كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

قال ابن المعتز وحدثني علي بن الحسين
أن عريب كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد وروى غيره أنها كانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحسن غنائه وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم وأصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه
قال ابن المعتز وحدثني بعض جوارينا
أن عريب كانت تتعشق صالحا المنذري الخادم وتزوجته سرا فوجه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له فقالت فيه شعرا وصاغت لحنه في خفيف الثقيل وهو

صوت
( أَمَّا الحبيبُ فقد مضى ... بالرغم منّيَ لا الرّضا )
( أخطأت ُ في تركِي لمن ... لم ألق منه مُعَوّضا )
قال فغنته يوما بين يدي المتوكل فاستعاده وجعل جواريه يتغامزن ويضحكن فأصغت إليهن سرا من المتوكل فقالت يا سحاقات هذا خير من عملكن
قال وحدثت عن بعض جواري المتوكل أنها دخلت يوما على عريب فقالت لها تعالي ويحك إلي فجاءت
قال فقالت قبلي هذا الموضع مني فإنك تجدين ريح الجنة فأومأت إلى سالفتها ففعلت ثم قالت لها ما السبب في هذا قالت قبلني صالح المنذري في ذلك الموضع

قال ابن المعتز وأخبرني أبو عبد الله الهشامي قال حدثني حمدون بن إسماعيل قال
حدثني محمد بن يحيى الواثقي قال
قال لي محمد بن حامد ليلة أحب أن تفرغ لي مضربك فإني أريد أن أجيئك فأقيم عندك ففعلت ووافاني فلما جلس جاءت عريب فدخلت
وقد حدثني به جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون
أن عريب زارت محمد بن حامد وجلسا جميعا فجعل يعاتبها ويقول فعلت كذا وفعلت كذا فقالت لي يا محمد هذا عندك رأي ثم أقبلت عليه فقالت يا عاجز خذ بنا فيما نحن فيه وفيما جئنا إليه
وقال جحظة في خبره
اجعل سراويلي مخنقتي وألصق خلخالي بقرطي فإذا كان غد فاكتب إلي بعتابك في طومار حتى أكتب إليك بعذري في ثلاثة ودع هذا الفضول فقد قال الشاعر
صوت
( دَعِي عَدَّ الذّنوب إذا التقينا ... تعاليْ لا أعدُّ ولا تعدِّي )
وتمام هذا قوله
( فأقسِم لو هممت بمدّ شعري ... إلى نار الجحيم لقُلْتِ مُدِّي )

الشعر للمؤمل والغناء لعريب خفيف رمل وفيه لعلوية رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة

عاشرت ثمانية من الخلفاء
أخبرني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب قال
حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات قال كنت يوما عند أخي أبي العباس وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها وجواريها يغنين بين يدينا وخلف ستارتنا فقلت لأخي وقد جرى ذكر الخلفاء قالت لي عريب ناكني منهم ثمانية ما اشتهيت منهم أحدا إلا المعتز فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد
قال ابن الفرات فأصغيت إلى بعض بني أخي فقلت له فكيف ترى شهوتها الساعة فضحك ولمحته فقالت أي شيء قلتم فجحدتها
فقالت لجواريها أمسكن ففعلن فقالت هن حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعا وهن حرائر إن حردت من شيء جرى ولو أنها تسفيل فصدقتها
فقالت وأي شيء في هذا أما الشهوة فبحالها ولكن الآلة قد بطلت أو قالت قد كلت عودوا إلى ما كنتم فيه
شرطان فاحشان
وحدثني الحسن بن علي بن مودة قال حدثني إبراهيم بن أبي العبيس قال حدثنا أبي قال
دخلنا على عريب يوما مسلمين فقالت أقيموا اليوم عندي حتى

أطعمكم لوزينجة صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب وما حضر من الوظيفة وأغنيكم أنا وهي قال فقلت لها على شريطة قالت وما هي قلت شيء أريد أن أسألك عنه منذ سنين وأنا أهابك قالت ذاك لك وأنا أقدم الجواب قبل أن تسأل فقد علمت ما هو فعجبت لها وقلت فقولي فقالت تريد أن تسألني عن شرطي أي شرط هو فقلت إي والله ذاك الذي أردت
قالت شرطي أير صلب ونكهة طيبة فإن انضاف إلى ذلك حسن يوصف وجمال يحمد فقد زاد قدره عندي وإلا فهذان ما لا بد لي منهما
وحدثني الحسن بن علي عن محمد بن ذي السيفين إسحاق بن كنداجيق عن أبيه قال
كانت عريب تولع بي وأنا حديث السن فقالت لي يوما يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث إلي نصيبي منها قال فاستأنفت طعاما كثيرا وبعثت إليها منه شيئا كثيرا فأقبل رسولي من عندها مسرعا فقال لي لما بلغت إلى بابها وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد وجهت إليك برسول وهو معي فتحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي فدخل الخادم ومعه شيء مشدود في منديل ورقعة فقرأتها فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم يا عجمي يا غبي ظننت أني من الأتراك ووخش الجند فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء الله المستعان عليك يا فدتك نفسي قد وجهت إليك زلة من حضرتي فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوه من الأفعال ولا تستعمل أخلاق العامة في رد الظرف فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله فكشفت المنديل فإذا طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلاف

وفيه زبدية فيها لقمتان من رقاق وقد عصبت طرفيهما وفيها قطعتان من صدر دراج مشوي ونقل وطلع وملح
وانصرف رسولها

تحلم ثلاث مرات في النوم بحبيبها
قال ابن المعتز حدثني الهشامي أبو عبد الله عن رجل ذكره عن علوية قال
أمرني المأمون وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح فغدونا ولقيني المراكبي مولى عريب وهي يومئذ عنده فقال لي يأيها الرجل الظالم المعتدي أما ترق ولا ترحم ولا تستحي عريب هائمة تحلم بك في النوم ثلاث مرات في كل ليلة قال علوية فقلت أم الخلافة زانية
ومضيت معه فحين دخلت قلت استوثق من الباب فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب وإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ وبين يديها ثلاث قدور من دجاج فلما رأتني قامت تعانقني وتقبلني ثم قالت أيما أحب إليك أن تأكل من هذه القدور أو تشتهي شيئا يطبخ لك فقلت بل قدر من هذه تكفينا فغرفت قدرا منها وجعلتها بيني وبينها فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب حتى سكرنا ثم قالت يا أبا الحسن صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية فقلت وما هو فقالت هو
( عَذِيري من الإنسان لا إن جفوته ... صَفا لي ولا إن كنت طوعَ يديه )

وقالت لي قد بقي فيه شيء فلم نزل نردده أنا وهي حتى استوى ثم جاء الحجاب فكسروا باب المراكبي واستخرجوني فدخلت على المأمون فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت فسمع وسمع من عنده ما لم يعرفوه واستظرفوه وسألني المأمون عن خبره فشرحته له
فقال لي ادن وردده فرددته عليه سبع مرات فقال في آخر مرة يا علوية
خذ الخلافة واعطني هذا الصاحب

نسبة هذا الصوت
صوت
( عَذِيري من الإنسان لا إن جَفَوتُه ... صفا لي ولا إن كُنتُ طَوعَ يديه )
( وإنّي لمشتاقٌ إلى قُربِ صاحِبٍ ... يَرُوق ويَصْفُو إن كَدرْتُ عليه )
الشعر من الطويل وهو لأبي العتاهية والغناء لعريب خفيف ثقيل أول بالوسطى ونسبه عمرو بن بانة في هذه الطريقة والأصبغ إلى علويه
سبب غضب الواثق والمعتصم عليها
قال ابن المعتز وحدثني القاسم ين زرزور قال حدثتني عريب قالت كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة وأنا حينئذ أصوغ الغناء
قال القاسم وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا فيكون أجود من لحنه فمن ذلك
( لم آتِ عامدةً ذَنْباً إليك بَلَى ... أُقِرّ بالذنب فاعفُ اليوم عن زَللي )
لحنها فيه خفيف ثقيل ولحن الواثق رمل ولحنها أجود من لحنه ومنها

( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بِرَبِّي ولا أشكو إلى أحَدِ )
لحنها ولحن الواثق جميعا من الثقيل الأول ولحنها أجود من لحنه

نسبة هذين الصوتين
صوت
( لم آتِ عامدةً ذنباً إليك بلى ... أُقِرُّ بالذّنب فاعفُ اليوم عن زللي )
( فالصّفح من سَيّدٍ أولى لمُعتَذرٍ ... وقاك رَبُّك يوم الخوفِ والوَجَلِ )
الغناء للواثق رمل ولعريب خفيف ثقيل وذكر ذكاء وجه الرزة أن لطالب ابن يزداد فيه هزجا مطلقا
صوت
( أشكو إلى الله ما ألقَى من الكَمَد ... حَسْبي بربي ولا أشكُو إلى أحد )
( أين الزمان الذي قد كنت ناعمةً ... في ظِلّه بدنُوّي منك يا سَندي )
( وأسأَلُ الله يوما منك يُفْرِحني ... فقد كحلتُ جفونُ العين بالسَّهَد )
( شوقا إليك وما تدري بما لقيت ... نفسي عليك وما بالقلب من كمد )
الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى وللواثق ثقيل أول بالبنصر
قال ابن المعتز وكان سبب انحراف الواثق عنها
وكيادها إياه وانحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون ببلد الروم اقتل أنت العلج ثم حتى أقتل أنا الأعور الليلي ها هنا
تعني الواثق وكان يسهر بالليل وكان المعتصم استخلفه ببغداد
قال وحدثني أبو العبيس بن حمدون قال

غضبت عريب على بعض جواريها المذكورات وسماها لي فجئت إليها يوما وسألتها أن تعفو عنها فقالت في بعض ما تقوله مما تعتد به عليها من ذنوبها يا أبا العبيس إن كنت تشتهي أن ترى زناي وصفاقة وجهي وجراءتي على كل عظيمة أيام شبابي فانظر إليها واعرف أخبارها

أجادت ركوب الخيل
قال ابن المعتز وحدثني القاسم بن زرزور قال حدثني المعتمد قال
حدثتني عريب أنها كانت في شبابها يقدم إليها برذون فتطفر عليه بلا ركاب
قال وحدثني الأسدي قال حدثني صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة قال
تمارى خالي أبو علي مع المأمون في صوت فقال المأمون أين عريب فجاءت وهي محمومة فسألها عن الصوت فقالت فيه بعلمها فقال لها غنيه فولت لتجيء بعود فقال لها غنيه بغير عود فاعتمدت على الحائط للحمى وغنت فأقبلت عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت ثم سقطت وقد غشي عليها
قال ابن المعتز وحدثني أبو العباس بن الفرات قال

قالت لي تحفة جارية عريب كانت عريب تجد في رأسها بردا فكانت تغلف شعرها مكان العلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا وتغسله من جمعة إلى جمعة فإذا غسلته أعادته وتتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان
حدثني أحمد بن جعفر جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال
دخلت يوما على عريب مسلما عليها فلما اطمأننت جالسا هطلت السماء بمطر عظيم فقالت أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وابعث إلي من أحببت من إخوانك فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة ومن كان يغنينا وأي شيء استحسنا من الغناء فأخبرتها أن

صوت
الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخوري فقالت وما هو فأخبرتها أنه
صوت
( تُجافِي ثم تَنطَبِقُ ... جفونٌ حَشوُها الأرقُ )
( وذي كَلَفٍ بكى جَزَعاً ... وسَفْرُ القوم مُنطلِقُ )
( به قَلَقٌ يُمَلْمِلُه ... وكان وما به قَلَقُ )
( جوانحُهُ على خَطَرٍ ... بِنارِ الشَّوق تَحترِقُ )
فوجهت رسولا إلى بنان فحضر من وقته وقد بلته السماء فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه وقدم له طعام فاخر فأكل وجلس يشرب معنا وسألته عن الصوت فغناها إياه فأخذت دواة ورقعة وكتبت فيها
( أجاب الوابِلُ الغَدِقُ ... وصاح النّرجس الغَرقُ )

( وقد غنّى بنان لنَا ... جُفونٌ حَشوُها الأَرقُ )
( فهاتِ الكأسَ مُترعةً ... كَأنَّ حُبابَها حدَقْ )
قال علي بن يحيى فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات

ترد على من دعاها برموز
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان عن عبد الله بن محمد المروزي قال
قال لي الفضل بن العباس بن المأمون زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها فوافتنا ونحن على شرابنا فتحادثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندي فأبت وقالت دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى بن منارة وقد عزمت على المسير إليهم فحلفت عليها فأقامت عندنا ودعت بداوة وقرطاس فكتبت
بسم الله الرحمن الرحيم وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها وهي
أردت ولولا ولعلي
ووجهت به إليهم فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة فكتب تحت أردت ليت وتحت لولا ماذا وتحت لعلي

أرجو ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلا وقالت لنا أأترك هؤلاء وأقعد عندكم إذا تركني الله من يديه ولكني أخلف عندكم من جواري من يكفيكم وأقوم إليهم ففعلت ذلك وخلفت عندنا بعض جواريها وأخذت معها بعضهن وانصرفت
أخبرنا محمد بن خلف عن سعيد بن عثمان بن أبي العلاء عن أبيه قال
عتب المأمون على عريب فهجرها أياما ثم اعتلت فعادها فقال لها كيف وجدت طعم الهجر فقالت يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ومن ذم بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا قال فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة ثم قال أترى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيرا

هجرت المأمون أياما لأنها غضبت منه
حدثني محمد بن خلف عن أبي العيناء عن أحمد بن أبي دؤاد قال
جرى بين عريب وبين المأمون كلام فكلمها المأمون بشيء غضبت منه فهجرته أياما قال أحمد بن أبي داود فدخلت على المأمون فقال لي

يا أحمد اقض بيننا فقالت عريب لا حاجة لي في قضائه ودخوله فيما بيننا وأنشأت تقول
( وتخلِط الهجرَ بالوصال ولا ... يدْخُل في الصُّلح بَينَنا أَحدُ )
حدثني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن عبد الرحمن عن أحمد بن حمدون عن أبيه قال
كنت حاضرا مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي المأمون اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق يعني المعتصم فأد إليه رسالتي في كيت وكيت قال فركبت ولم تثبت معي شمعة وسمعت وقع حافر دابة فرهبت ذلك وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي ركاب تلك الدابة وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب فإذا عريب فقلت عريب قالت نعم حمدون قلت نعم
ثم قلت من أين أقبلت في هذا الوقت قالت من عند محمد ابن حامد قلت وما صنعت عنده قالت عريب ياتكش عريب تجيء من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه تقول لها أي شيء عملت عنده صليت معه التراويح أوقرأت عليه أجزاء من القرآن أو دارسته شيئا من الفقه يا أحمق تعاتبنا وتحادثنا واصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنينا وتنايكنا وانصرفنا فأخجلتني وغاظتني وافترقنا ومضيت فأديت الرسالة ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار وهممت والله أن أحدثه حديثها ثم هبته فقلت أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر فأنشدته

( ألا حيِّ أطلالاً لواسعة الحبل ... أَلوفٍ تسوّي صالح القوم بالرَّذْل )
( فلو أَن من أَمسَى بجانب تلعَة ... إلى جبليْ طيٍّ فساقطة الحَبْلِ )
( جلوس إلى أَن يَقْصر الظّلّ عندها ... لراحوا وكُلّ القوم منها على وصْل )
فقال لي المأمون اخفض صوتك لا تسمعك عريب فتغضب وتظن أنا في حديثها فأمسكت عما أردت أن أخبره وخار الله لي في ذلك
حدثني محمد بن أحمد الحكيمي قال أخبرني ميمون بن هارون قال قال لي ابن اليزيدي
حدثني أبي قال خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الروم فرأيت عريب في هودج فلما رأتني قالت لي يا يزيدي أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا فأنشدتها
( ماذا بقلبي من دوامِ الخفْق ... إذَا رأَيتُ لمعانَ البَرْقِ )
( من قِبَل الأردُنِّ أو دِمشْق ... لأَنّ من أَهوَى بذاك الأفْق )
( فإنّ فيه وهو أَعزّ الخَلْق ... عليّ والزّورُ خلاف الحقّ )
( ذاك الذي يَملِك بني رِقِّي ... ولست أَبغِي ما حَييتُ عِتْقِي )
قال فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه فقلت هذا والله تنفس أعشق فقالت اسكت يا عاجز أنا عاشق والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا طريفا

شعر لعباس بن الأحنف يصلح بينها وبين حبيبها
حدثني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن حمدون قال

وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شر وكان يجد بها الوجد كله فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة وكان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها فلقيته يوما فقالت له كيف قلبك يا محمد قال
أشقى والله ما كان وأقرحه فقالت له استبدل تسل فقال لها لو كانت البلوى باختيار لفعلت فقالت لقد طال إذا تعبك فقال وما يكون أصبر مكرها أما سمعت قول العباس بن الأحنف
( تَعَبٌ يطول مع الرجاء بذي الهَوى ... خَيرٌ له من رَاحةٍ في الياسِ )
( لولا كرامتُكم لما عاتَبتكُم ... ولكنتُمُ عندي كبَعْضِ النّاسِ )
قال فذرفت عيناها واعتذرت إليه وأعتبته واصطلحا وعادا إلى أفضل ما كانا عليه

اختلاف في تقييم فنها
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال قال لي أبو العباس بن حمدون وقد تجاذبنا غناء عريب ليس غناؤها مما يعتد بكثرته لأن سقطه كثير وصنعتها ساذجة فقلت له ومن يعرف في الناس كلهم من مغني الدولة العباسية سلمت صنعته كلها حتى تكون مثله ثم جعلت أعد ما أعرفه من جيد صنعتها ومتقدمها وهو يعترف بذلك حتى عددت نحوا من مائة صوت مثل لحنها في
( يا عزّ هل لك في شيخٍ فتًى أبدا ... )

و
( سيسليك عما فات دولةَ مفضل ... ) و
( صاح قد لمت ظالما ... ) و
( وضحك الزمان وأشرقت ... )
ونحو هذا ثم قال لي ما خلفت عريب بعدها امرأة مثلها في الغناء والرواية والصنعة فقلت له لا ولا كثيرا من الرجال أيضا
ولعريب في صنعتها
( يا عزّ هل لكِ في شيخٍ فتى أبدا ... )
خبر أخبرني ببعضه أحمد بن عبيد الله بن عمار عن ميمون بن هارون
وذكر ابن المعتز أن عبد الواحد بن إبراهيم بن الخصيب حدثه عمن يثق به عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي قال
قالت لي عريب حج بي أبوك وكان مضعوفا فكان عديلي وكنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار وأكتب عنهم النوادر وسائر ما أسمعه منهم فوقف شيخ من الأعراب علينا يسأل فاستنشدته فأنشدني
( يا عزّ هل لك في شيخ فَتًى أبدا ... وقد يكون شَبابٌ غَيرُ فِتيان )
فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك قلت فأنشدني باقي الشعر فقال لي هو يتيم فاستحسنت قوله وبررته وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه
فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك إنه يتيم
أنشدينيه إن كنت حفظته فأنشدته إياه وأعلمته أني قد غنيت فيه ثم غنيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب وفرح بالصوت فرحا شديدا
قال ابن المعتز قال ابن الخصيب
فحدثني هذا المحدث أنه قد حضر بعد ذلك بمجلس أبي عيسى بن المتوكل

ومن ها هنا تتصل رواية ابن عمار عن ميمون وقد جمعت الروايتين إلا أن ميمون بن هارون ذكر أنهم كانوا عند جعفر بن المأمون وعندهم أبو عيسى وكان عندهم علي ابن يحيى وبدعة جارية عريب تغنيهم فذكر علي بن يحيى أن الصنعة فيه لغير عريب وذكر أنها لا تدعي هذا وكابر فيه فقام جعفر بن المأمون فكتب رقعة إلى عريب ونحن لا نعلم يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة ففعلت فكتبت إليه بخطها
بسم الله الرحمن الرحيم
( هَنِيًّا لأرباب البيوت بُيوتُهم ... وللعَزَب المسكين ما يَتَلمَّسُ )
أنا المسكينة وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيما أنتم وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني تعني جاريتيها بدعة وتحفة فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف ذلك هناكم الله وأبقاكم وسألت مد الله في عمرك عما اعترض فيه فلان والقصة في هذا الصوت كذا وكذا وقصت قصتها مع الأعرابي كما حدثت به ولم تخرم حرفا منها فجاء الجواب إلى جعفر بن المأمون فقرأه وضحك ثم رمى به إلى أبي عيسى ورمى به أبو عيسى إلي وقال اقرأه وكان علي بن يحيى جالسا إلى جنبي فأراد أن يستلب الرقعة فمنعته وقمت ناحية فقرأتها فأنكر ذلك وقال ما هذا فورينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة وكان عفا الله عنا وعنه مبغضا لها

تعرف خبر صوت لا يعرفه أحد على وجه الأرض
قال ابن المعتز وحدثني أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات قال حدثني أبي قال
كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذ غنى بعض من كان هناك

( يا بدرُ إنّك قد كُسِيت مشابِهاً ... من وجه ذاك المستنيرِ اللاّئحِ )
( وأَراك تمصَح بالمحاق وحسنُها ... باقٍ على الأيام ليس ببارح )
فضحكت عريب وصفقت وقالت ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصوت غيري فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري فسألتها فقالت أنا أخبركم بقصته ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم إن أبا محلم قدم بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما فرأته يبول فأعجبها متاعه وأحبت مواصلته فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا وتعلمه أنها في ضيقة وأنها ترده إليه بعد جمعة فبعث إليها عشرة آلاف درهم وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث به فاستحسنت ذلك وواصلته وجعلت القرض سببا للوصلة فكانت تدخله إليها ليلا وكنت أنا أغني لهم فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه ثم دعا بدواة ورقعة وكتب فيها قوله
( يا بدرُ إنك قد كُسِيتَ مشابها ... من وَجْهِ أُمّ محمد ابنةِ صَالحَ )
والبيت الآخر وقال لي غني فيه ففعلت واستحسناه وشربنا عليه فقالت لي أم محمد في آخر المجلس يا أختي قد تنبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر فقال أبو محلم وأنا أغيره فجعل مكان أم محمد ابنة صالح
( ذاك المستنير الائح ... )
وغنيته كما غيره وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر

فأما نسبة هذا الصوت
فإن الشعر لأبي محلم النسابة والغناء لعريب ثقيل أول مطلق في مجرى

الوسطى من رواية الهشامي وغيره وأبو محلم اسمه عوف بن محلم

كتبت إلى حبيبها تستزيره
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن ميمون بن هارون قال
كتبت عريب إلى محمد بن حامد الذي كانت تهواه تستزيره فكتب إليها إني أخاف على نفسي فكتبت إليه
صوت
( إذا كنتَ تحذرُ ما تحذرُ ... وتزعُم أنك لا تَجسُرُ )
( فمالي أُقيِمُ على صَبْوَتي ... ويَومُ لِقائِك لا يُقدَرُ )
فصار إليها من وقته
لعريب في هذين البيتين وبيتين آخرين بعدهما لم يذكرا في الخبر رمل ولشارية خفيف رمل جمعا من رواية ابن المعتز والبيتان الآخران
( تبيَّنتَ عذري وما تَعذِر ... وأبليتَ جسمي وما تشعرُ )
( ألِفْتَ السُّرورَ وخَلَّيْتَني ... ودَمْعِي من العين ما يَفترُ )
وذكر ميمون في هذا الخبر أن محمد بن حامد كتب إليها يعاتبها في شيء كرهه فكتبت إليه تعتذر فلم يقبل فكتبت إليه بهذين البيتين الآخرين اللذين ذكرتهما بعد نسبة هذا الصوت
صوت
( أَحببتُ من شعر بَشّار لحبكمُ ... بَيْتا كلِفت به من شِعْرِ بَشّار )

