كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

وأخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه أن بعض المكيين قال كانت الثريا تصب عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها منه شيء من عظم عجيزتها
وأخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد ابن يحيى بخبر الثريا هذا مع عمر فذكر نحوا مما ذكره الزبير وقال فيه لما أناخ ابن أبي عتيق بباب الثريا أرسلت إليه ما حاجتك قال أنا رسول عمر بن أبي ربيعة وأنشدها الشعر فقالت ابن أبي ربيعة فارغ ونحن في شغل وقد تعبت فانزل بنا فقال ما أنا إذا برسول ثم كر راجعا إلى ابن أبي ربيعة بمكة فأخبره الخبر فأصلح بينهما
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم بن إسحاق العنزي قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي وأخبرني به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية وأخبرني به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير عن مؤمن بن عمر بن أفلح بن عبد العزيز بن عمران قالوا
قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة فنزل على ابن أبي عتيق وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر فلما استلقى قال أوه
( مَنْ رسولِي إلى الثريّا فإِنِّي ... ضِقْتُ ذَرْعاً بهَجْرِها والكتابِ )

ابن أبي عتيق يبلغ رسالة نصيب إلى سلمى في طريقه إلى الثريا
فقال ابن أبي عتيق كل مملوك لي حر إن بلغها ذاك غيري فخرج حتى

إذا كان بالمصلى مر بنصيب وهو واقف فقال يا أبا محجن قال لبيك قال أتودع إلى سلمى شيئا قال نعم قال وما ذاك قال تقول لها يابن الصديق إنك مررت بي فقلت لي أتودع إليها شيئا فقلت
( أتَصْبِرُ عن سَلْمَى وأنت صَبُورُ ... وأنت بحُسْنِ العَزْمِ منكَ جَدِيرُ )
( وكِدْتُ ولم أُخْلَقْ من الطير إن بَدا ... سَنَى بَارِقٍ نحوَ الحِجَازِ أطيرُ )
قال فمر بسلمى وهي في قرية يقال لها القَسْرِيَّةُ فأبلغها الرسالة فزفرت زفرة كادت أن تفرق أضلاعها فقال ابن أبي عتيق كل مملوك لي حر إن لم يكن جوابك أحسن من رسالته ولو سمعك الآن لنعق وصار غرابا ثم مضى إلى الثريا فأبلغ الكتاب فقالت له أما وجد رسولا أصغر منك انزل فأرح فقال لست إذا برسول وسألها أن ترضى عنه ففعلت وقال الزبير في خبره فقال لها أنا رسول ابن أبي ربيعة إليك وأنشدها الأبيات وقال لها خشيت أن تضيع هذه الرسالة قالت أدى الله عنك أمانتك قال فما جواب ما تجشمته إليك قالت تنشده قوله في رملة
( وَجَلاَ بُرْدُها وقد حَسَرتْهُ ... ضوءَ بدرٍ أضاء للناظرينَا )
فقال أعيذك بالله يابنة أخي أن تغلبيني بالمثل السائر قالت وما هو قال حريص لا يرى عمله قالت فما تشاء قال تكتبين إليه بالرضا عنه كتابا يصل على يدي ففعلت فأخذ الكتاب ورجع من فوره حتى قدم مكة فأتى عمر فقال له من أين أقبلت قال من حيث أرسلتني قال وأنى ذلك قال من عند الثريا أفرخ روعك هذا كتابها بالرضا عنك إليك

حسن بن حسن بن علي يطلب إلى ابن عائشة أن يغني له
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية قال
اجتمع ابن عائشة ويونس ومالك عند حسن بن حسن بن علي عليهم السلام فقال الحسن لابن عائشة غنني من رسولي إلى الثريا فسكت عنه فلم يجبه فقال له جليس له أيقول لك غنني فلا تجيبه فسكت فقال له الحسن ما لك ويحك أبك خبال كان والله ابن أبي عتيق أجود منك بما عنده فإنه لما سمع هذا الشعر قال لابن أبي ربيعة أنا رسولك إليها فمضى نحو الثريا حتى أدى رسالته وأنت معنا في المجلس تبخل أن تغنيه لنا فقال له لم أذهب حيث ظننت إنما كنت أتخير لك أي الصوتين أغني أقوله
( مَنْ رسولِي إلى الثريّا فإِنِّي ... ضَافني الهَمُّ واعتَرَتْني الهُمُومُ )
( يَعْلَمُ اللهُ أنَّنِي مُسْتَهامٌ ... بهَوَاكُمْ وأنَّنِي مرحومُ )
أم قوله
( مَنْ رسولي إلى الثريّا فإِنِّي ... ضِقْتُ ذَرْعاً بهَجْرها والكتابِ
فقال له الحسن أسأنا بك الظن أبا جعفر غنِّ بهما جميعا فغناهما فقال له الحسن لولا أنك تغضب إذا قلنا لك أحسنت لقلت لك أحسنت والله قال ولم يزل يرددهما بقية يومه
عمر ينشد ابن أبي عتيق شعره في الثريا
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني يعقوب بن إسحاق الربعي عن أبيه قال

أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن أبي عتيق قوله
( لم تَرَ العينُ للثريّا شَبِيهاً ... بمسيلِ التِّلاَع يومَ التَقَيْنَا )
فلما بلغ إلى قوله
( ثم قالتْ لأُختها قد ظَلَمْنا ... إن رَدَدْناه خائباً واعتدَيْنَا )
قال أحسنت والهدايا وأجادت ثم أنشده ابن أبي عتيق متمثلا قول الشاعر
( أَرِينِي جَوَاداً مات هُزْلاً لعلَّنِي ... أَرَى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدَا )
فلما بلغ عمر إلى قوله في الشعر
( في خَلاَءٍ من الأَنِيسِ وأَمْنِ ... )
قال ابن أبي عتيق أمكنت للشارب الغدر من عال بعدها فلا انجبر
فلما بلغ إلى قوله
( فمكَثْنَا كذاك عَشْراً تِبَاعاً ... في قضاءٍ لِدَيْنِنَا واقْتَضَيْنَا )

قال أما والله ما قضيتها ذهبا ولا فضة ولا اقتضيتها إياه فلا عرفكما الله قبيحا فلما بلغ إلى قوله
( كان ذا في مَسِيرنا إذ حَجَجْنا ... علِم الله فيه ما قد نَوَيْنَا )
قال إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه فأرود التفسير ولئن مت لأموتن معك أف للدنيا بعدك يا أبا الخطاب فقال له عمر بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد قال فلقي الحارث بن خالد ابن أبي عتيق فقال قد بلغني ما دار بينك وبين ابن أبي ربيعة فكيف لم تتحللا مني فقال له ابن أبي عتيق يغفر الله لك يا أبا عمرو إن ابن أبي ربيعة يبرئ القرح ويضع الهناء مواضع النقب وأنت جميل الخفض فضحك الحارث بن خالد وقال حبك الشيء يعمي ويصم فقال هيهات أنا بالحسن عالم نظار

خبر السواد في ثنيتي عمر
وأما خبر السواد في ثنيتي عمر فإن الزبير بن بكار ذكره عن عمه مصعب في خبره أن امرأة غارت عليه فاعترضته بمسواك كان في يدها فضربت به ثنيتيه فاسودتا
وذكر إسحاق الموصلي عن أبي عبد الله المسيبي وأبي الحسن المدائني أنه

أتى الثريا يوما ومعه صديق له كان يصاحبه ويتوصل بذكره في الشعر فلما كشفت الثريا الستر وأرادت الخروج إليه رأت صاحبه فرجعت فقال لها إنه ليس ممن أحتشمه ولا أخفي عنه شيئا واستلقى فضحك وكان النساء إذ ذاك يتختمن في أصابعهن العشر فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها فأصابت الخواتيم ثنيتيه العُلْيَيَيْن فَنَغَضَتَا وكادتا تسقطان فقدم البصرة فعولجتا له فثبتتا واسودتا فقال الحزين الكناني يعيره بذلك وكان عدوه وقد بلغه خبره
( ما بالُ سِنَّيْكَ أمْ ما بالُ كَسْرِهما ... أهكذا كُسِرَا في غيرِ ما بَاسِ )
( أم نَفْحَةٌ من فتاةٍ كنتَ تألَفُها ... أم نالَها وَسْطَ شَرْبٍ صَدْمةُ الكاسِ )
قال ولقيه الحزين الكناني يوما فأنشده هذين البيتين فقال له عمر اذهب اذهب ويلك فإنك لا تحسن أن تقول

صوت
( ليتَ هنداً أنجزتْنا ما تَعِدْ ... وشَفَتْ أنفسَنا مما تَجِدْ )
( واستبدّتْ مرةً واحدةً ... إنّما العاجزُ مَنْ لا يَستبدّ )
لابن سريج في هذا الشعر رمل بالخنصر في مجرى البصر عن إسحاق

وخفيف رمل أيضا في هذه الإصبع وهذا المجرى عن ابن المكي ولمالك فيه ثقيل أول عن الهشامي ولمتيم ثاني ثقيل عن ابن المعتز وذكر أحمد ابن أبي العلاء عن مخارق أن خفيف الرمل ليحيى المكي صنعه وحكى فيه لحن هذا الصوت
( اسْلَمِي يا دارُ مِنْ هند ... )
خبر الثريا مع الحارث القباع
حدثني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن رجاله المذكورين
أن الثريا واعدت عمر بن أبي ربيعة أن تزوره فجاءت في الوقت الذي ذكرته فصادفت أخاه الحارث قد طرقه وأقام عنده ووجه به في حاجة له ونام مكانه وغطى وجهه بثوبه فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله فانتبه وجعل يقول اعزبي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله فلما علمت بالقصة انصرفت ورجع عمر فأخبره الحارث بخبرها فاغتم لما فاته منها وقال أما والله لا تمسك النار أبدا وقد ألقت نفسها عليك فقال له الحارث عليك وعليها لعنة الله
وأخبرني بهذه القصة الحرمي ابن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن يعقوب ابن إسحاق الربعي عن الثقة عنده عن ابن جريج عن عثمان بن حفص الثقفي

أن الحارث بن عبد الله زار أخاه ثم ذكر نحوا من الذي ذكره إسحاق وقال فيه فبلغ عمر خبرها فجاء إلى أخيه الحارث وقال له جعلت فداءك ما لك ولأمة الوهاب ابنتك أتتك مسلمة عليك فلعنتها وزجرتها وتهددتها وها هي تيك باكية فقال وإنها لهي قال ومن تراها تكون قال فانكسر الحارث عنه وعن لومه

خبر زواج الثريا
أخبرني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم عن جعفر ابن سعيد عن أبي سعيد مولى فائد هكذا قال إسحاق وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني جعفر بن سعيد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ورواه أيضا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جعفر بن سعيد فقال فيه عن أبي عبيدة العماري ولم يذكر أبا سعيد مولى فائد قالوا
تزوج سهيل بن عبد العزيز بن مروان الثريا وقال الزبير بل تزوجها أبو الأبيض سهيل بن عبد الرحمن بن عوف فحملت إليه وهو بمصر والصواب قول من قال سهيل بن عبد العزيز لأنه كان هناك منزله ولم يكن لسهيل بن عبد الرحمن هناك موضع فقال عمر
صوت
( أيُّها المُنْكِحُ الثريَّا سُهَيلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كيف يَلْتقيانِ )

( هي شاميَّةٌ إذَا ما اسْتَقَلَّتْ ... وسُهَيلٌ إذا استقَلَّ يَمَانِي )
الغناء للغريض خفيف ثقيل بالبنصر وفيه لعبد الله بن العباس ثاني ثقيل بالبنصر وأول هذه القصيدة
( أيُّها الطارِق الذي قد عَنَانِي ... بعد ما نام سَامِرُ الرُّكْبانِ )
( زار مِنْ نازِحٍ بغير دليلٍ ... يَتَخَطَّى إليَّ حتى أَتَانِي )

عمر يعلم بزواج الثريا وهو في اليمن
وذكر الرياشي عن ابن زكريا الغلابي عن محمد بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد المخزومي قال
كان عمر بن أبي ربيعة قد ألح على الثريا بالهوى فشق ذلك على أهلها ثم إن مسعدة بن عمرو أخرج عمر إلى اليمن في أمر عرض له وتزوجت الثريا وهو غائب فبلغه تزويجها وخروجها إلى مصر فقال
( أيّها المنكح الثريّا سهيلاً ... عمرَك الله كيف يلتقيانِ )
وذكر الأبيات وقال في خبره ثم حمله الشوق على أن سار إلى المدينة فكتب إليها
( كتبتُ إليكِ من بلدي ... كتابَ مُوَلَّهٍ كَمِدِ )
( كَئِيبٍ وَاكِفِ العينين ... بالحَسَراتِ منفردِ )

( يُؤَرِّقُه لَهِيبُ الشَّوقِ ... بين السَّحْرِ والكِبِدِ )
( فيُمْسِكُ قلبَه بيدٍ ... ويَمْسَحُ عينَه بيدِ )
وكتبه في قوهية وشنفه وحسنه وبعث به إليها فلما قرأته بكت بكاء شديدا ثم تمثلت
( بنفسيَ مَنْ لا يستقِلُّ بنفسِه ... ومَنْ هو إن لم يَحْفَظِ اللهُ ضائعُ )
وكتبت إليه تقول
( أتاني كتابٌ لم يَرَ الناسُ مثلَه ... أُمِدَّ بكَافُورٍ ومِسْكٍ وعَنْبَرِ )
( وقِرْطَاسُه قُوهِيَّةٌ ورِيَاطُه ... بعِقْدٍ من الياقوتِ صافٍ وجَوْهرِ )
( وفي صَدْرِه مِنِّي إليكِ تحيَّةٌ ... لقد طال تَهْيَامِي بكم وتذكُّرِي )
( وعُنْوانُه منْ مُسْتَهامٍ فؤادُه ... إلى هائمٍ صَبٍّ من الحُزْنِ مُسْعَرِ )
قال مؤلف هذا الكتاب وهذا الخبر عندي مصنوع وشعره مضعف يدل على ذلك ولكني ذكرته كما وقع إلي
قال أبو سعيد مولى فائد ومن ذكر خبره مع الثريا فمات عنها سهيل أو طلقها فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في دين عليها فبينا

هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إذ دخل عليها الوليد فقال من هذه فقالت الثريا جاءتني تطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها فأقبل عليها الوليد فقال أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا قالت نعم أما إنه يC كان عفيفا عفيف الشعر أروي قوله

صوت
( ما عَلَى الرَّسْمِ بالبُلَيَّيْنِ لو بيَّن ... رَجْعَ السَّلاَمِ أو لو أَجَابَا )
( فإلى قَصْرِ ذي العُشَيرةِ فالصائِفِ ... أَمْسَى من الأنيس يَبَابَا )
( وبما قد أَرَى به حَيَّ صِدْقٍ ... ظاهري العيشِ نَعْمةً وشبابَا )
( إذ فؤادي يَهْوَى الرَّبَابَ وأنَّى الدَّهرَ ... حتَّى المَمَاتِ أَنْسَى الرَّبَابَا )
( وحِسَاناً جَوَارِياً خَفِرَاتٍ ... حافظاتٍ عند الهوى الأَحْسَابَا )
( لا يُكَثِّرْنَ في الحديثِ ولا يتبعن ... يَنْعِقْنَ بالبِهَامِ الظِّرَابَا )
فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت منه فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها لله درُّ

الثريا أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر قالت لا قال إني لما عرضت لها به عرضت لي بأن أمي أعرابية وأم الوليد وسليمان ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي
الغناء في الأبيات التي أنشدتها الثريا الوليد بن عبد الملك لمالك بن أبي السمح خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيها لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أيضا أن فيها لابن مسجح خفيف رمل بالوسطى وذكر عمرو بن بانة أن لابن محرز فيها خفيف ثقيل بالوسطى
ومما يغنى فيه من أشعار عمر بن أبي ربيعة التي قالها في الثريا من القصيدة التي أولها من رسولي

صوت
( وَتَبَدَّتْ حتّى إذا جُنَّ قلبي ... حال دونِي وَلاَئِدٌ بالثِّيَابِ )
( يا خليليَّ فاعلَما أنّ قلبي ... مُسْتَهامٌ برَبَّةِ المِحْرابِ )
الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( أُقْتُلِيني قتلاً سَرِيعاً مُرِيحاً ... لا تَكُونِي عليَّ سَوْطَ عَذَابِ )
( شَفَّ عنها مُحَقَّقٌ جَنَدِيٌّ ... فهي كالشمس من خِلاَلِ السَّحَاب )

الغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو ومنها

صوت
( قال لي صاحبي ليَعْلَمَ ما بي ... أتُحِبُّ البَتُولَ أُختَ الرَّبَابِ )
( قلتُ وَجْدِي بها كَوَجْدِك بالماءِ ... إذا ما مُنِعْتَ بَرْدَ الشَّرَابِ )
الغناء لمالك رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق ومنها
صوت
( أَذْكَرَتْني من بَهْجةِ الشمسِ لَمَّا ... بَرَزَت من دُجُنَّةٍ وسَحَابِ )
( أَزْهَقَتْ أمُّ نَوْفَلٍ إذ دعتْها ... مُهْجَتي ما لقاتلي مِنْ مَتَابِ )
( حين قالت لها أجيبي فقالتْ ... مَنْ دعاني قالتْ أبو الخَطَّابِ )
الغناء للغريض خفيف رمل عن الهشامي وحماد بن إسحاق
ومنها
صوت
( مَرْحَباً ثم مرحباً بالّتي قالتْ ... غَدَاةَ الوَدَاعِ عند الرَّحِيلِ )
( للثُّرَيَّا قُولِي له أنتَ هَمِّي ... ومُنَى النَّفْسِ خالياً وخَلِيلي )
الغناء لابن محرز ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
ومنها

صوت
( زَعَمُوا بأنّ البَيْنَ بعدَ غَدٍ ... فالقلبُ مما أَزْمعُوا يجفُ )
( تَشْكُو ويشكو ما أَشَتَّ بنا ... كلٌّ لِوَشْكِ البَيْن يَعْترِفُ )
( حَلَفُوا لقد قَطَعُوا ببَيْنِهمُ ... وحَلَفْتُ ألفاً مثلَ ما حلَفُوا )
الغناء للغريض خفيف ثقيل بالوسطى
ومنها
صوت
( فَلَوتْ رأسَها ضِرَاراً وقالتْ ... لا وَعَيْشِي ولو رأيتُك مِتَّا )
( حِينَ آثَرْتَ بالمودّةِ غَيْرِي ... وَتَنَاسَيْتَ وَصْلَنا ومَلِلْتَا )
( قد وَجَدْنَاكَ إذ خُبِرْتَ مَلُولاً ... طَرِفاً لم تَكُنْ كما كنتَ قُلْتَا )
الغناء لمالك رمل ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي وكذا روته دنانير عن فليح وقد نسب قوم لحن مالك إلى الغريض
ومنها
صوت
( يا خَلِيلَيَّ سائلا الأَطْلالا ... ومَحَلاًّ بالرَّوْضَتَيْنِ أَحَالا )

ويروى
( بالبُلَيَّيْنِ إن أَحَرْنَ سُؤالاَ ... )
( وسَفَاهٌ لولا الصَّبَابَةُ حَبْسِي ... في رُسُومِ الدِّيارِ رَكْباً عِجَالاَ )
( بعدَما أَقْفَرتْ من آلِ الثريَّا ... وأجَدَّتْ فيها النِّعَاجُ ظِلاَلاَ )
الغناء لابن سريج هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لحكم الوادي ثقيل أول من جامع أغانيه وذكر ابن دينار أن فيه لابن عائشة لحنا لم يذكر طريقته وذكر إبراهيم أن فيه لدحمان لحنا ولم يجنسه وقال حبش فيه لإسحاق ثقيل أول بالوسطى

عمر يتبع الثريا في أثناء ارتحالها إلى الشام مع زوجها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو عبد الله التميمي يعني أبا العيناء عن القحذمي عن أبي صالح السعدي قال
لما تزوج سهيل بن عبد العزيز الثريا ونقلها إلى الشأم بلغ عمر بن أبي ربيعة الخبر فأتى المنزل الذي كانت الثريا تنزله فوجدها قد رحلت منه يومئذ فخرج في أثرها فلحقها على مرحلتين وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه ومشى متنكرا حتى مر بالخيمة فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومشيته فقالت لحاضنتها كلميه فسلمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه فاعتذر وبكى فبكت الثريا فقالت ليس

هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل فحادثها إلى وقت طلوع الفجر ثم ودعها وبكيا طويلا وقام فركب فرسه ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون ثم أتبعهم بصره حتى غابوا وأنشأ يقول
( يا صاحبيَّ قِفَا نَسْتَخبِرِ الطَّلَلاَ ... عن حالِ مَنْ حَلَّه بالأمسِ ما فَعَلاَ )
( فقال لي الرَّبْعُ لمّا أن وَقَفْتُ به ... إنّ الخَلِيطَ أَجَدَّ البَيْنَ فاحْتَمَلاَ )
( وخادَعتْكَ النَّوَى حتى رأيتَهمُ ... في الفَجْرِ يَحْتَثُّ حَادِي عِيسِهم زَجِلا )
( لمّا وَقَفْنا نُحَيِّيهم وقد صَرَخَتْ ... هَوَاتِفُ البَيْنِ واستولتْ بهم أصُلاَ )
( صَدّتْ بِعَاداً وقالتْ لِلّتي معها ... بالله لُومِيهِ في بعضِ الذي فَعَلاَ )
( وحَدِّثِيه بما حُدِّثْتِ واسْتَمِعي ... ماذا يقول ولا تَعْيي به جَدَلاَ )
( حتى يَرى أنّ ما قال الوُشَاةُ له ... فينا لَدَيْه إلينا كلُّه نُقَلاَ )
( وعَرِّفِيهِ به كالهَزْلِ واحتفظي ... في بعضِ مَعْتَبةٍ أن تُغْضِبي الرجُلاَ )
( فإِنَّ عَهْدِي بهِ واللهُ يَحْفَظُه ... وإن أَتَى الذنبَ ممن يَكْرَه العَذَلا )
( لو عندنا اغْتِيبَ أو نِيلَتْ نقيصتُه ... ما آبَ مُغتابُه من عندِنا جَذِلاَ )
( قلتُ اسمَعِي فلقد أَبْلَغَتِ في لَطَفٍ ... وليس يَخْفَى على ذي اللُّبِّ مَنْ هَزَلاَ )
( هذا أرادتْ به بُخْلاَّ لأَعْذِرَها ... وقد أَرَىَ أنها لن تَعْدَمَ العِللاَ )

( ما سُمِّي القلبُ إلاّ من تَقَلُّبه ... ولا الفؤاد فؤاداً غيرَ أَنْ عَقَلاَ )
( أمّا الحديث الذي قالت أُتيتَ به ... فما عَبَأْتُ به إذ جاءني حِوَلاَ )
( ما إن أَطَعْتُ بها بالغَيْبِ قد عَلِمتْ ... مقالهَ الكاشح الواشي إذا مَحُلاَ )
( إني لأَرْجِعُه فيها بسَخْطَته ... وقد يرىَ أنّه قد غرّني زَلَلاَ )
وهي قصيدة طويلة مذكورة في شعره

الغريض يطلب شعرا ينوح به على الثريا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر ومحمد بن خلف بن المرزبان قالوا حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا محمد بن يحيى قال زعم عبيد بن يعلى قال حدثني كثير بن كثير السهمي قال
لما ماتت الثريا أتاني الغريض فقال لي قل أبيات شعر أنح بها على الثريا فقلت
صوت
( أَلا يا عينُ مالَكِ تَدْمَعِينا ... أمن رَمَدٍ بَكَيْتِ فتُكْحَلِينَا )
( أمَ أنت حَزِينةٌ تَبْكِينَ شَجْواً ... فشَجْوُكِ مثلُه أَبْكَى العيونَا )
غنى الغريض في هذين البيتين لحنا من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو ويحيى المكي والهشامي وغيرهم
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي قال حدثني إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبد الله عن أبيه

عن جده عن ثعلبة بن عبد الله بن صعير
أن عمر بن أبي ربيعة نظر في الطواف إلى امرأة شريفة فرأى أحسن خلق الله صورة فذهب عقله عليها وكلمها فلم تجبه فقال فيها
( الرَّيحُ تَسْحَب أَذْيالاً وتَنْشُرها ... يا ليتني كنتُ ممَّن تَسحَب الريحُ )
( كَيْما تَجُرُّ بنا ذَيْلاً فتَطْرَحُنا ... على التي دونَها مُغْبَرَّةٌ سُوحُ )
( أَنَّى بقُرْبِكُم أم كيفَ لي بِكُمُ ... هَيْهاتَ ذلكَ ما أَمْسَتْ لنا رُوحُ )
( فليتَ ضِعُفَ الذي أَلْقَى يكونُ بها ... بل ليت ضِعْفَ الذي أَلْقَى تَبَارِيحُ )
( إحْدَى بُنَيَّاتِ عَمِّي دون منزلها ... أرضٌ بقيعانها القَيْصُومُ والشِّيحُ )
فبلغها شعره فجزعت منه فقيل لها اذكريه لزوجك فإنه سينكر عليه قوله فقالت كلا والله لا أشكوه إلا إلى الله ثم قالت اللهم إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح فضرب الدهر من ضربه ثم إنه غدا يوما على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمي وورم به ومات من ذلك

أخبار ابن سريج ونسبه
نسب ابن سريج
هو عبيد بن سريج ويكنى أبا يحيى مولى بني نوفل بن عبد مناف وذكر ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين أنه مولى لبني الحارث بن عبد المطلب
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان قال ابن سريج مولى لبني الحارث بن عبد المطلب
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان قال ابن سريج مولى لبني ليث ومنزله مكة
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال سألت الحسن بن عتبة اللهبي عن ابن سريج فقال هو مولى لبني عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وفي بني عائذ يقول الشاعر
( فإِن تَصْلُحْ فإِنّكَ عائِذيٌّ ... وصُلْحُ العائِذِيِّ إلى فَسَادِ )
قال إسحاق وقال سلمة بن نوفل بن عمارة بن سريج مولى عبد الرحمن ابن أبي حسين بن الحارث بن نوفل أو ابن عامر بن الحارث بن نوفل بن عبد مناف

أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن أبي أيوب المديني قال ذكر إبراهيم بن زياد بن عنبسة بن سعيد بن العاص

بعض من أوصافه
أن ابن سريج كان آدم أحمر ظاهر الدم سِنَاطاً في عينيه قَبَلٌ بلغ خمسا وثمانين سنة وصلع فكان يلبس جمة مركبة وكان أكثر ما يرى مقنعا وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر
وقال ابن الكلبي عن أبيه قال كان ابن سريج مخنثا أحول أعمش يلقب وجه الباب وصلع فكان يلبس جمة وكان لا يغني إلا مقنعا يسبل القناع على وجهه
وقال ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين كان ابن سريج أحسن الناس غناء وكان يغني مرتجلا ويوقع بقضيب وغنى في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ومات في خلافة هشام بن عبد الملك
قال إسحاق وكان الحسن بن عتبة اللهبي يروي مثل ذلك فيه وذكر أن قبره بنخلة قريبا من بستان ابن عامر
قال إسحاق وحدثني الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان قال كان عبيد بن

سريج من أهل مكة وكان أحسن الناس غناء قال إسحاق قال عمارة بن أبي طرفة الهذلي سمعت ابن جريج يقول عبيد بن سريج من أهل مكة مولى آل خالد ابن أسيد
قال إسحاق وحدثني إبراهيم بن زياد عن أيوب بن سلمة المخزومي قال كان في عين ابن سريج قبل حلو لا يبلغ أن يكون حولا وغنى في خلافة عثمان رضي الله عنه ومات بعد قتل الوليد بن يزيد وكان له صلع في جبهته وكان يلبس جمة مركبة فيكون فيها أحسن شيء وكان يلقب وجه الباب ولا يغضب من ذلك وكان أبوه تركيا
وقال أبو أيوب المديني كان ابن سريج فيما روينا عن جماعة من المكيين مولى بني جندع بن ليث بن بكر وكان إذا غنى سدل قناعه على وجهه حتى لا يرى حوله وكان يوقع بقضيب وقيل إنه كان يضرب بالعود وكانت علته التي مات منها الجذام
قال إسحاق وحدثني أبي قال أخبرني من رأى عود ابن سريج وكان على صنعة عيدان الفرس وكان ابن سريج أول من ضرب به على الغناء العربي بمكة وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة فأعجب أهل مكة غناؤهم فقال ابن سريج أنا أضرب بهم على غنائه فضرب به فكان أحذق الناس
قال إسحاق وذكر الزبيري أن أم ابن سريج مولاة لآل المطلب يقال لها رائقة وقيل بل أمه هند أخت رائقة فمن ثم قيل إنه مولى بني المطلب بن حنطب وكان ابن سريج بعد وفاة عبد الله بن جعفر قد انقطع إلى الحكم بن

المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب أحد بني مخزوم وكان من سادة قريش ووجوهها وأخذ ابن سريج الغناء عن ابن مسجح

المغنون الأربعة المعدودون أصولا للغناء العربي
قال إسحاق وأصل الغناء أربعة نفر مكيان ومدنيان فالمكيان ابن سريج وابن محرز والمدنيان معبد ومالك
قال إسحاق وقال سلمة بن نوفل بن عمارة أخبرني بذلك من شئت من مشيختنا أن يوما شهر فيه ابن سريج بالغناء في ختان ابن مولاه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال لأم الغلام خفضي عليك بعض الغرم والكلفة فوالله لألهين نساءك حتى لا يدرين ما جئت به ولا ما عزمت عليه
قال إسحاق وسألت هشام بن المرية وكان قد عمر وكان عالما بالغناء فلا يبارى فيه فقلت له من أحذق الناس بالغناء فقال لي أتحب الإطالة أم الاختصار فقلت أحب الاختصار الذي يأتي على سؤالي قال ما خلق الله تعالى بعد داود النبي عليه الصلاة و السلام أحسن صوتا من ابن سريج ولا صاغ الله عز و جل أحدا أحذق منه بالغناء ويدلك على ذلك أن معبدا كان إذا أعجبه

غناؤه قال أنا اليوم سريجي
قال وأخبرني إبراهيم يعني أباه قال أدركت يونس بن محمد الكاتب فحدثني عن الأربعة ابن سريج وابن محرز والغريض ومعبد فقلت له من أحسن الناس غناء فقال أبو يحيى قلت عبيد بن سريج قال نعم قلت وكيف ذاك قال إن شئت فسرت لك وإن شئت أجملت قلت أجمل قال كأنه خلق من كل قلب فهو يغني لكل إنسان ما يشتهي
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال قال حماد بن إسحاق أخبرني أبي عن الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال سألت إبراهيم الموصلي ليلة وقد أخذ منه النبيذ من أحسن الناس غناء فقال لي من الرجال أم من النساء فقلت من الرجال فقال ابن محرز قلت ومن النساء قال ابن سريج ثم قال لي إن كان ابن سريج إلا كأنه خلق من كل قلب فهو يغني له ما يشتهي
أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال أرسلني محمد بن الحسين بن مصعب إلى إسحاق أسأله عن لحنه ولحن ابن سريج في
( تَشَكَّى الكُمَيتُ الجَرْي لمَّا جَهَدْتُه ... )
أيهما أحسن فصرت إليه فسألته عن ذلك فقال لي يا أبا الحسن والله لقد أخذت بخطام راحلته فزعزعتها وأنختها وقمت بها فما بلغته فرجعت إلى محمد بن الحسين فأخبرته فقال والله إنه ليعلم أن لحنه أحسن من لحن ابن

سريج ولقد تحامل لابن سريج على نفسه ولكن لا يدع تعصبه للقدماء وقد أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى هذا الخبر عن أبيه فذكر نحو ما ذكره جحظة في خبره ولم يقل أرسلني محمد بن الحسين إلى إسحاق وقال جحظة في خبره قال علي بن يحيى وقد صدق محمد بن الحسين لأنه قلما غني في

صوت
واحد لحنان فسقط خيرهما والذي في أيدي الناس الآن من اللحنين لحن إسحاق وقد ترك لحن ابن سريج فقل من يسمعه إلا من العجائز المتقدمات ومشايخ المغنين هذا أو نحوه
وأخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن إبراهيم بن علي بن هشام قال يقولون إن ابتداء غناء إسحاق الذي في
( تَشَكَّى الكُمَيْتُ الجَرْيَ لمّا جَهَدْتُه ... )
إنما أخذه من صوت الأبجر
( يقولون ما أَبْكاكَ والمالُ غَامِرٌ ... )
نسبة هذا الصوت
صوت
( يقولون ما أبكاكَ والمالُ غامرٌ ... عليكَ وضاحِي الجلدِ منكَ كَنِينُ )
( فقلتُ لهم لا تَسْألُونِيَ وانظُروا ... إلى الطَّرِبِ النَّزَّاعِ كيفَ يكونُ )

غناه الأبحر ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو ودنانير وذكر الهشامي أن فيه لعزة المرزوقية ثاني ثقيل بالوسطى

اشتغال ابن سريج بالغناء بعد أن كان نائحا
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني إبراهيم بن المهدي قال حدثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال
كان ابن سريج أول من غنى الغناء المتقن بالحجاز بعد طويس وكان مولده في خلافة عمر بن الخطاب وأدرك يزيد بن عبد الملك وناح عليه ومات في خلافة هشام قال وكان قبل أن يغني نائحا ولم يكن مذكورا حتى ورد الخبر مكة بما فعله مسرف بن عقبة بالمدينة فعلا على أبي قبيس وناح بشعر هو اليوم داخل في أغانيه وهو
( يا عينُ جُودِي بالدُّمُوعِ السِّفَاح ... وابكي على قَتْلَى قُرَيْشِ البِطَاح )
فاستحسن الناس ذلك منه وكان أول ما ندب به
سكينة بنت الحسين وابن سريج
قال بن جامع وحدثني جماعة من شيوخ أهل مكة أنهم حدثوا أن سكينة بنت الحسين عليهما السلام بعثت إلى ابن سريج بشعر أمرته أن يصوغ فيه لحنا يناح به فصاغ فيه وهو الآن داخل في غنائه والشعر

( يا أرضُ وَيْحكِ اكْرِمِي أمواتِي ... فلقد ظَفِرْتِ بسادتِي وحُمَاتِي )
فقدمه ذلك عند أهل الحرمين على جميع ناحة مكة والمدينة والطائف
قال وحدثني ابن جامع وابن أبي الكنات جميعا أن سكينة بعثت إليه بمملوك لها يقال له عبد الملك وأمرته أن يعلمه النياحة فلم يزل يعلمه مدة طويلة ثم توفي عمها أبو القاسم محمد بن الحنفية عليه السلام وكان ابن سريج عليلا علة صعبة فلم يقدر على النياحة فقال لها عبدها عبد الملك أنا أنوح لك نوحا أنسيك به نوح ابن سريج قالت أو تحسن ذاك قال نعم فأمرته فناح فكان نوحه في الغاية من الجودة وقال النساء هذا نوح غريض فلقب عبد الملك الغريض وأفاق ابن سريج من علته بعد أيام وعرف خبر وفاة ابن الحنفية فقال لهم فمن ناح عليه قالوا عبد الملك غلام سكينة قال فهل جوز الناس نوحه قالوا نعم وقدمه بعضهم عليك فحلف ابن سريج ألا ينوح بعد ذلك اليوم وترك النوح وعدل إلى الغناء فلم ينح حتى ماتت حبابة وكانت قد أخذت عنه وأحسنت إليه فناح عليها ثم ناح بعدها على يزيد بن عبد الملك ثم لم ينح بعده حتى هلك قال ولما عدل ابن سريج عن النوح إلى الغناء عدل معه الغريض إليه فكان لا يغني صوتا إلا عارضه فيه

ابن سريج وعطاء بن أبي رباح
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال

حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي وأنا حاضر أن يحيى المكي حدثه أن عطاء بن أبي رباح لقي ابن سريج بذي طوى وعليه ثياب مصبغة وفي يده جرادة مشدودة الرجل بخيط يطيرها ويجذبها به كلما تخلفت فقال له عطاء يا فتان ألا تكف عما أنت عليه كفى الله الناس مؤنتك فقال ابن سريج وما على الناس من تلويني ثيابي ولعبي بجرادتي فقال له تفتنهم أغانيك الخبيثة فقال له ابن سريج سألتك بحق من تبعته من أصحاب رسول الله وبحق رسول الله عليك إلا ما سمعت مني بيتا من الشعر فإن سمعت منكرا أمرتني بالإمساك عما أنا عليه وأنا أقسم بالله وبحق هذه البنية لئن أمرتني بعد استماعك مني بالإمساك عما أنا عليه لأفعلن ذلك فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج وقال قل فاندفع يغني بشعر جرير

