كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

كان لي وأنا صبي عقعق قد ربيته وكان يتكلم بكل شيء سمعه فسرق خاتم ياقوت كان لأبي قد وضعه على تكأته ودخل الخلاء ثم خرج ولم يجده فطلبه وضرب غلامه الذي كان واقفا فلم يقف له على خبر فبينا أنا ذات يوم في دارنا إذا أبصرت العقعق قد نبش ترابا فأخرج الخاتم منه ولعب به طويلا ثم رده فيه ودفنه فأخذته وجئت به إلى أبي فسر بذلك وقال يهجو العقعق
( إذا بارك الله في طائرٍ ... فلا بارك الله في العقعقِ )
( طويل الذُّنَابَى قصير الجناح ... متى ما يجد غَفْلةً يسرق )
( يُقلِّب عينين في رأسه ... كأنهما قَطْرتا زِئْبَق )

الموصلي وابن جامع عند الرشيد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن المكي وذاكرت أبا أحمد بن جعفر جحظة بهذا الخبر فقال حدثني به محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل عن أبيه عن جده ووجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل فجمعت الروايات كلها
أن الرشيد قال يوما لجعفر بن يحيى قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها فهلم أقاسمك إياها وأخايرك فاقتسما المغنين على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره وكان ابن جامع في حيز الرشيد وإبراهيم في حيز جعفر بن يحيى وحضر الندماء لمحنة المغنين وأمر الرشيد ابن

جامع فغنى صوتا أحسن فيه كل الإحسان وطرب الرشيد غاية الطرب فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنه فقال لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرفه وظهر الانكسار فيه فقال الرشيد لجعفر هذا واحد ثم قال لإسماعيل بن جامع غن يا إسماعيل فغنى صوتا ثانيا أحسن من الأول وأرضى في كل حال فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم هاته يا إبراهيم قال ولا أعرف هذا فقال هذان اثنان غن يا إسماعيل فغنى ثالث يتقدم الصوتين الأولين ويفضلهما فلما أتى على آخره قال هاته يا إبراهيم قال ولا أعرف هذا أيضا فقال له جعفر أخزيتنا أخزاك الله
قال وأتم ابن جامع يومه والرشيد مسرور به وأجازه بجوائز كثيرة وخلع عليه خلعا فاخرة ولم يزل إبراهيم منخذلا منكسرا حتى انصرف
قال فمضى إلى منزله فلم يستقر فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزف وكان محمد من المغنين المحسنين وكان أسرع من عرف في أيامه في أخذ صوت يريد أخذه وكان الرشيد قد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله فألزمه بيته وتناساه فقال إبراهيم للزف إني اخترتك على من هو أحب إلي منك لأمر لا يصلح له غيرك فانظر كيف تكون قال أبلغ في ذلك محبتك إن شاء الله تعالى فأدى إليه الخبر وقال أريد أن تمضي الساعة إلى ابن جامع فتعلمه أنك صرت إليه مهنئا بما تهيأ له علي وتنقصني وتثلبني وتشتمني وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها منه ولك ما تحبه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضا الخليفة إن شاء الله
قال فمضى من عنده واستأذن على ابن جامع فأذن له فدخل وسلم عليه وقال جئتك مهنئا بما بلغني من خبرك والحمد لله الذي أخزى ابن الجرمقانية على يدك وكشف الفضل في

محلك من صناعتك قال وهل بلغك خبرنا قال هو أشهر من أن يخفى على مثلي قال ويحك إنه يقصر عن العيان قال أيها الأستاذ سرني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك وأسقط بيني ويبنك الأسانيد قال أقم عندي حتى أفعل قال السمع والطاعة فدعا له ابن جامع بالطعام فأكلا ودعا بالشراب ثم ابتدأ حدثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول فقال له الزف وما هو أيها الأستاذ فغناه ابن جامع أياه فجعل محمد يصفق وينعر ويشرب وابن جامع مجتهد في شأنه حتى أخذه عنه
ثم سأله عن الصوت الثاني فغناه إياه وفعل مثل فعله في الصوت الأول ثم كذلك في الصوت الثالث فلما أخذ الأصوات الثلاثة كلها وأحكمها قال له يا أستاذ قد بلغت ما أحب فتأذن لي في الانصراف قال إذا شئت فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم فلما طلع من باب داره قال له ما وراءك قال كل ما تحب ادع لي بعود فدعا له به فضرب وغناه الأصوات قال إبراهيم وأبيك هي بصورها وأعيانها رددها علي الآن فلم يزل يرددها حتى صحت لإبراهيم وانصرف الزف إلى منزله وغدا إبراهيم إلى الرشيد فلما دعا بالمغنين دخل فيهم فلما بصر به قال له أو قد حضرت أما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع قال ولم ذلك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك والله لئن أذنت لي أن أقول لأقولن قال وما عساك أن تقول قل فقال إنه ليس ينبغي لي ولا لغيري أن يراك نشيطا لشيء فيعارضك ولا أن تكون متعصبا لحيز وجنبة فيغالبك وإلا فما في الأرض صوت لا أعرفه قال دع ذا عنك قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول فهاته اليوم فليس ها هنا عصبية ولا تمييز فاندفع فأمر الأصوات كلها وابن جامع مصغ

يسمع منه حتى أتى على آخرها فاندفع ابن جامع فحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قط ولا سمعها ولا هي إلا من صنعته ولم تخرج إلى أحد غيره فقال له ويحك فما أحدثت بعدي قال ما أحدثت حدثا فقال يا إبراهيم بحياتي اصدقني فقال وحياتك لأصدقنك رميته بحجره فبعثت له بمحمد الزف وضمنت له ضمانات أولها رضاك عنه فمضى فاحتال لي عليه حتى أخذها عنه ونقلها إلي وقد سقط الآن اللوم عني بإقراره لأنه ليس علي أن أعرف ما صنعه هو ولم يخرجه إلى الناس وهذا باب من الغيب وإنما يلزمني أن يعرف هو شيئا من غناء الأوائل وأجهله أنا وإلا فلو لزمني أن أروي صنعته للزمه أن يروي صنعتي ولزم كل واحد منا لسائر طبقته ونظرائه مثل ذلك فمن قصر عنه كان مذموما ساقطا فقال له الرشيد صدقت يا إبراهيم ونضحت عن نفسك وقمت بحجتك ثم أقبل على ابن جامع فقال له يا إسماعيل أتيت أتيت دهيت دهيت أبطل عليك الموصلي ما فعلته به أمس وانتصف اليوم منك ثم دعا بالزف فرضي عنه

الأصوات التي غنى بها ابن جامع
قال علي بن محمد سألت خالي أبا عبد الله بن حمدون وقد تجارينا هذا الخبر هل تعرف أصوات ابن جامع هذه فأخبرني أنه سمع إسحاق يحكي هذه القصة وذكر أن الصوت الأول منها
صوت
( بكيتُ نعمْ بكيتُ وكّل إلْفٍ ... إذا بانت قرينتُه بكاها )
( وما فرقتُ لُبْنَى عن تَقالٍ ... ولكن شِقْوةٌ بلغتْ مَداها )

الشعر لقيس بن ذريح
والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى
وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل آخر بالخنصر والبنصر من كتابه
وفيه لإبراهيم ثقيل أول عن الهشامي
قال والثاني منها

صوت
( عفت دارَ سَلْمَى بمُفْضَى الرَّغام ... رياحٌ تَعَاقَبُها كلَّ عامِ )
( خِلاَفَ الحلولِ بتلك الطّلول ... وسَحْبِ الذُّيول بذاك المقام )
( وأنس الديار وقرب الجِوار ... وطيب المزار وردّ السلامِ )
( ودهر غَرِير وعيش السّرور ... ونأي الغَيور وحُسن الكلام )
الشعر لحماد الراوية
والغناء لابن جامع ثقيل أول بالبنصر ذكر ذلك الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو
قال ابن حمدون وهذا الصوت عجيب الصنعة كثير النغم محكم العمل من صدور أغاني ابن جامع ومتقدم صنعته وكان المعتصم معجبا به وكثيرا ما كان يسكت المغنين إذا غني بحضرته فلا يسمع سائر يومه غيره
قال والثالث منها
صوت
( نَزَف البكاءُ دموعَ عينك فاستَعِرْ ... عيناً لغيرك دمعُها مِدْرارُ )

( مَنْ ذا يُعيرك عينَه تبكي بها ... أرأيتَ عيناً للبكاء تُعارُ )
الشعر للعباس بن الأحنف
والغناء لابن جامع ثقيل أول بالوسطى وقال ابن حمدون وعارضه إبراهيم بعد ذلك في هذا الشعر فصنع فيه لحنا من الرمل بالبنصر في مجراها فلم يلحقه ولا قاربه
قال وقد صنع أيضا في هذا الشعر لحن خفيف فاسد الصنعة محدث ليس ينبغي أن يذكر هاهنا
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو عبد الله الحزنبل قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه قال
أنشد بشار قول العباس بن الأحنف
( نَزف البكاءُ دموعَ عينك فاستعرْ ... عيناً لغيرك دمعها مدرارُ )
فقال بشار لحق والله هذا الفتى بالمحسنين وما زال يدخل نفسه معنا ونحن نخرجه حتى قال هذا الشعر
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال
أنشد الرشيد قول العباس
( من ذا يُعيركَ عينَه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تُعارُ )
فقال يعيره من لا حاطه الله ولا حفظه

ومما يغنى فيه من قصيدة العباس بن الأحنف الرائية التي هذا الصوت الأخير منها قوله
صوت
( الحبُّ أوّلُ ما يكون لَجَاجةً ... تأتي به وتسوقُه الأقدارُ )
( حتى إذا سلَك الفتى لُجَجَ الهوى ... جاءت أمورٌ لا تُطاق كِبارُ )
غناه ابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر
وفيه لشاطرة امرأة منصور زلزل ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي
وذكر ابن المكي المرتجل أن هذه الأصوات الثلاثة المسروقة من ابن جامع
( يا قبرُ بين بيوت آل مُحَرِّقٍ ... ) و
( عفا طَرَفُ القُرَيَّةِ فالكثيبُ ... )
وأسقط منها قوله
( نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... ) و
( بكيتُ نعم بكيتُ وكلُّ إلف ... )

نسبة هذين الصوتين
صوت
( يا قبرُ بين بيوتِ آل مُحرِّقٍ ... جادت عليك رَوَاعِدٌ وبُروقُ )
( أمّا البكاء فقَلَّ عنك كثيرُه ... ولئن بكيتُ فبالبكاء حقيق )
الشعر لرجل من بني أسد يرثي خالد بن نضلة ورجلا آخر من بني أسد كانا نديمين للمنذر بن ماء السماء فقتلهما في سخطه عليهما وخبر ذلك مشهور في أخبار ابن جامع
والغناء لابن جامع وله فيه لحنان ثقيل أول بالوسطى ورمل بالبنصر وقيل إن الرمل لابن سريج
وذكر حبش أن لمحمد صاحب البرام فيه لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى
ومنها
صوت
( عفا رَسْمُ القُرَيّة فالكثيبُ ... إلى مَلْحَاء ليس بها عَرِيبُ )
( تأبد رسُمها وجرى عليها ... سَفِيّ الريح والتُّربُ الغريبُ )
( فإنكَ واطّراحَك وصلَ سُعْدى ... لأخرى في مودّتها نُكوبُ )

( كثاقبةٍ لحَلْيٍ مستعار ... بأُذنْيها فشانَهما الثُّقوبُ )
( فردّت حَلْيَ جارتها إليها ... وقد بَقِيتْ بأُذنيْها نُدوبُ )
الشعر لابن هرمة
والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
عن إسحاق
وفيه للغريض ثاني ثقيل آخر بالبنصر عن عمرو
وقال عمرو فيه لحن للهذلي ولم يجنسه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني عيسى بن أيوب القرشي قال حدثني غيث بن عبد الكريم عن فليح بن إسماعيل عن إسماعيل بن جعفر الفقيه مولى حرب عن أبيه قال
مررت بابن هرمة وهو جالس على دكان في بني زريق فقلت له يا أبا إسحاق ما يجلسك ها هنا قال بيت كنت قلته ثم انقطع علي الروي فيه وتعذر علي ما أشتهيه فأبغضته وتركته قلت ما هو قال
( فإنك واطِّراحَك وصلَ سُعْدَى ... لأخرى في مودّتها نُكوبُ )
قال قلته ثم انقطع بي فيه فمرت بي جويرية صفراء مليحة كنت أستحسنها أبدا وأكلمها إذا مرت بي فمرت اليوم فرأيتها وقد ورم وجهها وتغير خلقها عما أعرف فسألتها عن خبرها فقالت كان في بني فلان عرس أردت حضوره فاستعار لي أهلي حليا وثقبوا أذني لألبسه فورم وجهي وأذناي كما ترى فردوه ولم أشهد العرس قال ابن هرمة فاطرد لي الشعر فقلت

( كثاقبةٍ لَحلْي مستعارٍ ... بأذنيها فشانَهما الثقوبُ )
( فردّت حَلْي جارتها إليها ... وقد بقيت بأذنيها نُدوبُ )

إبراهيم بن المهدي يسرق شعره ويغني به الرشيد
أخبرني الحسين بن القاسم قال حدثني العباس بن الفضل قال حدثني أبي قال
قال الرشيد لإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابن جامع وابن أبي الكنات باكروني غدا وليكن كل واحد قد قال شعرا إن كان يقدر أن يقوله وغنى فيه لحنا وإن لم يكن شاعرا غنى في شعر غيره
قال إبراهيم ابن المهدي فقمت في السحر وجهدت أن أقدر على شيء أصنعه فلم يتفق لي فلما خفت طلوع الفجر دعوت بغلماني وقلت لهم إني أريد أن أمضي إلى موضع ولا يشعر بي أحد حتى أصير إليه وكانوا يبيتون على باب داري فقمت فركبت وقصدت دار إبراهيم الموصلي وكان قد حدثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبر ما يحتاج إليه وإذا قام لحاجته في السحر اعتمد على خشبة له في المستراح فلم يزل يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت ويرسخ في قلبه فجئت حتى وقفت تحت مستراحه فإذا هو يردد هذا الصوت
صوت
( إذا سُكِبتْ في الكأسِ قبل مِزاجها ... تَرى لونَها في جِلدة الكأس مُذْهَبَا )
( وإن مُزجتْ راعت بلون تخاله ... إذا ضُمّنتْه الكأسُ في الكأس كوكبَا )

( أبوها نِجاء المُزْن والكَرْمُ أُمّها ... فلم أرَ زَوْجاً منه أشهى وأطيَبا )
( فجاءتك صَفْرا أشبهت غير جنسها ... وما أشبهت في اللون أُمًّا ولا أبا )
قال فما زلت واقفا أستمع منه الصوت حتى أخذته ثم غدونا إلى الرشيد فلما جلسنا للشرب خرج الخادم إلي فقال يقول لك أمير المؤمنين يابن أم غنني فاندفعت فغنيت هذا الصوت والموصلي في الموت حتى فرغت منه فشرب عليه وأمر لي بثلاثمائة ألف درهم فوثب إبراهيم الموصلي فحلف بالطلاق وحياة الرشيد أن الشعر له قاله البارحة وغنى فيه ما سبقه إليه أحد فقال إبراهيم يا سيدي فمن أين هو لي أنا لولا كذبه وبهته وإبراهيم يضطرب ويضج فلما قضيت أربا من العبث به قلت للرشيد الحق أحق أن يتبع وصدقته فقال للموصلي أما أخي فقد أخذ المال ولا سبيل إلى رده وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما جرى عليه فلو بدأت أنت بالصوت لكان هذا حظك فأمر له بها فحملت إليه

إبراهيم الموصلي ومحمد بن يحيى
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن مخارق قال
أتى إبراهيم الموصلي محمد بن يحيى بن خالد في يوم مهرجان فسأله محمد أن يقيم عنده فقال ليس يمكنني لأن رسول أمير المؤمنين قد أتاني قال فتمر بنا إذا انصرفت ولك عندي كل ما يهدى إلي اليوم فقال نعم وترك في المجلس صديقا له يحصي ما يبعث به إليه قال فجاءت هدايا عجيبة من كل ضرب قال وأهدي إليه تمثال فيل من ذهب عيناه ياقوتتان فقال محمد للرجل لا تخبره بهذا حتى نبعث به إلى فلانة ففعل وانصرف إبراهيم إليه فقال أحضرني ما أهدي لك فأحضره ذلك كله إلا التمثال وقال

لا بد من صدقك كان من الأمر كذا وكذا فقال لا إلا على الشريطة وكما ضمنت فجيء بالتمثال فقال إبراهيم أليس الهدية لي فأعمل فيها ما أريد قال بلى قال فرد التمثال على الجارية وجعل يفرق الهدايا على جلساء محمد شيئا شيئا وعلى جميع من حضر من إخوانه وغلمانه وعلى من في دور الحرم من جواريه حتى لم يبق منها شيء ثم أخذ من المجلس تفاحتين لما أراد الانصراف وقال هذا لي وانصرف فجعل محمد يعجب من كبر نفسه ونبله

الرشيد يزوره ليلا ليغنيه
وقال أحمد بن المرزبان حدثني بعض كتاب السلطان
أن الرشيد هب ليلة من نومه فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض فركبه وخرج في دراعة وشي متلثما بعمامة وشي ملتحفا بإزار وشي بين يديه أربعمائة خادم أبيض سوى الفراشين وكان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانه عنده فلما خرج من باب القصر قال أين يريد أمير المؤمنين في هذه الساعة قال أردت منزل الموصلي
قال مسرور فمضى ونحن معه وبين يديه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم فخرج فتلقاه وقبل حافر حماره وقال له يا أمير المؤمنين أفي مثل هذه الساعة تظهر قال نعم شوق طرق لك بي ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم فقال له إبراهيم يا سيدي أتنشط لشيء تأكله فقال نعم خاميز ظبي فأتي به كأنما كان معدا له فأصاب منه شيئا يسيرا ثم دعا بشراب حمل معه فقال الموصلي يا سيدي أؤغنيك أم تغنيك إماؤك فقال بل الجواري فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان وجانبيه فقال أيضربن كلهن أم واحدة فقال بل

تضرب اثنتان اثنتان وتغني واحدة فواحدة ففعلن ذلك حتى مر صدر الإيوان وأحد جانبيه والرشيد يسمع ولا ينشط لشيء من غنائهن إلى أن غنت صبية من حاشيته
( يا مُورِيَ الزَّند قد أعيتْ قوادحُه ... إقْبِسْ إذا شئتَ من قلبي بمقباسِ )
( ما أقبحَ الناسَ في عيني وأسمجَهم ... إذا نظرتُ فلم أُبصرك في الناس )
قال فطرب لغنائها واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا ثم سأل الجارية عن صانعه فأمسكت فاستدناها فتقاعست فأمر بها فأقيمت حتى وقفت بين يديه فأخبرته بشيء أسرته إليه فدعا بحماره فركبه وانصرف ثم التفت إلى إبراهيم فقال ما ضرك ألا تكون خليفة فكادت نفسه تخرج حتى دعا به وأدناه بعد ذلك
قال وكان الذي خبرته به أن الصنعة في الصوت لأخته علية بنت المهدي وكانت الجارية لها وجهت بها إلى إبراهيم يطارحها فغار الرشيد ولحن الصوت خفيف رمل
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان أبي يألف خمارة بالرقة يقال لها بشرة تنزل الهنيء والمريء

وكانت لها بنت من أحسن الناس وجها فكان أبي يتحلاها ثم رحل الرشيد عن الرقة إلى بلاد الروم في بعض غزواته فقال أبي فيها
( أيَا بنتَ بِشْرةَ ما عاقَنِي ... عن العهد بَعْدَكِ من عائقِ )
( نَفَى النّومَ عنّي سنا بارق ... وأشهقني في ذُرَى شاهق )
قال وفيها يقول أيضا من أبيات له وله فيها صنعة من الرمل الأول

صوت
( وزعمتِ أنِّي ظالمٌ فهجرتِنِي ... ورَمَيتِ في قلبي بسهمٍ نافذِ )
( ونَعَمْ ظلمتُكِ فاغفرِي وتجاوَزِي ... هذا مَقامُ المستجير العائذ )
ذكر حماد في هذا الخبر أن لحن جده من الرمل
ووجدت في كتاب أحمد بن المكي أن له فيهما لحنين أحدهما ثقيل أول والآخر ثاني ثقيل
الرشيد يحبس الموصلي فيغني في السجن
حدثني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال
حبس الرشيد إبراهيم الموصلي عند أبي العباس يعني أباه عبد الله ابن مالك فسمعناه ليلة وقد صنع هذا اللحن وهو يكرره حتى يستوي له
( يا أخلاّءِ قد مَلِلْتُ مكاني ... وتذكّرتُ ما مضى من زماني )
( شُرْبِيَ الراحَ إذ تقوم علينا ... ذاتُ دَلٍّ كأنّها غصنُ بانِ )
قال وغنى في الحبس أيضا

( ألاَ طال ليلي أُراعي النّجوم ... أُعالج في السّاق كَبْلاً ثَقيلاَ )
حدثني عيسى قال حدثني عبد الله قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علويه الأعسر قال
دخلت على إبراهيم الموصلي في علته التي توفي فيها وهو في الأبزن وبه القولنج الذي مات فيه وهو يترنم بهذا الصوت

صوت
( تغّير مني كلُّ حُسْنٍ وجِدّةٍ ... وعاد على ثَغْري فأصبح أثْرَمَا )
( ومَحّلَ أطرافي فزالتْ فصوصُها ... وحَنّى عظامي عُوجَها والمُقَوَّما )
قال محمد فحدثت بهذا الحديث إسحاق الموصلي فقال كذب ابن الزانية والله ما كان يجترئ أن يدخل إلى أبي إسحاق وهو جالس للناس إلا بعد جهد فكيف يدخل إلى أبي إسحاق وهو جالس في الأبزن
نسبة هذا الصوت
الشعر والغناء لإبراهيم وله فيه لحنان ماخوري بالوسطى عن عمرو وثاني ثقيل عن ابن المكي
حدثني جحظة قال
كان المقتدر يدعونا في الأحايين فكان يحضر من المغنين إبراهيم بن أبي العبيس وكنيز وإبراهيم بن قاسم وأنا ووصيف الزامر وكان أكثر ما ندعى

له أن جواريه كن يطالبنه بإحضارنا ليأخذن منا أصواتا قد عرفنها ويسمعننا فنغني فيأخذن ما يستحسنه فإذا انصرفنا أمر لكل واحد من إبراهيم وكنيز دبة وإبراهيم بثلاثمائة دينار ولي بمائتي دينار ولوصيف بمائتي دينار ولسائر من لعله أن يحضر معنا بمائتين إلى المائة الدينار إلى الألف الدرهم فيكون إذا حضرنا من وراء ستارة وهو جالس مع الجواري فإذا أراد اقتراح شيء جاءنا الخدم فأمرونا أن نغنيه وبين يدي كل واحد منا قنينة فيها خمسة أرطال نبيذ وقدح ومغسل وكوز ماء فغنت يوما صلفة جارية زرياب بصنعة إبراهيم الموصلي
( تغّير منّي كلُّ حُسن وجِدّةٍ ... وعادَ على ثَغْرِي فأصبح أَثْرمَا )
فشربت عليه فاستعاده المقتدر مرارا وأنا أشرب عليه فأخذ إبراهيم بن أبي العبيس بكتفي وقال يا مجنون إنما دعيت لتغني لا لتغنى وتطرب وتشرب فلعلك تسكر حسبك فأمسكت طمعا أن ترده بعد ذلك فما فعلت ولا اجتمعنا بعدها وما سمعت قبل ذلك ولا بعده أحدا غنى هذا الصوت أحسن مما غنته
قال وكان المقتدر ابتاعها من زرياب
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان بن علي قال حدثني إسحاق الموصلي عن أبيه قال
بينا أنا بمكة أجول في سككها إذا أنا بسوداء قائمة ساهية باكية فأنكرت حالها وأدمنت النظر إليها فبكت وقالت
( أعمرُو عَلاَمَ تجنَّبتَني ... أخذتَ فؤادي وعَذَّبْتَنِي )

( فلو كنتَ يا عمرُو خبّرتني ... أخذتُ حِذاري فما نِلْتَني )
فقلت لها يا هذه من عمرو قالت زوجي قلت وما شأنه قالت أخبرني أنه يهواني وما زال يطلبني حتى تزوجته فلبث معي قليلا ثم مضى إلى جدة وتركني فقلت لها صفيه لي قالت أحسن من أنت رائيه سمرة وأحلاهم حلاوة وقدا قال فركبت رواحلي مع غلماني وصرت إلى جدة فوقفت في موضع المرفأ أتبصر من يحمل من السفن وأمرت من يصوت يا عمرو يا عمرو وإذا أنا به خارجا من سفينة على عنقه صن فيه طعام فعرفته بصفتها ونعتها إياه فقلت
( أعمرُو عَلاَمَ تجنَّبتَنِي ... أخذتَ فؤادي وعذَّبتَنِي )
فقال هيه أرأيتها وسمعت منها فقلت نعم فأطرق هنيهة يبكي ثم اندفع فغنى به أملح غناء سمعته وردده علي حتى أخذته منه وإذا هو أحسن الناس غناء فقلت له ألا ترجع إليها فقال طلب المعاش يمنعني فقلت كم يكفيك معها في كل سنة فقال ثلاثمائة درهم قال إسحاق قال لي أبي فوالله يا بني لو قال ثلاثمائة دينار لطابت نفسي بها فدعوت به فأعطيته ثلاثة آلاف درهم وقلت له هذا لعشر سنين على أن تقيم معها فلا تطلب المعاش إلا حيث هي مقيمة معك ويكون ذلك فضلا ورددته معي إليها

الموصلي يغني الرشيد والرشيد يجزل صلته
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثنا صالح بن علي يعني الأضجم عن إبراهيم الموصلي قال وكان

صالح جاره قال
بينا أنا عشية في منزلي إذ أتاني خادم من خدم الرشيد فاستحثني بالركوب إليه فخرجت شبيها بالراكض فلما صرت إلى الدار عدل بي عن المدخل إلى طرق لا أعرفها فانتهي بي إلى دار حديثة البناء فدخلت صحنا واسعا وكان الرشيد يشتهي الصحون الواسعة فإذا هو جالس على كرسي في وسط ذلك الصحن ليس عنده أحد إلا خادم يسقيه وإذا هو في لبسته التي كان يلبسها في الصيف غلالة رقيقة متوشح عليها بإزار رشيدي عريض العلم مضرج فلما رآني هش لي وسر وقال يا موصلي إني اشتهيت أن أجلس في هذا الصحن فلم يتفق لي إلا اليوم وأحببت ألا يكون معي ومعك أحد ثم صاح بالخدام فوافاه مائة وصيف وإذا هم بالأرقة مستترون بالأساطين حتى لا يراهم فلما ناداهم جاؤوا جميعا فقال مقطعة لإبراهيم وكان هو أول من قطع المصليات فأتيت بمقعد فألقي لي تجاه وجهه بالقرب منه ودعا بعود فقال بحياتي أطربني بما قدرت قال ففعلت واجتهدت في ذلك ونشطت ورجوت الجائزة في عشيتي فبينا أنا كذلك إذ جاءه مسرور الكبير فقام مقامه الذي كان إذا قامه علم الرشيد أنه يريد أن يساره بشيء فأومأ إليه بالدنو فدنا فألقى في أذنه كلمة خفيفة ثم تنحى فاستشاط غضبا واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه ثم قال حتام أصبر على آل بني أبي طالب والله لأقتلنهم ولأقتلن شيعتهم ولأفعلن ولأفعلن فقلت إنا لله ليس عند هذا أحد يخرج غضبه عليه أحسبه والله سيوقع بي فاندفعت أغني

صوت
( نعِمَ عَوْناً على الهموم ثلاثُ ... مُتْرَعَاتٌ من بعدهنّ ثلاثُ )

( بعدها أربعٌ تَتِمَّةُ عشرٍ ... لا بِطاءٌ لكنّهنّ حِثاثُ )
( فإذا ناولَتْكَهُنّ جَوارٍ ... عَطِراتٌ بيضُ الوجوه خِنَاثُ )
( تمّ فيها لك السرورُ وما طَيَّبَ ... عَيْشاً إلا الخِناثُ الإِناثُ )
قال ويلك اسقني ثلاثا لا أمت هما فشرب ثلاثا متتابعة ثم قال غن فغنيت فلما قلت
ثلاث
( مُترعاتٌ من بعدهنّ ثلاثُ ... )
قال هات ويلك ثلاثا ثم قال لي غن فلما غنيته قال حث علي بأربع تتمة العشر ففعل فوالله ما استوفى آخرهن حتى سكر فنهض ليدخل ثم قال قم يا موصلي فانصرف يا مسرور أقسمت عليك بحياتي وبحقي إلا سبقته إلى منزله بمائة ألف درهم لا أستأمر فيها ولا في شيء منها فخرجت والله وقد أمنت خوفي وأدركت ما أملت ووافيت منزلي وقد سبقتني المائة الألف الدرهم إليه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
خرج رسول الرشيد ذات ليلة إلى المغنين فقال غنوا
( يا خليليَّ قد مَلِلْتُ ثَوائِي ... بالمُصَلَّى وقد سَئِمتُ البَقِيعا )

( بلِّغانِي ديارَ هندٍ وسُعْدَى ... وارجِعاني فقد هَوِيتُ الرجوعَا )
قال فغناه ابن جامع فلما فرغ منه طرب الرشيد وشرب فقال له إبراهيم الموصلي يا سيدي فاسمعه من نبيطيك فغناه فجعل ابن جامع يزحف من أول البيت إلى آخره وطرب هارون فقال ارفعوا الستارة فقال له ابن جامع مني والله أخذه يا أمير المؤمنين فأقبل على إبراهيم فقال بحياتي صدق قال صدق وحياتك يا سيدي قال وكيف أخذته وهو أبخل الناس إذا سئل شيئا قال تركته يغنيه وكان إذا سكر يسترسل فيه فيغنيه مستويا ولا يتحرز مني فأخذته على هذا منه حتى وفيت به
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان برصوما الزامر وزلزل الضارب من سواد أهل الكوفة من أهل الخشنة والبذاذة والدناءة فقدم بهما أبي معه سنة حج ووقفهما على الغناء العربي وأراهما وجوه النغم وثقفهما حتى بلغا المبلغ الذي بلغاه من خدمة الخليفة وكانا أطبع أهل دهرهما في صناعتهما فحدثني أبي قال كان لزلزل جارية قد رباها وعلمها الضرب وسألني مطارحتها فطارحتها وكانت مطبوعة حاذقة قال فكان يصونها أن يسمعها أحد فلما مات بلغني أنها تعرض في ميراثه للبيع فصرت إليها لأعترضها فغنت
( أقفرَ من أوتاره العودُ ... فالعودُ للأوتار معمودُ )
( وأوحش المزمارُ من صوته ... فما لَه بعدكَ تغريدُ )
( مَنْ للمزامير وعِيدانها ... وعامرُ اللَّذات مفقود )

( الخمرُ تبكي في أباريقها ... والقَيْنةُ الخَمصْانةُ الرُّود )
قال وهذا شعر رثاه به صديق له كان بالرقة قال فأبكت والله عيني وأوجعت قلبي
فدخلت على الرشيد فحدثته بحديثها فأمر بإحضارها فحضرت فقال لها غني الصوت الذي حدثني إبراهيم عنك أنك غنيته فغنته وهي تبكي فرق الرشيد لها وتغرغرت عيناه وقال لها أتحبين أن أشتريك فقالت يا أمير المؤمنين لقد عرضت علي ما يقصر عنه الأمل ولكن ليس من الوفاء أن يملكني أحد بعد سيدي فينتفع بي فازداد رقة عليها وقال غني صوتا آخر فغنت
( العينُ تُظهِر كتماني وتُبديه ... والقلبُ يكتم ما ضَمَّنتُه فيهِ )
( فكيف ينكتم المكتومُ بينهما ... والعينُ تُظهره والقلبُ يُخفيه )
فأمر بأن تبتاع وتعتق ولم يزل يجري عليها إلى أن ماتت

قصته مع الرشيد بشأن جارية
أخبرنا محمد قال حدثنا حماد عن أبيه عن جده قال
قال لي الرشيد يوما يا إبراهيم بكر علي غدا حتى نصطبح فقلت له أنا والصبح كفرسي رهان فبكرت فإذا أنا به خاليا وبين يديه جارية كأنها خوط بان أو جدل عنان حلوة المنظر دمثة الشمائل وفي يدها عود فقال لها غني فغنت في شعر أبي نواس وهو
( تَوَهّمه قلبي فأصبح خدُّه ... وفيه مكانَ الوَهْم من نظري أُثرُ )

( ومرَّ بفكري خاطراً فجرحتُه ... ولم أر جِسماً قطُّ يَجرَحُه الفِكرُ )
( وصافَحه قلبي فآلَم كفَّه ... فمِنْ غَمْزِ قلبي في أناملهِ عَقْرُ )
قال إبراهيم فذهبت والله بعقلي حتى كدت أن أفتضح فقلت من هذه يا أمير المؤمنين فقال هذه التي يقول فيها الشاعر
( لها قلبي الغداةَ وقلبُها لي ... فنحن كذاك في جَسَدَيْنِ رُوحُ )
ثم قال لها غني فغنت

صوت
( تقول غداةَ البَيْنِ إحدى نسائهم ... لِيَ الكَبِدُ الحرَّى فسِرْ ولكَ الصَّبُر )
( وقد خَنقْتها عَبْرةٌ فدموعُها ... على خدِّها بِيضٌ وفي نحرِها صُفر )
الشعر لأبي الشيص
والغناء لعمرو بن بانة خفيف رمل بالوسطى من كتابه وفيه لمتيم ثاني ثقيل وخفيف رمل آخر قال فشرب وسقاني ثم سقاها ثم قال غن يا إبراهيم فغنيت حسب ما في قلبي غير متحفظ من شيء
( تَشَرَّبَ قلبي حبَّها ومشَى به ... تَمَشِّي حُمَيَّا الكأس في جسم شاربِ )
( ودبَّ هواها في عِظامي فشَفَّها ... كما دبَّ في المَلْسوع سمُّ العقارب )
قال ففطن بتعريضي وكانت جهالة مني قال فأمرني بالانصراف ولم يدعني شهرا ولا حضرت مجلسه فلما كان بعد شهر دس إلي خادما معه رقعة فيها مكتوب