( يا رحمةَ اللّهِ حُلِّي في مَنازِلنا ... وجاوِرِينا فدَتْكِ النَّفسُ من جارِ )
( إذا ابتهلتُ سألتُ اللَّهَ رحمتَه ... كنيتُ عنك وما يَعدُوك إضماري )
الشعر لأبي نواس منه البيت الأول والثاني لبشار ضمنه أبو نواس والغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر ولعمرو بن بانة في الثاني والثالث رمل
وهذا الشعر يقوله أبو نواس في رحمة ابن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد النحوي قال
كان بشار يشبب بامرأة يقال لها رحمة وكان أبو نواس يتعشق غلاما اسمه رحمة بن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب وكان متقدما في جماله وكان أبوه قد ألزمه وأخاه رجلا مدنيا وكان معهم كأحدهم وأكثر أبو نواس التشبيب برحمة في إقامته ببغداد وشخوصه عنها وكان بشار قد قال في رحمة المرأة التي يهواها
( يا رحمةَ اللّه حُلّي في منازلنا ... حَسْبي برائحة الفِرْدَوْس من فِيك )
( يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مُخْتَبَرٍ ... إلا شِهادةَ أطرافِ المساويكِ )
فقال أبو نواس وضمن بيت بشار
( أحببت من شعر بشار لُحبِّكم ... بَيْتا كَلِفْت به من شِعْر بَشّار )
الأبيات الثلاثة
وقال فيه
( يا مَن تأهّب مُزمعاً لِرواحَ ... مُتَيَمّما بغدادَ غيرَ مُلاحِ )
( في بَطْن جَارية كَفَتْك بسَيْرها ... رَمَلاً وكلَّ سِباحة السَّبّاح )
( بُنيت على قَدَرٍ ولاءم بينها ... صِنْفان من قارٍ ومن ألواحِ )

( وكأنها والماء ينضح صدرَها ... والخَيزُرانة في يَدِ الملاَّحِ )
( جُونٌ من الغِربان يبتدر الدّجى ... يَهْوِي بصَوْتٍ واصطِفاقِ جَناحِ )
( سلّم على شاطئ الصّراة وأهلِها ... واخصُص هناك مَدِينةَ الوَضَّاح )
( واقصدْ هُديت ولا تكن متحيّرا ... في مقصِدٍ عن ظَبْي آل نَجاحِ )
( عن رحمة الرحمن واسأل مَنْ ترى ... سِيماه سيما شارِب للرّاح )
( فإذا دُفِعْتَ إلى أغنَّ وألثغٍ ... ومُنَعَّم ومُكَحَّل ورَداح )
( وكشَمْسِنا وكبدرنا حاشى التي ... سَمَّيْتَها منه بنَوْر أَقاحي )
( فاقصِد لوقت لِقائه في خَلْوة ... لِتَبوح عني ثَمَّ كلّ مباحِ )
( واخبرْ بما أحبَبْت عن حالي التي ... ممسَايَ فيها واحدٌ وصبَاحِي )
قال فافتدى أبو رحمة من أبي نواس ذكر ابنه بأن عقد بينه وبينه حرمة ودعاه إلى منزله فجاءه أبو نواس والمديني لا يعرفه فمازحه مزاحا أسرف عليه فيه فقام إليه رحمة فعرفه أنه أبو نواس فأشفق المديني من ذلك وخاف أن يهجوه ويشهر اسمه فسأل رحمة أن يكلمه في الصفح له والإغضاء عن الانتقام فأجابه أبو نواس وقال
( اذهبْ سلمتَ من الهجاء ولذعِه ... وأَمَا ولَثغةِ رحمةَ بنِ نجاح )
( لولا فُتورٌ في كلامك يُشتَهى ... وتَرفُّقِي لك بعدُ واستِملاحِي )
( وَتكَسُّرٌ في مقلتيك هو الذي ... عَطَف الفُؤاد عليكَ بعد جِماح )

( لعَلِمت أنك لا تمازِح شاعِراً ... في ساعةٍ ليست بحينِ مُزاحِ )

صوت
( أَأبكاك بالعُرُف المنزلُ ... وما أنت والطَّلَلُ المُحولُ )
( وما أنتَ ويْك ورسمُ الدّيَارِ ... وسِنُّك قد قاربت تَكمُلُ )
عروضه من المتقارب والشعر للكميت بن زيد الأسدي والغناء لمعقل بن عيسى أخي أبي دلف العجلي ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر وهذان البيتان من قصيدة مدح الكميت بهما عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن علي بن هشام عن محمد بن عبد الأعلى بن كناسة قال
كان بين بني أسد وبين طيء بالحص وهي قريبة من قادسية الكوفة حرب فاصطلحوا وبقي لطيء دماء رجلين فاحتمل ذلك رجل من بني أسد فمات قبل أن يؤديه فاحتمله الكميت بن زيد فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة فمدحه بقوله
( أَأبكاك بالعُرُفِ المنزلُ ... وما أنت والطّلل المحوِلُ )
فأعانه الحكم بن الصلت الثقفي فمدحه بقصيدته التي أولها
( رأيت الغوانيَ وحشا نَفُورا ... )
وأعانه زياد بن المغفل الأسدي فمدحه بقصيدته التي أولها

( هل للشباب الذي قد فات من طلب ... )
ثم جلس الكميت وقد خرج العطاء فأقبل الرجل يعطي الكميت المائتين والثلاث المائة وأكثر وأقل قال وكانت دية الأعاربي حينئذ ألف بعير ودية الحضري عشرة آلاف درهم وكانت قيمة الجمل عشرة دراهم فأدى الكميت عشرين ألفا عن قيمة ألفي بعير

نسبة ما في أشعار الكميت هذه من الأغاني
صوت
منها
( هل للشباب الذي قد فات من طلبِ ... أم ليس غابرُه الماضي بمُنقلبِ )
( دَعِ البكاء على ما فات من طلب ... فالدّهر يأتي بألوان من العَجبِ )
غناه إبراهيم الموصلي خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية إسحاق

ذكر معقل بن عيسى
كان شاعرا ومغنيا
كان معقل بن عيسى فارسا شاعرا جوادا مغنيا فهما بالنغم والوتر وذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبي دلف وتقريظه في المعرفة بالنغم وقال إنه من أحسن أهل زمانه وأجود طبقته صنعة إذ سلم ذلك له أخوه معقل وإنما أخمل ذكره ارتفاع شأن أخيه وهو القائل لأبي دلف في عتب عتبه عليه
( أُخَيَّ مالكَ ترميني فتُقصِدَني ... وإن رَمَيتُك سهماً لم يجزْ كبدِي )
( أُخيَّ مالَكَ مجبولاً على تِرتي ... كأن أجسادنا لم تُغْذَ من جسدِ )
وهو القائل لمخارق وقد كان زار أبا دلف إلى الجبل ثم رجع إلى العراق أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري
صوت
( لعمري لئن قَرَّتْ بقُربك أعينٌ ... لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ )

( فَسِرْ أو أقِم وقفٌ عليك محبَّتي ... مكانُك من قلبي عليك مَصونُ )
( فما أوحشَ الدنيا إذا كنتَ نازحاً ... وما أحسنَ الدنيا بحيثُ تكونُ )
عروضه من الطويل والشعر لمعقل بن عيسى والغناء لمخارق ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وفيه لحن لمعقل بن عيسى خفيف رمل وفيه ثاني ثقيل يقال إنه لمخارق ويقال إنه لمعقل
ومن شعر معقل قوله يمتدح المعتصم وفيه غناء للزبير بن دحمان من الثقيل الأول بالبنصر

صوت
( الدارُ هاجك رسمُها وطلولُها ... أم بَيْنُ سُعْدَى يوم جَدَّ رحِيلُها )
( كُلٌّ شجاك فقل لعينك أَعوِلي ... إن كان يُغنِي في الديار عَوِيلُها )
( ومحمدٌ زينُ الخَلائِف والذي ... سَنَّ المكارمَ فاستَبان سَبِيلُها )
صوت
( أليسَ إلى أجبال شمخٍ إلى اللّوى ... لِوَى الرَّمل يوما للنُّفوس مَعادُ )
( بِلادٌ بها كُنّا وكنا مِنَ أهلِها ... إذِ النّاسُ ناسٌ والبلادُ بلادُ )
الشعر لرجل من عاد فيما ذكروا والغناء لابن محرز ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر عن ابن المكي وقيل إنه من منحوله إليه
أخبرني ابن عمار عن أبي سعد عن محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن سلمة بن أبي الأشهب التيمي عن الهيثم بن عدي قال أخبرني حماد الراوية قال
حدثني ابن أخت لنا من مراد قال وليت صدقات قوم من العرب فبينا أنا أقسمها في أهلها إذ قال لي رجل منهم ألا أريك عجبا قلت بلى فأدخلني في

شعب من جبل فإذا أنا بسهم من سهام عاد من فتى قد نشب في ذروة الشعب وإذا على الجبل تجاهي مكتوب
( ألا هَلْ إلى أبياتِ شمخ إلى اللّوى ... لِوى الرّمل يوماً للنفوس معادُ )
( بلاد بها كُنَّا وكنا مِنَ أهلها ... اذِ النّاسُ ناسٌ والبلاد بلادُ )
ثم أخرجني إلى ساحل البحر وإذا أنا بحجر يعلوه الماء طورا ويظهر تارة وإذا عليه مكتوب يا بن آدم يا بن عبد ربه اتق الله ولا تعجل في أمرك فإنك لن تسبق رزقك ولن ترزق ما ليس لك ومن البصرة إلى الديل ستمائة فرسخ فمن لم يصدق بذلك فليمش الطريق على الساحل حتى يتحققه فإن لم يقدر على ذلك فلينطح برأسه هذا الحجر
صوت
( يا بيت عاتكَة الذي أتعَزَّل ... حَذَر العِدا وبه الفُؤادُ موكَّلُ )
( إني لأمنحُكَ الصّدودَ وإنني ... قَسماً إليك مع الصّدود لأميَلُ )
أتعزله أتجنبه وأكون بمعزل عنه
العدا جمع عدو ويقال عدا بالضم وعدا بالكسر وأمنحك أعطيك
والمنيحة العطية
وفي الحديث أن رجلا منح بعض ولده شيئا من ماله فقال له النبي أكل ولدك منحت مثل هذا قال لا قال فارجعه
الشعر للأحوص بن محمد الأنصاري من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وغيرهما وفيه لابن سريج خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وعلي بن يحيى

الأحوص وبعض أخباره
سرق أبيات سليمان بأعيانها وأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط
أخبرني بخبر الأحوص في هذا الشعر الحرمي عن الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي وأخبرنا به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري عن المؤملي عن عمر بن أبي بكر الموصلي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال
خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى الحج فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل فأنشدنا شيئا من شعره فأرسل إليه فأتانا فاستنشدناه فأنشدنا قصيدته التي يقول فيها
( يا بيتَ خَنْساءَ الذي أتجنَّب ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يَذْهب )
( أصبحت أمنَحُكِ الصدودَ وإنّني ... قَسماً إليك مع الصّدود لأجنُبُ )
( ما لي أحنّ إلى جِمالِك قُرِّبت ... وأصُدُّ عنك وأنت مِنّيَ أقربُ )
( لله درُّك هل لديك مُعوَّلٌ ... لمتَيَّم أم هل لوُدّك مَطلبُ )

( فلقد رأيتك قبل ذاكَ وإنني ... لمُوكَّل بهواك أو مُتَقَرّب )
( إذ نحن في الزمن الرخيّ وأنتُم ... متجاورون كلامُكم لا يُرقَبُ )
( تبكي الحمامةُ شَجوها فتَهِيجُني ... ويروح عازبُ همِّيَ المتأوِّبُ )
( وتَهبُّ جاريةُ الرياح مِنَ أرضكم ... فأرى البلاد لها تُطِلُّ وتُخصِب )
( وأرى السّمية باسمكم فيزيدُني ... شوقاً إليك رجاؤك المُتَنسّبُ )
( وأرى العدوَّ يودّكم فأودّه ... إن كان يُنسب منك أو لا يُنسبُ )
( وأُخالِف الوَاشِينَ فيك تجمُّلا ... وهُم عليَّ ذَوُو ضغائِن دُؤَّبُ )
( ثم اتخذتِهم عليَّ وَليجةً ... حتى غَضِبت ومثلُ ذلك يُغضِبُ )
قال فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان فقدم المدينة فدخل عليه الأحوص واستصحبه فأصحبه فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده ماذا تريد بنفسك تقدم بالأحوص الشام وبها من ينافسك من بني أبيك وهو من الأفن والسفه على ما قد علمت فيعيبونك به
فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص متنجزا لما وعده من الصحابة فدعا له بمائة دينار وأثواب وقال يا خال إني نظرت فيما سألتني من الصحابة فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين من غير إذنه فيجبهك فيشمت بك عدوي من أهل بيتي ولكن خذ هذه الثياب والدنانير وأنا مستأذن لك أمير المؤمنين فإذا أذن لك كتبت إليك فقدمت علي فقال له الأحوص لا ولكن قد سبعت عندك ولا حاجة لي بعطيتك ثم خرج من عنده فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فأرسل إلى الأحوص وهو يومئذ أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار وكساه ثيابا فأخذ ذلك ثم قال له