صوت
( إنّ الذين غَدَوْا بُلبِّكَ غادَرُوا ... وَشَلاً بِعينِك لا يزال مَعِينَا )
( غَيَّضْنَ مِن عَبَراتهنّ وقُلْنَ لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينَا )
لحن ابن سريج هذا ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي والهشامي وله أيضا فيه رمل ولإسحاق فيه رمل آخر بالوسطى وفيه هزج بالوسطى ينسب إلى ابن سريج والغريض قال فلما سمعه عطاء اضطرب إضطراباً شديدا ودخلته أريحية فحلف ألا يكلم أحدا بقية يومه إلا بهذا الشعر وصار إلى مكانه من المسجد الحرام فكان كل من يأتيه سائلا عن حلال أو حرام أو خبر من الأخبار لا

يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلى المغرب ولم يعاود ابن سريج بعد هذا ولا تعرض له

ابن سريج ويزيد بن عبد الملك
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه وأخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني إسحاق عن ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب قال
لما قال عمر بن أبي ربيعة
( نظَرتُ إليها بالمُحَصَّبِ من مِنًى ... ولي نَظَرٌ لولا التَّحَرُّجُ عَارِمُ )
غني فيه ابن سريج
قال وحج يزيد بن عبد الملك في تلك السنة بالناس وخرج عمر بن أبي ربيعة ومعه ابن سريج على نجيبين رحالتاهما ملبستان بالديباج وقد خضبا النجيبين ولبسا حلتين فجعلا يتلقيان الحاج ويتعرضان للنساء إلى أن أظلم الليل فعدلا إلى كثيب مشرف والقمر طالع يضيء فجلسا على الكثيب وقال عمر لابن سريج غنني صوتك الجديد فاندفع يغنيه فلم يستتمه إلا وقد طلع عليه رجل راكب على فرس عتيق فسلم ثم قال أيمكنك أعزك الله أن ترد هذا الصوت قال نعم ونعمة عين على أن تنزل وتجلس معنا قال أنا أعجل من ذلك فإن أجملت وأنعمت أعدته وليس عليك من وقوفي شيء ولا مؤنة فأعاده فقال له بالله أنت ابن سريج قال نعم قال حياك الله وهذا عمر بن أبي ربيعة قال نعم قال حياك الله يا أبا الخطاب فقال له وأنت فحياك الله قد

عرفتنا فعرفنا نفسك قال لا يمكنني ذلك فغضب ابن سريج وقال والله لو كنت يزيد بن عبد الملك لما زاد فقال له أنا يزيد بن عبد الملك فوثب إليه عمر فأعظمه ونزل ابن سريج إليه فقبل ركابه فنزع حلته وخاتمه فدفعهما إليه ومضى يركض حتى لحق ثقله فجاء بهما ابن سريج إلى عمر فأعطاه إياهما وقال له إن هذين بك أشبه منهما بي فأعطاه عمر ثلثمائة دينار وغدا فيهما إلى المسجد فعرفهما الناس وجعلوا يتعجبون ويقولون كأنهما والله حلة يزيد بن عبد الملك وخاتمه ثم يسألون عمر عنهما فيخبرهم أن يزيد بن عبد الملك كساه ذلك

ابن سريج يغني في طريق الحاج
وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة أيضا قال وحدثني ابن عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
حج عمر بن أبي ربيعة في عام من الأعوام على نجيب له مخضوب بالحناء مشهر الرحل بقراب مذهب ومعه عبيد بن سريج على بغلة له شقراء ومعه غلامه جناد يقود فرسا له أدهم أغر محجلا وكان عمر بن أبي ربيعة يسميه الكوكب في عنقه طوق ذهب وجناد هذا هو الذي يقول فيه
صوت
( فقلتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتملْ ... عليه برِفْقٍ وارقُبِ الشمسَ تَغْرُبِ )
( وأسْرِجْ لي الدَّهْمَاءَ واعجَلُ بممطري ... ولا تُعلِمَنْ خَلْقاً مِن الناس مَذْهَبي )

الغناء لزرزر غلام المارقي خفيف ثقيل وهو أجود صوت صنعه قال ومع عمر جماعة من حشمه وغلمانه ومواليه وعليه حلة موشية يمانية وعلى ابن سريج ثوبان هرويان مرتفعان فلم يمرّوا بأحد إلا عجب من حسن هيئتهم وكان عمر من أعطر الناس وأحسنهم هيئة فخرجوا من مكة يوم التروية بعد العصر يريدون منى فمروا بمنزل رجل من بني عبد مناف بمنى قد ضربت عليه فساطيطه وخيمه ووافى الموضع عمر فأبصر بنتا للرجل قد خرجت من قبتها وستر جواريها دون القبة لئلا يراها من مر فأشرف عمر على النجيب فنظر إليها وكانت من أحسن النساء وأجملهن فقال لها جواريها هذا عمر بن أبي ربيعة فرفعت رأسها فنظرت إليه ثم سترتها الجواري وولائدها عنه وبطن دونها بسجف القبة حتى دخلت ومضى عمر إلى منزله وفساطيطه بمنى وقد نظر من الجارية إلى ما تيمه ومن جمالها إلى ما حيره فقال فيها
( نظَرتُ إليها بالمُحَصَّبِ من مِنى ... ولي نَظَرٌ لولا التَّحَرُّج عَارِمُ )
( فقلتُ أشمسٌ أم مصَابِيحُ بِيعَةٍ ... بدتْ لك خَلْفَ السَّجْفِ أم أنت حالمُ )
( بعيدةُ مهْوى القُرْطِ إمّا لَنَوْفَلٌ ... أبوها وإما عبدُ شمسٍ وهاشمُ )
( ومَدّ عليها السّجْفَ يومَ لَقِيتُها ... على عَجَلٍ تُبَّاعُها والخَوَادِمُ )
( فلم استطِعْها غير أن قد بدا لنا ... على الرّغْم منها كَفُّها والمَعَاصِمُ )
( معاصِمُ لم تَضْرِبْ على البَهْم بالضُّحَى ... عَصَاها ووجهٌ لم تَلحْه السَّمَائِمُ )
( نَضِيرٌ تَرَى فيه أسَارِيعَ مائه ... صَبيحٌ تُغَادِيه الأكُفُّ النَّواعِمُ )

( إذا ما دعتْ أترابَها فاكتَنَفْنَها ... تَمَايَلْنَ أو مالتْ بهنَّ المآكِمُ )
( طَلَبْنَ الصِّبَا حتى إذا ما أَصَبْنَه ... نَزَعْنَ وهنّ المُسْلِماتُ الظَّوَالمُ )
ثم قال عمر لابن سريج يا أبا يحيى إني تفكرت في رجوعنا مع العشية إلى مكة مع كثرة الزحام والغبار وجلبة الحاج فثقل علي فهل لك أن تروح رواحا طيبا معتزلا فنرى فيه من راح صادرا إلى المدينة من أهلها ونرى أهل العراق وأهل الشام ونتعلل في عشيتنا وليلتنا ونستريح قال وأنى ذلك يا أبا الخطاب قال على كثيب أبي شحوة المشرق على بطن يأجج بين منى وسرف فنبصر مرور الحاج بنا ونراهم ولا يرونا قال ابن سريج طيب والله يا سيدي فدعا بعض خدمه فقال اذهبوا إلى الدار بمكة فاعملوا لنا سفرة واحملوها مع شراب إلى الكثيب حتى إذا أبردنا ورمينا الجمرة صرنا إليكم قال والكثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على طريق المدينة وطريق الشام وطريق العراق وهو كثيب شامخ مستدق أعلاه منفرد عن الكثبان فصارا إليه فأكلا وشربا فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدف فنقره وجعل يغني وهم ينظرون إلى الحاج فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته يغني في الشعر الذي قاله عمر فسمعه الركبان فجعلوا يصيحون به يا صاحب الصوت أما تتقي الله قد حبست الناس عن مناسكهم فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته وقد أخذ فيه الشراب فيقف آخرون إلى أن مرت قطعة من الليل فوقف عليه في الليل رجل على فرس عتيق عربي مرح مستن

فهو كأنه ثمل حتى وقف بأصل الكثيب وثنى رجله على قربوس سرجه ثم نادى يا صاحب الصوت أيسهل عليك أن ترد شيئا مما سمعته قال نعم ونعمة عين فأيها تريد قال تعيد علي
( ألاَ يا غُرَابَ البَيْنِ مالكَ كلما ... نَعَبْتَ بِفقْدانٍ عليَّ تَحُومُ )
( أبِالبين من عَفْرَاءَ أنت مُخَبِّري ... عَدِمْتُك مِنْ طيرٍ فأنت مَشُومُ )
قال والغناء لابن سريج فأعاده ثم قال ابن سريج ازدد إن شئت فقال غني
( أمَسْلَم إنِّي يابنَ كلّ خَلِيفَةٍ ... ويا فارسَ الهَيْجَا ويا قَمَر الأرضِ )
( شكرتُك إنّ الشكر حَبْلٌ من التُّقَى ... وما كلُّ مَنْ أَقْرَضْتَه نعمةً يَقْضِي )
( ونَوَّهْتَ لي باسْمي وما كان خاملاً ... ولكنّ بعضَ الذكر أَنْبَهُ من بعضِ )
فغناه فقال له الثالث ولا أستزيدك فقال قل ما شئت فقال تغنيني
( يا دارُ أَقْوَتْ بالجِزعِ فالكَثَبِ ... بين مَسِيلِ العُذَيْبِ فالرُّحَبِ )
( لم تَتَقَنَّعْ بَفْضلِ مِئْزَرِها ... دَعْدُ ولم تُسْقَ دَعْدٌ في العُلَبِ )

فغناه فقال له ابن سريج أبقيت لك حاجة قال نعم تنزل إلي لأخاطبك شفاها بما أريد فقال له عمر انزل إليه فنزل فقال له لولا أني أريد وداع الكعبة وقد تقدمني ثقلي وغلماني لأطلت المقام معك ولنزلت عندكم ولكني أخاف أن يفضحني الصبح ولو كان ثقلي معي لما رضيت لك بالهوينى ولكن خذ حلتي هذه وخاتمي ولا تخدع عنهما فإن شراءهما ألف وخمسمائة دينار وذكر باقي الخبر مثل ما ذكره حماد بن إسحاق

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت
( نظَرتُ إليها بالمحصَّب من مِنًى ... ولي نظرٌ لولا التَّحَرُّجُ عارِمُ )
( فقلت أشمسٌ أم مصابيحُ بِيعَةٍ ... بدتْ لك خلفَ السَّجْفِ أم أنت حالم )
( بعيدةُ مَهْوَى القُرط إمّا لنَوْفَلٌ ... أبوها وإمّا عبدُ شمس وهاشمُ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عنه وقد نسب في مواضع من هذا الكتاب
صوت
( ألا يا غُرابَ البَيْنِ مالكَ كُلَّمَا ... نَعَبْتَ بِفقْدَانٍ عليَّ تَحُومُ )
( أبِالبَيْنِ من عَفْراءَ أنت مُخَبِّري ... عَدِمْتُك من طيرٍ فأنت مَشُومُ )
الشعر لقيس بن ذريح وقيل إنه لغيره والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشامي

صوت
( أمَسْلَم إنّي يابنَ كلِّ خليفةٍ ... ويا فارسَ الهَيْجا ويا قمر الأرضِ )
( شكرتُك إنّ الشكر حَبْلٌ من التُّقَى ... وما كلُّ مَنْ أوليتَه نعمةً يَقْضي )
( ونوّهتَ لي باسمي وما كان خاملاً ... ولكنّ بعضَ الذكر أنبهُ من بعضِ )
الشعر لأبي نخيلة الحماني والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى وقد أخرج هذا الصوت مع سائر أخبار أبي نخيلة في موضع آخر
مكانة ابن سريج بين المغنين
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن سلام الجمحي قال حدثني عمر بن أبي خليفة قال
كان أبي نازلا في علو فكان المغنون يأتونه قال فقلت فأيهم كان أحسن غناء قال لا أدري إلا أني كنت أراهم إذا جاء ابن سريج سكتوا
ابن الزبير يؤخذ بغناء ابن سريج
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني الزبيري يعني عبد الله بن مصعب عن عمرو بن الحارث قال إسحاق وحدثنيه المدائني ومحمد بن سلام عن المحرز ابن جعفر عن عمر بن سعد مولى الحارث بن هشام قال
خرج ابن الزبير ليلة إلى أبي قبيس فسمع غناء فلما انصرف رآه أصحابه وقد حال لونه فقالوا إن بك لشرا قال إنه ذاك قالوا ما هو قال لقد سمعت صوتا إن كان من الجن إنه لعجب وإن كان من الإنس فما انتهى منتهاه

شيء قال فنظروا فإذا هو ابن سريج يتغنى

صوت
( أمِنْ رَسْمِ دارٍ بوادِي غُدَرْ ... لجاريةٍ مِن جَوَارِي مُضَرْ )
( خَدَلَّجةِ السَّاقِ مَمْكُورَةٍ ... سَلُوسِ الوِشَاحِ كمثلِ القَمَرْ )
( تَزِينُ النساءَ إذا ما بَدَتْ ... ويُبْهَتُ في وجهها مَنْ نَظَرْ )
الشعر ليزيد بن معاوية والغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن يونس وحبش
قال إسحاق وذكر المدائني في خبره أن عمر بن عبد العزيز مر أيضا فسمع
صوت
ابن سريج وهو يتغنى
( بَتَّ الخليِطُ قُوَى الحَبْلِ الذي قَطَعُوا ... )
فقال عمر لله در هذا الصوت لو كان بالقرآن قال المدائني وبلغني من وجه آخر أنه سمعه يغني
( قَرَّبَ جِيِرَانُنا جِمَالَهُمُ ... ليلاً فأضْحَوا معاً قَد ارتْفَعَوُا )
( ما كنتُ أَدْرِي بَوشْكِ بَيْنِهمُ ... حتى رأيتُ الحُدَاة قد طَلَعُوا )
فقال هذه المقالة
نسبة هذين الصوتين
صوت
( بَتَّ الخَلِيطُ قُوَى الحَبْلِ الذي قَطَعُوا ... إذ وَدَّعُوك فَولَّوْا ثم ما رجَعُوا )

وآذَنُوكَ بَبَيْنٍ من وِصَالِهمُ ... فما سَلوْتَ ولا يُسْلِيكَ ما صَنَعوا )
( يابنَ الطَّويلِ وكم آثَرْتَ من حَسَنٍ ... فينا وأنت بما حُمِّلْتَ مُضْطَلِعُ )
( نَحْظَى ونبقَى بخيرٍ ما بَقِيتَ لنا ... فإِن هلَكْتَ فما في مَلْجَأٍ طَمَعُ )
الشعر للأحوص والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أن فيه رملا بالوسطى عن الهشامي

نسبة الصوت الآخر
صوت
( قَرَّبَ جِيِرانُنا جِمَالَهُمُ ... ليلاً فأضْحَوْا معاً قد ارتفَعُوا )
( ما كنتُ أدْرِي بوشكِ بَيْنِهمُ ... حتى رأيتُ الحُدَاةَ قد طلعوا )
( على مِصَكَّيْنِ من جِمَالِهم ... وعَنْتَرِيِسَيْن فيهما خَضَعُ )
( يا قلبُ صَبْراً فإِنه سَفَهٌ ... بالحُرِّ أن يَسْتَفِزَّه الجَزَعُ )
الغناء لان سريج ثقيل أول من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق وفيه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى ذكره إسحاق ولم ينسبه إلى أحد وذكر أيضا فيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى ولم ينسبه وذكر الهشامي أن الرمل للغريض وخفيف الرمل لابن المكي وذكرت دنانير والهشامي أن فيه لمعبد ثاني ثقيل وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول للغريض وذكر عبد الله بن موسى أن لحن ابن سريج خفيف ثقيل
عدد الأصوات التي غنى فيها ابن سريج
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثني يوسف بن إبراهيم قال

حضرت أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي وعنده إسحاق الموصلي فقال إسحاق غنى ابن سريج ثمانية وستين صوتا فقال له أبو إسحاق ما تجاوز قط ثلاثة وستين صوتا فقال بلى ثم جعلا ينشدان أشعار الصحيح منها حتى بلغا ثلاثة وستين صوتا وهما يتفقان على ذلك ثم أنشد إسحاق بعد ذلك أشعار خمسة أصوات أيضا فقال أبو إسحاق صدقت هذا من غنائه ولكن لحن هذا الصوت نقله من لحنيه في الشعر الفلاني ولحن الثاني من لحنه الفلاني حتى عد له الخمسة الأصوات فقال له إسحاق صدقت ثم قال له إبراهيم إن ابن سريج كان رجلا عاقلا أديبا وكان يغني الناس بما يشتهون فلا يغنيهم صوتا مدح به أعداؤهم ولا صوتا عليهم فيه عار أو غضاضة ولكنه يعدل بتلك الألحان إلى أشعار في أوزانها فالصوتان واحد لا ينبغي أن نعدهما اثنين عند التحصيل منا لغنائه فصدقه إسحاق فقال له إبراهيم فأيها أولى عندك بالتقدمة فقال
( وإذا ما عَثَرتْ في مِرْطها ... نَهَضَتْ باسمِي وقالتْ يا عُمَرْ )
فقال له إبراهيم أحسبك يا أبا محمد متعت بك ما أردت إلا مساعدتي فقال لا والله ما إلى هذا قصدت وإن كنت أهوى كل ما قربني من محبتك فقال له هذا أحب أغانيه إلي وما أحسبه في مكان أحسن منه عندي ولا كان ابن سريج يتغناه أحسن مما يتغناه جواري ولئن كان كذلك فما هو عندي في حسن التجزئة والقسمة وصحتهما مثل لحنه في

صوت من المائة المختارة من رواية جحظة
( حَيِّيَا أُمَّ يَعْمَرا ... قبلَ شَحْطٍ من النَّوَى )

( أَجْمَعَ الحيُّ رِحْلةً ... ففُؤَادِي كَذي الأَسَى )
( قلتُ لا تُعجِلُوا الرَّوَاحَ ... فقالوا ألا بَلَى )
الغناء لابن سريج من القدر الأوسط من الثقيل الأول مطلق في مجرى الوسطى وفيه للهذلي خفيف ثقيل بالبنصر عن ابن المكي وفيه لمالك ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وفيه لحنان من الثقيل الثاني أحدهما لإسحاق والآخر لأبيه ونسبه قوم إلى ابن محرز ولم يصح ذلك قال فاجتمعا معا على أنه أول أغانيه وأحقها بالتقديم وأمرني أبو إسحاق بتدوين ما يجري بينهما ويتفقان عليه فكتبت هذا الشعر ثم اتفقا على أن الذي يليه
( وإِذا ما عَثَرتْ في مِرْطِها ... نَهَضَتْ باسمِي وقالتْ يا عُمَرْ )
فأثبته أيضا ثم تناظرا في الثالث فاجتمعا على أنه
( فتركتُه جَزَرَ السِّباع يَنُشْنَهُ ... ما بين قُلَّة رأسِه والمِعْصَمِ )
فقال إسحاق لو قدمناه على الأغاني التي تقدمته كلها لكان يستحق ذلك فقال أبو إسحاق ما سمعته منذ عرفته إلا أبكاني لأني إذا سمعته أو ترنمت به وجدت غمرا على فؤادي لا يسكن حتى أبكي فقال إسحاق إن مذهبه فيه ليوجب ذلك فدونته ثالثا ثم اتفقا على الرابع وأنه
( فلم أر كالتَّجْمِير مَنَظَر ناظِرٍ ... ولا كلَيالِي الحجِّ أَفْتَنَّ ذَا هَوَى )
وتحدثا بأحاديث لهذا الصوت مشهورة ثم تناظرا في الخامس فاتفقا على أنه
( عُوجِي علينا رَبَّة الهَوْدَجِ ... إنّكِ إلاَّ تَفْعلِي تَحْرَجِي )

فأثبته ثم تناظرا في السادس واتفقا على أنه
( ألاَ هلْ هَاجَكَ الأظْعَانُ ... إذ جَاوَزْنَ مُطَّلحَا )
فأثبته ثم تناظرا في السابع فاتفقا على أنه
( غَيَّضْنَ من عَبَراتِهنَّ وقَلْن لي ... ماذا لَقِيتَ من الهَوى ولَقِينَا )
فأثبته وتناظرا في الثامن فاتفقا على أنه
( تُنْكِرُ الإِثْمِدَ لا تَعْرِفهُ ... غيرَ أنْ تَسْمَعَ منهُ بخَبَرْ )
فأثبته وتناظرا في التاسع فاتفقا على أنه
( ومِن أَجْل ذاتِ الخالِ أعملْتُ ناقتي ... أُكَلِّفُها سَيْرَ الكَلاَلِ مع الظَّلْعِ )

نسبة هذه الأصوات وأجناسها
منها
صوت
( وإذا ما عَثَرتْ في مِرْطِها ... نَهَضَتْ باسمِي وقالتْ يا عُمَرْ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي
ومنها
صوت
( فتركْتُه جَزَرَ السِّباع يَنُشْنَُ ... ما بين قُلَّة رأسِه والمِعصَمِ )

الشعر لعنترة بن شداد العبسي والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
ومنها

صوت
( فَلمْ أَرَ كالتَّجْمِيرِ مَنْظَرَ ناظرٍ ... ولا كليالي الحجِّ أفْتَنَّ ذا هَوَى )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو
ومنها
صوت
( عُوجِي علينا رَبَّةَ الهَوْدجِ ... إنّكِ إلاَّ تفعَلي تَحْرَجِي )
الشعر للعرجي والغناء لابن سريج ثقيل بالوسطى عن عمرو
ومنها
صوت
( أَلاَ هَلْ هاجكَ الأظعانُ ... إذ جاوَزْنَ مُطَّلَحَا )
الشعر لعمر والغناء لابن سريج ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه للغريض لحنان ثقيل ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيه لمعبد ثقيل أول ثالث بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق
ومنها
صوت
( غَيَّضْنَ من عَبَراتِهنَّ وقُلْنَ لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينَا )

الشعر لجرير والغناء لابن سريج رمل بالبنصر وفيه لإسحاق رمل بالوسطى وفيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي
ومنها

صوت
( تُنْكِر الإِثْمدَ لا تَعْرِفُه ... غيرَ أن تَسْمَعَ منه بخَبَرْ )
الشعر لعبد الرحمن بن حسان والغناء لابن سريج رمل بالوسطى
ومنها
صوت
( ومنْ أجلِ ذاتِ الخَالِ أعملتُ ناقتي ... أُكَلِّفُها سَيْرَ الكَلاَلِ مع الظَّلْعِ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج رمل بالبنصر وفيه لإسحاق رمل بالوسطى
مالك ومعبد يحتكمان إلى ابن سريج في صوتين لهما
أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني الزبير بن دحمان أن أباه حدثه
أن معبدا تغنى
( آب لَيْلِي بهُمُومٍ وفِكَرْ ... من حَبِيبٍ هاج حُزْنِي والسَّهَرْ )
( يومَ أبصرتُ غراباً واقعاً ... شَرَّ ما طارَ على شَرِّ الشَّجَرْ )
فعارضه مالك فغنى في أبيات من هذا الشعر وهي
( وجَرَتْ لي ظبيةٌ يتبَعُها ... لَيِّنُ الأَظْلاَفِ من حُورِ البَقَرْ )

( كلَّما كَفْكَفْتُ منِّي عَبْرَةً ... فاضتِ العينُ بمُنْهَلٍّ دِرَر )
قال فتلاحيا جميعا فيما صنعناه من هذين الصوتين فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أجود صنعة منك فتنافرا إلى ابن سريج فمضيا إليه بمكة فلما قدماها سألا عنه فأخبرا أنه خرج يتطرف بالحناء في بعض بساتينها فاقتفيا أثره حتى وقفا عليه وفي يده الحناء فقالا له إنا خرجنا إليك من المدينة لتحكم بيننا في صوتين صنعناهما فقال لهما ليغن كل واحد منكما صوته فابتدأ معبد يغني لحنه فقال له أحسنت والله على سوء اختيارك للشعر يا ويحك ما حملك على أن ضيعت هذه الصنعة الجيدة في حزن وسهر وهموم وفكر أربعة ألوان من الحزن في بيت واحد وفي البيت الثاني شران في مصراع واحد وهو قولك
( شَرَّ ما طار على شَرِّ الشَّجَرْ ... )
ثم قال لمالك هات ما عندك فغناه مالك فقال له أحسنت والله ما شئت فقال له مالك هذا وإنما هو ابن شهره فكيف تراه يا أبا يحيى يكون إذا حال عليه الحول قال دحمان فحدثني معبد أن ابن سريج غضب عند ذلك غضبا شديدا ثم رمى بالحناء من يديه وأصابعه وقال له يا مالك إلي تقول ابن شهره اسمع مني ابن ساعته ثم قال يا أبا عباد أنشدني القصيدة التي تغنيتما فيها فأنشدته القصيدة حتى انتهيت إلى قوله
( تُنْكِر الإِثْمِدَ لا تَعْرِفُه ... غيرَ أن تَسْمَع منه بخَبَرْ )

فصاح بأعلى صوته هذا خليلي وهذا صاحبي ثم تغنى فيه فانصرفنا مفلولين مفضوحين من غير أن نقيم بمكة ساعة واحدة

نسبة هذه الأغاني كلها
صوت
( آبَ لَيْلِي بهُمُومٍ وفِكْر ... من حَبيبٍ هاج حُزْنِي والسَّهَرْ )
( يومَ أبصرتُ غراباً واقعاً ... شَرَّ ما طارَ على شَرِّ الشَّجَرْ )
( يَنْتِف الرِّيشَ على عُبْريَّةٍ ... مُرَّةِ المَقْضَم من دَوْحِ العُشَرْ )
الشعر لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت يقوله في رملة بنت معاوية بن أبي سفيان وله معها ومع أبيها وأخيها في تشبيبه بها أخبار كثيرة ستذكر في موضعها إن شاء الله ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى عمر بن أبي ربيعة وهو غلط وقد بين ذلك مع أخبار عبد الرحمن في موضعه
والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى عن يحيى المكي وذكر عمرو بن بانة أنه للغريض وله لحن آخر في هذه الطريقة
صوت
( وجَرَتْ لي ظَبْيَةٌ يتبعُها ... ليِّنُ الأظلاف من حُورِ البَقَرْ )
( خلفَها أطْلَسُ عَسَّالُ الضُّحَى ... صادفتْه يوم طَلٍّ وخَصَرْ )
الغناء لمالك خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق

صوت
( إنّ عَيْنَيْها لعَيْنَا جُؤْذَرٍ ... أهْدَبِ الأشْفَارِ من حُورِ البَقَرْ )
( تُنْكِرُ الإِثْمِدَ لا تعرِفُه ... غيرَ أنْ تسمَعَ منه بخَبَرْ )
الغناء لابن سريج رمل بالسبابة عن عمرو ويحيى المكي
نقائض الغريض وابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال أبي قال محمد بن سعيد
لما ضاد ابن سريج الغريض وناوأه جعل ابن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه فيه الغريض فغنى فيه لحنا غيره وكانت ببعض أطراف مكة دار يأتيانها في كل جمعة ويجتمع لهما ناس كثير فيوضع لكل واحد منهما كرسي يجلس عليه ثم يتناقضان الغناء ويترادانه قال فلما رأى ابن سريج موقع الغريض وغنائه من الناس لقربه من النوح وشبهه به مال إلى الأرمال والأهزاج فاستحفها الناس فقال له الغريض يا أبا يحيى قصرت الغناء وحذفته وأفسدته فقال له نعم يا مخنث جعلت تنوح على أبيك وأمك ألي تقول هذا والله لأغنين غناء ما غنى أحد أثقل منه ولا أجود ثم تغنى
( تشكَّى الكُمَيْتُ الجَرْيَ لمّا جَهَدْتُه ... )
قال حماد وقرأت على أبي عن هشام بن المرية قال كان ابن أبي عتيق

يسوق في كل عام عن ابن سريج بدنة وينحرها عنه ويقول هذا أقل حقه علينا

معبد يعترف لابن سريج بالسبق
قال حماد قال أبي وقال مخلد بن خداش المهلبي كنا بالمدينة في مجلس لنا ومعنا معبد فقدم قادم من مكة إلى المدينة فدخل علينا ليلا فجلس معبد يسائله عن الأخبار وهو يخبره ولا نسمع ما يقول فالتفت إلينا معبد فقال أصبحت أحسن الناس غناء فقيل له أو لم تكن كذلك قال لا حيث كان ابن سريج حيا إن هذا أخبرني أن ابن سريج قد مات ثم كان بعد ذلك إذا غنى صوتا فأعجبه غناؤه قال أصبحت اليوم سريجيا
أبو السائب المخزومي وأغاني ابن سريج
قال حماد حدثني أبي قال حدثني أبو الحسن المدائني قال قال معبد أتيت أبا السائب المخزومي وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة فلما رآني تجوز وقال ما معك من مبكيات ابن سريج قلت قوله
( ولَهُنَّ بالبيتِ العَتِيقِ لُبَانَةٌ ... والبيتُ يَعْرِفُهنّ لو يَتَكَلَّمُ )
( لو كان حَيّا قبلَهن ظَعَائناً ... حَيّا الحَطِيمُ وجوهَهنّ وزَمْزَمُ )
( لَبِثُوا ثلاثَ مِنىً بمنزلِ غِبْطَةٍ ... وهُمُ على سَفَرٍ لعَمْرُكَ ما هُمُ )

( مُتجاوِرِينَ بغير دار إقامةٍ ... لو قد أجدَّ تفرّقٌ لم يَنْدَمُوا )
فقال لي غنه فغنيته ثم قام يصلي فأطال ثم تجوز إلي فقال ما معك من مطرباته ومشجياته فقلت قوله
( لسنا نُبَالِي حين نُدرِكُ حاجةً ... ما بات أو ظَلَّ المَطِيُّ مُعَقَّلاَ )
فقال لي غنه فغنيته ثم صلى وتجوز إلي وقال ما معك من مرقصاته فقلت
( فلم أَرَ كالتَّجْمِيرِ منْظَرَ ناظرٍ ... ولا كَليالي الحجِّ أفْتَنَّ ذا هَوى )
فقال كما أنت حتى أتحرم لهذا بركعتين

تفضيل عطاء بن أبي رباح ابن سريج على الغريض
قال حماد وأخبرني أبي عن إبراهيم بن المنذر الحزامي وذكر أبو أيوب المديني عن الحزامي قال حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم المخزومي قال
أرسلتني أمي وأنا غلام أسأل عطاء بن أبي رباح عن مسألة فوجدته في دار يقال لها دار المعلى وقال أبو أيوب في خبره دار المقل وعليه ملحفة مُعَصْفَرةٌ وهو جالس على منبر وقد ختن ابنه والطعام يوضع بين يديه وهو يأمر به أن يفرق في الخلق فلهوت مع الصبيان ألعب بالجوز حتى أكل القوم وتفرقوا وبقي مع عطاء خاصته فقالوا يا أبا محمد لو أذنت لنا فأرسلنا إلى الغريض وابن سريج فقال ما شئتم فأرسلوا إليهما فلما أتيا قاموا معهما وثبت عطاء في مجلسه فلم يدخل فدخلوا بهما بيتا في الدار فتغنيا وأنا أسمع فبدأ ابن سريج فنقر بالدف وتغنى بشعر كثير
( بلَيْلَى وجاراتٍ لِليلَى كأنّها ... نِعاجُ المَلا تُحْدَى بهن الأباعِرُ )

( أمُنقطعٌ يا عَزّ ما كان بينَنا ... وشَاجَرَنِي يا عَزّ فِيك الشَّواجِرُ )
( إذا قِيلَ هذا بيتُ عزّة قَادَنِي ... إليه الهَوى واستعجلتني البوادِرُ )
( أصُدُّ وبي مثلُ الجُنون لكي يَرى ... رُواةُ الخنَا أنِّي لِبيتِك هاجرُ )
فكأن القوم قد نزل عليهم السبات وأدركهم الغشي فكانوا كالأموات ثم أصغوا إليه بآذانهم وشخصت إليه أعينهم وطالت أعناقهم ثم غنى الغريض بصوت أنسيته بلحن آخر ثم غنى ابن سريج وأوقع بالقضيب وأخذ الغريض الدف فغنى بشعر الأخطل
( فَقلتُ اصْبَحُونا لا أبَا لأبيكُمُ ... وما وَضَعُوا الأثقالَ إلا ليَفْعَلُوا )
( وقلتُ اقتُلوها عنكُمُ بِمزاجِها ... فأكْرِمْ بها مَقْتُولةً حين تُقْتَلُ )
( أَنَاخُوا فجَرُّوا شاصِياتٍ كأنها ... رِجَالٌ من السُّودانِ لَم يَتَسرْبَلُوا )
فوالله ما رأيتهم تحركوا ولا نطقوا إلا مستمعين لما يقول ثم غنى الغريض بشعر آخر وهو
( هل تعرِف الرَّسْمَ والأطْلاَلَ والدِّمَنَا ... زِدْنَ الفؤادَ على ما عندَه حَزَنَا )
( دارٌ لصَفْرَاءَ إذ كانت تَحُلُّ بها ... وإذ تَرَى الوَصْلَ فيما بينَنا حَسَنَا )
( إذ تَسْتَبِيك بمَصْقُولٍ عوارضُه ... ومُقْلَتَيْ جُؤْذُرٍ لم يَعْدُ أن شَدَنَا )

ثم غنيا جميعا بلحن واحد فلقد خيل لي أن الأرض تميد وتبينت ذلك في عطاء أيضا وغنى الغريض في شعر عمر بن أبي ربيعة وهو قوله
( كَفَى حَزَناً أن تجمَعَ الدارُ شَمْلَنا ... وأُمْسِي قريباً لا أَزُورُكِ كَلثما )
( دَعِي القلبَ لا يَزْدَدْ خَبَالاً مع الذي ... به منكِ أو دَاوي جَواه المُكَتَّما )
( ومَنْ كان لا يَعْدُو هواه لسانَه ... فقد حَلَّ في قلبي هواك وخَيَّما )
( وليس بتَزْوِيقِ اللسانِ وصَوْغِه ... ولكنَّه قد خالطَ اللحمَ والدَّمَا )
وغنى ابن سريج أيضا
( خَلِيلَيَّ عُوجَا نَسْأل اليومَ مَنْزِلاَ ... أبَى بالبِراقِ العُفْرِ أن يَتَحَوَّلاَ )
( ففُرْع النَّبِيتِ فالشَّرَى خَفَّ أهلُه ... وبُدِّلَ أرْوَاحاً جَنُوباً وشَمْأَلا )
( أرادتْ فلم تَسْطِعْ كلاماً فأومأتْ ... إلينا ولم تأمَنْ رَسُولاً فتُرْسِلاَ )
( بأنْ بِتْ عَسَى أن يستُرَ الليلُ مجلساً ... لنا أو تنامَ العين عنَّا فتُقْبِلاَ )
وغنى الغريض أيضا
( يا صاحِبَيّ قِفَا نُقَضِّ لُبَانَةً ... وعلى الظَّعائِنِ قبلَ بَيْنِكما اعْرِضَا )

( لا تُعْجِلانِي أن أقولَ بحاجةٍ ... رِفْقاً فقد زوِّدْتُ زاداً مُجْرِضاَ )
( ومقالَها بالنَّعْفِ نَعْفِ مُحَسِّرٍ ... لِفَتاتِها هل تِعْرِفينَ المُعْرِضَا )
( هذا الذي أَعْطَى مَوَاثِقَ عهدِهِ ... حتى رَضِيتُ وقُلتِ لي لن يَنْقُضَا )
وأغاني أنسيتها وعطاء يسمع على منبره ومكانه وربما رأيت رأسه قد مال وشفتيه تتحركان حتى بلغته الشمس فقام يريد منزله فما سمع السامعون شيئا أحسن منهما وقد رفعا أصواتهما وتغنيا بهذا ولما بلغت الشمس عطاء قام وهم على طريقة واحدة في الغناء فاطلع في كوة البيت فلما رأوه قالوا يا أبا محمد أيهما أحسن غناء قال الرقيق الصوت يعني ابن سريج

نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات
صوت
( ولَهُنَّ بالبيتِ العَتِيق لُبَانَةٌ ... والبيتُ يعرِفهنّ لو يتكلَّمُ )
( لو كان حَيّا قبلَهنّ ظعائناً ... حيّا الحَطِيمُ وجُوههَنّ وزمزمُ )
( وكأنهنَّ وقد حَسَرْنَ لَوَاغِباً ... بَيْضٌ بأكنافِ الحَطِيم مُرَكَّمُ )
( لَبِثُوا ثلاثَ مِنَىً بمنزلِ غِبْطَةٍ ... وهمُ على سَفَرٍ لعمركُ ما همُ )
( مُتَجَاوِرِينَ بغير دارِ إقامةٍ ... لو قد أجدَّ رحِيلُهم لم يَنْدَمُوا )
عروضه من الكامل الشعر لابن أذينة والغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق

في مجرى البنصر عن إسحاق وأخبار ابن أذينة تأتي بعد هذا في موضعها إن شاء الله
ومنها الصوت الذي أوله في الخبر
( لسنا نُبَالِي حين نُدْرِكُ حاجةً ... )
صوت
( وَدِّعْ لُبَابَةَ قبلَ أن تَتَرحَّلاَ ... واسألْ فإن قَلِيلَه أن تَسْألا )
( وانظُرْ بعينكَ ليلةً وتأنَّها ... فلعلَّ ما بَخِلَتْ به أن يُبْذَلا )
( لسنا نُبَالِي حين نُدْرِكُ حاجةً ... ما راح أو ظلَّ المَطِيُّ مُعَقَّلا )
( حتّى إذا ما الليلُ جَنَّ ظلامُه ... ورجوْتُ غفلةَ حارسٍ أن يَعْقِلا )
( خرجَتْ تأطَّرُ في الثيابِ كأنَّها ... أيْمٌ يَسِيبُ على كثيبٍ أَهْيَلا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى في مجراها وفيه لمعبد لحن من خفيف الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى وهو من مختار أغانيه ونادرها وصدور صنعته وما يقدم على كثير منها

الغمر بن يزيد وشعر عمر بن أبي ربيعة
أخبرني أحمد بن محمد بن إسحاق الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال
كنت أسير مع الغمر بن يزيد فاستنشدني فأنشدته لعمر بن أبي ربيعة
( وَدِّعْ لُبَابَةَ قبلَ أن تترحَّلا ... واسألْ فإنّ قَلِيلَه أن تَسألا )
( قال ائْتَمِرْ ما شئتَ غيرَ مُخَالَفٍ ... فيما هَوِيت فإنّنا لن نَعْجَلا )
( نَجْزِي أيادِي كنتَ تَبْذُلُها لنا ... حقٌّ علينا واجبٌ أن نَفْعَلا )

( حتّى إذا ما الليلُ جنّ ظلامُه ... ورجوتُ غفلةَ حارسٍ أن يَعْقِلا )
( خرجتْ تأطَّرُ في الثيابِ كأنَّها ... أيْمٌ يسِيبُ على كثيبٍ أَهْيَلا )
( رَحَّبْتُ لمّا أقبلتْ فتَعلَّلتْ ... لتحيَّتِي لمّا رأَتْنِي مُقْبِلا )
( فجَلا القِنَاعُ سحابةً مشهورةً ... غَرَّاءَ تُعْشِي الطَّرْفَ أن يتأمَّلا )
( فظَلِلْتُ أرْقِيها بما لو عَاقِلٌ ... يُرْقى به ما اسْطاعَ ألاّ يَنْزِلا )
( تَدْنُو فأطْمَعُ ثم تمنعُ بَذْلَها ... نفسٌ أبتْ للجُودِ أن تتبخَّلا )
قال فأمر غلامه فحملني على بغلته التي كانت تحته فلما أراد الانصراف طلب الغلام مني البغلة فقلت لا أعطيكها هو أكرم وأشرف من أن يحملني عليها ثم ينتزعها مني فقال للغلام دعه يا بني ذهبت والله لبابة ببغلة مولاك
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرنيه الحسن بن علي عن هارون بن الزيات عن حماد عن أبيه قال حدثني عثمان بن حفص الثقفي عن إبراهيم بن عبد السلام بن أبي الحارث عن ابن تيزن المغني قال
قال أبو نافع الأسود وكان آخر من بقي من غلمان ابن سريج إذا أعجزك أن تطرب القرشي فغنه غناء ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة فإنك ترقصه قال وأبو نافع هذا أحذق غلمان ابن سريج ومن أخذ عنه وكان أحسن رواته صوتا ومنها

صوت
( بلَيْلَى وجاراتٍ لِلَيلَى كأنَّها ... نِعَاجُ المَلا تُحْدَى بهنَّ الأبَاعِرُ )
( أمُنقطعٌ يا عزّ ما كان بينَنا ... وشَاجَرَنِي يا عزّ فيكِ الشَّوَاجِرُ )

( إذا قيل هذا بيتُ عَزّةَ قادني ... إليه الهوى واستعجلتني البَوَادِرُ )
( أصُدّ وبي مثلُ الجنون لكي يَرى ... رُوَاةُ الخَنَا أنّي لبيتكِ هاجِرُ )
( ألاَ ليتَ حَظِّي منكِ يا عزّ أنَّني ... إذا بِنْتِ باع الصبرَ لي عنكِ تاجرُ )
عروضه من الطويل الشعر لكثير والغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو وفيه لابن سريج لحن أوله أصد وبي مثل الجنون خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق
ومنها
صوت
( أناخُوا فجَرُّوا شَاصِيَاتٍ كأنَّها ... رجالٌ من السُّودانِ لم يَتَسَرْبَلُوا )
( فقلتُ اصبَحُوني لا أبا لأبيكُمُ ... وما وضَعُوا الأثقالَ إلاّ ليفعَلُوا )
( تمُرّ بها الأيْدِي سَنِيحاً وبارِحاً ... وتُرْفَع باللَّهُمَّ حيِّ وتُنْزَلُ )
عروضه من الطويل الشاصيات الشائلات قوائمها من امتلائها يعني الزقاق يقال شصا يشصو وشصا ببصره إذا رفعه كالشاخص وأنشد
( وَرَبْرَبٍ خِمَاصِ ... يَطْعَنُ بالصَّيَاصِي )
( ينظُر من خَصَاصِ ... بأعْيُنٍ شَوَاصِي )
( كَفِلَقِ الرَّصَاصِ ... تَسْمُو إلى القَنَّاصِ )

الشعر للأخطل وذكره يأتي في غير هذا الموضع من قصيدة يمدح بها خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العيص بن أمية والغناء لمالك وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق والآخر في الثالث والأول والثاني خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها وفيه رمل آخر لإبراهيم عن عمرو أيضا
ومنها

صوت
( هل تعرِفُ الرسمَ والأَطْلالَ والدِّمَنَا ... )
وذكر الأبيات الثلاثة وقد تقدمت عروضه من البسيط الشعر لذي الإصبع العدواني والغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر
ومنها
صوت
( كَفَى حَزَناً أن تجمعَ الدارُ شَمْلَنَا ... )
صوت
وهو من المائة المختارة في رواية جحظة عن أصحابه
( دَعِي القلبَ لا يَزْدَدْ خَبَالاً مع الذي ... به مِنْكِ أو دَاوِي جَوَاه المُكَتَّما )
( وَمَنْ كان لا يَعْدُو هواه لِسَانَه ... فقد حلَّ في قلبِي هَواكِ وخَيَّما )
( وليس بتَزْويقِ اللسانِ وصَوْغِه ... ولكنَّه قد خَالَطَ اللَّحمَ والدَّما )
عروضه من الطويل الشعر للأحوص وقيل إنه لسعيد بن عبد الرحمن

ابن حسان والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وذكر يونس أن لمالك لحنا فيه
( أكَلْثَمُ فُكِّي عانياً بكِ مُغْرَمَا ... وشُدِّي قُوَى حَبْلٍ لنا قد تَصَرَّما )
( فإن تُسْعِفيه مَرَّةً بنَوَالِكم ... فقد طَالَما لم يَنْجُ منكِ مُسَلَّمَا )
( كَفَى حَزَناً أن تَجْمَعَ الدارُ شَمْلَنا ... وأُمْسي قريباً لا أَزُورُك كَلْثَما )
وبعده هذه الأبيات التي مضت

إجماع المغنين على تفضيل لحن ابن سريج وليس بتزويق اللسان
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد وذكر الثقفي عن دحمان قال
تذاكرنا ونحن في المسجد أنا والربيع بن أبي الهيثم الغناء أيه أحسن فجعل يقول وأقول فلا نجتمع على شيء فقلت اذهب بنا إلى مالك بن أبي السمح فذهبنا إليه فوجدناه في المسجد فقال ما جاء بكما فأخبرناه فقال قد جرى هذا بيني وبين معبد وقال وقلت فجاءني معبد يوما وأنا في المسجد وقال قد جئتك بشيء لا ترده فقلت وما هو قال لحن ابن سريج
( وليس بتزويقِ اللسانِ وصَوْغِه ... ولكنَّه قد خالَط اللحمَ والدَّمَا )
ثم قال لي معبد أسمعكه قلت نعم وأريته أني لم أسمعه قبل فقال اسمعه مني فغنى فيه ونحن في المسجد فما سمعت شيئا قط أحسن منه فافترقنا وقد اجتمعنا عليه
وقرأت في فصل لإبراهيم بن المهدي إلى إسحاق الموصلي وكتبت رقعتي هذه وأنا في غمرة من الحمى تصدف عن المفترضات ولولا خوفي في تشنيعك وتجنيك لم يكن في للإجابة فضل غير أني قد تكلفت الجواب على ما

الله به عالم من صعوبة علتي وما أقاسيه من الحرارة الحادثة بي
( وليس بتزويقِ اللّسانِ وصَوغِه ... ولكنَّه قد خالطَ اللّحمَ والدّما )

تفضيل غناء ابن سريج على غناء معبد ومالك
وقال إسحاق حدثني شيخ من موالي المنصور قال قدم علينا فتيان من بني أمية يريدون مكة فسمعوا معبدا ومالكا فأعجبوا بهما ثم قدموا مكة فسألوا عن ابن سريج فوجدوه مريضا فأتوا صديقا له فسألوه أن يسمعهم غناءه فخرج معهم حتى دخلوا عليه فقالوا نحن فتيان من قريش أتيناك مسلمين عليك وأحببنا أن نسمع منك فقال أنا مريض كما ترون فقالوا إن الذي نكتفي منك به يسير وكان ابن سريج أديبا طاهر الخلق عارفا بأقدار الناس فقال يا جارية هاتي جلبابي وعودي فأتته خادمه بخامة فسدلها على وجهه وكان يفعل ذلك إذا تغنى لقبح وجهه ثم أخذ العود فغناهم فأرخى ثوبه على عينيه وهو يغني حتى إذا اكتفوا ألقى عوده وقال معذرة فقالوا نعم قد قبل الله عذرك فأحسن الله إليك ومسح ما بك وانصرفوا يتعجبون مما سمعوا فمروا بالمدينة منصرفين فسمعوا من معبد ومالك فجعلوا لا يطربون لهما ولا يعجبون بهما كما كانوا يطربون فقال أهل المدينة نحلف بالله لقد سمعتم بعدنا ابن سريج قالوا أجل لقد سمعناه فسمعنا ما لم نسمع مثله قط ولقد نغص علينا ما بعده
ذكر العتابي أن زكريا بن يحيى حدثه قال حدثني عبد الله بن محمد بن عثمان العثماني عن بعض أهل الحجاز قال التقى قنديل الجصاص وأبو الجديد بشعب الصفراء فقال قنديل لأبي الجديد من أين وإلى أين قال مررت برقطاء

الحبطية رائحة تترنم برمل ابن سريج في شعر ابن عمارة السلمي

صوت
( سَقَى مَأْزِمَيْ نَجْدٍ إلى بئر خَالدٍ ... فوادِي نِصَاع فالقُرُون إلى عَمْدِ )
( وجادتْ بُرُوقُ الرائحاتِ بمُزْنَةٍ ... تَسُحُّ شَآبِيباً بمُرْتَجِز الرَّعْدِ )
( منازلَ هِنْدٍ إذ تُوَاصِلُني بها ... ليالِيَ تَسْبِيني بمُسْتَطْرَفِ الوُدِّ )
( يُنِيرُ ظلامُ الليلِ من حسنِ وجهِها ... وتَهْدِي بطِيبِ الرِّيح مَنْ جاء مِنْ نَجْدِ )
الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن الهشامي فزففت خلفها زفيف النعامة فما انجلت غشاوتي إلا وأنا بالمشاش حسير فأودعتها قلبي وخلفته لديها وأقبلت أهوي كالرخمة بغير قلب فقال لي قنديل ما دفع أحد من المزدلفة أسعد منك سمعت شعر ابن عمارة في غناء ابن سريج من رقطاء الحبطية لقد أوتيت جزءا من النبوة قال وكانت رقطاء هذه من أضرب الناس فدخل رجل من أهل المدينة منزلها فغنته صوتا فقال له بعض من حضر هل رأيت قط أو ترى أفصح من وتر هذه فطرب المدني وقال علي العهد إن لم يكن وترها من معي

بشكست النحوي فكيف لا يكون فصيحا وبشكست هذا كان نحويا بالمدينة وقتل مع الشراة الخارجين مع أبي حمزة صاحب عبد الله بن يحيى الكندي الشاري المعروف بطالب الحق

غناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعا
قال محمد بن الحسن وحدث عن إسحاق عن أبيه أنه كان يقول
غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعا وكان يقول الغناء على ثلاثة أضرب فضرب مله مطرب يحرك ويستخف وضرب ثان له شجا ورقة وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة قال وكل هذا مصنوع في غناء ابن سريج
قال العتابي وحدثني زكريا بن يحيى عن عبد الله بن محمد العثماني قال ذكر بعض أصحابنا الحجازيين قال
التقى ابن سلمة الزهري والأخضر الجدي ببئر الفصح فقال ابن سلمة هل لك في الاجتماع نستمتع بك فقال له الأخضر لقد كنت إلى ذلك مشتاقا قال فقعدا يتحدثان فمر بهما أبو السائب فقال يا مطرب الحجاز ألشيء كان اجتماعكما فقالا لغير موعد كان ذلك أفتؤنسنا قال فقعدوا يتحدثون

فلما مضى بعض الليل قال الأخضر لابن سلمة يا أبا الأزهر قد ابهار الليل وساعدك القمر فأوقع بقهقهة ابن سريج وأصب معناك فاندفع يغني

صوت
( تَجَنَّتْ بلا جُرْمٍ وصَدّتْ تغضُّباً ... وقالت لِتِرْبَيْها مقالةَ عاتِب )
( سَيَعْلَمُ هذا أنَّنِي بنتُ حُرَّةٍ ... سأمنَعُ نَفْسِي من ظُنُونٍ كَوَاذِبِ )
( فقُولِي له عنَّا تَنَحَّ فإنّنا ... أَبِيَّاتُ فُحْشٍ طَاهِرَاتُ المَنَاسِبِ )
الغناء لابن سريج ولم يذكر طريقته قال فجعل أبو السائب يزفن ويقول أبشر حبيبي فلأنت أفضل من شهداء قزوين قال ثم قال ابن سلمة للأخضر نعم المساعد على هم الليل أنت فأوقع بنوح ابن سريج ولا تعد معناك فاندفع يغني
صوت
( فلمّا التَقَيْنا بالحَجُون تَنَفَّسَتْ ... تَنَفُّسَ محزونِ الفُؤَاد سَقِيمِ )
( وقالتْ وما يَرْقَا من الخَوْفِ دمعُها ... أقَاطِنُها أم أنتَ غيرُ مُقِيم )
( فإنّا غداً تُحْدَى بنا العِيسُ بالضُّحَى ... وأنت بما نَلْقَاه غيرُ عَلِيمِ )
( فقَطَّعَ قَلْبي قولُها ثم أَسْبَلَتْ ... مَحَاجِرُ عَيْني دمعَها بسُجُومِ )

قال فجعل أبو السائب يتأفف ويقول أعتق ما أملك إن لم تكن فردوسية الطينة وإنها بعلمها لأفضل من آسية امرأة فرعون

تغني الذلفاء بلحن ابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال
بلغني أن أبا دهبل الجمحي قال كنت أنا وأبو السائب المخزومي عند مغنية بالمدينة يقال لها الذلفاء فغنتنا بشعر جميل بن معمر العذري واللحن لابن سريج
صوت
( لَهُنّ الوَجَى لِمْ كُنّ عَوناً على النَّوَى ... ولا زالَ منها ظالعٌ وكَسِير )
( كَأنِّي سُقِيتُ السَّمَ يومَ تحمَّلوا ... وجَدّ بهم حادٍ وحانَ مَسِيرُ )
فقال أبو السائب يا أبا دهبل نحن والله على خطر من هذا الغناء فنسأل الله السلامة وأن يكفينا كل محذور فما آمن أن يهجم بي على أمر يهتكني قال وجعل يبكي
غناء ابن سريج في موسم الحج
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا الزبير بن بكار عن بكار بن رباح عن إسحاق بن مقمة عن أمه قالت سمعت ابن سريج على أخشب منى غداة النفر وهو يغني

( جَدّدِي الوصلَ يا قريبَ وجُودِي ... لمحبٍّ فِرَاقُه قد أَلَمَّا )
( ليسَ بينَ الحياةِ والموتِ إلاَّ ... أن يَرُدُّوا جِمَالَهُمْ فتُزَمَّا )
ونسبة هذا الصوت تأتي بعد هذه الأخبار قالت فما تشاء أن تسمع من خباء ولا مضرب حنينا ولا أنينا إلا سمعته
ذكر يوسف بن إبراهيم أنه حضر إسحاق بن إبراهيم الموصلي ليلة وهو يذاكر إبراهيم بن المهدي إلا أن قال إسحاق في بعض مخاطبته إياه هذا صوت قد تمعبد فيه ابن سريج فقال له إبراهيم ما ظننت أنك يا أبا محمد مع علمك وتقدمك تقول مثل هذا في ابن سريج فكيف يجوز أن تقول تمعبد ابن سريج وإنما معبد إذا أحسن قال أصبحت سريجيا قد أغنى الله ابن سريج عن هذا ورفع قدره عن مثله وأعيذك بالله أن تستشعر مثله في ابن سريج قال فما رأيت إسحاق دفع ذلك ولا أباه ولا زاد على أن قال هي كلمة يقولها الناس لم أقلها اعتقادا لها فيه وإنما تكلمت بها على العادة

تفوق ابن سريج على سائر المغنين
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن سلام قال قال لي شعيب بن صخر كان معبد إذا غنى فأجاد قال أنا اليوم سريجي
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن سلام قال حدثنا شعيب بن صخر قال كان نعمان المغني عندي نازلا وكان يغني وكنت أراه يأتيه قوم قال أبو عبد الله فقلت له فأيهم كان أحذق قال

لا أدري إلا أنهم كانوا إذا جاء ابن سريج سكتوا
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الهيثم بن عياش قال حدثني عبد الرحمن بن عيينة قال بينما نحن بمنى ونحن نريد الغدو إلى عرفات إذ أتانا الأحوص فقال أبيت بكم الليلة قلنا بالرحب والسعة فلما جنه الليل لم يلبث أن غاب عنا ثم عاد ورأسه يقطر ماء قلت ما لك قال

صوت
( تَعَرَّضُ سَلْمَاكَ لماّ حَرَمتَ ... ضَلَّ ضَلاَلُكَ مِنْ مُحْرِمِ )
( تُريد به البِرَّ يا لَيْتَه ... كَفَافاً من البِرِّ والمَأْثم )
الغناء لابن سريج ولم يجنسه قال قلت زنيت ورب الكعبة قال قل ما بدا لك ثم لقي ابن سريج فقال إني قد قلت بيتين حسنين أحب أن تغنيني بهما قال ما هما فأنشده إياهما فغنى بهما من ساعته ففتن من حضر ممن سمع صوته
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني إسحاق بن يحيى ابن طلحة قال
قدوم جرير المدينة وارتحاله إلى مكة ليسمع ابن سريج
قدم جرير بن الخطفي المدينة ونحن يومئذ شباب نطلب الشعر فاحتشدنا له ومعنا أشعب فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة وأقمنا لم نبرح وجاء

الأحوص بن محمد الشاعر من قباء على حمار فقال أين هذا فقلنا قام لحاجة فما حاجتك إليه قال أريد والله أن أعلمه أن الفرزدق أشعر منه وأشرف قلنا ويحك لا تعرض له وانصرف فانصرف وخرج فجاء جرير فلم يكن بأسرع من أن أقبل الأحوص الشاعر فأقبل عليه فقال السلام عليك يا جرير قال جرير وعليك السلام فقال الأحوص يابن الخطفي الفرزدق أشرف منك وأشعر قال جرير من هذا أخزاه الله قلنا الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقال نعم هذا الخبيث ابن الطيب أأنت القائل
( يَقَرُّ بعَيْني ما يَقَرُّ بعَيْنِها ... وأحسنُ شيء ما به العينُ قرَّتِ )
قال نعم قال فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر أفيقر ذلك بعينك قال وكان الأحوص يرمي بالحلاق فانصرف فبعث إليهم بتمر وفاكهة وأقبلنا على جرير نسائله وأشعب عند الباب وجرير في مؤخر البيت فألح عليه أشعب يسأل فقال والله إني لأراك أقبحهم وجها وأراك ألأمهم حسبا فقد أبرمتني منذ اليوم قال إني والله أنفعهم وخيرهم لك فانتبه جرير وقال ويحك كيف ذاك قال إني أملح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه فقال قل ويحك فاندفع أشعب فنادى بلحن ابن سريج
( يا أُختَ نَاجِيَةَ السلامُ عليكُم ... قبلَ الرَّحِيل وقبل عَذْلِ العُذَّلِ )
( لو كنتُ أعلمَ أنَّ آخرَ عهدِكم ... يومُ الرَّحيل فعَلتُ ما لم أفعلِ )
فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى ألصق بركبته ركبته وقال لعمري لقد صدقت إنك لأنفعهم لي وقد حسنته وأجدته وزينته أحسنت والله ثم وصله

وكساه فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت قال له بعض أهل المجلس فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء قال أو إن له لواضعا غير هذا فقلنا نعم قال فأين هو قلنا بمكة قال فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته وكنت فيهم فأتيناه جمعيا فإذا هو في فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير فأدنوا ورحبوا وسألوا عن الحاجة فأخبرناهم الخبر فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال سل ما تريد جعلت فداءك قال أريد أن تغنيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك قال وما هو قال
( يا أُختَ ناجيةَ السلامُ عليكُمُ ... قبلَ الرَّحيل وقبلَ عَذْل العُذَّلِ )
فغناه ابن سريج وبيده قضيب يوقع به وينكت فوالله ما سمعت شيئا قط أحسن من ذلك فقال جرير لله دركم يا أهل مكة ما أعطيتم والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظا ونصيبا فكيف ومع هذا بيت الله الحرام ووجوهكم الحسان ورقة ألسنتكم وحسن شارتكم وكثرة فوائدكم

الوليد بن عبد الملك وابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جده إبراهيم قال
كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلي ابن سريج فأشخصه فلما قدم مكث أياما لا يدعو به ولا يلتفت إليه قال ثم إنه ذكره فقال ويلكم أين ابن سريج قالوا هو حاضر قال علي به فقالوا أجب أمير المؤمنين فتهيأ ولبس وأقبل حتى دخل عليه فسلم فأشار إليه أن اجلس فجلس

بعيدا فاستدناه فدنا حتى كان منه قريبا وقال ويحك يا عبيد لقد بلغني عنك ما حملني على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة اختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة مجلسك فقال جعلت فداءك يا أمير المؤمنين تسمع بالمعيدي خير من أن تراه قال الوليد إني لأرجو ألا تكون أنت ذاك ثم قال هات ما عندك فاندفع ابن سريج فغنى بشعر الأحوص
( أمَنزلَتَيْ سَلْمَى على القِدَمِ اسْلَمَا ... فقد هِجْتُما للشوقِ قلباً متيَّما )
( وذَكَّرْتُما عَصْرَ الشَّبَابِ الذي مَضى ... وجِدَّة وَصْلٍ حَبْلُه قد تَجذَّما )
( وإني إذا حَلَّتْ ببيشٍ مقِيمَةً ... وحَلَّ بوج جالساً أو تَتهَّمَا )
( يَمَانِيَةٌ شَطَّتْ فأصبحَ نَفْعُها ... رَجَاءً وظَنّاً بالمَغِيبِ مُرَجَّمَا )
( أُحِبُّ دُنُوِّ الدارِ منها وقد أبَى ... بها صَدْعُ شَعْبِ الدار إلاّ تَثلُّما )
( بَكَاها وما يَدْري سِوَى الظَنِّ مَنْ بَكَى ... أحيّاً يُبَكِّي أم تُراباً وأعظُمَا )
( فدَعْها وأخْلِفْ للخَلِيفَةِ مِدْحَةً ... تُزِلْ عنكَ بُؤْسَى أو تُفِيدُكَ أنْعُمَا )
( فإنّ بكَفَّيْه مَفَاتِيحَ رحمةٍ ... وغيْثَ حَياً يحْيا به الناس مُرْهِمَا )
( إمامٌ أتاه المُلْكُ عفواً ولم يُثِبْ ... على مُلْكِه مالاً حَرَاماً ولا دَمَا )
( تَخَيَّرُه ربُّ العِبَاد لخَلْقِه ... وَلِيّاً وكان اللهُ بالناسِ أعْلَمَا )
( فلمّا قَضَاه اللهُ لم يَدْعُ مُسْلِماً ... لبَيْعَتِه إلاّ أجابَ وسَلَّمَا )

( يَنَالُ الغِنَى والعِزَّ مَنْ نال وُدّه ... ويَرْهَبُ موتاً عاجلاً مَنْ تَشَأّما )
فقال الوليد أحسنت والله وأحسن الأحوص علي بالأحوص ثم قال يا عبيد هيه فغناه بشعر عدي بن الرقاع العاملي يمدح الوليد

صوت
( طَارَ الكَرَى وأَلَمَّ الهَمُّ فاكْتَنَعا ... وحِيلَ بَيْني وبينَ النَّوم فامتنَعا )
( كان الشَّبابُ قِنَاعاً أَسْتَكِنُّ به ... وأَسْتَظِلُّ زماناً ثُمَّتَ انْقَشَعَا )
( فاسْتَبْدَل الرأسُ شَيْباً بعد دَاجِيَةٍ ... فَيْنَانةِ ما تَرَى في صُدْغِها نَزَعَا )
( فإن تكُنْ مَيْعَةٌ من باطِلٍ ذَهَبَتْ ... وأَعْقَبَ اللّهُ بعد الصَّبْوةِ الوَرَعا )
( فقد أبِيتُ أُراعِي الخَوْدَ راقدةً ... على الوَسَائِدِ مسروراً بها وَلِعَا )
( بَرَّاقَةَ الثَّغْر تَشْفِي القلبَ لذَّتُها ... إذا مُقَبِّلُها في ريقِها كَرَعَا )
( كالأُقْحُوانِ بضاَحِي الرَّوْضِ صَبَّحه ... غَيْثٌ أرَشَّ بتَنْضَاحٍ وما نَقَعا )
( صَلَّى الذي الصَّلواتُ الطَّيِّباتُ له ... والمؤمِنُونَ إذا ما جَمَّعُوا الجُمَعَا )
( على الذي سَبَق الأقوامَ ضَاحِيَةً ... بالأجْرِ والحَمْدِ حتى صاحبَاه مَعا )
( هو الذي جَمع الرحمنُ أُمَّتَه ... على يَدَيْه وكانوا قبلَه شِيعَا )
( عُذْنَا بذي العَرْشِ أن نَحْيَا ونَفْقِدَه ... وأنْ نكونَ لِرَاعٍ بعدَه تَبَعا )
( إنّ الوليدَ أميرَ المؤمنين له ... مُلْكٌ عليه أعان اللهُ فارتَفَعا )
( لا يَمْنَع الناسُ ما أَعْطَى الذين هُم ... له عِبَدٌ ولا يُعْطُونَ ما مَنَعا )

فقال له الوليد صدقت يا عبيد أنّى لك هذا قال هو من عند الله قال الوليد لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك قال ابن سريج ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال الوليد يزيد في الخلق ما يشاء قال ابن سريج هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر قال الوليد لعلمك والله أكبر وأعجب إلي من غنائك غنني فغناه بشعر عدي بن الرقاع العاملي يمدح الوليد
( عرَف الدِّيَارَ تَوَهُّماً فاعتَادَها ... من بعدِ ما شَمِلَ البِلَى أَبْلاَدَها )
( ولربَّ واضحةِ العَوَارِضِ طَفلةٍ ... كالرِّيم قد ضَرَبَتْ بها أوتادَها )
( إنِّي إذا ما لم تَصِلْنِي خُلَّتِي ... وتباعَدتْ منِّي اغتفرتُ بِعَادَها )
( صلى الإِلهُ على امرىءٍ ودّعْتُه ... وأتَمَّ نِعْمَته عليه وزَادَهَا )
( وإذا الرَّبِيعُ تتابعتْ أنْواؤُه ... فسَقَى خُنَاصِرَةَ الأحَصِّ فجادَها )
( نزَل الوليدُ بها فكان لأهلِها ... غيثاً أغاثَ أنيسَها وبِلادَها )
( أوَ لا تَرَى أنّ البَرِيَّةَ كلَّها ... ألقتْ خزَائِمَها إليه فقادَها )
( ولقد أراد اللهُ إذ وَلاَّكَها ... من أُمَّةٍ إصلاَحها ورشَادَها )
( أَعْمَرْتَ أرضَ المسلمين فأقْبَلَتْ ... وكَفَفْتَ عنها مَنْ يَرُومُ فسادَها )
( وأصَبْتَ في أرضِ العَدُوِّ مُصِيبةً ... عَمَّتْ أقَاصِيَ غَوْرِها ونِجَادَها )
( ظَفَراً ونَصْراً ما تناولَ مثلَه ... أحدٌ من الخُلَفاءِ كان أرادَها )

( فإذا نَشَرْتُ له الثناءَ وجدتُه ... جَمع المَكَارِمِ طِرْفَها وتِلاَدَها )

الوليد يأمر بإحضار الأحوص وعدي بن الرقاع
فأشار الوليد إلى بعض الخدم فغطوه بالخلع ووضعوا بين يديه كيسا من الدنانير وبدرا من الدراهم ثم قال الوليد بن عبد الملك يا مولى بني نوفل بن الحارث لقد أوتيت أمرا جليلا فقال ابن سريج يا أمير المؤمنين لقد آتاك الله ملكا عظيما وشرفا عاليا وعزا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله فأدام الله لك ما ولاك وحفظك فيما استرعاك فإنك أهل لما أعطاك ولا نزعه منك إذ رآك له موضعا قال يا نوفلي وخطيب أيضا قال ابن سريج عنك نطقت وبلسانك تكلمت وبعزك بينت وقد كان أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصاري وعدي بن الرقاع العاملي فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج فأنزلا منزلا إلى جنب ابن سريج فقالا والله لقرب أمير المؤمنين كان أحب إلينا من قربك يا مولى بني نوفل وإن في قربك لما يلذنا ويشغلنا عن كثير مما نريد فقال لهما ابن سريج أو قلة شكر فقال له عدي كأنك يابن اللخناء تمن علينا علي وعلي إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار إلا عند أمير المؤمنين وأما الأحوص فقال أو لا تحتمل لأبي يحيى الزلة

والهفوة وكفارة يمين خير من عدم المحبة وإعطاء النفس سؤلها خير من لجاج في غير منفعة فتحول عدي وبقي عنده الأحوص وبلغ الوليد ما جرى بينهم فدعا ابن سريج وأدخله بيتا وأرخى دونه سترا ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدي من كلمتيهما أن يغني فلما دخلا وأنشداه مدائح فيه رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعوده فقال عدي يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أتكلم فقال قل يا عاملي قال أمثل هذا عند أمير المؤمنين ويبعث إلى ابن سريج يتخطى به رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشأم ترفعه أرض وتخفضه أخرى فيقال من هذا فيقال عبيد بن سريج مولى بني نوفل بعث أمير المؤمنين إليه ليسمع غناءه فقال ويحك يا عدي أو لا تعرف هذا الصوت قال لا والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله حسنا ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت طائفة من الجن يتغنون فقال اخرج عليهم فخرج فإذا ابن سريج فقال عدي حق لهذا أن يحمل حق لهذا أن يحمل ثلاثا ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج وارتحل القوم وكان الذي غناه ابن سريج من شعر عمر بن أبي ربيعة
( بالله يا ظَبْيَ بني الحَارِثِ ... هل مَنْ وَفَى بالعَهْدِ كالنَّاكِثِ )
( لا تَخْدَعَنِّي بالمُنَى باطِلاً ... وأنت بي تَلعَبُ كالعَابِث )
( حتّى متى أنتَ لنا هكذا ... نَفْسِي فِداءٌ لكَ يا حارثي )
( يا مُنْتَهى هِّمي ويا مُنْيتي ... ويا هَوَى نَفْسي ويا وَارِثي )

عودة الناس عن لوم ابن سريج على صنعة الغناء بعد سماع صوته
)
قال وبلغني أن رجلا من الأشراف من قريش من موالي ابن سريج عاتبه يوما على الغناء وأنكره عليه وقال له لو أقبلت على غيره من الآداب لكان أزين

بمواليك وبك فقال جعلت فداك امرأته طالق إن أنت لم تدخل الدار فقال الشيخ ويحك ما حملك على هذا قال جعلت فداك قد فعلت فالتفت النوفلي إلى بعض من كان معه متعجبا مما فعل فقال له القوم قد طلقت امرأته إن أنت لم تدخل الدار فدخل ودخل القوم معه فلما توسطوا الدار قال امرأته طالق إن أنت لم تسمع غنائي قال اعزب عني يا لكع ثم بدر الشيخ ليخرج فقال له أصحابه أتطلق امرأته وتحمل وزر ذلك قال فوزر الغناء أشد قالوا كلا ما سوى الله عز و جل بينهما فأقام الشيخ مكانه ثم اندفع ابن سريج يغني في شعر عمر بن أبي ربيعة في زينب
( ألَيستْ بالَّتِي قالتْ ... لمولاةٍ لهَا ظهرا )
( أشِيري بالسَّلاَمِ لهُ ... إذا هُو نحونَا خَطَرَا )
( وقُولِي في مُلاَطفةٍ ... لِزينبَ نَوِّلي عمرَا )
( أهذا سِحرُك النِّسوانَ ... قد خَبَّرنَني الخَبَرا )
فقال للجماعة هذا والله حسن ما بالحجاز مثله ولا في غيره وانصرفوا
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال قال عبد الله ابن عمير الليثي لابن سريج لو تركت الغناء وعاتبه على ذلك فقال جعلت فداك لو سمعته ما تركته ثم قال امرأته طالق ثلاثا إن لم تدخل الدار حتى تسمع غنائي فالتفت عبد الله إلى رفيق له كان معه فقال ما تنتظر أدخل بنا وإلا طلقت امرأة الرجل فدخلا مع ابن سريج فغنى بشعر الأحوص

صوت
( لقدْ شاقَكَ الحيُّ إذ ودعوا ... فعينُك في إثْرهم تَدْمَعُ )

( وناداكَ للبَيْنِ غِرْبانُه ... فَظَلتَ كأنَّكَ لا تَسمَعُ )
ثم قال امرأته طالق إن أنت لم تستحسنه لأتركنه فتبسم عبد الله وخرج

نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات
منها الصوت الذي أوله في الخبر
( جَدّدِي الوَصْلَ يا قريب وجُودي ... )
قوله
صوت
( إنَّ طَيْفَ الخَيَالِ حينَ ألَّما ... هاجَ لي ذُكْرَةً وأحدثَ هَمَّا )
( جَدِّدِي الوَصْلَ يا قريب وجُودِي ... لمُحِبٍّ فِرَاقُه قد ألمَّا )
( ليس بينَ الحياةِ والموتِ إلاَّ ... أن يَرُدُّوا جِمَالَهم فتُزَمَّا )
( ولقد قُلْتُ مُخْفِياً لِغَريضٍ ... هل تَرَى ذلك الغَزَال الأحَمَّا )
( هل تَرَى مثلَه من الناسِ شَخْصاً ... أكمَل الناسِ صورةً وأتَمَّا )
عروضه من الخفيف الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وفيه للغريض أيضا ثقيل أولُ بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير قال
أنشد جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام قول عمر

( ليس بين الحياة والموت إلاَّ ... أن يَرُدُّوا جِمَالَهم فتُزَمَّا )
فطرب وارتاح وجعل يقول لقد عجلوا البين أفلا يوكون قربة أفلا يودعون صديقا أفلا يشدون رحلا حتى جرت دموعه
وحدثنا الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير فذكر مثله
ومنها

صوت
( يا أختَ نَاجِيةَ السلامُ عليكُم ... قبلَ الرَّحِيل وقبلَ عَذْلِ العُذَّلِ )
( لو كنتُ أعلمُ أنّ آخرَ عَهْدِكم ... يومُ الرَّحِيل فعلتُ ما لم أفعَلِ )
عروضه من الكامل الشعر لجرير والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكي وذكر إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن ابن المكي أيضا ومما يشك فيه أنه لمعبد أو لكردم ابنه في البيت الثاني والأول ثاني ثقيل ولعريب في هذين البيتين لحن من رواية ابن المعتز غير مجنس
ومنها
صوت
( أمَنزِلَتَيْ سَلْمَى على القِدَم أَسلَمَا ... فقد هِجْتُما للشوق قلباً مُتَيَّما )
( وذَكَّرتُما عصرَ الشَّباب الذي مضَى ... وجِدَّةَ وَصْلٍ حَبْلُه قد تَجَذَّمَا )