( قد تخوّفتُ أن أموتَ من الوَجْد ... ولم يَدْرِ مَنْ هَوِيتُ بما بي )
( يا كتابي فاقرَ السَّلامَ على مَنْ ... لا أُسمِّي وقل له يا كتابي )
( إنَّ كفًّا إليكَ قد بعثتني ... في شَقَاءٍ مُواصَلٍ وعذاب )
فأتاني الخادم بالرقعة فقلت له ما هذا قال رقعة الجارية فلانة التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين فأحسست القصة فشتمت الخادم ووثبت عليه وضربته ضربا شفيت به نفسي وغيظي وركبت إلى الرشيد من فوري فأخبرته القصة وأعطيته الرقعة فضحك حتى كاد يستلقي ثم قال على عمد فعلت ذلك بك لأمتحن مذهبك وطريقتك ثم دعا بالخادم فلما خرج رآني فقال لي قطع الله يديك ورجليك ويحك قتلتني فقلت القتل والله كان بعض حقك لما وردت به علي ولكن رحمتك فأبقيت عليك وأخبرت أمير المؤمنين ليأتي في عقوبتك بما تستحقه
فأمر لي الرشيد بصلة سنية والله يعلم أني ما فعلت الذي فعلت عفافا ولكن خوفا

الرشيد يسأله كيف يصوغ الألحان
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق قال
أخبرني أبي أنه سمع الرشيد وقد سأل جدي إبراهيم كيف يصنع إذا أراد أن يصوغ الألحان فقال يا أمير المؤمنين أخرج الهم من فكري وأمثل الطرب بين عيني فتسوغ لي مسالك الألحان التي أريد فأسلكها بدليل الإيقاع فأرجع مصيبا ظافرا بما أريد فقال يحق لك يا إبراهيم أن تصيب وتظفر وإن حسن وصفك لمشاكل حسن صنعتك وغنائك
أخبرني ابن المرزبان قال حدثني حماد عن أبيه عن جده قال
أدركت يونس الكاتب وهو شيخ كبير فعرضت عليه غنائي فقال إن

عشت كنت مغني دهرك
قال حماد قال لي محمد بن الحسن كان لكل واحد من المغنين مذهب في الخفيف والثقيل وكان معبد ينفرد بالثقيل وابن سريج بالرمل وحكم بالهزج ولم يكن في المغنين أحد يتصرف في كل مذهب من الأغاني إلا ابن سريج وإبراهيم جدك وأبوك إسحاق
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثني أحمد ابن ثابت العبدي عن أبي الهذيل العلاف رأس المعتزلة عن ثمامة بن أشرس قال
مررت بإبراهيم الموصلي ويزيد حوراء وهما مصطبحان وقد أخذا بينهما صوتا يغنيانه هذا بيتا وهذا بيتا وهو

صوت
( أيا جَبَلَيْ نَعْمانَ بالله خَلِّيَا ... سبيلَ الصَّبَا يَخْلُص إليّ نسيمُها )
( فإنّ الصَّبا ريحٌ إذا ما تنسّمتْ ... على نفس مهمومٍ تجلّت همومُها )

قال ثمامة فوالله ما خلت أن شيئا بقي من لذات الدنيا بعد ما كانا فيه
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم قال
سألت الرشيد أن يهب لي يوما في الجمعة لا يبعث فيه إلي بوجه ولا بسبب لأخلو فيه بجواري وإخواني فأذن لي في يوم السبت وقال لي هو يوم أستثقله فآله فيه بما شئت فأقمت يوم السبت بمنزلي وتقدمت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه وأمرت بوابي فأغلق الأبواب وتقدمت إليه ألا يأذن علي لأحد فبينا أنا في مجلسي والخدم قد حفوا بي وجواري يترددن بين يدي إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال عليه خفان قصيران وقميصان ناعمان وعلى رأسه قلنسوة لاطئة وبيده عكازة مقمعة بفضة وروائح المسك تفوح منه حتى ملأ البيت والدار فداخلني بدخوله علي مع ما تقدمت فيه غيظ ما تداخلني قط مثله وهممت بطرد بوابي ومن حجبني لأجله فسلم علي أحسن سلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس فجلس ثم أخذ بي في أحاديث الناس وأيام العرب وأحاديثها وأشعارها حتى سلى ما بي من الغضب وظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخالهم مثله علي لأدبه وظرفه فقلت هل لك في الطعام فقال لا حاجة لي فيه فقلت هل لك في الشراب فقال ذلك إليك فشربت رطلا وسقيته مثله فقال لي يا أبا إسحاق هل لك أن تغني لنا شيئا من صنعتك وما قد نفقت به عند الخاص والعام فغاظني قوله ثم سهلت على نفسي أمره فأخذت العود فجسسته ثم ضربت فغنيت فقال أحسنت يا إبراهيم

فازداد غيظي وقلت ما رضي بما فعله من دخوله علي بغير إذن واقتراحه أن أغنيه حتى سماني ولم يكنني ولم يجمل مخاطبتي
ثم قال هل لك أن تزيدنا فتذممت فأخذت العود فغنيت فقال أجدت يا أبا إسحاق فأتم حتى نكافئك ونغنيك فأخذت العود وتغنيت وتحفظت وقمت بما غنيته إياه قياما تاما ما تحفظت مثله ولا قمت بغناء كما قمت به له بين يدي خليفة قط ولا غيره لقوله لي أكافئك فطرب وقال أحسنت يا سيدي ثم قال أتأذن لعبدك بالغناء فقلت شأنك واستضعفت عقله في أن يغنيني بحضرتي بعد ما سمعه مني فأخذ العود وجسه وحبسه فوالله لخلته ينطق بلسان عربي لحسن ما سمعته من صوته ثم تغنى

صوت
( ولي كَبِدٌ مقروحةٌ مَنْ يبيعني ... بها كبِداً ليستْ بذات قُروح )
( أباها عليّ الناسُ لا يشترونها ... ومَنْ يشتري ذا عِلَّةٍ بصحيح )
( أئِنّ من الشوق الذي في جوانبي ... أنينَ غَصيصٍ بالشراب جَريح )
قال إبراهيم فوالله لقد ظننت الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن غنائه حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الجواب ولا الحركة لما خالط قلبي ثم غنى
صوت
( ألا يا حماماتِ اللِّوَى عُدْنَ عَوْدةً ... فإنّي إلى أصواتكنّ حزينُ )
( فعُدْنَ فلما عُدْنَ كِدْنّ يُمِتْنَنِي ... وكدتُ بأسراري لهنّ أُبين )

( دَعَوْنَ بتَرْدَاد الهَدير كأنما ... سُقِينَ حُمَيَّا أو بهنّ جُنونُ )
( فلم تَرَ عيني مثلَهنّ حمائماً ... بكينَ ولم تَدْمَع لهنّ عيونُ )
لم أعرف في هذه الأبيات لحنا ينسب إلى إبراهيم والذي عرفته لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل فكاد والله أعلم عقلي أن يذهب طربا وارتياحا لما سمعت ثم غنى
صوت
( أَلاَ يا صَبا نجدٍ متى هِجْتِ من نجدِ ... لقد زادني مَسْراكِ وَجْداً على وَجدِ )
( أَأَن هتفتْ وَرْقَاءُ في رَوْنق الضُّحَى ... على فَنَنٍ غضِّ النّبات من الرَّنْد )
( بكيتَ كما يبكي الحزينُ صبابةً ... وذُبْتَ من الحزن المبرِّحِ والجَهْد )
( وقد زعموا أنّ المحبَّ إذا دنا ... يَمَلُّ وأنّ النأي يِشْفِي مِن الوَجْد )
( بكلٍّ تداوينا فلم يُشْفَ ما بنا ... على أنّ قرب الدار خيرٌ من البعد )
ثم قال يا إبراهيم هذا الغناء الماخوري فخذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك فقلت أعده علي فقال لست تحتاج قد أخذته وفرغت منه ثم غاب من بين يدي فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة فقلت للجواري أي شيء سمعتن عندي فقلن سمعنا أحسن غناء سمع قط فخرجت متحيرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا فسألت البواب عن الشيخ فقال لي أي

شيخ هو والله ما دخل إليك اليوم أحد فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت لا بأس عليك يا أبا إسحاق أنا إبليس وأنا كنت جليسك ونديمك اليوم فلا ترع
فركبت إلى الرشيد وقلت لا أطرفه أبدا بطرفه مثل هذه فدخلت إليه فحدثته بالحديث فقال ويحك تأمل هذه الأصوات هل أخذتها فأخذت العود أمتحنها فإذا هي راسخة في صدري كأنها لم تزل فطرب الرشيد عليها وجلس يشرب ولم يكن عزم على الشراب وأمر لي بصلة وحملان وقال الشيخ كان أعلم بما قال لك من أنك أخذتها وفرغت منها فليته أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما أمتعك

نسبة هذه الأصوات
أما الصوت الأول فالذي أعرفه فيه خفيف رمل لمحمد بن الحارث بن بسخنر ولم يقع إلي فيه صنعة لإبراهيم
والصوت الثاني الذي أوله
( ألا يا صبا نجدٍ متى هِجْتِ من نجدِ ... )
فشعره ليزيد بن الطثرية والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو
وفيه لمحمد بن الحسن بن مصعب ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي

وعمرو
وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لدحمان ولحنا لابنه الزبير ولم يذكر في أي طريقة هما
هكذا حدثنا ابن أبي الأزهر بهذا الخبر وما أدري ما أقول فيه ولعل إبراهيم صنع هذه الحكاية ليتنفق بها أو صنعت وحكيت عنه
إلا أن للخبر أصلا الأشبه بالحق منه ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال
صنعت لحنا فأعجبني وجعلت أطلب شعرا فعسر ذلك علي ورأيت في المنام كأن رجلا لقيني فقال يا إبراهيم أأعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به قلت نعم قال فأين أنت من قول ذي الرمة حيث قال
( ألا يا اسْلَمِي يا دار مَيّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلاًّ بجَرْعائك القَطْرُ )

( وإن لم تكوني غير شَام بقَفْرةٍ ... تَجْرُّ بها الأذيالَ صَيْفِيّة كُدْرُ )
قال فانتبهت وأنا فرح بالشعر فدعوت من ضرب علي وغنيته فإذا هو أوفق ما خلق الله فلما علمت ذلك وعملت هذا الغناء في شعر ذي الرمة تنبهت عليه وعلى شعره فصنعت فيه ألحانا ماخورية منها

صوت
( أَمَنْزِلَتَيْ مَيٍّ سلامٌ عليكما ... هل الأزمُنُ اللائي مَرَرْنَ رواجعُ )
( وهل يَرجِعُ التسليمَ أو يكشِفُ العَمَى ... ثلاثُ الأثافي أو رسومٌ بلاقِعُ )
صنعة إبراهيم في هذين الشعرين جميعا من الماخوري بالوسطى وهو خفيف الثقيل الثاني
وأخباره كلها في هذا المعنى تأتي في أخبار ذي الرمة مشروحة
سأل الرشيد أن يختصه بالغناء في شعر ذي الرمة
حدثني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال قال لي أبي
قال لي جعفر بن يحيى يوما وقد علم أن الرشيد أذن لي وللمغنين في الانصراف يومئذ صر إلي حتى أهب لك شيئا حسنا فصرت إليه فقال لي أيما أحب إليك أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به أم أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم فقلت بل يرشدني الوزير أعزه الله إلى هذا الوجه فإنه يقوم مقام إعطائه إياي هذا الحسن فقال إن أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرمة حفظ الصبا ويعجبه ويؤثره فإذا سمع

غناء أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره فإذا غنيته فأطربته وأمر لك بجائزة فقم على رجليك قائما وقبل الأرض بين يديه وقل له لي حاجة غير هذه الجائزة أريد أن أسألها أمير المؤمنين وهي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة ولا تضره ولا ترزؤه فإنه سيقول لك أي شيء حاجتك فقل قطيعة تقطعنيها سهلة عليك لا قيمة لها ولا منفعة فيها لأحد فإذا أجابك إلى ذلك فقل له تقطعني شعر ذي الرمة أغني فيه ما أختاره وتحظر على المغنين جميعا أن يداخلوني فيه فإني أحب شعره وأستحسنه فلا أحب أن ينغصه علي أحد منهم وتوثق منه في ذلك فقبلت ذلك القول منه وما انصرفت من عنده بعد ذلك إلا بجائزة وتوخيت وقت الكلام في هذا المعنى حتى وجدته فقمت فسألت كما قال لي وتبينت السرور في وجهه وقال ما سألت شططا قد أقطعتك سؤلتك فجعلوا يتضاحكون من قولي ويقولون لقد استضخمت القطيعة وهو ساكت فقلت يا أمير المؤمنين أتأذن لي في التوثق قال توثق كيف شئت فقلت بالله وبحق رسوله وبتربة أمير المؤمنين المهدي إلا جعلتني على ثقة من ذلك بأنك تحلف لي أنك لا تعطي أحدا من المغنين جائزة على شيء يغنيه في شعر ذي الرمة فإن ذلك وثيقتي فحلف مجتهدا لهم لئن غناه أحد منهم في شعر ذي الرمة لا أثابه بشيء ولا بره ولا سمع غناءه فشكرت فعله وقبلت الأرض بين يديه وانصرفنا
فغنيت مائة صوت وزيادة في شعر ذي الرمة فكان إذا سمع منها صوتا طرب وزاد طربه ووصلني فأجزل ولم ينتفع به أحد منهم غيري فأخذت منه والله بها ألف ألف درهم وألف ألف درهم
أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو خالد الأسلمي قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال

قال إبراهيم الموصلي أرتج علي فلم أجد شعرا أصوغ فيه غناء أغني فيه الرشيد فدخلت إلى بعض حجر داري مغموما فأسبلت الستور علي وغلبتني عيني فتمثل لي في البيت شيخ أشوه الخلقة فقال لي يا موصلي مالي أراك مغموما قلت لم أصب شعرا أغني فيه الرشيد الليلة قال فأين أنت عن قول ذي الرمة
( ألاّ يا اسْلَمِي يا دارَ مَيِّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلاًّ بجَرْعائِك القطرُ )
( وإن لم تكوني غيرَ شام بقَفْرةٍ ... تَجُرّ بها الأذيالَ صيْفيّةٌ كُدْرُ )
( أقامت بها حتى ذَوَى العودُ في الثَّرَى ... وساق الثريّا في مُلاءته الفجرُ )
( وحتى اعتلى البُهْمَى من الصيف نافِضٌ ... كما نَفَضَتْ خيلٌ نواصيهَا شُقْرُ )
قال وغناني فيه بلحن وكرره حتى علقته فانتبهت وأنا أديره فناديت جارية لي وأمرتها بإحضار عود وما زلت أترنم بالصوت وهي تضرب حتى استوى لي ثم صرت إلى هارون فغنيته إياه فأسكت المغنين ثم قال أعد فأعدت فما زال ليلته يستعيدنيه فلما أصبح أمر لي بثلاثين ألف درهم وبفرش البيت الذي كنا فيه وقال عليك بشعر ذي الرمة فغن فيه فصنعت فيه غناء كثيرا فكنت أغنيه به فيعجبه ويجزل صلتي
أخبرني عمي وابن المرزبان والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن

أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله السلمي قال حدثنا أبو غانم مولى جبلة ابن يزيد السلمي قال
اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصوما بين يدي الرشيد فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم

صوت
( صَحَا قلبي وراعَ إليّ عقلي ... وأقْصَر باطلي ونَسِيتُ جهلي )
( رأيتُ الغانياتِ وكُنَّ صُوراً ... إليّ صَرَمْنني وقَطعْنَ حبلي )
فطرب هارون حتى وثب على رجليه وصاح يا آدم لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك ثم جلس وقال أستغفر الله
الشعر الذي غنى فيه إبراهيم لأبي العتاهية
والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر
حدثني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان الرشيد يجد بماردة وجدا شديدا فغضبت عليه وغضب عليها وتمادى بينهما الهجر أياما فأمر جعفر بن يحيى العباس بن الأحنف فقال
( راجِعّ أحبتَّك الذين هجرتَهم ... إنّ المُتَيَّم قلّما يَتَجَنّبُ )
( إنّ التجنُّبَ إن تطاولَ منكما ... دَبَّ السُّلُوُّله فعَزّ المطلبُ )
وأمر إبراهيم الموصلي فغنى فيه الرشيد فلما سمعه بادر إلى ماردة

فترضاها فسألت عن السبب في ذلك فعرفته فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وسألت الرشيد أن يكافئهما عنها فأمر لهما بأربعين ألف درهم

جائزة الرشيد الأولى كانت لإبراهيم الموصلي
أخبرني جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه قال
أول جائزة خرجت لشاعر من الرشيد لما ولي الخلافة جائزة لإبراهيم فإنه قال يمدحه لما ولي
صوت
( ألم تَرَ أنّ الشمسَ كانت مريضةً ... فلمّا وَلِي هارونُ أشرق نُورُها )
( فأُلبستِ الدّنيا جمالاً بوجهه ... فهارونُ وَاليها ويحيى وزيرُها )
وغنى فيه فأمر له بمائة ألف درهم وأمر له يحيى بخمسين ألف درهم
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق الموصلي
أن أباه لعب يوما مع الرشيد بالنرد في الخلعة التي كانت على الرشيد والخلعة التي كانت عليه هو فتقامر للرشيد فلما قمره قام إبراهيم فنزع ثيابه ثم قال للرشيد حكم النرد الوفاء به وقد قمرت ووفيت لك فالبس ما كان علي فقال له الرشيد ويلك أنا ألبس ثيابك فقال إي والله إذا أنصفت وإذا لم تنصف قدرت وأمكنك قال ويلك أو أفتدي منك قال نعم قال وما الفداء قال قل أنت يا أمير المؤمنين فإنك

أولى بالقول فقال أعطيك كل ما علي قال فمر به يا أمير المؤمنين وأنا أستخير الله في ذلك فدعا بغير ما عليه فلبسه ونزع ما كان عليه فدفعه إلى إبراهيم

فطنته في صناعة الموسيقى
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني علي بن عبد الكريم قال
زار ابن جامع إبراهيم الموصلي فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعا طريقة واحدة وغنين فقال ابن جامع في الأوتار وتر غير مستو فقال إبراهيم يا فلانة شدي مثناك فشدته فاستوى فعجبت أولا من فطنة ابن جامع لوتر في مائة وعشرين وترا غير مستو ثم ازداد عجبي من فطنة إبراهيم له بعينه
أخبرني إسماعيل بن يونس وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر ابن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم قال حدثني أبي قال
كنا مع الرشيد بالرقة وكان هناك خمار أقصده أشتري منه شرابا حسنا طيبا وربما شربت في حانته فأتيته يوما فبزل لي دنا في باطية له فرأيت لونه حسنا صافيا فاندفعت أغني
صوت
( اسْقِني صَهْبَاءَ صِرْفاً ... لم تُدَنَّسْ بِمزَاجِ )
( اسْقِني والليلُ داجٍ ... قبلَ أصوات الدَّجاج )

( يا أبا وَهْب خليلي ... كلُّ هَمٍّ لانفراج )
( حين تَوَّهْتَ بقلبي ... في أعاصير الفِجَاج )
الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم هزج بالوسطى عن عمرو
وفيها لسياط ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال فدهش الخمار يسمع صوتي فقلت له ويحك قد فاض النبيذ من الباطية فقال دعني من النبيذ يا أبا إسحاق مالي أرى صوتك حزينا حريقا مات لك بالله إنسان فلما جئت إلى الرشيد حدثته بذلك فجعل يضحك

قصته مع الرشيد والجواري
وذكر أحمد بن أبي طاهر أن المدائني حدث قال
قال إبراهيم الموصلي قال لي الرشيد يوما يا إبراهيم إني قد جعلت غدا للحريم وجعلت ليلته للشرب مع الرجال وأنا مقتصر عليك من المغنين فلا تشتغل غدا بشيء ولا تشرب نبيذا وكن بحضرتي في وقت العشاء الآخرة فقلت السمع والطاعة لأمير المؤمنين فقال وحق أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لأضربن عنقك أفهمت فقلت نعم وخرجت فما جاءني أحد من إخواني إلا احتجبت عنه ولا قرأت رقعة لأحد حتى إذا صليت المغرب ركبت قاصدا إليه فلما قربت من فناء داره مررت بفناء قصر وإذا زنبيل كبير مستوثق منه بحبال وأربع عزى أدم وقد دلي من القصر وجارية قائمة تنتظر إنسانا قد وعد ليجلس فيه فنازعتني نفسي إلى الجلوس فيه ثم قلت هذا خطأ ولعله أن يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك فلم أزل أنازع نفسي وتنازعني حتى غلبتني فنزلت فجلست فيه ومد الزنبيل حتى صار في أعلى القصر ثم خرجت فنزلت

فإذا جوار كأنهن المها جلوس فضحكن وطربن وقلن قد جاء والله من أردناه فلما رأينني من قريب تبادرن إلى الحجاب وقلن يا عدو الله ما أدخلك إلينا فقلت يا عدوات الله ومن الذي أردتن إدخاله ولم صار أولى بهذا مني فلم يزل هذا دأبنا وهن يضحكن وأضحك معهن ثم قالت إحداهن أما من أردناه فقد فات وما هذا إلا ظريف فهلم نعاشره عشرة جميلة فأخرج إلي طعام ودعيت إلى أكله فلم يكن في فضل إلا أني كرهت أن أنسب إلى سوء العشرة فأصبت منه إصابة معذر ثم جيء بالنبيذ فجعلنا نشرب وأخرجن إلي ثلاث جوار لهن فغنين غناء مليحا فغنت إحداهن صوتا لمعبد فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر أحسن إبراهيم هذا له فقلت كذبت ليس هذا له هذا لمعبد فقالت يا فاسق وما يدريك الغناء ما هو ثم غنت الأخرى صوتا للغريض فقالت تلك أحسن إبراهيم هذا له أيضا فقلت كذبت يا خبيثة هذا للغريض فقالت اللهم أخزه ويلك وما يدريك ثم غنت الجارية صوتا لي فقالت تلك أحسن ابن سريج هذا له فقلت كذبت هذا لإبراهيم وأنت تنسبين غناء الناس إليه وغناءه إليهم فقالت ويحك وما يدريك فقلت أنا إبراهيم فتباشرن بذلك جميعا وطربن كلهن وظهرهن كلهن لي وقلن كتمتنا نفسك وقد سررتنا فقلت أنا الآن أستودعكن الله فقلن وما السبب فأخبرتهن بقصتي مع الرشيد فضحكن وقلن الآن والله طاب حبسك علينا وعلينا إن خرجت أسبوعا فقلت هو والله القتل قلن إلى لعنة الله
فأقمت والله عندهن أسبوعا لا أزول فلما كان بعد الأسبوع ودعنني وقلن إن سلمك الله فأنت بعد ثلاث عندنا قلت نعم فأجلسنني في الزنبيل وسرحت فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد وإذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي وأن من أحضرني فقد سوغ ملكي وأقطع مالي فاستأذنت فتبادر الخدم حتى أدخلوني على الرشيد فلما رآني شتمني وقال

السيف والنطع إيه يا إبراهيم تهاونت بأمري وتشاغلت بالعوام عما أمرتك به وجلست مع أشباهك من السفهاء حتى أفسدت علي لذتي فقلت يا أمير المؤمنين أنا بين يديك وما أمرت به غير فائت ولي حديث عجيب ما سمع بمثله قط وهو الذي قطعني عنك ضرورة لا اختيارا فاسمعه فإن كان عذرا فأقبله وإلا فأنت أعلم قال هاته فليس ينجيك فحدثته فوجم ساعة ثم قال إن هذا لعجب أفتحضرني معك هذا الموضع قلت نعم وأجلسك معهن إن شئت قبلي حتى تحصل عندهن وإن شئت فعلى موعد قال بل على موعد قلت أفعل فقال انظر قلت ذلك حاصل إليك متى شئت فعدل عن رأيه في وأجلسني وشرب وطرب فلما أصبحت أمرني بالانصراف وأن أجيئه من عندهن فمضيت إليهن في وقت الوعد فلما وافيت الموضع إذا الزنبيل معلق فجلست فيه ومده الجواري فصعدت فلما رأينني تباشرن وحمدن الله على سلامتي وأقمت ليلتي فلما أردت الانصراف قلت لهن إن لي أخا هو عدل نفسي عندي وقد أحب معاشرتكن ووعدته بذلك فقلن إن كنت ترضاه فمرحبا به فوعدتهن ليلة غد وانصرفت وأتيت الرشيد وأخبرته فلما كان الوقت خرج معي متخفيا حتى أتينا الموضع فصعدت وصعد بعدي ونزلنا جميعا وقد كان الله وفقني لأن قلت لهن إذا جاء صديقي فاستترن عني وعنه ولا يسمع لكن نطقة وليكن ما تخترنه من غناء أو تقلنه من قول مراسلة فلم يتعدين ذلك وأقمن على أتم ستر وخفر وشربنا شربا كثيرا وقد كان أمرني ألا أخاطبه بأمير المؤمنين فلما أخذ مني النبيذ قلت سهوا يا أمير المؤمنين فتواثبن من وراء الستارة حتى غابت عنا حركاتهن فقال لي يا إبراهيم لقد أفلت من أمر عظيم والله لو برزت إليك واحدة منهن لضربت عنقك قم بنا فانصرفنا وإذا هن له قد كان غضب

عليهن فحبسهن في ذلك القصر ثم وجه من غد بخدم فردوهن إلى قصره ووهب لي مائة ألف درهم وكانت الهدايا والألطاف تأتيني بعد ذلك منهن
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبي قال
دخلت على الرشيد يوما فقال لي أنا اليوم كسلان خاثر فإن غنيتني صوتا يوقظ نشاطي أحسنت صلتك فغيته
( ولم يُرَ في الدنيا مُحبّان مثلُنا ... على ما نلاقي من ذَوِي الأعين الخُزْرِ )
( صَفِيّانِ لا نرضى الوُشاةَ إذا وَشَوْا ... عفِيفانِ لا نَغْشَى من الأمر ما يُزْرِي )
فطرب ودعا بالطعام فأكل وشرب وأمر لي بخمسين ألف درهم

الموصلي يمتحن صوتا للمغنية دنانير
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال قال لي أبي قال لي يحيى بن خالد
إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا أعجبني وأعجبت أيضا هي به فقلت لها لا تعجبي به حتى أعرضه على أبيك أبي إسحاق فقلت له والله ما في معرفة الوزير أعزه الله به ولا بغيره من الصنائع مطعن وإنه لأصح العالم تمييزا وأثقبه فطنة وما أعجبه إلا وهو صحيح حسن فقال إن كنت كما تقول أيضا فإن أهل كل صناعة يمارسونها أفهم بها ممن يعلمها عن عرض من غير ممارسة ولو كنا في هذه الصناعة متساويين لكان الاستظهار

برأيك أجود لأن ميلي إلى صانعة الصوت ربما حسن عندي ما ليس بالحسن وإنما يتم سروري به بعد سماعك إياه واستحسانك له على الحقيقة فمضيت فوجدت ستارة منصوبة وأمرا قد تقدم فيه قبلي فجلست فسلمت على الجارية وقلت لها تغنيني الصوت الذي ذكره لي الوزير أعزه الله فقالت إن الوزير قال لي إن استجاده فعرفيني ليتم سروري به وإلا فاطو الخبر عني لئلا تزول رتبته عندي فقلت هاتيه حتى أسمعه فغنت تقول
( نفسي أكنتُ عليكِ مدَّعياً ... أم حين أَزْمَعَ بينُهم خُنْتِ )
( إن كنتِ هائمةً بذكرهُم ... فعلى فراقهمُ ألا حُمْت )
قال فأحسنت والله وما قصرت فاستعدته لأطلب فيه موضعا لأصلحه فيكون لي فيه معنى فما وجدت قلت أحسنت والله يا بنية ما شئت ثم عدت إلى يحيى فحلفت له بأيمان رضيها أن كثيرا من حذاق المغنين لا يحسنون أن يصنعوا مثله ولقد استعدته لأرى فيه موضعا يكون لي فيه عمل فما وجدت فقال وصفك لها من أجله يقوم مقام تعليمك إياها فقد والله سررتني وسأسرك فلما انصرفت أتبعني بخمسين ألف درهم
حدثني عمي وابن المرزبان قالا حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله السلمي قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني إسحاق ولم يقل عن أبيه قال
والله إني لفي منزلي ذات يوم وأنا مفكر في الركوب مرة وفي القعود مرة إذا غلامي قد دخل ومعه خادم الرشيد يأمرني بالحضور من وقتي فركبت وصرت إليه فقال لي اجلس يا إبراهيم حتى أريك عجبا فجلست فقال علي بالأعرابية وابنتها فأخرجت إلي أعرابية ومعها بنية لها عشر أو أرجح فقال يا إبراهيم إن هذه الصبية تقول الشعر فقلت

لأمها ما يقول أمير المؤمنين فقالت هي هذه قدامك فسلها فقلت يا حبيبة أتقولين الشعر فقالت نعم فقلت أنشديني بعض ما قلت فأنشدتني

صوت
( تقول لأتراب لها وهي تَمْتَرِي ... دموعاً على الخدَّيْن من شدّة الوجدِ )
( أكلُّ فتاةٍ لا محالةَ نازلٌ ... بها مثلُ ما بي أم بُلِيتُ به وحدي )
( بَرانِي له حبٌّ تَنشَّبَ في الحَشَى ... فلم يُبْقِ من جسمي سوى العظمِ والجلد )
( وجَدتُ الهوى حُلْواً لذيذاً بَدِيئُه ... وآخرُه مرُّ لصاحبه مُرْدِي )
قال الشبي في خبره قال إسحاق وكان أبي حاضرا فقال والله لا تبرح يا أمير المؤمنين أو نصنع في هذه الأبيات لحنا فصغت فيها أنا وأبي وجميع من حضر
وقال الآخرون قال إبراهيم فما برحت حتى صنعت فيه لحنا وتغنيت به وهي حاضرة تسمع
قال ابن المرزبان في خبره ولم يذكره عمي فقالت يا أمير المؤمنين قد أحسن رواية ما قلت أفتأذن لي أن أكافئه بمدح أقوله فيه قال افعلي فقالت
صوت
( ما لإِبراهيم في العلم ... بهذا الشأن ثانِي )
( إنما عُمْرُ أبي إسحاقَ ... زينٌ للزمان )
( منه يُجنَى ثَمَرُ اللهو ... ورَيْحانُ الجِنان )

( جنّة الدنيا أبو إسحاق ... في كلّ مكان )
قال فأمر لها الرشيد بجائزة وأمر لي بعشرة آلاف درهم فوهبت لها شطرها
اللحن الذي صنعه إبراهيم في شعر الأعرابية ثقيل أول بالوسطى
وفيه لعلويه ثاني ثقيل
وأما الشعر الثاني فهو لابن سيابة لا يشك فيه
ولإبراهيم فيه لحن من خفيف الثقيل
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كنت أخذت بالمدينة من مجنون بها هذا الصوت وغنيته الرشيد وقلت

صوت
( هما فتاتانِ لمّا تَعرِفا خُلُقي ... وبالشَّبابِ على شَيْبي تُدِلاّنِ )
( رأيتُ عِرْسَيَّ لمّا ضَمَّني كِبَري ... وشِخْتُ أزمعتَا صرمي وهِجْراني )
( كلُّ الفَعَال الذي يفعلْنَه حَسَنٌ ... يُصْبي فؤادي ويُبْدي سرّ أَشْجاني )
( بَل احذَرَا صَوْلةً من صَوْل شيخكما ... مَهْلاً على الشيخ مَهْلاً يا فتاتان )
فطرب وأمر لي بظبية كانت ملقاة بين يديه فيها ألف دينار مسيفة وكان ابن جامع حاضرا فقال اسمع يا أمير المؤمنين غناء العقلاء ودع غناء المجانين وكان أشد خلق الله حسدا فغناه
صوت
( ولقد قالت لأتراب لها ... كالمَهَا يَلْعَبْن في جُحْرتها )

( خُذْن عنّي الظِّلَّ لا يَتْبَعُني ... ومَضَتْ سَعْياً إلى قُبّتها )
فطرب وشرب وأمر له بألف وخمسمائة دينار
ثم تبعه محمد بن حمزة وجه القرعة فغنى

صوت
( يَمْشُون فيها بكلِّ سابغةٍ ... أُحكِم فيها القَتِيرُ والحِلَقُ )
( يُعرَف إنصافُهم إذا شهِدوا ... وصبْرُهم حين تَشْخَص الحَدَق )
فاستحسنه وشرب عليه وأمر له بخمسمائة دينار
ثم غنى علوية
صوت
( يَجْحَدْنَ دَيْني بالنّهار وأقتضي ... دَيْني إذا وَقَذَ النُّعاسُ الرُّقَّدا )
( وأَرَى الغَوَانيَ لا يُواصِلْنَ امرأً ... فقَدَ الشّبابَ وقد يَصِلن الأمْرَدَا )
فدعا به الرشيد وقال له يا عاض بظر أمه أتغني في مدح المرد وذم الشيب وستارتي منصوبة وقد شبت وكأنك تعرض بي ثم دعا مسرورا فأمره أن يأخذ بيده فيضربه ثلاثين درة ويخرجه من مجلسه ففعل وما انتفعنا به بقية يومنا ولا انتفع بنفسه وجفا علويه شهرا ثم سألناه فيه فأذن له
قال أبو الفرج لإبراهيم أخبار مع خنث المعروفة بذات الخال وكان يهواها جعلتها في موضع آخر من هذا الكتاب لأنها منفردة بذاتها

مستغنية عن إدخالها في غمار أخباره
وله في هذه الجارية شعر كثير فيه غناء له ولغيره وقد شرطت أن الشيء من أخبار الشعراء والمغنين إذا كانت هذه سبيله أفرده لئلا يقطع بين القرائن والنظائر مما تضاف إليه وتدخل فيه

خبر موته
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال
سمعت إسحاق الموصلي يقول لما دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة اشتد أمر القُولَنْج على أبي ولزمه وكان يعتاده أحيانا فقعد عن خدمة الخليفة وعن نوبته في داره فقال في ذلك
صوت
( مَلّ والله طبيبي ... من مُقَاساة الذي بي )
( سوف أُنْعَى عن قريب ... لعدوٍّ وحبيب )
وغني فيه لحنا من الرمل فكان آخر شعر قاله وآخر لحن صنعه
أخبرني الصولي عن محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق عن أبيه
أن الرشيد ركب حمارا ودخل إلى إبراهيم يعوده وهو في الأبزن جالس فقال له كيف أنت يا إبراهيم فقال أنا والله يا سيدي كما قال الشاعر
( سَقيمٌ مَلَّ منه أقربوه ... وأسْلَمه المُداوي والحميمُ )

فقال الرشيد إنا لله وخرج فلم يبعد حتى سمع الواعية عليه

المأمون يصلي عليه بعد موته
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال
مات إبراهيم الموصلي سنة ثمان وثمانين ومائة ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف الشاعر وهشيمة الخمارة فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال من هذا الأول قيل إبراهيم فقال أخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلى عليهم فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله ابن مالك الخزاعي قال يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر قال لقوله
( وسعَى بها ناسٌ فقالوا إنّها ... لهي التي تَشْقَى بها وتُكابِدُ )
( فجحدتُهم ليكونَ غيرَكِ ظنُّهم ... إنِّي ليُعجِبني المحبّ الجاحد )
ثم قال أتحفظها قلت نعم فقال أنشدني باقيها فأنشدته
( لمّا رأيتُ الليلَ سدّ طَريقَه ... عنّي وعذّبني الظلام الراكد )