يا أخي هب لي عرض أبي بكر قال هو لك ثم خرج الأحوص فقال في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز
وقال حماد قال أبي سرق أبيات سليمان بأعيانها فأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط فقال
( يا بيتَ عاتكة الذي أتعزَّل ... حذَر العِدَا وبه الفؤاد موكَّل )
( أصبحتُ أمنحُك الصّدودَ وإنَّني ... قسَماً إليك مع الصّدود لأَمْيَل )
( فصددتُ عنك وما صددتُ لِبغْضةٍ ... أخشى مقالةَ كاشحٍ لا يَعْقِلُ )
( هل عيشُنا بك في زمانك راجعٌ ... فلقد تفاحش بعدك المتعلّل )
( إني إذا قُلتُ استقام يحُطُّه ... خُلْفٌ كما نظر الخِلافَ الأقبَلُ )
( لو بالّذي عالجت ليِنَ فؤاده ... فأبَى يُلانُ بِه لَلانَ الْجَنْدلُ )
( وتَجنُّبي بَيتَ الحبيبِ أودُّه ... أُرضِي البغيضَ به حديثٌ مُعْضِلُ )
( ولئن صددتُ لأنتِ لولا رِقبتي ... أهوَى من اللائي أزورُ وأدْخُل )
( إنّ الشَّبابَ وعيشَنا اللذَّ الذي ... كُنَّا به زمنا نُسرُّ ونَجذَلُ )
( ذهبت بشاشتُه وأَصبَح ذكرُه ... حُزْنا يُعلُّ به الفؤاد وينهلُ )
( إلاَّ تَذَكُّرَ ما مضى وصبابة ... مُنِيَتْ لقلْب متيَّمٍ لا يَذْهلُ )
( أودَى الشبابُ وأخلقَتْ لذَّاتُه ... وأنا الحزِينُ على الشباب المُعْوِلُ )
( يبكِي لما قَلَب الزمانُ جديدَه ... خَلقاً وليس على الزّمان مُعوَّلُ )
( والرأس شامِلُه البَياضُ كأنه ... بعد السّواد به الثَّغامُ المُحْجِل )

( وسفيهةٍ هبَّت عليَّ بسُحْرةٍ ... جَهْلاً تلوم على الثّواء وتعذلُ )
( فأجبتُها أن قلتُ لستِ مُطاعةً ... فذرِي تنصُّحكَ الذي لا يُقبَلُ )
( إنّي كَفانِي أن أعالج رِحْلَةً ... عُمَرٌ ونبوةُ من يضنّ ويبخل )
( بِنَوال ذي فجرٍ تكون سِجالُه ... عَمَمًا إذا نزل الزَّمانُ الممحلُ )
( ماضٍ على حدث الأمور كأنه ... ذو رَوْنق عَضْبٌ جَلاهُ الصَّيْقَلُ )
( تُبدي الرجال إذا بدا إعظامه ... حذَرّ البُغاث هَوَى لهنّ الأجْدَلُ )
( فيرون أنّ له عليهم سورةً ... وفضيلَةً سَبَقَت له لا تُجْهَلُ )
( مُتَحمِّل ثِقَلَ الأمورِ حوى له ... سبقَ المكارم سابِقٌ مُتَمَهّلُ )
( وله إذا نُسِبَت قريشٌ منهم ... مجد الأرومة والفَعالُ الأفضلُ )
( وله بمكة إذْ أميّة أهلُها ... إرثٌ إذا عُدَّ القديمُ مُؤثّلُ )
( أعيت قرابَتُه وكان لُزومُه ... أمْراً أبانَ رَشَادَه مَنْ يَعْقِل )
( وسموتَ عن أخلاقهم فتركتهم ... لنداك إنّ الحازمَ المتحوّلُ )
( ولقد بدأتُ أريدُ وُدَّ معاشِرٍ ... وَعَدُوا مواعِدَ أخلفت إن حُصِّلوا )
( حتى إذا رجع اليقينُ مطامِعي ... يأساً وأخلَفَني الذين أُؤمّلُ )
( زايلتُ ما صَنَعوا إليك برحلةٍ ... عَجْلَى وعندك عنهمُ مُتَحوَّلُ )
( ووعدتَني في حاجةٍ فصَدَقْتَني ... ووفيتَ إذ كَذَبُوا الحديثَ وبَدَّلوا )
( وشكوتُ غُرماً فادحاً فحملتَه ... عَنِّي وأنت لمثلِه مُتَحمِّل )
( فلأشكرنَّ لك الذي أوليتَني ... شُكراً تُحلُّ به المطيُّ وتُرحَلُ )

( مِدَحاً تكون لكم غرائبُ شعرها ... مَبْذُولَةً ولغيركم لا تبذل )
( فإذا تَنَحَّلْتُ القريضَ فإنّه ... لكم يكون خِيارُ ما أَتَنَحَّلُ )
( ولعمرُ مَن حَجَّ الحجيجُ لِبَيْته ... تَهْوِي به قُلُص المَطِيّ الذُّمَّلُ )
( إنَّ امرأً قد نال منك قرابةً ... يَبْغي منافِعَ غيرها لمُضَلَّلُ )
( تَعْفُو إذا جَهِلُوا بحملك عنهم ... وتُنِيل إن طلبوا النّوال فتُجزِلُ )
( وتكون مَعْقِلَهمْ إذا لم يُنجِهم ... من شَرّ ما يخشون إلاّ المَعْقِل )
( حتى كأنك يُتَّقى بك دونهمْ ... من أُسْدِ بِيشة خادِرٌ مُتَبَسِّل )
( وأَراكَ تفعلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعل )
( وأرى المدينةَ حين صِرْت أميرَها ... أمِنَ البَرِيءُ بها ونام الأعزل )
فقال عمر ما أراك أعفيتني مما استعفيت منه قال لأنه مدح عمر وعرض بأخيه أبي بكر

نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الأغاني
صوت
( مالي أحِنُّ إذا جِمالُك قُرِّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقربُ )
( وأرى البلادَ إذا حللتِ بغيرها ... وَحْشاً وإن كانت تُظَلّ وتُخصِبُ )
( يا بيت خنساءَ الذي أتجنَّب ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يذهَبُ )
( تبكي الحمامةُ شجوَها فتَهيجُني ... ويَرُوحُ عازب هَمِّيَ المتأوِّبُ )

الشعر لسليمان بن أبي دباكل والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو
وقال ابن المكي فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز وأوله
( تبكي الحمامة شجوها فتهيجني ... )
من هي عاتكة التي يذكرها الأحوص في شعره
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي وقال محمد بن كناسة حدثني أبو دكين بن زكريا بن محمد بن عمار بن ياسر قال رأيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص
( يا بيت عاتكة الذي أَتعزل ... )
وهي عجوز كبيرة وقد جعلت بين عينيها هلالا من نيلج تتملح به
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري قال
عاتكة التي يشبب بها الأحوص عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية
أخبرني الحرمي عن الزبير عن إسحاق بن عبد الملك
أن الأحوص كان لينا وأن عاتكة التي ينسب بها ليست عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية وإنما هو رجل كان ينزل قرى كانت بين الأشراف كنى عنه بعاتكة
أخبرني الحرمي عن الزبيري عن يعقوب بن حكيم قال
كان الأحوص لينا وكان يلزم نازلا بالأشراف فنهاه أخوه عن ذلك فتركه فرقا من أخيه وكان يمر قريبا من خيمة النازل بالأشراف ويقول

( يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل )
يكني عنه بعاتكة ولا يقدر أن يدخل عليه

الفرزدق وكثير يزوران الأحوص
أخبرني الحرمي عن الزبيري عن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم قال حدثني عبد العزيز بن عمران قال
قدم الفرزدق المدينة فقال لكثير هل لك بنا في الأحوص نأتيه ونتحدث عنده فقال له وما نصنع به إذا والله نجد عنده عبدا حالكا أسود حلوكا يؤثره علينا ويبيت مضاجعه ليلته حتى يصبح قال الفرزدق فقلت إن هذا من عداوة الشعراء بعضهم لبعض قال فانهض بنا إليه إذا لا أب لغيرك قال الفرزدق فأردفت كثيرا ورائي على بغلتي وقلت تلفف يا أبا صخر فمثلك لا يكون رديفا فخمر رأسه وألصق في وجهه فجعلت لا أجتاز بمجلس قوم إلا قالوا من هذا وراءك يا أبا فراس فأقول جارية وهبها لي الأمير فلما أكثرت عليه من ذلك واجتاز على بني زريق وكان يبغضهم فقلت لهم ما كنت أقول قبل ذلك كشف عن رأسه وأومض وقال كذب ولكني كرهت أن أكون له رديفا وكان حديثه لي معجبا فركبت وراءه ولم تكن لي دابة أركبها إلا دابته فقالوا لا تعجل يا أبا صخر ههنا دواب كثيرة تركب منها ما أردت فقال دوابكم والله أبغض إلي من ردفه فسكتوا عنه
وجعل يتغشم عليهم حتى جاوز أبصارهم فقلت والله ما قالوا لك بأسا فما

الذي أغضبك عليهم فقال والله ما أعلم نفرا أشد تعصبا للقرشيين من نفر اجتزت بهم قال فقلت له وما أنت لا أم لك ولقريش قال أنا والله أحدهم قلت إن كنت أحدهم فأنت والله دعيهم قال دعيهم خير من صحيح نسب العرب وإلا فأنا والله من أكرم بيوتهم أنا أحد بني الصلت بن النضر قلت إنما قريش ولد فهر بن مالك فقال كذبت
فقال ما علمك يا بن الجعراء بقريش هم بنو النضر بن كنانة ألم تر إلى النبي انتسب إلى النضر بن كنانة ولم يكن ليجاوز أكرم نسبه قال فخرجنا حتى أتينا الأحوص فوجدناه في مشربة له فقلنا له أنرقى إليك أم تنزل إلينا قال لا أقدر على ذلك عندي أم جعفر ولم أرها منذ أيام ولي فيها شغل فقال كثير أم جعفر والله بعض عبيد الزرانيق فقلنا له فأنشدنا بعض ما أحدثت به فأنشدنا قوله
( يا بَيْتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... حذرَ العِدا وبه الفُؤادُ مُوكَّل )
حتى أتى على آخرها فقلت لكثير قاتله الله ما أشعره لولا ما أفسد به نفسه قال ليس هذا إفسادا هذا خسف إلى التخوم فقلت صدقت وانصرفنا من عنده فقال أين تريد فقلت إن شئت فمنزلي وأحملك على البغلة وأهب لك المطرف وإن شئت فمنزلك ولا أرزؤك شيئا فقال بل منزلي وأبذل لك ما قدرت عليه وانصرفنا إلى منزله فجعل يحدثني وينشدني حتى جاءت الظهر فدعا لي بعشرين دينارا وقال استعن بهذه يا أبا فراس على مقدمك قلت هذا أشد من حملان بني زريق قال والله إنك ما تأنف من أخذ هذا من أحد غير الخليفة قال الفرزدق فجعلت أقول في

نفسي تالله إنه لمن قريش وهممت ألا أقبل منه
فدعتني نفسي وهي طمعة إلى أخذها منه فأخذتها
معنى قول كثير للفرزدق يا بن الجعراء يعيره بدغة وهي أم عمرو بن تميم وبها يضرب المثل في الحماقة فيقال هي أحمق من دغة وكانت حاملا فدخلت الخلاء فولدت وهي لا تعلم ما الولد وخرجت وسلاها بين رجليها وقد استهل ولدها فقالت يا جارتا أيفتح الجعر فاه فقالت جارتها نعم يا حمقاء ويدعو أباه فبنو تميم يعيرون بذلك ويقال للمنسوب منهم يا بن الجعراء

ملاحاة بينه وبين السري بن عبد الرحمن
أخبرني الحرمي عن الزبير قال حدثني سليمان بن داود المجمعي قال
اجتاز السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري بالأحوص وهو ينشد قوله
( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... )
فقال السري
( يا بيت عاتكة المُنَوَّهَ باسْمِه ... اقعُد على مَنْ تحتَ سَقْفِك واعْجَل )
فواثبه الأحوص وقال في ذلك
( فأنت وشتمي في أَكارِيسِ مالك ... وسَبّي به كالكَلْب إذ يَنبح النَّجْما )