عروضه من الطويل والشعر للأحوص والغناء لكردم ثاني ثقيل بالوسطى وقيل إن هذا الثقيل الثاني لمحمد الرف وإن فيه لحنا من الثقيل الأول لكردم
ومنها

صوت
( عَرَفَ الديارَ توهُّماً فاعتادَها ... من بَعْدِ ما شَمِلَ البِلَى أَبْلاَدَهَا )
( إلاّ رَوَاكِدَ كُلُّهنّ قَدِ اصْطَلَى ... حَمْرَاءَ أكثَر أهلُهَا إيقادَها )
عروضه من الكامل الشعر لعدي بن الرقاع العاملي والغناء لابن محرز ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وفيه لحن لإبراهيم وفي هذه الأخبار أنه لابن سريج وذكر حماد في كتاب ابن محرز أنه مما ينسب إلى ابن مسجح أو إلى ابن محرز
ومنها
صوت
( باللهِ يا ظَبْيَ بني الحارِثِ ... هل مَنْ وَفَى بالعهدِ كالنَّاكِثِ )
( لا تَخْدَعَنِّي بالمُنَى بَاطِلاً ... وأنت بي تلعَب كالعَابِثِ )
عروضه من السريع الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ولحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى وذكر عمرو بن بانة أنه لسياط وذكر الهشامي وبذل أن فيه لإبراهيم الموصلي لحنا آخر وفيه خفيف رمل بالبنصر ذكر حبش أنه لإبراهيم بن المهدي وغيره ينسبه إلى إسحاق
ومنها

صوت
وهو الذي أوله في الخبر أليست بالتي قالت لمولاة لها ظهرا
( تَصَابَى القلبُ فادَّكَرا ... هَوَاه ولم يَكُن ظَهَرَا )
( لزينبَ إذ تُجِدُّ لنا ... صَفَاء لم يكن كَدِرَا )
( أليستْ بالتي قالتْ ... لموْلاةٍ لها ظهرا )
( أشِيري بالسَّلاَمِ له ... إذا هو نحوَنا نَظَرا )
( وقُولِي في مُلاَطَفَةٍ ... لزينبَ نَوِّلي عُمَرا )
( فهزَّتْ رأسَها عَجَباً ... وقالتْ مَنْ بِذَا أمَرا )
( أهذا سِحْرُكَ النِّسْوانَ ... قد خَبَّرْنَني الخَبَرا )
( طَرِبْتَ وَرَدّ مَنْ تَهْوَى ... جِمَالُ الحَيِّ فابتكَرا )
( فقُلْ للبَرْبَرِيَّةِ لا ... تلُومِي القلبَ إن جَهَرا )
( بَطِرْتَ وهكذا الإنسانُ ... ذو بَطَرٍ إذا ظَفِرَا )
( فأينَ العَهْدُ والميثاقُ ... لا تُخْبِرْ بنا بَشَرا )
عروضه من الوافر الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج في الثالث والرابع والخامس والأول خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وللغريض في السابع والثامن والأول لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالوسطى في مجراها عن إسحاق ولمعبد في هذه الأبيات كلها لحن عن يونس ودنانير ولم يجنساه وذكر الهشامي أنه خفيف ثقيل وفي السابع والثامن والتاسع رمل لدحمان ويقال إنه للزبير ابنه ولمالك لحن أوله

صوت
( لقدْ أرسلتُ جَارِيَتِي ... وقلتُ لها خُذِي حَذَرَكْ )
( وقُولِي في مُلاَطَفةٍ ... لزينَبَ نَوّلي عُمَرَكْ )
( فهزَّتْ رَأسَها عَجَباً ... وقالتْ مَن بذا أمَرَكْ )
( أهذا سحرُك النسوان ... قد خبّرنني خبرَكْ )
ولحن مالك هذا خفيف ثقيل بالوسطى من رواية ابن المكي وهذا يروي الشعر ويجعل قوافيه كلها على الكاف وفي هذه الأبيات بعينها على هذه القافية خفيف رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى الغريض وذكر حبش أن فيه لمعبد لحنا من الرمل أوله الثالث من الأبيات الأول المذكورة
رجع الخبر إلى سِيَاقة أحاديث ابن سريج
ابن سريج أحسن الناس غناء
أخبرنا يحيى بن علي ووكيع وجحظة قالوا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال لي الفضل بن يحيى سألت أباك ليلة وقد أخذ منه الشراب عن أحسن الناس غناء فقال لي من النساء أم من الرجال قلت من الرجال قال ابن محرز فقلت فمن النساء قال ابن سريج قال إسحاق لي ويقال أحسن الرجال غناء من تشبه بالنساء وأحسن النساء غناء من تشبه بالرجال قال يحيى بن علي خاصة ثم كان ابن سريج كأنه خلق من قلب كل واحد فهو يغني له بما يشتهي
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي عن الهيثم بن عدي قال
قال ابن سريج مررت ببعض أندية مكة وفيه جماعة فحصرت فقلت

كيف أجوزهم مع تعبي وما أنا فيه فسمعتهم يقولون قد جاء ابن سريج فقال بعضهم ممن لم يعرفني ومن ابن سريج فقال الذي ينغني
( أَلاَ هل هاجَكَ الأظعانُ ... إذ جَاوَزْنَ مُطَّلَحَا )
قال ابن سريج فلما سمعت ذلك قويت نفسي واشتدت منتي ومررت بها أخطر في مصبغاتي فلما حاذيتهم قاموا بأجمعهم فسلموا علي ثم قالوا لأحداثهم امشوا مع أبي يحيى

ابن سريج يغني فتية من بني مروان
وقد حدثني عمي بهذا الخبر فقال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن سلام عن جرير قال
قال لي ابن سريج دعاني فتية من بني مروان فدخلت إليهم وأنا في ثياب الحجاز الغلاظ الجافية وهم في القوهي والوشي يرفلون كأنهم الدنانير الهرقلية فغنيتهم وأنا محتقر لنفسي عندهم لحنا لي وهو
صوت
( أبِالفُرْعِ لم تَظْعَنْ مع الحيِّ زينبُ ... بِنَفْسِي عن النَّأْيِ الحَبِيبُ المُغَيَّبُ )
( بوَجْهِكِ عن مَسِّ التُّرَابِ مَضَنَّةٌ ... فلا تَبْعَدِي إذ كلُّ حَيّ سَيَعْطَبُ )
ولحن ابن سريج هذا رمل بالخنصر في مجرى البنصر قال فتضاءلوا في عيني حتى ساويتهم في نفسي لما رأيتهم عليه من الإعظام لي ثم غنيتهم

( وَدِّعْ لُبَابَةَ قبل أن تَترحَّلاَ ... واسألْ فإن قُلاَلَه أن تَسْأَلاَ )
فطربوا وعظموني وتواضعوا لي حتى صرت في نفسي بمنزلتهم لما رأيتهم عليه وصاروا في عيني بمنزلتي ثم غنيتهم
( ألاَ هَلْ هاجكَ الأَظْعَانُ ... إذ جَاوَزْنَ مُطَّلَحَا )
فطربوا ومثلوا بين يدي ورموا بحللهم كلها علي حتى غطوني بها فمثلت لي نفسي أنها نفس الخليفة وأنهم لي خول فما رفعت طرفي إليهم بعد ذلك تيها وقد مضت نسبة ودّعْ لُبَابَةَ في أخبار عمر بن أبي ربيعة وغيره وأما
( ألاَ هَلْ هَاجَكَ الأَظْعانُ ... )
فنذكر نسبته

نسبة هذا الصوت
صوت
( ألاَ هَلْ هاجَكَ الأظعانُ ... إذ جاوَزْنَ مُطَّلَحَا )
( نَعَمْ ولوَشْكِ بينهِمُ ... جَرَى لكَ طائرٌ سُنُحَا )
( أَجَزْنَ الماءَ من رَكَكٍ ... وضوءُ الفَجْرِ قد وَضَحا )

( فقُلْنَ مَقِيلُنا قَرْنٌ ... نُبَاكِرُ ماءه صبُحَا )
( تَبِعْتُهُم بطَرْفِ العَيْنِ ... حتَّى قِيلَ لي افتَضَحَا )
( يُوَدِّع بَعْضُنا بعضاً ... وكلٌّ بالهَوَى جُرِحَا )
( فمَنْ يَفْرَحْ بِبَيْنِهمُ ... فغَيْرِي إذ غَدَوْا فَرِحَا )
عروضه من الوافر الشعر لأبي دهبل الجمحي والغناء لمالك وله فيه لحنان ثقيل أول بالبنصر عن إسحاق وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ولمعبد فيه ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى ولابن سريج في الخامس وما بعده ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش

جرير يمدح غناء ابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال قدم جرير المدينة أو مكة فجلس مع قوم فجعلوا يعرضون عليه غناء رجل رجل من المغنين حتى غنوه لابن سريج فطرب وقال هذا أحسن ما أسمعتموني من الغناء كله قالوا وكيف قلت ذاك يا أبا حزرة قال مخرج كل ما أسمعتموني من الغناء من الرأس ومخرج هذا من الصدر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال حدثني إبراهيم بن محمد الشافعي قال
جاء سندة الخياط المغني إلى الأفلح المخزومي وكان يوصف بعقل وفضل فقال له من أين أقبلت وإلى أين تمضي فقال إليك قصدت من

مجلس لبعض القرشيين أقبلت محاكما إليك قال فيماذا قال كنت عند هذا الرجل وحضرت مجلسه رقطاء الحبطيين وصفراء العلقميين فتناولتا بينهما رمل ابن سريج
( ليتَ شِعْرِي كيفَ أَبْقَى ساعةً ... مع ما أَلْقَى إذا الليلُ حَضَرْ )
( من يَذُقْ نوماً ويَهْدأْ ليلَه ... فلقد بُدِّلْتُ بالنومِ السَّهَرْ )
( قلتُ مَهْلاً إنها جِنِّتَّةٌ ... إن تُخَالِطْها تَفُزْ منها بِشَرّ )
فغنتاه جميعا واختلفنا في تفضيلهما ففضل كل فريق منا إحداهما فرضينا جميعا بحكمك فاحكم بيننا وبينهما فوجم ساعة وأهل الحجاز إذا أرادوا أن يحكموا تأملوا ساعة ثم حكموا فإذا حكم المحكم مضى حكمه كائنا ما كان ففضل من فضله وأسقط من أسقطه إذا تراضى الخصمان به فكره الأفلح أن يرضي قوما ويسخط آخرين فقال لسندة صفهما أنت لي كيف كانتا إذ غنتاه واشرح لي مذهبهما فيه كما سمعت وأنا أحكم بعد ذلك فقال سندة أما جارية الحبطيين فإنها كانت تلوك لحنه كما يلوك الفرس العتيق لجامه ثم تلقيه في هامة لدنة ثم تخرجه من منخر أغن والله ما ابتدأته فتوسطته وأنا أعقل ولا فرغت منه فأفقت إلا وأنا أظن أني رأيته في نومي وأما صفراء العلقميين فإنها أحسنهما حلقا وأصحهما صوتا وألينهما تثنيا والله ما سمعها أحد قط فانتفع بنفسه ولا دينه هذا ما عندي فاحكم أنت يا أخا بني مخزوم فقال قد حكمت بأنهما بمنزلة العينين في الرأس فبأيهما نظرت أبصرت ولو كان في

الدنيا من عبيد بن سريج خلف لكانتا قال فانصرفوا جميعا راضين بحكمه
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال
سألت جريرا المديني عن ابن سريج فقال أتذكره ويحك باسمه ولا تقول سيد من غنى وواحد من ترنم
قال حماد وحدثني أبي عن هارون بن مسلم عن محمد بن زهير السعدي الكوفي عن أبي بكر بن عياش عن الحسن بن عمرو الفقيمي قال
دخلت على الشعبي فبينا أنا عنده في غرفته إذ سمعت

صوت
غناء فقلت أهذا في جوارك فأشرف بي على منزله فإذا بغلام كأنه فلقة قمر يتغنى قال إسحاق وهذا الغناء لابن سريج
( وقُمَيرٌ بَدَا ابنَ خمسٍ وعشرين ... له قالت الفَتَاتَانِ قُومَا )
قال فقال لي الشعبي أتعرف هذا قلت لا فقال هذا الذي أتي الحكم صبيا هذا ابن سريج
وأخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني الهشامي الربعي عن إسحاق الموصلي قال
تغنى ابن سريج في شعر لعمر بن أبي ربيعة وهو
صوت
( خَانَكَ مَنْ تَهْوَى فلا تَخُنْهُ ... وكُنْ وَفِيّاً إن سَلَوْتَ عنهُ )
( واسلُكْ سَبَيلَ وَصْلِه وصُنْهُ ... إن كان غَدَّاراً فلا تكُنْهُ )

( عسى تَبَارِيحُ تَجِيءُ منه ... فيرجِعَ الوَصْلُ ولم تَشِنْهُ )
قال المكيون قال ابن سريج ما تغنيت بهذا الشعر قط إلا ظننت أني أحل محل الخليفة
قال مؤلف هذا الكتاب أبو الفرج الأصفهاني وجدت في هذا الشعر لحنين أحدهما ثقيل أول والآخر رمل مجهولين جميعا فلا أدري أيهما لحنه

ابن سريج يعدد صفات المغني المحسن والمصيب
ونسخت من كتاب العتابي أخبرني عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع عن جده الفضل عن ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب عن مالك بن أبي السمح قال
سألت ابن سريج عن قول الناس فلان يصيب وفلان يخطئ وفلان يحسن وفلان يسيء فقال المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان ويملأ الأنفاس ويعدل الأوزان ويفخم الألفاظ ويعرف الصواب ويقيم الإعراب ويستوفي النغم الطوال ويحسن مقاطيع النغم القصار ويصيب أجناس الإيقاع ويختلس مواقع النبرات ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات فعرضت ما قال على معبد فقال لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثني الزبير بن بكار عن ظبية
أن يزيد بن عبد الملك قال لحبابة يوما أتعرفين أحدا هو أطرب مني قالت نعم مولاي الذي باعني فأمر بإشخاصه فأُشخص إليه مقيدا وأعلم

بحاله فأذن في إدخاله فمثل بين يديه وحبابة وسلامة تغنيان فغنته سلامة لحن الغريض في
( تَشُطُّ غداً دارُ جيراننا ... )
فطرب وتحرك في أقياده ثم غنته حبابة لحن ابن سريج المجرد في هذا الشعر فوثب وجعل يحجل في قيده ويقول هذا وأبيكما ما لا تعذلاني فيه حتى دنا من الشمعة فوضع لحيته عليها فاحترقت وجعل يصيح الحريق الحريق يا أولاد الزنا فضحك يزيد وقال هذا والله أطرب الناس حقا ووصله وسَرَّحه إلى بلده

ابن سريج يطلب إلى عطاء وابن جريج أن يسمعاه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق
أن ابن سريج كان جالسا فمر به عطاء وابن جريج فحلف عليهما بالطلاق أن يغنيهما على أنهما إن نهياه عن الغناء بعد أن يسمعا منه تركه فوقفا له وغناهما
( إخوتي لا تبْعُدُوا أبداً ... وابَلَى والله قد بعِدُوا )
فغشي على ابن جريج وقام عطاء فرقص ونسبة هذا الصوت وخبره يذكر في موضع آخر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق
أن ابن سريج كان عند بستان ابن عامر يغني
( لِمَنْ نارٌ بأعلى الخَيْفِ ... دونَ البئر ما تَخْبُو )
( أرِقْتُ لذكرِ موقِعها ... فحَنَّ لذكرِها القَلْبُ )

( إِذا ما أخْمِدتْ أُلْقِي ... عليها المَنْدَلُ الرَّطْبُ )
فجعل الحاج يركب بعضهم بعضا حتى جاء إنسان من آخر القطرات فقال يا هذا قد قطعت على الحاج وحبستهم والوقت قد ضاق فاتق الله وقم عنهم فقام وسار الناس

استحق جائزة سليمان بن عبد الملك لسبقه في الغناء
أخبرني الحسن قال حدثني محمد بن زكريا قال حدثني يزيد بن محمد عن إسحاق الموصلي
أن سليمان بن عبد الملك لما حج سبق بين المغنين بَدْرَةً فجاء ابن سريج وقد أغلق الباب فلم يأذن له الحاجب فأمسك حتى سكتوا وغنى
( سَرَى هَمِّي وهَمُّ المرء يَسْري ... )
فأمر سليمان بدفع البدرة إليه
نسبة هذا الصوت
صوت
( سَرَى همِّي وهَمُّ المرءِ يْسِرِي ... وغاب النَّجْمُ إلا قِيسَ فِتْر )
( أُراقِبُ في المَجَرَّة كلَّ نَجْمٍ ... تعرَّض للمَجَرَّة كيفَ يَجْرِي )

( لِهَمٍّ لا أزالُ له مُدِيماً ... كأنّ القلبَ أُسْعِر حَرَّ جَمْرِ )
( على بَكْرٍ أخي ولَّى حَمِيداً ... وأيُّ العَيْش يَصْفُو بعدَ بَكْرِ )
الشعر لعروة بن أذينة والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لأبي عباد رمل بالوسطى وذكر الهشامي أن هذا اللحن لصاحب الحرون

مرض ابن سريج وموته
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
قال ابن مِقَمَّةَ دخلت على ابن سريج في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف أصبحت يا أبا يحيى فقال أصبحت والله كما قال الشاعر
( كأنِّي من تَذَكُّرِ ما أُلاَقي ... إذا ما أَظْلَم الليلُ البهِيمُ )
( سَقيمٌ مَلَّ منه أَقْرَبُوه ... وأسْلَمَه المُدَاوِي والحمِيمُ )
ثم مات
قال إسحاق قال ابن مِقَمَّةَ لما احتضر ابن سريج نظر إلى ابنته تبكي فبكى وقال إن من أكبر همي أنت وأخشى أن تضيعي بعدي فقالت لا تخف فما غنيت شيئا إلا وأنا أغنيه فقال هاتي فاندفعت تغني أصواتا وهو مصغ إليها فقال قد أصبت ما في نفسي وهونت علي امرك ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلي فزوجه إياها فأخذ عنها أكثر غناء أبيها وانتحله فهو الآن ينسب إليه قال إسحاق فقال كثر بن كثير السهمي يرثيه
( ما اللهوُ بعدَ عُبَيْد حين يَخْبُرُه ... مَنْ كانَ يَلْهُو به منه بمُطَّلَبِ )

( للهِ قبرُ عُبَيدٍ ما تضمَّن من ... لَذَاذَة العَيْشِ والإِحسانِ والطرب )
( لولا الغَرِيضُ ففيه من شَمَائِلهِ ... مَشَابِهٌ لم أكُن فيها بذي أَرَب )
قال إسحاق وحدثني هشام بن المرية أن قادما قدم المدينة فسار معبدا بشيء فقال معبد أصبحت أحسن الناس غناء فقلنا أو لم تكن كذلك فقال ألا تدرون ما أخبرني به هذا قالوا لا قال أعلمني أن عبيد بن سريج مات ولم أكن أحسن الناس غناء وهو حي وفي ابن سريج يقول عمر بن أبي ربيعة

صوت
( قالتْ وَعيْنَاها تَجُودَانِها ... صُوِحِبْتَ واللهُ لكَ الرَّاعِي )
( يابنَ سُرَيج لا تُذِعْ سِرِّنا ... قد كنتَ عِندي غيرَ مِذْيَاع )
غنى فيه ابن سريج من رواية يونس
قال أبو أيوب المديني توفي ابن سريج بالعلة التي أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان بن عبد الملك أو في آخر خلافة الوليد بمكة ودفن في موضع بها يقال له دَسْمٌ
رجلان يسألان الوقوف على قبر ابن سريج
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني هارون ابن أبي بكر قال حدثني إسحاق بن يعقوب العثماني مولى آل عثمان عن أبيه قال
إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأَبْطَح في صبح خامسة من الثمان يعني أيام الحج قال كنت جالسا أيام الحج فما إن دريت إلا برجل على راحلة على رحل

جميل وأداة حسنة معه صاحب له على راحلة قد جنب إليها فرسا وبغلا فوقفا علي وسألاني فانتسبت لهما عثمانيا فنزلا وقالا رجلان من أهلك لهما حاجة ونحب أن تقضيها قبل أن نشده بأمر الحج فقلت ما حاجتكما قالا نريد إنساناً يقفنا على قبر عبيد بن سريج قال فنهضت معهما حتى بلغت بهما محلة بني أبي قارة من خزاعة بمكة وهم موالي عبيد بن سريج فالتمست لهما إنسانا يصحبهما حتى يقفهما على قبره بدَسْم فوجدت ابن أبي دُبَاكلٍ فأنهضته معهما فأخبرني بعد أنه لما وقفهما على قبره نزل أحدهما عن راحلته فحسر عمامته عن وجهه فإذا هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان فعقر ناقته واندفع يندبه بصوت شجي كليل حسن ويقول
( وقَفْنَا على قبرٍ بدَسْمٍ فَهاجَنَا ... وذَكَّرنا بالعَيْشِ إذ هو مُصْحِبُ )
( فجالتْ بأرجاءِ الجُفُونِ سَوافِحٌ ... من الدَّمْع تَسْتَتْلِي الذي يَتَعقَّبُ )
( إذا أبطأتْ عن ساحةِ الحدّ ساقَها ... دمٌ بعدَ دمعٍ إثْرَه يَتَصبَّبُ )
( فإِن تُسْعِدَا نَنْدُبْ عُبَيداً بَعْوَلةٍ ... وقَلَّ له منَّا البُكَا والتَّحَوُّبُ )
ثم نزل صاحبه فعقر ناقته وقال له القرشي خذ في صوت أبي يحيى فاندفع يتغنى
( أَسْعِدَانِي بعبْرَةٍ أسْرَابِ ... من دُمُوعٍ كَثِيرةِ التَّسْكَابِ )
( إنّ أَهْلَ الحِصَابِ قد تركُونِي ... مُولَهاً مُولَعاً بأهل الحِصَابِ )

( أهل بيتٍ تتابَعُوا للمَنَايَا ... ما على الموت بعدَهم من عِتَابِ )
( فَارَقُونِي وقد علمتُ يقيناً ... ما لِمَنْ ذَاقَ مِيتَةً من إيَاب )
( كم بذاكَ الحَجُونِ من أهل صِدْقٍ ... وكُهُولٍ أَعِفَّةٍ وشَبَابِ )
( سكَنُوا الجَزْع جَزْعَ بيتِ أبي موسى ... إلى النَّخْل من صُفِيِّ السِّبَابِ )
( فلِيَ الويلُ بعدَهم وعليهمْ ... صِرْتُ فرداً ومَلَّنِي أَصْحَابِي )
قال ابن أبي دُبَاكِلٍ فوالله ما تمم صاحبه منها ثلاثا حتى غشي على صاحبه وأقبل يصلح السرج على بغلته وهو غير معرج عليه فسألته من هو فقال رجل من جذام قلت بمن تعرف قال بعبد الله بن المنتشر قال ولم يزل القرشي على حاله ساعة ثم أفاق ثم جعل الجذامي ينضح الماء على وجهه ويقول كالمعاتب له أنت أبدا مصبوب على نفسك ومن كلفك ما ترى ثم قرب إليه الفرس فلما علاه استخرج الجذامي من خرج على بغل قدحا وإداوَةَ ماء فجعل في القدح ترابا من تراب قبر ابن سريج وصب عليه ماء من الإداوة ثم قال هاك فاشرب هذه السَّلْوَةَ فشرب ثم فعل هو مثل ذلك وركب على البغل وأردفني فخرجا والله ما يعرضان بذكر شيء مما كنا فيه ولا أرى في وجوههما شيئا مما كنت أرى قبل ذلك فلما اشتمل علينا أبطح مكة قالا انزل يا خزاعي فنزلت وأومأ الفتى إلى الجذامي بكلام فمد يده إلي وفيها شيء فأخذته فإذا هو عشرون دينارا ومضيا فانصرفت إلى قبره ببعيرين فاحتملت عليهما أداة الراحلتين اللتين عقراهما فبعتها بثلاثين دينارا

صوت من المائة المختارة
وهو الثالث من الثلاثة المختارة
( أهاجَ هواكَ المنزلُ المُتَقَادم ... نعمْ وبه مِمَّنْ شَجَاكَ مَعَالِمُ )
( مَضَارِبُ أَوْتادٍ وأشْعَثُ داثِرٌ ... مُقِيمٌ وسُفْعٌ في المَحَلِّ جَوَاثِمُ )
عروضه من الطويل الشعر لنصيب والغناء في اللحن المختار لابن محرز ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وله فيه أيضا هزج بالسبابة في مجرى البنصر وذكر جحظة عن أصحابه أنه هو المختار وحكى عن أصحابه أنه ليس في الغناء كله نغمة إلا وهي في الثلاثة الأصوات المختارة التي ذكرها
ومن قصيدة نصيب هذه مما يغني فيه قوله
( لقد راعَنِي للبَيْنِ نَوْحُ حمامةٍ ... على غُصْن بَانٍ جاوَبَتْها حَمَائمُ )
( هَوَاتِفُ أمّا منْ بَكَيْنَ فعهدُه ... قَديمٌ وأمّا شَجْوُهُنَّ فَدائِمُ )
الغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن يونس ويحيى المكي وإسحاق وأظنه مع البيتين الأولين وأن الجميع لحن واحد ولكنه تفرق لصعوبة اللحن وكثرة ما فيه من العمل فجعلا صوتين

ذكر نُصَيْبٍ وأخباره
هو نصيب بن رباح مولى عبد العزيز بن مروان وكان لبعض العرب من بني كنانة السكان بودان فاشتراه عبد العزيز منهم وقيل بل كانوا أعتقوه فاشترى عبد العزيز ولاءه منهم وقيل بل كاتب مواليه فأدى عنه مكاتبته
وقال ابن دأب كان نصيب من قضاعة ثم من بلي وكانت أمه سوداء فوقع عليها سيدها فحبلت بنصيب فوثب عليه عمه بعد وفاة أبيه فباعه من عبد العزيز
وقال أبو اليقظان كان أبوه من كنانة من بني ضمرة وكان شاعرا فحلا فصيحا مقدما في النسيب والمديح ولم يكن له حظ في الهجاء وكان عفيفا وكان يقال إنه لم ينسب قط إلا بامرأته
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال كتب إلي عبد الله بن عبد العزيز بن محجن بن نصيب بن رباح يذكر عن عمته غرضة بنت النصيب
أن النصيب كان ابن نوبيين سبيين كانا لخزاعة ثم اشترت سلامة أم نصيب امرأة من خزاعة ضمرية حاملا بالنصيب فأعتقت ما في بطنها
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة قال

كان نصيب من أهل ودان عبدا لرجل من كنانة هو وأهل بيته وكان أهل البادية يدعونه النصيب تفخيما له ويروون شعره وكان عفيفا كبير النفس مقدما عند الملوك يجيد مديحهم ومراثيهم
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي قال
كان نصيب من بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وكانت أمه أمة سوداء وقع فحملت ثم مات فباعه عمه أخو أبيه من عبد العزيز بن مروان

النصيب يقول شعرا ثم ينسبه إلى شعراء
قال حماد وأخبرني أبي عن أيوب بن عباية وأخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمه وعن إسحاق بن إبراهيم جميعا عن أيوب بن عباية قال حدثني رجل من خزاعة من أهل كلية وهي قرية كان فيها النصيب وكثير قال
بلغني أن النصيب قال قلت الشعر وأنا شاب فأعجبني قولي فجعلت آتي مشيخة من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة وهم موالي النصيب ومشيخة من خزاعة فأنشدهم القصيدة من شعري ثم أنسبها إلى بعض شعرائهم الماضِين فيقولون أحسن والله هكذا يكون الكلام وهكذا يكون الشعر فلما سمعت ذلك منهم علمت أني محسن فأزمعوا وأزمعت الخروج إلى عبد العزيز بن مروان وهو يومئذ بمصر فقلت لأختي أمامة وكانت عاقلة جلدة أي أخية إني قد قلت شعرا وأنا أريد عبد العزيز بن مروان وأرجو أن يعتقك الله عز و جل به وأمك ومن كان مرقوقا من أهل قرابتي قالت إنا لله وإنا إليه راجعون يابن أم أتجتمع عليك الخصلتان السواد وأن تكون ضحكة للناس قال قلت

فاسمعي فأنشدتها فسمعت فقالت بأبي أنت أحسنت والله في هذا والله رجاء عظيم فاخرج على بركة الله فخرجت على قعود لي حتى قدمت المدينة فوجدت بها الفرزدق في مسجد رسول الله فعرجت إليه فقلت أنشده وأستنشده وأعرض عليه شعري فأنشدته فقال لي ويلك أهذا شعرك الذي تطلب به الملوك قلت نعم قال فلست في شيء إن استطعت أن تكتم هذا على نفسك فافعل فانفضخت عرقا فحصبني رجل من قريش كان قريبا من الفرزدق وقد سمع إنشادي وسمع ما قال لي الفرزدق فأومأ إلي فقمت إليه فقال ويحك أهذا شعرك الذي أنشدته الفرزدق قلت نعم فقال قد والله أصبت والله لئن كان هذا الفرزدق شاعرا لقد حسدك فإنا لنعرف محاسن الشعر فامض لوجهك ولا يكسرنك قال فسرني قوله وعلمت أنه قد صدقني فيما قال فاعتزمت على المضي قال فمضيت فقدمت مصر وبها عبد العزيز ابن مروان فحضرت بابه مع الناس فنحيت عن مجلس الوجوه فكنت وراءهم ورأيت رجلا جاء على بغلة حسن الشارة سهل المدخل يؤذن له إذا جاء فلما انصرف إلى منزله انصرفت معه أماشي بغلته فلما رآني قال ألك حاجة قلت نعم أنا رجل من أهل الحجاز شاعر وقد مدحت الأمير وخرجت إليه راجيا معروفه وقد ازدريت فطردت من الباب ونحيت عن الوجوه قال فأنشدني فأنشدته فأعجبه شعري فقال ويحك أهذا شعرك فإياك أن تنتحل فإن الأمير راوية عالم بالشعر وعنده رواة فلا تفضحني ونفسك فقلت والله ما هو إلا شعري فقال ويحك فقل أبياتا تذكر فيها حوف مصر وفضلها على غيرها والقني بها غدا فغدوت عليه من غد فأنشدته قولي

( سَرَى الهَمُّ تَثْنِينِي إليكَ طَلائعهْ ... بمصرَ وبالخَوْف اعتَرَتْنِي رَوَائعُهْ )
( وبات وسِادِي ساعدٌ قَلَّ لحمُه ... عن العَظْمِ حتى كاد تَبْدُو أَشَاجعُهْ )
قال وذكرت فيها الغيث فقلت
( وكم دونَ ذاكَ العاَرِضِ البَارِقِ الذي ... له اشتَقْتُ مِن وَجْهٍ أسيلَ مَدَامِعُهْ )
( تمَشِّي به أفْنَاءُ بَكْرٍ ومَذْحِجٍ ... وأفناءُ عَمْرٍو وهو خِصْبٌ مَرابِعُهْ )
( فكلُّ مسِيلٍ من تِهَامَةَ طيِّبٌ ... دَمِيثُ الرُّبَا تَسْقِي البِحارَ دَوَافِعه )
( أعنِّي على بَرْقٍ أُرِيكَ وَمِيضَه ... تُضِيءُ دُجُنَّاتِ الظَّلاَمِ لَواَمِعُهْ )
( إذا اكْتَحَلْت عَيْنَا مُحِبٍّ بضَوْئِه ... تَجَافَتْ به حتَّى الصَّبَاحَ مَضَاجِعُهُ )
( هَنِيئاً لأُمِّ البَخْتَرِيِّ الرِّوَى به ... وإن أَنْهَجَ الحَبْلَ الذي أنا قَاطِعُهْ )
( وما زِلْتُ حتَّى قُلْتُ إنِّي لَخالِعٌ ... وَلاَئِيَ مِنْ مَوْلىً نَمَتَنيِ قَوَارِعُه )
( ومانِحُ قومٍ أنتَ منهم مَوَدَّتِي ... ومتَّخِذٌ مَوْلاَكَ مَوْلىً فتابِعُهْ )

عبد العزيز بن مروان يقول لأيمن بن خريم والله لنصيب أشعر منك
قال أنت والله شاعر احضر بالباب حتى أذكرك للأمير قال فجلست على الباب ودخل فما ظننت أنه أمكنه أن يذكرني حتى دعي بي فدخلت فسلمت على عبد العزيز فصعد في بصره وصوب ثم قال أنت شاعر ويلك قلت نعم أيها الأمير قال فأنشدني فأنشدته فأعجبه شعري وجاء الحاجب

فقال أيها الأمير هذا أيمن بن خريم الأسدي بالباب فقال ائذن له فدخل فاطمأن فقال له الأمير يا أيمن بن خريم كم ترى ثمن هذا العبد فنظر إلي فقال والله لنعم الغادي في أثر المخاض هذا أيها الأمير أرى ثمنه مائة دينار قال فإنَّ له شعرا وفصحاحة فقال لي أيمن أتقول الشعر قلت نعم قال قيمته ثلاثون دينارا قال يا أيمن أرفعه وتخفضه أنت قال لكونه أحمق أيها الأمير ما لهذا وللشعر أمثل هذا يقول الشعر أو يحسن شعراً فقال أنشده يا نصيب فأنشدته فقال له عبد العزيز كيف تسمع يا أيمن قال شعر أسود هو أشعر أهل جلدته قال هو والله أشعر منك قال أمني أيها الأمير قال إي والله منك قال والله أيها الأمير إنك لملول طرف قال كذبت والله ما أنا كذلك ولو كنت كذلك ما صبرت عليك تنازعني التحية وتؤاكلني الطعام وتتكىء على وسائدي وفرشي وبك ما بك يعني وضحا كان بأيمن قال ائذن لي أن أخرج إلى بشر بالعراق واحملني على البريد قال قد أذنت لك وأمر به فحمل على البريد قال قد أذنت له وأمر به فحمل على البريد إلى بشر فقال أيمن بن خريم
( ركبتُ من المُقَطَّمِ في جُمَادَى ... إلى بِشْرِ بنِ مَرْوان البَرِيدَا )
( ولو أعطاكَ بِشْرٌ أَلْفَ أَلْفٍ ... رَأَى حَقّاً عليه أن يَزِيدَا )
( أميرَ المؤمنين أَقِمْ بِبشْرٍ ... عَمُودَ الحق إنّ له عَمُودَا )

( ودَعْ بِشْراً يُقَوِّمْهُمْ ويُحْدِثْ ... لأهلِ الزَّيْغِ إسلاماً جَديدَا )
( كأنّ التاجَ تاجَ بني هِرقْلٍ ... جَلَوْه لأعْظَمِ الأيّامِ عِيدَا )
( عَلى دِيبَاجِ خَدَّيْ وَجْهِ بِشْرٍ ... إذا الألوانُ خالفتِ الخُدُودَا ... )
قال أيوب يعني بقوله
( إذا الألوان خَالَفتِ الخُدُودَا )
أنه عرض بكلف كان في وجه عبد العزيز
( وأعْقَبَ مِدْحِتِي سَرْجاً مليحاً ... وأبْيضَ جُوزَجانِياً عَقُودَا )
( وإنّا قد وَجَدْنا أُمَّ بِشْرٍ ... كأُمِّ الأُسْدِ مِذْكَاراً وَلُودَا )
قال فأعطاه بشر مائة ألف درهم

عبد الله بن أبي فروة أول من وصل النصيب بعبد العزيز بن مروان
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال
أول من نوه باسم نصيب وقدم به على عبد العزيز بن مروان عبد الله بن أبي فروة قدم به عليه وهو وصيف حين بلغ وأول ما قال الشعر قال أصلح الله الأمير جئتك بوصيف نوبي يقول الشعر وكان نصيب ابن نوبيين فأدخله عليه فأعجبه شعره وكان معه أيمن بن خريم الأسدي فقال عبد العزيز إذا دعوت بالغداء فأدخلوه علي في جبة صوف محتزما بعقال فإذا قلت قوموه فقوموه وأخرجوه وردوه علي في جبة وشيٍ ورداء وشيٍ فلما جلس للغداء ومعه أيمن بن خريم

أدخل نصيب في جبة صوف محتزما بعقال فقال قوموا هذا الغلام فقالوا عشرة عشرون ثلاثون ديناراً فقال ردوه فأخرجوه ثم ردوه في جبة وشيٍ ورداء وشي فقال أنشدنا فأنشدهم فقال قوموه قالوا ألف دينار فقال أيمن والله ما كان قط أقل في عيني منه الآن وإنه لنعم راعي المخاض فقال له فكيف شعره قال هو أشعر أهل جلدته فقال له عبد العزيز هو والله أشعر منك قال أمني أيها الأمير قال نعم فقال أيمن إنك لملول طرف فقال له والله ما أنا بملول وأنا أنازعك الطعام منذ كذا وكذا تضع يدك حيث أضعها وتلتقي يدك مع يدي على مائدة كل ذلك احتملك وكان بأيمن بياض فقال له أيمن ائذن لي أن أخرج إلى بشر فأذن له فخرج وقال أبياته التي أولها
( رَكِبْتُ من المقطَّم في جُمَادَى )
وقد مضت الأبيات قال فلما جاز بعبد الملك بن مروان قال أين تريد قال أريد أخاك بشرا قال أتجوزني قال إي والله أجوزك إلى من قدم إلي وطلبني قال فلم فارقت صاحبك قال رأيتكم يا بني مروان تتخذون للفتى من فتيانكم مؤدبا وشيخكم والله محتاج إلى خمسة مؤدبين فسر ذلك عبد الملك وكان عازما على أن يخلعه ويعقد لابنه الوليد