( والنّجم في كَبِد السماء كأنه ... أعمى تحيَّر ما لديه قائد )
( ناديتُ مَنْ طَرَد الرُّقَادَ بصدّه ... عمّا أُعالج وهو خِلوٌ هاجد )
( ياذا الذي صدَع الفؤادَ بهجره ... أنت البَلاءُ طريفُه والتّالد )
( ألقيتَ بين جفون عيني حُرْقةً ... فإلى متى أنا ساهرٌ يا راقد )
فقال المأمون أليس من قال هذا الشعر حقيقا بالتقدمة فقلت بلى والله يا سيدي
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال قال حدثني حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال
قال لي برصوما الزامر أما في حقي وخدمتي وميلي إليكم وشكري لكم ما أستوجب به أن تهب لي يوما من عمرك تفعل فيه ما أريد ولا تخالفني في شيء فقلت بلى ووعدته بيوم فأتاني فقال مر لي بخلعة ففلعت وجعلت فيها جبة وشي فلبسها ظاهرة وقال امض بنا إلى المجلس الذي كنت آتي أباك فيه فمضينا جميعا إليه وقد خلقته وطيبته فلما صار على باب المجلس رمى بنفسه إلى الأرض فتمرغ في التراب وبكى وأخرج نايه وجعل ينوح في زمره ويدور في المجلس ويقبل المواضع التي كان أبو إسحاق يجلس فيها ويبكي ويزمر حتى قضى من ذلك وطرا ثم ضرب بيده إلى ثيابه فشقها وجعلت أسكته وأبكي معه فما سكن إلا بعد حين ثم دعا بثيابه فلبسها وقال إنما سألتك أن تخلع علي لئلا يقال إن برصوما إنما خرق

ثيابه ليخلع عليه ما هو خير منها ثم قال امض بنا إلى منزلك فقد اشتفيت مما أردت فعدت إلى منزلي وأقام عندي يومه وانصرف بخلعة مجددة
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني القاسم ابن يزيد قال
لما مات إبراهيم الموصلي دخلت على إبراهيم بن المهدي وهو يشرب وجواريه يغنين فذكرنا إبراهيم الموصلي وحذقه وتقدمه فأفضنا في ذلك وإبراهيم مطرق فلما طال كلامنا وقال كل واحد منا مثل ما قاله صاحبه اندفع إبراهيم بن المهدي يغني في شعر لابن سيابة يرثي به إبراهيم ويقال إن الأبيات لأبي الأسد
( تولَّى الموصليُّ فقد تولّتْ ... بشاشاتُ المَزَاهِر والقِيانِ )
( وأيُّ بشاشةٍ بَقِيَتْ فتبقَى ... حياةُ الموصلّي على الزمان )
( ستَبْكيه المَزَاهِرُ والمَلاَهي ... وتُسْعِدُهنّ عاتقةُ الدّنان )
( وتَبْكيه الغَوِيّة إذ تولّى ... ولا تبكيه تاليةُ القُران )
قال فأبكى من حضر وقلت أنا في نفسي أفتراه هو إذا مات من يبكيه المحراب أم المصحف قال وكان كالشامت بموته
أخبرني يحيى بن علي قال قال أنشدني حماد قال أنشدني أبي لنفسه

يرثي أباه وأنشدها غير يحيى وفيها زيادة على روايته
( أقول له لما وقفتُ بقبره ... عليك سلامُ الله يا صاحبَ القبرِ )
( أيا قبرَ إبراهيم حُيِّيت حُفْرةً ... ولا زِلتَ تُسْقَى الغَيثَ من سَبَل القَطْر )
( لقد عزّني وَجْدي عليكَ فلم يَدَعْ ... لقلبي نصيباً من عَزاء ولا صبر )
( وقد كنتُ أبكي من فِراقك ليلةً ... فكيف وقد صار الفِراقُ إلى الحشر )
أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي الملقب بوسواسة قال أنشدني حماد لأبيه إسحاق يرثي أباه إبراهيم الموصلي
( سلامٌ على القبر الذي لا يُجيبنا ... ونحن نُحيّي تُرْبه ونخاطُبهْ )
( سَتَبْكيه أشرافُ المُلوك إذا رَأَوْا ... مَحَلّ التصابي قد خلا منه جانبُهْ )
( ويَبكيه أهلُ الظَّرْف طُرًّا كما بكى ... عليه أمير المؤمنين وحاجبُه )
( ولمّا بدا لي اليأسُ منه وأَنْزَفتْ ... عيونُ بواكيه ومَلّتْ نوادبُه )
( وصار شفاءُ النفس من بعض ما بها ... إفاضةَ دمع تَسْتَهِلّ سواكبُه )
( جعلتُ على عينيّ للصبح عَبرةً ... ولَلّيل أخرى ما بدتْ لي كواكبُه )
قال وأنشدني أيضا حماد لأبيه يرثي أباه
( عليك سلامُ الله من قبرِ فاجع ... وجادك من نوءَ السِّماكين وابلُ )
( هَلَ انْتَ مُحييِّ القبرِ أم أنت سائل ... وكيف تُحيَّا تُربةٌ وجَنادل )
( أَظَلُّ كأني لم تُصبني مصيبةٌ ... وفي الصّدر من وَجْدٍ عليك بلابل )

( وهَوّن عندي فَقْدَه أنّ شخصه ... على كل حال بين عينيّ ماثل )
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال أنشدني إبراهيم ابن علي بن هشام لرجل يرثي إبراهيم الموصلي
( أصبح اللهو تحت عَفْر الترابِ ... ثَاوِياً في مَحَلّة الأحبابِ )
( إذ ثوى الموصليّ فانقرض اللّهو ... بخير الإِخوان والأصحاب )
( بكت المُسْمِعاتُ حُزْناً عليه ... وبكاه الهوى وصَفْوُ الشراب )
( وبكتْ آلةُ المجالس حتى ... رحِم العودُ دمعةَ المِضراب )

إسحاق الموصلي يذكر أباه عند الرشيد ويبكي
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
دخلت إلى الرشيد بعقب وفاة أبي وذلك بعد شهر من يوم وفاته فلما جلست ورأيت موضعه الذي كان يجلس فيه خاليا دمعت عيني فكففتها وتصبرت ولمحني الرشيد فدعاني إليه وأدناني منه فقبلت يده ورجله والأرض بين يديه فاستعبر وكان رقيقا فوثبت قائما ثم قلت
( في بقاء الخليفة الميمون ... خَلَفٌ من مُصيبة المحزونِ )
( لاَ يضير المصابَ رُزْءٌ إذا ما ... كان ذا مَفْزَعٍ إلى هارون )
فقال لي كذاك والله هو ولن تفقد من أبيك ما دمت حيا إلا شخصه وأمر بإضافة رزقه إلى رزقي فقلت بل يأمر أمير المؤمنين به إلى ولده ففي خدمتي إياه ما يغنيني فقال اجعلوا رزق إبراهيم لولده وأضعفوا رزق إسحاق

صوت من المائة المختارة
( يا دارَ سُعْدى بالجِزْع من مَلَلِ ... حُيِّيتِ من دِمْنةٍ ومن طَلَلِ )
( إنِّي إذا ما البخيلُ أَمَّنها ... باتت ضَمُوزاً منِّي على وَجَلْ )
( لا أُمتِع العُوّذَ بالفِصال ولا ... أبتاع إلا قَرِيبةَ الأجل )
العوذ الإبل التي قد نتجت واحدتها عائذ يقول أنحرها وأولادها للأضياف فلا أمتعها
والضموز الممسكة عن أن تجتر
ضمز الجمل بجرته إذا أمسك عنها ودسع بها إذا استعملها
يقول فهذه الناقة من شدة خوفها على نفسها مما رأت من نحر نظائرها قد امتنعت من جرتها فهي ضامزة
الشعر لابن هرمة
والغناء في اللحن المختار لمرزوق الصراف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ويقال إنه ليحيى بن واصل
وذكر عمرو بن بانة أن فيه لدحمان لحنا من الثقيل الأول بالبنصر وأن فيه لابن محرز لحنا من الثقيل الثاني بالبنصر في الثالث ثم الثاني ووافقه ابن المكي
قال وفيه لدحمان خفيف رمل بالوسطى في الأول والثالث وذكر الهشامي أن هذا اللحن بعينه ليونس وأن الثقيل الثاني لإبراهيم وأن لمعبد فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى وأن فيه للهذلي خفيف ثقيل وأن فيه رملا ينسب إلى ابن محرز أيضا

شيء من ذكر ابن هرمة أيضا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري ونوفل بن ميمون عن يحيى بن عروة بن أذينة قال
خرجت في حاجة لي فلما كنت بالسيالة وقفت على منزل إبراهيم بن علي بن هرمة فصحت يا أبا إسحاق فأجابتني ابنته من هذا فقلت انظري فخرجت إلي فقلت أعلمي أبا إسحاق فقالت خرج والله آنفا قال فقلت هل من قِرىً فإني مُقْوٍ من الزاد قالت لا والله ما صادفته حاضرا قلت فأين قول أبيك
( لا أُمْتِع العُوذَ بالفِصَال ولا ... أبتاع إلاّ قريبةَ الأجلِ )
قالت بذاك والله أفناها أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية بمثل هذا الخبر سواء وزاد فيه قال فأخبرت إبراهيم بن هرمة بقولها فضمها إليه وقال بأبي أنت وأمي أنت والله ابنتي حقا الدار والمزرعة لك

اخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني نوفل بن ميمون قال حدثني مرقع قال
كنت مع ابن هرمة في سقيفة أم أذينة فجاءه راع بقطعة من غنم يشاوره فيما يبيع منها وكان قد أمره ببيع بعضها قال مرقع فقلت يا أبا إسحاق أين عزب عنك قولك
( لا غنمي مُدّ في الحياة لها ... إلا لدَرْك القِرَى ولا إبلي )
وقولك فيها أيضا
( لا أُمتِع العُوذَ بالفصال ولا ... ولا أَبتاع إلا قَرِيبةَ الأجلِ )
فقال لي مالك أخزاك الله من أخذ منها شيئا فهو له فانتهبناها حتى وقف الراعي وما معه منها شيء
وحدثنا بهذا الخبر أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه
أن ابن هرمة كان اشترى غنما للربح فلقيه رجل فقال له ألست القائل
( لا غنمي مُدّ في الحياة لها ... إلا لدَرْك القِرَى ولا إبلي )
قال نعم قال فوالله إني لأحسبك تدفع عن هذه الغنم المكروه بنفسك وإنك لكاذب فأحفظه ذلك فصاح من أخذ منها شيئا فهو له فانتهبها الناس جميعا وكان ابن هرمة أحد البخلاء
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني نوفل بن ميمون قال حدثني زفر بن محمد الفهري أن هذه القصيدة أول شعر قاله ابن هرمة

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي حدثنا عبد الله بن الوليد الأزدي قال حدثني جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين قال
سمع مزبد قول ابن هرمة
( لا أُمْتِع العُوذَ بالفِصَال ولا ... أبتاعُ إلاّ قريبةَ الأجَلِ )
قال صدق ابن الخبيثة إنما كان يشتري الشاة للأضحى فيذبحها من ساعته
أخبرنا وكيع قال حدثنا حماد عن أبيه عن عبد الله بن الوليد عن جعفر ابن محمد بن زيد عن أبيه قال
اجتمع قوم من قريش أنا فيهم فأحببنا أن نأتي ابن هرمة فنعبث به فتزودنا زادا كثيرا ثم أتيناه لنقيم عنده فلما انتهينا إليه خرج إلينا فقال ما جاء بكم فقلنا سمعنا شعرك فدعانا إليك لما سمعناك قلت
( إنّ امرأ جعل الطريقَ لبيته ... طُنُباً وأَنكَر حقّه للَئيم )
وسمعناك تقول
( وإذا تنوّر طارق مُسْتنبِحٌ ... نَبَحتْ فدلّته عليّ كلابِي )
( وعَوَينَ يَستعجِلْنه فلقِينَه ... يَضربْنه بشَرِاشِرِ الأذناب )
وسمعناك تقول

( كم ناقةٍ وجأْتُ مَنْحَرها ... بمُستَهَلّ الشُّؤْبُوب أو جَمَلِ )
( لا أُمتع العُوذَ بالفِصال ولا ... أبتاع إلاّ قريبة الأجَل )
قال فنظر إلينا طويلا ثم قال ما على وجه الأرض عصابة أضعف عقولا ولا أسخف دينا منكم فقلنا له يا عدو الله يا دعي أتيناك زائرين وتسمعنا هذا الكلام فقال أما سمعتم الله تعالى يقول للشعراء ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) أفيخبركم الله أني أقول ما لا أفعل وتريدون مني أن أفعل ما أقول قال فضحكنا منه وأخرجناه معنا فأقام عندنا في نزهتنا يشركنا في زادنا حتى انصرفنا إلى المدينة
أخبرنا عمي قال حدثني محمد بن سعيد الكراني عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
الحكم الخضري وابن ميادة ورؤبة وابن هرمة

وطفيل الكناني ومكين العذري كانوا على ساقة الشعراء وتقدمهم ابن هرمة بقوله
( لا أُمتع العُوذ بالفِصال ولا ... أبتاع إلاّ قريبةَ الأجل )
قال عبد الرحمن وكان عمي معجبا بهذا البيت مستحسنا له وكان كثيرا ما يقول أما ترون كيف قال والله لو قال هذا حاتم لما زاد ولكان كثيرا ثم يقول ما يؤخره عن الفحول إلا قرب عهده
انتهى
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى ووكيع عن حماد عن أبيه قال
قلت لمروان بن أبي حفصة من أشعر المحدثين من طبقتكم عندك لا أعنيك قال الذي يقول
( لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبةَ الأجل )
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن أبي حذافة قال لما قال ابن هرمة
( لا أُمتع العوذ بالفِصال ولا ... أبتاع إلا قريبةَ الأجل )
قال ابن الكوسج مولى آل حنين يجيبه
( ما يشرب الباردَ القَراحَ ولا ... يذبح من جَفْرةٍ ولا حَمَلِ )

( كأنّه قِرْدةٌ يلاعبها ... قردٌ بأعلى الهِضاب من مَلَل )
قال فقال ابن هرمة لئن لم أوت به مربوطا لأفعلن بآل حنين ولأفعلن فوهبوا لابن الكوسج مائة درهم وربطوه وأتوا به ابن هرمة فأطلقه فقال ابن الكوسج والله لئن عاد لمثلها لأعودن
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال
كنا عند الرشيد في بعض أيامنا ومعنا ابن جامع فغناه ابن جامع ونحن يومئذ بالرقة
( هاج شوقاً فِراقُكَ الأحبابا ... فتناسيتَ أو نَسِيتَ الرَّبابا )
( حين صاح الغرابُ بالبَيْن منهم ... فتصامَمْتَ إذ سمعتَ الغُرابا )
( لو علمنا أنّ الفِراق وَشِيكٌ ... ما انتهينا حتى نزورَ القِبابا )
( أو علمنا حين استقلّتْ نَوَاهم ... ما أقمنا حتّى نَزُمّ الرِّكابا )
الغناء لابن جامع رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وله فيه أيضا ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
وذكرت دنانير عن فليح أن فيه لابن سريج وابن محرز لحنين
قال فاستحسنه الرشيد وأعجب به واستعاده مرارا وشرب عليه أرطالا حتى سكر وما سمع غيره ولا أقبل على أحد وأمر لابن جامع بخمسة آلاف دينار فلما انصرفنا قال لي

إبراهيم لا ترم منزلك حتى أصير إليك فصرت إلى منزلي فلم أغير ثيابي حتى أعلمني الغلام بموافاته فتلقيته في دهليزي فدخل وجلس وأجلسني بين يديه ثم قال لي يا مخارق أنت فسيلة مني وحسني لك وقبيحي عليك ومتى تركنا ابن جامع على ما ترى غلبنا على الرشيد وقد صنعت صوتا على طريقة صوته الذي غناه أحسن صنعة منه وأجود وأشجى وإنما يغلبني عند هذا الرجل بصوته ولا مطعن على صوتك وإذا أطربته وغلبته عليه بما تأخذه مني قام ذلك لي مقام الظفر وسيصبح أمير المؤمنين غدا فيدخل الحمام ونحضر ثم يخرج فيدعو بالطعام ويدعو بنا ويأمر ابن جامع فيرد الصوت الذي غناه ويشرب عليه رطلا ويأمر له بجائزة فإذا فعل فلا تنتظره أكثر من أن يرد ردته حتى تغني ما أعلمك إياه الساعة فإنه يقبل عليك ويصلك ولست أبالي ألا يصلني بعد أن يكون إقباله عليك فقلت السمع والطاعة فألقى علي لحنه
( يا دارَ سُعْدَى بالجِزْع من مَلَل ... )
وردده حتى أخذته وانصرف ثم بكر علي فاستعاد الصوت فرددته حتى رضيه ثم ركبنا وأنا أدرسه حتى صرنا إلى دار الرشيد فلما دخلنا فعل الرشيد جميع ما وصفه إبراهيم شيئا فشيئا وكان إبراهيم أعلم الناس به ثم أمر ابن جامع فرد الصوت ودعا برطل فشربه ولما استوفاه واستوفى ابن جامع صوته لم أدعه يتنفس حتى اندفعت فغنيت صوت إبراهيم فلم يزل يصغي إليه وهو باهت حتى استوفيته فشرب وقال أحسنت والله لمن هذا

الصوت فقلت لإبراهيم فلم يزل يستدنيني حتى صرت قدام سريره وجعل يستعيد الصوت فأعيده ويشرب عليه رطلا فأمر لإبراهيم بجائزة سنية وأمر لي بمثلها وجعل ابن جامع يشغب ويقول يجيء بالغناء فيدسه في أستاه الصبيان إن كان محسنا فليغنه هو والرشيد يقول له دع ذا عنك فقد والله استقاد منك وزاد عليك

صوت من المائة المختارة
( تَوَلّى شبابُكَ إلا قليلا ... وحلّ المَشيبُ فصبراً جميلاَ )
( كفى حَزَناً بِفراق الصِّبا ... وإنْ أصبح الشَّيبُ منه بَدِيلا )
الشعر والغناء لإسحاق
ولحنه المختار ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق بن عمرو

أخبار إسحاق بن إبراهيم
قد مضى نسبه مشروحا في نسب أبيه ويكنى أبا محمد وكان الرشيد يولع به فيكنيه أبا صفوان وهذه كنية أوقعها عليه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب مزحا
وموضعه من العلم ومكانه من الأدب ومحله من الرواية وتقدمه في الشعر ومنزلته في سائر المحاسن أشهر من أن يدل عليه فيها بوصف وأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه فإنه كان له في سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له في هذا نظير فإنه لحق بمن مضى فيه وسبق من بقي ولحب للناس جميعا طريقه فأوضحها وسهل عليهم سبيله وأنارها فهو إمام أهل صناعته جميعا ورأسهم ومعلمهم يعرف ذلك منه الخاص والعام ويشهد به الموافق والمفارق على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدهم بغضا لأن يدعى إليه أو يسمى به
وكان يقول لوددت أن أضرب كلما أراد مريد مني أن أغني وكلما قال قائل إسحاق الموصلي المغني عشر مقارع لا أطيق أكثر من ذلك وأعفى من الغناء ولا ينسبني من يذكرني إليه
وكان المأمون يقول لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء بحضرتي فإنه أولى به وأعف وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة

مشايخه الذين تلقى عنهم
وقد روى الحديث ولقي أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وإبراهيم بن سعد وأبي معاوية الضرير وروح بن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز
وكان مع كراهته

الغناء أضن خلق الله وأشدهم بخلا به على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه متعصبا له فضلا عن غيرهم
وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه وميزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله ولا تعلق به أحد بعده ولم يكن قديما مميزا على هذا الجنس إنما كان يقال الثقيل وثقيل الثقيل والخفيف وخفيف الخفيف وهذا عمرو بن بانة وهو من تلاميذه يقول في كتابه الرمل الأول والرمل الثاني ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى والبنصر ولا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه مثل ما ميز الأجناس فجعل الثقيل الأول أصنافا فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ثم تلاه بما كان منه بالبنصر في مجراها ثم بما كان بالسبابة في مجرى البنصر ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة ثم جعل الثقيل الأول صنفين الصنف الأول منهما هذا الذي ذكرناه والصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأول وأجراه المجرى الذي تقدم من تمييز الأصابع والمجاري وألحق جميع الطرائق والأجناس بذلك وأجراها على هذا الترتيب
ثم لم يتعلق بفهم ذلك أحد بعده فضلا عن أن يصنفه في كتابه فقد ألف جماعة من المغنين كتبا منهم يحيى المكي وكان شيخ الجماعة وأستاذهم وكلهم كان يفتقر إليه ويأخذ عنه غناء الحجاز وله صنعة كثيرة حسنة متقدمة وقد كان إبراهيم الموصلي وابن جامع يضطران إلى الأخذ عنه ألف كتابا جمع فيه الغناء القديم وألحق فيه ابنه الغناء المحدث إلى آخر أيامه فأتيا فيه في أمر الأصابع بتخليط عظيم حتى جعلا أكثر ما جنساه من ذلك مختلطا فاسدا وجعلا بعضه فيما زعما تشترك الأصابع كلها فيه وهذا محال ولو اشتركت الأصابع لما احتيج إلى تمييز الأغاني وتصييرها مقسومة على صنفين الوسطى والبنصر

والكلام في هذا طويل ليس موضعه هاهنا وقد ذكرته في رسالة عملتها لبعض إخواني ممن سألني شرح هذا فأثبته واستقصيته استقصاء يستغني به عن غيره
وهذا كله فعله إسحاق واستخرجه بتمييزه حتى أتى على كل ما رسمته الأوائل مثل إقليدس ومن قبله ومن بعده من أهل العلم بالموسيقى ووافقهم بطبعه وذهنه فيما قد أفنوا فيه الدهور من غير أن يقرأ لهم كتابا أو يعرفه
فأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فسأل إسحاق الموصلي أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب بحضرتي فقال له يا أبا محمد أرأيت لو أن الناس جعلوا للعود وترا خامسا للنغمة الحادة التي هي العاشرة على مذهبك أين كنت تخرج منه فبقي إسحاق واجما ساعة طويلة مفكرا واحمرت أذناه وكانتا عظيمتين وكان إذا ورد عليه مثل هذا احمرتا وكثر ولوعه بهما فقال لمحمد بن الحسن الجواب في هذا لا يكون كلاما إنما يكون بالضرب فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج فخجل وسكت عنه مغضبا لأنه كان أميرا وقابله من الجواب بما لا يحسن فحلم عنه
قال علي بن يحيى فصار إلي به وقال لي يا أبا الحسن إن هذا الرجل سألني عما سمعت ولم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته وإنما هو شيء قرأه في كتب الأوائل وقد بلغني أن التراجمة عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى فإذا خرج إليك منها شيء فأعطنيه فوعدته بذلك ومات قبل أن يخرج إليه شيء منها
وإنما ذكرت هذا بتمام أخباره كلها ومحاسنه وفضائله لأنه من أعجب شيء يؤثر عنه أنه استخرج بطبعه علما رسمته الأوائل لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب إقليدس الأول في الهندسة ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى ثم تعلم ذلك وتوصل إليه واستنبطه بقريحته فوافق ما رسمه أولئك ولم يشذ عنه شيء يحتاج إليه

منه وهو لم يقرأه ولا له مدخل إليه ولا عرفه ثم تبين بعد هذا بما أذكره من أخباره ومعجزاته في صناعته فضله على أهلها كلهم وتميزه عنهم وكونه سماء هم أرضها وبحرا هم جداوله
وأم إسحاق امرأة من أهل الري يقال لها شاهك وذكر قوم أنها دوشار التي كانت تغني بالدف فهويها إبراهيم وتزوجها
وهذا خطأ تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتا وإسحاق وسائر ولد إبراهيم من شاهك هذه

برنامج دراسته اليومي
أخبرني يحيى بن علي المنجم قال أخبرني أبي عن إسحاق قال
بقيت دهرا من دهري أغلس في كل يوم إلى هشيم فأسمع منه ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءا من القرآن ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طرقين أو ثلاثة ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما فأستفيد منهما ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت ومن لقيت وما أخذت وأتغدى معه فإذا كان العشاء رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أخذ مني منصور زلزل إلى أن تعلمت مثل ضربه بالعود أكثر من مائة ألف درهم
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال
كنت عند ابن عائشة فجاءه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي فرحب به وقال هاهنا يا أبا محمد إلى جنبي فلئن بعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا ابن شبيب من جلساء المأمون عنه أنه قال يوما وإسحاق غائب عن مجلسه لولا ما سبق على ألسنة الناس واشتهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء فما أعرف مثله ثقة وصدقا وعفة وفقها
هذا مع تحصيل المأمون وعقله ومعرفته
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا الفضل بن العباس الوراق قال حدثنا المخرمي عن أبيه قال سمعت إسحاق الموصلي يقول
صرت إلى سفيان بن عيينة لأسمع منه فتعذر ذلك علي وصعب مرامه فرأيته عند الفضل بن الربيع فسألته أن يعرفه موضعي من عنايته ومكاني من الأدب والطلب وأن يتقدم إليه بحديثي ففعل وأوصاه بي فقال إن أبا محمد من أهل العلم وحملته
قال فقلت تفرض لي عليه ما يحدثني به فسأله في ذلك ففرض لي خمسة عشر حديثا في كل مجلس

فصرت إليه فحدثني بما فرض لي فقلت له أعزك الله صحيح كما حدثتني به قال نعم وعقد بيده شيئا قلت أفأرويه عنك قال نعم وعقد بيده شيئا آخر ثم قال هذه خمسة وأربعون حديثا وضحك إلي وقال قد سرني ما رأيت من تقصيك في الحديث وتشددك فيه على نفسك فصر إلي متى شئت حتى أحدثك بما شئت
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الجمان وعون بن محمد الكندي قالا سمعنا إسحاق الموصلي يقول
جئت يوما إلى أبي معاوية الضرير ومعي مائة حديث فوجدت حاجبه يومئذ رجلا ضريرا فقال لي إن أبا معاوية قد ولاني اليوم حجبته لينفعني فقلت معي مائة حديث وقد جعلت لك مائة درهم إذا قرأتها فدخل واستأذن لي فدخلت فلما عرفني أبو معاوية دعاه فقال له أخطأت وإنما جعلت لك مثل هذا من ضعفاء أصحاب الحديث فأما أبو محمد وأمثاله فلا ثم أقبل علي يرغبني في الإحسان إليه ويذكر ضعفه وعنايته به فقلت له احتكم في أمره فقال مائة دينار فأمرت بإحضارها الغلام وقرأت عليه ما أردت وانصرفت
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني علي بن محمد الأسدي قال حدثني أحمد بن يحيى الشيباني ثعلب قال
وقف أبو عبد الله بن الأعرابي على المدائني فقال له إلى أين يا أبا عبد الله فقال أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر
( نَحمِلُ أشباحَنا إلى مَلِكٍ ... نأخذُ من ماله ومن أدبْه )
فقال له ومن ذلك يا أبا عبد الله قال أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي

قال أبو بكر والبيت لأبي تمام الطائي
وقد أخبرني بهذا الخبر عن ثعلب محمد بن القاسم الأنباري فقال فيه
كان إسحاق يجري على ابن الأعرابي في كل سنة ثلاثمائة دينار
وأهدى له ابن الأعرابي شيئا من كتاب النوادر كتبه له بخطه فمر ابن الأعرابي يوما على باب دار الموصلي ومعه صديق له فقال له صديقه هذه دار صديقك أبي محمد إسحاق فقال هذه دار الذي نأخذ من ماله ومن أدبه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
رأيت في منامي كأن جريرا جالس ينشد شعره وأنا أسمع منه فلما فرغ أخذ بيده كبة شعر فألقاها في فمي فابتلعتها فأول ذلك بعض من ذكرته له أنه ورثني الشعر
قال يزيد بن محمد وكذلك كان لقد مات إسحاق وهو أشعر أهل زمانه

إسحاق يتعلم الضرب بالعود من زلزل
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال قال لي أبي
أعطيت منصورا زلزلا من مالي خاصة حتى تعلمت ضربه بالعود نحوا

من مائة ألف درهم سوى ما أخذته له من الخلفاء ومن أبي
قال وكانت في زلزل قبل أن يعرف الصوت ويفهمه بلادة أول ما يسمعه حتى لو ضرب هو وغلامه على صوت لم يعرفاه قبل لكان غلامه أقوى منه فإذا تفهمه جاء فيه من الضرب بما لا يتعلق به أحد البتة
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرني به الأخفش عن الفضل عن إسحاق وأخبرني به يحيى ابن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق قال
قال لي أبو زياد الكلابي أولم جار لي يكنى أبا سفيان وليمة ودعاني لها فانتظرت رسوله حتى تصرم يومي فلم يأت فقلت لامرأتي
( إنّ أبا سفيان ليس بُمولِم ... فقُومِي فهاتي فِلْقةً من حُوَارِكِ )
قال إسحاق فقلت له أليس غير هذا فقال لا إنما أرسلته يتيما فقلت أفلا أجيزه قال شأنك فقلت له
( فبيتُكِ خيرٌ من بُيوتٍ كثيرةٍ ... وقِدْرُكِ خيرٌ من وَليمة جارِك )
قال فضحك ثم قال أحسنت بأبي أنت وأمي جئت والله به قبلا ما انتظرت به القرب وما ألوم الخليفة أن يجعلك في سماره ويتملح بك وإنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله ولو كان الشباب يشترى لا ابتعته لك بإحدى عيني ويمنى يدي وعلى أن فيك بحمد الله ومنه بقية تسر الودود وترغم الحسود
هذا لفظ يزيد المهلبي والأخفش
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن عبد الله بن عمار فقال حدثني عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال

قال لي إما شداد بن عقبة وإما أبو مجيب
قالت امرأة القتال الكلابي له هل لك في فلقة من حوار نطبخها لك
فقال لا والله نحن على وليمة أبي سفيان ودعوته وكان أبو سفيان رجلا من الحي زفت إليه امرأته تلك الليلة فجعل ينظر دخانا فلا يراه فقال
( إنّ أبا سفيان ليس بُمولم ... فقومي فهاتي فِلقةً من حُوارِك )
ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدم من الذي قبله
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال
أنشدت أعرابيا فهما شعرا لي فقال أقفرت والله يا أبا محمد قلت وما أقفرت قال رعيت قفرة لم ترع قبلك
يريد أبدعت

نباهة إسحاق في الغناء
أخبرني علي بن سليمان الأخفش وعمي قالا حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني بعض أصحاب السلطان بمدينة السلام قال سمعت إسحاق الموصلي يقول

دخلت على المأمون يوما وعقيد يغنيه ارتجالا وغيره يضرب عليه فقال يا إسحاق كيف تسمع مغنينا هذا فقلت هل سأل أمير المؤمنين عن هذا غيري قال نعم سألت عمي إبراهيم فوصفه وقرظه واستحسنه فقلت له يا أمير المؤمنين أدام الله سرورك وأطاب عيشك إن الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التزيد في علمي فقال لي فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك فقلت لعقيد أردد هذا الصوت الذي غنيته آنفا وتحفظ فيه وضرب ضاربه عليه فقلت لإبراهيم بن المهدي كيف رأيته فقال ما رأيت شيئا يكره ولا سمعته فأقبلت على عقيد فقلت له حين استوفاه في أي طريقة هذا الصوت الذي غنيته قال في الرمل فقلت للضارب في أي طريقة ضربت أنت قال في الهزج الثقيل فقلت يا أمير المؤمنين ما عسيت أن أقول في صوت يغني مغنيه رملا ويضرب ضاربه هزجا وليس هو صحيحا في إيقاعه الذي ضرب عليه
قال وتفهمه إبراهيم بن المهدي بعدي فقال صدق يا أمير المؤمنين الأمر فيه الآن بين فغاظني فقلت له بأي شيء بان الآن ما لم يكن بينا قبل أتوهم أنك استنبطت معرفة هذا وإنما قلته لما علمته من جهتي كما يقوله الغلمان العجم وسائر من حضر اتباعا لي واقتداء بقولي
فقال له المأمون صدق فأمسك وجعل يتعجب من ذهاب ذلك على كل من حضر وكناني في ذلك اليوم مرتين
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال حدثني أبي
أن الأصمعي أنشد قول إسحاق يذكر ولاءه لخزيمة بن خازم

( إذا كانتِ الأحرارُ أصلي ومَنْصِبي ... ودافِعَ ضَيْمي خازِمٌ وابنُ خازِم )
( عَطَستُ بأنفٍ شامخ وتناولتْ ... يدايَ الثريّا قاعداً غيرَ قائم )
قال فجعل الأصمعي يعجب منهما ويستحسنهما وكان بعد ذلك يذكرهما ويفضلهما
قال ابن حمدون وكان السبب في تولي إسحاق خازم بن خزيمة بن حازم أن مناظرة جرت بينه وبين ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالظا فقال له ابن جامع يا من إذا قلت له يا بن زانية لم أخف أن يكذبني أحد فمضى إلى خازم بن خزيمة فتولاه وانتمى إليه فقبل ذلك منه وقال هذين البيتين

المعتصم يمتحن إسحاق في الغناء
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال قال إسحاق كانت عندي صناجة كنت بها معجبا واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا ببابي يدق دقا شديدا فقلت انظروا من هذا قالوا رسول أمير المؤمنين فقلت ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إلي فيها فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب

وأنا مثخن فدخلت فسلمت فرد السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال اسكن فسكنت وسألني عن صوت وقال أتدري لمن هو فقلت أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت فإذا هي قد شبهته بالقديم فقلت زدني معها عودا آخر فإنه أثبت لي فزادني عودا آخر فقلت يا أمير المؤمنين هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة فقال من أين قلت ذلك فقلت لما سمعته وسمعت لينه عرفت أنه من صنعة النساء ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة فقال من أين قلت ذلك فقلت لأنها قد حفظت مقاطعه وأجزاءه ثم طلبت عودا آخر ليكون أثبت لي فلم أشكك فقال صدقت الغناء لعريب
نسخت من كتاب ابن أبي سعيد حدثني إسحاق بن إبراهيم الطاهري قال حدثتني مخارق مولاتنا قالت
كان لمولاي الذي علمني الغناء فراش رومي وكان يغني بالرومية صوتا مليح اللحن فقال لي مولاي يا مخارق خذي هذا اللحن الرومي فانقليه إلى شعر من أصواتك العربية حتى أمتحن به إسحاق الموصلي فأعلم أين يقع من معرفته ففعلت ذلك وصار إليه إسحاق فاحتبسه مولاي فأقام وبعث إلي أن أدخلي اللحن الرومي في وسط غنائك فغنيته إياه في درج