( تَداعَى إلى زَيْد وما أنتَ منهم ... تَحُقُّ أَباً إلاّ الولاءَ ولا أما )
( وإنَّك لو عَدَّدْتَ أَحسابَ مالك ... وأيامها فيها ولم تنطق الرَّجْما )
( أعادتْك عَبْداً أو تنَقَّلت كاذِباً ... تَلمَّسُ في حيٍّ سوى مالك جِذْما )
( وما أنا بالمحْسوس في جِذْمِ مالك ... ولا بالمُسمَّى ثم يلتزم الإِسْمَا )
( ولكن أَبِي لَوْ قد سألتَ وجدتَه ... توسَّط منها العِزَّ والحَسَب الضَّخْما )
فأجابه السري فقال
( سألتُ جميعَ هذا الخلق طُرًّا ... متى كان الأُحَيْوص من رجالي )
وهي أبيات ليست بجيدة ولا مختارة فألغيت ذكرها

شعره يسعف دليل المنصور
أخبرني محمد بن أحمد بن الطلاس أبو الطيب عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني وأخبرني به الحرمي عن الزبير قال حدثني عمي وقد جمعت روايتيهما
أن المنصور أمر الربيع لما حج أن يسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها ودورها وحيطانها فكان رجل من أهلها قد انقطع إلى الربيع زمانا وهو رجل من الأنصار فقال له تهيأ فإني أظن جدك قد تحرك إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها وحيطانها

ودورها فتحسس موافقته ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك ولا تكتمه شيئا ولا تسأله حاجة فغدا عليه بالرجل وصلى المنصور فقال يا ربيع الرجل فقال ها هو ذا فسار معه يخبره عما سأل حتى ندر من أبيات المدينة فأقبل عليه المنصور فقال من أنت أولا فقال من لا تبلغه معرفتك هكذا ذكر الخراز وليس في رواية الزبير فقال مالك من الأهل والولد فقال والله ما تزوجت ولا لي خادم قال فأين منزلك قال ليس لي منزل قال فإن أمير المؤمنين قد أمر لك بأربعة آلاف درهم فرمى بنفسه فقبل رجله فقال له اركب فركب فلما أراد الانصراف قال للربيع يا أبا الفضل قد أمر لي أمير المؤمنين بصلة قال إيه قال إن رأيت أن تنجزها لي قال هيهات قال فأصنع ماذا قال لا أدري والله وفي رواية الخراز أنه قال ما أمر لك بشيء ولو أمر به لدعاني فقال أعطه أو وقع إلي فقال الفتى هذا هم لم يكن في الحساب فلبثت أياما ثم قال المنصور للربيع ما فعل الرجل قال حاضر قال سايرنا به الغداة ففعل وقال له الربيع إنه خارج بعد غد فاحتل لنفسك فإنه والله إن فاتك فإنه آخر العهد به فسار معه فجعل لا يمكنه شيء حتى انتهى إلى مسيره ثم رجع وهو كالمعرض عنه فلما خاف فوته أقبل عليه فقال يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة قال وما بيت عاتكة قال إن أمرأ الذي يقول فيه الأحوص
( يا بيتَ عاتكة الذي أتعزل ... )
قال فمه قال إنه يقول فيها
( أنّ أمراً قد نال منك وسيلةً ... يرجُو منافعَ غَيرِها لمضلّلُ )
( وأراكَ تفعَلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعَل )
فقال الزبير في خبره فقال له لقد رأيتك أذكرت بنفسك يا سليمان

ابن مخلد أعطه أربعة آلاف درهم فأعطاه إياها وقال الخراز في خبره فضحك المنصور وقال قاتلك الله ما أظرفك يا ربيع أعطه ألف درهم فقال يا أمير المؤمنين إنها كانت أربعة آلاف درهم فقال ألف يحصل خير من أربعة آلاف لا تحصل
وقال الخراز في خبره حدثني المدائني قال
أخذ قوم من الزنادقة وفيهم ابن لابن المقفع فمر بهم على أصحاب المدائن فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيؤخذ فتمثل
( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزَّلُ ... حذرَ العِدا وبه الفؤادُ مُوكَّلُ )
الأبيات ففطنوا لما أراد فلم يسلموا عليه ومضى

هو ومعبد المغني في حضرة يزيد بن عبد الملك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة قال
بلغني أن يزيد بن عبد الملك كتب إلى عامله أن يجهز إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني
فأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني أبي قال حدثنا سلمة بن صفوان الزرقي عن الأحوص الشاعر وذكر إسماعيل بن سعيد الدمشقي أن الزبير بن بكار حدثه عن ابن أبي أويس عن أبيه عن مسلمة بن صفوان عن الأحوص وأخبرني به الحرمي عن الزبير عن عمه عن جرير المديني المغني وأبو مسكين قالوا جميعا
كتب يزيد بن عبد الملك في خلافته إلى أمير المدينة وهو عبد الواحد ابن عبد الله النصري أن يحمل إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني مولى

ابن قطن قال فجهزنا وحملنا إليه فلما نزلنا عمان أبصرنا غديرا وقصورا فقعدنا على الغدير وتحدثنا وذكرنا المدينة فخرجت جارية من بعض تلك القصور ومعها جرة تريد أن تستقي فيها ماء قال الأحوص فتغنت بمدحي في عمر بن عبد العزيز
( يا بيت عاتكةَ الذي أتعزل ... )
فتغنت بأحسن صوت ما سمعته قط ثم طربت فألقت الجرة فكسرتها فقال معبد غنائي والله وقلت شعري والله فوثبنا إليها وقلنا لها لمن أنت يا جارية قالت لآل سعيد بن العاص وفي خبر جرير المغني لآل الوليد بن عقبة ثم اشتراني رجل من آل الوحيد بخمسين ألف درهم وشغف بي فغلبته بنت عم له طرأت عليه فتزوجها على أمري فعاقبت منزلتها منزلتي ثم علا مكانها مكاني فلم تزدها الأيام إلا ارتفاعا ولم تزدني إلا اتضاعا فلم ترض منه إلا بأن أخدمها فوكلتني باستقاء الماء فأنا على ما تريان أخرج أستقي الماء فإذا رأيت هذه القصور والغدران ذكرت المدينة فطربت إليها فكسرت جرتي فيعذلني أهلي ويلومونني
قال فقلت لها أنا الأحوص والشعر لي وهذا معبد والغناء له ونحن ماضيان إلى أمير المؤمنين وسنذكرك له أحسن ذكر
وقال جرير في خبره ووافقه وكيع ورواية عمر بن شبة قالوا فأنشأت الجارية تقول
( إن تروني الغداةَ أسعى بجرٍّ ... أستَقِي الماءَ نحو هذا الغدير )
( فلقد كنتُ في رخاء من العيش ... وفي كل نعمةٍ وسُرورِ )
( ثم قد تُبصِران ما فيه أمْسَيْتُ ... وماذا إليه صار مَصِيري )
( فإلى الله أَشتكي ما ألاقي ... من هَوانٍ وما يُجِنُّ ضَمِيري )
( أبلغا عَنّي الإمامَ وما يعرف ... صِدقَ الحَديث غيرُ الخَبير )

( أنني أَضرَبُ الخَلائِق بالعُود ... وأَحْكاهُم بِبَمٍّ وزِير )
( فلعلّ الإلهَ يُنقِذ مما ... أنَا فيه فإنّني كالأسير )
( ليتني مِتّ يوم فارقتُ أهلي ... وبلادي فزُرت أهلَ القُبورِ )
( فاسمعا ما أقول لفَّا كما ... الله نجاحاً في أحسن التيسير )
فقال الأحوص من وقته

صوت
( إنّ زينَ الغدير من كسر الجرْ ... وَغَنَّى غِناء فحلٍ مُجِيد )
( قلتُ من أنتِ يا ظعينُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل الوليدِ )
وفي رواية الدمشقي
( قلت من أَيْن يا خَلوبُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل سعيد )
( ثم أصبحْتُ بعد حَيِّ قريشٍ ... في بني خالد لآل الوحيد )
( فغِنائي لمعبَد ونَشِيدي ... لفتى الناس الأحْوَص الصِنّديد )
( فتباكيْتُ ثم قلت أنا الأحْوص ... والشيخ مَعْبَدٌ فأعِيدي )
( فأعادت لنا بصوتٍ شجِيٍّ ... يتركُ الشيخَ في الصِّبا كالوَليدِ )
وفي رواية أبي زيد
( فأعادت فأحسنَتْ ثم ولَّتْ ... تَتهادَى فقلتُ قولَ عميدِ )
( يعجِزُ المالُ عن شِراكِ ولكن ... أنتِ في ذِمّة الهُمام يزيدِ )
( ولك اليومَ ذِمّتي بوفاءٍ ... وعلى ذاكِ من عِظام العهودِ )

( أَنْ سَيجْرِي لك الحديثُ بِصوت ... مَعبديّ يَرُدُّ حَبْلَ الوريدِ )
( يفعل الله ما يشاء فَظُنِّي ... كُلَّ خير بنا هناكَ وزيدِي )
( قالت القَينةُ الكَعَابُ إلى ... اللَّهِ أُمورِي وأرتْجِي تَسْديدِي )
غناه معبد ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش والهشامي وغيرهما وهي طريقة هذا الصوت وأهل العلم بالغناء لا يصححونه لمعبد
قال الأحوص وضع فيه معبد لحنا فأجاده فلما قدمنا على يزيد قال يا معبد أسمعني أحدث غناء غنيت وأطراه فغناه معبد
( إنّ زيَن الغدير من كَسَرَ الجرَّ ... وغنى غناء فحْل مُجيدِ )
فقال يزيد إن لهذا لقصة فأخبراني بها فأخبراه فكتب لعامله بتلك الناحية إن لآل فلان جارية من حالها ذيت وذيت فاشترها بما بلغت فاشتراها بمائة ألف درهم وبعث بها هدية وبعث معها بألطاف كثيرة فلما قدمت على يزيد رأى فضلا بارعا فأعجب بها وأجازها وأخدمها وأقطعها وأفرد لها قصرا قال فوالله ما برحنا حتى جاءتنا منها جوائز وكسا وطرف
وقال الزبير في خبره عن عمه قال
أظن القصة كلها مصنوعة وليس يشبه الشعر شعر الأحوص ولا هو من طرازه وكذلك ذكر عمر بن شبة في خبره
أخبرني الحرمي عن الزبير قال
سمعت هشام بن عبد الله بن عكرمة يحدث عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال

ينذر بزوال الدولة الأموية
كنت مع يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الفرات فلما انهزم الناس التفت إلي فقال يا أبا الحارث أمسينا والله وهم كما قال الأحوص
( أبْكِي لما قَلَبَ الزمانُ جديدَه ... خَلَقاً وليس على الزمان مُعَوَّلُ )
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري
أن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية رئيت في النوم قبل ظهور دولة بني العباس على بني أمية كأنها عريانة ناشرة شعرها تقول
( أين الشَّبابُ وعيشُنا اللّذُّ الذي ... كُنَّا به زَمناً نُسَرُّ ونُجذَل )
( ذهبت بَشاشتُه وأصبَح ذِكرُه ... حُزْناً يُعَلُّ به الفؤادُ ويُنْهَل )
فتأول الناس ذلك بزوال دنيا بني أمية فكان كما قالوا
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الجمحي عن شيخ من قريش
أنه رأى في النوم امرأة من ولد عثمان بن عفان على منايم على دار عثمان المقبلة على المسجد وهي حاسرة في يديها عود وهي تضرب به وتغني
( أينَ الشباب وعيشنا اللّذ الذي ... كنا به يوماً نُسرّ ونجذل )
( ذهبت بشاشته وأصبح ذكره ... حُزناً يُعلَّ به الفؤاد وينهل )
قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى خرج الأمر عن أيديهم وقتل مروان

قال إسحاق المنامة الدكان وجمعها منايم

صوت
( يا هندُ إنَّكِ لو علمتِ ... بعاذلَيْنِ تتابعا )
( قالا فلمْ أسْمَعْ لِمَا ... قالا وقلتُ بل اسْمَعا )
( هندٌ أحبُّ إِليَّ من ... مالي وروحيَ فارْجِعَا )
( ولقد عَصَيْتُ عَواذِلي ... وأطعْتُ قلباً مُوجَعا )
الشعر لعبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام والغناء لابن سريج ولحنه فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر رمل بالوسطى عن عمرو وفيه خفيف ثقيل ذكر أبو العبيس أنه لابن سريج وذكر الهشامي وابن المكي أنه للغريض وذكر حبش أن لإبراهيم فيه رملا آخر بالبنصر وقال أحمد بن عبيد الذي صح فيه ثقيل الأول وخفيفه ورمله وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لابن عباد