عبد العزيز بن مروان يبتاع نصيبا ويعتقه
)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال
يقال إن نصيبا أضل إبلا له فخرج في بغائها فلم يصبها وخاف مواليه أن يرجع إليهم فأتى عبد العزيز بن مروان فمدحه وذكر له قصته فأخلف عليه ما ضل لمواليه وابتاعه وأعتقه
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الهلالي ثم الدوسي قال

أراد النصيب الخروج إلى عبد العزيز بن مروان وهو عبد لبني محرز الضمري فقالت أمه له إنك سترقد ويأخذك ابن محرز يذهب بك فذهب ولم يبال بقولها حتى إذا كان بمكان ماء يعرف بالدَّوِّ فبينا هو راقد إذ هجم عليه ابن محرز فقال حين رآه
( إنِّي لأَخْشَى من قِلاَصِ ابن مُحْرِزٍ ... إذا وَخَدَتْ بالدَّوِّ وَخْذَ النَّعَائِمِ )
( يَرُعْنَ بَطِينَ القَوْمِ أيَّةَ رَوْعَةٍ ... ضُحَيَّا إذا اسْتَقْبَلْنَهُ غير نائِم )
فأطلقوه فرجع فأتى أمه فقالت أخبرتك يا بني أنه ليس عندك أن تعجز القوم فإن كنت يا بني قد غلبتني أنك ذاهب فخذ بنت الفلانة فإني رأيتها وطئت أفحوص بيضات قطاة فلم تفلقهن فركبها فهي التي بلغته ابن مروان
قال أبو عبد الله بن الزبير عندنا أن التي اعتقته امرأة من بني ضمرة ثم من بني حنبل
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم قال حدثنا كليب بن إسماعيل مولى بني أمية وكان حدثا أي حسن الحديث قال
بلغني أن نصيبا كان حبشيا يرعى إبلا لمواليه فأضل منها بعيرا فخرج في طلبه حتى أتى الفسطاط وبه إذ ذاك عبد العزيز بن مروان وهو ولي عهد عبد الملك بن مروان فقال نصيب ما بعد عبد العزيز واحد أعتمده لحاجتي فأتى الحاجب فقال استأذن لي على الأمير فإني قد هيأت له مديحا فدخل الحاجب فقال أصلح الله الأمير بالباب رجل أسود يستأذن عليك بمديح قد هيأه لك

فظن عبد العزيز أنه ممن يهزأ به ويضحكهم فقال مره بالحضور ليوم حاجتنا إليه فغدا نصيب وراح إلى باب عبد العزيز أربعة أشهر وأتاه آت من عبد الملك فسره فأمر بالسرير فأبرز للناس وقال علي بالأسود وهو يريد أن يضحك منه الناس فدخل فلما كان حيث يسمع كلامه قال
( لعبد العزيز على قومِه ... وغيرِهمُ نِعَمٌ غَامِرَهْ )
( فبابُكَ ألينُ أبوابِهم ... ودارُك مأهولةٌ عامِرَهْ )
( وكلبُك آنَسُ بالمُعْتَفِينَ ... من الأمِّ بالإِبْنَة الزائرهْ )
( وكَفُّكَ حينَ تَرَى السائلين ... أَنْدَى من اللّيلةِ الماطرهْ )
( فمنكَ العَطَاءُ ومنِّي الثَّنَاءُ ... بكلِّ مُحَبَّرةٍ سائرهْ )
فقال أعطوه أعطوه فقال إني مملوك فدعا الحاجب فقال اخرج فابلغ في قيمته فدعا المقومين فقال قوموا غلاما أسود ليس به عيب قالوا مائة دينار قال إنه راع للإبل يبصرها ويحسن القيام عليها قالوا حينئذ مائتا دينار قال إنه يبري القسي ويثقفها ويرمي النبل ويريشها قالوا أربعمائة دينار قال إنه راوية للشعر بصير به قالوا ستمائة دينار قال إنه شاعر لا يلحق حذقا قالوا ألف دينار قال عبد العزيز ادفعوا إليه قال أصلح الله الأمير ثمن بعيري الذي أضللت قال وكم ثمنه قال خمسة وعشرون دينارا قال ادفعوا إليه قال أصلح الله الأمير جائزتي لنفسي عن مديحي إياك قال اشتر نفسك ثم عد إلينا فأتى الكوفة وبها بشر بن مروان فاستأذن عليه فاستصعب الدخول إليه وخرج بشر بن مروان متنزها فعارضه فلما ناكبه أي صار حذاء منكبه ناداه
( يا بشرُ يابنَ الجَعْفَرِيَّة ما ... خلَق الإلهُ يَدَيْك للبُخْلِ )

( جاءتْ به عُجُزٌ مُقَابَلةٌ ... ما هُنّ من جَرْمٍ ولا عُكْلِ )
قال فأمر له بشر بعشرة آلاف درهم الجعفرية التي عناها نصيب أم بشر ابن مروان وهي قطية بنت بشر بن عامر ملاعب الأسنة بن مالك بن جعفر بن كلاب
أخبرنا اليزيدي عن الخراز عن المدائني عن عبد الله بن مسلم وعامر بن حفص وغيرهما
أن مروان بن الحكم مر ببادية بني جعفر فرأى قطية بنت بشر تنزع بدلو على إبل لها وتقول
( ليس بنا فَقْرٌ إلى التَّشكِّي ... جَرَبَّةٌ كحُمُرِ الأَبَكِّ ... لا ضَرَعٌ فيها ولا مُذَكِّي )
ثم يقول
( عَامانِ تَرْقيقٌ وعامٌ تَمَّمَا ... لم يَتَّرِكْ لَحْماً ولم يتْرُكْ دمَا )
( ولم يَدَعْ في رأسِ عَظْمٍ ملدما ... إلا رَذَايَا ورجالاً رُزَّمَا )

فخطبها مروان فتزوجها فولدت له بشر بن مروان
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن معاوية عن إسحاق بن أيوب عن خليل بن عجلان في خبر النصيب مثل ما ذكره الزبير وإسحاق سواء
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال
دعا النصيب مواليه أن يستلحقوه فأبى وقال والله لأن أكون مولى لائقا أحب إلي من أن أكون دعيا لاحقا وقد علمت أنكم تريدون بذلك مالي ووالله لا أكسب شيئا أبدا إلا كنت أنا وأنتم فيه سواء كأحدكم لا استأثر عليكم منه بشيء أبدا قال وكان كذلك معهم حتى مات إذا أصاب شيئا قسمه فيهم فكان فيه كأحدهم

النصيب يلتقي الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك
)
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبيري وحدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري قال
دخل النصيب على سليمان بن عبد الملك وعنده الفرزدق فاستنشد الفرزدق وهو يرى أنه سينشده مديحا له فأنشده قوله يفتخر

( ورَكْبٍ كأنَّ الريح تطلُب عندهم ... لها تِرَةً من جَذْبِها بالعَصَائبِ )
( سَرَوْا يَرْكَبُون الريحَ وهي تَلُفُّهم ... على شُعَبِ الأَكْوارِ من كلِّ جانبِ )
( إذا اسْتَوْضَحُوا ناراً يقولون ليتَها ... وقد خَصِرَتْ أيديهم نارُ غالبِ )
قال وعمامته على رأسه مثل المنسف فغاظ سليمان وكلح في وجهه وقال لنصيب قم فأنشد مولاك ويلك فقام نصيب فأنشده قوله
( أقولُ لرَكْبِ صَادِرِينَ لَقِيتُهم ... قَفَا ذاتِ أَوْشالٍ ومَوْلاَك قارِبُ )
( قِفُوا خبِّروني عن سليمانَ إنّني ... لمعروفِه من أهلِ وَدَّانَ طالبُ )
( فعَاجُوا فأثْنَوْا بالذي أنت أهلهُ ... ولو سكتوا أَثْنتْ عليكَ الحقائبُ )
( وقالوا عَهِدْناهُ وكلَّ عشيَّةٍ ... بأبوابه من طالبِ العُرْفِ راكبُ )
( هو البدرُ والناسُ الكَوَاكِبُ حولَه ... ولا تُشْبِهُ البدرَ المضيءَ الكواكبُ )
فقال له سليمان أحسنت والله يا نصيب وأمر له بجائزة ولم يصنع ذلك بالفرزدق فقال الفرزدق وقد خرج من عنده

( وخيرُ الشِّعْرِ أكرمُه رجالاً ... وشرٌّ الشعرِ ما قال العَبِيدُ )
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عمه موسى بن عبد العزيز قال
حمل عبد العزيز بن مروان النصيب بالمقطم مقطم مصر على بختي قد رحله بغبيط فوقه وألبسه مقطعات وشي ثم أمره أن ينشد فاجتمع حوله السودان وفرحوا به فقال لهم أسررتكم قالوا إي والله قال والله ما لما يسوءكم من أهل جلدتكم أكثر

جرير يعترف بشاعرية النصيب
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو العراف قال
مر جرير بنصيب وهو ينشد فقال له اذهب فأنت أشعر أهل جلدتك قال وجلدتك يا أبا حزرة
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني أيوب بن عباية قال
بلغني أن النصيب كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي بني أمية فإذا أنشده بكى وبكى معه فأنشده يوما قصيدة له مدحه بها يقول فيها
( إذا اسْتَبَق الناسُ العُلاَ سَبَقَتْهمُ ... يَمِينُك عَفْواً ثم صَلَّتْ شِمالُها )

فقال له هشام يا أسود بلغت غاية المدح فسلني فقال يدك بالعطية أجود وأبسط من لساني بمسألتك فقال هذا والله أحسن من الشعر وحباه وكساه وأحسن جائزته

النصيب يعتق ذوي قرابته
أخبرني الحسين بن يحيى قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال
أصاب نصيب من عبد العزيز بن مروان معروفا فكتمه ورجع إلى المدينة في هيئة بذةٍ فقالوا لم يصب بمدحه شيئا فمكث مدة ثم ساوم بأمه فابتاعها وأعتقها ثم ابتاع أم أمه بضعف ما ابتاع به أمه فأعتقها وجاءه ابن خالة له اسمه سحيم فسأله أن يعتقه فقال له ما معي والله شيء ولكني إذا خرجت أخرجتك معي لعل الله أن يعتقك فلما أراد الخروج دفع غلاما له إلى مولى سحيم يرعى إبله وأخرجه معه فسأل في ثمنه فأعطاه وأعتقه فمر به يوما وهو يزفن ويزمر مع السودان فأنكر ذلك عليه وزجره فقال له إن كنت أعتقتني لأكون كما تريد فهذا والله ما لا يكون أبدا وإن كنت أعتقتني لتصل رحمي وتقضي حقي فهذا والله الذي أفعله هو الذي أريده أزفن وأزمر وأصنع ما شئت فانصرف النصيب وهو يقول
( إنِّي أرانِي لِسُحَيْم قائلاَ ... إن سُحيماً لم يثبني طائلا )
( نَسِيتَ إعْمالي لكَ الرَّواحلاَ ... وضَرْبيَ الأبوابَ فيك سَائلاَ )
( عند الملوك أسْتَثِيبُ النائلا ... حتى إذا آنستَ عتْقاً عاجلاَ )
( ولَّيتنَي منك القَفَا والكاهِلاَ ... أخُلُقاً شكْساً ولوناً حَائِلاَ )

النصيب يستعجل جائزة عند عبد العزيز بن مروان
قال إسحاق وأبطأت جائزة النصيب عند عبد العزيز فقال
( وإنّ وراءَ ظَهْرِي يابنَ لَيْلَى ... أُنَاساً يَنْظُرونَ متى أَؤُوبُ )
( أُمَامَةُ منهمُ ولِمَأْقَييها ... غَدَاةَ البَيْنِ في أَثَرِي غُرُوبُ )
( تركتُ بِلاَدَها ونأيتُ عنها ... فأشبهُ ما رأيتُ بها السَّلُوب )
( فأتْبِعْ بعضَنا بعضاً فلَسْنا ... نُثِيبُك لكِن اللهُ المُثِيبُ )
فعجل جائزته وسرحه قال إسحاق فحدثني ابن كناسة قال ليلى أم عبد العزيز كلبية وبلغني عنه أنه قال لا أعطي شاعرا شيئا حتى يذكرها في مدحي لشرفها فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن ابن عباية قال
وقفت سوداء بالمدينة على نصيب وهو ينشد الناس فقالت بأبي أنت يابن عمي وأمي ما أنت والله علي بخزي فضحك وقال والله لمن يخزيك من بني عمك أكثر ممن يزينك
قال إسحاق وحدثني ابن عباية وغيره أن ابنا لنصيب خطب بعد وفاة سيده الذي أعتقه بنتا له من أخيه فأجابه إلى ذلك وعرف أباه فقال له اجمع وجوه الحي لهذا الحال فجمعهم فلما حضروا أقبل نصيب على أخي سيده فقال أزوجت ابني هذا من ابنة أخيك قال نعم فقال لعبيد له سود خذوا برجل ابني هذا فجروه فاضربوه ضربا مبرحا ففعلوا وضربوه ضربا مبرحا وقال لأخي سيده لولا أني أكره أذاك لألحقتك به ثم نظر إلى شاب من أشراف الحي فقال زوج هذا ابنة أخيك وعلي ما يصلحهما في مالي ففعل

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال
دخل نصيب على عبد الملك فتغدى معه ثم قال هل لك فيما نتنادم عليه فقال تؤمنني ففعل فقال لوني حائل وشعري مفلفل وخلقتي مشوهة ولم أبلغ ما بلغت من إكرامك إياي بشرف أب أو أم أو عشيرة وإنما بلغته بعقلي ولساني فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحول بيني وبين ما بلغت به هذه المنزلة منك فأعفاه

سبب تسمية النصيب بهذا الاسم
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح قال بلغني عن خلاد بن مرة عن أبي بكر بن مزيد قال
لقيت النصيب يوما بباب هشام فقلت له يا أبا محجن لم سميت نصيبا ألقولك في شعرك عاينها النصيب فقال لا ولكني ولدت عند أهل بيت من ودان فقال سيدي إيتونا بمولودنا هذا لننظر إليه فلما رآني قال إنه لمنصب الخلق فسميت النصيب ثم اشتراني عبد العزيز بن مروان فأعتقني
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة أبي يحيى الأسدي قال
قال أبو عبد الله بن أبي إسحاق البصري لإن وليت العراق لأستكتبن نصيبا لفصاحته وتخلصه إلى جيد الكلام
أخبرني الأسدي قال حدثني محمد بن صالح عن أبيه عن محمد بن عبد العزيز الزهري قال حدثني نصيب قال
دخلت على عبد العزيز بن مروان فقال أنشدني قولك

( إذا لم يكن بينَ الخليلَيْنِ رِدّةٌ ... سِوى ذكرِ شيء قد مضَى دَرَسَ الذِّكْرُ )
فقلت ليس هذا لي هذا لأبي صخر الهذلي ولكني الذي أقول
( وقَفْتُ بذي دَوْران أَنْشُدُ ناقَتِي ... وما إنْ بها لِي مِنْ قَلُوصٍ ولا بَكْرِ )
فقال لي عبد العزيز لك جائزة على صدق حديثك وجائزة على شعرك فأعطاني على صدق حديثي ألف دينار وعلى شعري ألف دينار

أوصاف نصيب الجسدية
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن أبيه قال رأيت النصيب وكان أسود خفيف العارضين ناتىء الحنجرة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني إبراهيم بن يزيد السعدي عن جدته جمال بنت عون بن مسلم عن أبيها عن جدها قال
رأيت رجلا أسود مع امرأة بيضاء فجعلت أعجب من سواده وبياضها فدنوت منه وقلت من أنت قال أنا الذي أقول
( ألا ليتَ شِعْرِي ما الذي تُحْدِثِينَ بي ... غداً غُرْبةَ النأيِ المفرّق والبعدِ )
( لَدَى أُمِّ بَكْرٍ حين تَقتَرِبُ النَّوَى ... بنا ثم يَخْلُو الكاشحون بها بَعْدِي )
( أتَصْرِمُنِي عند الأُلَى هُمْ لنا العِدَا ... فتُشْمِتَهم بي أم تدومُ على العهد )
قال فصاحت بل والله تدوم على العهد فسألت عنهما فقيل هذا نصيب وهذه أم بكر

عبد الله بن جعفر يسخو في عطائه للنصيب
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال
أتى النصيب عبد الله بن جعفر فحمله وأعطاه وكساه فقال له قائل يا أبا جعفر أعطيت هذا العبد الأسود هذه العطايا فقال والله لئن كان أسود إن ثناءه لأبيض وإن شعره لعربي ولقد استحق بما قال أكثر مما نال وما ذاك إنما هي رواحل تُنضى وثياب تبلى ودراهم تفنى وثناء يبقى ومدائح تروى
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ قال قال أبو الأسود امتدح نصيب عبد الله بن جعفر وذكر مثله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال
قيل لنصيب إن هاهنا نسوة يردن أن ينظرن إليك ويسمعن منك شعرك قال وما يصنعن بي يرين جلدة سوداء وشعرا أبيض ولكن ليسمعن شعري من وراء ستر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن رجل ذكره قال
أتاني منقذ الهلالي ليلا فضرب علي الباب فقلت من هذا فقال منقذ الهلالي فخرجت إليه فزعا فقال البشرى فقلت وأي بشرى أتتني بك في هذا الليل فقال خير أتاني أهلي بدجاجة مشوية بين رغيفين فتعشيت بها ثم

أتوني بقنينة من نبيذ قد التقى طرفاها صفاء ورقة فجعلت أشرب وأترنم بقول نصيب
( بزينبَ ألْمِمْ قبلَ أن يَظْعَنَ الرَّكْبُ ... )
ففكرت في إنسان يفهم حسنه ويعرف فضله فلم أجد غيرك فأتيتك مخبرا بذلك فقلت ما جاء بك إلا هذا فقال أولا يكفى ثم انصرف
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
قال مسلمة لنصيب أنت لا تحسن الهجاء فقال بلى والله أتراني لا أحسن أن أجعل مكان عافاك الله أخزاك الله قال فإن فلانا قد مدحته فحرمك فاهجه قال لا والله ما ينبغي أن أهجوه وإنما ينبغي أن أهجو نفسي حين مدحته فقال مسلمة هذا والله أشد من الهجاء

عمر بن عبد العزيز يطلب إلى النصيب إنشاده
أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي عن ابن عباية عن الضحاك الحزامي قال
دخل نصيب مسجد رسول الله وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يومئذ أمير المدينة وهو جالس بين قبر النبي ومنبره فقال أيها الأمير ائذن لي أن أنشدك من مراثي عبد العزيز فقال لا تفعل فتحزنني ولكن أنشدني قولك قفا أخوي فإن شيطانك كان

لك فيها ناصحا حين لقنك إياها فأنشده

صوت
( قِفا أخَوَيَّ إنّ الدارَ ليستْ ... كما كانتْ بعهدِكُما تكونُ )
( ليالي تَعْلمانِ وآلُ لَيْلَى ... قَطِينُ الدارِ فاحتملَ القَطِينُ )
( فعُوجَا فانظرا أتُبِينُ عمَّا ... سألناها به أم لا تُبِينُ )
( فظَلاَّ واقفَيْنِ وظَلَّ دَمْعِي ... على خَدِّي تجودُ به الجُفُونُ )
( فلولا إذ رأيتَ اليأسَ منها ... بَدا أنْ كِدْتَ تَرْشُقُك العيونُ )
( بَرِحْتَ فلم يَلُمْكَ الناسُ فيها ... ولم تغْلَقْ كما غَلِقَ الرَّهينُ )
في البيتين الأولين من هذه الأبيات والأخيرين لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ويونس
قصة النصيب مع ابنة العجوز في الجحفة
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية قال
كان نصيب ينزل على عجوز بالجحفة إذا قدم من الشام وكان لها بنية صفراء وكان يستحليها فإذا قدم وهب لها دراهم وثيابا وغير ذلك فقدم عليهما قدمة وبات بهما فلم يشعر إلا بفتى قد جاءها ليلا فركضها برجله فقامت معه فأبطأت ثم عادت وعاد إليها بعد ساعة فركضها برجله فقامت معه فأبطأت ثم عادت فلما أصبح نصيب رأى أثر معتركهما ومغتسلهما فلما أراد أن يرتحل قالت

له العجوز وبنتها بأبي أنت عادتك فقال لها
( أَرَاكِ طَمُوحَ العينِ مَيَّالةَ الهوى ... لهذا وهذا منك وُدٌّ مُلاَطِفُ )
( فإن تحْمِلي رِدْفَيْن لا أكُ منهما ... فَحُبِّيَ فردٌ لستُ ممن يُرادِفُ )
ولم يعطها شيئا ورحل
قال أيوب وكانت بملل امرأة ينزل بها الناس فنزل بها أبو عبيدة بن عبد الله ابن زمعة وعمران بن عبد الله بن مطيع ونصيب فلما رحلوا وهب لها القرشيان ولم يكن مع نصيب شيء فقال لها اختاري إن شئت أن أضمن لك مثل ما أعطياك إذا قدمت وإن شئت قلت فيك أبياتا تنفعك قالت بل الشعر أحب إلي فقال
( ألاَ حَيِّ قبلَ البَيْن أُمَّ حَبِيبِ ... وإن لم تكُنْ منَّا غداً بقَرِيبِ )
( لئن لم يكن حُبِّيك حُبّاً صَدقْتُه ... فما أحدٌ عندي إذاً بحَبِيبِ )
( تَهَامٍ أصابتْ قلبَه ملَليَّةٌ ... غَرِيبُ الهَوَى يا وَيْحَ كلِّ غَريبِ )
فشهرها بذلك فأصابت بقوله ذلك فيها خيرا

النصيب يعاهد الله ألا يقول نسيبا
قال أيوب ودخل النصيب على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه بعد ما ولي الخلافة فقال له إيه يا أسود أنت الذي تشهر النساء بنسيبك فقال إني قد تركت ذلك يا أمير المؤمنين وعاهدت الله عز و جل ألا أقول نسيبا وشهد له

بذلك من حضر وأثنوا عليه خيرا فقال أما إذ كان الأمر هكذا فسل حاجتك فقال بنيات لي نفضت عليهن سوادي فكسدن أرغب بهن عن السودان ويرغب عنهن البيضان قال فتريد ماذا قال تفرض لهن ففعل قال ونفقة لطريقي قال فأعطاه حلية سيفه وكساه ثوبيه وكانا يساويان ثلاثين درهما
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال
اجتمع النصيب والكميت وذو الرمة فأنشدهما الكميت قوله
( هل أنتَ عن طلبِ الأيْفَاعِ مُنْقَلِبُ ... )
حتى بلغ إلى قوله فيها
( أم هلْ ظَعَائِنُ بالعَلياءِ نافعةٌ ... وإن تكَاملَ فيها الأُنْسُ والشَّنَبُ )
فعقد نصيب واحدة فقال له الكميت ماذا تصحي قال خطأك باعدت في القول ما الأنس من الشنب ألا قلت كما قال ذو الرمة
( لَمْيَاءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنْيابِها شَنَبُ )
ثم أنشدهما قوله

( أَبَتْ هذه النفسُ إلاّ ادِّكَارا ... )
حتى بلغ إلى قوله
( إذا ما الهَجَارِسُ غَنَّيْنَها ... تُجَاوِبْنَ بالفَلَوَات الوِبَارا )
فقال له النصيب وبالوبار لا تسكن الفلوات ثم أنشد حتى بلغ منها
( كأنّ الغُطَامِط من غَلْيِها ... أَراجِيزُ أسْلَمَ تَهْجُو غِفَارا )
فقال النصيب ما هجت أسلم غفارا قط فانكسر الكميت وأمسك

النصيب يمدح عبد الرحمن بن الضحاك
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي
أن نصيبا مدح عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري فأمر له بعشر قلائص وكتب بها إلى رجلين من الأنصار واعتذر إليه وقال له والله ما أملك إلا رزقي وإني لأكره أن أبسط يدي في أموال هؤلاء القوم فخرج حتى أتى الأنصاريين فأعطاهما الكتاب مختوما فقرآه وقالا قد أمر لك بثمان قلائص ودفعا ذلك إليه ثم عزل وولي مكانه رجل من بني نصر بن هوازن فأمر بأن يتتبع ما أعطى ابن الضحاك ويرتجع فوجد باسم نصيب عشر قلائص فأمر بمطالبته بها فقال والله ما دفع إلي إلا ثماني قلائص فقال والله ما تخرج من الدار حتى تؤدي عشر قلائص أو أثمانها فلم يخرج حتى قبض ذلك منه فلما قدم على هشام سمر عنده ليلة وتذاكروا النصري فأنشده قوله فيه

( أفِي قلائِص جُرْبٍ كُنَّ من عملٍ ... أُرْدَى وتُنْزَعُ من أحشائي الكَبِدُ )
( ثمانياً كُنَّ في أهلي وعندهُم ... عَشْرٌ فأيَّ كتابٍ بعدَنا وَجَدُوا )
( أخانَنِي أخَوَا الأنصارِ فانتقصا ... منها فعندهما الفَقْدُ الذي فَقَدُوا )
( وإنّ عامِلَك النَّصْرِيّ كلَّفَنِي ... في غير نائرةٍ دَيْناً له صَعَدُ )
( أذَنْبَ غيرِي ولم أُذْنبْ يُكلّفُني ... أم كيف أُقْتَلُ لا عَقْلٌ ولا قَوَدُ )
قال فقال هشام لا جرم والله لا يعمل لي النصري عملا أبدا فكتب بعزله عن المدينة
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا الزبير بن بكار إجازة عن هارون بن عبد الله الزبيري عن شيخ من الجفر قال
قدم علينا النصيب فجلس في هذا المجلس وأومأ إلى مجلس حذاءه فاستنشدناه فأنشدنا قوله
( ألا يا عُقَابَ الوَكْرِ وَكْر ضَرِيّة ... سَقَتْك الغَوَادِي من عُقَاب ومن وكْر )
( تَمُرّ الليالي ما مَرَرْنَ ولا أَرَى ... مُرُورَ الليالي مُنْسِياتي ابنةَ النَّضْر )
( وَقفتُ بذي دَوْرَانَ أنشُد ناقَتِي ... ومالي لَدَيْها من قُلوصٍ ولا بَكْر )

( وما أنشُد الرُّعْيَان إلاّ تَعِلَّةً ... بواضحةِ الأنْيابِ طَيِّبةِ النَّشْرِ )
( أما والذي نادَى من الطُّورِ عبدَه ... وعلَّم أيّام المَنَاسِكِ والنَّحْر )
( لقد زَادَنِي للجَفْرِ حبّاً وأهلِه ... لَيَالٍ أقامتْهُنَّ لَيْلَى على الجَفْرِ )

النصيب يصف ابنة عم له نوبية
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أخبرني عمر بن إبراهيم السعدي عن يوسف بن يعقوب بن العلاء بن سليمان عن سلمة بن عبد الله بن أبي مسروح قال
قال عبد الملك بن مروان لنصيب أنشدني فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( ومُضْمَرِ الكَشْحِ يَطْوِيه الضَّجيعُ به ... طَيَّ الحَمَائِل لا جَافٍ ولا فَقِرُ )
( وَذِي رَوَادِفَ لا يُلْفَى الإِزارُ بها ... يُلْوَى ولو كان سبعاً حين يَأْتزِرُ )
فقال له عبد الملك يا نصيب من هذه قال بنت عم لي نوبية لو رأيتها ما شربت من يدها الماء فقال له لو غير هذا قلت لضربت الذي فيه عيناك
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا الحارث بن محمد بن أسامة قال حدثنا المدائني قال
كان عبد العزيز بن مروان اشترى نصيبا وأهله وولده فأعتقهم وكان نصيب يرحل إليه في كل عام مستميحا فيجيزه ويحسن صلته فقال فيه نصيب

( يقولُ فيُحسن القولَ ابنُ ليلَى ... ويفعَلُ فَوقَ أحْسنِ ما يقُولُ )
( فتىً لا يَرْزأُ الخُلاّنَ إلاّ ... مَوَدَّتَهمْ ويَرْزَؤُهُ الخليلُ )
( فبَشِّرْ أهلَ مصرَ فقدْ أتاهُمْ ... مَعَ النِّيلِ الذي في مصرَ نِيلُ )

شاعر من أهل الحجاز يهجو النصيب
أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد الله بن مالك الخزاعي أبو دلف قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
كان نصيب يكنى أبا الحجناء فهجاه شاعر من أهل الحجاز فقال
( رَأيتُ أبا الحَجْنَاءِ في الناسِ حائراً ... ولونُ أبي الحَجْناء لونُ البهائمِ )
( تراه على ما لاَحَه من سَوَادِهِ ... وإن كانَ مظلُوماً لهُ وجهُ ظالِم )
فقيل لنصيب ألا تجيبه فقال لا ولو كنت هاجيا لأحد لأجبته ولكن الله أوصلني بهذا الشعر إلى خير فجعلت على نفسي ألا أقوله في شر وما وصفني إلا بالسواد وقد صدق أفلا أنشدكم ما وصفت به نفسي قالوا بلى فأنشدهم قوله
( ليس السوادُ بناقصي ما دام لي ... هذا اللسانُ إلى فؤادٍ ثابتِ )
( مَنْ كان ترفَعُه مَنَابتُ أصلِه ... فبيوتُ أشعاري جُعِلْنَ مَنَابِتي )
( كم بين أسودَ ناطقٍ ببيانِه ... ماضي الجَنانِ وبين أبيضَ صامتِ )
( إني لَيَحْسُدني الرفيعُ بناؤُه ... من فضل ذاكَ وليس بي مِنْ شامِت )
ويروى مكان من فضل ذاك فضل البيان وهو أجود
أخبرني عمي ومحمد بن خلف قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني سعيد بن يحيى الأموى قال حدثني عمي عن محمد بن سعد قال
قال قائل للنصيب أيها العبد مالك وللشعر فقال أما قولك عبد فما

ولدت إلا وأنا حر ولكن أهلي ظلموني فباعوني وأما السواد فأنا الذي أقول
( وإِنْ أكُ حَالِكاً لَوْنِي فإنِّي ... لِعَقْلٍ غير ذي سَقَطٍ وعَاءُ )
( وما نزلتْ بيَ الحاجاتُ إلاّ ... وفي عِرْضِي من الطَّمَعِ الحياءُ )

النصيب يشبب بجارية سقته ماء
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال حدثت عن السدوسي قال
وقف نصيب على أبيات فاستسقى ماء فخرجت إليه جارية بلبن أو ماء فسقته وقالت شبب بي فقال وما اسمك فقالت هند ونظر إلى جبل وقال ما اسم هذا العلم قالت قنا فأنشأ يقول
( أُحِبُّ قَناً من حُبِّ هندٍ ولم أكُنْ ... أبالِي أقُرْباً زادَه الله أم بُعْدَا )
( ألاَ إنَّ بالقِيعانِ من بطن ذي قَناً ... لنا حاجةً مالتْ إليه بنا عَمْدَا )
( أَرُونِي قَناً أنظُرْ إليه فإنَّني ... أُحِبُّ قَناً إنِّي رأيتُ بَه هِنْدا )
قال فشاعت هذه الأبيات وخطبت هذه الجارية من أجلها وأصابت بقول نصيب فيها خيرا كثيرا
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل بن نبيه قال حدثنا محمد بن سلام قال
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك فقال له حدثني يا نصيب ببعض ما مر عليك فقال نعم يا أمير المؤمنين علقت جارية حمراء فمكثت زمانا تمنيني بالأباطيل فلما ألححت عليها قالت إليك عني فوالله لكأنك من طوارق

الليل فقلت لها وأنت والله لكأنك من طوارق النهار فقالت ما أظرفك يا أسود فغاظني قولها فقلت لها هل تدرين ما الظرف إنما الظرف العقل ثم قالت لي انصرف حتى أنظر في أمرك فأرسلت إليها هذه الأبيات
( فإن أكُ حالِكاً فالمِسْكُ أحوَى ... وما لِسَوَاد جِلْدِي من دَواءِ )
( ولي كَرَمٌ عن الفَحْشاء ناء ... كبُعْدِ الأرض من جَوّ السَّماءِ )
( ومِثْلي في رِجالكُم قليلٌ ... ومثلُك ليس يُعْدَم في النِّساءِ )
( فإنْ تَرضي فَرُدِّي قولَ رَاضٍ ... وإن تأبي فنحنُ على السَّواءِ )
قال فلما قرأت الشعر قالت المال والشعر يأتيان على غيرهما فتزوجتني

الأصمعي ينشد شعرا للنصيب
أخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال
أنشدنا الأصمعي لنصيب وكان يستجيد هذه الأبيات ويقول إذا أنشدها قاتل الله نصيبا ما أشعره
( فإنْ يَكُ من لوني السّوادُ فإنَّني ... لَكا لمسكِ لا يَرْوَى من المِسْكِ ذائقُهْ )
( وما ضَرّ أثوابي سَوادِي وتحتَها ... لِباسٌ من العَلْياء بِيضٌ بنائقُهْ )
( إذا المرءُ لم يَبْذُلْ من الودّ مثلَ ما ... بذلتُ له فاعلمْ بأنِّي مَفارقُهْ )

أخبرني الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام عن خلف أن نصيبا أنشد جريرا شيئا من شعره فقال له كيف ترى يا أبا حزرة فقال له أنت أشعر أهل جلدتك
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران بن محمد عن المسور بن عبد الملك قال قال نصيب لعبد الرحمن بن أزهر أنشدت الوليد بن عبد الملك فقال لي أنت أشعر أهل جلدتك والله ما زاد عليها فقال لي عبد الرحمن يا أبا محجن أفرضيت منه أن جعلك أشعر السودان فقط فقال له وددت والله يابن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا ولكنه لم يفعل ولست بكاذبك

النصيب يصنف شعره وشعر معاصريه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال
قال لي محمد بن عبد ربه دخلت مسجد الكوفة فرأيت رجلا لم أر قط مثله ولا أشد سوادا منه ولا أنقى ثيابا منه ولا أحسن زيا فسألت عنه فقيل هذا نصيب فدنوت منه فحدثته ثم قلت له أخبرني عنك وعن أصحابك فقال جميل إمامنا وعمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال وكثير أبكانا على الدمن وأمدحنا للملوك وأما أنا فقد قلت ما سمعت فقلت له إن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو فضحك ثم قال أفتراهم يقولون إني لا أحسن أن أمدح فقلت لا فقال أفما تراني أحسن أن أجعل مكان عافاك الله أخزاك

الله قال قلت بلى قال فإني رأيت الناس رجلين إ ما رجل لم أسأله شيئا فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه وإما رجل سألته فمنعني فنفسي كانت أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أسأله وأن أطلب ما لديه

نصيب وكثير والأحوص ينزلون في مجلس امرأة من بني أمية
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني عبد الله بن إسماعيل بن أبي عبيد الله كاتب المهدي قال وجدت في كتاب أبي بخطه حدثني أبو يوسف التجيبي قال حدثني إسماعيل بن المختار مولى آل طلحة وكان شيخا كبيرا قال
حدثني النصيب أبو محجن أنه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء فقال هل لكم في أن نركب جميعا فنسير حتى نأتي العقيق فنمتع فيه أبصارنا فقالوا نعم فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب وتنكروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق فجعلوا يتصفحون ويرون بعض ما يشتهون حتى رفع لهم سواد عظيم فأموه حتى أتوه فإذا وصائف ورجال من الموالي ونساء بارزات فسألنهم أن ينزلوا فاستحيوا أن يجيبوهن من أول وهلة فقالوا لا نستطيع أو نمضي في حاجة لنا فحلفنهم أن يرجعوا إليهن ففعلوا وأتوهن فسألنهم النزول فنزلوا ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت ادخلوا فدخلنا على امرأة جميلة برزة على فرش لها فرحبت وحيت وإذا كراسي موضوعة فجلسنا جميعا في صف واحد كل إنسان على كرسي فقالت إن أحببتم أن ندعو بصبي لنا فنصيحه ونعرك أذنه فعلنا وإن شئتم بدأنا بالغداء فقلنا بل تدعين بالصبي ولن يفوتنا الغداء

فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلا كلا ولا حتى جاءت جارية جميلة قد سترت بمطرف فأمسكوه عليها حتى ذهب بهرها ثم كشف عنها وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها فرحبت بهم وحيتهم فقالت لها مولاتها خذي ويحك من قول النصيب عافى الله أبا محجن
( ألاَ هل من البَيْن المُفَرِّق من بُدِّ ... وهل مثلُ أيّامٍ بمُنْقَطَع السَّعْد )
( تمَنَّيتُ أيّامِي أُولئكَ والمُنَى ... على عَهد عَادٍ ما تُعِيدُ ولا تُبْدِي )
فغنته فجاءت به كأحسن ما سمعته قط بأحلى لفظ وأشجى صوت ثم قالت لها خذي أيضا من قول أبي محجن عافى الله أبا محجن
( أَرِقَ المُحِبُّ وعادَه سَهَدُهْ ... لِطَوَارِقِ الهمِّ التي تَرِدُهْ )
( وذكرتُ مَنْ رَقَّتْ له كَبِدِي ... وأَبَى فليس تَرِقُّ لي كَبِدُهْ )
( لا قَومُه قَومِي ولا بلَدِي ... فَنَكُونَ حيناً جِيرة بَلدُهْ )
( وَوجدْتُ وَجْداً لم يكن أحدٌ ... قَبْلِي مِنَ اجْلِ صَبابةٍ يَجِدُهْ )

( إلاّ ابنُ عَجْلاَنَ الذي تَبَلَتْ ... هِنْدٌ فَفَاتَ بنفسِه كَمَدُهْ )
قال فجاءت به أحسن من الأول فكدت أطير سرورا ثم قالت لها ويحك خذي من قول أبي محجن عافى الله أبا محجن
( فَيَا لَك من ليلٍ تمتَّعتُ طُولَه ... وهل طائفٌ من نائمٍ مُتَمَتِّعُ )
( نَعَمْ إنّ ذا شَجْوٍ متى يَلْقَ شَجْوَه ... ولو نائماً مُسْتَعْتِبٌ أو مُوَدّعُ )
( له حاجةٌ قد طَالَمَا قد أَسَرَّها ... من الناسِ في صَدْرٍ بها يَتَصدَّعُ )
( تحمَّلَها طُولَ الزمانِ لعلَّها ... يكونُ لها يوماً من الدهرِ مَنْزَعُ )
( وقد قُرِعتْ في أُمّ عمرٍو لِي العَصَا ... قَدِيماً كما كانتْ لذِي الحِلْم تُقْرَعُ )
قال فجاءت والله بشيء حيرني وأذهلني طربا لحسن الغناء وسرورا باختيارها الغناء في شعري وما سمعت فيه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها ثم قالت لها خذي أيضا من قول أبي محجن عافى الله أبا محجن

( يا أيُّها الرَّكبُ إنِّي غيرُ تابِعِكُمْ ... حتى تُلِمُّوا وأنتُمْ بِي مُلِمُّونا )
( فَمَا أَرَى مِثلَكُمْ رَكْباً كشَكْلِكُمُ ... يَدعوهُمُ ذُو هوًى إلاّ يَعُوجُونا )
( أم خبِّرونِيَ عن دائي بعلمِكُمُ ... وأعلمُ النّاسِ بالداءِ الأَطَبُّونَا )

غضب الأحوص وكثير لأن المرأة لم تهتم بهما
قال نصيب فوالله لقد زهيت بما سمعت زهوا خيل إلي أني من قريش وأن الخلافة لي ثم قالت حسبك يا بنية هات الطعام يا غلام فوثب الأحوص وكثير وقالا والله لا نطعم لك طعاما ولا نجلس لك في مجلس فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا وقدمت شعر هذا على أشعارنا واستمعت الغناء فيه وإن في أشعارنا لما يفضل شعره وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا فقالت على معرفة كل ما كان مني فأي شعركما أفضل من شعره أقولك يا أحوص
( يَقَرُّ بعينِي ما يقَرّ بعينها ... وأحسنُ شيء ما به العينُ قَرّتِ )
أو قولك يا كثير في عزة
( وما حَسِبَتْ ضَمْرِيَّةٌ جُدَويَّةٌ ... سِوَى التَّيْسِ ذي القَرْنينِ أنّ لها بَعْلاَ )
أم قولك فيها
( إذا ضَمْرِيَّةٌ عطَستْ فنِكْهَا ... فإن عُطَاسَها طَرَفُ السِّفَادِ )
قال فخرجنا مغضبين واحتبستني فتغديت عندها وأمرت لي بثلثمائة دينار

وحلتين وطيب ثم دفعت إلي مائتي دينار وقالت ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلا فهي لك فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصة فأما الأحوص فقبلها وأما كثير فلم يقبلها وقال لعن الله صاحبتك وجائزتها ولعنك معها فأخذتها وانصرفت فسألت النصيب ممن المرأة فقال من بني أمية ولا أذكر اسمها ما حييت لأحد

رثاء نصيب عبد العزيز بن مروان وقد مات بسكر من قرى الصعيد
أخبرني عيسى بن يحيى الوراق عن أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال
وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان إياها فخرج هاربا منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها سُكَرُ فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك فقال له عبد العزيز ما اسمك فقال طالب بن مدرك فقال أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا ومات في تلك القرية فقال نصيب يرثيه
( أصِبتُ يومَ الصعيد من سُكَر ... مصيبةً ليس لي بها قِبَلُ )

( تاللهِ أَنْسَى مصيبتي أبداً ... ما أسمَعْتِني حَنِينَها الإِبلُ )
( ولا التَّبَكِّي عليه أعْوِلُه ... كلُّ المصيباتِ بعدَه جَلَلُ )
( لم يعلمِ النَّعْشُ ما عليه من العُرْفِ ... ولا الحاملون ما حمَلُوا )
( حتى أجَنُّوه في ضَرِيحِهمُ ... حِيِنَ انتهى من خليلِكَ الأَملُ )
غنى في هذه الأبيات ابن سريج ولحنه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر الهشامي أن له فيه لحنا من الهزج وذكر ابن بانة أن الرمل لابن الهربذ

نصيب ينشد عبد الملك بن مروان رثاء في أخيه عبد العزيز
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزبيري عن مشيخة من أهل الحجاز
أن نصيبا دخل على عبد الملك بن مروان فقال له أنشدني بعض ما رثيت به أخي فأنشده قوله
( عرفتُ وجرّبتُ الأُمورَ فما أَرَى ... كماضٍ تَلاَه الغابرُ المتأخِّر )
( ولكنَّ أهلَ الفضل من أهل نِعْمَتِي ... يمرُّون أَسْلافاً أمامِي وأَغْبُرُ )
( فإن أَبْكِهِ أُعْذَر وإن أَغلِبِ الأَسَى ... بصبرٍ فمِثْلي عندما اشتدَّ يَصْبِرُ )
( وكانت رِكَابِي كلّما شئتُ تَنْتَحِي ... إليكَ فَتَقْضِي نَحْبَها وهي ضُمَّرُ )

( تَرَى الوِرْدَ يُسْراً والثَّوَاءَ غنيمةً ... لديكَ وتُثْنَى بالرِّضَا حين تَصْدُرُ )
( فقد عَرِيتْ بعدَ ابن لَيْلَى فإنَّما ... ذُرَاها لمن لاقتْ من الناس مَنْظَرُ )
( ولو كان حيًّا لم يَزَلْ بدُفُوفِها ... مَرَادٌ لغِرْبَانِ الطريق ومَنْقَرُ )
( فإن كُنَّ قد نِلْنَ ابنَ ابنَ لَيْلَى فإنّه ... هو المصطفَى من أهلِه المُتَخَيَّرُ )
فلما سمع عبد الملك قوله
( فإن أبكِه أُعْذَرْ وإن أَغلِبِ الأَسَى ... بصبرٍ فمِثلي عندَما اشتدّ يصبِرُ )
قال له ويلك أنا كنت أحق بهذه الصفة في أخي منك فهلا وصفتني بها وجعل يبكي

نصيب وعبد الله بن إسحاق البصري
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي يحيى محمد بن كناسة قال
قال لي عبد الله بن إسحاق البصري لو وليت العراق لاستكتبت نصيبا قالت لماذا قال لفصاحته وحسن تخلصه إلى جيد الكلام ألم تسمع قوله
( فلا النفسُ مَلَّتْها ولا العينُ تنتهي ... إليها سوام الطَّرْف عنها فتَرْجعُ )

( رأتْها فما تَرْتَدُّ عنها سآمةً ... ترى بدلاً منها به النَّفْسُ تَقْنَعُ )

نصيب يمدح إبراهيم بن هشام فلا يعجبه المديح
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الحسن قال
دخل نصيب على إبراهيم بن هشام فأنشده مديحا له فقال إبراهيم ما هذا بشيء أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق حيث يقول
( إن تَغْدُ من مَنْقَلَيْ نَخْلاَنَ مُرْتَحِلاً ... يَرْحَلْ من اليمنِ المعروفُ والجودُ )
قال فغضب نصيب ونزع عمامته وبرك عليها وقال لئن تأتونا برجال مثل ابن الأزرق نأتكم بمثل مديح أبي دهبل أو أحسن إن المديح والله إنما يكون على قدر الرجال قال فأطرق ابن هشام وعجبوا من إقدام نصيب عليه ومن حلم ابن هشام وهو غير حليم
نصيب وأم بكر الخزاعية
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري أن نصيبا كان ربما قدم من الشام فيطرح في حجر أم بكر الخزاعية أربعمائة دينار وأن عبد الملك بن مروان ظهر على تعلقه بها ونسيبه فيها فنهاه عن ذلك حتى كف

نصيب ينشد شعرا في مديح ابن هشام في مجلس ثقيف
أخبرني محمد بن يزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبيه قال
رأيت النصيب بالطائف فجاءنا وجلس في مجلسنا وعليه قميص قوهي ورداء وحبرة فجعل ينشدنا مديحا لابن هشام ثم قال إن الوادي مسبعة فمن أهل المجلس قالوا ثقيف فعرف أنا نبغض ابن هشام ويبغضنا فقال إنا لله أبعد ابن ليلى أمتدح ابن جيداء فقال له أهل المجلس يا أبا محجن أتطلب القريض أحيانا فيعسر عليك فقال إي والله لربما فعلت فآمر براحلتي فيشد بها رحلي ثم أسير في الشعاب الخالية وأقف في الرباع المقوية فيطربني ذلك ويفتح لي الشعر والله إني على ذلك ما قلت بيتا قط تستحي الفتاة الحيية من إنشاده في ستر أبيها قال إسحاق قال عثمان بن حفص فوصفه أبي وقال كأني أراه صدعا خفيف العارضين ناتىء الحنجرة
نصيب وابن أبي عتيق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة قال أنشد نصيب قوله

( وكِدْتُ ولم أُخْلَقْ من الطيرِ إن بدا ... لها بارقٌ نحوَ الحجاز أطيرُ )
فسمعه ابن أبي عتيق فقال يابن أم هل غاق فإنك تطير يعني أنه غراب أسود
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أخبرني أحمد بن محمد الأسدي أسد قريش قال
قال ابن أبي عتيق لنصيب إني خارج أفترسل إلى سعدى بشيء قال نعم بيتي شعر قال قل فقال
( أتصبِرُ عن سُعْدَى وأنت صَبُورُ ... وأنت بحُسْنِ الصبر منك جديرُ )
( وكدتُ ولم أُخْلَق من الطير إن بدا ... سَنَى بارقٍ نحوَ الحجاز أطيرُ )
قال فأنشد ابن أبي عتيق سعدى البيتين فتنفست تنفسة شديدة فقال ابن أبي عتيق أوه أجبته والله بأجود من شعره ولو سمعك خليلك لنعق وطار إليك

نصيب والحكم بن المطلب
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الكاتب قال حدثني أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن المسيبي قال
قال أبو النجم أتيت الحكم بن المطلب فمدحته وخرج إلى السعاية فخرجنا معه ومعه عدة من الشعراء فبينا هو مع أصحابه يوما واقف إذا براكب يوضع في السراب وإذا هو نصيب فتقدم إليه فمدحه فأمر بإنزاله فمكث أياما حتى أتاه فقال إني قد خلفت صبية صغارا وعيالا ضعافا فقال له ادخل

الحظيرة فخذ منها سبعين فريضة فقال له جعلني الله فداك قد أحسنت ومعي ابن لي أخاف أن يثلمها علي قال فادخل فخذ له سبعين فريضة أخرى فانصرف بمائة وأربعين فريضة
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن عثمان عن أبيه قال
قيل لنصيب هرم شعرك قال لا والله ما هرم ولكن العطاء هرم ومن يعطيني مثل ما أعطاني الحكم بن المطلب خرجت إليه وهو ساع على بعض صدقات المدينة فلما رأيته قلت
( أبا مَرْوانَ لستَ بخارجيٍّ ... وليس قديمُ مجدِك بانتحال )
( أَغَرُّ إذا الرِّوَاقُ انجابَ عنه ... بَدَا مثلَ الهلالِ على المِثَالِ )
( تَرَاءاه العيونُ كما تَرَاءى ... عَشِيَّة فِطْرِها وَضَحَ الهلالِ )
قال فأعطاني أربعمائة ضائنة ومائة لقحة وقال ارفع فراشي فرفعته فأخذت من تحته مائتي دينار

نصيب وكثير عند أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير قال حدثني أسعد بن عبد

الله المري عن إبراهيم بن سعيد بن بشر بن عبد الله بن عقيل الخارجي عن أبيه قال
والله إني لمع أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة في حواء له إذ جاءه كثير فحياه فاحتفى به ودعا بالغداء فشرعنا فيه وشرع معنا كثير وجاء رجل فسلم فرددنا عليه السلام واستدنيناه فإذا نصيب في بزة جميلة قد وافى الحج قادما من الشام فأكب على أبي عبيدة فعانقه وسأله ثم دعاه إلى الغداء فأكل مع القوم فرفع كثير يده وأقلع عن الطعام وأقبل عليه أبو عبيدة والقوم جميعا يسألونه أن يأكل فأبى فتركوه وأقبل كثير على نصيب فقال والله يا أبا محجن إن أثر أهل الشام عليك لجميل لقد رجعت هذه الكرة ظاهر الكبر قليل الحياء فقال له نصيب لكن أثر الحجاز عليك يا أبا صخر غير جميل لقد رجعت وإنك لزائد النقص كثير الحماقة فقال كثير أنا والله أشعر العرب حيث أقول لمولاتك
( إذا أَمْسبتُ بَطْنُ مَجَاحَ دُونِي ... وعَمْقٌ دون عَزَّةَ فالبَقِيعُ )
( فليس بلاَئِمي أحدٌ يُصَلِّي ... إذا أخذتْ مَجَارِيَهَا الدموعُ )
فقال له نصيب أنا والله أشعر منك حيث أقول لابنة عمك
( خَلِيليَّ إنْ حَلّتْ كُليَّةَ فالرُّبَا ... فذا أَمَجٍ فالشِّعْبَ ذا الماء والحَمْض )
( فأصبَح من حَوْرَانَ رَحْلِي بمنزلٍ ... يُبَعِّده من دونِها نازحُ الأرضِ )

( وأَيْأَسْتما أنْ يجمَع الدهرُ بينَنا ... فخُوضَا لِيَ السمَّ المُصَرِّحَ بالمَحْض )
( ففي ذاك من بعضِ الأُمور سلامةٌ ... ولَلْمَوْتُ خيرٌ من حياةٍ على غَمْضِ )
قال فاقتحم إليه كثير وثبت له النصيب فلما نالته رجلاه رمحه نصيب بساقه رمحة طاح منها بعيداً عنه فما زال راقدا حتى أيقظناه عشيا لرمي الجمار
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير عن محمد بن موسى بن طلحة عن عبد الله بن عمر بن عثمان النحوي عن أنيس بن ربيعة الأسلمي أنه قال
غدوت يوما إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة وهو محتل بالرحبة فألفيت عنده جماعة منا ومن غيرنا فأتاه آت فقال له ذاك النصيب منذ ثلاث بالفرش من ملل متلدد كأنه واله في أثر قوم ظاعنين فنهض أبو عبيدة ونهضنا معه فإذا نصيب على المنحر من صفر فلما عايننا وعرف أبا عبيدة هبط فسأله عن أمره فأخبره أنه تبع قوما سائرين وأنه وجد آثارهم ومحلهم بالفرش فاستولهه ذلك فضحك به أبو عبيدة والقوم وقالوا له إنما يهتر إذا

عشق من انتسب عذريا فأما أنت فما لك ولهذا فاستحيا وسكن وسأله أبو عبيدة هل قلت في مقامك شعرا قال نعم وأنشد
( لعَمْرِي لئن أَمْسيتَ بالفَرشِ مُقْصَداً ... ثَوِيَّاكَ عَبُّودٌ وعُدْنَةُ أو صَفَرْ )
( ففَرَّع صَبًّا أو تَيَمَّم مُصْعِداً ... لِرَبْعٍ قدِيم العهدِ ينَتَكِفُ الأَثَرْ )
( دَعَا أهلَه بالشام بَرْقٌ فأَوْجَفُوا ... ولم أَرَ متبوعاً أضَرَّ من المَطَرْ )
( لتَسْتَبْدِلَنْ قلباً وعيناً سِوَاهُما ... وإلا أَتَى قصداً حُشَاشَتَكَ القَدرْ )
( خَلِيليَّ فيما عِشْتُما أو رأيتُما ... هل اشتاق مَضْرورٌ إلى من به أَضرّْ )
( نعمْ رُبَّما كان الشَّقاءُ مُتَيَّحاً ... يُغَطِّي على سَمْعِ ابنِ آدمَ والبَصَرْ )
قال فانصرف به أبو عبيدة إلى منزله وأطعمه وكساه وحمله وانصرف وهو يقول
( أصابَ دواءَ عِلَّتِك الطبيبُ ... وخاض لَكَ السُّلُوَّ ابنُ الرَّبِيبِ )
( وأَبْصَرَ مِنْ رُقَاك مُنَفِّثاتٍ ... وداؤك كان أعْرَفَ بالطَّبِيبِ )

نصيب ويزيد بن عبد الملك
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك ذات يوم فأنشده قصيدة امتدحه بها فطرب لها يزيد واستحسنها فقال له أحسنت يا نصيب سلني ما شئت فقال يدك يا أمير المؤمنين بالعطاء أبسط من لساني بالمسألة فأمر به فملىء فمه جوهرا فلم يزل به غنيا حتى مات
هشام بن محمد يكرم نصيبا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا أبو غزبة عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال دخل نصيب على إبراهيم بن هشام وهو وال على المدينة فأنشده قوله
( يابنَ الهِشَامَيْن لا بَيْتٌ كَبَيْتِهما ... إذا تَسَامَتْ إلى أحسابِها مُضَرُ )
فقال له إبراهيم قم يا أبا محجن إلى تلك الراحلة المرحولة فخذها برحلها فقام إليها نصيب متباطئا والناس يقولون ما رأينا عطية أهنأ من هذه ولا أكرم ولا أعجل

ولا أجزل فسمعهم نصيب فأقبل عليهم وقال والله إنكم قلما صاحبتم الكرام وما راحلة ورحل حتى ترفعوهما فوق قدرهما

هشام بن عبد الملك يعفو عن نصيب ويصله
أخبرني الحرمي وعيسى بن الحسين قالا حدثنا الزبير عن عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه قال
استبطأ هشام بن عبد الملك حين ولي الخلافة نصيبا ألا يكون جاءه وافدا عليه مادحا له ووجد عليه وكان نصيب مريضا فبلغه ذلك حين برأ فقدم عليه وعليه أثر المرض وعلى راحلته أثر النصب فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( حَلَفتُ بمَنْ حَجَّت قريشٌ لبيتِه ... وأَهْدَتْ له بُدْناً عليها القلائدُ )
( لئن كنتُ طالتْ غَيْبتِي عنكَ إنَّني ... بمَبْلغِ حَوْلِي في رِضاكَ لجَاهِدُ )
( ولكنَّني قد طال سُقْمي وأكثرتْ ... عليّ العِهادَ المُشْفِقَاتُ العَوائِدُ )
( صَرِيعُ فِرَاشٍ لا يَزَلْنَ يَقُلْنَ لي ... بنُصْحٍ وإشفاقٍ متى أنت قاعدُ )
( فلمّا زَجَرْتُ العِيسَ أَسْرَتْ بحاجتي ... إليكَ وذلَّتْ للِّسانِ القصائدُ )
( وإنِّي فلا تَسْتَبْطِنِي بمَوَدّتِي ... ونُصْحِي وإشْفَاقِي إليكَ لعَامِدُ )

( فلا تُقْصِنِي حتى أكونَ بصَرْعَةٍ ... فييأسَ ذو قُرْبَى ويَشْمَتَ حاسدُ )
( أنِلْنِي وقَرِّبني فإِنِّيَ بالغٌ ... رِضَاكَ بعَفْوٍ من نَدَاكَ وزائدُ )
( أبِتْ نائماً أمّا فؤادِي فهَمُّه ... قليلٌ وأمّا مَسُّ جِلْدِي فبارِدُ )
( وقد كان لي منكم إذا ما لَقِيتُكُمْ ... لَيَانٌ ومعروف وللخيرِ قائدُ )
( إليك رَحَلْتُ العِيسَ حتّى كأنَّها ... قسِيُّ السُّرَى ذُبْلاً بَرَتْها الطَّرَائِدُ )
( وحتّى هَوَادِيها دِقَاقٌ وشِكْوُها ... صَريفٌ وباقي النِّقْي منها شَرَائِدُ )
( وحتى وَنَتْ ذاتُ المِرَاحِ فأذعنتْ ... إليكَ وكَلَّ الرَّاسِمَاتُ الحَوَافِدُ )
قال فرق له هشام وبكى وقال له ويحك يا نصيب لقد أضررنا بك وبرواحلك ووصله وأحسن صلته واحتفل به

نصيب عند عبد الواحد النصري أمير المدينة
أخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمه عن أيوب بن عباية قال
قدم نصيب على عبد الواحد النصري وهو أمير المدينة بفرش من أمير المؤمنين يضعه في قومه من بني ضمرة فأدخلهم عليه ليفرض لهم وفيهم أربعة غلمة لم يحتلموا فردهم النصري فكلمه نصيب كلاما غليظا إدلالا بمنزلته عند الخليفة فأشار إليه إبراهيم بن عبد الله بن مطيع أن اسكت وكف واخرج فإني كافيك فلما خرج إبراهيم لقيه نصيب فقال له أشرت إلي فكرهت أن أغضبك

فما كرهت لي من مراجعته والصلابة له ومن ورائي المستعتب من أمير المؤمنين فقال إبراهيم هو رجل عربي حديد غلق وخشيت إن جاذبته شيئا ألا يرجع عنه وأن يمضي عليه ويلج فيه وهو مالك للأمر وله فيه سلطان فأردت أن تخرج قبل أن يلج ويظهر منه ما لا يرجع عنه فيمضى عليه ويلج فيه فتنتظر لتصادف منه طيب نفس فتكلمه ونرفدك عنده فقال نصيب
( يَوْمانِ يومٌ لِرُزَيْقٍ فَسْلُ ... ويومُه الآخرُ سَمْحٌ فَضْلُ )
أنا جعلت فداءك فاعل ذلك فإذا رأيت القول فأشر إلي حتى أكلمه قال ودخل إليه نصيب عشيات كل ذلك يشير إليه ابن مطيع ألا يكلمه حتى صادف عشية من العشيات منه طيب نفس فأشار إليه أن كلمه فكلمه نصيب فأصاب مختله بكلامه ثم قال إني قد قلت شعرا فاسمعه أيها الأمير وأجزه ثم قال
( أهاجَ البُكَا رَبْعٌ بأَسْفَلِ ذي السِّدْرِ ... عَفَاهُ اختِلافُ العَصْرِ بعدَك والقَطْرِ )
( نَعمْ فَثَنانِي الوجدُ فاشتقتُ لِلّذي ... ذكرت وليس الشوقُ إلا معَ الذِّكرِ )
( حَلفتُ بِربّ المُوضِعِين لِربِّهمْ ... وحُرمةِ ما بينَ المَقَامِ إلى الحِجْرِ )
( لئن حاجتي يوماً قَضَيتَ ورِشْتَنِي ... بِنَفْحة عُرْف من يَديْكَ أبا بِشْرِ )
( لَتَعْتَرِفَنَّ الدَّهرَ مِنِّي مودَّةً ... ونُصْحاً على نُصْح وشُكْراً على شُكرِ )

( سَقَى اللهُ صَوْب المُزْنِ أَرضاً عَمَرْتَها ... بِرِيٍّ وأسْقَاها بِلادَ بنِي نَصْرِ )
( بوجهِك فاستُعْمِلْتَ ما دُمْتَ خائفاً ... لِربِّك تَقْضِي رَاشِداً آخَر الدَّهْرِ )
( لِتُنْقِذَ أصحابِي وتَستُرَ عَورةً ... بَدتْ لكَ من صَحْبِي فإنكَ ذو سَتْرِ )
( فما بأمير المؤمنين إلى الّتي ... سَألتُ فأعطاني لقومِيَ من فَقْرِ )
( وقد خرجتْ منهُ إليك فلا تكنْ ... بموضِع بَيْضَاتِ الأنُوقِ من الوَكْرِ )
قال فقال عثمان بن حيان المري وهو عنده وكان قد جاءه بالقود من ابن حزم قد احتلم الآن القوم أيها الأمير واستوجبوا الفرض ورفده ابن مطيع فأحسن واشتد عليه أن شركه ابن حيان في رفده وتشييعه وقال النصري لابن مطيع وابن حيان صدقتما ما قد احتلموا واستوجبوا الفرض افرض لهم يا فلان لكاتب من كتابه ففرض لهم

حديث نصيب عن نفسه أنه عشق أمة لبني مدلج وشعره فيها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني جعفر بن علي اليشكري

قال حدثني الرياشي عن العتبي قال
دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان فقال له عبد العزيز وقد طال الحديث بينهما هل عشقت قط قال نعم أمة لبني مدلج قال فكنت تصنع ماذا قال كانوا يحرسونها مني فكنت أقنع أن أراها في الطريق وأشير إليها بعيني أو حاجبي وفيها أقول
( وقَفْتُ لها كَيْما تَمُرَّ لعلّنِي ... أُخالِسُها التّسليمَ إن لم تُسَلِّمِ )
( ولمّا رأتنِي والوُشَاةَ تحدّرتْ ... مَدامعُها خَوفاً ولم تتكلَّمِ )
( مَساكينُ أهلُ العِشق ما كُنتُ أشتَرِي ... جميعَ حَياةِ العاشقِين بِدِرْهَمِ )
فقال عبد العزيز ويحك فما فعلت قال بيعت فأولدها سيدها قال فهل في نفسك منها شيء قال نعم عقابيل أحزان

عبد العزيز بن مروان يحمل دينا عن نصيب
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي
أن إبلا لنصيب أجدبت وحالت وكان لرجل من أسلم عليه ثمانية آلاف درهم قال فأخبرني أبي وعمي أنه وفد على عبد العزيز بن مروان فقال له

جعلني الله فداءك إني حملت دينا في إبل ابتعتها مجدبات حيال وقد قلت فيها شعرا قال أنشده فأنشده
( فلمّا حَمَلْتُ الدَّيْنَ فيها وأصبحتْ ... حِيَالاً مُسُنَّاتِ الهوى كِدْتُ أندَمُ )
( على حينِ أن رَاثَ الرَّبيعُ ولم يكن ... لها بصَعِيدٍ من تِهَامَةَ مَقْضَمُ )
( ثمانيةٌ للأَسْلَميِّ وما دَنَا ... لفُحْشٍ ولا تدنو إلى الفُحْشِ أَسْلَمُ )
فقال له عبد العزيز فما دينك ويحك قال ثمانية آلاف فأمر له بثمانية آلاف درهم فلما رجع أنشد الأسلمي الشعر فترك ماله عليه وقال الثمانية الآلاف لك

نصيب ونسوة كن يتناشدن الشعر في المسجد الحرام
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني الموصلي عن ابن أبي عبيدة قال
أتى نصيب مكة فأتى المسجد الحرام ليلا فبينما هو كذلك إذ طلع ثلاث نسوة فجلسن قريبا منه وجعلن يتحدثن ويتذاكرن الشعر والشعراء وإذا هن من أفصح النساء وآدبهن فقالت إحداهن قاتل الله جميلا حيث يقول
( وبينَ الصَّفا والمَرْوتين ذكرتُكم ... بمخْتَلِفٍ ما بين سَاعٍ ومُوجِف )
( وعند طَوَافِي قد ذكرتُكِ ذُكْرةً ... هي الموتُ بل كادتْ على الموتِ تَضْعُف )
فقالت الأخرى بل قاتل الله كثير عزة حيث يقول
( طلَعْنَ علينا بين مَرْوةَ والصَّفَا ... يَمُرْنَ على البَطْحَاءِ مَوْرَ السحائب )

( فكِدْنَ لعَمْرُ الله يُحْدِثْنَ فتنةً ... لمُخْتَشِعٍ من خَشْيةِ الله تائِب )
فقالت الأخرى قاتل الله ابن الزانية نصيبا حيث يقول
( ألاَمُ على لَيْلَى ولو أستطيعُها ... وحُرْمةِ ما بين البَنِيَّةِ والسِّتْرِ )
( لمِلْتُ على لَيْلَى بنفسيَ مَيْلةً ... ولو كان في يوم التَّحَالُق والنَّحْرِ )
فقام نصيب إليهن فسلم عليهن فرددن عليه السلام فقال لهن إني رأيتكن تتحادثن شيئا عندي منه علم فقلن ومن أنت فقال اسمعن أولا فقلن هات فأنشدهن قصيدته التي أولها
( ويومَ ذي سَلَمٍ شَاقَتْكَ نائحةٌ ... وَرْقَاءُ في فَنَنٍ والريحُ تضطربُ )
فقلن له نسألك بالله وبحق هذه البنية من أنت فقال أنا ابن المظلومة المقذوفة بغير جرم نصيب فقمن إليه فسلمن عليه ورحبن به واعتذرت إليه القائلة وقالت والله ما أردت سوءا وإنما حملني الاستحسان لقولك على ما سمعك فضحك وجلس إليهن فحادثهن إلى أن انصرفن

أخبار ابن محرز ونسبه
نسب ابن محرز
هو مسلم بن محرز فيما روى ابن المكي ويكنى أبا الخطاب مولى بني عبد الدار بن قصي وقال ابن الكلبي اسمه سلم قال ويقال اسمه عبد الله وكان أبوه من سدنة الكعبة أصله من الفرس وكان أصفر أحنى طويلا
أخذه عن الفرس والروم
وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني أخي هارون عن عبد الملك ابن الماجشون قال
اسم ابن محرز سلم وهو مولى بني مخزوم وذكر إسحاق أنه كان يسكن المدينة مرة ومكة مرة فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عزة الميلاء ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر ثم شخص إلى فارس فتعلم ألحان الفرس وأخذ غناءهم ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم وأخذ غناءهم فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين وأخذ محاسنها فمزج بعضها

ببعض وألف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب فأتى بما لم يسمع مثله وكان يقال له صناج العرب

ابن محرز أول من غنى الرمل
أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال
قال أبي أول من غنى الرمل ابن محرز وما غني قبله فقلت له ولا بالفارسية قال ولا بالفارسية وأول من غنى رملا بالفارسية سلمك في أيام الرشيد استحسن لحنا من ألحان ابن محرز فنقل لحنه إلى الفارسية وغنى فيه
بعده عن الناس وخمول ذكره إلا غناءه
قال أبو أيوب وقال إسحاق كان ابن محرز قليل الملابسة للناس فأخمل ذلك ذكره فما يذكر منه إلا غناؤه وأخذت أكثر غنائه جارية كانت لصديق له من أهل مكة كانت تألفه فأخذه الناس عنها ومات بداء كان به وسقط إلى فارس فأخذ غناء الفرس وإلى الشام فأخذ غناء الروم فتخير من نغمهم ما تغنى به غناءه وكان يقدم بما يصيبه فيدفعه إلى صديقه ذاك فينفقه كيف شاء لا يسأله عن

شيء منه حتى إذا كاد أن ينفد جهزه وأصلح من أمره وقال له إذا شئت فارحل فيرحل ثم يعود فلم يزل كذلك حتى مات قال وهو أول من غنى بزوج من الشعر وعمل ذلك بعده المغنون اقتداء به وكان يقول الأفراد لا تتم بها الألحان وذكر أنه أول ما أخذ الغناء أخذه عن ابن مسجح قال إسحاق وكانت العلة التي مات به الجذام فلم يعاشر الخلفاء ولا خالط الناس لأجل ذلك
قال أبو أيوب قال إسحاق قدم ابن محرز يريد العراق فلما نزل القادسية لقيه حنين فقال له كم منتك نفسك من العراق قال ألف دينار قال فهذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف واحلف ألا لا تعود

أخبار في حسن غنائه
وقال إسحاق وقلت ليونس من أحسن الناس غناء قال ابن محرز قلت وكيف قلت ذاك قال إن شئت فسرت وإن شئت أجملت قلت أجمل قال كأنه خلق من كل قلب فهو يغني لكل إنسان بما يشتهي وهذه الحكاية بعينها قد حكيت في ابن سريج ولا أدري أيهما الحق
قال إسحاق وأخبرني الفضل بن يحيى بن خالد أنه سأل بعض من يبصر الغناء من أحسن الناس غناء فقال أمن الرجال أم من النساء فقلت من الرجال فقال ابن محرز فقلت فمن النساء فقال ابن سريج قال وكان إسحاق يقول الفحول ابن سريج ثم ابن محرز ثم معبد ثم الغريض

ثم مالك
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي حدثنا بعض أهل المدينة وأخبرني بهذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أخي هارون عن عبد الملك بن الماجشون قال
كان ابن محرز أحسن الناس غناء فمر بهند بنت كنانة بن عبد الرحمن بن نضلة بن صفوان بن أمية بن محرث الكناني حليف قريش فسألته أن يجلس لها ولصواحب لها ففعل وقال أغنيكن صوتا أمرني الحارث بن خالد بن العاص ابن هشام أن أغنيه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله في شعر له قاله فيها وهو يومئذ أمير مكة قلن نعم فعناهن

صوت
( فَودِدْتُ إذ شَحَطُوا وشَطَّتْ دارُهُمْ ... وَعَدَتْهُمُ عَنَّا عَوَادٍ تَشْغَلُ )
( أنّا نُطَاعُ وأن تُنَقَّلَ أرضُنا ... أو أنَّ أرضَهُم إلينا تُنْقَلُ )
( لِتُردَّ مِنْ كَثَبٍ إليكِ رَسَائِلي ... بجَوابها ويعودَ ذاكَ المُرْسَلُ )
عروضه من الكامل الغناء في هذه الأبيات خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز وذكر إسحاق أنه لابن سريج

ابن محرز وحنين الحيري
وقال أبو أيوب المديني في خبره بلغني أن ابن محرز لما شخص يريد العراق لقيه حنين فقال له غنني صوتا من غنائك فغناه
صوت
( وحُسْنُ الزَّبَرْجَدِ في نَظْمِه ... على وَاضِح اللَّيتِ زانَ العُقُودَا )
( يُفَصِّلُ ياقوتُه دُرَّه ... وكالجَمْرِ أبصرتَ فيه الفَرِيدَا )
عروضه من المتقارب الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر قال فقال له حنين حينئذ كم أملت من العراق قال ألف دينار فقال له هذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف ولما شاع ما فعل لامه أصحابه عليه فقال والله لو دخل العراق لما كان لي معه فيه خبز آكله ولا طرحت وسقطت إلى آخر الدهر وهذا الصوت أعني
( وحسنُ الزبرجدِ في نظمه ... )
من صدور أغاني ابن محرز وأوائلها وما لا يتعلق بمذهبه فيه ولا يتشبه به أحد
ومما يغنى فيه من قصيدة نصيب التي أولها
( أهاجَ هواكَ المنزلُ المتقادمُ ... )

صوت
( لقد رَاعَنِي لِلْبيْن نَوْحُ حمامةٍ ... على غُصْنِ بانٍ جاوَبَتْها حَمَائِمُ )
( هَواتِفُ أمّا مَنْ بَكيْن فعهدُه ... قديمٌ وأمّا شَجْوُهنّ فدائمُ )
الغناء لابن سريج من رواية يونس وعمرو وابن المكي وهو ثاني ثقيل بالبنصر وهو من جيد الألحان وحسن الأغاني وهو مما عارض ابن سريج فيه ابن محرز وانتصف منه
ذكر الأصوات التي رواها جحظة عن أصحابه وحكى أنها من الثلاثة المختارة
صوت
( إلى جَيْدَاءَ قد بَعثُوا رسولاً ... ليَحْزُنَها فلا صُحِبَ الرَّسُولُ )
( كأنّ العامَ ليس بعامِ حَجٍّ ... تغيَّرتِ المواسمُ والشُّكُولُ )
الشعر للعرجي والغناء لإبراهيم الموصلي ولحنه المختار ماخوري بالوسطى وهو من خفيف الثقيل الثاني على مذهب إسحاق وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر وذكر عمرو بن بانة أن الماخوري لابن سريج