أصوات مرت قبله فأصغى إليه إسحاق وجعل يتفهمه ويقسمه ويتفقد أوزانه ومقاطعه ويوقع عليه بيده ثم أقبل على مولاي فقال هذا صوت رومي اللحن فمن أين وقع إليك فكان مولاي بعد ذلك يقول ما رأيت شيئا أحسن من استخراجه لحنا روميا لا يعرفه ولا العلة فيه وقد نقل إلى غناء عربي وامتزجت نغمه حتى عرفه ولم يخف عليه

إسحاق وملاحظ في مجلس الواثق
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني عبد الله بن عمرو عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علويه الأعسر ووجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن علي بن محمد بن نصر الشامي عن جده حمدون ابن إسماعيل قال
تناظر المغنون يوما عند الواثق فذكروا الضراب وحذقهم فقدم إسحاق زلزلا على ملاحظ ولملاحظ في ذلك الرياسة على جميعهم فقال له الواثق هذا حيف وتعد منك فقال إسحاق يا أمير المؤمنين اجمع بينهما وامتحنهما فإن الأمر سينكشف لك فيهما فأمر بهما فأحضرا فقال له إسحاق إن للضراب أصواتا معروفة أفأمتحنهما بشيء منها قال أجل افعل فسمى ثلاثة أصوات كان أولها
( عُلِّق قلبي ظبيةَ السِّيب ... )
فضربا عليه فتقدم زلزل وقصر عنه ملاحظ فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد
فقال له ملاحظ فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس ولم لا يضرب هو فقال يا أمير المؤمنين إنه لم

يكن أحد في زماني أضرب مني إلا أنكم أعفيتموني فتفلت مني وعلى أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة ثم قال يا ملاحظ شوش عودك وهاته ففعل ذلك ملاحظ فقال يا أمير المؤمنين هذا يخلط الأوتار تخليط متعنت فهو لا يألو ما أفسدها ثم أخذ العود فجسه ساعة حتى عرف مواقعه ثم قال يا ملاحظ غن أي صوت شئت فغنى ملاحظ صوتا وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة ويده تصعد وتنحدر على الدساتين فقال له الواثق لا والله ما رأيت مثلك ولا سمعت به اطرح هذا على الجواري فقال هيهات يا أمير المؤمنين هذا لا تعرفه الجواري ولا يصلح لهن إنما بلغني أن الفهليذ ضرب يوما بين يدي كسرى فأحسن فحسده رجل من حذاق أهل صنعته فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عوده فشوش بعض أوتاره فرجع فضرب وهو لا يدري والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ ثم قام على رجله فأخبر الملك بالقصة فامتحن العود فعرف ما فيه ثم قال زه وزه وزهان زه ووصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة فلما تواطأت الرواية بهذا أخذت نفسي ورضتها عليه وقلت لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي والمواضع التي يخرج النغم كلها منه فيها من أعاليها إلى أسافلها وكل شيء منها يجانس شيئا غيره كما أعرف ذلك في مواضع الدساتين وهذا شيء لا تفي به الجوراي
قال له الواثق صدقت ولئن مت لتموتن هذه الصناعة معك وأمر له بثلاثين ألف درهم

نسبه هذا الصوت
صوت
( عُلِّقَ قلبي ظبيةَ السِّيبِ ... جهلاً فقد أُغْرِي بتعذيبِي )
( نَمَّتْ عليها حين مرَّتْ بنا ... مَجاسِدٌ يَنْفَحْن بالطِّيب )
( تَصُدّها عّنا عَجْوزٌ لها ... مُنْكَرةٌ ذاتُ أعاجيب )
( فكلَّما هَمْتُ بإتيانها ... قالت تَوَقَّيْ عَدْوةَ الذِّيبِ )
الشعر والغناء لإبراهيم هزج ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر
حدثني علي بن هارون قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثتني دمن جارية إسحاق الموصلي وكانت من كبار جواريه وأحظى منه عنده ولقيتها فقلت لها أي شيء أخذت عن مولاك من الغناء فقالت لا والله ما أخذت أنا عنه ولا واحدة من جواريه صوتا قط كان أبخل بذلك وما أخذت منه قط إلا صوتا واحدا وذلك أنه انصرف من دار الخليفة وهو مثخن سكرا فدخل إلى بيت كان ينام فيه فرأى عودا معلقا فأخذه بيده وقال لخادمه يا غلام صح لي بدمن فجاءني الغلام فخرجت فلما بلغت الباب إذا هو مستلق على فراشه والعود في يده وهو يصنع هذا الصوت ويردده وقد اسحنفر في نغمه وتنوق فيها حتى استقام له وهو
صوت
( ألاَ ليُلكِ لا يَدهَبْ ... ونِيطَ الطَّرْفُ بالكوكبْ )
( وهذا الصّبح لا يأتي ... ولا يدنو ولا يَقُرب )

فلما سمعته علمت أني إن دخلت إليه أمسك فوقفت أستمعه حتى فرغ منه وأخذته عنه فلما فرغ منه وضع العود من يده وذكر أنه قد طلبني فقال يا غلام أين دمن فقلت هأنذي فقال مذ كم أنت واقفة فقلت مند ابتدأت بالصوت وقد أخذته فنظر إلي نظر مغضب أسف ثم قال غنيه فغنيته حتى استوفيته فقال لي وقد فتر وخجل قد بقيت عليك فيه بقية أنا أصلحها لك فقلت لست أحتاج إلى إصلاحك إياه وقد والله أخذته على رغمك فضحك
لحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر والشعر والغناء لإسحاق

كان قادرا على إظهار الأخطاء في الغناء والأوتار
أخبرنا يحيى بن علي قال قال لي إسحاق
كنت عند المعتصم وعنده إبراهيم بن المهدي فغنى إبراهيم صوتا لابن جامع أخل ببعضه ثم قال يا أمير المؤمنين ترك ابن جامع الناس يحجلون خلفه ولا يلحقونه
وفي هذا الصوت خاصة فقلت والله يا أمير المؤمنين ما صدق وما هذا الصوت بتام الأجزاء فقال كذب والله يا أمير المؤمنين فقلت يا سيدي أنا أوقفه على نقصانه فمره فليعد يا أمير المؤمنين فأعاد البيت الأول فأقامه وطمع في الإصابة فقلت آفته في البيت الثاني فليردده فرده فنقص من أجزائه وقسمته فعرفته فأقر به فقلت يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة آبائي وإبراهيم يكلمني فيها

وأنا أسأله عن ثلاثين مسألة من باب واحد في طريق الغناء لا يعرف منها مسألة واحدة فقال أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه فأعفاه
وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق فذكر نحوا مما ذكره يحيى وذكر أن القصة كانت بين يدي المعتصم وزاد فيها فقال
أنا أسأله عن ثلاثين مسألة وأوقفه على خطئه فيها فإن لم يقر بذلك أقر به مخارق وعلويه فقال أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه فإنه يعدل عندي البختج قلت يا أمير المؤمنين وما يفعل البختج قال يسلح قلت قد والله فعل ذلك كلامي به ومنه هرب فضحك وغطى فاه وقام فظن إسحاق بن إبراهيم المصعبي أني قد أغضبته فضرب بيده إلى السيف فقلت له لا تحسب أني أغضبته فما كنت لأكلم عمه بين يديه بهزء من غير إذنه فأمسك وكان لا يقدم أحد أن يكلم الخليفة بحضرته بما فيه الوهن إلا بادر إلى سيفه تعظيما للأمير وإجلالا له
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أحمد بن القاسم الهاشمي عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن يساره ومعهن العيدان يضربن بها فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته فقال المأمون يا إسحاق أتسمع خطأ فقلت نعم والله يا أمير المؤمنين فقال لإبراهيم هل تسمع خطأ فقال لا فأعاد علي السؤال فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين وإنه لفي الجانب الأيسر فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال

لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ فقلت يا أمير المؤمنين مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن فأمرهن فأمسكن فقلت لإبراهيم هل تسمع خطأ فتسمع ثم قال ما ها هنا خطأ فقلت يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة
فأمسكن وضربت الثامنة فعرف إبراهيم الخطأ فقال نعم يا أمير المؤمنين ها هنا خطأ فقال عند ذلك لإبراهيم يا إبراهيم لا تمار إسحاق بعدها فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألا تماريه فقال صدقت يا أمير المؤمنين
وقال الحسين بن يحيى في خبره وكان في الأوتار كلها مثنى فاسد التسوية
وقال فيه فطرب أمير المؤمنين المأمون وقال لله درك يا أبا محمد فكناني يومئذ

الواثق يثني على إسحاق
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال
سمعت الواثق يقول ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي ولا سمعته يغني غناء ابن سريج إلا ظننت أن ابن سريج قد نشر وإنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننته يتقدمه ينقص وإن إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ بمثلها ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين فإذا أراده للغناء غناه فأجابه إلى ذلك ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء فأذن له
قال فحدثني

محمد بن الحارث بن بسخنر أنه كان هو ومخارق وعلويه جلوسا في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون وخروج الناس من عنده إذ دخل يحيى بن أكثم وعليه سواده وطويلته ويده في يد إسحاق يماشيه حتى جلس معه بين يدي المأمون فكاد علويه أن يجن وقال يا قوم أسمعتم بأعجب من هذا يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغن حتى يجلسا بين يدي الخليفة
ثم مضت على ذلك مدة فسأل إسحاق المأمون أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة قال فضحك المأمون وقال ولا كل ذا يا إسحاق وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم وأمر له بها
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال
كان المغنون جميعا يحضرون مجلس الواثق وعيدانهم معهم إلا إسحاق فإنه كان يحضر بلا عود للشرب والمجالسة فإن أمره الخليفة أن يغني أحضر له عودا فإذا غنى وفرغ سل من بين يديه إلى أن يطلبه
وكان الواثق كثيرا ما يكنيه رفعا له من أن يدعوه باسمه وكان إذا غنى وفرغ الواثق من شرب قدحه قطع الغناء ولم يعد منه حرفا إلا أن يكون في بعض بيت فيتمه ثم يقطع ويضع العود من يده
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه في خبر ذكر إسحاق فيه

فقال وعارض معبدا وابن سريج فانتصف منهما وكان إبراهيم بن المهدي يناظره ويجادله في الغناء وينازعه في صناعته ولم يبلغه وما رأيت بعد إسحاق مثله
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال قال لي محمد بن راشد الخناق
سمعت علويه يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصلي إن إبراهيم بن المهدي يعيبك بتركك تحريك الغناء فقال له إسحاق ليتنا نفي بما علمناه فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه
ثم قال له فإنه يزعم أن حلاوة الغناء تحريكه وتحريكه عنده أن يكون كثير النغم وليس يفعل ذلك إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الأسكدار للكتاب وهو حينئذ بأن يسمى المحذوف أشبه منه بأن يسمى المحرك فضحك علويه ثم قال فإن إبراهيم يسمي غناءكم هذا الممسك المدادي قال إسحاق هذا من لغات الحاكة لأنهم يسمون الثوب الجافي الكثير العرض والطول المدادي وعلى هذا القياس فينبغي لنا أن نسمي غناءه المحرك الضرابي وهو الخفيف السخيف من الثياب في لغة الحاكة حتى ندخل الغناء في جملة الحياكة ونخرجه عن جملة الملاهي ثم قال لعلويه بحياتي عليك إلا ما أعدت عليه ما جرى فقال له لا وحياتك لا فعلت فإنه يعلم ميلي إليكم ولكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخناق فكلمه إسحاق وأقسم عليه أن يؤيده ففعل وسار إلى إبراهيم فأخبره فجعل كلما أخبره شيئا تغيظ وشتم إسحاق بأقبح شتم ثم جاءه ابن راشد فأخبره فجعل كلما أخبره بشيء من ذلك ضحك وصفق سرورا لغيظ إبراهيم من قوله

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال أخبرني محمد بن راشد الخناق قال
إني لفي منزلي يوما مع الظهر إذ دخل علي إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسررت بمكانه فقال قد جاءت بي إليك حاجة قال قلت قل ما شاء الله قال دعني في بيتك ودع غلاميك عندي بديحا وسليمان وكانا خادمين مغنيين ومرهما أن يغنياني وأتني بفلان ليغنيني أيضا بحياتي عليك وانطلق إلى إبراهيم بن المهدي فإنه سيسر بمكانك فاشرب معه أقداحا ثم قل له يا سيدي أسألك عن شيء فإذا قال سل فقل له أخبرني عن قولك
( ذهبتُ من الدنيا وقد ذهبتْ منّي ... )
أي شيء كان معنى صنعتك فيه وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه إلا أن تقول ذهبتو بالواو فإن قلت ذهبت ولم تمدها انقطع اللحن والشعر وإن مددتها قبح الكلام وصار على كلام النبط فقلت له يا أبا محمد كيف أخاطب إبراهيم بهذا فقال هو حاجتي إليك وقد كلفتك إياها فإن استحسنت أن تردني فأنت أعلم قال أفعل ذلك لموضعك على ما فيه علي ثم أتيت إبراهيم وجلست عنده مليا وتجارينا الحديث إلى أن خرجنا إلى ذكر الغناء فخاطبته بما قال لي إسحاق فتغير لونه وانكسر ثم قال يا محمد ليس هذا من كلامك هذا من كلام الجرمقاني ابن الزانية قل له عني أنتم تصنعون هذه للصناعة ونحن نصنعه للهو واللعب والعبث قال فخرجت إلى إسحاق فحدثته بذلك فقال الجرمقاني والله منا أشبهنا بالجرامقة لغة وهو الذي يقول ذهبتو وأقام عندي يومه فرحا بما بلغته إبراهيم عنه من توقيفه على خطئه

إسحاق وصداقة محمد بن راشد
قال علي بن محمد قال لي أبي
كان محمد بن راشد صديقا لإسحاق ثم فسد ما بينهما فإنه طابق إبراهيم بن المهدي عليه وبلغه عنه من توقيعه أن يذكره
وكان في محمد ابن رشد رداءه ونقل لأحاديث فقال فيه إسحاق
( ونَدْمان صِدْقٍ لا تُخَاف أَذَاتُه ... ولا يلفِظ الأخبارَ لفظَ ابن راشِد )
( دعاني إلى ما يشتهي فأجبتُه ... إجابةَ محمود الخلائق ماجدِ )
( فلا خيرَ في اللّذات إلاّ بأهلها ... ولا عيشَ إلا بالخليل المُساعِد )
قال فجمع ابن راشد عدة من الشعراء وأمرهم بهجاء إسحاق فهجوه بأشعار لم تبلغ مراده فلم يظهرها
وبلغ ذلك إسحاق فقال فيه
( وأبيات شعر رائعات كأنها ... إذا أُنشدت في القوم من حُسنها سِحرُ )
( تحفّزَ واقْلَوْلَى لردّ جوابها ... أبو جعفر يَغْلِي كما غَلَتِ القِدْر )
( فلم يستطعها غيرَ أنْ قد أعانه ... عليها أُناس كي يكون له ذكر )
( فيا ضيعةَ الأشعار إذ يَقْرِضونها ... وأضيعُ منها من يَرى أنها شعر )
قال فعاذ محمد بن راشد بإسحاق واستكفه وصالحه فرجع إليه
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر الشامي قال حدثني منصور بن محمد بن واضح
أن إبراهيم بن المهدي طرح في منزل أبيه

صوت
( أمن آلِ لَيْلَى عزفتَ الطُّلولاَ ... بذي حُرُضٍ ماثلاتٍ مُثولاَ )
( بَلِينَ وتحسَب آياتِهنّ ... عن فَرْط حَوْلين رِقّا مُحِيلا )
الشعر لكعب بن زهير
والغناء لإسحاق وله فيه لحنان ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وماخوري بالوسطى
وفيه للزبير بن دحمان خفيف ثقيل قال فجاءنا إسحاق يوما وأقام عند أبي وأخرجنا إليه جوارينا ومر الصوت الذي طرحه إبراهيم بن المهدي من غنائه فقال إسحاق من أين لك هذا قال طرحه أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أعزه الله تعالى فقال إسحاق وما لأبي إسحاق أعزه الله ولهذا الصوت هذا أنا صنعته وليس هو كما طرحه
قال فسأله أبي أن يغنيه فغناه وردده حتى صح لمن عنده فقال لي أبي أكتب إلى أبي إسحاق أن أبا محمد أعزه الله صار إلي فاحتبسته وأنه غنى بحضرتي الصوت الذي ألقيته في منزلك الذي أسكنه فزعم أنه صنعه وأنه ليس على ما أخذه الجواري عنك فأحببت أن أعلم ما عندك جعلني الله فداك
قال فكتبت الرقعة وأنفذتها إلى إبراهيم
فكتب نعم جعلت فداك صدق أبو محمد أعزه الله والصوت له وهو على ما ذكره لكني لعبت في وسطه لعبا أعجبني
قال فقرأ إسحاق الرقعة فغضب غضبا شديدا ثم قال لي اكتب إليه إذا أردت

يا هذا أن تلعب فالعب في غناء نفسك لا في غناء الناس وما حاجتك إلى هذا الشعر أكثر من ذلك فاصنع أنت إن كنت تحسن وألعب في صنعتك كما تشتهي مبتدئا باللهو واللعب غير مشارك في جد الناس بلعبك ومفسد له بما لا تعلمه
يا أبا إسحاق أيدك الله ليس هذا الصوت مما يتهيأ لك أن تمخرق فيه وتقول جندرته قال وكان إبراهيم يقول إنه يجندر صنعة القدماء ويحسنها

إسحاق يناظر إبراهيم بن المهدي في الغناء
قال علي بن محمد حدثني جدي حمدون
أن إسحاق قال لإبراهيم بن المهدي بحضرة المعتصم ما تقول فيمن يزعم أن ابن سريج وابن محرز ومعبدا ومالكا وابن عائشة لم يكونوا يحسنون تمام الصنعة ولا استيفاء الغناء ويعجزون عما به يكمل ويتم ويحسن وأنه أقدر على الصنعة منهم قال أقول إنه جاهل أحمق قال فأنت تزعم أنه قد كانت بقيت عليهم أشياء لم يهتدوا لها ولم يحسنوها فتنبهت عليها أنت وتممتها وحسنتها بجندرتك قال فضحك المعتصم وبقي إبراهيم واجما مطرقا ولم ينتفع بنفسه بقية يومه وما سمعته أنا ولا غيري بعد ذلك اليوم يتبجح بغناء يصلحه من غناء المتقدمين حتى يطنب في صنعته ويشتهى استماعه منه كما كان يدعي قديما
قال وكان حمدون يقول كان إبراهيم يأكل المغنين أكلا حتى يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مكافأته ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته وكان إسحاق آفته كما أن لكل شيء آفة
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

خرجت يوما من داري وأنا مخمور أتنسم الهواء فمررت برجل ينشد رجلا معه لذي الرمة

صوت
( ألم تعلمي يا ميّ أنِّي وبينَنا ... مَهَاوٍ لَطْرف العين فيهنّ مَطْرَح )
( ذكرتِك أن مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ ... أمامَ المَطَايا تَشْرئبّ وتَسْنَح )
( من المؤلِفاتِ الرمِلَ أدماءُ حُرّةٌ ... شُعاعُ الضّحى في مَتْنها يتوضّح )
( هي الشِّبْهُ أعطافاً وجِيداً ومُقلةً ... ومَيَّةُ منها بَعْدُ أبهى وأملَحُ )
( كأن البُرَى والعاجَ عِيجَتْ مُتُونُه ... على عُشَرٍ نَهّى به السيلَ أبطح )
( لئن كانت الدنيا عليّ كما أُرَى ... تَباريِحَ من مَيِّ فَلَلموتُ أروْح )
فأعجبني فصنعت فيه لحنا غنيت به المأمون فأخذت به منه مائة ألف درهم
لحن إسحاق في هذه الأبيات أول مطلق في مجرى البنصر
حدثني يحيى بن محمد الطاهري قال حدثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال
اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد واشترى رفيقي محموما فدفعنا إلى وكيل له أعجمي خراساني وقال له انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد

إلى إسحاق الموصلي ودفع إليه مائة ألف درهم وشهريا بسرجه ولجامه وثلاثة أدراج من فضة مملوءة طيبا وسبعة تخوت من بز خراساني وعشرة أسفاط من بز مصر وخمسة تخوت وشي كوفي وخمسة تخوت خز سوسي وثلاثين ألف درهم للنفقة وقال للرسول عرف إسحاق أن هذين الغلامين لرجل من وجوه أهل خراسان وجه بهما إليه ليتفضل ويعلمهما أصواتا اختارها وكتبها له في درج وقال له كلما علمهما صوتا ادفع إليه ألف درهم حتى يتعلما بها مائة صوت فإذا علمهما الصوتين اللذين بعد المائة فادفع إليه الشهري ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين فادفع إليه بكل صوت درجا من الأدراج ثم لكل صوت بعد ذلك تختا أو سفطا حتى ينفد ما بعثت به معك ففعل وانحدرنا إلى بغداد فأتينا إسحاق وغنينا بحضرته وبلغه الوكيل الرسالة فلم يزل يلقي علينا الأصوات حتى أخذناها كما أمرنا سيدنا
ثم سرنا إلى سر من رأى فدخلنا إليه وغنيناه جميع ما أخذناه فسره ذلك
وقدم إسحاق سر من رأى ولقيه مولانا فدعا بنا وأوصانا بما أراد وغدا بنا إلى الواثق وقال إنكما ستريان إسحاق بين يديه فلا تسلما عليه ولا توهماه أنكما رأيتماه قط وألبسنا أقبية خراسانية ومضينا معه فلما دخلنا على الواثق قال له يا سيدي هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية فقال غنيا فضربنا ضربا فارسيا وغنينا غناء فهليذيا فطرب الواثق وقال

أحسنتما فهل تغنيان بالعربية قلنا نعم واندفعنا نغني ما أخذناه عن إسحاق وهو ينظر إلينا ونحن نتغافل عنه حتى غنينا أصواتا من غنائه فقام إسحاق ثم قال للواثق وحياتك يا سيدي وبيعتك وإلا كل ملك لي صدقة وكل مملوك لي حر إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي ومن قصتهما كيت وكيت فقال له أبو أحمد ما أدري ما تقول هذان اشتريتهما من رجل نخاس خراساني فقال له بلغ ولعك إلي ونخاس خراساني من أين يحسن أن يختار مثل تلك الأغاني فضحك أبو أحمد ثم قال صدق أنا احتلت عليه ولو رمت أن يعلمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بعشرة أضعاف ما أعطيته لما فعل فقال له إسحاق قد تمت علي حيلته
وقال أبو أحمد للواثق إن أردتهما فخذهما فقال لا أفجعك بهما يا عم ولكن لا تمنعني حضورهما فقال له قد بذلت لك الملك فلم تؤثره أفتراني أمنعك الخدمة فكنا نخدمه بنوبة

الواثق يرفع إسحاق إلى صف الجلساء
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني ابن فيلا الطنبوري وكان قد دخل على الواثق وغناه قال
قال الواثق في بعض العشايا لا يبرح أحد من المغنين الليلة فقد عزمت على الصبوح في غد فأمسكوا جميعا عن معارضته إلا إسحاق فإنه قال له لا وحياتك ما أبيت قال فلا والله ما كان له عند الواثق معارضة أكثر من أن قال له فبحياتي إلا بكرت يا أبا محمد قال فرأيت مخارقا وعلويه قد تقطعا غيظا وبتنا في بعض الحجر فقالا لي اجلس على باب الحجرة فإذا جاء إسحاق فعرفنا حتى ندخل بدخوله فلم نلبث أن جاء

إسحاق مع أحمد بن أبي داود يماشيه في زيه وسواده وطويلته مثل طويلته فدخلت فأعلمتهما فقامت على علويه القيامة وقال يا هؤلاء خيناكر يدخل إلى الخليفة مع قاضي القضاة أسمعتم بأعجب من هذا البخت قط فقال له مخارق دع هذا عنك فقد والله بلغ ما أراد
ولم نلبث أن خرج ابن أبي داود ودعي بنا فدخلنا فإذا إسحاق جالس في صف الندماء لا يخرج منه فإذا أمره الواثق أن يغني خرج عن صفهم قليلا وأتي بعود فغنى الصوت الذي يأمره به فإذا فرغ من القدح قطع الصوت الذي يأمره به حيث بلغ ولم يتمه ورجع إلى صف الجلساء

قصة إبراهيم بن المهدي في مجلس الرشيد
أخبرني محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي الملقب بوسواسة قال حدثني حماد قال
قال لي أبي كنت عند الرشيد يوما وعنده ندماؤه وخاصته وفيهم إبراهيم بن المهدي فقال لي الرشيد يا إسحاق تغن

( شَرِبتُ مُدامةً وسُقِيتُ أخرى ... وراح المُنتشون وما انتشيتُ )
فغنيته فأقبل علي إبراهيم بن المهدي فقال لي ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت فقلت ليس هذا مما تحسنه ولا تعرفه وإن شئت فغنه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال
ثم أقبلت على الرشيد فقلت يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة أبي وهي التي قربتنا منك واستخدمتنا لك وأوطأتنا بساطك فإذا نازعناها أحد بلا علم لم نجد بدا من الإيضاح والذب فقال لا غرو ولا لوم عليك فقام الرشيد ليبول فأقبل إبراهيم بن المهدي علي وقال ويلك يا إسحاق أتجترئ علي وتقول ما قلت يابن الفاعلة لا يكني فداخلني ما لم أملك نفسي معه فقلت له أنت تشتمني وأنا لا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة ولولا ذلك لكنت أقول لك يابن الزانية أو ترى أني كنت لا أحسن أن أقول لك يابن الزانية ولكن قولي في ذمك ينصرف جميعه إلى خالك الأعلم ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه قال إسحاق وكان بيطارا قال ثم سكت وعلمت أن إبراهيم يشكوني وأن الرشيد سوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه فتلافيت ذلك ثم قلت أنت تظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال تهددني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر فأنت تضعف عنه وعنهم وتستخف بأوليائهم تشفيا وأرجوا ألا يخرجها الله عن يد الرشيد وولده وأن يقتلك دونها فإن صارت إليك وبالله العياذ فحرام علي العيش يومئذ والموت أطيب من الحياة معك فاصنع حينئذ ما بدا لك
قال فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال يا أمير المؤمنين شتمني وذكر أمي واستخف

بي فغضب وقال ما تقول ويلك قلت لا أعلم فسل من حضر فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يتربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسري عنه ورجع لونه وقال لإبراهيم ماله ذنب شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا
فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر بألا أبرح وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري فساء ظني وأهمتني نفسي فأقبل علي وقال ويلك يا إسحاق أتراني لم أفهم قولك ومرادك قد والله زنيته ثلاث مرات أتراني لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت ويلك لا تعد حدثني عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل أتراك لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك فقلت يا أمير المؤمنين قد والله قتلتني بهذا الكلام ولئن بلغه ليقتلني وما أشك في أنه قد بلغه الآن فصاح بمسرور الخادم وقال علي بإبراهيم الساعة فأحضر وقال قم فانصرف وقلت لجماعة من الخدم وكلهم كان لي محبا وإلي مائلا ولي مطيعا أخبروني بما يجري فأخبروني من غد أنه لما دخل وبخه وجهله وقال له أتستخف بخادمي وصنيعتي ونديمي وابن نديمي وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي وتقدم علي وتستخف بمجلسي وحضرتي هاه هاه أتقدم على هذا وأمثاله وأنت مالك وللغناء وما يدريك ما هو ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ مبلغ إسحاق الذي غذي به وعلمه وهو صناعته ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه أليس هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك ثم إظهارك إياه ولم تحكمه

وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى الجهل المفرط ألا تعلم ويلك أن هذا سوء أدب وقلة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والرد القبيح
ثم قال والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا نفي من المهدي لئن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من على دابته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به والله والله والله فلا تعرض له وأنت أعلم قم الآن فاخرج فخرج وقد كاد أن يموت
فلما كان بعد ذلك دخلت إليه وإبراهيم عنده فأعرضت عن إبراهيم وجعل ينظر إليه مرة وإلي مرة ويضحك ثم قال له إني لأعلم محبتك في إسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى والرضا لا يكون بمكروه ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقه وبره وصله فإذا فعلت ذلك ثم خالفك فيما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق ثم قال لي قم إلى مولاك وابن مولاك فقبل رأسه فقمت إليه وقام إلي وأصلح الرشيد بيننا

نسبة الصوت المذكور في هذا الخبر
صوت
( أعاذلُ قد نَهَيْتِ فما انتهيتُ ... وقد طال العتابُ فما ارعويتُ )
( أعاذل ما كبِرتُ وفِيّ مَلْهىً ... ولو أدركتُ غايتكِ انتهيت )
( شَرِبتُ مُدَامةً وسُقِيت أُخرَى ... وراح المنتشون وما انتشيت )
( أبِيتُ مُعذَّباً قَلِقاً كئيباً ... لِما ألقاه من ألم وفَوْتِ )
الغناء لابن محرز ثقيل عن ابن المكي
وفيه رمل بالوسطى

إسحاق مغني الرشيد ونديمه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أرسل إلي الرشيد ذات ليلة فدخلت إليه فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورد وسراويل موردة وقناع مورد كأنها ياقوتة على وردة فلما رآني قال لي اجلس فجلست فقال لي غن فغنيت
( تَشَكَّى الكُمَيْتُ الجريَ لما جَهَدتُه ... وبيَّن لو يَسطيعُ أن يتكلَّما )
فقال لمن هذا اللحن فقلت لي يا أمير المؤمنين فقال هات لحن ابن سريج فغنيته إياه فطرب وشرب رطلا وسقى الجارية رطلا وسقاني رطلا ثم قال غن فغنيته
صوت
( هاجَ شَوْقي بَعْدَ ما شُيِّب ... أصداغي بُرُوقُ )
( مَوْهِناً والبَرْقُ ممّا ... ذا الهوى قِدْماً يَشُوق )
فقال لمن هذا الصوت فقلت لي فقال قد كنت سمعت فيه لحنا آخر فقلت نعم لحن ابن محرز قال هاته فغنيته فطرب وشرب رطلا ثم سقى الجارية رطلا وسقاني رطلا ثم قال غن فغنيته
( أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... وإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ صرمي فأَجِملي )
فقال لي ليس هذا اللحن أريد غن رمل ابن سريج فغنيته وشرب

رطلا وسقى الجارية رطلا ثم قال حدثني فجعلت أحدثه بأحاديث القيان والمغنين طورا وأحاديث العرب وأيامها وأخبارها تارة وأنشده أشعار القدماء والمحدثين في خلال ذلك إذ دخل الفضل بن الربيع فحدثه حديث ثلاث جوار ملكهن ووصفهن بالحسن والإحسان والظرف والأدب فقال له يا عباسي هل تسخو نفسك بهن وهل لك من سلوة عنهن فقال له والله يا أمير المؤمنين إني لأسخو بهن وبنفسي فبها فداك الله ثم قام فوجه بهن إليه فغلبن على قلبه وهن سحر وضياء وخنث ذات الخال وفيهن يقول
( إنّ سِحْراً وضياءً وخُنُثْ ... هنّ سِحْرٌ وضياءٌ وخُنُثْ )
( أخذتْ سحرٌ ولا ذنبَ لها ... ثُلُثَيْ قلبي وتِرْباها الثُّلُثْ )
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال
أتيت عبيد الله بن محمد بن عائشة بالبصرة فلما دخلت إليه حصرت فقال لي إن الحصر رائد الحياء والحياء عقيد الإيمان فانبسط وأزل الوحشة فلئن باعدت بيننا الأحساب لقد قربت بيننا الآداب فقلت له والله لقد سررتني بخطابك وزدتني ببرك عجزا عن جوابك ولله در القطامي حيث يقول

( أمّا قريشٌ فلن تلقاهمُ أبداً ... وإلاّ وهم خيرُ من يَحْفَى ويَنتعِلُ )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان قال
وجه أحمد بن هشام إلى إسحاق الموصلي بزعفران رطب وكتب إليه
( اشربْ على الزعفرانِ الرَّطْبِ مُتَّكِئاً ... وانعَمْ نَعِمْتَ بطول اللَّهو والطّربِ )
( فحُرْمة الكأس بين الناس واجبةٌ ... كحرمة الوُدّ والأرحام والأدب )
قال فكتب إليه إسحاق
( أُذكر أبا جعفرٍ حقًّا أمُتّ به ... أَنِّي وإياك مَشْغوفان بالأدبِ )
( وأننا قد رضعنا الكأسَ دِرَّتَها ... والكأسُ حرمتُها أولى من النَّسب )
حدثنا الصولي قال حدثني محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال لما أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان ودعته ثم أنشدته بعد التوديع
( فِراقُك مثلُ فراق الحياةِ ... وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ )
( عليك السلامُ فكم من وفاء ... أفارق فيك وكم من كَرَمْ )
قال فضمني إليه وأمر لي بألف دينار وقال لي يا أبا محمد لو حليت هذين البيتين بصنعة وأودعتهما من يصلح من الخارجين معنا لأهديت بذلك إلي أنسا وأذكرتني بنفسك ففعلت ذلك وطرحته على بعض المغنين فكان كتابه لا يزال يرد علي ومعه ألف دينار يصلني بذلك كلما غني بهذا الصوت
قال الصولي وهو من طريقة الرمل

أخبرني عمي قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال
قال لي الأصمعي لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي هل حملت معك شيئا من كتبك فقلت نعم حملت منها ما خف حمله فقال كم فقلت ثمانية عشر صندوقا فقال هذا لما خففت فلو ثقلت كم كنت تحمل فقلت أضعافها فجعل يعجب

شعر إسحاق في المعتصم
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال
لما ولي المعتصم دخلت إليه في جملة الجلساء والشعراء فهنأه القوم نظما ونثرا وهو ينظر إلي مستنطقا فأنشدته
صوت
( لاحَ بالمَفْرِق منك القَتِيرُ ... وذَوَى غصنُ الشّبابِ النَّضِيرُ )
( هزِئتْ أسماءُ منّي وقالتْ ... أنت يابنَ الموصليّ كبير )
( ورأت شيْباً برأسي فصدّتْ ... وابنُ سِتّين بشَيْب جديرُ )
( لا يَرْوعنَّكِ شَيْبي فإنّي ... مع هذا الشّيب حُلْوٌ مَزِيرُ )
( قد يُفَلّ السيفُ وهو جُرازٌ ... ويَصُول الليثُ وهو عَقِير )
( يا بني العبّاس أنتمْ شفاءٌ ... وضياءٌ للقُلوب ونور )
( أنتُم أهل الخلافةِ فينا ... ولكم مِنبرُها والسرير )
( لا يزال المُلك فيكم مَدَى الدَّهرِ ... مُقيماً ما أقام ثَبِير )

