَدَّى فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ، لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ لِلتَّجَزُّؤِ ، وَفَائِدَةُ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا يَكُونُ لَهُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ ، وَإِذْنُهُ لَهُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ إذْنٌ لِلْعَبْدِ بِالْأَدَاءِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِهِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ كُلُّ الْمَقْبُوضِ لَهُ .
وَعِنْدَهُمَا الْإِذْنُ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ إذْنٌ بِكِتَابَةِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ ، فَهُوَ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ وَكِيلٌ فِي النِّصْفِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ .

بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ) ذَكَرَ كِتَابَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ إلَخْ ) إذَا أَذِنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَ نَفْسِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَاتَبَ وَقَبَضَ بَعْضَ الْأَلْفِ ثُمَّ عَجَزَ فَالْمَالُ لِلَّذِي قَبَضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ مُكَاتَبٌ بَيْنَهُمَا وَمَا أَدَّى فَهُوَ بَيْنَهُمَا .
وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ ، وَالْإِذْنُ لَا يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فَائِدَتُهُ انْتِفَاءَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ الْفَسْخِ إنْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَوْ مَعْنَى الْإِعْتَاقِ أَوْ مَعْنَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ ، وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَيْسَ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ الْفَسْخِ ، فَمِنْ أَيْنَ لِلْمُكَاتَبَةِ ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ تَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ وِلَايَةُ الْفَسْخِ لِمَعْنًى يُوجِبُهُ وَهُوَ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِبُطْلَانِ حَقِّ الْبَيْعِ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ بِالْكِتَابَةِ ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يُسَوَّغُ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْغَيْرُ ، ثُمَّ الْمَحَلُّ وَهِيَ الْكِتَابَةُ تَقْبَلُ الْفَسْخَ وَلِهَذَا يُفْسَخُ بِتَرَاضِيهِمَا فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى الْمَانِعُ .
وَأَمَّا الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةُ فَالْمُعَاوَضَةُ وَإِنْ قَبِلَتْ الْفَسْخَ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا ضَرَرٌ لِصَاحِبِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ لَمْ يَبْطُلْ عَلَى صَاحِبِهِ بَيْعُ نَصِيبِهِ ، وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّعْلِيقُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا

ضَرَرٌ لَكِنَّ الْمَحَلَّ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ .
أَمَّا الْإِعْتَاقُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ فَلِأَنَّهُ يَمِينٌ ( قَوْلُهُ وَإِذْنُهُ لَهُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ ) بَيَانٌ لِاخْتِصَاصِ الْمُكَاتَبِ بِالْمَقْبُوضِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ فَقَدْ أُذِنَ لِلْعَبْدِ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْكَسْبِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ الْآذِنُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِهِ مِنْ الْكَسْبِ عَلَيْهِ ، أَيْ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، فَلِهَذَا كَانَ كُلُّ الْمَقْبُوضِ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ : أَيْ فَيَكُونُ الْآذِنُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِهِ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ عَلَى الشَّرِيكِ ، فَإِذَا تَمَّ تَبَرُّعُهُ بِقَبْضِ الشَّرِيكِ لَمْ يَرْجِعْ .
فَإِنْ قِيلَ : : الْمُتَبَرِّعُ يَرْجِعُ بِمَا تَبَرَّعَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْ التَّبَرُّعِ ، كَمَنْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ اُسْتُحِقَّ فَإِنَّ لَهُ الرُّجُوعَ لِعَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ مِنْ التَّبَرُّعِ وَهُوَ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُتَبَرَّعَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُكَاتَبُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَقْصُودَ الْآذِنِ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ وَبَعْدَ الْعَجْزِ صَارَ عَبْدًا لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْبَائِعِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِوُجُوبِ دَيْنِ الْمُتَبَرِّعِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ إذْنٌ بِكِتَابَةِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ فَهُوَ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ وَكِيلٌ فِي النِّصْفِ ، وَهُوَ أَيْ الْبَدَلُ بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ ، كَمَا لَوْ كَاتَبَاهُ فَعَجَزَ وَفِي يَدِهِ مِنْ الْأَكْسَابِ .
وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَالَ إلَى قَوْلِهِمَا حَيْثُ أَخَّرَهُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا فَوَطِئَهَا أَحَدُهُمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثُمَّ عَجَزَتْ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَتَقْتَصِرُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ عَلَى نَصِيبِهِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي وَلَدَهَا الْأَخِيرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ ظَاهِرًا ، ثُمَّ إذَا عَجَزَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتْ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ الِانْتِقَالِ وَوَطْؤُهُ سَابِقٌ ( وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ ( وَنِصْفَ عُقْرِهَا ) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ( وَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ كَمَالَ عُقْرِهَا وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ابْنَهُ ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ ، لِأَنَّهُ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا ظَاهِرًا .
وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ لَكِنَّهُ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الْعُقْرِ ( وَأَيُّهُمَا دَفَعَ الْعُقْرَ إلَى الْمُكَاتَبَةِ جَازَ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فَحَقُّ الْقَبْضِ لَهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِمَنَافِعِهَا وَأَبْدَالِهَا ، وَإِذَا عَجَزَتْ تَرُدُّ الْعُقْرَ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ ( وَهَذَا ) الَّذِي ذَكَرْنَا ( كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ الْآخَرِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلُ الْوَلَدَ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَجِبُ تَكْمِيلُهَا بِالْإِجْمَاعِ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَتُفْسَخُ فِيمَا لَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47