أخبار العرجي ونسبه
نسب العرجي من قبل أبويه
هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس وقد شرح هذا النسب في نسب أبي قطيفة وأم عفان وجميع بني أبي العاصي آمنة بنت عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب وأم عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وهي أخت عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله لأمه وأبيه ولدا في بطن واحد وأم عمرو بن عثمان أم أبان بنت جندب الدوسية
خبر أم أبان جدة أبيه عمر
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح عن يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال حدثني محرز بن جعفر عن أبيه عن جده قال
قدم جندب بن عمرو بن حممة الدوسي المدينة مهاجرا في خلافة عمر بن

الخطاب ثم مضى إلى الشأم وخلف ابنته أم أبان عند عمر وقال له يا أمير المؤمنين إن وجدت لها كفئا فزوجه بها ولو بشراك نعله وإلا فأمسكها حتى تلحقها بدار قومها بالسراة فكانت عند عمر واستشهد أبوها فكانت تدعو عمر أباها ويدعوها ابنته قال فإن عمر على المنبر يوما يكلم الناس في بعض الأمر إذ خطر على قلبه ذكرها فقال من له في الجميلة الحسيبة بنت جندب بن عمرو بن حممة وليعلم امرؤ من هو فقام عثمان فقال أنا يا أمير المؤمنين فقال أنت أنا لعمر الله كم سقت إليها قال كذا وكذا قال قد زوجتكها فعجله فإنها معدة قال ونزل عن المنبر فجاء عثمان رضي الله عنه بمهرها فأخذه عمر في ردنه فدخل به عليها فقال يا بنية مدي حجرك ففتحت حجرها فألقى فيه المال ثم قال يا بنية قولي اللهم بارك لي فيه فقالت اللهم بارك لي فيه وما هذا يا أبتاه قال مهرك فنفحت به وقالت واسوأتاه فقال احتبسي منه لنفسك ووسعي منه لأهلك وقال لحفصة يا بنتاه أصلحي من شأنها وغيري بدنها واصبغي ثوبها ففعلت ثم أرسل بها مع نسوة إلى عثمان فقال عمر لما فارقته إنها أمانة في عنقي أخشى أن تضيع بيني وبين عثمان فلحقهن فضرب على عثمان بابه ثم قال خذ أهلك بارك الله لك فيهم فدخلت على عثمان فأقام عندها مقاما طويلا لا يخرج إلى حاجة فدخل عليه سعيد بن العاص فقال له يا أبا عبد الله لقد أقمت عند هذه الدوسية مقاما ما كنت تقيمه عند النساء فقال أما إنه ما بقيت خصلة كنت أحب أن تكون في امرأة إلا صادفتها فيها ما خلا خصلة واحدة

قال وما هي قال إني رجل قد دخلت في السن وحاجتي في النساء الولد وأحسبها حديثة لا ولد فيها اليوم قال فتبسمت فلما خرج سعيد من عنده قال لها عثمان ما أضحكك قالت قد سمعت قولك في الولد وإني لمن نسوة ما دخلت امرأة منهن على سيد قط فرأت حمراء حتى تلد سيد من هو منه قال فما رأت حمراء حتى ولدت عمرو بن عثمان وأم عمر بن عمرو بن عثمان أم ولد وأم العرجي آمنة بنت عمر بن عثمان وقال إسحاق بنت سعيد بن عثمان وهي لأم ولد

سبب تلقبه بالعرجي ونحوه نحو عمر بن أبي ربيعة في شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي
أنه إنما لقب العرجي لأنه كان يسكن عرج الطائف وقيل بل سمي بذلك لماء كان له ومال عليه بالعرج وكان من شعراء قريش ومن شهر بالغزل منها ونحا نحو عمر بن أبي ربيعة في ذلك وتشبه به فأجاد وكان مشغوفا باللهو والصيد حريصا عليهما قليل المحاشاة لأحد فيهما ولم يكن له نباهة في أهله وكان أشقر أزرق جميل الوجه وجيداء التي شبب بها هي أم محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي وكان ينسب بها ليفضح ابنها لا لمحبة كانت بينهما فكان ذلك سبب حبس محمد إياه وضربه له حتى مات في السجن
وأخبرني محمد بن مزيد إجازة عن حماد بن إسحاق فذكر أن حمادا حدثه عن إسحاق عن أبيه عن بعض شيوخه
أن العرجي كان أزرق كوسجا ناتىء الحنجرة وكان صاحب غزل

وفتوة وكان يسكن بمال له في الطائف يسمى العرج فقيل له العرجي ونسب إلى ماله وكان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم وكان له معه بلاء حسن ونفقة كثيرة
قال إسحاق قد ذكر عتبة بن إبراهيم اللهبي أن العرجي فيما بلغه باع أموالا عظاما كانت له وأطعم ثمنها في سبيل الله حتى نفد ذلك كله وكان قد اتخذ غلامين فإذا كان الليل نصب قدره وقام الغلامان يوقدان فإذا نام واحد قام الآخر فلا يزالان كذلك حتى يصبحا يقول لعل طارقا يطرق

العرجي خليفة عمر بن أبي ربيعة
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثني مصعب وأخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمه مصعب وعن محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال دخل حديث بعضهم في بعض وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن مصعب قال
كانت حبشية من مولدات مكة ظريفة صارت إلى المدينة فلما أتاهم موت عمر بن أبي ربيعة اشتد جزعها وجعلت تبكي وتقول من لمكة وشعابها وأباطحها ونزهها ووصف نسائها وحسنهن وجمالهن ووصف ما فيها فقيل لها خفضي عليك فقد نشأ فتى من ولد عثمان رضي الله عنه يأخذ مأخذه ويسلك مسلكه فقالت أنشدوني من شعره فأنشدوها فمسحت عينها وضحكت وقالت الحمد لله الذي لم يضيع حرمه

العرجي وكلابة مولاة عبد الله بن القاسم العبلي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عورك اللهبي
أن مولاة لثقيف يقال لها كلابة كانت عند عبد الله بن القاسم الأموي العبلي وكان يبلغها تشبيب العرجي بالنساء وذكره لهن في شعره وكانت كلابة تكثر أن تقول لشد ما اجترأ العرجي على نساء قريش حين يذكرهن في شعره ولعمري ما لقي أحدا فيه خير ولئن لقيته لأسودن وجهه فبلغه ذلك عنها قال إسحاق في خبره وكان العبلي نازلا على ماء لبني نصر بن معاوية يقال له الفتق على ثلاثة أميال من مكة على طريق من جاء من نجران أو تبالة إلى مكة والعرج أعلاها قليلا مما يلي الطائف فبلغ العرجي أنه خرج إلى مكة فأتى قصره فأطاف به فخرجت إليه كلابة وكان خلفها في أهله فصاحت به إليك ويلك وجعلت ترميه بالحجارة وتمنعه أن يدنو من القصر فاستسقاها ماء فأبت أن تسقيه وقالت لا يوجد والله أثرك عندي أبدا فيلصق بي منك شر فانصرف وقال ستعلمين وقال
صوت
( حُورٌ بعَثْنَ رسولاً في مُلاَطَفَةٍ ... ثَقْفاً إ ذا غَفَل النَّسَّاءةُ الوَهِمُ )

( إليَّ أنْ إيتِنَا هدأً إذا غَفَلتْ ... أحراسُنا وافتضحْنا إنْ همُ عَلِمُوا )
( فجئتُ أمْشِي على هَوْلٍ أُجشمهُ ... تَجَشُّمُ المرءِ هولاً في الهوى كَرَمُ )
( إذا تخوّفتُ من شيءٍ أقولُ له ... قد جفَّ فامْضِ بشيءٍ قُدّر القلَمُ )
( أَمْشِي كما حَرّكتْ رِيحٌ يمَانِيَةٌ ... غُصْناً من البانِ رَطْباً طَلَّه الدِّيمُ )
( في حُلَّةٍ من طِرازِ السُّوسِ مُشْرَبةٍ ... تَعْفُو بهُدّابِها ما أَثَّرتْ قَدَمُ )
( خَلَّتْ سَبِيلِي كما خَلَّيْتُ ذا عُذُرٍ ... إذا رأته عِتَاقُ الخيلِ ينتحمُ )
( وهُنّ في مجلسٍ خالٍ وليس له ... عينٌ عليهنّ أخْشَاهَا ولا نَدَمُ )
( حتى جلستُ إزاءَ البابِ مكتتِماً ... وطالبُ الحاجِ تحت الليلِ مُكْتَتِمُ )
( أَبْدَيْنَ لي أعيُناً نُجْلاً كما نَظَرتْ ... أُدْمٌ هِجَانٌ أتاها مُصْعَبٌ قَطِمُ )

( قالتْ كُلاَبةُ من هذا فقلتُ لها ... أنا الذي أنتِ من أعدائه زَعَمُوا )
( أنا امرؤٌ جدَّ بي حبٌّ فأحْرَضَنِي ... حتى بَلِيتُ وحتى شَفَّنِي السَّقَمُ )
( لا تَكِليني إلى قومٍ لَو انَّهُم ... من بُغْضِنا أُطْعِمُوا لحمِي إذاً طَعِمُوا )
( وأنْعِمي نِعْمةً تُجْزَيْ بأحسنِها ... فطالما مَسَّني من أهلِك النِّعمُ )
( سَتْرُ المُحِبِّينَ في الدنيا لعَلّهُم ... أن يُحْدِثُوا توبةً فيها إذا أثمُوا )
( هذِي يَمِيني رَهْنٌ بالوَفاء لكم ... فارْضَيْ بها ولأنْفِ الكاشح الرَّغَمُ )
( قالت رَضِيتُ ولكن جئتَ في قمرٍ ... هَلاَّ تلبَّثْتَ حتى تدخُلَ الظُّلَمُ )
( فبِتُّ أُسْقَى بأكْواسٍ أُعَلُّ بها ... من باردٍ طابَ منها الطَّعْمُ والنَّسَمُ )
( حتَّى بدَا ساطعٌ للفجر نَحْسَبُه ... سَنَى حريقٍ بلَيْلٍ حين يَضْطَرمُ )
( كَغُرَّة الفرسِ المَنْسُوبِ قد حُسِرَتْ ... عنه الجِلاَلُ تَلاَلاَ وهو يَلْتَجِمُ )
( ودّعتهنّ ولا شيءٌ يُراجعني ... إلا البَنَانُ وإِلا الأعينُ السُّجُمُ )
( إذا أَرَدْنَ كلامِي عندَه اعترضتْ ... من دُونِه عَبَراتٌ فانثَنَى الكَلِمُ )
( تكاد إذ رُمْنَ نَهْضاً للقيام معي ... أعجازُهنّ من الأنْصافِ تنْقصمُ )

قال فسمع ابن القاسم العبلي بالشعر يغني به وكان العرجي قد أعطاه جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان وقال والله لا أجد لهذه الأمة شيئا أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم ليقطع مأكلتها من ماله قال فلما سمع العبلي بالشعر يغنى به أخرج كلابة واتهمها ثم أرسل بها بعد زمان على بعير بين غزارتي بعر فأحلفها بمكة بين الركن والمقام أن العرجي كذب فيما قاله فحلفت سبعين يمينا فرضي عنها وردها فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي
( فطالما مَسَّني من أهلِك النِّعَمُ ... )
قال كذب والله ما مسه ذلك قط وقال إسحاق وقد قيل إن صاحب هذه القصيدة والقصة أبو حراب العبلي وأن كلابة كانت أمة لسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان وكان العرجي قد خطبها وسميت به ثم خطبها يزيد بن عبد الملك أو الوليد بن يزيد فزوجته فقال العرجي هذا الشعر فيها غنى في قوله
( أَمْشِي كما حَرَّكَتْ رِيحٌ يَمانية ... )
علي بن هشام هزجا مطلقا بالبنصر وفيه للمسدود هزج آخر طنبوري ذكر ذلك جحظة وفي
( لا تَكِليني إلى قومٍ لوَ انهُمُ ... )

رمل لابن سريج عن ابن المكِّي وإسحاق في السبابة في مجرى الوسطى وفي قالت كلابة والذي بعده لعبيد الله بن أبي غسان لحن من خفيف الرمل ولنبيه في أنا امرؤ جد بي وما بعده هزج بالوسطى ولدحمان في حور بعثن وما بعده هزج بالوسطى وروى عنه الهشامي فيه ثقيلا أول ولأبي عيسى بن المتوكل في وأنعمي نعمة وبيتين بعده ثقيل أول
وأخبرني بخبر العرجي وكلابة هذه الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب وأخبرني به وكيع عن أبي أيوب المديني عن مصعب وذكر نحوا مما ذكره إسحاق وزعما أن كلابة كانت قيمة لأبي حراب العبلي وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس

أيوب بن مسلمة وأشعب يتذكران شعرا للعرجي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني مسلمة ابن إبراهيم بن هشام قال
كنت عند أيوب بن مسلمة ومعنا أشعب فذكر قول العرجي
( أينَ ما قلتِ مُتُّ قبلَكَ أيَنَا ... أين تصديقُ ما وَعَدْتِ إلينا )
( فلقد خِفْتُ منكِ أن تَصْرِمي الحَبْلَ ... وأن تَجمعي مع الصُّرْمِ بَيْنَا )

( ما تقولين في فتىً هامَ إذ هامَ ... بمن لا يُنَالُ جهلاً وحَيْنَا )
( فاجْعَلِي بيننا وبينك عَذْلاً ... لا تَحِيفي ولا يَحيفُ علينَا )
( واعلَمي أنّ في القَضَاء شُهوداً ... أو يَميناً فأَحْضِرِي شاهِدَيْنا )
( خُلّتي لو قَدرتُ منكِ على ما ... قُلْتِ لي في الخَلاَء حينَ التقَينا )
( ما تَحرّجتُ من دَمِي عَلِمَ اللّهُ ... ولو كنتُ قد شهدتُ حُنَيْنا )
قال فقال أيوب لأشعب ما تظن أنها وعدته قال أخبرك يقينا لا ظنّاً أنها وعدته أن تأتيه في شعب من شعاب العرج يوم الجمعة إذا نزل الرجال إلى الطائف للصلاة فعرض لها عارض شغل فقطعها عن موعده قال فمن كان الشاهدان قال كسير وعوير وكل غير خير فند أبو زيد مولى عائشة بنت سعد وزور الفرق مولى الأنصار قال فمن العدل الحكم قال حصين بن غرير الحميري قال فما حكم به قال أدت إليه حقه وسقطت المؤنة عنه قال يا أشعب لقد أحكمت صناعتك قال سل علامة عن علمه

شعره في عاتكة زوجة طريح بن إسماعيل الثقفي
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عورك اللهبي قال
قال العرجي في امرأة من بني حبيب بطن من بني نصر بن معاوية يقال لها عاتكة وكانت زوجة طريح بن إسماعيل الثقفي
( يا دارَ عاتِكةَ التي بالأزْهَرِ ... أو فَوْقَه بقَفَا الكَثِيب الأحْمَرِ )
( لم ألقَ أهلك بعدَ عامَ لقِيتُهمْ ... يا ليتَ أنّ لِقاءهم لم يُقْدَرِ )
صوت
( بِفنَاء بيتك وابنُ مِشْعَبَ حاضرٌ ... في سامِرٍ عَطِرٍ وليلٍ مُقْمِرِ )
( مَستشعرِينَ مَلاَحفاً هَرَويّةً ... بالزَّعْفَران صِبَاغُها والعُصْفُرِ )

( فتَلاَزَما عندَ الفراقِ صَبَابةً ... أخْذَ الغَريم بفَضْل ثَوبِ المُعْسِرِ )
الأزهر على ثلاثة أميال من الطائف وابن مشعب الذي عناه مغن من أهل مكة كان في زمن ابن سريج والغناء في هذه الأبيات له رمل بالوسطى قال إسحاق كان ابن مشعب من أحسن الناس وجها وغناء ومات في تلك الأيام فأدخل الناس غناءه في غناء ابن سريج والغريض قال وهذا الصوت ينسبه من لا يعلم إلى ابن محرز يعني
( بِفناءِ بيتك وابن مشعب حاضرٌ ... )
قال وهو الذي غنى
( أَقْفَر ممّن يَحُلُّه السَّنَدُ ... فالمُنحَنَى فالعَقِيقُ فالجُمُدُ )
( وَيْحي غداً إنْ غَدَا عليّ بمَا ... أحذَرُ من فُرقة الحَبيب غَدُ )
والناس ينسبونه إلى ابن سريج

العرجي يواقع امرأة في عرج الطائف
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن ثابت بن إبراهيم الأنصاري قال حدثني ابن مخارق قال
واعد العرجي هوى له شعبا من شعاب عرج الطائف إذا نزل رجالها يوم

الجمعة إلى مسجد الطائف فجاءت على أتان لها معها جارية لها وجاء العرجي على حمار معه غلام له فواقع المرأة وواقع الغلام الجارية ونزا الحمار على الأتان فقال العرجي هذا يوم قد غاب عذاله
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا النضر بن عمرو عن ابن داحة قال
كان العرجي يستقي على إبله في شملتين ثم يغتسل ويلبس حلتين بخمسمائة دينار ثم يقول
( يَوماً لأصْحابي ويوماً للمالْ ... مِدرَعةٌ يوماً ويوماً سِرْبالْ )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجاله
أن العرجي كان غازيا فأصابت الناس مجاعة فقال للتجار أعطوا الناس وعلي ما تعطون فلم يزل يعطيهم ويطعم الناس حتى أخصبوا فبلغ ذلك عشرين ألف دينار فألزمها العرجي نفسه وبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز فقال بيت المال أحق بهذا فقضى التجار ذلك المال من بيت المال

العرجي وأم الأوقص
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبيري وغيره

أن العرجي خرج إلى جنبات الطائف متنزها فمر ببطن النقيع فنظر إلى أم الأوقص وهو محمد بن عبد الرحمن المخزومي القاضي وكان يتعرض لها فإذا رآها رمت بنفسها وتسترت منه وهي امرأة من بني تميم فبصر بها في نسوة جالسة وهن يتحدثن فعرفها وأحب أن يتأملها من قرب فعدل عنها ولقي أعرابيا من بني نصر على بكر له ومعه وطبا لبن فدفع إليه دابته وثيابه وأخذ قعوده ولبنه ولبس ثيابه ثم أقبل على النسوة فصحن به يا أعرابي أمعك لبن قال نعم ومال إليهن وجلس يتأمل أم الأوقص وتواثب من معها إلى الوطبين وجعل العرجي يلحظها وينظر أحيانا إلى الأرض كأنه يطلب شيئا وهن يشربن من اللبن فقالت له امرأة منهن أي شيء تطلب يا أعرابي في الأرض أضاع منك شيء قال نعم قلبي فلما سمعت التميمية كلامه نظرت إليه وكان أزرق فعرفته فقالت العرجي بن عمر ورب الكعبة ووثبت وسترها نساؤها وقلن انصرف عنا لا حاجة بنا إلى لبنك فمضى منصرفا وقال في ذلك
( أقول لصاحبَيَّ ومثلُ ما بي ... شكاهُ المرءُ ذو الوَجْدِ الألِيم )
( إلى الأخَوَيْنِ مثلِهما إذا ما ... تأوّبه مُؤرِّقةُ الهمومِ )
( لِحَيني والبلاءِ لقيتُ ظُهْراً ... بأعلَى النَّقْع أُختَ بني تمِيم )

( فلمّا أن رأتْ عينايَ منها ... أسِيلَ الخَدّ في خَلْقٍ عَمِيم )
( وعَيْنَيْ جُؤذَرٍ خَرقٍ وثَغْراً ... كلَونِ الأُقْحُوانِ وجيدَ رِيم )
( حَنَا أترابُها دُوني عليها ... حُنوّ العائداتِ على السَّقيمِ )
قال إسحاق في خبره فقال رجل من بني جمح يقال له ابن عامر للأوقص وقضى عليه بقضية فتظلم منه والله لو كنت أنا عبد الله بن عمر العرجي لكنت قد أسرفت علي فضربه الأوقص سبعين سوطاً

أبو السائب المخزومي وشعر العرجي
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال
أتاني أبو السائب المخزومي ليلة بعد ما رقد السامر فأشرفت عليه فقال سهرت وذكرت أخا لي أستمتع به فلم أجد سواك فلو مضينا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا فمضينا فأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجي
( باتَا بأنعَم ليلةٍ حتّى بدا ... صُبْحٌ تَلوّح كالأغَرّ الأشقَرِ )
( فتَلازَما عندَ الفِراق صبابةً ... أخْذَ الغَرِيم بفَضل ثوب المعُسِرِ )
فقال أعده علي فأعدته فقال أحسن والله امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته قال فلقينا عبد الله بن حسن بن حسن فلما صرنا إليه وقف بنا وهو منصرف من ماله يريد المدينة فسلم ثم قال كيف أنت يا أبا السائب فقال

( فتلازما عند الفِراق صبابةً ... أخْذَ الغريم بفَضل ثوب المعسر )
فالتفت إلي فقال متى أنكرت صاحبك فقلت منذ الليلة فقال إنا لله وأي كهل أصيبت منه قريش ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالا له على بغلة له ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة فسلم ثم قال كيف أنت يا أبا السائب فقال
( فتلازما عندَ الفِراق صبابةً ... أخْذَ الغريمِ بفَضل ثوبِ المُعسر )
فالتفت إلي فقال متى أنكرت صاحبك قلت آنفا فلما أراد المضي قلت أفتدعه هكذا والله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق قال صدقت يا غلام قال قيد البغلة فأخذ القيد فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه يري أنه يفهم عنه قصته ثم نزل الشيخ وقال لغلامه يا غلام احمله على بغلتي وألحقه بأهله فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته بخبره فقال قبحك الله ماجنا فضحت شيخا من قريش وغررتني

ابن أبي عتيق وشعر العرجي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير عن عروة بن أذينة قال
أنشد ابن جندب الهذلي ابن أبي عتيق قول العرجي
( وما أنْسَ مِ الأشياءِ لا انْسَ قولَها ... لخادمها قُومي اسْألي لي عن الوِتْرِ )
( فقالت يقول الناسُ في سِتَّ عَشْرةً ... فلا تعجَلي منهُ فإنّكِ في أجْرِ )

( فمَا ليلةٌ عندي وإن قيل جمعةٌ ... ولا ليلةُ الأضْحَى ولا ليلةُ الفِطْرِ )
( بعادلةِ الاثنينِ عندي وبِالحَرَى ... يكونُ سواءً منهما ليلةُ القَدْرِ )
فقال ابن أبي عتيق أشهدكم أنها حرة من مالي إن أجاز ذلك أهلها هذه والله أفقه من ابن شهاب

شعر العرجي في زوجته أم عثمان
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال
تزوج العرجي أم عثمان بنت بكير بن عمرو بن عثمان بن عفان وأمها سكينة بنت مصعب بن الزبير فقال فيها
( إنّ عثمانَ والزُّبَيْرَ أحلاَّ ... دَارها باليَفاعِ إذ ولَداها )
( إنَّها بنتُ كلِّ أَبْيضَ قَرْمٍ ... نال في المجد من قُصَيٍّ ذُرَاها )
( سَكَنَ الناسُ بالظَّواهِر منها ... وتَبَوَّا لنفسِه بَطْحَاها )
قال إسحاق ولما تزوج الرشيد زوجته العثمانية أعجب بها فكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات
العرجي وأبو عدي العبلي
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

حدثت أن أبا عدي العبلي خرج يريد واديا نحو الطائف يقال له جلدان فمر بعبد الله بن عمر العرجي وهو نازل هناك بواد يقال له العرج فأرسل إليه غلاماً له فأعلمه بمكانه فأتاه الغلام فقال له هذا أبو عدي فأمر أن ينزله في مسجد الخيف فأنزله وأبطأ عليه في الخروج فقال للغلام ويحك ما يحبس مولاك قال عنده ابن وردان مولى معاوية وهما يأكلان القسب والجلجلان ثم بعث إليه بخبز ولبن وبعث لرواحله بحمض وقدم إلى رواحل ابن وردان القت والشعير فكتب إليه أبو عدي
( أبا عُمَرٍ لمْ تُنْزِل الركبَ إذ أتَوْا ... منازلَهم والرَّكْبُ يَحْفُونَ بالرَّكْب )
( رفعتَ لِئَامَ الناسِ فوق كِرَامهمْ ... وآثَرْتَهُمْ بالجلجُلانِ وبالقَسْبِ )
( فأمّا بَعِيرانَا فبالحمْض غُذِّيَا ... وأُوثِرَ عَبَّادُ بنُ وَرْدَان بالقَضْبِ )
فكتب إليه العرجي
( أتانا فلم نَشْعُرْ به غيرَ أنّه ... له لِحيَةٌ طالتْ على حَمِقِ القلَبِ )

( كَرايةِ بَيْطارٍ بأعْلَى حديدةٍ ... إذا نُصِبتْ لم تَكْسِبِ الحمدَ بالنَّصْبِ )
( أتانا على سَغْبٍ يُعَرِّض بالقِرَى ... وهل فوق قُرْصٍ مِن قِرَى صَاحبِ السَّغْبِ )
قال فارتحل أبو عدي مغضبا وقال مزحت معه فهجاني وأنشأ يقول في العرجي
( سَرتْ ناقَتِي حتَّى إذا مَلّتِ السُّرَى ... وعارَضها عَرْجُ الجبَانة والخِصْبِ )
( طَوَاها الكَرى بعدَ السُّرَى بمُعَرَّسٍ ... جَديبٍ وشيخٍ بئس مُسْتَعْرِضُ الرَّكْبِ )
( وهمَّتْ بتعريسٍ فحلَّتْ قُيُودَها ... إلى رجلٍ بالعَرْج ألأمَ من كَلْبِ )
( تَمَطَّى قليلاً ثم جاء بصَرْبةٍ ... وقُرْصِ شعيرٍ مثلِ كِرْكِرةِ السَّقْبِ )
( فقلتُ له أُرْدُدْ قِرَاكَ مُذَمَّمًا ... فلستُ إليه بالفَقِيرِ ولا صَحْبِي )
( جَزَى اللهُ خيراً خيرَنا عند بيتِه ... وأنْحَرَنا للكُومِ في اليومِ ذي السَّغْبِ )
( لقد عَلِمَتْ فِهْرٌ بأنّك شرُّها ... وآكَلُ فهرٍ للخبيثِ من الكَسْبِ )
( وتلبَس للجاراتِ إتْباً ومِئْزَراً ... ومِرْطاً فبئس الشيخُ يَرْفُل في الإِتب )
( يُدَخِّنَّ بالعُود اليَلَنْجُوجِ مرّةً ... وبِالضرْوِ والسَّوْداءِ والمائع الرَّطْبِ )

( فإنْ قلتَ عثمانُ بنُ عَفَّان والدي ... فقد كان عثمانٌ بريئاً من الوِشْبِ )
( وقِدْماً يَجيءُ الحيُّ بالنَّسْل مَيّتاً ... ويأتي كريمُ الناسِ بالوَكَلِ الثِّلْبِ )
( له لِحْيَةٌ قد مُزِّقَتْ فكأنّها ... مِقَمَّةُ حَشَّاشٍ مُحَالِفَهُ العُشْب )
فلما بلغ ذلك العرجي أتى عمه علي بن عبد الله بن علي العبلي فشق قميصه بين يديه وشكاه إليه فبعث إلى أبي عدي فنهاه عنه وقال لئن عدت لا كلمتك أبدا فكف عنه

كان العرجي من أفرس الناس وأرماهم
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سليمان بن عثمان بن يسار رجل من أهل مكة وكان هيبا أديبا قال
كان للعرجي حائط يقال له العرج في وسط بلاد بني نصر بن معاوية فكانت إبلهم وغنمهم تدخل فيه فيعقر كل ما دخل منها فكانت تضر به ويضر بأهلها ويشكونه ويشكوهم وكان من أفرس الناس وأرماهم وأبراهم لسهم فكان ربما برى مائة سهم من الرمان ثم يقول والله لا أنقلب حتى أقتل بها مائة خلفة من إبل بني نصر فيفعل ذلك

حبس العرجي
قال إسحاق فحدثني ابن غرير قال لما حبس العرجي وضرب وأقيم على البلس قال
( مَعِي ابنُ غُرَيْرٍ واقِفاً في عَبَاءةٍ ... لعَمْرِي لقدْ قَرّتْ عُيُونُ بني نَصْرِ )
فقال فتى من بني نصر يجيبه وكان حاضرا لضربه وإقامته
( أجَلْ قد أقَرّ اللهُ فيك عُيُونَنا ... فبِئسَ الفتَى والجارُ في سالفِ الدّهْرِ )
وقال إسحاق في خبره قال رجل للعرجي جئتك أخطب إليك مودتك قال بل خذها زنا فإنها أحلى وألذ
امرأة تمثلت بشعر العرجي وقد ليمت على رفثها في الحج
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني عن عبد الله بن سلم قال
قال عبد الله بن عمر العمري خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام أرفثت فيه فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها يا أمة الله ألست حاجة أما

تخافين الله فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت تأمل يا عم فإنني ممن عنى العرجي بقوله

صوت
( أماطَتْ كِسَاءَ الخَزِّ عن حُرّ وجْهِها ... وأدْنَتْ على الخَدَّيْن بُرْداً مُهَلْهَلاَ )
( مِن اللاءِ لم يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبةً ... ولكِنْ لِيقتُلْنَ البَرِيءَ المُغَفَّلاَ )
قال فقلت لها فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار قال وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال أما والله لو كان من بعض بغضاء العراق لقال لها أعزبي قبحك الله ولكنه ظرف عباد أهل الحجاز وقد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم الأعرج وهو سلمة بن دينار وقد روى أبو حازم عن أبي هريرة وسهل بن سعد وغيرهما وروى عنه مالك وابن أبي أيوب والحكاية عنه في هذا أصح منها عن عبد الله العمري حدثنا بهذا وكيع والغناء في هذه الأبيات لعرار المكي ثاني ثقيل وفيه خفيف ثقيل لمعبد وفيها لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول ويقال إن خفيف الثقيل لابن سريج ويقال للغريض
غناء عبد الله بن العباس الربيعي في شعر العرجي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال

قال عبد الله بن العباس دعاني المتوكل فلما جلست مجلس المنادمة قال لي يا عبد الله تغن فغنيته في شعر مدحته به فقال أين هذا من غنائك في
( أماطَتْ كِسَاءَ الخَزِّ عن حُرِّ وجهِها ... )
ومن صنعتك في
( أقْفَر ممَّنْ يَحُلُّه سَرِفُ ... )
فقلت يا أمير المؤمنين إن صنعتي حينئذ كانت وأنا شاب عاشق فإن استطعت رد شبابي وعشقي صنعت مثل تلك الصنعة فقال هيهات وقد لعمري صدقت ووصلني والأبيات التي فيها الغناء المذكور من شعر العرجي يقوله في جيداء أم محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي وكان يهجوه ويشبب بأمه وبامرأته وكان محمد تياها شديد الكبر جبارا فلم يزل يتطلب عليه العلل حتى حبسه وقيده بعد أن ضربه بالسوط وأقامه على البلس للناس واختلف الرواة في السبب الذي اعتل به عليه وقد ذكرت ذلك في رواياتهم

هجاء العرجي محمد بن هشام المخزومي وتشبيبه بأمه
أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب ومحمد بن الضحاك الحزامي عن الضحاك بن عثمان وذكره حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن

عباية ونسخته أيضا من رواية محمد بن حبيب قالوا
كان محمد بن هشام خال هشام بن عبد الملك فلما ولي الخلافة ولاه مكة وكتب إليه أن يحج بالناس فهجاه العرجي بأشعار كثيرة
منها قوله فيه
( كأنّ العامَ ليس بعامِ حَجٍّ ... تَغيَّرتِ المواسمُ والشُّكُولُ )
( إلى جَيْدَاء قد بعثوا رسولاً ... ليُخْبِرَها فلا صُحِبَ الرّسولُ )
ويروى ليحزنها وهكذا يغنى
ومنها قوله
( ألاَ قُلْ لِمنْ أِمْسَى بمكة قاطناً ... ومن جاء من عَمْقٍ ونَقْب المُشَلَّلِ )
( دَعُوا الحَجَّ لا تَسْتَهْلِكُوا نفقاتِكم ... فما حَجُّ هذا العامِ بالمُتقَبَّلِ )
( وكيف يُزَكَّى حَجُّ مَنْ لم يكنْ له ... إمامٌ لدى تجْمِيره غيرُ دُلْدُلِ )
( يَظلُّ يُرائِي بالصِّيام نَهَارَه ... ويَلبَسُ في الظَّلماءِ سِمْطَيْ قرنْفُلِ )
فلم يزل محمد يطلب عليه العلل حتى وجدها فحبسه
قال الزبير في خبره عن عمه ومحمد بن الضحاك وقال إسحاق في خبره عن

أيوب بن عباية كان العرجي يشبب بأم محمد بن هشام وهي من بني الحارث بن كعب ويقال لها جيداء

صوت
( عُوجِي علينا رَبَّةَ الهَوْدَجِ ... إنَّكِ إن لا تفْعَلِي تحْرِجِي )
( إنّي أُتيحتْ لي يمانيةٌ ... إحْدى بني الحارث من مَذْحِج )
( نَلْبَثُ حولاً كاملاً كلَّه ... ما نلتقي إلا على مَنْهَجِ )
( في الحَجِّ إن حَجَّتْ وماذا منىً ... وأهلهُ إن هي لم تُحْجُجِ )
( أيسرُ ما نال مُحِبٌّ لدَى ... بَيْنِ حَبيبٍ قولُه عَرِّجِ )
( نَقْض إليكم حاجةً أو نَقُلْ ... هل لي ممَّا بِيَ من مَخْرِجِ )
تعليق عطاء بن أبي رباح على هذا الشعر
قال إسحاق في خبره فحدثني حمزة بن عتبة اللهبي قال أنشد عطاء بن أبي رباح قول العرجي
( في الحَجِّ إن حَجّتْ وماذا مِنىً ... وأهلُه إنْ هي لم تَحْجُجِ )
فقال الخير والله كله بمنى وأهله حجت أو لم تحج قال ولقي ابن سريج

عطاء وهو راكب بمنى على بغلته فقال له سألتك بالله إلا وقفت لي حتى أسمعك شيئا قال ويحك دعني فإني عجل قال امرأته طالق لئن لم تقف مختارا للوقوف لأمسكن بلجام بغلتك ثم لا أفارقها ولو قطعت يدي حتى أغنيك وأرفع صوتي لا أسره قال هات وعجل فغناه
( في الحجِّ إن حَجَّتْ وماذا مِنىً ... وأهلُه إن هي لم تَحْجُجِ )
فقال الخير كله والله بمنى لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره خل سبيل البغلة
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني حمزة بن عتبة اللهبي عن عبد الوهاب بن مجاهد أو غيره قال
كنت مع عطاء بن أبي رباح فجاءه رجل فأنشده قول العرجي
( إنِّي أتِيحتْ لي يمانِيَةٌ ... إحدى بني الحارثِ من مَذْحج )
( نلبَث حولاً كاملاً كلَّه ... لا نلتقي إلا على مَنْهَجِ )
( في الحجِّ إن حجَّتْ وماذا مِنىً ... وأهلُه إنْ هي لم تَحْجُجِ )
فقال عطاء خير كثير بمنى إذ غيبها الله عن مشاعره

تشبيبه بزوجة محمد بن هشام
قال وقال في زوجته جبرة المخزومية يعني زوجة محمد بن هشام
صوت
( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فِيمَ الصدودُ وأنتمُ سَفْرُ )
( ما نلْتَقِي إلا ثلاثَ مِنىً ... حتى يُفرِّقَ بينَنا النَّفْرُ )

( الحولُ بعد الحول يَتْبَعُه ... ما الدهرُ إلا الحولُ والشهرُ )
قال حماد بن إسحاق في خبره حدثني ابن أبي الحويرث الثقفي عن ابن عم لعمارة بن حمزة قال حدثنا سليمان الخشاب عن داود المكي قال كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدة من العراقيين إذ مر به ابن تيزن المغني وقد ائتزر بمئزر على صدره وهي إزرة الشطار عندنا فدعاه ابن جريج فقال له أحب أن تسمعني قال إني مستعجل فألح عليه فقال امرأته طالق إن غناك أكثر من ثلاثة أصوات فقال له ويحك ما أعجلك إلى اليمين غنني الصوت الذي غناه ابن سريج في اليوم الثاني من أيام منى على جمرة العقبة فقطع طريق الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل فغناه
( عُوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )
فقال له ابن جريج أحسنت والله ثلاث مرات ويحك أعده قال من الثلاثة فإني قد حلفت قال أعده فأعاده فقال أحسنت فأعده من الثلاثة فأعاده وقام ومضى وقال لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال لعلكم أنكرتم ما فعلت فقالوا

إنا لننكره عندنا بالعراق ونكرهه قال فما تقولون في الرجز يعني الحداء قالوا لا بأس به عندنا قال فما الفرق بينه وبين الغناء