( وأبو إسحاق خير إمامٍ ... ماله في العالمين نظير )
( ما له فيما يَرِيش ويَبْري ... غير توفيق الإِله وزير )
( واضح الغرّة للخير فيه ... حين يبدو شاهدٌ وبشير )
( زانه هَدْيُ تُقىً وجلالٌ ... وعفافٌ ووقارٌ وخِير )
( لو تُبارِي جودَه الريحُ يوماً ... نَزَعَتْ وهي طَلِيحٌ حَسير )
قال فأمر لي بجائزة فضلني بها على الجماعة
ثم دخلت إليه يوم
مقدمه من غزاته فأنشدته قولي فيه
صوت
( لأسماءَ رسمٌ عفا باللِّوَى ... أقامَ رهيناً لطول البِلى )
( تعاوَرَه الدهرُ في صَرْفه ... بكَرِّ الجديدين حتى عفا )
( إذ البينُ لم تُخْشَ رَوْعاته ... ولم يصرِفِ الحيَّ صَرْفُ الرَّدى )
( وإذ مَيْعة اللهو يجري بنا ... وحبلُ الوصال متينُ القُوى )
( فذلك دهرٌ مضى فابْكِهِ ... ومَنْ ضاق ذَرْعاً بأمرٍ بكى )
( وهل يِشْفِينَّك من غُلَّة ... بكاؤك في إثْر ما قد مضى )
( إلى ابن الرشيد إمامِ الهدى ... بعثنا المطيَّ تَجُوب الفَلاَ )
( إلى مَلِك حَلّ من هاشمٍ ... ذُؤَابةَ مجدٍ مُنيفِ الذُّرى )
( إذا قيل أيُّ فتى هاشمٍ ... وسيِّدُها كان ذاك الفتى )

( به نَعَش الله آمالَنا ... كما نَعَش الأرضَ صَوْبُ الحَيَا )
( إذا ما نوى فِعْلَ أُكْرُومةٍ ... تجاوز من جُوده ما نَوى )
( كساه الإِلهُ رداءَ الجمال ... ونورَ الجلال وهَدْيَ التقى )
قال فأمر لي بجائزة وقال لست أحسب هذا لك إلا بعد أن تقرن صناعتك فيه بالأخرى يعني أن أغني فيه وفي هزئت أسماء مني فصنعت في
( هزئت أسماء مني ... )
لحنا وفي
( لأسماء رسم عفا باللّوى ... )
لخنا آخر وغنيته بهما فأمر لي بألفي دينار

نسبة هذين الصوتين
( هزِئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يابنَ الموصليّ كبيرُ )
لحن إسحاق في أربعة أبيات متوالية من الشعر ثقيل أول بالوسطى
والآخر
( لأسماءَ رسمٌ عفا باللِّوَى ... أقام رَهِيناً لطُول البِلَى )
الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن عبيد الله ابن أبي العلاء قال غنيت يوما بين يدي الواثق لحن إسحاق في
( هَزِئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يا بنَ الموصليّ كبيرُ )
قال فنظر إلي مخارق نظر شزرا وعض شفته علي فلما خرجنا من

بين يدي الواثق قلت يا أستاذ لم نظرت إلي ذلك النظر أأنكرت علي شيئا أم أخطأت في غنائي فقال لي ويحك أتدري أي صوت غنيت إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيق وعر صعب المرتقى أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل وعن جانبه الآخر الوادي فإن مال مرتقيه عن محجته إلى جانب الوادي هوى وإن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسر صر إلي غدا حتى أصححه لك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثت من غير وجه
أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم وهو أمير فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذن أذن به على باب المعتصم فأصغى إليه فأعجبه فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن فبنى عليه لحنه
( هزئت أسماءُ منِّي وقالتْ ... )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي
أن إبراهيم بن المهدي فصد يوما فكتب إليه إسحاق يتعرف خبره ويدعو له بالسلامة وحسن العقبى وكتب إليه إني سأهدي إليك هدية للفصد حسنة فوجه إليه بديحا غلامه فغناه ه في
( هزئتْ أسماءُ منّي وقالتْ ... )
فاستحسنه إبراهيم وقال له قد قبلنا الهدية فإن كان أذن لك في طرحه على الجواري فافعل فقال له بذلك أمرني وقال لي إنك ستقول لي هذا القول فقال إن قاله لك فقل له لو لم آمرك بطرحه لم يكن هدية فضحك إبراهيم وألقاه بديح على جواريه
وقد ذكر علي بن

محمد بن نصر هذا الخبر فذكر أنه كتب إلى أبيه بهذه الهدية وهذا خطأ لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة وإبراهيم الموصلي مات في حياة الرشيد فكيف يهدي إليه هذا الصوت
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال
اندفع محمد بن الحارث بن بسخنر يوما يغني هذا الصوت فالتفت إلينا مخارق فقال خرج ابن الزانية

إسحاق يحاور علويه في مجلس الفضل بن الربيع
حدثني عمي قال حدثني أبو جعفر محمد بن الدهقانة النديم قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال
دعاني الفضل بن الربيع ودعا علويه ومخارقا وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه إلا أن حاله كانت ناقصة متضعضعة فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده فكتب إليهم لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت وأنا أصير إليكم بعد ساعة فأكلنا وجلسنا نشرب حتى قرب العصر ثم وافى إسحاق فجلس وجاء غلامه بقطرميز نبيذ فوضعه ناحية وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه وكان علويه يغني الفضل بن الربيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه وأعجبه وهو
( فإن تَعْجَبي أو تُبصري الدّهرَ طَمَّني ... بأحداثه طَمَّ المقصَّص بالجَلَمْ )

( فقد أترك الأضيافَ تَنْدَى رِحالُهم ... وأكرمهم بالمَحْض والتَّامِك السَّنِم )
ولحنه من الثقيل الثاني فقال له إسحاق أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت وأنا أصلحه لك فجن علويه واغتاظ وقامت قيامته ثم أقبل على علويه فقال له يا حبيبي ما أردت الوضع منك بما قلته لك وإنما أردت تهذيبك وتقويمك لأنك منسوب الصواب والخطأ إلى أبي وإلي فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك أحسنت وأجملت فقال له علويه والله ما هذا أردت ولا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه قد نشط للاصطباح ما حملك على الترفع عن مباكرته وخدمته مع صنائعه عندك وما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة ثم تجيئه ومعك قطرميز نبيذ ترفعا عن شرابه كما ترفعت عن طعامه ومجالسته إلا كما تشتهي وحين تنشط كما تفعل الأكفاء بل تزيد على فعل الأكفاء ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتم تنغيصك إياه لذته أما والله لو الفضل بن يحيى أو أخوه جعفر دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير بل بعض أتباعهم لبادرت وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت قال فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علويه إسحاق فقال له إسحاق أما ما ذكرته من تأخري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت له الحجة سرا من حيث لا يكون لك ولا لغيرك فيه مدخل
وأما ترفعي عنه فكيف أترفع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه وأستمنحه وأعيش من فضله مذ كنت وهذا تضريب لا أبالي به منك
وأما حملي النبيذ معي فإن لي في النبيذ شرطا من طعمه وريحه وإن لم أجده لم أقدر على الشرب وتنغص

علي يومئذ وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي
وأما طعني على ما اختاره فإني لم أطعن على اختياره وإنما أردت تقويمك ولست والله تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم ولا مقوما شيئا من خطئك وأنا أغني له أعزه الله هذا الصوت فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك أخطأت فيه وقصرت
وأما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده وإني لحقيق فيه بالمعذرة وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم وبأن أذيعه وأنشره وذلك والله أقل ما يستحقونه مني
ثم أقبل على الفضل وقد غاظه مدحه لهم فقال اسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة كما تجري بين هذه الطبقات فيشكونهم إليه فأتبين الضجر والتنكر في وجهه فاستأجرت دارا بقربه وانتقلت إليها أنا وغلماني وجواري وكانت دارا وساعة فلم أرض ما معي من الآلة لها ولا لمن يدخل إلي من أخواني أن يروا مثله عندي ففكرت في ذلك وكيف أصنع وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي صاحب داري وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي فيقال صاحب دارك أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي فأسرجه وركبت برداء ونعل فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد فتواثب غلمانه إلي وقالوا أين هذا الطريق فقلت إلى الوزير فدخلوا فاستأذنوا لي وخرج الحاجب فأمرني بالدخول وبقيت خجلا قد وقعت في أمرين فاضحين إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب وإن قلت له كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك

طريقا كان قبيحا ثم عزمت فدخلت فلما رآني تبسم وقال ما هذا الزي يا أبا محمد احتبسنا لك بالبر والفصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا فقلت لا والله يا سيدي ولكني أصدقك قال هات فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها فقال هذا حق مستو أفهذا شغل قلبك قلت أي والله وزاد فقال لا تشغل قلبك بهذا يا غلام ردوا حماره وهاتوا له خلعة فجاؤوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها ودعا بالطعام فأكلت ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء فزاد طمعي في الجائزة ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة ثم اتكأ يحيى فنام فقمت وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي إلى أين تمضي قلت إلى البيت قال قد والله بيعت دارك وأشهد على صاحبها وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك وأظنه اشترى ذلك للسلطان لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي وجئت وأنا لا أدري ما أعمل فلما نزلت على باب داري إذ أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال لي ادخل أيدك الله دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه فطابت نفسي بذلك ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها
والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي
والتوقيع الثالث إلى جعفر قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه وأمر له أخوك بدفع مائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله

والتوقيع الرابع إلى محمد قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه ونفقة ينفقها عليه وفرش يبتذله فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته
وقال الوكيل قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي ولا والله ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي أفألام على شكر هؤلاء فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضر وقالوا لا والله لا تلام على شكر هؤلاء
ثم قال الفضل بحياتي غن

الصوت
ولا تبخل على أبي الحسن بأن تقومه له فقال أفعل وغناه فتبين علويه أنه كما قال فقام فقبل رأسه وقال أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد ورده إسحاق مرات حتى استوى لعلويه
ولقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصة كانت عند علي بن هشام وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون وأبو عبد الله الهاشمي قالا
دعا علي بن هشام إسحاق الموصلي وسأله أن يصطبح عنده ويبكر فأجابه فلما كان الغد وافاه ظهرا وعنده مخارق وعلويه فقال له علي بن هشام أين كنت الساعة يا أبا محمد قال عاقني أمر لم أجد من القيام به بدا فدعا له بطعام فأصاب منه ثم قعدوا على نبيذهم وتغنى علويه صوتا الشعر فيه لابن ياسين وهو
الصوت
( إلهي مَنَحتَ الوُدّ منّي بخيلةً ... وأنت على تغيير ذاك قديرُ )

( شفاءُ الهوى بثُّ الهوى واشتكاؤُه ... وإنّ امرأً أخفى الهوى لصَبور )
الغناء لسليمان أخي أحيحة خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو فقال له إسحاق أخطأت ويلك فوضع علويه العود وشرب رطلا وشرب علي بن هشام ثم تناول العود وغنى

صوت
( ولقد أَسْمُو إلى غُرَفٍ ... في طريقٍ مُوحشٍ جُدَدُهْ )
( حوله الأحراسُ تحرُسه ... ولديه جاثماً أسَدُهْ )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو فقال له إسحاق أخطأت ويلك فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له دعاك الأمير أعزه الله لتبكر إليه فجئته ظهرا وغنيت صوتين يشتهيهما الأمير أعزه الله علي فخطأتني فيهما وزعمت أنك لا تغني بين يدي الأمير أعزه الله ولا تغني إلا بين يدي خليفة أو ولي عهد ولو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغني منذ غدوة إلى الليل فقال إسحاق إني والله ما أردت انتقاصا منك ولا أقول مثله لغيرك ولا أريد ازدراء من أحد ولكني أردت بك خاصة التقويم والتأديب فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك
ثم أقبل على علي بن هشام فقال له أعزك الله إني أحدثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره دخلت على يحيى بن خالد يوما ولم أكن أردت الدخول عليه وإنما ركبت متبذلا لهم أهمني وكنت نازلا مع أبي في داره فضقت صدرا بذلك وأحببت النقلة عنه ونظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته
وزاد فيه أنه دخل إلى يحيى بن خالد وهو مصطبح فلما رآه نعر وصفق وأنه وقع له بمائتي ألف درهم

ووقع له كل من جعفر والفضل بمائة وخمسين ألفا وكل واحد من موسى ومحمد بمائة ألف مائة ألف
وقال فيه فبكى علي بن هشام ومن حضر وقالوا لا يرى والله مثل هؤلاء أبدا وأخذ إسحاق العود فغنى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب فقام علويه فقبل رأسه وقال له أنت أستاذنا وابن أستاذنا وما بنا عن تقويمك غنى ثم غنى بعد ذلك لحنه تشكى الكميت الجري ولم يزل يغني بقية يومه كلما شرب علي بن هشام ثم انصرف فأتبعه علي ابن هشام بجائزة سنية

عبد الله بن العباس الربيعي يشهد له بتفوقه في الصنعة
حدثني الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال
أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما جلست وأطمأننت أخرج إلي خادمه رقعة فقال اقرأ ما فيها واعمل بما رسمه الأمير أعزه الله فقرأتها فإذا فيها قوله
صوت
( يرتاح للدّجْن قلبي وهو مقتسَمٌ ... بين الهموم ارتياحَ الأرض للمطرِ )
( إني جعلتُ لهذا الدَّجْن نِحْلتَه ... ألاّ يزولَ ولي في اللهو من وَطَر )
وتحت هذين البيتين تقدم جعلت فداك إلى من بحضرتك من المغنين بأن يغنوا في هذين البيتين وألق جميع ما يصنعونه على فلانة فإذا أخذته فأنفذها إلي مع رسولي فقلت السمع والطاعة لأمر الأمير أعزه الله

فهل صنع فيهما أحد قبلي فقال نعم إسحاق الموصلي فقلت والله لو كلف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه ما قدر على ذلك ولا بلغ مبلغه فضحك حتى استلقى وقال صدقت والله وهكذا يقول من يعقل لا كما يقول هؤلاء الحمقى ولكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر فقلت أفعل وقد برئت من العهدة فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت والله عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرادين
حدثني جحظة قال حدثني ميمون قال حدثني إسحاق الموصلي قال
قال لي المعتصم أو قال لي الواثق لقد ضحك الشيب في عارضيك فقلت نعم يا سيدي وبكيت ثم قلت أبياتا في الوقت وغنيت فيها
( تولَّى شبابُك إلا قليلاَ ... وحَلّ المَشيب فصبراً جميلاَ )
( كفى حَزَناً بِفراق الصِّبَا ... وإن أصبح الشيبُ منه بَدِيلاَ )
( ولمّا رأى الغانياتُ المَشِيب ... َ أغضَيْنَ دونك طَرْفاً كَلِيلاَ )
( سأندُب عهداً مضى للصِّبا ... وأبكي الشبابَ بكاء طويلاَ )
فبكى الواثق وحزن وقال والله لو قدرت على رد شبابك لفعلت بشطر ملكي فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني حمدون ابن إسماعيل قال لما صنع أبوك لحنه في
( قِفْ بالديار التي عَفَا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )
رأيتهم يعني المغنين يأخذونه عنه ويجهدون فيه فتوفي والله وما أخذوا منه إلا رسمه

نسبة هذا الصوت
صوت
( قِفْ بالديار التي عَفَا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )
( لمّا وقفْتا بها نسائِلُها ... فاضت من القوم أعينٌ سُجُمُ )
( ذِكْراً لعيشٍ إذا ذكروا ... ما فات منه فإنه سَقَمُ )
( وكل عيش دامت غَضَارتُه ... منقطِعٌ مرّةً ومنصَرِمُ )
الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى من جميع أغانيه
حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني هارون اليتيم قال حدثني عجيف ابن عنبسة قال
كنت عند أمير المؤمنين المعتصم وعنده إسحاق الموصلي فغناه
( قُلْ لمن صَدّ عاتبَا ... ونأى عنكَ جانبَا )
فأمره بإعادته فأعاده ثلاثا وشرب عليه ثلاثا فقال له إبراهيم بن المهدي قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين أفنأخذه قال نعم خذوه فقد أعجبني فاجتمع جماعة المغنين مخارق وعلويه وعمرو ابن بانة وغيرهم فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه فقال عجيف فعددت خمسين مرة قد أعاده فيها عليهم وهم يظنون أنهم قد أخذوه ولم يكونوا أخذوه
قال هارون فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد ابن الحارث بن بسخنر فقال له عجيف يا أبا جعفر كنت أحدث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت وأني عددت خمسين مرة فقال محمد إي والله أصلحك الله ولقد عددت أنا أكثر من سبعين مرة وما في القوم أحد إلا وهو يظن أنه قد أخذه والله ما أخذه أحد منهم وأنا أولهم ما قدرت علم الله على أخذه على الصحة وأنا أسرعهم أخذا فلا

أدري ألكثرة زوائده فيه أم لشدة صعوبته ومن يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء
قال أبو أيوب وحدثني حماد عن أبيه قال
كنت يوما عند المعتصم فمر شعر على هذا الوزن فقال وددت أنه على غير ما هو فقلت له أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر
صوت
( قُلْ لمن صدّ عاتبَا ... ونأى عنك جانبَا )
( قد بلغتَ الذي أردت ... وإن كنت لاعبا )
فأعجبه وقال لي قد والله أحسنت وأمر لي بألفي دينار ووالله ما كانت قيمتهما عندي دانقين
الشعر والغناء في هذين البيتين لإسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى

الأمين يغضب عليه فيتشفع إليه بالفضل
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن إسحاق قال
غضب علي المخلوع فأقصاني وجفاني فاشتد ذلك علي قال

وجفاني وهو يومئذ بالأنبار فحملت عليه بالفضل بن الربيع فطلب إليه فشفعه المخلوع ودعاني وهو مصطبح فلم أزل متوقفا وقد لبست قباء وخفا أحمر واعتصبت بعصابة صفراء وشددت وسطي بشقة حمراء من حرير فلما أخذوا في الأهزاج دخلت وفي يدي صفاقتان وأنا أتغنى

صوت
( اسمع لصوتٍ طَريبٍ ... من صَنْعةِ الأنْبارِي )
( صوتٍ مليح خفيف ... يطير في الأوْتار )
الشعر والغناء لإسحاق هزج بالبنصر فسر بذلك محمد وكان صوتهم في يومهم ذلك وأمر لي بثلثمائة ألف درهم
وأخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي أن إسحاق حدثه بهذا الخبر وذكر مثل ما ذكره يحيى وزاد فيه قال وكان سبب تسمية محمد لي ب الأنباري أني دخلت عليه يوما وقد لثت عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن فقال لي يا إسحاق كأن عمامتك من عمائم أهل الأنبار
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي
قال إسحاق قلت في ليلة من الليالي

صوت
( هل إلى نظرةٍ إليكِ سبيلُ ... يُرْوَ منها الصَّدَى ويُشْفَى الغليلُ )
( إنْ ما قلّ منك يكثُر عندي ... وكثيرٌ ممن تحبّ القليلُ )
قال فلما أصبحت أنشدتهما الأصمعي فقال هذا الديباج الخسرواني هذا الوشي الإسكندراني لمن هذا فقلت له إنه ابن ليلته فتبينت الحسد في وجهه وقال أفسدته أفسدته أما إن التوليد فيه لبين
في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني إسحاق بهذا الخبر فذكر مثل ما ذكره من قدمت الرواية عنه وزاد فيه فقال لي علي بن يحيى بعقب هذا الخبر كان إسحاق يعجب بهذا المعنى ويكرره في شعره ويرى أنه ما سبق إليه فمن ذلك قوله
صوت
( أيّها الظّبيُ الغَريرُ ... هل لنا منك مُجِيرُ )
( إنّ ما نَوّلتني منك ... َ وإنْ قلَّ كثير )
لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى فقلت إنك قد سبقت إلى هذا المعنى فقال ما علمت أن أحدا سبقني إليه فأنشدته لأعرابي من بني عقيل
( قِفي وَدِّعينا يا مليح بنظرةٍ ... فقد حان مّنا يا مليح رحيلُ )
( أليس قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها ... إليكِ وكَلا ليس منك قليل )

( عُقَيْلِيّةٌ أمّا مَلاثُ إزارها ... فوَعْثٌ وأما خَصْرها فضئيل )
صوت
( أيا جنّةَ الدنيا ويا غايةَ المُنى ... ويا سُؤْلَ نفسي هل إليك سبيلُ )
( أراجعةٌ نفِسي إليّ فأغتدِي ... مع الرَّكْب لم يُقْتل عليِك قتيل )
( فما كلَّ يومٍ لي بأرضك حاجةٌ ... ولا كلَّ يومٍ لي إليكِ رسول )
قال فحلف أنه ما سمع بذلك قط
قال علي بن يحيى وصدق ما سمع بها
الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيلي

إبراهيم بن المهدي يعاتب إسحاق
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري بمكة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال
عاتبني إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء إليه فقال لي من جمع لك مع المودة الصادقة رأيا حازما فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة فقلت له جعلني الله فداك إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع والله يعلم أن قلبي لك شاكر ولساني بالثناء عليك ناثر وما يظهر الود المستقيم إلا من القلب السليم قال فأبرئ ساحتك عندي بكثرة مجيئك إلي فقلت أجعل مجيئي إليك في الليل والنهار نوبا أتيقظ لها كتيقظي للصلوات الخمس وأكون بعد ذلك مقصرا فضحك وقال من يقدر على جواب المغنين فقلت من اتخذ الغناء لنفسه ولم يتخذه لغيره فضحك أيضا وأمر لي بخلع ودنانير وبرذون وخادم
وبلغ الخبر المعتصم فضاعف لإبراهيم ما أعطاني فرحت وقد ربحت وأربحت

حدثنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال
عتب علي الفضل بن الربيع في شيء بلغه عني فكتبت إليه إن لكل ذنب عفوا وعقوبة فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر وكسره لا يجبر فإن كنت لا بد معاقبي فإعراض لا يؤدي إلى مقت
حدثني الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال
كان يختلف إلي رجل من الأعراب وكان الفضل بن الربيع يقربه ويستظرف كلامه وكان عندي يوما وجاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه فقال له الفضل فيم كنتم قال كنا في قدر تفور وكأس تدور وغناء يصور وحديث لا يحور

إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب
حدثنا الحرمي قال حدثنا الحسين بن طالب قال
كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب وينشده للأعراب وكان يعايي بذلك أصحابه ويغرب عليهم به فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابي
( لفَظ الخدورُ عليك حُوراً عِينَا ... أنسَيْن ما جمع الكِناسُ قَطِينَا )
( فإذا بَسَمْنَ فعَنْ كمثل غَمامةٍ ... أو أُقْحُوان الرمل بات مَعِينا )
( وأصحُّ من رأتِ العيونُ محاجراً ... ولهنّ أمرضُ ما رأيت عيونا )

( وكأنما تلك الوجوهُ أهِلّةٌ ... أَقْمَرْنَ بين العشْر والعشرينا )
( وكأنهنّ إذا نَهَضْنَ لحاجةٍ ... ينهضن بالعَقدَاتِ من يَبْرِينَا )
قال وأنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب وهو له
( ومكحولة العينيْن من غير ما كُحْلِ ... مُهَفْهَفَة الكَشْحَيْن ذات شَوىً خَدْلِ )
( مُنَعَّمَة الأطراف مُفْعَمة البُرَى ... روادفُها تَحكِي الدَّهاس من الرملِ )
( صَيُود لألباب الرجال متى رنتْ ... إلى ذي نُهىً جَلْد القُوَى وافرِ العقلِ )
( تخلّى النُّهى عنه وحالفه الصِّبا ... وأسلمه الرأيُ الأصيل إلى الجهلِ )
( شبيبة كُثْبانٍ يَرُوقك تحتها ... عناقيدُ كرم جادَها غَدَق الوَبْلِ )
( رمتْني فحلّت نائطيَّ ولم تُصِب ... لها نائَطيْ قلبٍ ولا مَقتلاً نَبْلي )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال
دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيناه لقس النفس فأنشده إسحاق يقول

صوت
( وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها اقْصُرِي ... فذلِكِ شيءٌ ما إليه سبيلُ )
( أرى الناس خُلاّنَ الكرامِ ولا أرى ... بخَيلاً له حتّى المماتِ خليل )

( وإني رأيتُ البُخل يُزْرِي بأهله ... فأكرمتُ نفسي أنْ يُقال بخيل )
( ومن خير حالات الفتى لو علمتِه ... إذا نال خيراً أن يكون يُنِيل )
( فعالي فعالُ المُكْثِرِين تجمُّلاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل )
( وكيف أخافُ الفقر أو أُحرَمُ الغِنَى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميل )
قال فقال الرشيد لا تخف إن شاء الله ثم قال لله در أبيات تأتينا بها ما أشد أصولها وأحسن فصولها وأقل فضولها وأمر له بخمسين ألف درهم فقال له إسحاق وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه فعلام آخذ الجائزة فضحك الرشيد وقال اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم
قال الأصمعي فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني
وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعي والألفاظ تختلف
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني به جعفر بن قدامة ووكيع عن حماد عن أبيه قال
كنت عند الفضل بن الربيع يوما فدخل إليه ابن ابنه عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عيناه فأنشأت أقول
صوت
( مَدّ لك الله الحياةَ مَدَّا ... حتى يكون ابنُك هذا جَدَّا )
( مؤزَّراً بمجده مُردَّى ... ثم يُفدَّى مثلَ ما تُفَدَّى )
( أشبه منك سُنّة وخَدَّا ... وشِيَماً مَرْضيّة ومجدا )

( كأنه أنت إذا تَبدَّى ... شمائلاً محمودةً وقَدّا )
قال فتبسم الفضل وقال أمتعني الله بك يا أبا محمد فقد عوضت من الحزن سرورا وتسليت بقولك وكذلك يكون إن شاء الله
قال جعفر بن قدامة وحدثني بهذا الحديث علي بن يحيى فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى وقد دخل عليه وفي حجره ابن له
غنى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكل لحنا من الرمل يقال إنه صنعه وقد ولد للمعتمد ولد ثم غنى به
وأخبرني ذكاء وجه الرزة عن بدعة الكبيرة أن الرمل لعريب وأن لحن أبي عيسى خفيف رمل
حدثني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال
أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا وجاءه بنو هاشم يعودونه فقلت في مجلسي ذلك
( إذا ما أبو العباس عِيدَ ولم يَعُد ... رأيتَ مَعُوداً أكرمَ الناسِ عائدَا )
( وجاء بنو العباس يبتدرونه ... مِراضاً لما يشكوه مَثْنَى وواحدا )
( يُفَدُّونه عند السلامِ وكلُّهم ... مُجِلُّ له يدعوه عَمًّا ووالدا )
قال وكان الفضل مضطجعا فأمر خادما له فأجلسه ثم قال لي أعد يا أبا محمد فأعدت فأمرني فكتبتها وسر بها وجعل يرددها حتى حفظها

إسحاق يسترضي الفضل بن الربيع بشعر
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق وأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال
جاءني الزبير بن دحمان يوما مسلما فاحتبسته فقال لي أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه فقلت له
( أقِمْ يا أبا العوّام وَيْحَك نَشْرَبِ ... ونَلْهُ مع اللاّهين يوماً ونَطْرَبِ )
( إذا ما رأيتَ اليومَ قد جاء خيرُه ... فخُذْه بشكرٍ واتركِ الفضلَ يغضَبِ )
فأقام عندي وسررنا يومنا ثم صار إلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه الحديث وأنشده البيتين فغضب وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه بألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة فقلت
( حرامٌ عليّ الكأسُ ما دُمتَ غضبانَا ... وما لم يَعُد عنّي رضاك كما كانَا )
( فأحسِنْ فإني قد أسأتُ ولم تَزْلَ ... تُعوّدني عند الإساءة إحسانا )
قال وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه
وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه فذكر مثله وزاد فيه فقلت في عون حاجبه
( عَوْنُ يا عونُ ليس مثلكَ عونُ ... أنت لي عُدّةٌ إذا كان كَوْنُ )
( لك عندي والله إن رَضِي الفضل ... غلامٌ يُرضيك أو بِرْذَوْنُ )
قال فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا فقرأهما وضحك وقال ويحك إنما عرض لك بقوله غلام يرضيك بالسوءة قال قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني

أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال حدثني أبي قال حدثني الزبير بن دحمان قال
دخلت يوما على الفضل بن الربيع مسلما فقال لي قد عزمت غدا على الصبوح فصر إلي بكرة فكنت أنا والصبح كفرسي رهان فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه فلما جلست قال لي أقم اليوم عندي فعرفته خبري فقال
( أقِم يا أبا العَوّام وَيْحَك نشربِ ... ونَلْهُ مع اللاّهين يوماً ونطربِ )
( إذا ما رأيتَ اليوم قد جاء خيرُه ... فخذه بشكرِ واترُكِ الفضل يغضبِ )
فقلت إني لا آمن غضبه وأنا بين يديك فقال لي أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وقت غبوق الناس فأقم وارفق بنفسك ثم امض إليه فأجبته إلى ذلك فلما شربنا طاب لي الموضع فأقمت حتى سكرت
وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق
انتهى
حدثني جحظة قال حدثني محمد بن المكي المرتجل قال قلت لزرزور الكبير كيف كان إسحاق ينفق على الخلفاء معكم وأنت وإبراهيم ابن المهدي ومخارق أطيب أصواتا وأحسن نغمة قال كنا والله يا بني نحضر معه فنجتهد في الغناء ونقيم الوهج فيه ويقبل علينا الخلفاء حتى نطمع فيه ونظن أنا قد غلبناه فإذا غنى عمل في غنائه أشياء من مداراته وحذقه ولطفه حتى يسقطنا كلنا ويقبل عليه الخليفة دوننا ويجيزه دوننا ويصغي إليه ونرى أنفسنا اضطرارا دونه

إسحاق أول من أحدث التخنيث في الغناء
حدثنا جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال
كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا ويفضلهم ويتقدمهم
قال وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب وكان في حلقة نبو عن الوتر
اخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا أبو العبيس بن حمدون أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء ولم يكن يعرف وإنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع
أخبرنا جحظة قال حدثني الهشامي عن أبيه قال
كان المغنون إذا حضروا وليس إسحاق معهم غنوا هوينى وهم غير مفكرين فإذا حضر إسحاق لم يكن إلا الجد
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني إسحاق الموصلي قال
قال لي أبي وقد انصرف من دار الرشيد رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك ويقول لست أراه ولا يغشاني فقلت إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه ويصرفني نافذ حاجبه ويقول هو على شغل قال فبلعه أبي ذلك فقال له قل له أنكه أمه إذا فعل فأقمت أياما ثم كتبت إليه
( جُعِلتُ فداءكَ من كل سوءٍ ... إلى حُسْن رأيك أشكو أُنَاسَا )
( يَحُولون بيني وبين السلام ... فلستُ أُسلِّم إلاّ اختلاسا )
( وأنفذتُ أمرك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلاّ شِماسا )

وقد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه فذكر مثله وقال كان خادم يحجبه يقال له نافذ فقال إذا حجبك فنكه فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني فلما دخلت إليه أحضر نافذا وقرأ الأبيات عليه وقال لي أفعلتها يا عدو الله فغضب نافذ حتى كاد يبكي وجعل جعفر يضحك ويصفق ثم ما عاد بعد ذلك يتعرض لي
حدثني الحسين بن أبي طالب قال حدثني عبيد الله بن المأمون وأخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبيه قال
غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم ثم كلم فيه فرضي عنه ودعا به فلما وقف بين يديه اعتذر وقبل الأرض بين يديه واستقاله فأجابه المأمون جوابا جميلا ثم قال له في أثناء كلامه
( فلا أنتَ أعتبتَ من زَلّة ... ولا أنتَ بالغتَ في المَعْذِرهْ )
( ولا أنتَ ولّيتني أمرَها ... فأغفِر ذنبك عن مَقْدِرهْ )
هكذا في الخبر وأظنه إسحاق بن إبراهيم الطاهري لا الموصلي
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أبي طالب قال حدثني إسحاق قال
أنشدت أبا الأشعث الأعرابي شعرا لي فقال والذي أصوم له مخافته ورجاءه إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه ولو كان شباب يشترى لأشتريته لك ولو بإحدى يدي وإن في كبرك لما زان الجليس وسره
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثنا إسحاق قال
قالت لي زهراء الكلابية ما فعل عبد الله بن خرداذبه فقلت مات فقالت

غير ذميم ولا لئيم غفر الله لصداه لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك
قال فقلت لزهراء حدثيني عن قول الشاعر
( أحِبُّك أنْ أُخْبِرتُ أنّكِ فاركٌ ... لزوجك إني مُولَعٌ بالفَوَارِكِ )
ما أعجبه من بغضها لزوجها فقالت عرفته أن في نفسها فضلة من جمال وشمخا بأنفها وأبهة فأعجبته

إسحاق يغني المعتصم
...
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن غير واحد
أن إسحاق الموصلي دخل على المعتصم يوما من الأيام فرآه لقس النفس فقال له أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم وحسنه فقال المعتصم ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد ولا أنشط له فقال يا أمير المؤمنين إنه يوم أكل وشرب فاشرب حتى أنشطك قال أو تفعل قال نعم قال يا غلمان قدموا الطعام والشراب ومدوا الستارة وأحضروا الندماء والمغنين فأتي بالطعام فأكل و بالشراب فشرب وحضر الندماء والمغنون فغناه إسحاق
صوت
( سُقِيتَ الغيثَ يا قصرَ السلامِ ... فنِعْم محَلّهُ المَلك الهُمَامِ )

( لقد نَشَر الإِله عليك نُوراً ... وخصّك بالسَّلامة والسلام )
الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وذكر حبش أن فيه للزبير بن دحمان لحنا من الرمل بالوسطى قال فطرب المعتصم وشرب شربا كثيرا ولم يبق أحد بحضرته إلا وصله وخلع عليه وحمله وفضل إسحاق في ذلك أجمع
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن إسحاق قال
أول جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أول يوم دخلت إليه فغنيته
( عَلق القلبُ بِزَوْعا ... )
فاستحسنه واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أرطال وأمر لي بألف دينار فكان أول جائزة أجازنيها
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال
كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر وجاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه ورآه إسحاق فقال له لم لا تشرب فكتب إليه أبي
( اِصْبَحْ نديمَك أقداحاً يُسَلْسِلُها ... من الشَّمُول وأتْبِعْها بأقداحِ )
( من كفِّ رِيمٍ مَليح الدَّلِّ رِيقُته ... بعد الهُجُوع كمِسْك أو كتُفّاح )

( لا أشرب الرَّاح إلا من يديْ رَشأ ٍ ... تقبيلُ راحتِه أشهى من الرّاح )
فضحك وقال صدقت والله ثم دعا بوصيفة كأنها صورة تامة الحسن لطيفة الخصر في زي غلام عليها أقبية ومنطقة فقال لها تولي سقي أبي محمد فما زالت تسقيه حتى سكر ثم أمر بتوجيهها وكل ما لها في داره إليه فحملت معه

إسحاق وزهراء الكلابية
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال
كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده وكانت تميل إليه وتكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل قال فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه تقول
( وَجْدِي بجُمْل على أنِّي أُجَمْجِمُه ... وجدُ السَّقيم بِبُرءٍ بعد إدْنافِ )
( أو وجدُ ثَكْلَى أصاب الموتُ واحدَها ... أو وجدُ مُغتربٍ من بين أُلاّف )
قال فأجبتها
( أقْرِ السلامَ على الزَّهْراء إذ شَحَطَتْ ... وقُلْ لها قد أذَقْتِ القلبَ ما خافَا )
( أمَا رَثَيْتِ لمن خلّفتِ مكتئباً ... يُذْرِي مدامعَه سَحًّا وتَوْكافا )
( فما وَجَدْتُ على إلفٍ أُفَارقُه ... وجْدِي عليك وقد فارقتُ أُلاّفا )

أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال أنشدني إسحاق لنفسه
( سقَى اللهُ يوم المَاوَشانِ ومَجْلِساً ... به كان أَحْلَى عندنا من جَنَى النَّحلِ )
( غَداةَ اجتنينا اللّهوَ غَضاً ولم نُبَلْ ... حِجَابَ أبي نصر ولا غَضْبةَ الفضلِ )
( غَدَوْنا صِحاحا ثم رَحْنا كأنَنا ... أطاف بنا شرٌّ شديدٌ من الخَبلِ )
فسألته أن يكتبها ففعل فقلت له ما حديث الماوشان فضحك وقال لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك ولم يخبرني

ابن الأعرابي يعجب بإسحاق وبشعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث وأبو مسلم عن ابن الأعرابي
أنه كان يصف إسحاق الموصلي ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه ويستحسن قوله
صوت
( هل إلى أن تنام عيني سبيلُ ... إنّ عهدي بالنوم عهد طويلُ )

ذلك فقلت هذا ومائة بعده خير منه لهم فقال اصنع في شعر الأخطل
( أعاذِلتيّ اليومَ وَيْحَكما مَهْلاَ ... وكُفّا الأذَى عنّي ولا تُكثِرا العَذْلاَ )
فصنعت فيه كما أمرني فلما سمعوا بذلك وما جاء بعده أذعنوا وزال عن قلب الرشيد ما كان ظنه بي
وقد ذكر غير حماد أن اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله
( كنت صبًّا وقلبيَ اليومَ سالِ ... عن حبيبٍ يُسيء في كل حال )
وذكر أن الفضل بن الربيع قال الشعر في ذلك الوقت ودفعه إليه وأمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل
وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال
أول ما سمعه الرشيد من غناء أبي
( ألم تسألْ فتُخبرَك المَغَاني ... وكيف وهنّ مُذْحِجَج ثماني )
( بَرِئتُ من المنازل غيرَ شوق ... إلى الدار التي بِلوَى أَبان )
( ديارٌ للّتي لَجْلَجْتُ فيها ... ولو أعْرَبتُ لَجَّ بها لساني )
( فكادَ يَظَلّ للعينين غربٌ ... برَبْعَيْ دِمنةٍ لا يَنْطِقان )
قال فحدثني أبي أن المغنين قالوا للرشيد هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته فقلت له أنا أدع لهم هذا ومائة صوت بعده ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا

نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
صوت
( قِفْ نُحَيِّ المَغَانِيَا ... والطُّلولَ البَواليَا )
( وعلى أهلها فنُحْ ... وابكِ إن كنتَ باكيا )
الشعر لابن ياسين
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى
صوت
( أمن آلِ ليلَى عَرفْتَ الطُّلولاَ ... بذي حُرُضٍ مائلات مُثولاَ )
( بَلِين وتحسَبُ آياتهنَّ ... عن فَرْط حوليْن رَقًّا مُحِيلا )
الشعر لكعب بن زهير
والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر
صوت
( أعاذِلتيَّ اليومَ وَيْحَكما مَهْلاَ ... وكُفّا الأذى عنِّي ولا تُكْثرا العَذْلا )
( دعاني تَجُدْ كفّي بمالي فإنني ... سأُصبح لا أَسْطِيع جُودا ولا بُخْلا )
( إذا وضعوا فوق الصَّفيح جنادلاً ... عليّ وخلَّفتُ المَطِيةَ والرَّحلا )
( فلا أنا مجتازٌ إذا ما نزلتُه ... ولا أنا لاق ما ثَوَيْتُ به أهلا )
الشعر للأخطل والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى
صوت
( إنّي لأَكْنِي بأجبال عَنَ اجْبُلِها ... وباسم أوديةٍ عن اسم واديها )
( عَمْداً ليَحْسَبها الواشون غانيةً ... أخرى وتحسَب أنّي لا أُباليها )
( ولا يُغَيّر وُدّي أن أهاجرَها ... ولا فراقُ نَوًى في الدار أنْويها )

( وللقَلُوصِ ولِي منها إذا بَعُدتْ ... بوارحُ الشَّوق تُنْضَيني وأَنضِيها )
الشعر لأعرابي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال
قال إسحاق للواثق يوما الأهزاج من أملح الغناء فقال الواثق أما إذا كانت مثل صوتك
( إنّي لأَكني بأَجْبال عَنَ اجْبُلِها ... وباسم أوديةٍ عن اسم واديها )
فهي كذلك

إسحاق يغني لطلحة بن طاهر
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أحمد بن يحيى الرازي عن محمد ابن المثنى عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم قال
قال إسحاق بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة للشراة وقد أصابته ضربة في وجهه فقال لي الغلام أجب فقلت وما

يعمل قال يشرب فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته وتقلنس بقلنسوة فقلت له سبحان الله أيها الأمير ما حملك على لبس هذا قال التبرم بغيره ثم قال غن
( إنّي لأَكْني بأَجْبال عن اجْبُلها ... )
قال فغنيته إياه فقال أحسنت والله أعد فأعدت وهو يشرب حتى صلى العتمة وأنا أغنيه فأقبل على خادم له بالحضرة وقال له كم عندك قال مقدار سبعين ألف درهم قال تحمل معه
فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألونني فوزعت المال بينهم فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثا فجلست ليلا وتناولت الدواة والقرطاس فقلت
( علَّمني جُودُك السّماحَ فما ... أبقيتُ شيئاً لديّ من صِلَتِكْ )
( لم أُبق شيئاً إلاّ سمحتُ به ... كأنّ لي قُدرةً كمقدرتك )
( تُتِلف في اليوم بالهباتِ وفي السّاعة ما تجتنيه في سَنتك )
( فلستُ أدري من أين تُنفق لو ... لا أنّ ربّي يَجزي على صِلتك )
فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي فصرت إليه ودخلت عليه فسلمت فرفع بصره إلي وقال اسقوه رطلا فسقيته وأمر لي بآخر وآخر فشربت ثلاثا ثم قال لي غن
( إني لأكني بأجبال عن اجبلها ... )
فغنيته ثم أتبعته بالأبيات التي قلتها وقد كنت غنيت فيها لحنا في طريقة الصوت فقال ادن فدنوت وقال اجلس فجلست فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته
فلما فهمه وعرف معنى الشعر قال لخادم له أحضرني فلانا فأحضره فقال كم قبلك من مال الضياع قال ثمانمائة

ألف درهم فقال احضر بها الساعة فجيء بثمانين بدرة فقال للخادم جئني بثمانين غلاما مملوكا فأحضروا فقال احملوا هذا المال ثم قال يا أبا محمد خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا

إسحاق ومحمد بن راشد
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال
كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب والحضور لسمره وكان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له ويسني جوائزه ويواتر صلاته ويشاوره في بعض أموره ويسمع منه فأصيب إسحاق ببصره قبل موته بسنتين فترك زيارة إسحاق وغيره ممن كان يغشاهم ولزم بيته
وخرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربل وخرج معه ندماؤه وفيهم موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة ومحمد بن راشد الخناق والحراني فجرى ذكر إسحاق الموصلي فتوجع له إسحاق وذكر أنسه به وتمنى حضوره وذكره القوم فأطنبوا في نشر محاسنه وشيعوا ما ذكره به

إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده وذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه وزجره إسحاق فأمسك عنه فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصلي ما كان فيه القوم في يومهم وما جرى من ذكره فكتب إلى موسى بن صالح
( أَلا قُلْ لموسَى الخيرِ موسى بنِ صالح ... ومَنْ هو دون الخَلْق إلْفِي وخُلْصَانِي )
( ومَنْ لو سألت الناس عنه لأَجمعوا ... على أنّه أفتى مَعَدٍّ وقَحْطان )
( لعَمْرِي لئن كان الأميرُ تمنّاني ... بمجلس لذّاتٍ ونُزْهةِ بُستان )
( لقد زادني ما كان منه صَبَابةً ... وجَدّدَ لي شوقاً إليه وأبكاني )
( وما زال ممتنًّا عليّ يَخُصّني ... بما لستُ أُحصِي من أيادٍ وإحسان )
( هو السيّد القَرْم الذي ما يُرَى له ... من النّاس إن حصَّلته أبداً ثاني )
( نَمَتْه رَوَابي مُصْعَب وبَنَى له ... كريمُ المساعي في أَرُومته باني )
( يَعِزّ عليّ أن تفوزوا بقُربه ... ولستُ إليه بالقريب ولا الدّاني )
( فيا ليتَ شعري هل أَرُوحنّ مَرّةً ... إليه فيلقاني كما كان يلقاني )
( وهل أرَيَنْ يوماً غَضَارة مُلْكه ... وسلطانه لا زال في عزِّ سلطان )
( وهل أسمَعْنَ ذاك المُزاحَ الذي به ... إذا جئتُه سلَّيتُ همّي وأحزاني )
( إذا قال لي يا مَرْدَ مَيْ خَرْ وكَرّها ... عليّ وكنّاني مُزاحاً بصَفْوان )
هذا كلام بالفارسية تفسيره يا رجل اشرب النبيذ
( فيا لكَ من مَلْهىً أنيقٍ ومجلسٍ ... كريمٍ ومن مَزْح كثيرٍ بألوانِ )
( وهل يَغْمِزَنْ بي ذو الهَنَاتِ ابنُ راشد ... وذاك الكريمُ الجدِّ من آل حَرّان )
( وهل أَرَيَنْ موسى الكريم ابنَ صالح ... يُنازعني صوتاً إذا هو غنّاني )

يريد الغناء في
( فلم أرَ كالتّجمير مَنْظَرَ ناظرٍ ... ولا كليالي النَّفْرِ أَفْتَنَّ ذا هوى )
( إذا صاح بالتجمير ثم أعاده ... بتحقيق إعراب صحيح وتِبْيان )
( أولئك إخواني الذين أُحِبّهم ... وأُوثرهم بالودّ من بين إخواني )
( وما منهمُ إلاّ كريمٌ مهذّبٌ ... حبيبٌ إلى إخوانه غيرُ خَوّان )
فأجابه محمد بن راشد
( بعثتَ بشعر فيه أنّ رسالةً ... أتتك لموسى عن جماعة إخوانِ )
( بشوق وذكرٍ للجميل ولم يكن ... لموسى لعَمْري في سَلامته ثاني )
( ولكن نَطَقْنا بالذي أنت أهلُه ... وما تستحقّ من صديقٍ ونَدْمان )
( وموسى كريمٌ لم يُحِطْ بك خُبْره ... كخُبْرِ نَدَامَى قد بلَوْكَ وإخوانِ )
( ولو قد بلاك قال فيك كقول مَنْ ... فسَدْتَ عليه من خليل وخُلْصان )
( ولم يَعْرُه شوقٌ إليك ولم يَجِدْ ... لِفَقْدك مَسًّا عند نُزهة بستان )
( حَمدتَ النَّدامى كلَّهم غيرَ إنسان ... أَلاَ إنما يَجْنِي على نفسه الجاني )
( فلا تَعْتُبِ الإِخوانَ من بعدها فما ... تَنَقّصُ إخوانِ المودّة من شاني )
قال فأجابه إسحاق

( عجبتُ لمخذولٍ تَعرّض جانياً ... لِلّيْثٍ أبي شِبْلينِ من أسْدِ خَفّانِ )
( أتانا بشعر قاله مثلِ وجهه ... تَزَخْرَفَ فيه واستعان بأعوان )
( فجاء بألفاظ ضِعافٍ سخيفةٍ ... ومَضَّغها تمضيغَ أهوجَ سكران )
( دَعُوا الشعر للشيخ الذي تعرفونه ... وإلاّ وُسِمتم أو رُميتم بشُهبان )
( فإنكمُ والشعرَ إذ تدّعونه ... كمُعتسِفٍ في ظلمة الليل حَيْران )
( صَهٍ لا تعودوا للجواب فإنما ... ترومون صَعْباً من شماريخ ثَهْلان )
( أنا الأسَد الوَرْد الذي لا يِفُلّه ... تظاهُرُ أعداءٍ عليه وأقران )
( ومن قد أردتم جاهدين سِقَاطَه ... فأعياكُم في كلّ سرٍّ وإعلان )
( لَعَمْرِي لئن قلتم بما أنا أهلُه ... ليستنفدنّ القولَ تعظيمُكم شاني )
( وجَحْدُكمُ إيايَ ما تعلمونه ... وإقرارُكم عندي بذلك سيّان )
( ألاَ يزجُرُ الجُهّالَ عنّا أميرُنا ... وموسى وذاك الشيخُ من آل حَرّان )
( ولا سيّما مَنْ بان للناس شرُّه ... فما يَتَمارى في مذاهبه اثنان )

محمد بن عمر الجرجاني يثني عليه
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال
قال لي محمد بن عمر الجرجاني وقد تذاكرنا إسحاق يوما بحضرته ما

تذكرون من إسحاق شيئا تقاربون به وصفه
كان والله إسحاق غرة في زمانه وواحدا في دهره علما وفقها وأدبا ووقارا ووفاء وجودة رأي وصحة مودة
كان والله يخرس الناطق إذا نطق ويحير السامع إذا تحدث لا يمل جليسه مجلسه ولا تمج الآذان حديثه ولا تنبو النفوس عن مطاولته
إن حدثك ألهاك وإن ناظرك أفادك وإن غناك أطربك
وما كنت ترى خصلة من الأدب ولا جنسا من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته ومباراته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال
أمر المأمون يوما بالفرش الصيفي أن يخرج فأخرج فيما أخرج منه بساط طبري أو أصبهبذاني مكتوب في حواشيه

صوت
( لَجّ بالعين واكِفْ ... مِن هَوىً لا يُساعِفُ )
( كلّما جَفّ دمعُه ... هيّجتْه المعازِف )
( إنما الموتُ أن تفارق ... َ مَنْ أنت آلِفُ )
( لك حُبّان في الفؤاد ... تَليدٌ وطارِف )
قال فاستحسن المأمون هذه الأبيات وبعث إلى إسحاق فأحضره وأمره إن يصنع فيها لحنا ويعجل به فصنع فيها الهزج الذي يغنى به اليوم

قال أحمد وسمعها أبي منه فقال لو كان هذا الهزج لحكم الوادي لكان قد أحسن
يريد أن حكما كان صاحب الأهزاج

يحيى المكي يعجب به ويثني عليه
أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني ابن المكي قال
تذاكرنا يوما عند أبي صنعة إسحاق وقد كنا بالأمس عند المأمون فغناه إسحاق لحنا صنعه في شعر ابن ياسين
صوت
( الطُّلول الدَّوارِسُ ... فارقتْها الأَوَانِسُ )
( أَوْحشت بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )
الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر قال فقال أبي لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى الطلول الدوارس كلمتان وفارقتها الأوانس كلمتان وقد غنى فيهما استهلالا وبسيطا وصاح وسجع ورجع النغمة واستوفى ذلك كله في أربع كلمات وأتى بالباقي مثله فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه
ثم قال إسحاق والله في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومعبد ولو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله واعترفوا له به
وأخبرني عمي عن يزيد بن محمد المهلبي أنه كان عند الواثق فغنته شجا

هذا الصوت فقال الواثق مثل هذا القول
والمذكور أن ابن المكي قاله فلا أدري أهذا وهم من يزيد أو اتفق أن قال فيه الواثق كما قال يحيى أو اتفقت عليه قريحتاهما
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال
أرسل إلي الفضل بن الربيع يوما وإلى الزبير بن دحمان فوافق مجيئنا شغلا كان له فصرنا إلى بعض حجره فنعست فنمت فإذا زبير يحركني فانتبهت فإذا خباز في مطبخ الفضل يضرب بالشوبق يغني
صوت
( بِدَيْر القائم الأقصَى ... غزالٌ شَفّني أحْوَى )
( بَرَى حبِّي له جسمي ... وما يَدري بما ألقَى )
( وأُخفِي حبَّه جُهْدِي ... ولا والله ما يَخْفَى )
الشعر والغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر قال فقال لي الزبير تضن بهذا وانظر من يبتذله فقلت لا أضن بغناء بعد هذا
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال قال لي صالح بن الرشيد
كنا أمس عند أمير المؤمنين المأمون وعنده جماعة من المغنين فيهم إسحاق وعلويه ومخارق وعمرو بن بانة فغنى مخارق في الثقيل الأول

صوت
( أعاذلُّ لا آلوك إلاّ خَليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانَك مِبْرَدَا )
( ذَرِيني أكنْ للمالِ ربًّا ولا يكن ... ليَ المالُ ربًّا تَحْمَدِي غِبَّه غدا )
( ذَرِيني يكنْ مالي لِعْرضي وقايةً ... يَقِي المالُ عِرْضي قبل أن يتبدّدا )
( ألم تعلمي أنِّي إذا الضيفُ نابني ... وعَزَّ القِرَى أَقْرِي السَّدِيفَ المُسَرْهَدَا )
فقال له المأمون لمن هذا اللحن قال لهذا الهزبر الجالس يعني إسحاق فقال المأمون لمخارق قم فاقعد بين يدي وأعد الصوت فقام فجلس بين يديه وأعاده فأجاده وشرب المأمون عليه رطلا ثم التفت إلى إسحاق فقال له غن هذا الصوت فغناه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق ثم دار الدور إلى علويه فقال له غن فغنى في الثقيل الأول أيضا
صوت
( أُرِيتُ اليومَ نارَكِ لم أُغَمِّضْ ... بَواقِصةٍ ومَشْرَبُنا بَرُودُ )
( فلم أرَ مثلَ موقِدها ولكن ... لأيّة نظرةٍ زَهَر الوَقُودُ )
( فبِتُّ بليلةٍ لا نومَ فيها ... أُكابدُها وأصحابي رُقود )
( كأنّ نجومَها رَبِطتْ بصَخْرٍ ... وأَمْراسٍ تدور وتستزيد )

فقال له المأمون لمن هذا الصوت فقال لهذا الجالس وأشار إلى إسحاق فقال لعلويه أعده فأعاده فشرب عليه رطلا ثم قال لإسحاق غنه فغناه فلم يطرب له طربه لعلويه
فالتفت إلي إسحاق ثم قال لي أيها الأمير لولا أنه مجلس سرور وليس مجلس لجاج وجدال لأعلمته أنه طرب على خطأ وأن الذي استحسنه إنما هو تزايد منهما يفسد قسمة اللحن وتجزئته وأن الصوت ما غنيته لا ما زادا
ثم أقبل عليهما فقال يا مخنثان قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي ولا رفعتي وأنا على مكافأتكما قادر فضحك المأمون وقال له ما كان ما رأيته من طربي لهما إلا استحسانا لأصواتهما لا تقديما لهما ولا جهلا بفضلك

إسحاق يغني المعتصم فيطرب ويجيزه
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني إسحاق قال
دخلت يوما على المعتصم وقد رجع من الصيد وبين يديه ظباء مذبحة وطير ماء وغير ذلك من الصيد وهو يشرب فأمرني بالجلوس والغناء فجلست وغنيته
صوت
( اِشتهيْنا في ربيعٍ مرّةً ... زَهَمَ الوحشِ على لحم الإِبِلْ )
( فغدَونا بطُوَالٍ هَيْكَلٍ ... كَعسِيب النخل مَيَّاد خَضِلْ )

الشعر يقال إنه لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق فتبسم وقال وأين رأيت لحم الإبل فغنيته

صوت
( ليس الفتى فيهم إذا ... شَرِب الشرابَ مُؤَنَّبا )
( لكن يروحُ مُرَنَّحاً ... حسنَ الثيابِ مُطَيَّبا )
( يسقونه صِرْفاً على ... لحم الظباءِ مُضَهَّبا )
فقال هذا أشبه وشرب
ثم غنيته بشعر وضاح اليمن قال والغناء لابن محرز ثقيل أول
صوت
( أَبَى القلبُ اليمانيّ الّذي ... تُحْمَدُ أخلاقُهْ )
( ويَرْفَضُّ له اللحنُ ... فما تُفْتَق أرْتاقه )
( غزالٌ أدعجُ العين ... رَبيبُ خَدَلَّج ساقه )
( رماني فسبَى قلبي ... وأرميه فأشتاقُه )
فطرب وقال هذا والله أحسن صيد وألذه وشرب عليه بقية يومه

وخلع علي وأمر لي بجائزة
هكذا ذكر في هذا الخبر أن الثقيل الأول لابن محرز وقد قيل ذلك
وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول بالبنصر لابن طنبورة وأن لحن ابن محرز خفيف ثقيل
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي قال
قال لي إسحاق يوما في عرض حديثه دخلت على المعتصم ذات يوم وعليه قميص دبيقي كأنما قد من جرم الزهرة فضحكت فقال ما أضحكك فقلت من مبالغتك في الوصف فتبسم
قال الفضل وما سمعت محدثا قط ولا واصفا أبلغ منه ولا أحسن لفظا وتشبيها
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال
قال لي إسحاق وددت أن كل يوم قيل لي غن أو قيل لي عند ذكري المغني ضرب رأسي خمسة عشر سوطا لا أقوى على أكثر منها ولم يقل لي ذلك
أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال صنع أبي لحنه في تشكى الكميت الجري على لحن أذان سمعه
أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال
تذاكرنا يوما الهزج عند المأمون فقال عمرو بن بانة ما أقله في الغناء القديم فقال إسحاق ما أكثره فيه ثم غناهم ثلاثين هزجا في إصبع واحدة ومجرى واحد ما عرفوا جميعا منها إلا نحو سبعة أصوات
حدثني يحيى قال حدثني أخي قال حدثني عافية بن شبيب قال

قلت لزرزور ما لكم تذلون لإسحاق هذا الذل وما فيكم أحد إلا وهو أطيب صوتا منه وما في صنائعكم وصمة فقال لي لا تقل ذلك فوالله لو رأيتنا معه لرحمتنا ورأيتنا نذوب كما يذوب الرصاص في النار
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
لاعبت الفضل بن الربيع بالنرد فوقع بيننا خلاف فحلف وحلفت فغضب علي وهجرني فكتبت إليه
( يقول أُناسٌ شامتون وقد رأَوْا ... مُقَامِي وإغبابي الرواحَ إلى الفضلِ )
( لقد كان هذا خُصَّ بالفضل مرّةً ... فأصبح منه اليومَ مُنصرِمَ الحبل )
( ولو كان لي في ذاك ذنبٌ علِمته ... لَقَطّعتُ نفسي بالمَلامة والعذل )
وعرضت الأبيات عليه فلما قرأها ضحك وقال أشد من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنبا والله لولا أني أدبتك أدب الرجل ولده وأن حسنك وقبيحك مضافان إلي لأنكرتني فأصلح الآن قلب عون وكان يحجبه فخاطبته في ذلك فكلمني بما كرهت فقلت أتدخل بيني وبين الأمير أعزه الله وكان عون يرمي بالأبنة فقلت فيه
( وذاكر أمرٍ ضاق ذرعاً بذكره ... وناسٍ لداءٍ منه مُتّسِع الخَرْقِ )
قال ثم علمت أنه لا يتم لي رضا الفضل إلا بعد أن يرضى عون فقلت فيه
( عَوْنُ يا عَوْنُ ليس مثلَك عونُ ... أنت لي عُدَّةٌ إذ كان كونُ )
( لك عندي والله إن رَضِيَ الفضل ... ُ غلامٌ يُرْضيك أو بِرْذَوْنُ )
فدخل إلى الفضل فترضاه لي فرضي ثم قال له ويلك يا عون إنه والله إنما هجاك وأنت ترى أنه قد مدحك ألا ترى إلى قوله غلام يرضيك هذا تعريض بك قال فكيف أصنع به مع محله عند الأمير

غنى المأمون وأطربه فأجازه
أخبرني الصولي قال حدثني عون عن إسحاق وأخبرني بعض الخبر إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة عن إسحاق ولفظ الخبر وسياقته للصولي قال
استدناني المأمون يوما وهو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش ثم قال لي يا إسحاق أشكو إليك أصحابي فعلت بفلان كذا ففعل كذا وفعلت بفلان كذا ففعل كذا حتى عدد جماعة من خواصه فقلت له أنت يا سيدي بتفضلك علي وحسن رأيك في ظننت أني ممن يشاور في مثل هذا فجاوزت بي حدي وهذا رأي يجل عني ولا يبلغه قدري فقال ولم وأنت عندي عالم عاقل ناصح فقلت هذه المنزلة عند سيدي علمتني ألا أقول إلا ما أعرف ولا أطلب إلا ما أنال فضحك وقال قد بلغني أنك في هذه الأيام صنعت لحنا في شعر الراعي ولم أسمعه منك فقلت يا سيدي ما سمعه أحد إلا جواري ولا حضرت عندك للشرب منذ صنعته فقال غنه فقلت الهيبة والصحو يمنعاني أن أؤديه كما تريد فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه ويقوي به طبعه كان أجود قال صدقت ثم أمر بالغداء فتغدينا ومدت الستارة فغني من ورائها وشربنا أقداحا فقال يا إسحاق أما جاء أوان ذلك الصوت فقلت بلى يا سيدي وغنيته لحني في شعر الراعي

صوت
( ألم تسألْ بعارِمةَ الديارَا ... عن الحيّ المُفارِقِ أين صارا )
( بلى ساءلتها فأبتْ جواباً ... وكيف تُسائل الدِّمَنَ القِفَارا )
لحن إسحاق في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى قال فاستحسنه وما زال يشرب عليه سائر يومه وقال لي يا إسحاق لا طلب بعد وجود البغية ما أشرب بقية يومي هذا إلا على هذا الصوت ثم وصلني وخلع علي خلعة من ثيابه
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
كانت أعرابية تقدم علي من البادية فأفضل عليها وكانت فصيحة فقالت لي ذات يوم والذي يعلم مغزى كل ناطق لكأنك في علمك ولدت فينا ونشأت معنا
ولقد أريتني نجدا بفصاحتك وأحللتني الربيع بسماحتك فلا اطرد لي قول إلا شكرتك ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي عن إسحاق قال
كان أبو المجيب الربعي فصيحا عالما فقال لي يا أبا محمد قد عزمت على التزوج فأعني وقوني قال فأعطيته دنانير وثيابا فغاب عني أياما ثم عاد فقلت يا أبا مجيب ها هنا أبيات فاسمعها فقال هاتها فقلت
( يا ليتَ شعري عن أبي مُجيبِ ... إذ بات في مَجاسِدٍ وطِيبِ )

( معانقاً للرِّشَأ الرَّبيبِ ... أأحمدَ المِحفارُ في القَليبِ )
( أم كان رِخْواً ذابلَ القضيبِ ... )
قال فقال لي الأخير والله يا أبا محمد
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
كانت بيني وبين الخليل بن هشام صداقة ثم استوحشنا فمررت ببابه يوما فتذممت أن أجوزه ولا أدخل إليه فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت إليه
( رجعنا بالصفاء إلى الخليلِ ... فليس إلى التَّهاجرُ من سبيلِ )
( عتابٌ في مُراجعةٍ وصفحٌ ... أحقُّ بنا وأشبهُ بالجميل )
قال ووجهت بالرقعة وقصدت بابه فخرج إلي حتى تلقاني ورجعنا إلى ما كنا عليه
حدثني الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز عن الهشامي قال
كان أهلنا يعتبرون على إسحاق ما يقوله في نسبة الغناء وأخباره بأن يجلسوا كاتبتين فهمتين خلف الستارة فتكتبان ما يقوله وتضبطانه ثم

يتركونه مدة حتى ينسى ما جرى ثم يعيدون تلك المسألة عليه فلا يزيد فيها ولا ينقص منها حرفا كأنه يقرأها من دفتر فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلا الحق
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن مزيد المهلبي قال حدثني أبي عن إسحاق قال
كنا عند المأمون فغناه علويه
صوت
( لعَبْدةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدارُ ... تَلُوح مَغَانيها كما لاح أَسطارُ )
( أُسائل أحجاراً ونُؤْياً مُهَدَّما ... وكيف يردّ القولَ نؤيٌ وأحجارُ )
الشعر لبشار والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق قال فقال المأمون لمن هذا اللحن فقلت لعبد أمير المؤمنين أبي وقد أخطأ فيه علويه قال فغنه أنت فغنيته فاستعادنيه مرارا وشرب عليه أقداحا ثم تمثل قول جرير
( وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ )
ثم أمر لي بخمسين ألف درهم
ووجدت هذا الخبر بخط أبي العباس ثوابة فقال فيه حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبد الله ابن العباس الربيعي قال

إجتمعنا بين يدي المعتصم فغنى علويه
( لعبدةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدار ... )
فقال له إسحاق أخطأت فيه ليس هو هكذا فقال علويه أم من أخذناه عنه هكذا زانية فقال إسحاق شتمنا قبحه الله وسكت وبان ذلك فيه وكان علويه أخذه من إبراهيم

حواره مع علويه
حدثني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون عن أبيه عن جده قال
كان إسحاق بعد وفاة المأمون لا يغني إلا الخليفة أو ولي عهده أو رجلا من الطاهرية مثل إسحاق بن إبراهيم وطبقته فاجتمعنا عند الواثق وهو ولي عهد المعتصم فاشتهى الواثق أن يضرب بين مخارق وعلويه وإسحاق ففعل حتى تهاتروا ثم قال لإسحاق كيف هما الآن عندك فقال أما مخارق فمناد طيب الصوت وأما علويه فهو خير حماري العبادي وهو على كل حال شييء يريد تصغيره فوثب علويه مغضبا ثم قال للواثق جواريه حرائر ونساؤه طوالق لئن لم تستحلفه بحياتك وحق أبيك أن يصدق عما أسأله عنه لأتوبن عن الغناء ما عشت فقال له الواثق لا تعربد يا علي نحن نفعل ما سألت ثم حلف إسحاق أن يصدق فحلف فقال له من أحسن الناس اليوم صنعة بعدك قال أنت
قال فمن

أضرب الناس بعد ثقيف قال أنت
قال فمن أطيب الناس صوتا بعد مخارق قال أنت
قال علويه لإسحاق أهذا قولك في وأنت تعلم أني مصلي كل سابق فاضل وأني ثالث ثلاثة أنت أحدهم لم يكن في الدنيا مثلهم ولا يكون فما أنت وغناؤك الذي لا يسمع انخفاضا فغضب إسحاق وانتهر الواثق علويه
ثم أخذ إسحاق عودا فنقل مثناه إلى موضع ألبم وزيره إلى موضع المثلث وجعل البم والمثلث مكان الزير والمثنى وضرب وقال ليغن من شاء منكم فغنى مخارق عليه
( تَقَطّع من ظَلاّمةَ الوصلُ أجمعُ ... أخيراً على أنْ لم يكن يَتَقَطّعُ )
وضرب عليه إسحاق فلم يبن في الأوتار خلاف ولا فقد من الإيقاع شيء ولا بان فيه اختلال فعظم عجب الواثق من فعله وقام إسحاق فرقص طربا فكان والله أحسن رقصا من كبيش وعبد السلام وكانا من أرقص الناس فقال الواثق لا يكمل أحد أبدا في صناعته كمثل كمال إسحاق
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
دخلت على عبد الله بن طاهر وهو يلاعب إبراهيم بن وهب بالشطرنج فغلبه عبد الله وأومأ إلي بأن أكايده فقلت
( قد ذهبتْ منك أبا إسحاقِ ... مثلَ ذَهَابِ الشهرِ بالمُحاقِ )
فقال لي عبد الله إن فضائلك يا أبا محمد لتتكاثر عندنا كما قال الشاعر في إبله
( إذا أتاها طالبٌ يَسْتامُها ... تكاثرتْ في عينه كِرامُها )

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال ذكر علي بن الحسن بن عبد الأعلى عن إسحاق قال
أنشدتني أم محمد الأعرابية لنفسها هذين البيتين وأنا حاج فاستحسنتهما وصنعت فيهما لحنا غنيته الواثق فاستعاده حتى أخذه وأمر لي بثلاثين ألف درهم وهما
( عسى اللهُ يا ظَمْياءُ أن يَعكِسَ الهوَى ... فَتلْقَيْنَ ما قد كنتُ منكِ لَقِيتُ )
( ثراء فتحتاجي إليّ فتعلمي ... بأنّ به أَجْزيكِ حين غَنِيتُ )

براعة إسحاق تظهر في مجلس المعتصم
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن مروان قال قال لي يحيى بن معاذ
كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان وإذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح فاجتمعا يوما عند المعتصم فقال لإسحاق يا إسحاق إن إبراهيم يثلبك ويغض منك ويقول إنك تقول إن مخارقا لا يحسن شيئا ويتضاحك منك فقال إسحاق لم أقل يا أمير المؤمنين إن مخارقا لا يحسن شيئا وكيف أقول ذلك وهو تلميذ أبي وتخريجه وتخريجي ولكن قلت إن مخارقا يملك من صوته ما لا يملكه أحد فيتزايد فيه تزايدا لا يبقي عليه ويتغير في كل حال فهو أحلى الناس مسموعا وأقله نفعا لمن يأخذ عنه لقلة ثباته على شيء واحد
ولكني أفعل الساعة فعلا إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا وإلا فلا ينبغي له أن يدعي ما ليس يحسنه
ثم أخذ عودا فشوش أوتاره ثم قال لإبراهيم غن على هذا أو يغني غيرك وتضرب عليه فقال المعتصم يا إبراهيم قد سمعت فما عندك قال ليفعله هو إن كان صادقا فقال له إسحاق غن حتى أضرب عليك فأبى فقال لزرزور غن فغنى وإسحاق يضرب عليه