حقد محمد بن هشام على العرجي وحبسه حتى مات
قال إسحاق في خبره بلغني أن محمد بن هشام كان يقول لأمه جيداء بنت عفيف أنت غضضت مني بأنك أمي وأهلكتني وقتلتني فتقول له ويحك وكيف ذاك قال لو كانت أمي من قريش ما ولي الخلافة غيري قالوا فلم يزل محمد بن هشام مضطغنا على العرجي من هذه الأشعار التي يقولها فيه ومتطلبا سبيلا عليه حتى وجده فيه فأخذه وقيده وضربه وأقامه للناس ثم حبسه وأقسم لا يخرج من الحبس ما دام لي سلطان فمكث في حبسه نحوا من تسع سنين حتى مات فيه
روايات أخرى في سبب الخصومة بين محمد بن هشام والعرجي
وذكر إسحاق في خبره عن أيوب بن عباية ووافقه عمر بن شبة ومحمد بن حبيب أن السبب في ذلك أن العرجي لاحى مولى كان لأبيه فأمضه العرجي فأجابه المولى بمثل ما قاله له فأمهله حتى إذا كان الليل أتاه مع جماعة من مواليه وعبيده فهجم عليه في منزله وأخذه وأوثقه كتافا ثم أمر عبيده أن ينكحوا امرأته بين يديه ففعلوا ثم قتله وأحرقه بالنار فاستعدت امرأته على العرجي محمد بن هشام فحبسه
وذكر الزبير في خبره عن الضحاك بن عثمان أن العرجي كان وكل بحرمه مولى له يقوم بأمورهن فبلغه أنه يخالف إليهن فلم يزل يرصده حتى

وجده يحدث بعضهن فقتله وأحرقه بالنار فاستعدت عليه امرأة المولى محمد بن هشام المخزومي وكان والياً على مكة في خلافة هشام وكان العرجي قد هجاه قبل ذلك هجاء كثيرا لما ولاه هشام الحج فأحفظه فلما وجد عليه سبيلا ضربه وأقامه على البُلُسِ للناس وسجنه حتى مات في سجنه
وذكر الزبير أيضا في خبره عن عمه وغيره أن أشعب كان حاضرا للعرجي وهو يشتم مولاه هذا وأنه طال شتمه إياه فلما أكثر رد المولى عليه فاختلط من ذلك فقال لأشعب اشهد على ما سمعت قال أشعب وعلام أشهد قد شتمته ألفا وشتمك واحدة والله لو أن أمك أم الكتاب وأمه حمالة الحطب ما زاد على هذا

شعر للعرجي قاله في تعذيب محمد بن هشام له
قال الزبير وحدثني حمزة بن عتبة اللهبي قال
لما أخذ محمد بن هشام المخزومي العرجي أخذه وأخذ معه الحصين بن غرير الحميري فجلدهما وصب على رؤوسهما الزيت وأقامهما في الشمس على البُلُسِ في الحناطين بمكة فجعل العرجي ينشد
( سينصُرني الخليفةُ بعد رَبِّي ... ويغضَب حين يُخْبَر عن مَسَاقِي )
( عليَّ عَبَاءةٌ بَلْقَاءُ ليستْ ... مع البَلْوَى تُغَيِّب نِصْفَ سَاقِي )
( وتغضَب لي بأجْمَعها قُصَيٌّ ... قَطِينُ البيتِ والدُّمْثِ الرِّقَاق )
ثم يصيح يا غرير أجياد يا غرير أجياد فيقول له الحميري المجلود معه ألا

تدعنا ألا ترى ما نحن فيه من البلاء يعني بقوله يا غرير الحصين بن غرير الحميري المجلود معه وكان صديقا للعرجي وخليطا وذكر إسحاق تمام هذه الأبيات وأولها
( وكَمْ مِنْ كَاعِبٍ حَوْرَاء بِكْرٍ ... أَلُوف السِّتْرِ واضحةِ التَّراقِي )
( بَكَتْ جَزَعاً وقد سُمِرَتْ كُبُولٌ ... وجامِعَةٌ يُشَدُّ بها خِنَاقِي )
( على دَهْمَاءَ مُشْرِفَةٍ سَمُوقٍ ... ثَناها القَمْحُ مُزْلَقَةِ التَّرَاقي )
( عليَّ عَبَاءةٌ بَلْقَاءُ ليستْ ... مع البَلْوَى تُغَيِّب نصفَ سَاقِي )
( كأنّ على الخدُود وهُنّ شُعْثٌ ... سِجَالَ الماءِ يُبْعَث في السَّوَاقِي )
( فقلتُ تجلُّداً وحَلفتُ صبراً ... أبَالي اليومَ ما دَفعتْ مآقِي )
( سَيَنْصُرنِي الخليفةَ بعد ربِّي ... ويغضَب حين يُخْبَر عن مَسَاقي )
( وتغضَب لي بأَجْمَعِها قُصَيٌّ ... قَطِينُ البيت والدُّمْثِ الرِّقَاق )
( بِمُجْتَمَع السُّيُول إذا تَنَحَّى ... لِئَامُ الناسِ في الشُّعَبِ العِمَاقِ )
قال فكان إذا أنشد هذا البيت التفت إلى ابن غرير فصاح به يا غرير أجياد يا غرير أجياد يعني بني مخزوم وكانت منازلهم في أجياد فعيرهم بأنهم ليسوا من أهل الأبطح
وقال الزبير في خبره ووافقه إسحاق فذكر أن رجلا مر بالعرجي وهو واقف على البلس ومعه ابن غرير وقد جلدا وحلقا وصب الزيت على رؤوسهما وألبسا

عباءتين واجتمع الناس ينظرون إليهما قال وكان الرجل صديقا للعرجي وكان فأفاء فوقف عليه فأراد أن يتوجع لما ناله ويدعو له فلجلج لما كان في لسانه كما يفعل الفأفاء فقال له ابن غرير عني لا خرجت من فيك أبدا فقال له الرجل فمكانك إذا لا برحت منه أبدا
قال ومر به صبيان يلقطون النوى فوقفوا ينظرون إليه فالتفت إلى ابن غرير وقال له ما أعرف في الدنيا سخلين أشأم مني ومنك إن هؤلاء الصبيان لأهلهم عليهم في كل يوم على كل واحد منهم مد نوى فقد تركوا لقطهم للنوى وقد وقفوا ينظرون إلي وإليك وينصرفون بغير شيء فيضربون فيكون شؤمنا قد لحقهم
قال وقال العرجي في حبسه

صوت
( أَضَاعُونِي وأيَّ فتىً أَضَاعُوا ... ليومٍ كَرِيهةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ )
( وصبرٍ عند مُعْتَرَكِ المَنَايَا ... وقد شُرِعَتْ أسِنَّتُها بنَحْرِي )
( أُجَرَّرُ في الجَوَامِع كلَّ يومٍ ... فيَا للهِ مَظْلِمتي وصَبْرِي )
( كأنِّي لم أكُنْ فيهم وَسِيطاً ... ولم تَكُ نِسْبتي في آلِ عَمْرِو )
أبو حنيفة وجار له كان يغني بشعر العرجي
أخبرني محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي

عن الأصمعي قال
كان لأبي حنيفة جار بالكوفة يغني فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في غرفته ويسمع أبو حنيفة غناءه فيعجبه وكان كثيرا ما يغني
( أَضَاعُونِي وأيَّ فتًى أضاعُوا ... ليومِ كَرِيهةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ )
فلقيه العسس ليلة فأخذوه وحبس ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة فسأل عنه من عد فأخبر فدعا بسواده وطويلته فلبسهما وركب إلى عيسى بن موسى فقال له إن لي جارا أخذه عسسك البارحة فحبس وما علمت منه إلا خيرا فقال عيسى سلموا إلى أبي حنيفة كل ما أخذه العسس البارحة فأطلقوا جميعا فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة وقال له سرا ألست كنت تغني يا فتى كل ليلة
( أضَاعُونِي وأيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... )
فهل أضعناك قال لا والله أيها القاضي ولكن أحسنت وتكرمت أحسن الله جزاءك قال فعد إلى ما كنت تغنيه فإني كنت آنس به ولم أر به بأسا قال أفعل

عبد الله بن علي كان كثير التمثل في حبسه بقول العرجي أضاعوني
وقال إسحاق في خبره لما حبس المنصور عبد الله بن علي كان يكثر التمثل بقول العرجي
( أضاعونِي وأيَّ فتًى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ )
فبلغ ذلك المنصور فقال هو أضاع نفسه بسوء فعله فكانت أنفسنا عندنا آثر من نفسه
الأصمعي وكناس بالبصرة كان يتمثل بهذا البيت
قال إسحاق وقال الأصمعي مررت بكناس بالبصرة يكنس كنيفا ويغني
( أَضاعُونِي وأيَّ فتًى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ )
فقلت له أما سداد الكنيف فأنت مليء به وأما الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه وكنت حديث السن فأردت العبث به فأعرض عني مليا ثم أقبل علي فأنشد متمثلا
( وأُكْرِمُ نفسِي إِنَّنِي إن أهنتُها ... وحَقِّك لم تَكْرُمْ على أحدٍ بَعْدِي )
قال فقلت له والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له فبأي شيء أكرمتها فقال بلى والله إن من الهوان لشرا مما أنا فيه فقلت وما هو فقال الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس فانصرفت عنه أخزى الناس قال

محمد بن مزيد فحدثني حماد قال قال لي أبي اختصر الأصمعي فيما أرى الجواب وستر أقبحه على نفسه وإلا فكناس كنيف قائم يكنسه ويعبث به هذا العبث فيرضى بهذا الجواب الذي لا يجيب بمثله الأحنف بن قيس لو كانت المخاطبة له

اقتصاص الوليد بن يزيد من محمد وإبراهيم ابني هشام
وقال إسحاق في خبره كان الوليد بن يزيد مضطغنا على محمد بن هشام لأشياء كانت تبلغ عنه في حياة هشام فلما ولي الخلافة قبض عليه وعلى أخيه إبراهيم بن هشام وأشخصا إليه إلى الشام ثم دعا بالسياط فقال له محمد أسألك بالقرابة قال وأي قرابة بيني وبينك وهل أنت إلا من أشجع قال فأسألك بصهر عبد الملك قال لم تحفظه فقال له يا أمير المؤمنين قد نهى رسول الله أن يضرب قرشي بالسياط إلا في حد قال ففي حد أضربك وقود أنت أول من سن ذلك على العرجي وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان فما رعيت حق جده ولا نسبه بهشام ولا ذكرت حينئذ هذا الخبر وأنا ولي ثأره اضرب يا غلام فضربهما ضربا مبرحا وأثقلا بالحديد ووجه بهما إلى يوسف بن عمر بالكوفة وأمره باستصفائهما وتعذيبهما حتى يتلفا وكتب إليه احبسهما مع ابن النصرانية يعني خالدا

القسري ونفسك نفسك إن عاش أحد منهم فعذبهم عذابا شديدا وأخذ منهم مالا عظيما حتى لم يبق فيهم موضع للضرب فكان محمد بن هشام مطروحا فإذا أرادوا أن يقيموه أخذوا بلحيته فجذبوه بها ولما اشتدت عليهما الحال تحامل إبراهيم لينظر في وجه محمد فوقع عليه فماتا جميعا ومات خالد القسري معهما في يوم واحد فقال الوليد بن يزيد لما حملهما إلى يوسف بن عمر
( قد راحَ نحو العِرَاقِ مَشْخَلَبَهْ ... قُصَارُه السِّجْنُ بعدَه الخَشَبَهْ )
( يركَبُها صاغِراً بلا قَتَبٍ ... ولا خِطَامٍ وحَوْلَه جَلَبَهْ )
( فَقُلْ لدَعْجَاءَ إن مررتَ بها ... لن يُعْجِزَ اللهَ هاربٌ طَلَبَهْ )
( قد جَعَل اللهُ بعدَ غَلْبَتِكم ... لنا عليكم يا دُلْدُلُ الغَلَبَهْ )
( لستَ إلى هاشمٍ ولا أَسَدٍ ... ولا إلى نَوْفَلٍ ولا الحَجَبَهْ )
( لكنَّما أشْجَعٌ أبوكَ سَلِ الكَلْبِيَّ ... لا ما يُزَوِّقُ الكَذَبَةْ )

الرشيد وإسحاق حين غناه قول العرجي أضاعوني
قال إسحاق في خبره غنيت الرشيد يوما في عرض الغناء

( أضَاعُوني وأيَّ فتًى أضاعُوا ... ليوم كريهةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ )
فقال لي ما كان سبب هذا الشعر حتى قاله العرجي فأخبرته بخبره من أوله إلى أن مات فرأيته يتغيظ كلما مر منه شيء فأتبعته بحديث مقتل ابني هشام فجعل وجهه يسفر وغيظه يسكن فلما انقضى الحديث قال لي يا إسحاق والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحداً من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجي
والصوت الآخر من رواية جحظة عن أصحابه

صوت
( إذا ما طَوَاكِ الدهرُ يا أُمَّ مالكٍ ... فشأنَ المنايا القاضِيَاتِ وشَانيَا )
( تمرُّ الليالي والشهورُ وتَنْقَضِي ... وحُبُّكِ ما يَزْدَادُ إلا تَمَادِيَا )
( خليليَّ إن دارتْ على أُمّ مالكٍ ... صُرُوفُ الليالي فابغِيا لِي نَاعيَا )
( ولا تترُكَانِي لا لخيرٍ مُعَجَّلٍ ... ولا لبقاء تَنْظُرَانِ بَقَائِيَا )
الشعر للمجنون ومن الناس من يروي البيت الأول منها لقيس بن الحدادية وهو جاهلي والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى وذكر حبش وابن المكي أن فيه لإسحاق لحنا آخر من الثقيل الثاني بالخنصر والبنصر
إلى هنا انتهى الجزء الأول من كتاب الأغاني ويليه الجزء الثاني منه وأوله أخبار مجنون بني عامر ونسبه

بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار مجنون بني عامر ونسبه
هو على ما يقول من صحح نسبه وحديثه قيس وقيل مهدي والصحيح أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
ومن الدليل على أن اسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه
( ألا ليتَ شِعْرِي والخطوبُ كثيرةٌ ... متى رَحْلُ قَيْسٍ مُستِقلُّ فراجعُ )
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال سمعت من لا أحصي يقول اسم المجنون قيس بن الملوح
وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي وأخبرني الجوهري عن عمر بن شبة أنهما سمعا الآصمعي يقول وقد سئل عنه لم يكن مجنونا ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري

اختلاف الرواة في وجود قيس وجنونه
وأخبرني حبيب ابن نصر المهلبي وأحمد بن عبد عزيز الجوهري عن ابن شبة عن الحزامي قال حدثني أيوب بن عباية قال سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه
وأخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأب قال قلت لرجل من بني عامر أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئا قال أوقد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين إنهم لكثير فقلت ليس هؤلاء أعني إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق فقال هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذاك إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها السخيفة عقولها الصعلة رؤوسها فأما نزار فلا
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال سمعت الآصمعي يقول رجلان ما عرفا في الدنيا قط إلا بالاسم مجنون بني عامر وابن القرية وإنما وضعهما الرواة
وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن

أبي سعد عن الحزامي قال ولم أسمعه من الحزامي فكتبته عن ابن أبي سعد قال أحمد وحدثنا به ابن أبي سعد عن الحزامي قال حدثنا عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال سعيت على بني عامر فرأيت المجنون وأتيت به وأنشدني
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني قال المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ من بني عامر ثم من بني عقيل أحد بني نمير بن عامر ابن عقيل قال ومنهم رجل آخر يقال له مهدي بن الملوح من بنى جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
وأخبرني عمي عن الكراني قال حدثنا ابن أبي سعد عن علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال حدثت أن حديث المجنون وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه
أخبرني الحسين بن يحيى وأبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال اسم المجنون قيس بن معاذ أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة

اختلاف الآراء حول اسم المجنون
وأخبرني أبو سعد الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال حدثنا حماد بن طالوت بن عباد أنه سأل الآصمعي عنه فقال لم يكن مجنونا بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه كان يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى واسمه قيس بن معاذ
وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ
وذكر شعيب بن السكن عن يونس النحوي أن اسمه قيس بن الملوح قال أبو عمرو الشيباني وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه فذكر أنه قيس بن الملوح
وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح وحدث أن أباه مات قبل اختلاطه فعقر على قبره ناقته وقال في ذلك
( عقرتُ على قبر الملوّح ناقتي ... بذي السَّرْح لما أن جفاه الأقاربُ )
( وقلتُ لها كُونِي عَقِيراً فإنني ... غداً راجلٌ أمشِي وبالأمسِ راكبُ )
( فلا يُبعِدَنْكَ اللّهُ يابنَ مُزُاحِمٍٍ ... فكلٌّ بكأس الموت لاشكَّ شارِبُ )
وذكر إبراهيم بن المنذر الحزامي وأبو عبيدة معمر بن المثنى أن

اسمه البحتري بن الجعد
وذكر مصعب الزبيري والرياشي وأبو العالية أن اسمه الأقرع بن معاذ
وقال خالد بن كلثوم اسمه مهدي بن الملوح
وأخبرني الأخفش عن السكري عن أبي زياد الكلابي قال ليلى صاحبة المجنون هي ليلى بنت سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو قلابة الرقاشي قال حدثني عبد الصمد بن المعدل قال سمعت الأصمعي وقد تذاكرنا مجنون بني عامر يقول لم يكن مجنونا وإنما كانت به لوثة وهو القائل
( أَخذَتْ محاسنَ كلِّ ما ... ضَنَّتْ محاسنُه بحُسنِهْ )
( كادَ الغزالُ يكونُها ... لولاالشَّوَى ونُشُوزُ قَرنِهْ )

وأخبرني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال
سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال عن أيهم تسألني فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون فعن أيهم تسأل فقلت عن الذي كان يشبب بليلى فقال كلهم كان يشبب بليلى قلت فأنشدني لبعضهم فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون
( ألا أيُّها القلبُ الذي لجَّ هائماً ... بلَيْلى وليداً لم تُقطِّعْ تمائِمُهْ )
( أفِقْ قد أفاق العاشقون وقد أنَى ... لَكَ اليومَ أن تَلَقَى طبيباً تُلائِمُهْ )
( أجدّكَ لا تُنسِيكَ لَيْلَى مُلِمَّةٌ ... تُلِمُّ ولا عهدٌ يطُولُ تَقَادُمُهْ )
قلت فأنشدني لغيره منهم فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون
( ألا طَالَما لاعَبْتُ لَيْلَى وقادَني ... إلى اللَّهو قلبٌ للحِسَان تَبُوعُ )
( وطال امتراءُ الشّوقِ عينَي كلّما ... نَزَفتُ دُموعاً تَسْتَجْدُّ دُموعُ )
( فقد طال إمساكِي على الكَبِد التي ... بها مِن هَوَى لَيْلَى الغَدَاةَ صُدُوعُ )
قلت فأنشدني لغير هذين ممن ذكرت فأنشدني لمهدي بن الملوح
( لو أنّ لك الدنيا وما عُدِلتْ به ... سِوَاهَا وليلى بائنٌ عنك بينُها )
( لكنتَ إلى ليلى فقيراً وإنما ... يقود إليها وُدَّ نفسِك حَينُها )

قلت له فأنشدني لمن بقي من هؤلاء فقال حسبك فوالله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال قال ابن الأعرابي كان معاذ بن كليب مجنونا وكان يحب ليلى وشركه في حبها مزاحم بن الحارث العقيلي فقال مزاحم يوما للمجنون
( كِلانا يا مُعاذُ يُحِبُّ لَيْلَى ... بِفيّ وفيكَ مِن لَيْلَى التُّرَابُ )
( شَرِكتُكَ في هَوَى من كان حظِّي ... وحظّكَ مِن مودّتها العَذَابُ )
( لقد خَبَلَتْ فؤادَك ثم ثَنَّت ... بقلبي فهو مخبولٌ مُصابُ )
قال فيقال إنه لما سمع هذه الأبيات التبس وخولط في عقله
وذكر أبو عمرو الشيباني أنه سمع في الليل هاتفا يهتف بهذه الأبيات فكانت سبب جنونه
وذكر إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أيوب بن عباية أن فتى من بني مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون وأنه عمل له أخبارا وأضاف إليها ذلك الشعر فحمله الناس وزادوا فيه

إنكار وجود المجنون
وأخبرني عمي عن الكوراني عن العمري عن العتبي عن عوانة أنه قال المجنون اسم مستعار لا حقيقة له وليس له في بني عامر أصل ولا نسب فسئل من قال هذه الأشعار فقال فتى من بني أمية
وقال الجاحظ ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون ولا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح
وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني الحكم بن صالح قال قيل لرجل من بني عامر هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله العشق فقال هذا باطل إنما يقتل العشق هذه اليمانية الضعاف القلوب
أخبرنا أحمد بن عمر بن موسى قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني أيوب بن عباية قال حدثني من سأل بني عامر بطنا بطنا عن المجنون فما وجد فيهم أحدا يعرفه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابي أنه ذكر عن جماعة من بن عامر أنهم سئلوا عن المجنون فلم يعرفوه وذكروا أن هذا الشعر كله مولد عليه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن محمد بن الحكم عن عوانة قال ثلاثة لم يكونوا قط ولا عرفوا ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم وابن القرية ومجنون بنى عامر

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول الذي ألقي على المجنون من الشعر وأضيف أليه أكثر مما قاله هو
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال أنشدت أيوب بن عباية هذين البيتين
( وخبَّرتُماني أنّ تَيمَاءَ منزِلٌ ... لِلَيْلَى إذا ما الصَّيفُ أَلْقَى المَرَاسِيَا )
( فهذِه شهورُ الصَّيْفِ عنّا قد انقضَتْ ... فما لِلنّوَى تَرمِي بلَيْلَى المَرامِيَا )
وسألته عن قائلهما فقال جميل فقلت له إن الناس يروونهما للمجنون فقال ومن هو المجنون فأخبرته فقال ما لهذا حقيقة ولا سمعت به
وأخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي قال
سألت أبا بكر العدوي عن هذين البيتين فقال هما لجميل ولم يعرف المجنون فقلت فهل معهما غيرهما قال نعم وأنشدني
( وإِنِّي لأخشى أن أموتَ فُجَاءةً ... وفي النفس حاجاتٌ إليكِ كما هِيَا ) ِ
( وإِني ليُنْسِينِي لِقاؤكِ كلَّما ... لقِيتُكِ يوماًأنْ أَبُثَّكِ ما بِيَا )
( وقالوا به داءٌ عَيَاءٌأصابه ... وقد علِمتْ نفسي مكانَ دوائِيا )
وأنا أذكر مما وقع إلي من أخباره جملا مستحسنة متبرئا من العهدة فيها فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه وإذا قدمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعة من الرواة ونسخت ما لم أسمعه من

الروايات وجمعت ذلك في سياقة خبره ما اتسق ولم يختلف فإذا اختلف نسبت كل رواية إلى راويها

العاشقان الصغيران ليلى والمجنون
فممن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وابن دأب وهشام بن محمد الكلبي وإسحاق بن الجصاص وغيرهم من الرواة
وقال أبو عمرو الشيباني وأبو عبيدة كان المجنون يهوى ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتكنى أم مالك وهما حينئذ صبيان فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه قال ويدل على ذلك قوله
صوت
( تَعَلّقتُ لَيْلَى وهي ذاتُ ذُؤَابةٍ ... ولم يَبْدُ للأتراب من ثَدْيِها حجمُ )
( صغيريْن نَرعَى البَهْمَ ياليتَ أننا ... إلى اليوم لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَرِِالبَهْمُ )

في هذين البيتين للأخضر الجدي لحن من الثقيل الثاني بالوسطى ذكره هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات والهشامي
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية ونسخت هذا الخبر بعينه من خط هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثني أبو عتاب البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال بينا ابن مليكة يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يغني من دار العاص بن وائل
( وعُلِّقتُها غَرَّاءَ ذاتَ ذوائبٍ ... ولم يَبدُ للأتراب من ثديها حجمُ )
( صغيرينِ نرعى البَهْمَ ياليتَ أننا ... إلى اليوم لم نكْبَرْ ولم تَكبر البَهمُ )
قال فأراد أن يقول حي على الصلاة فقال حي على البهم حتى سمعه أهل مكة فغدا يعتذر إليهم
وقال ابن الكلبي حدثني معروف المكي والمعلى بن هلال وإسحاق بن الجصاص قالوا

كان سبب عشق المجنون ليلى أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة وعليه حلتان من حلل الملوك فمر بامرأة من قومه يقال لها كريمة وعندها جماعة نسوة يتحدثن فيهن ليلى فأعجبهن جماله وكماله فدعونه إلى النزول والحديث فنزل وجعل يحدثهن وأمر عبدا له كان معه فعقر لهن ناقته وظل يحدثهن بقية يومه فبينا هو كذلك إذ طلع عليهم فتى عليه بردة من برد الأعراب يقال له منازل يسوق معزى له فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول
( أأعقِرُ مِنْ جَرَّا كَرِيمةَ ناقَتِي ... وَوَصْليَ مَفْروشٌ لِوَصْلِ مُنَازِلِ )
( إذا جاء قَعْقَعْنَ الُحليَّ ولم أكُنْ ... إذا جئتُ أرضَى صوتَ تلكَ الخلاخِلِ )
( متى ما انتضَلْنا بالسِّهام نَضَلتُه ... وإن نَرْمِِ رَشْقاً عندها فهو ناضِلي )
قال فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضا لهن فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته وعندها جويريات يتحدثن معها فوقف بهن وسلم فدعونه إلى النزول وقلن له هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره فقال إي لعمري فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفته واستملحها فبينا هي تحدثه إذا أقبل فتى من الحي فدعته وسارته سرارا طويلا ثم قالت له انصرف ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وانتقع لونه وشق عليه فعلها

فأنشأت تقول
( كلانا مُظهرٌ للناس بغضاً ... وكلٌّ عندَ صاحبهِ مَكِينُ )
( تُبلِّغُنَا العيونُ بما أردنا ... وفي القلبين ثَمَّ هَوىً دَفِينُ ) فلما سمع البيتين شهق شهقة شديدة وأغمي عليه فمكث على ذلك ساعة ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ

المجنون يخطب ليلى وأهلها يزوجونها وردا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبدالملك قال حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن هشام بن محمد بن موسى المكي عن محمد بن سعيد المخزومي عن أبي الهيثم العقيلي قال
لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء وخطبها ورد بن محمد العقيلي وبذل لها عشرا من الأبل وراعيها فقال أهلها نحن مخيروها بينكما فمن اختارت تزوجته ودخلوا إليها فقالوا والله لئن لم تختاري وردا لنمثلن بك فقال المجنون
( ألا يا لَيلَ إن مُلِّكْتِ فينا ... خِيارَكِ فانظُرِي لِمَن الِخيارُ )
( ولا تَسْتَبْدِلِي منّي دَنيّاً ... ولا بَرَماً إذا حُبَّ القُتَارُ )
( يُهَرْوِل في الصغير إذا رآه ... وتُعجِزُه مُلِمَّاتٌ كِبَارُ )

( فمثلُ تأيُّم منه نكاحٌ ... ومثلُ تَمَوُّلٍ منه افتِقَارُ ) فاختارت وردا فتزوجته على كره منها
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة بن حريم المري قال خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون فدللت عليه وعلى محلته فلقيت أباه شيخا كبيرا وحوله إخوة للمجنون مع أبيهم رجالا فسألتهم عنه فبكوه وقال الشيخ أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعا وإنه عشق امرأة من قومه والله ما كانت تطمع في مثله فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما فزوجها غيره وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدثون كما يتحدث الفتيان وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة فتعرض عنه وتقبل على غيره وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه فظنت به ما هو عليه من حبها فأقبلت عليه يوما وقد خلت فقالت

صوت
( كِلانا مُظهِرٌ للناس بغضاً ... وكلٌّ عند صاحبه مَكِينُ )
( وأسرارُ الَملاَحِظِ ليس تَخْفَى ... إذا نَطَقتْ بما تُخْفِي العيونُ )
غنت في الأول عريب خفيف رمل وقيل إن هذا الغناء لشارية والبيت

الأخير ليس من شعره قال فخر مغشيا عليه ثم أفاق فاقدا عقله فكان لا يلبس ثوبا إلا خرقه ولا يمشي إلا عاريا ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله فإذا ذكرت له ليلى أنشأ يحدث عنها عاقلا ولا يخطىء حرفا وترك الصلاة فإذا قيل له مالك لا تصلي لم يرد حرفا وكنا نحبسه ونقيده فيعض لسانه وشفته حتى خشينا عليه فخلينا سبيله فهو يهيم

المجنون الهائم وعمر بن عبد الرحمن بن عوف
قال الهيثم فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير وجعدة والحريش وحبيب وعبد الله فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به فسأله أن يخرج معه فأجابه إلى ذلك فلما أراد الرواح جاءه قومه فأخبروه خبره وخبر ليلى وأن أهلها استعدوا السلطان عليه فأهدر دمه إن أتاهم فأضرب عما وعده وأمر له بقلائص فلما علم بذلك وأتي بالقلائص ردها عليه وانصرف
وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرواة أن المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج به قال له أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غدا فأرى في أصحابك وأتجمل في عشيرتي بك وأفخر بقربك فجاءه رهط من رهط ليلى وأخبروه بقصته وأنه لا يريد التجمل به وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم ويفضحهم في امرأة منهم يهواها وأنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم فأعرض عما أجابه إليه من أخذه معه وأمر له

بقلائص فردها وقال في ذلك
( رددتُ قلائصْ القرشيّ لمّا ... بدا لي النقضُ منه للعهودِ )
( وراحوا مُقْصِرينَ وخلَّفُوني ... إلى حُزنٍ أُعالجُه شديد ) قال ورجع آيسا فعاد إلى حاله الأولى قال فلم تزل تلك حاله إلا أنه غير مستوحش إنما يكون في جنبات الحي منفردا عاريا لا يلبس ثوبا إلا خرقه ويهذي ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة ولا يجيب أحدا سأله عن شيء فإذا أحبوا أن يتكلم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى فيقول بأبي هي وأمي ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم ويأتيه أحداث الحي فيحدثونه عنها وينشدونه الشعر الغزل فيجيبهم جوابا صحيحا وينشدهم أشعارا قالها حتى سعى عليهم في السنة الثانية بعد عمر بن عبد الرحمن نوفل بن مساحق فنزل مجمعا من تلك المجامع فرآه يلعب بالتراب وهو عريان فقال لغلام له يا غلام هات ثوبا فأتاه به فقال لبعضهم خذ هذا الثوب فالقه على ذلك الرجل فقال له أتعرفه جعلت فداك قال لا قال هذا ابن سيد الحي لا والله ما يلبس الثياب ولا يزيد على ما تراه يفعله الآن واذا طرح عليه شيء خرقه ولو كان يلبس ثوبا لكان في مال أبيه ما يكفيه وحدثه عن أمره فدعا به وكلمه فجعل لا يعقل شيئا يكلمه به فقال له قومه إن أردت أن يجيبك جوابا صحيحا فاذكر له ليلى فذكرها له وسأله عن حبه إياها فأقبل عليه يحدثه بحديثها ويشكو إليه حبه إياها وينشده شعره فيها فقال له نوفل الحب صيرك إلى ما أرى قال نعم وسينتهي بي إلى ما هو أشد مما ترى فعجب منه وقال له أتحب أن أزوجكها قال نعم وهل إلى ذلك من سبيل قال انطلق معي حتى أقدم على أهلها بك وأخطبها عليك وأرغبهم في المهر لها قال أتراك فاعلا قال نعم قال انظر ما تقول قال لك علي أن أفعل بك ذلك ودعا له بثياب فألبسه إياها وراح

معه المجنون كأصح أصحابه يحدثه وينشده فبلغ ذلك رهطها فتلقوه في السلاح وقالوا له يابن مساحق لا والله لا يدخل المجنون منازلنا أبدا أو يموت فقد أهدر لنا السلطان دمه فأقبل بهم وأدبر فأبوا فلما رأى ذلك قال للمجنون انصرف فقال له المجنون والله ما وفيت لي بالعهد قال له انصرافك بعد أن آيسني القوم من إجابتك أصلح من سفك الدماء فقال الممجنون

صوت
( أيا وَيْح مَنْ أَمْسى تُخُلِّسَ عقلُه ... فأصبح مذهوباً به كلَّ مذهب )
( خليّاً من الخُلاَّنِ إلا مُعَذِّراً ... يُضَاحِكني مَنْ كان يَهوَى تَجنُّبي ) الغناء للحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى من جامع أغانيه
( إذا ذُكرتْ ليلى عَقَلتُ وراجعَتْ ... روائعُ عقلي مِن هَوىَ مُتَشَعِّب )
( وقالوا صحيحٌ ما به طيفُ جِنَّةٍ ... ولا الهمُّ إلا بافتراء التكذّبِ )
( وشاهدُ وجْدِي دمعُ عيني وحُبُّها ... بَرَى اللحمَ عن أحناءِ عظمي ومنكِبي )
صوت
( تجنَّبتَ ليلى أن يَلِجَّ بكَ الهوى ... وهيهاتَ كان الحبُ قبل التجنُّبِ )

( ألا إنّما غادرْتِ يا أمّ مالكٍ ... صدىً أينما تذْهبْ به الريحُ يَذْهبِ )
الغناء لإسحاق خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لابن جامع هزج من رواية الهشامي وهي قصيدة طويلة
ومما يغنى فيه منها قوله

صوت
( فلم أرَ لَيلَى بعد مَوْقفِ ساعةٍ ... بخَيْفِ مِنْى تَرِمي جمارَ المحصَّبِ )
( ويُبدِي الحصَى منها إذا قَذَفتْ به ... من البُرْدِ أطرافَ البَنانِ المخضَّب )
( فأصبحتُ من لَيْلَى الغَداةَ كناظرٍ ... مع الصبح في أعقابِ نجمٍ مُغرِّبِ )
( ألا إنما غادرتِ يا أمَّ مالكٍ ... صَدىً أينما تذهبْ به الريحُ يذهب )
فيه ثقيل أول مطلق باستهلال ذكر ابن المكي أنه لأبيه يحيى وذكر الهشامي أنه للواثق وذكر حبش أنه لابن محرز وهو في جامع أغاني سليمان

منسوب إليه
أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون
( فواللهِ ثم اللهِ إِنِّي لدائبٌ ... أُفَكِّر ما ذنبِي إليها وأعجَبُ )
( وواللهِ ماأدرِي عَلاَمَ قتلتِني ... وأيَّ أموري فيكِ يا ليلَ أركبُ )
( أأقطَعُ حبل الوصلِ فالموتُ دونه ... أَم أشربُ رَنْقاً منكُم ليس يُشرَبُ )
( أم أهرُبُ حتى لا أرَى لي مجاوراً ... أَم أصنعُ ماذا أَم أبوح فَأُغلَبُ )
( فأيهما يا ليلَ ما ترتضِينَه ... فإنّي لمظلومٌ وإنّي لَمُعْتِبُ )

المجنون في الحج اللهم زدني لليلى حبا
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر هشام ابن الكلبي ووافقه في روايته أبو نصر أحمد بن حاتم وأخبرنا الحسن بن علي حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن هشام بن الكلبي عن أبيه
أن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته اجتمعوا إلى أبي ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرحم وقالوا له إن هذا الرجل لهالك وقبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله وإنك فاجع به أباه وأهله فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك

فوالله ما هي أشرف منه ولا لك مثل مال أبيه وقد حكمك في المهر وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل فأبى وحلف بالله وبطلاق أمها إنه لا يزوجه إياها أبدا وقال أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأته أحد من العرب وأسم ابنتي بميسم فضيحة فانصرفوا عنه وخالفهم لوقته فزوجها رجلا من قومها وأدخلها إليه فما أمسى إلا وقد بنى بها وبلغه الخبر فأيس منها حينئذ وزال عقله جملة فقال الحي لأبيه احجج به إلى مكة وادع الله عز و جل له ومره أن يتعلق بأستار الكعبة فيسأل الله أن يعافيه مما به ويبغضها إليه فلعل الله أن يخلصه من هذا البلاء فحج به أبوه فلما صاروا بمنى سمع صائحا في الليل يصيح يا ليلى فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشيا عليه فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللون ذاهلا فأنشأ يقول

صوت
( عَرَضتُ على قلبي العزاءَ فقال لي ... من الآنَ فايأسْ لا أعزّك مِن صَبْرِ )
( إذا بان مَنْ تهوَى وأصبح نائياً ... فلا شيءَ أجدَى من حُلُولكَ في القبر )
( وداع دعا إذ نحن بالَخْيفِ مِن منىًفهيَّجَ أطرابَ الفؤاد وما يدرِي )
( دعا باسم ليلى غيرِهَا فكأنَّما ... أطاراً بليلى طائراَ كان في صدرِي )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45