حتى فرغ من الصوت ما علم أحد أن العود مشوش
ثم قال هاتوا عودا آخر فشوشه وجعل كل وتر منه في الشدة واللين على مقدار العود المشوش الأول حتى استوفى ثم قال لزرزور خذ أحدهما فأخذه ثم قال انظر إلى يدي واعمل كما أعمل واضرب ففعل وجعل إسحاق يغني ويضرب وزرزور ينظر إليه ويفعل كما يفعل فما ظن أحد أن في العودين شيئا من الفساد لصحة نغمهما جميعا إلى أن فرغ من الصوت
ثم قال لإبراهيم خذ الآن أحد العودين فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئا فلم يفعل وانكسر انكسارا شديدا فقال له المعتصم أرأيت مثل هذا قط قال لا والله ما رأيت ولا ظننت أن مثله يكون
حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال
دعاني إسحاق يوما فمضيت إليه وعنده الزبير بن دحمان وعلويه وحسين بن الضحاك فمر لنا أحسن يوم فالتفت إلي إسحاق ثم قال يومنا هذا والله يا أبا العباس كما قال الشاعر
( أنت والله من الأيام ... لَدْنُ الطَّرَفيْنِ )
( كلَّما قلَّبتُ عيني ... ّ ففي قُرَّةِ عَيْنِ )

إسحاق والواثق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت يوما على الواثق فقال لي يا إسحاق إني أصبحت اليوم قرما إلى غنائك فغنني فغنيته

( من الظباءِ ظِبَاءٌ همُّها السُّخُبُ ... ترعى القلوبَ وفي قلبي لها عُشُبُ )
( لا يَغْترِبْنَ ولا يَسْكُنَّ باديةً ... وليس يَدْرِين ما ضَرْعٌ ولا حَلَبُ )
( إذا يدٌ سَرَقتْ فالقطع يلزمها ... والقطع في سَرَقٍ بالعين لا يَجِبُ )
قال فشرب عليه بقية يومه وبعض ليلته وخلع علي خلعة من ثيابه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
خرجت مع الواثق إلى الصالحية وهو يريد النزهة فذكرت بغداد وعيالي وأهلي وولدي بها فبكيت فقال لي بحياتي أذكرت بغداد فبكيت شوقا إليها فقلت نعم وغنيته

صوت
( وما زلت أبكي في الديار وإنما ... بكائي على الأحباب ليس على الدار )
قال فأمر لي بمائة ألف درهم وصرفني
وأخبرني محمد بن مزيد بهذا الخبر عن حماد بن إسحاق عن أبيه وحدثني به علي بن هارون عن عمه عن حماد عن أبيه وخبره أتم قال
ما وصلني أحد من الخلفاء قط بمثل ما وصلني به الواثق
ولقد انحدرت معه إلى النجف فقلت له يا أمير المؤمنين قد قلت في النجف قصيدة فقال هاتها فأنشدته
( يا راكبَ العِيسِ لا تَعْجَلْ بنا وقِفِ ... نُحَيِّ داراً لسُعْدى ثم نَنْصرِفِ )
حتى أتيت على قولي
( لم يَنزِلِ الناسُ في سهلٍ ولا جَبَلٍ ... أَصْفَى هواءً ولا أَعْذَى من النَّجَفِ )

( حُفَّتْ بَبرٍّ وبَحْر من جوانبها ... فالبَرُّ في طَرَفٍ والبحر في طرفِ )
( وما يَزَالُ نسيمٌ من يَمَانِيَةٍ ... يأتيك منها برَيَّا رَوْضَةٍ أُنُفِ )
فقال صدقت يا إسحاق هي كذلك
ثم أنشدته حتى أتيت على قولي في مدحه
( لا يحسَبُ الجودَ يُفْنِي مالَه أبداً ... ولا يرى بذلَ ما يَحْوِي من السَّرَف )
ومضيت فيها حتى أتممتها فطرب وقال أحسنت والله يا أبا محمد وكناني يومئذ وأمر لي بمائة ألف درهم وانحدر إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس
( بالصالحيّة من أكنافِ كَلْواذِ ... )
فذكرت الصبيان وبغداد فقلت
( أتبكي على بغدادَ وهي قريبةٌ ... فكيف إذا ما ازددتَ منها غداً بُعْدَا )
( لعَمْرُك ما فارقتُ بغدادَ عن قِلىً ... لَوَ انّا وجدنا عن فِراقٍ لها بُدًّا )
( إذا ذكرتْ بغدادَ نفسي تَقطَّعتْ ... من الشوق أو كادت تموت بها وَجْدَا )
( كفى حَزَناً أن رُحْتُ لم أستطع لها ... وَدَاعاً ولم أُحْدِثْ بساكنها عهدا )
قال فقال لي يا موصلي أشتقت إلى بغداد فقلت لا والله

يا أمير المؤمنين ولكن من أجل الصبيان وقد حضرني بيتان فقال هاتهما فأنشدته
( حَنَنتَ إلى الأُصَيْبِيَة الصِّغار ... وشاقك منهمُ قربُ المَزَارِ )
( وأَبْرحُ ما يكون الشوقُ يوماً ... إذا دَنَتِ الدّيارُ من الديار )
فقال لي يا إسحاق صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهرا ثم صر إلينا وقد أمرت لك بمائة ألف درهم
أخبرنا يحيى بن علي قال أخبرني أبي قال
لما صنع الواثق لحنه في
( أيا مُنْشِرَ المَوْتَى أَقِدْني من التي ... بها نهِلتْ نفسِي سَقَاماً وعَلَّتِ )
( لقد بخَلتْ حتى لَوَ انِّي سألتُها ... قَذَى العين من سَافِي التراب لضَنَّتِ )
أعجب به إعجابا شديد فوجه بالشعر إلى إسحاق الموصلي وأمره أن يغني فيه فصنع فيه لحنه الثقيل الأول وهو من أحسن صنعة إسحاق فلما سمعه الواثق عجب منه وصغر لحنه في عينه وقال ما كان أغنانا أن نأمر إسحاق بالصنعة في هذا الشعر لأنه قد أفسد علينا لحننا
قال علي بن يحيى قال إسحاق ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بهذا الشأن

نسبة هذين الصوتين
صوت
( أيا مُنْشِرَ المَوْتَى أَقِدْنِي من التي ... بها نَهِلت نفسي سَقَاماً وعَلَّتِ )
( لقد بخِلتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... قَذَى العين من سافِي التراب لضَنَّتِ )
الشعر لأعرابي والغناء للواثق ثاني ثقيل في مجرى البنصر
وفيه لمخارق رمل ولعريب رمل
ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى كثير وهو خطأ من قائله

أنشدني هذه الأبيات عمي قال أنشدني هارون بن علي بن يحيى وأنشدنيها علي بن هارون عن أبيه عن جده عن إسحاق أنه أنشده لأعرابي فقال
صوت
( أَلاَ قاتل اللهُ الحمامةَ غُدْوةً ... على الغصن ماذا هيّجتْ حين غَنَّتِ )
( تَغنَّتْ بصوتٍ أعجميَّ فهَيّجتْ ... من الشوق ما كانت ضلوعي أَجَنَّتِ )
غنى في هذين البيتين عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى
( فلو قَطَرتْ عينُ امرئ من صَبَابةٍ ... دماً قطرتْ عيني دماً فألَمَّتِ )
( فما سكتتْ حتى أَوَيْتُ لصوتها ... وقلت تُرَى هذي الحمامةُ جُنَّتِ )
( ولي زَفَراتٌ لو يَدُمْنَ قتلْنَني ... بشوق إلى نأي التي قد تولَّتِ )
( إذا قلت هذي زَفْرةُ اليوم قد مضتْ ... فمَنْ لي بأخرى في غدٍ قد أظلَّتِ )
( فيا مُحْيِيَ المَوْتَى أَقِدْني من التي ... بها نَهِلتْ نفسي سَقَاماً وعَلَّتِ )
( لقد بِخلتْ حتى لَوَ انِّي سألتُها ... قَذَى العينِ من سَافِي التراب لضَنَّتِ )
( فقلتُ ارحَلا يا صاحبيّ فليتني ... أرى كلّ نفس أُعْطِيتْ ما تمنَّتِ )
( حلفتُ لها بالله ما أُمُّ واحدٍ ... إذا ذكرتْه آخِرَ الليل حَنَّتِ )
( وما وَجْدُ أعرابيّة قذَفتْ بها ... صُرُوفُ النَّوَى من حيث لم تَكُ ظَنَّتِ )
( إذا ذكرتْ ماءَ العِضَاهِ وطِيبَه ... وبَرْد الحِمَى من بطن خَبْتٍ أَرَنَّتِ )
( بأكثرَ منّى لوعةً غيرَ أنني ... أُجَمْجِمُ أحشائي على ما أَجَنَّتِ )
وأما لحن إسحاق فإنه غنى في

( لقد بخِلتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... )
وأضاف إليه شيئا آخر وليس من ذلك الشعر وهو
( فإن بخِلتْ فالبخل منها سجيّةٌ ... وإن بذَلتْ أعطت قليلاً وأَكْدّتِ )
قال ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى
أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي وحدثني به عمي عن أبي جعفر بن دهقانة النديم عن أبيه قال
كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق هذا وقع إلينا البارحة فاسمعه فكان ربما أصلح فيه الشيء بعد الشيء
فكاده مخارق عنده وقال له إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك ويستخرج ما عندك فإذا فارق حضرتك قال في صنعتك غير ما تسمع قال الواثق فأنا أحب أن أقف على ذلك فقال له مخارق فأنا أغنيه أيا منشر الموتى فإنه لم يعلم أنه لك ولا سمعه من أحد قال فافعل
فلما دخل إسحاق غناه مخارق وتعمد لأن يفسده بجهده وفعل ذلك في مواضع خفية لم يعلمها الواثق من قسمته فلما غناه قال له الواثق كيف ترى هذا الصوت قال له فاسد غير مرضي فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه وأمر بنفيه إلى بغداد
ثم جرى ذكره يوما
فقالت له فريدة يا أمير المؤمنين إنما كاده مخارف فأفسد عليه الصوت من حيث أوهمك أنه زاد فيه بحذقه نغما وجودة وإسحاق يأخذ نفسه بقول الحق من كل شيء ساءه أو سره ويفهم من غامض علل الصنعة ما لا يفهمه غيره فليحضره أمير المؤمنين ويحلفه بغليظ الأيمان أن يصدقه عما يسمع وأغنيه إياه حتى يقف على حقيقة الصوت فإن كان فاسدا فصدق عنه لم يكن عليه عتب ووافقناه عليه حتى يستوي

فليس يجوز أن نتركه فاسدا إذا كان فيه فساد وإن كان صحيحا قال فيه ما عنده فأمر بالكتاب بحمله فحمل وأحضر فأظهر الرضا عنه ولزمه أياما ثم أحلفه ليصدقن عما يمر في مجلسه فحلف له
ثم غنى الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده ثم غنته فريدة هذا الصوت وسأله الواثق عنه فرضيه واستجاده وقال له ليس على هذا سمعته في المرة الأولى وأبان عن المواضع الفاسدة وأخبر بإفساد مخارق إياها فسكن غضبه ووصل إسحاق وتنكر لمخارق مدة

إسحاق والواثق وقصة الغناء والألحان
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق الموصلي
أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهري وقد كان تكلم له في حاجة فقضيت فقال له أعطاك الله أيها الأمير ما لم تحط به أمنية ولا تبلغه رغبة
قال فاشتهى هذا الكلام واستعاده مني فأعدته
ثم مكثنا ما شاء الله وأرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإخراجي إليه في الصوت الذي أمرني به بأن أغني فيه وهو
( لقد بَخِلتْ حتّى لَوَ أنِّي سألتُها ... )
فغنيته إياه فأمر لي بمائة ألف درهم
فخرجت وأقمت ما شاء الله ليس أحد من مغنيهم يقدر أن يأخذ هذا الغناء مني
فلما طال مقامي قلت له يا أمير المؤمنين ليس أحد من هؤلاء المغنين يقدر أن يأخذ هذا الصوت مني فقال لي ولم ويحك فقلت لأني لا أصححه ولا تسخو نفسي

به لهم فما فعلت الجارية التي أخذتها مني يعني شجا وهي التي كان أهداها إلى الواثق وعمل مجرد أغانيها وجنسه ونسبه إلى شعرائه ومغنيه وهو الذي في أيدي الناس إلى اليوم فقال وكيف قال لأنها تأخذه مني ويأخذونه هم منها فأمر بها فأخرجت وأخذته على المكان فأمر لي بمائة ألف درهم وأذن لي في الانصراف وكان إسحاق بن إبراهيم الطاهري حاضرا فقلت للواثق عند وداعي له أعطاك الله يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة فالتفت إلي إسحاق بن إبراهيم فقال لي أي إسحاق أتعيد الدعاء فقلت إي والله أعيده قاض أنا أو مغن
وقدمت بغداد فلما وافى إسحاق جئته مسلما عليه فقال لي ويحك يا إسحاق أتدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده قلت لا أيها الأمير قال قال لي ويحك كنا أغنى الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا حتى أفسده علينا
قال علي بن يحيى فحدثني إسحاق قال استأذنت الواثق عدة دفعات في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي فصنعت لحنا في
( خليليّ عُوجَا من صدور الرَّوَاحِل ... )
ثم غنيته الواثق فاستحسنه وعجب من صحة قسمته ومكث صوته أياما ثم قال لي يا إسحاق قد صنعت لحنا في صوتك في إيقاعه وطريقته وأمر من وراء الستارة فغنوه فقلت قد والله يا أمير المؤمنين بغضت إلي لحني وسمجته عندي وقد كنت استأذنته في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي فلما صنع هذا اللحن وقلت له ما قلت أتبعته بأن قلت له قد والله يا أمير المؤمنين اقتصصت مني في لقد بخلت وزدت فأذن لي بعد ذلك

نسبة هذا الصوت
صوت
( خليليّ عُوجَا من صدور الرّواحل ... بجَرْعاءِ حُزْوَى فابكيا في المنازل )
( لعلّ انحدار الدّمع يُعقب راحةً ... من الوَجْدِ أو يَشفِي نَجِيَّ البلاَبل )
الشعر لذي الرمة والغناء لإسحاق رمل بالوسطى في البيتين
وللواثق في البيت الثاني وحده رمل بالبنصر
أخبرني أحمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني كثير بن أبي جعفر الحزامي الكوفي عن أحمد بن جواس الحنفي عن أبي بكر بن عياش قال
كنت إذا أصابتني المصيبة تصبرت وأمسكت عن البكاء فأجد ذلك يشتد علي حتى مررت ذات يوم بالكناسة فإذا أنا بأعرابي واقف على ناقة له وهو ينشد
( خليليّ عُوجَا من صُدور الرَّواحلِ ... بجَرعاءِ حُزْوَى فابكيا في المنازلِ )

( لعلّ انحدار الدّمع يُعْقِب راحةً ... من الوجد أو يَشفِي نَجِيَّ البَلاَبل )
فسألت عنه فقيل لي هذا ذو الرمة فكنت بعد إذا أصابتني مصيبة بكيت فأجد لذلك راحة فقلت قاتل الله الأعرابي ما كان أعلمه وأفصح لهجته
أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه قال
قلت لإسحاق أيما أجود لحنك في خليلي عوجا أم لحن الواثق فقال لحني أجود قسمة وأكثر عملا ولحنه أطرب لأنه جعل ردته من نفس قسمته وليس يقدر على أدائه إلا متمكن من نفسه
قال علي ابن يحيى فتأملت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق
قال وقال لي إسحاق ما كان بحضرة الواثق أعلم منه بالغناء
أخبرني علي بن هارون قال
كان عبد الله بن المعتز يحلف أن الواثق ظلم نفسه في تقديمه لحن إسحاق في لقد بخلت
قال ومن الدليل على ذلك أنه قلما غني في صوت واحد بلحنين فسقط أجودهما وشهر الدون ولا يشهر من اللحنين إلا أجودهما ولحن الواثق أشهرهما وما يروي لحن إسحاق إلا العجائز ومن كثرت روايته
حدثني جحظة عن ابن المكي المرتجل عن أبيه أحمد بن يحيى قال
كان الواثق يعرض صنعنه على إسحاق فيصلح فيها الشيء بعد الشيء

آخر صوت صنعه
أخبرنا حسين بن يحيى عن حماد
أن آخر صوت صنعه أبوه لقد بخلت ثم ما صنع شيئا حتى مات

أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال
دخل أعرابي من بني سليم سر من رأى وكان يكنى أبا القنافذ فحضر باب المعتصم مع الشعراء فأذن له فلما مثل بين يديه أنشده
( مِراض العيونِ خِماص البطون ... طِوال المتون قصار الخُطَا )
( عِتاق النّحوِرِ دقاق الثغورِ ... لِطاف الخصورِ خِدال الشَّوَى )
( عَطابيل من كلّ رَقْراقةٍ ... تَلُوث الإِزارَ بدِعْص النَّقَا )
( إذا هُنّ مَنّيْنَنا نائلاً ... أبَى البُخلُ منهنّ ذاك المُنَى )
( إلى النَّفَر البِيضِ أهلِ البِطاح ... وأهلِ السَّماحِ طَلَبنا النَّدَى )
( لهم سَطَواتٌ إذا هُيِّجوا ... وحلمٌ إذا الجهلُ حَلّ الحُبا )
( يَبِين لك الخيرُ في أوجهٍ ... لهم كالمصابيحِ تَجْلُوا الدُّجى )
( سَعَى الناسُ كي يُدركوا فضلَهم ... فقصَّر عن سعيهم مَنْ سَعَى )
( سعَى للخلافةِ فاقتادَهَا ... وبرَّز في السَّبْق لمّا جرى )
قال فاستحسنها المعتصم وأمرني فغنيت فيها وأمر للأعرابي بعشرين ألف درهم ولي بثلاثين ألف درهم وما خرج الناس يومئذ إلا بهذه الأبيات
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال

كتبت إلى علي بن هشام أطلب منه نبيذا فبعث إلي جمان بما التمست وكتب إلي قد بعثت إليك بشراب أصلب من الصخر وأعتق من الدهر وأصفى من القطر
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن أحمد المكي قال لما صنع إسحاق لحنه في الرمل
( أَمَاوِيَّ إنّ المالَ غادٍ ورائحَ ... ويبقى من المال الأحاديثُ والذِّكْرُ )
( وقد علم الأقوامُ لو أنّ حاتما ... يريد ثَراءَ المال كان له وَفْرُ )
وهو رمل نادر ابتداؤه صياح ثم لا يزال ينزل على تدريج حتى يقطعه على سجحة وكان كثير الملازمة لعبد الله بن طاهر ثم تخلف عنه مدة وذلك في أيام المأمون فقال عبد الله للميس جاريته خذي لحن إسحاق في
( أمَاوِيَّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ... )
فاخلعيه على
( وهبّتْ شَمَالٌ آخِرَ اللّيل قَرّةٌ ... ولا ثوبَ إلاّ بُرْدُها وردائيَا )
وألقيه على كل جارية تعلمينها واشهريه وألقيه على من يجيده من

جواري زبيدة وقولي أخذته من بعض عجائز المدينة ففعلت وشاع أمره حتى غني به بين يدي المأمون فقال المأمون للجارية ممن أخذت هذا فقالت من دار عبد الله بن طاهر من لميس جاريته وأخبرتني أنها أخذته من بعض عجائز المدينة
فقال المأمون لإسحاق ويلك قد صرت تسرق الغناء وتدعيه اسمع هذا الصوت فسمعه فقال هذا وحياتك لحني وقد وقع علي فيه نقب من لص حاذق وأنا أغوص عليه حتى أعرفه ثم بكر إلى عبد الله بن طاهر فقال أهذا حقي وحرمتي وخدمتي تأخذ لميس لحني في
( أماويّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ... )
فتغنيه في وهبت شمال وليس بي ذلك ولكن بي أنها فضحتني عند الخليفة وادعت أنها أخذته من بعض عجائز المدينة فضحك عبد الله وقال لو كنت تكثر عندنا كما كنت تفعل لم تقدم عليك لميس ولا غيرها فاعتذر فقبل عذره وقال له أي شيء تريد قال أريد أن تكذب نفسها عند من ألقته عليها حتى يعلم الخليفة بذلك قال أفعل ومضى إسحاق إلى المأمون وأخبره القصة فاستكشفها من لميس حتى وقف عليها وجعل يعبث بإسحاق بذلك مدة

إسحاق يغني محمد الأمين
حدثني جحظة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال حدثتني شهوات الصناجة التي كان إسحاق أهداها إلى الواثق
أن محمدا الأمين لما غناه إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره وهو الثقيل الأول

صوت
( يأيّها القائمُ الأمين فدَتْ ... نفسَك نفسي بالمال والوَلَدِ )
( بَسَطْتَ للنَاس إذ وَلِيتَهُمُ ... يداً من الجود فوق كلّ يد )
فأمر له بألف ألف درهم فرأيتها قد وصلت إلى داره يحملها مائة فراش
حدثني جحظة ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
غنيت الواثق
صوت
( عَفَا طَرَفُ القُرَيّةِ فالَكثِيبُ ... إلى مَلْحاءَ ليس بها عَرِيبُ )
( تأبّد رسمُها وجرى عليها ... سَوَافِي الريح والقُّربُ الغريبُ )
ولحنه ثقيل ثان قال فقال لي يا إسحاق قد أحسن ابن هرمة في البيتين فأي شيء هو أحسن فيهما من جميعهما قال قلت قوله الترب الغريب يريد أن الريح جاءت إلى الأرض بتراب ليس منها فهو غريب جاءت به من موضع بعيد فقال صدقت وأحسنت وأمر لي بخمسين ألف درهم
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال كنا يوما عند أحمد بن المدبر فغناه مغن كان عنده لحن إسحاق

صوت
( فأصبحتُ كالَحْومانِ ينظُر حسرةً ... إلى الماء عطشاناً وقد مُنِع الوِرْدَا )
وقال ابن المدبر زد فيه
( وأمسيتُ كالمسلوبِ مهجةَ نفسه ... يرى الموتَ في صدّ الحبيب إذا صَدّا )
لحن إسحاق في هذا البيت من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
حدثني الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد الأزدي قال حدثني شيخ من ولد المهلب قال
دخل مروان بن أبي حفصة يوما على إبراهيم الموصلي فجعلا يتحدثان إلى أن أنشد إسحاق بن إبراهيم مروان بن أبي حفصة لنفسه
( إذا مُضَرُ الحمراءِ كانت أَرُومَتي ... وقام بنصري خازمٌ وآبنُ خازمِ )
( عطَست بأنفٍ شامخٍ وتناولتْ ... يداي الثُّريّا قاعداً غيرَ قائمِ )
قال وجعل إبراهيم يحدث مروان وهو عنه ساه مشغول فقال له مالك لا تجيبني قال إنك والله لا تدري ما أفرغ ابنك هذا في أذني
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني موسى بن هارون عن يعقوب بن بشر قال
كنت مع إسحاق الموصلي في نزهة فمر بنا أعرابي فوجه إسحاق خلفه بغلامه زياد الذي يقول فيه

( وقُولاَ لساقِينا زِيَادٍ يُرِقّها ... فقد هَدَّ بعضَ القوم سَقْيُ زِيادِ )
قال فوافانا الأعرابي فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال
صوت
( بَكَرتْ تَحِنُّ وما به وَجْدِي ... وأَحِنُّ من وَجْدٍ إلى نَجْدِ )
( فدموعُها تَحْيا الرِّياضُ بها ... ودموعُ عَيْنِي أَقْرَحَتْ خَدّي )
( وبساكِنِي نجدٍ كَلِفْتُ وما ... يُغْنِي لهم كَلَفِي ولا وَجْدي )
( لو قِيس وجدُ العاشقين إلى ... وَجْدي لزاد عليه ما عندي )
قال فما انصرف إسحاق إلى بيته إلا محمولا سكرا وما شرب إلا على هذه الأبيات
والغناء فيها لإسحاق هزج بالبنصر

إسحاق والفضل بن الربيع وقصة البساط
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه وأخبرني به الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله عن إسحاق قال
دخلت على الفضل بن الربيع وهو على بساط سوسنجردي ستيني مذهب يلمع عليه مكتوب مما أمر بصنعته حماد عجرد فقال لي أتدري من حماد عجرد قلت لا قال حماد عجرد كان والي تلك

الناحية أفرأيت مثله قط قلت لا فسكت ثم قلت أهكذا يفعل الناس قال أي شيء يفعلونه قلت تهبه لي قال لا أفعل قلت إذا أغضب قال ما شئت افعل فخرجت متغاضبا فلما وافيت منزلي إذا برسوله قد لحقني بالبساط فكتبت إليه بيتين لحمزة بن مضر
( ولقد عدَدْتُ فلستُ أُحصِي كلَّ ما ... قد نِلْتُ منك من المتاع المُونِقِ )
( بخديعتي فأراك مُنخدعاً لها ... وفُكاهتي وتَغَضُّبي وتملُّقي )
قال ابن أبي سعد في خبره فلما دخلت عليه ضحك وقال لي البيتان خير من البساط فالفضل الآن لك علينا
أخبرني يحيى بن علي وأحمد بن جعفر جحظة عن أبي العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال
رأيت إبراهيم بن المهدي يناظر إسحاق في الغناء فتكلما بما فهماه ولم أفهم منه شيئا فقلت لهما لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في قليل ولا كثير
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال
قدمت على الواثق في بعض قدماتي فقال لي أما اشتقت إلي فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين وأنشدته
( أشكو إلى الله بُعدِي عن خليفته ... وما أُعالج من سُقْمٍ ومن كِبَرِ )
( لا أستطيع رحيلاً إن هَممَتُ به ... يوماً إليه ولا أقوىَ على السّفَرِ )
( أنْوِي الرَّحيلَ إليه ثمّ يمنعني ... ما أحدَثَ الدهرُ والأيامُ في بَصَري )
قال وقال وقد أشخصه إليه قصيدته الدالية

صوت
( ضَنّتْ سعادُ غَداة البَيْن بالزادِ ... وأخلفتْكَ فما تُوفِي بميعادِ )

( ما أنْسَ لا أنْسَ منها إذ تُودِّعُنا ... والحزنُ منها وإن لم تُبْدِه بادي )
لإسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى يقول فيها
( لمّا أمَرتَ بإشخاصي إليك هَفَا ... قلبي حنيناً إلى أهلي وأولادي )
( ثم اعتزمتُ ولم أحْفِل بَبْينهِمُ ... وطابتِ النفسُ عن فضلٍ وحَمّاد )
( كمْ نِعمةٍ لأبيك الخيرِ أفردَني ... بها وعَمّ بأُخرَى بَعْد إفراد )
( فلو شكرتُ أياديكم وأنعُمَكم ... لمَا أحاط بها وَصْفِي وتَعْدادي )
( لأشكرنّك ما ناح الحَمَامُ وما ... حَدَا على الصبح في إثْرِ الدُّجى حادي )
قال علي بن يحيى قال لي أحمد بن إبراهيم يا أبا الحسن لو قال الخليفة لإسحاق أحضرني فضلا وحمادا أليس كان قد افتضح من دمامة خلقهما وتخلف شاهدهما
حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال
كتب أبي إلى إسحاق في شيء خالفه فيه من التجزئة والقسمة إلى من أحاكمك والناس بيننا حمير

إسحاق والرشيد في تل عزاز
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثنا إسحاق قال
كنت مع الرشيد حين خرج إلى الرقة فدخل يوما إلى النساء وخرجت فمضيت إلى تل عزاز فنزلت عند خمارة هناك فسقتني شرابا لم أر مثله حسنا وطيبا وطيب رائحة في بيت مرشوش وريحان غض وبرزت

بنت لها كأنها خوط بان أو جدل عنان لم أر أحسن منها قدا ولا أسيل خد ولا أعتق وجها ولا أبرع ظرفا ولا أفتن طرفا ولا أحسن كلاما ولا أتم تماما فأقمت عندها ثلاثا والرشيد يطلبني فلا يقدر علي ثم انصرفت فذهبت بي رسله فدخلت عليه وهو غضبان فلما رأيته خطرت في مشيتي ورقصت وكانت في فضلة من السكر وغنيت

صوت
( إنّ قلبي بالتَّلِّ تَلِّ عَزَازِ ... عند ظبي من الظِّباء الجَوازِي )
( شادنٍ يَسْكُنُ الشَآمَ وفيه ... مع دَلّ العِراق ظَرْفُ الحجاز )
( يا لقَومِي لبِنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازِي )
( حلفتْ بالمسيح أن تُنجز الوعد ... َ وليست تجود بالإِنجاز )
الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة قال إسحاق فسكن غضبه ثم قالي لي أين كنت فأخبرته فضحك وقال إن مثل هذا إذا اتفق لطيب أعد غناءك فأعدته فأعجب به وأمرني أن أعيده ليلة من أولها إلى آخرها وأخذها المغنون مني جميعا وشربنا إلى طلوع الفجر ثم انصرفنا فصليت الصبح ونمت فما استقررنا حتى أتى إلي رسول الرشيد فأمرني بالحضور فركبت ومضيت فلما دخلت وجدت ابن جامع قد طرح نفسه يتمرغ على دكان في الدار لغلبة السكر عليه ثم قال أتدري لم دعينا فقلت لا والله قال لكني أدري دعينا بسبب

نصرانيتك الزانية عليك وعليها لعنة الله فضحكت
فلما دخلت على الرشيد أخبرته بالقصة فضحك وقال صدق عودوا فيه فإني اشتقت إلى ما كنا فيه لما فارقتموني فعدنا فيه يومنا كله حتى انصرفنا
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال
كان إسحاق قد أظهر التوبة وغير زيه واحتجر من حضور دار السلطان
فبلغه أن المأمون وجد عليه من ذلك وتنكر فكتب إسحاق إليه وغنى فيه بعد ذلك
صوت
( يابنَ عمِّ النبيّ سمعاً وطاعهْ ... قد خلعنا الرّداءَ والدُّرّاعهْ )
( ورجعنا إلى الصِّناعة لمّا ... كان سُخْطَ الإِمام تركُ الصِّناعه )
الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو وقد ذكر الغلابي أن هذا الشعر لأبي العتاهية قاله لما حبسه الرشيد وأمره بأن يقول الشعر وذكر حبش أن هذا اللحن لإبراهيم
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال
قال لي محمد بن الحسن بن مصعب وكان بصيرا بالغناء والنغم

لحن إسحاق في تشكى الكميت الجري أحسن من لحن ابن سريج ولحنه في يوم تبدي لنا قتيلة أحسن من لحن معبد وذلك من أجود صنعة معبد
قال فأخبرت إسحاق بقوله فقال قد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وزعزعتهما وأنخت بهما فما بلغتهما
فأخبرت بذلك محمد بن الحسن فقال هو والله يعلم أنه برز عليهما ولكنه لا يدع تعصبه للقدماء
وأخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق
أن رجلا سأل أباه فقال له إن الناس قد كثروا في صوتيك تشكى الكميت الجري ويوم تبدي لنا قتيلة وقالوا إنهما أجود من لحني ابن سريج ومعبد قال أبي ويحك رميت في هذه الصوتين بمعبد وابن سريج وهما هما فقربت ووقع القياس بيني وبينهما وعلى ذلك فقد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وانتصفت منهما

تحليل غنائه في بعض الكتب
قرأت في بعض الكتب أن محمد بن الحسن أظنه ابن مصعب ذكر إسحاق الموصلي فقال
كانت صنعته محكمة الأصول ونغمته عجيبة الترتيب وقسمته معدلة الأوزان وكان يتصرف في جميع بسط الإيقاعات فأي بساط منها أراد أن يتغنى فيه صوتا قصد أقوى صوت جاء في ذلك البساط لحذاق القدماء فعارضه وقد كان يذهب مذهب الأوائل ويسلك سبيلهم ويقتحم طرقهم فيبني على الرسم فيصنعه ويحتذي على المثال فيحكيه فتأتي صنعته قوية وثيقة يجمع فيها حالتين القوة في الطبع وسهولة المسلك

وخنثا بين كثرة النغم وترتيبها في الصياح والإسجاح فهي بصنعة الأوائل أشبه منها بصنعة المتوسطين من الطبقات فأما المتأخرون فأحسن أحوالهم أن يرووها فيردوها
وكان حسن الطبع في صياحه حسن التلطف لتنزيله من الصياح إلى الإسجاح على ترتيب بنغم يشاكله حتى تعتدل وتتزن أعجاز الشعر في القسمة بصدوره
وكذلك أصواته كلها وأكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه وذلك مذهبه في جل غنائه حتى كان كثير من المغنين يلقبونه الملسوع لأنه يبدأ بالصياح في أحسن نغمة فتح بها أحد فاه ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحا وينزلها تنزيلا حتى يحطها من تلك الشدة إلى ما يوازيها من اللين ثم يعود فيفعل مثل ذلك فيخرج من شدة إلى لين ومن لين إلى شدة وهذا أشد ما يأتي في الغناء وأعز ما يعرف من الصنعة
قال يحيى بن علي بن يحيى وقد ذكر إسحاق في صدر كتابه الذي ألف في أخباره وزاد في بعض ما صنعه
وكان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء وأنفذهم في جميع فنونه وأضربهم بالعود وبأكثر آلات الغناء وأجودهم صنعة وقد تشبه بالقديم وزاد في بعض ما صنعه عليه وعارض ابن سريج ومعبدا فانتصف منهما وكان إبراهيم بن المهدي ينازعه في هذه الصناعة ولم يبلغه فيها ولم يكن بعد إسحاق مثله
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني إبراهيم بن علي بن هشام
قال إسحاق وذكر صوته

صوت
( كان افتتاح بلائِيَ النَّظرُ ... فالحَيْنُ سبَّب ذاك والقَدَرُ )
( قد كان بابُ الصَّبر مُفْتَتَحاً ... فاليومَ أَغْلَقَ بابَهُ النَّظرُ )

الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر
وفيه لأحمد بن المكي خفيف ثقيل ولعريب ثاني ثقيل جميعا عن الهشامي قال إسحاق
ما شبهت صوتي هذا إلا بإنسان أخذ الكرة على الطبطابة وأهل الميدان جميعا خلفه فلما بلغ أقصى ضربها أحجزها

قصته مع يحيى بن معاذ والأمين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن يزيد المهلبي قال حدثني إسحاق وأخبرنا يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن ابن المكي عن إسحاق قال
صنعت هذا الصوت في آخر أيام الرشيد وكان إذ ذاك يحيى بن معاذ يشرب النبيذ فلما كان في أيام محمد غنيته فاشتهاه واشتهر به وبعث إلى يحيى بن معاذ وأنا أغنيه
( اسقني وابنَ نَهِيكٍ ... وابن يحيى بنِ مُعاذِ )
فلما حضر يحيى غنيت
( فاسقني واسقِ نَهِيكاً ... واسقِ يحيى بنَ مُعاذِ )
فبعث إليه محمد فأحضره فقال لتشربن أو لأعاقبنك فلم يبرح حتى شرب قدحا وغلفه وأمر له بمال وسر بذلك محمد ووهب لي عليه مالا وانصرفت إلى البيت فجاءني رسول يحيى بن معاذ فصرت إليه فلم يزل يستحلفني ألا أعود في هذا الصوت قدام محمد أبدا وأمر لي من المال بشيء فلم أقبله ولم أعد فيه

نسبة هذا الصوت
صوت
( يومُنا يومُ رَذَاذِ ... واصطباحٍ والتذاذِ )
( فاسقني وابنَ نَهِيكٍ ... وابنَ يحيى بن مُعاذِ )
( من كُمَيْتٍ عُتّقت للشيخ ... ِ كِسرى بن قُبَاذِ )
( ليس للمرء من الهمّ ... سواها من مَلاذِ )
الشعر لعلي بن هشام والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو
أخبرني بقوله علي بن هشام والحسن بن علي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم الهاشمي قال حدثني أبو عبد الله الهلالي قال
كنت عند علي بن هشام يوما إذ رشت السماء رشا وطشت فأنشأ علي يقول
( يومُنا يومُ رذاذِ ... واصطباحٍ والتذاذِ )
وذكر الأبيات الأربعة ثم قال لغلامه اذهب إلى أحمد بن يحيى بن معاذ وقل له يقول لك أخوك هذا يوم طيب فتعال أنت وغلاماك بنان وعثعث فجاء إلى بابه الرسول وعليه غرماء له فمنعوه الدخول عليه فقال لهم كم لكم عليه قالوا مائتا ألف درهم فرجع الغلام إلى علي بن هشام فأخبره بالخبر ومبلغ ما لهم عليه من الدين فقال له احمل إليه مائتي ألف ردهم وجئ به وبغلاميه الساعة فحملها فجاء أحمد بن يحيى ومعه

غلاماه فقال لعلي بن هشام لم تحملت هذا لي أنا والله منتظر ما لا يجيء فأعطيهم فقال له مالي ومالك واحد
فتغديت معهما حتى جاءت الحلواء فقال أكثر من الحلواء فلست تدخل معنا في ديواننا يعني الشرب فأكلت وغسلت يدي فقال لغلامه سراج احمل مع أبي عبد الله الهلالي ثلاثين ألف درهم فانصرفت وهي معي

إسحاق يتذكر شعر الصبا ويبكي
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا سليمان المدائني عن ابن المكي عن أبيه قال حدثني إسحاق قال
تعشقت جارية فقلت فيها
( هل إلى أن تنام عيني سبيلُ ... إنّ عهدي بالنوم عهدٌ طويلُ )
( غاب عنّي مَنْ لا أُسمِّي فعَيْني ... كلَّ يوم عليه حُزْناً تَسِيل )
الشعر والغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو
وفيه لعريب خفيف رمل آخر
وفيه لمحمد بن حمزة وجه القرعة خفيف ثقيل وقيل إنه لابن المكي
وفيه رمل بالوسطى ينسب إلى علويه وإلى حسين بن محرز قال إسحاق ثم ملكتها فكنت مشغوفا بها حتى كبرت واعتلت علي عيناي فذكرت هذا الصوت وأيامه المتقدمة فما زلت أبكي وأذكر دهري الذي تولى
وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن يزيد المهلبي عن إسحاق وليس هذا على التمام
أخبرني جحظة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال
دعا المأمون بإسحاق فأحضره فأمره أن يغني في هذا الصوت فغنى

( هل إلى أن تَنامَ عَيْني سبيلُ ... )
فغناه وكنت حاضرا فقلت أحسن والله يا أمير المؤمنين وما عدا بلحنه معنى شعره فقال المأمون فإنا نرد الحكم إلى من هو أعلم بذلك منك فبعث إلى أبي يعني يحيى المكي فجيء به فخبره بما قلت وما قال وأمر إسحاق برد الصوت فرده فقال يحيى أحسن إسحاق في غنائه وأحسن ابني في استحسانه إلا أن هذا اللحن يحتاج أن يسمع من غير حلق إسحاق فضحك المأمون وأمر لإسحاق بمال وأمر لأبي بمثله ولي بمثله
قال ولم يكن في إسحاق شيء يعاب إلا حلقه وكان يغلب الناس جميعا بطبعه وحذقه
قال وأما السبب في علة عين إسحاق وضعف بصره فأخبرني به محمد بن خلف وكيع قال حدثني به أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي
أن إبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف نازع إسحاق في شيء بين يدي الرشيد من الغناء فرد عليه فشتمه فرد عليه إسحاق واربى في الرد فقال له إبراهيم أترد علي وأنا مولى أمير المؤمنين فقال له اسكت فإنك من موالي العيدين فقال له الرشيد وأي شيء موالي العيدين قال يا أمير المؤمنين يشترى للخلفاء كل صانع وكل ضرب في العبيد للعتق فيكون فيهم الحجام والحائك والسائس فهو أحد هؤلاء الذين ذكرت
قال وخرج إبراهيم فوقف له على طريقه فلما جاز عليه منصرفا ضرب رأسه بمقرعة فيها معول فكان ذلك سبب ضعف بصر إسحاق
وبلغ الرشيد الخبر فأمر بأن يحجب عنه إبراهيم وحلف ألا يدخل عليه فدس إلى الرشيد من غناه

صوت
( مَنْ لعبدٍ أذلَّه مولاهُ ... ماله شافعٌ إليه سواهُ )
( يشتِكي ما به إليه ويخشاه ... ُ ويرجوه مثلَ ما يخشاه )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف خفيف رمل
وفيه لعريب ثقيل أول
وقيل إن لابن جامع فيه خفيف رمل آخر فلما غني الرشيد بهذه الأبيات سأل عن صاحب لحنها فعرفه فحلف ألا يرضى عنه حتى يرضى إسحاق فقال إسحاق فقال قد رضيت عنه يا سيدي رضاء حسنا وقبل الأرض بين يديه شكرا لما كان من قوله فرضي عنه وأحضر وأمره بترضي إسحاق ففعل
إسحاق وإبراهيم ابن أخي سلمة
وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
جاء إبراهيم ابن أخي سلمة إلى الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين إني أحب أن تشرفني بأن تكون نوبتي ونوبة إسحاق الموصلي في مكان وأن يكون دخولي إليك ودخوله في مكان فإن رأيت أن تجعل ذلك كما سألت فعلت قال قد فعلت ولم أكن حاضرا لمسألته
فلما كان يوم دخولي عليه جاءني إبراهيم فدق بابي دقا عنيفا وعرفني الغلام خبره فقلت له يدخل فأبى وقال له قل له اخرج أنت فساء ظني واغتممت فخرجت إليه فقلت له ما الخبر قال إن أمير المؤمنين يأمرك بالحضور ويأمرك ألا تدخل الدار إلا معي بعد أن أوجه إليك فتركب إلي وتمضي معي فمضيت معه على رغمي وأنا منكسر وكنت بقية يومي على تلك الحال
ثم ركبت إلى الفضل بن الربيع فشكوت ذلك إليه فقال ما أرى أمير المؤمنين يحلك هذا المحل قم بنا إليه فقمت معه فدخل إلى الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين إسحاق وخدمته وحقوق أبيه عليك وعلى أمير المؤمنين المهدي

تضع مقداره أن تجعله مضموما إلى إبراهيم ابن أخي سلمة قال لا والله ما فعلت هذا قال إنه قد جاءني يبكي ويحلف إن جرى عليه هذا تاب من الغناء وتركه جملة ثم لو قتل لم يعد إليه فقال ويحك والله ما جرى من هذا شيء إلا أن إبراهيم ابن أخي سلمة جاء فقال تشرفني أن تجعل نوبتي مع نوبة إسحاق ووصولي مع وصوله ففعلت فقل له يجيء متى شاء وينفرد عنه ولا يجيء معه ولا كرامة فأخبرني فرجعت
فلما كانت نوبتي جاء إبراهيم إلي ففعل مثل فعله فقلت لغلامي اخرج إليه فقل له ولا كرامة لك يا زاني يابن الزانية لا أجيء معك ولا أدعك تجيء معي أيضا وشتمه أقبح شتم فخرج الغلام فأدى إليه الرسالة فعلم أن هذا لم يتجرأ عليه إلا بعد توثق فخجل فقال له قل له ومن أكرهك على هذا إنما أحببت أن نصطحب ونتأنس في طريقنا فإن كرهت هذا فلا تفعله وانصرف ولم يعاودني بعدها
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال
كان إسحاق إذا غنى هذا الصوت يأخذ بلحيته ويبكي
( إذا المرءُ قاسى الدهرَ وابيضّ رأسُه ... وثُلِّم تثليمَ الإِناء جوانبُهْ )
( فَللْموتُ خيرٌ من حياةٍ خَسيسةٍ ... تُباعده طوراً وطوراً تُقاربه )
الشعر لزبان بن سيار الفزاري حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه
والغناء لإسحاق رمل بالوسطى

أخبرنا محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرنا يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق قال
أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لا يسمع حرفا من الأغاني فكان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد ثم واظب على السماع متسترا متشبها في أول أمره بالرشيد فأقام كذلك أربع حجج ثم ظهر إلى الندماء والمغنين
وكان حين أحب السماع سأل عني فجرحت بحضرته وقال الطاعن علي ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة قال المأمون ما أبقى هذا من التيه شيئا إلا استعمله
فأمسك عن ذكري وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر في فأضر ذلك بي حتى جاءني علويه يوما فقال لي أتأذن لي في ذكرك فإنا قد دعينا اليوم فقلت لا ولكن غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا فإذا سألك انفتح لك ما تريد وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء فقال هات فألقيت عليه لحني في شعري

صوت
( يا سَرْحةَ الماءِ قد سُدَّتْ مواردُه ... أمَا إليكَ طريقٌ غيرُ مسدودِ )
( لحائمٍ حامَ حتّى لا حِيامَ له ... مُحَّلأٍ عن طريق الماء مطرودِ )
الغناء لإسحاق رمل بالوسطى عنه وعن عمرو قال فمضى علويه فلما استقر به المجلس غناه بالشعر الذي أمرته فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال ويحك يا علويه لمن هذا قال يا سيدي لعبد من عبيدك جفوته واطرحته من غير جرم فقال أإسحاق تعني قال نعم

قال يحضر الساعة فجاءني رسوله فصرت إليه
فلما دخلت عليه قال ادن فدنوت فرفع يديه مادهما فانكببت عليه واحتضنني بيديه وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لبره

إسحاق يغني المعتضد
أخبرني محمد بن إبراهيم الجرجاني قريض قال قال لي أحمد بن أبي العلاء
غنيت المعتضد يوما وهو أمير
صوت
إسحاق
( يا سرحةَ الماء قد سُدَّتْ مواردُه ... أما إليكِ طريقٌ غيرُ مسدودِ )
فطرب واستعاده مرارا وقال هذا والله الغناء الذي يخالط الروح ويمازج اللحم والدم
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو العبيس بن حمدون قال أخبرني أبي قال لما غنى إسحاق في شعره هذا
صوت
( لأسماءَ رَسْمٌ عفا باللِّوَى ... أقام رَهيناً لطُول البِلَى )
( تَعاورَه الدهرُ في صَرْفِه ... بكَرِّ الجديدَيْنِ حتّى عفا )

الشعر لإسحاق من قصيدة مدح بها الرشيد والغناء له ثاني ثقيل بالوسطى
وفيه لسليم ثقيل أول من رواية الهشامي وذكر حبش أنه لإبراهيم ابن المهدي قال فكان الناس يتهادون الطرفة والباكورة
وقال أبو العبيس حدثني ابن مخارق أن الواثق بعث إلى أبيه مخارق لما صنع إسحاق هذا الصوت ليلقيه عليه فصادفه عليلا ولم يكن أحد يلقن عن إسحاق طرح الغناء كما يلقنه مخارق فأعاد إليه الرسول ومعه محفة لا بد أن يجيء على كل حال فتحامل وصار إليه حتى أخذ الصوت عن إسحاق ورجع
وذكر محمد بن الحسين الكاتب عن أبي حارثة الباهلي عن أخيه أبي معاوية
أن إسحاق كان يتحلى بالشجاعة والفروسية ويحب أن ينسب إليهما ويركب الخيل ويتعلم بها آفة من الآفات المعترضة على العقول
وكان قد شهد بعض مشاهد الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه فقال أخوه طياب فيه
( وأنت تكلّفتَ ما لا تُطيق ... وقلتَ أنا الفارسُ المَوْصِلِي )
( فلمّا أصابتك نُشَّابةٌ ... رجعت إلى سنّك الأوّل )
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال
قال حمزة الزيات القارئ يا موصلي إن لي فيك رأيا أفترضى

مع فهمك وأدبك ورأيك أن يكون عوضك من الآخرة فضل مطعم على مطعم
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أبو سعيد السكري قال أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لعمه يقول لإسحاق
( أئنْ تَغنّيتَ للشَّربِ الكرامِ ألا ... ردّ الخليط جمالَ الحيّ فانفرقوا )
( وقيل أحسنتَ فاستدعاك ذاك إلى ... ما قلتَ ويحك لا يَذهَبْ بك الخَرَقُ )
( وقيل أنت حُسَانُ الناسِ كلِّهمُ ... وابنُ الحُسانِ فقد قالوا وقد صدَقوا )
( فما بهذا تقوم النادياتُ ولا ... يُثْنَى عليك إذا ما ضَمَّك الخِرَقُ )
قال يحيى بن علي إن هذه الأبيات تروى لابن المنذر العروضي وللأصمعي

إسحاق والأصمعي
قال مؤلف هذا الكتاب كان إسحاق يأخذ عن الأصمعي ويكثر الرواية عنه ثم فسد ما بينهما فهجاه إسحاق وثلبه وكشف للرشيد معايبه وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه وأن الصنيعة لا تزكو عنده ووصف له أبا عبيدة معمر بن المثنى بالثقة والصدق والسماحة والعلم وفعل مثل ذلك للفضل

ابن الربيع واستعان به ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أنشدت الفضل بن الربيع أبياتا كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس
( كأنه في الجُلِّ وهو سامِي ... مُشتمِلٌ جاء من الحَمّامِ )
( يَسُور بين السَّرْج واللِّجامِ ... سَوْر القَطَامِيّ إلى اليَمامِ )
قال ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها فقال هات بقيتها فقلت له ألم تقل إنه لم يبق منها شيء فقال ما بقي منها إلا عيونها ثم أنشد بعد هذه الأبيات ثلاثين بيتا منها فغاظني فعله فلما خرج عرفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفه وبخله بما عنده ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر ابن المثنى وعلمه ونزاهته وبذله لما عنده واشتماله على جميع علوم العرب ورغبته فيه حتى أنفذ إليه مالا جليلا واستقدمه فكنت سبب مجيئه به من البصرة
أخبرني عمي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال
جاء عطاء الملك بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي الأصمعي وكان نذلا من الرجال فوجده ملتفا في كسائه نائما في الشمس فركضه برجله وصاح به يا قريب قم ويلك فقال له هل لقيت أحدا من أهل

العلم قط أو من أهل اللغة أو من العرب أم من الفقهاء أو من المحدثين قال لا والله قال ولا سمعت شيئا ترويه لنا أو تنشدناه أو نكتبه عنك قال لا والله فقال لمن حضر هذا أبو الأصمعي فاشهدوا لي عليه وعلى ما سمعتم منه لا يقل لكم غدا أو بعده حدثني أبي أو أنشدني أبي ففضحه
قال الفضل ثم مرض الأصمعي وكان الحال بينه وبين إسحاق الموصلي انفرجت فعاده أبو ربيعة وكان يرغب في الأدب ويبر أهله فقال له الأصمعي أقرضني خمسة آلاف درهم فقال أفعل
فقال له أبو ربيعة فأي شيء تشتهي سوى هذا فقال أشتهي أن تهدي إلي فصا حسنا وسيفا قاطعا وبردا حسنا وسرجا محلى فقال أفعل وبعث بذلك إليه لما عاد إلى منزله
وبلغ ذلك إسحاق فقال
( أليس من العجائب أنّ قِرْداً ... أُصَيْمِعَ باهِليًّا يستطيلُ )
( ويزعُم أنه قد كان يُفْتي ... أبا عمروٍ ويسأله الخليلُ )
( إذا ما قال قال أبي عجبنا ... لِما يأتي به ولِما يقولُ )
( وما إن كان يَدْرِي ما دَبِيرٌ ... أبوه إن سألتَ وما قَبِيلُ )
( وجَلَّله عطاءُ المُلْكِ عاراً ... تزول الراسياتُ ولا يزولُ )

( نصحتُ أبا ربيعةَ فيه جُهْدِي ... وبعضُ النصح أحياناً ثقيلُ )
( فقل لأبي رَبيعةَ إذ عصاني ... وجارَ به عن القصد السبيلُ )
( لقد ضاعتْ برودُك فاحتسبْها ... وضاع الفَصُّ والسيفُ الصقيلُ )
( وسرجٌ كان للبِرذَوْنِ زَيْناً ... له في إثْره جَزَعاً صهيلُ )
( وأمّا الخمسةُ الآلافِ فاعلمْ ... بأنّك غَبْنَها لا تستقبلُ )
( وأنّ قضاءها فَتَعزَّ عنها ... سيأتي دونه زمنٌ طويلُ )
حدثني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كنت جالسا بين يدي الواثق وهو ولي عهد إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان أحسن من رأته عيني قط تقدم عدة وصائف بأيديهن المذاب والمناديل ونحو ذلك فنظرت إليها نظر دهش وهو يرمقني
فلما تبين إلحاح نظري قال ما لك يا أبا محمد قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك فتلجلجت فقال لي رمتك والله هذه الوصيفة فأصابت قلبك فقلت غير ملوم فضحك ثم قال أنشدني في هذا المعنى فأنشدته قول المرار
( أَلِكْنِي إليها عَمْرَك اللهَ يا فتى ... بآية ما قالت متَى هو رائحُ )

( وآيةِ ما قالت لهنّ عَشِيَّةً ... وفي السِّتر حُرّاتُ الوجوه مَلاَئحُ )
( تَخَيَّرْنَ أَرْماكُنّ فارْمِينَ رميةً ... أخا أسدٍ إذ طرّحتْه الطوارحُ )
( فَلبَّسْنَ مِسْلاَسَ الوِشَاحِ كأنها ... مَهَاةٌ لها طِفْلٌ برُمَّانَ راشِحُ )
فقال له الواثق أحسنت بحياتي وظرفت اصنع فيها لحنا فإن جاء كما نريد وأطربنا فالوصيفة لك فصنعت فيه لحنا وغنيته إياه فاصطبح عليه وشرب بقية يومه وليلته حتى سكر ولم يقترح علي غيره وانصرفت بالجارية

يغني الواثق وهو خاثر النفس فيهش إليه
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال
دخلت على الواثق يوما وهو خاثر النفس فأخذت عودا من الخزانة ووقفت بين يديه فغنيته
( من الظباءِ ظباءٌ هَمُّها السُّخُبُ ... نرعَى القلوبَ وفي قلبي لها عُشُبُ )
( أهَوى الظباءَ اللواتي لا قُرونَ لها ... وحليها الدُّرُّ والياقوتُ والذهبُ )
( لا يَغْتَرِبْنَ ولا يسكُنَّ باديةً ... وليس يَعْرفن ما صَرٌّ ولا حَلَبُ )

( وفي الذين غَدَوْا نفسي الفداءُ لهم ... شمسٌ تَبَرقعُ أحياناً وتنتقبُ )
( يا حسنَ ما سَرَقتْ عيني وما انتهبتْ ... والعينُ تَسرِق أحياناً وتنتهبُ )
( إذا يدٌ سَرَقتْ فالقطعُ يلزمها ... والقطعُ في سَرَق العينين لا يجبُ )
قال فهش إلي ونشط ودعا بطعام خفيف وأكلنا واصطبح وأمر لي بمائة ألف درهم
وأخبرني به الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن الحسن عن إبراهيم بن محمد الكرخي عن إسحاق فذكر مثله وقال فيه فأمر لي بعشرة آلاف درهم
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن أخيه محمد قال
كان إسحاق الموصلي يدخل في مبطنة وطيلسان مثل زي الفقهاء على المأمون فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة يوم الجمعة بدراعة سوداء وطيلسان أسود فتبسم المأمون وقال له ولا كل هذا بمرة يا إسحاق ولكن قد اشترينا منك هذه المسألة بمائة ألف درهم حتى لا تغتم وأمر بحملها إليه فحملت
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبي خالد الأسلمي
أنه ذكر إسحاق يوما وكان يفضله ويعظم شأنه ويقدمه في الشعر تقديما مفرطا فقال ما قولكم في رجل محدث تشبه بذي الرمة وقال على لسانه

شعرا وغنى فيه ونسبه إليه فلم يشكك أحد سمعه أنه له ولا فطن لما فعل أحد إلا من حصل شعر ذي الرمة كله ورواه فسئل أبو خالد عن هذا الشعر فقال
( ومَدْرَجةٍ للريح تَيْهاءَ لم تكن ... ليَجْشَمَها زُمَّيْلةٌ غيرُ حازمِ )
( يَضِلّ بها السارِي وإن كان هادياً ... وتَقْطَعُ أنفاسَ الرياح النواسم )
( تَعَسَّفتُ أَفْرِي جَوْزَها بشِمِلَّةٍ ... بعيدةِ ما بين القَرَا والمَنَاسم )
( كأَنّ شِرَارَ المَرْوِ من نَبْذِها به ... نجومٌ هَوَتْ أخرى الليالي العواتم )
حدثني عمي وأحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال
غنيت المأمون يوما هذين البيتين
( لأحسنُ من قَرْعِ المَثَاني ورجعِها ... تَوَاتُر صوتِ الثغر يُقرَعُ بالثغرِ )
( وسكرُ الهوى أروَى لعظمِي ومَفْصِلي ... من الشُّرب في الكاسات من عاتق الخمر )
فقال لي المأمون ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن الفراغ والشباب والجدة
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال

كان لإسحاق غلام يقال له فتح يستقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما فقال إسحاق قلت له يوما أي شيء خبرك يا فتح قال خبري أنه ليس في هذه الدار أحد أشقى مني ومنك قلت وكيف ذلك قال أنت تطعم أهل الدار الخبز وأنا أسقيهم الماء فاستظرفت قوله وضحكت منه ثم قلت له فأي شيء تحب قال تعتقني وتهب لي البغلين أستقي عليهما فقلت له قد فعلت
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
كان لأبي البصير الشاعر قيان وكان يتكلم في الغناء بغير علم ولا صواب فيضحك منه فقال أبي فيه
( سكتُّ عن الغناء فما أُمارِي ... بصيراً لا ولا غيرَ البصيرِ )
( مخافةَ أن أُجنِّن فيه نفسي ... كما قد جُنَّ فيه أبو البصير )

الرشيد ينهاه عن الغناء
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
نهاني الرشيد أن أغني أحدا غيره ثم استوهبني جعفر بن يحيى وسأله أن يأذن لي في أن أغنيه ففعل واتفقنا يوما عند جعفر بن يحيى وعنده أخوه الفضل والرشيد يومئذ بعقب علة قد عوفي منها وليس يشرب فقال لي الفضل انصرف إلي الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم فقلت له إن الرشيد قد نهاني ألا أغني إلا له أو لأخيك وليس يخفى عليه خبري وأنا متهم عنده بالميل إليكم ولست أتعرض له ولا أعرضك ولم أجبه
فلما نكبهم الرشيد قال إيه يا إسحاق تركتني بالرقة وجلست ببغداد تغني للفضل بن يحيى فحلفت بحياته أني ما جالسته قط إلا على المذاكرة

والحديث وأنه ما سمعني قط أغني إلا عند أخيه جعفر وحلفت بتربة المهدي أن يسأل عن هذا جميع من في الدار من نسائه فسأل عنه فحدثنه بمثل ما ذكرته له وعرف خبر المائة الألف الدرهم التي بذلها لي فرددتها عليه
فلما دخلت عليه ضحك إلي ثم قال قد سألت عن أمرك فعرفت منه مثل ما عرفتني وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما بذله لك الفضل
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق أنه كان يقول الإسناد قيد الحديث فتحدث مرة بحديث لا إسناد له فسئل عن إسناده فقال هذا من المرسلات عرفا
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن أبيه وحدثني عمي عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال
أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب مولى المهدي فيهم

صوت
( عند الملوكِ مَضَرَّةٌ ومنافعٌ ... وأرى البَرَامِكَ لا تَضُرُّ وتنفع )
( إنْ كان شرٌّ كان غيرُهم له ... أو كان خيرٌ فهو فيهم أجمع )
( إن العروقَ إذا استَسرّ بها الثَّرَى ... أشِرّ النباتُ بها وطابَ المَزْرَعُ )
( فإذا جَهِلْتَ من امرئ أعراقَه ... وقديمَه فانظر إل ما يصنع )
قال فقال كأنا والله لم نسمع هذا الشعر قط قد كنا وصلناه بثلاثين ألف درهم وإذا نجدد له الساعة صلة له ولك معه لحفظك الأبيات فوصلنا بثلاثين ألف درهم

المأمون يعتب عليه فيسترضيه بشعر
وأخبرني الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى الكاتب أبو الجماز قال
عتب المأمون على إسحاق في شيء فكتب إليه رقعة وأوصلها إليه من يده ففتحها المأمون فإذا فيها قوله
( لا شيءَ أعظمُ من جُرْمي سوى أملي ... لحسن عفوك عن ذنبي وعن زَلَلي )
( فإنْ يكن ذا وذا في القَدْر قد عَظُما ... فأنت أعظمُ من جُرْمِي ومن أملي )
فضحك ثم قال يا إسحاق عذرك أعلى قدرا من جرمك وما جال بفكري ولا أخطرته بعد انقضائه على ذكري
إسحاق وابن بانة في مجلس الواثق
حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
خرجنا مع الواثق إلى القاطول للصيد ومعنا جماعة الجلساء والمغنين وفيهم عمرو بن بانة وعلويه ومخارق وعقيد وقدم إسحاق في ذلك الوقت فأخرجه معه فتصيد على القاطول ثم عاد فأكل وشرب أقداحا ثم أمر بالبكور إلى الصبوح فباكرنا واصطبحنا
فغنى عمرو بن بانة لحن إبراهيم الموصلي
صوت
( بلوتُ أمورَ الناس طُرًّا فأصبحتْ ... مُذَمَّمةً عندي بَرَاءً من الحمدِ )

( وأصبح عندي من وَثِقتُ بغَيْبه ... بَغِيضَ الأيادِي كلُّ إحسانه نَكْدُ )
ولحنه خفيف رمل بالوسطى فغناه على ما أخذه من إبراهيم بن المهدي وقد غيره
فقال الواثق لإسحاق أتعرف هذا اللحن فقال نعم هذا لحن أبي ولكنه مما زعم إبراهيم بن المهدي أنه جندره وأصلحه فأفسده ودمر عليه فقال له غنه أنت فغناه فأتى به على حقيقته واستحسنه الواثق جدا فغم ذلك عمرو بن بانة فقال لإسحاق أفأنت مثل إبراهيم بن المهدي حتى تقول هذا فيه قال لا والله ما أنا مثله أما على الحقيقة فأنا عبده وعبد أبيه وليس هذا مما نحن فيه وأما الغناء فما دخولك أنت بيننا فيه ما أحسنت قط أن تأخذ فضلا عن أن تغني ولا قمت بأداء غناء فضلا عن أن تميز بين المحسنين وإلا فغن أي صوت شئت مما أخذته عنه وعن غيره كائنا من كان فإن لم أوضح لك ولمن حضر أنه لا يسلم لك صوت من نقصان أجزاء وفساد صنعة فدمي به رهن فأساء عمرو الجواب وأغلظ في القول فأمضه الواثق وشتمه وأمر بإقامته عن مجلسه فأقيم
فلما كان من الغد دخل إسحاق على الواثق فأنشده
( ومجلسٍ باكرتُه بُكورا ... والطيرُ ما فارقتِ الوُكُورا )
( والصبحُ لم يِستنطقِ العُصفورا ... على غَديرٍ لم يكن دُعْثُورا )
( لم تَرَ عيني مثلَه غَديرا ... يجري حَبَابُ مائة مَسْجُورا )
( على حصًى تَحْسَبُه كافورا ... تسمع للماء به خَريرا )
( يَنْسِجُ أعلَى مَتْنِه سطورا ... نسيمُ ريحٍ قد وَنَتْ فُتورا )
( حتى تخالَ متَنه حَصيرا ... والشَّربُ قد حَفُّوا به حُضورا )
( وأمروا الساقيَ أن يُديرا ... كأسَهمُ الأصغرَ والكبيرا )

( وأعملوا البّمَّ معاً والزِّيرا ... وجاوبتْ عيدانُهم زَميرا )
( وقرّبوا المُغَنِّيَ النِّحْرِيرا ... مُقَدَّماً في حِذْقه مشهورا )
( فهم يطيرون به سرورا ... ولا ترى في شُربهم تقصيرا )
( ولا لِصفْو عيشهم تكديرا ... ولا لخُلْقٍ منهمُ نظيرا )
( إلاّ رُجَيْلاً منهمُ سِكِّيرا ... مُعَرْبِداً مُوَضِّحاً شِرِّيرا )
( مُدَّعِياً للعلم مستعيرا ... يروم سعياً كاذباً مغرورا )
( وأن يكون عالماً بصيرا ... مُفَضَّلاً بعلمه مذكورا )
( غَمَزْتُه ولم يكن صَبورا ... فعاذ منِّي هارباً مذعورا )
( بمعسرٍ تحسَبُهم حَميرا ... أشدّ منهم حُمُقاً كثيرا )
( لا ينطِقون الدهرَ إلا زُورا ... حتّى إذا كَسَّرتُه تكسيرا )
( كالليث لمّا ضَغَم الخِنْزِيرا ... وَلَّى انهزاماً خاسئاً مدحورا )
( معترفاً بذَلِّه مقهورا ... وكنتُ قِدْماً ضيغماً هَصُورا )
( معتلياً لقِرْنِه عَقورا ... وما أخاف الزمنَ العَثُورا )
( إذ كنتُ بالواثق مستجيرا ... قد عَزّ مَنْ كان له نصيرا )
( إمامُ عَدلٍ دَبَّر الأُمورا ... برأيه ولم يُرِدْ مُشيرا )
( ترى من الحقِّ عليه نورا ... تَقَبَّلَ المَهْدِيَّ والمنصورا )
( وَجدَّه الأدنى تُقىً وخِيرا ... وَرَّثه المعتصم التدبيرا )
( فأصبح الملك به مُنيرا ... وأصبح العدلُ به منشورا )
( قد أمِنَ الناسُ به المحظورا ... إذا علاَ المِنْبَرَ والسريرا )
( رأيت بدراً طالعاً منيرا ... بحراً ترى الغَنِيَّ والفقيرا )
( يرجون منه نائلاً غزيرا ... واللهِ لا زلتُ له شَكورا )

( لا جاحِدَ النُّعْمَى ولا كَفُورا ... وكنتُ بالشكر له جديرا )
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال سمعت إسحاق يقول
أنشدني الأصمعي قول الأعشى
( إن تركبوا فركوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تنزلون فإنّا معشرٌ نُزُلُ )
ثم قلت له أي شيء تحفظ في هذا المعنى وكان مع بخله بالعلم لا يبخل بمثل هذا فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي
( ولقد شَهِدتُ الخيلَ يوم طِرَادِها ... بسَلِيم أوْظِفَةِ القوائم هَيْكَلِ )
( فدعَوْا نَزَالِ فكنت أوّلَ نازل ... وعلامَ أركبُه إذا لم أَنزِلِ )
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد ابن محمد بن مروان قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
اجتمعنا يوما إما قال في منزلي أو في منزل محمد بن الحارث بن بسخنر ودخلنا ودخل إلينا إسحاق الموصلي وعندنا ملاحظ تغنينا وقد قامت الصلاة فدخل إسحاق وهي غائبة فقال فيم كنتم ومن عندكم فأخبرناه

بخبرها فقال لا تعرفوها من أنا فيخرجها التصنع لي والتحفظ مني عن طبعها ولكن دعوها وهواها حتى ننتفع بها وخرجت وهي لا تعرفه وجلست كما كانت أولا وابتدأت وغنت والصنعة لفليح بن أبي العوراء ولحنه رمل
هكذا أخبرنا إسحاق أن الغناء لفليح

صوت
( إنّي تَعلَّقْتُ ظبياً شادناً خَرِقاً ... عُلِّقتُه شِقوةً منّي وما عَلِقَا )
قال فطرب إسحاق وشرب حتى والى بين خمسة أقداح من نبيذ شديد كان بين يديه وهو يستعيدها فأخذ إسحاق دواة وكتب
( سأشرب ما دامت تغنِّي ملاحظُ ... وإن كان لي في الشَّيْب عن ذاك واعِظُ )
( ملاحظُ غنِّينا بعيشك وليكن ... عليك لما استحفظتُه منك حافظ )
( فأُقسم ما غنَّى عِناءَك مُحْسِنٌ ... مُجِيدٌ ولم يَلْفِظ كلَفْظك لافظ )
( وفي بعض هذا القولِ منّي مَساءةٌ ... وغيظٌ شديد للمغنِّين غائظ )
إسحاق يحدث الرشيد عن البرامكة فيزجره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق قال
قال لي الرشيد يوما بأي شيء يتحدث الناس قلت يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة فغضب وصاح بي وما أنت وذاك ويلك فأمسكت
فلما كان بعد أيام دعا بنا فكان أول شيء غنيته
صوت
( إذا نحن صَدَقْنَاكَ ... فضَرّ عندك الصدقُ )
( طلبنا النفعَ الباطِل ... ِ إذ لم يَنفع الحقُّ )

( فلو قَدَّم صبًّا في ... هواه الصبرُ والرِّفقُ )
( لقُدّمتُ على الناس ... ولكنّ الهوى رزقُ )
في هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى إسحاق وإلى ابن جامع والصحيح أنه لإسحاق
وقيل إن الشعر لأبي العتاهية قال
فضحك الرشيد وقال لي يا إسحاق قد صرت حقودا
أخبرني الحسن قال حدثنا يزيد بن محمد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على المعتصم يوما بسر من رأى فإذا الواثق بين يديه وعنده علويه ومخارق فغناه مخارق صوتا فلم ينشط له ثم غناه علويه فأطربه
فلما رأيت طربه لغناء علويه دون غناء مخارق اندفعت فغنيته لحني

صوت
( تَجَنَّبتَ ليلَى أن يَلِجَّ بك الهوى ... وهيهات كان الحبُّ قبل التجنُّبِ )
فأمر لي بألف دينار ولعلويه بخمسمائة دينار ولم يأمر لمخارق بشيء
نسبة هذا الصوت
صوت
( تَجَنَّبتَ ليلَى أن يَلِجَّ بك الهوى ... وهيهات كان الحبُّ قبل التجنُّب )
( إلا إنّما غادرتِ يا أٌمَّ مالكٍ ... صَدًى أينما تَذهَبْ به الريحُ يَذْهَبِ )
الشعر للمجنون
والغناء لإسحاق ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
وغنى ابن جامع في هذين البيتين وبيتين آخرين أضافهما إليهما ليسا من هذا الشعر هزجا بالبنصر
والبيتان المضافان

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45