ذكر عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام ونسبه وأخباره وخبر هذا
الشعر
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وقد مضى نسبه في أخبار عمه الحسين صلوات الله عليه في شعره الذي يقول فيه
( لعمرُكَ إنني لأُحِبُّ دارا ... تَحلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ والرَّبابُ )
ويكنى عبد الله بن الحسن أبا محمد وأم عبد الله بن الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله وأمها الجرباء بنت قسامة بن رومان عن طيء
لماذا سميت جدته الجرباء
أخبرني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن قال
إنما سميت الجرباء لحسنها كانت لا تقف إلى جنبها امرأة وإن كانت جميلة إلا استقبح منظرها لجمالها وكان النساء يتحامين أن يقفن إلى جنبها فشبهت بالناقة الجرباء التي تتوقاها الإبل مخافة أن تعديها
وكانت أم إسحاق من أجمل نساء قريش وأسوئهن خلقا ويقال إن نساء بني تيم كانت لهن حظوة عند أزواجهن على سوء أخلاقهن ويروى أن

أم إسحاق كانت ربما حملت وولدت وهي لا تكلم زوجها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه بذلك قال
وقد كانت أم إسحاق عند الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قبل أخيه الحسين عليه السلام فلما حضرته الوفاة دعا بالحسين صلوات الله عليه فقال له يا أخي إني أرضى هذه المرأة لك فلا تخرجن من بيوتكم فإذا انقضت عدتها فتزوجها
فلما توفي الحسن عنها تزوجها الحسين عليه السلام وقد كانت ولدت من الحسن عليه السلام ابنه طلحة بن الحسن فهو أخو فاطمة لأمها وابن عمها وقد درج طلحة ولا عقب له
ومن طرائف أخبار التيميات من نساء قريش في حظوتهن وسوء أخلاقهن ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن محمد بن عبد الله قال
كانت أم سلمة بنت محمد بن طلحة عند عبد الله بن الحسن وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له ويفرق منها ولا يخالفها فرأى يوما منها طيب نفس فأراد أن يشكو إليها قسوتها فقال لها يا بنت محمد قد أحرق والله قلبي فحددت له النظر وجمعت وجهها وقالت له أحرق قلبك ماذا فخافها فلم يقدر على أن يقول لها سوء خلقك فقال لها حب أبي بكر الصديق فأمسكت عنه
وتزوج الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين في حياة عمه وهو عليه السلام زوجه إياها

زواجه فاطمة بنت الحسين
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه بذلك وحدثني أحمد

ابن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل بن يعقوب قال حدثني جدي عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن قال
خطب الحسن بن الحسن إلى عمه الحسين صلوات الله عليه وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه فقال له الحسين عليه السلام
اختر يا بني أحبهما إليك فاستحيا الحسن ولم يحر جوابا فقال له الحسين عليه السلام فإني اخترت منهما لك ابنتي فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه مصعب
أن الحسن لما خيره عمه اختار فاطمة وكانوا يقولون إن امرأة سكينة مردودتها لمنقطعة القرين في الجمال
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى وأحمد بن زهير عن الزبير وأخبرني أحمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير بن بكار واللفظ للحسن بن علي وخبره أتم قال قال الزبير حدثني عمي مصعب ولم يذكر أحدا

ماذا قال حين حضرته الوفاة
وأخبرني محمد بن يحيى عن أيوب عن عمر بن أبي الموالي قال الزبير وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن يوسف بن الماجشون وقد دخل حديث بعضهم في بعض حديث الآخرين
أن الحسن بن الحسن لما حضرته الوفاة جزع وجعل يقول إني لأجد

كربا ليس إلا هو كرب الموت وأعاد ذلك دفعات فقال له بعض أهله ما هذا الجزع تقدم على رسول الله وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين صلوات الله عليهم وهم آباؤك فقال لعمري إن الأمر لكذلك ولكن كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان حين أموت وقد جاء في مضرجتين أو ممصرتين وهو يرجل جمته يقول أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي وما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين فإذا جاء فلا يدخل علي فصاحت فاطمة أتسمع قال نعم قالت أعتقت كل مملوك لي وتصدقت بكل ملك لي إن أنا تزوجت بعدك أحدا أبدا قال فسكن الحسن وما تنفس ولا تحرك حتى قضى فلما ارتفع الصياح أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها الحسن فقال بعض القوم ندخله
وقال بعضهم لا يدخل وقال قوم لا يضر دخوله فدخل وفاطمة تصك وجهها فأرسل إليها وصيفا كان معه فجاء يتخطى الناس حتى دنا منها فقال لها يقول لك مولاي أبقي على وجهك فإن لنا فيه أربا قال فأرسلت يدها في كمها واختمرت وعرف ذلك منها فما لطمت وجهها حتى دفن صلوات الله عليه
فلما انقضت عدتها خطبها فقالت فكيف لي بنذري ويميني فقال نخلف عليك بكل عبد عبدين وبكل شيء شيئين ففعل وتزوجته وقد قيل في تزويجه إياها غير هذا
أخبرني به أحمد بن محمد بن إسماعيل الهمداني عن يحيى بن الحسن العلوي عن أخيه أبي جعفر عن إسماعيل بن يعقوب عن محمد بن عبد الله البكري

أن فاطمة لما خطبها عبد الله أبت أن تتزوجه فحلفت عليها أمها لتتزوجنه وقامت في الشمس وآلت لا تبرح حتى تتزوجه فكرهت فاطمة أن تحرج فتزوجته
وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن شيخ أهله وسيدا من ساداتهم ومقدما فيهم فصلا وعلما وكرما وحبسه أبو جعفر المنصور في الهاشمية بالكوفة لما خرج عليه ابناه محمد وإبراهيم فمات في الحبس وقيل إنه سقط عليه وقيل غير ذلك

انتهى كل حسن إليه
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعبا الزبيري يقول
انتهى كل حسن إلى عبد الله بن حسن وكان يقال من أحسن الناس فيقال عبد الله بن الحسن ويقال من أفضل الناس فيقال عبد الله بن الحسن
حدثني محمد بن الحسن الخثعمي الأشناني والحسن بن علي السلولي قالا حدثنا عباد بن يعقوب قال
حدثنا تلميذ بن سليمان قال رأيت عبد الله بن الحسن وسمعته يقول أنا أقرب الناس إلى رسول الله ولدتني بنت رسول الله مرتين
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل ابن يعقوب عن عبد الله بن موسى قال

أول من اجتمعت له ولادة الحسن عليه السلام والحسين صلوات الله عليهما عبد الله بن الحسن عليه السلام
حدثني محمد بن الحسن الأشناني عن عبد الله بن يعقوب عن بندقة ابن محمد بن حجازة الدهان قال
رأيت عبد الله بن الحسن فقلت هذا والله سيد الناس كان مكسوا نورا من قرنه إلى قدمه
قال علي بن الحسين وقد روي ذلك في أخبار أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي عليه السلام
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن القاسم بن عبد الرزاق قال
جاء منظور بن زيان الفزاري إلى حسن بن حسن وهو جده أبو أمه فقال له لعلك أحدثت بعدي أهلا قال نعم تزوجت بنت عمي الحسين ابن علي عليهما السلام قال بئسما صنعت أما علمت أن الأرحام إذا التقت أضوت كان ينبغي أن تتزوج في الغرب قال فإن الله جل وعز قد رزقني منها ولدا قال أرنيه فأخرج إليه عبد الله بن الحسن فسر به وقال أنجبت هذا والله ليث غاب ومعدو عليه قال فإن الله تعالى قد رزقني منها ولدا ثانيا قال فأرنيه فأخرج إليه حسن بن حسن بن حسن فسر به وقال أنجبت وهذا دون الأول قال فإن الله قد رزقني منها ولدا ثالثا قال فأرنيه
فأراه إبراهيم بن الحسن
حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد الصيرفي قال حدثنا محمد بن علي

ابن خلف قال حدثنا عمر بن عبد الغفار قال حدثنا سعيد بن أبان القرشي قال
كنت عند عمر بن عبد العزيز فدخل عبد الله بن الحسن عليه وهو يومئذ شاب في إزار ورداء فرحب به وأدناه وحياه وأجلسه إلى جنبه وضاحكه ثم غمز عكنة من بطنه وليس في البيت حينئذ إلا أموي فقيل له ما حملك على غمز بطن هذا الفتى قال إني لأرجو بها شفاعة محمد
حدثني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي عن عمر بن شبة عن إسماعيل بن جعفر الجعفري قال
حدثني سعيد بن عقبة الجهني قال إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاني آت فقال هذا رجل يدعوك فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الشاعر الأموي فقال أعلم أبا محمد فخرج إليه عبد الله وهم خائفون فأمر له بأربعمائة دينار وهند بمائتي دينار فخرج بستمائة دينار
وقد روى مالك ابن أنس عن عبد الله بن الحسن الحديث

كان يسدل شعره
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال
حدثنا علي بن أحمد الباهلي عن مصعب بن عبد الله قال سئل مالك

عن السدل قال رأيت من يرضى بفعله عبد الله بن الحسن يفعله والسبب في حبس عبد الله بن الحسن وخروج ابنيه وقتلهما يطول ذكره
وقد أتى عمر بن شبة منه بما لا يزيد عليه أحد إلا اليسير ولكن من أخباره ما يحسن ذكره ها هنا فنذكره
أخبرني عمر بن عبد الله العتكي عن عمر بن شبة قال حدثني موسى ابن سعيد بن عبد الرحمن وأيوب بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرو قالوا

شعر تمثل به
لما بنى أبو العباس بناءه بالأنبار الذي يدعى الرصافة رصافة أبي العباس قال لعبد الله بن الحسن ادخل فانظر ودخل معه فلما رآه تمثل
( ألم ترَ حَوْشَباً أمْسَى يُبَنِّي ... بِناءً نَفعُه لبنِي نُفَيْله )
( يُؤمّل أن يُعَمَّر عُمْرَ نُوحٍ ... وأمرُ اللّهِ يحدُث كلَّ لَيْلَة )
فاحتمله أبو العباس ولم يبكته بها
أخبرني عمي عن ابن شبة عن يعقوب بن القاسم عن عمرو بن شهاب وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير عن محمد ابن الضحاك عن أبيه قالوا
إن أبا العباس كتب إلى عبد الله بن الحسن في تغيب ابنيه
( أرِيد حَياتَه ويُرِيد قَتلِي ... عَذيرَك من خَلِيلك من مُرادِ )
قال عمر بن شبة وإنما كتب بها إلى محمد قال عمر بن شبة فبعثوا إلى عبد الرحمن بن مسعود مولى أبي حنين فأجابه

( وكيف يُرِيدُ ذاكَ وأنتَ منه ... بِمنزلة النِّياط من الفُؤادِ )
( وكيف يُريد ذاكَ وأنتَ منه ... وزَنْدُك حين تقدح من زِنادِ )
( وكيف يُرِيد ذاك وأنتَ منه ... وأنتَ لِهَاشمٍ رأسٌ وَهادِ )
أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن الحسن بن زيد عن عبد الله بن الحسن قال
بينا أنا في سمر أبي العباس وكان إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده قمنا فألقاها ليلة فقمنا فأمسكني فلم يبق غيري فأدخل يده تحت فراشه وأخرج إضبارة كتب وقال اقرأ يا أبا محمد فقرأت فإذا كتاب من محمد بن هشام بن عمرو التغلبي يدعوه إلى نفسه فلما قرأته قلت له يا أمير المؤمنين لك عهد الله وميثاقه ألا ترى منهما شيئا تكرهه ما كانا في الدنيا
أخبرنا العتكي عن ابن شبة عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمر عن عبد الله بن عبدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال
لما استخلف أبو جعفر ألح في طلب محمد والمسألة عنه وعمن يؤويه فدعا بني هاشم رجلا رجلا فسألهم عنه فكلهم يقول قد علم أمير المؤمنين أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم فهو يخافك على نفسه ولا يريد لك خلافا ولا يحب لك معصية إلا الحسن بن زيد فإنه أخبره خبره فقال والله ما آمن وثوبه عليك وأنه لا ينام فيه فر رأيك فيه قال ابن أبي عبيدة فأيقظ من لا ينام

أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم
أن أبا جعفر دعاه فسأله عن اسمه ونسبه فقال أنا عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهاني قال إني أرى لك هيئة وموضعا وإني لأريدك لأمر أنا به معني قال أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين قال فأخف شخصك وائتني في يوم كذا وكذا فأتيته فقال إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا بملكنا ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا وكذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف فاذهب حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل تلك القرية ثم تسير ناحيتهم فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا وإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده أبدا حتى يأنس بك فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إلي ففعل ذلك وفعل به حتى أنس عبد الله بناحيته فقال له عقبة الجواب فقال له أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني خارج لوقت كذا وكذا فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر

بماذا أجاب أبا جعفر عندما سأله عن ابنيه
أخبرني العتكي عن عمر بن محمد بن يحيى بن الحارث بن إسحاق قال
سأل أبو جعفر عبد الله بن الحسن عن ابنيه لما حج فقال لا أعلم بهما حتى تغالظا فأمضه أبو جعفر فقال له يا أبا جعفر بأي أمهاتي

تمضني أبخديجة بنت خويلد أم بفاطمة بنت رسول الله أم بفاطمة بنت الحسين عليهم السلام أم بأم إسحاق بنت طلحة قال لا ولا بواحدة منهن ولكن بالجرباء بنت قسامة فوثب المسيب بن زهير فقال يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال يا أمير المؤمنين هبه لي فأنا المستخرج لك ابنيه فتخلصه منه
قال ابن شبة وحدثني بكر بن عبد الله مولى أبي بكر عن علي بن رباح أخي إبراهيم بن رباح عن صاحب المصلى قال
إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدى بأوطاس وهو متوجه إلى مكة ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال يا أبا محمد محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي وإني لأحب أن يأنسا بي ويأتياني فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي قال وعبد الله يطرق طويلا ثم يرفع رأسه ويقول وحقك يا أمير المؤمنين مالي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم ولقد خرجا عن يدي فيقول لا تفعل يا أبا محمد اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما قال وامتنع أبو جعفر عن عامة غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد الله وعبد الله يحلف أنه لا يعرف موضعهما وأبو جعفر يكرر عليه لا تفعل يا أبا محمد
قال ابن شبة فحدثني محمد بن عباد عن السندي بن شاهك
أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم إذا فرغنا من الطعام فلحظتك فامثل

بين يدي عبد الله فإنه سيصرف بصره عنك فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينيه منك ثم حسبك وإياك أن يراك ما دام يأكل ففعل ذلك عقبة فلما رآه عبد الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله قال لا أقالني الله إن أقلتك ثم أمر بحبسه
قال ابن شبة فحدثني أيوب بن عمر عن محمد بن خلف المخزومي قال أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال
لما حج أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن فإنهما وإياي لعنده وهو مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلم المهدي فلحن فقال عبد اله يا أمير المؤمنين ألا تأمر بهذا من يعدل لسانه فإنه يفعل فعل الأمة فلم يفهم وغمزت عبد الله فلم ينتبه وعاد لأبي جعفر فأحفظ من ذلك وقال له أين ابنك قال لا أدري قال لتأتيني به قال لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه قال يا ربيع فمر به إلى الحبس

توفي في محبسه بالهاشمية
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال
توفي عبد الله في محبسه بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين سنة في سنة خمس وأربعين ومائة وهند التي عناها عبد الله في شعره الذي فيه الغناؤ زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأمها قرينة بنت يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود بن الطلب
وكان أبو عبيدة جوادا وممدحا وكانت هند قبل عبد الله بن الحسن

تحت عبد الله بن عبد الملك بن مروان فمات عنها
فأخبرني الحرمي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال
لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند وجدا شديدا فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي عبيدة فيعزيها ويؤسيها عن أبيها فدخل معه عليها فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته
( قومي اضربي عينيك يا هندُ لن تَرَىْ ... أَباً مثلَه تسمُو إليه المَفاخِرُ )
( وكنت إذا أَسبَلْتِ فوقك والدا ... تَزِيني كما زان اليدين الأساورُ )
فصكت وجهها وصاحت بحربها وجهدها فقال له عبد الله بن الحسن ألهذا دخلت فقال الخارجي وكيف أعزي عن أبي عبيدة وأنا أعزى به
أخبرني العتكي عن شبة قال حدثني عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان عن علي بن صالح قال
زوج عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله هند بنت أبي عبيدة وريطة بنت عبد الله بن عبد المدان لما كان يقال إنه كائن في أولادهما فمات عنهما عبد الله أو طلقهما فتزوج هندا عبد الله ابن الحسن وتزوج ريطة محمد بن علي فجاءت بأبي العباس السفاح
أخبرني العتكي عن عمر بن شبة عن ابن داجة عن أبيه قال
لما مات عبد الله بن عبد الملك رجعت هند بميراثها منه فقال عبد الله بن حسن لأمه فاطمة اخطبي علي هندا فقالت إذا تردك أتطمع في هند وقد ورثت ما ورثته وأنت ترب لا مال لك فتركها ومضى إلى أبي عبيدة

أبي هند فخطبها إليه فقال في الرحب والسعة أما مني فقد زوجتك مكانك لا تبرح ودخل على هند فقال يا بنية هذا عبد الله بن حسن أتاك خاطبا قالت فما قلت له قال زوجته
قالت أحسنت
قد أجزت ما صنعت وأرسلت إلى عبد الله لا تبرح حتى تدخل على أهلك
قال فتزينت له فبات بها معرسا من ليلته ولا تشعر أمه فأقام سبعا ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمه وعليه ردع الطيب وفي غير ثيابه التي تعرف فقالت له يا بني من أين لك هذا قال من عند التي زعمت أنها لا تريدني
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي عبد العزيز بن أحمد بن بكار قالا حدثنا الزبير قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة قالت
كان جدك عبد الله بن مصعب يستنشدني كثيرا أبيات عبد الله بن حسن ويعجب بها
( إنّ عيني تعوّدت كُحْل هِنْدٍ ... جَمَعت كَفُّها مع الرِّفق لِينا )

صوت
( يا عِيدُ مالكَ من شوقٍ وإيراقِ ... ومرِّ طَيْفٍ على الأهوال طَراقِ )
( يَسْرِي على الأيْنِ والحيَّات مُحْتفياً ... نفسي فِداؤُك من سارٍ على ساقِ )
عروضه من البسيط
العيد ما اعتاد الإنسان من هم أو شوق أو مرض أو ذكر
والأين والأيم ضرب من الحيات
والأين الإعياء أيضا وروى أبو عمرو
( يا عيد قلبُك من شوق وإيراق ... )
الشعر لتأبط شرا والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى من رواية يحيى المكي وحبش وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز

أخبار تأبط شرا ونسبه
هو ثابت بن جابر بن سفيان بن عميثل بن عدي بن كعب بن حزن
وقيل حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر بن نزار
وأمه امرأة يقال لها أميمة يقال إنها من بني القين بطن من فهم ولدت خمسة نفر تأبط شرا وريش بلغب وريش نسر وكعب جدر ولا بواكي له وقيل إنها ولدت سادسا اسمه عمرو
لقبه وسببه
وتأبط شرا لقب لقب به ذكر الرواة أنه كان رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول طريقه فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول فقال له قومه ما تأبطت يا ثابت قال الغول
قالوا لقد تأبطت شرا فسمي بذلك
وقيل بل قالت له أمه كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرك فقال لها سآتيك الليلة بشيء ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه

فلما راح أتى بهن في جراب متأبطا له فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين في بيتها فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي ماذا أتاك به ثابت فقالت أتاني بأفاع في جراب
قلن وكيف حملها قالت تأبطها قلن لقد تأبط شرا فلزمه تأبط شرا
حدثني عمي قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية وزاد فيها
أن أمه قالت له في زمن الكمأة ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة فيروحون بها فقال أعطيني جرابك حتى أجتني لك فيه فأعطته فملأه لها أفاعي وذكر باقي الخبر مثل ما تقدم
ومن ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى فإنه يصف لقاءه إياها في شعره كثيرا فمن ذلك قوله
( فأَصبحت الغُولُ لي جارةً ... فيا جارتا لك ما أَهولا )
( فطالبتُها بُضْعَها فالتوت ... عليَّ وحاولتُ أن أَفعلا )
( فمن كان يسأل عن جارتي ... فإنّ لها باللَّوى مَنْزلَا )

كان أحد العدائين المعدودين
أخبرني عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال نزلت على حي من فهم إخوة بني عدوان من قيس فسألتهم عن خبر تأبط شرا فقال لي بعضهم وما سؤالك عنه أتريد أن تكون لصا قلت لا ولكن أريد أن

أعرف أخبار هؤلاء العدائين فأتحدث بها فقالوا نحدثك بخبره إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين وكان إذا جاع لم تقم له قائمة فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها لم يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه ثم يشويه فيأكله
وإنما سمي تأبط شرا لأنه فيما حكي لنا لقي الغول في ليلة ظلماء في موضع يقال له رحى بَطان في بلاد هذيل فأخذت عليه الطريق فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها فلما أصبح حملها تحت إبطه وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شرا فقال في ذلك

شعره في غول تأبطها
( تأَبَّط شراً ثم راح أو اغْتَدى ... تُوائم غُنْما أو يَشِيف على ذَحْل )
يوائم يوافق ويشيف يقتدر
وقال أيضا في ذلك
( ألا مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ )
( وأنِّي قد لقيتُ الغولَ تهوي ... بسَهْب كالصحيفة صحصحانِ )
( فقلت لها : كلانا نِضْو أَيْنٍ ... أخو سفر فخلّى لي مكاني )
( فشدَّت شدَّةً نحوي فاَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَمانِي )
( فأَضربها بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ )
( فقالت عُد فقلت لها رُوَيْداً ... مكانَك إنني ثَبْت الجنانِ )
( فلم أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظر مُصبِحاً ماذا أتاني )

( إذا عينان في رأسٍ قبيح ... كرأس الهِرِّ مَشْقوق اللِّسان )
( وساقا مُخدجٍ وشواةُ كلْب ... وثوب من عَباءٍ أو شِنان )
أخبرنا الحسين بن يحيى قال قرأت على حماد وحدثك أبوك عن حمزة ابن عتبة اللهبي قال
قيل لتأبط شرا هذه الرجال غلبتها فكيف لا تنهشك الحيات في سراك فقال إني لأسري البردين
يعني أول الليل لأنها تمور خارجة من حجرتها وآخر الليل تمور مقبلة إليها
قال حمزة ولقي تأبط شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب كان جبانا أهوج وعليه حلة جيدة فقال أبو وهب لتأبط شرا بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم ضئيل قال باسمي إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل أنا تأبط شرا فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت فقال له الثقفي أقط قال قط قال فهل لك أن تبيعني اسمك قال نعم فبم تبتاعه قال بهذه الحلة وبكنيتك قال له أفعل ففعل وقال له تأبط شرا لك اسمي ولي كنيتك وأخذ حلته وأعطاه طمرية ثم انصرف وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي
( ألا هل أتى الحسناءَ أنّ حَلِيلهَا ... تأَبّط شَراًّ واكتنيتُ أبّا وَهْب )
( فهبه تَسمْى اسْمي وسُمِّيتُ باسمِه ... فأَين له صبري على مُعْظَمِ الخطب )
( وأين له بأْسٌ كَبَأْسي وسَوْرتي ... وأين له في كل فادحةٍ قَلْبي )

أحب جارية وعجز عنها
قال حمزة وأحب تأبط شرا جارية من قومه فطلبها زمانا لا يقدر عليها ثم لقيته ذات ليلة فأجابته وأرادها فعجز عنها فلما رأت جزعه من ذلك تناومت عليه فآنسته وهدأ ثم جعل يقول
( مالكَ من أيْرٍ سُلِبْتَ الخلّه ... عجَزْت عن جارية رِفْلّه )
( تمشي إليك مشيةً خوزلّه ... كمشية الأَرخِ تريد العلّهْ )
الأرخ الأنثى من البقر التي لم تنتج
العلة تريد أن تعل بعد النهل أي أنها قد رويت فمشيتها ثقيلة
والعل الشرب الثاني
( لو أنها راعِيةٌ في في ثُلَّه ... تحمل قِلْعَين لها قبَلّه )
( لصرتُ كالهراوة العُتُلّه ... )
خبره مع بجيلة
أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشعجي قال
أغار تأبط شرا وهو ثابت بن العميثل الفهمي ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا لهم نعما ونذرت بهما بجيلة فخرجت في آثارهما ومضيا هاربين في جبال السراة وركبا الحزن وعارضتهما بجيلة في السهل فسبقوهما إلى الوهط وهو ماء لعمرو بن العاص بالطائف فدخلوا لهما في قصبة العين وجاءا وقد بلغ العطش منهما إلى العين فلما وقفا عليها قال تأبط شرا لابن براق أقل من الشراب فإنها ليلة طرد قال وما يدريك قال

والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب الرجال تحت قدمي
وكان من أسمع العرب وأكيدهم
فقال له ابن براق ذلك وجيب قلبك
فقال له تأبط شرا والله ما وجب قط ولا كان وجابا وضرب بيده عليه وأصاخ نحو الأرض يستمع فقال والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب الرجال فقال له براق فأنا أنزل قبلك فنزل فبرك وشرب وكان أكل القوم عند بجيلة شوكة فتركوه وهم في الظلمة ونزل ثابت فلما توسط الماء وثبوا عليه فأخذوه وأخرجوه من العين مكتوفا وابن براق قريب منهم لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه فقال لهم ثابت إنه من أصلف الناس وأشدهم عجبا بعدوه وسأقول له أستأسر معي فسيدعوه عجبه بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم وله ثلاثة أطلاق أولها كالريح الهابة والثاني كالفرس الجواد والثالث يكبو فيه ويعثر فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير في أيديكم كما صرت إذ خالفني ولم يقبل رأيي ونصحي له قالوا فافعل فصاح به تأبط شرا أنت أخي في الشدة والرخاء وقد وعدني القوم أن يمنوا عليك وعلي فاستأسر وواسني بنفسك في الشدة كما كنت أخي في الرخاء فضحك ابن براق وعلم انه قد كادهم وقال مهلا يا ثابت أيستأسر من عنده هذا العدو ثم عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم والثاني كالفرس الجواد والثالث جعل يكبو ويعثر ويقع على وجهه
فقال ثابت خذوه فعدوا بأجمعهم فلما أن نفسهم عنه شيئا عدا تأبط شرا في كتافه وعارضه ابن براق فقطع كتافه وأفلتا جميعا فقال تأبط شرا قصيدته القافية في ذلك

( يا عيدُ مالك من شوقٍ وإبراقِ ... ومَرّ طيفٍ على الأهوال طرَّاقِ )
( يسري على الأّيْن والحيّاتِ محتفِياً ... نفسي فداؤُك من سارٍ على ساقِ )
( طيْف ابنة الحُرِّ إذ كنّا نواصلُها ... ثم اجْتُنِبْتُ بها من بعد تَفراقِ )
( لتَقرعِنَّ عليَّ السِّنَّ من نَدَمٍ ... إذا تذكّرتِ يوماً بعضَ أخلاقي )
( تالله آمنُ أنثى بعدما حَلَفَتْ ... أسماءُ بالله من عهدٍ وميثاقِ )
( ممزوجَةَ الودِّ بينا واصلَتْ صَرمَتْ ... الأوَّلُ اللّذْ مَضَى والآخِر الباقِي )
( فالأوّلُ اللَّذْ مضى قالٍ مودّتَها ... واللَّذُّ منها هْذاءٌ غير إحقاقِ )
( تُعْطِيك وعدَ أمانيٍّ تَغُرُّ به ... كالقَطْر مَرَّ على صَخْبَانَ برّاقِ )
( إنّي إذا حُلّةٌ ضَنَّتَ بنائلها ... وأَمْسَكِت بضعيف الحَبْل أحْذَاقِ )
( نجوْتُ منها نجائي من بجيلةَ إذ ... ألقيْتُ للقوم يوم الرْوع أرواقي )
وذكرها ابن أبي سعيد في الخبر إلى آخرها
وأما المفضل الضبي فذكر أن تأبط شرا وعمرو بن براق والشنفرى وغيره يجعل مكان الشنفرى السليك بن السلكة غزوا بجيلة فلم يظفروا منهم بغرة وثاروا إليهم فأسروا عمرا وكتفوه وأفلتهم الآخران عدوا فلم يقدروا عليهما فلما علما أن ابن براق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه امض فكن قريبا من عمرو فإني سأتراءى لهم وأطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه فإذا فعلوا ذلك فحل كتافه وانجوا ففعل ما أمره به وأقبل تأبط شرا

حتى تراءى لبجيلة فلما رأوه طمعوا فيه فطلبوه وجعل يطمعهم في نفسه ويعدو عدوا خفيفا يقرب فيه ويسألهم تخفيف الفدية وإعطاءه الأمان حتى يستأسر لهم وهم يجيبونه إلى ذلك ويطلبونه وهو يحضر إحضارا خفيفا ولا يتباعد حتى علا تلعة أشرف منها على صاحبيه فإذا هما قد نجوا ففطنت لهما بجيلة فألحقتهما طلبا ففاتاهم فقال يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق اليوم والله لأعدون لكم عدوا أنسيكم به عدوه ثم عدا عدوا شديدا ومضى وذلك قوله
( يا عيدُ مالَك من شَوقٍ وإبراقٍ ... )
وأما الأصمعي فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عمه
أن بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء وشربوا وناموا ثم شدوا عليهم فأخذوا تأبط شرا فقال لهم إن ابن براق دلاني في هذا وإنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه فإن تبعتموه أخذتموه فكتفوا تأبط شرا ومضوا في أثر ابن براق فلما بعدوا عنه عدا في كتافه ففاتهم ورجعوا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا ابن الأثرم وعن أبيه
وحدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو قالا
كان تأبط شرا يعدو على رجليه وكان فاتكا شديدا فبات ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد في قاع يقال له رحى بطان فلقيته الغول فما زال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح وهي تطلبه قال والغول سبع من سباع الجن وجعل يراوغها وهي تطلبه وتلتمس غرة منه فلا تقدر عليه إلى أن أصبح

فقال تأبط شرا
( ألا مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بِطانِ )
( بأنّي قد لقيتَ الغولَ تَهوِي ... بسهْبٍ كالصحيفة صَحصحانِ )
( فقلت لها كلانا نِضْوُأينٍ ... أخو سَفَر فخَلِّي لي مكاني )
( فشدّت شدّةً نحوي فأهوى ... لها كفّي بمصقولٍ يمانِي )
( فأضربها بلا دَهَشٍ فخّرَّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ )
( فقالت عُدْ فقلتُ لها رويداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجَنانِ )
( فلم أنفكَّ متّكئاً عليها ... لأنظُرَ مُصبِحاً ماذا أتاني )
( إذا عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأْس الهِرِّ مشقوق اللّسان )
( وساقا مُخْدِجٍ وشواةُ كلب ... وثوبٌ من عَباءٍ أو شِنان )

غزا بجيلة فقتل رجلا واستاق غنما
قالوا وكان من حديثه انه خرج غازيا يريد بجيلة هو ورجل معه وهو يريد أن يغترهم فيصيب حاجته فأتى ناحية منهم فقتل رجلا ثم استاق غنما كثيرة فنذروا به فتبعه بعضهم على خيل وبعضهم رجالة وهم كثير فلما رآهم وكان من أبصر الناس عرف وجوههم فقال لصاحبه هؤلاء قوم قد عرفتهم ولن يفارقونا اليوم حتى يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم فجعل صاحبه ينظر فيقول ما أتبين أحدا حتى إذ دهموهما قال لصاحبه اشتد فإني سأمنعك ما دام في يدي سهم فاشتد الرجل ولقيهم تأبط شرا وجعل يرميهم حتى نفذت نبله ثم إنه اشتد فمر بصاحبه فلم يطق شدة فقتل صاحبه وهو ابن عم لزوجته فلما رجع تأبط شرا وليس صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل فقالت له امرأته تركت صاحبك وجئت متباطئا فقال تأبط شرا في ذلك

( ألا تلكما عرسى منيعةُ ضُمِّنت ... من اللَّهِ إثماً مُستِسراً وعالِنا )
( تقول تركتَ صاحباً لك ضائعاً ... وجئت إلينا فارقاً مُتبَاطِنا )
( إذا ما تركتُ صاحبي لثلاثة ... أو اثْنَيْنِ مثْلَينا فلا أُبْتُ آمِنا )
( وما كنت أبّاء على الخِلّ إذ دعا ... ولا المرءِ يدعوني مُمِرّا مُداهِنا )
( وكَرّي إذا أُكْرِهتُ رهطاً وأَهلَه ... وأرضا يكون العَوْصُ فيها عُجاهِنَا )
( ولمّا سمعت العَوصَ تدعو تنفّرت ... عصافيرُ رأسي من غُواةٍ فَراتِنا )
( ولم أنتظر أن يَدهموني كأنهم ... ورائيَ نَحْل في الخليّة واكِنَا )
( ولا أن تُصِيب النافذاتُ مقاتلي ... ولم أَكُ بالشدِّ الذِليق مُداينا )
( فأرسلتُ مثنيًّا عن الشدّ واهِناً ... وقلتُ تزحزحْ لا تكوننّ حَائِنا )
( وحثحثتُ مشعوفَ النَّجاء كأنه ... هِجفّ رأى قصراً سِمالاً وداجنا )

( من الحُصِّ هِزْروفٌ يطير عِفاؤه ... إذا استدرج الفَيْفا ومّدَ المغابنا )
( أزجُّ زَلوجٌ هذر في زفازفٌ ... هِزَفٌّ يبذُ الناجيات الصوَّافِنا )
( فزحزت عنهم أو تجِئْني مَنِيَّتي ... بغبراءَ أو عرفاءَ تَفْري الدَّفائنا )
( كأنّي أراها الموتَ لا درّ دَرُّها ... إذا أمكنَتْ أنيابَها والبراثنا )
( وقالت لأخرى خلفها وبناتها ... حتوف تُنَقِّي مخّ مَنْ كان واهنا )
( أخاليجُ ورَّادٍ على ذي محافل ... إذا نزعوا مدّوا الدِّلا والشّواطنا )
وقال غيره بل خرج تأبط شرا هو وصاحبان له حتى أغاروا على العوص من بجيلة فأخذوا نعما لهم واتبعتهم العوص فأدركوهم وقد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة فلما رأى تأبط شرا ألا طاقة لهم بهم شمر وتركهما فقتل صاحباه وأخذت النعم وأفلت حتى أتى بني القين من فهم فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها فلما أراد أن يأتي قومه دهنته ورجلته فجاء إليهم وهم يبكون فقالت له امرأته لعنك الله تركت صاحبيك

وجئت مدهنا
وإنه إنما قال هذه القصيدة في هذا الشأن وقال تأبط شرا يرثيهما وكان اسم أحدهما عمرا
( أبعد قتيل العَوصْ آسَى على فتىً ... وصاحِبه أو يأمُلُ الزّادَ طارقُ )
( أأطْرُد فهماً آخر الليل أبتغِي ... عُلالة يوم أن تَعُوقَ العوائق )
( لَعَمرُ فتىً نِلتم كأنّ رداءه ... على سرحةٍ من سرح دومة سامق )
( لأطرُد نَهْباً أو نرودَ بفِتْيةٍ ... بأيمانهم سُمْر القَنا والعقائق )
( مَساعَرةُ شُعْثٌ كأنّ عيونهم ... حريقُ الغضا تُلْفَى عليها الشقّائق )
( فعُدُّوا شهورَ الحُرْمِ ثم تعرّفوا ... قتيل أناسٍ أو فتاةٍ تعانقُ )

محاولة قتله هو وأصحابه بالسم
قال الأثرم قال أبو عمرو في هذه الرواية وخرج تأبط شرا يريد أن يغزو هذيلا في رهط فنزل على الأحل بن قنصل رجل من بجيلة وكان بينهما حلف فأنزلهم ورحب بهم ثم إنه ابتغى لهم الذراريح ليسقيهم فيستريح منهم ففطن له تأبط شرا فقام إلى أصحابه فقال إني أحب ألا يعلم أنا قد فطنا له ولكن سابوه حتى نحلف ألا نأكل من طعامه ثم أغتره فأقتله لأنه إن علم حذرني وقد كان مالأ ابن قنصل رجل منهم يقال له لكيز

قتلت فهم أخاه فاعتل عليه وعلى أصحابه فسبوه وحلفوا ألا يذوقوا من طعامه ولا من شرابه ثم خرج في وجهه وأخذ في بطن واد فيه النمور وهي لا يكاد يسلم منها أحد والعرب تسمي النمر ذا اللونين وبعضهم يسميه البسنتى فنزل في بطنه وقال لأصحابه انطلقوا جميعا فتصيدوا فهذا الوادي كثير الأروى فخرجوا وصادوا وتركوه في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل نمرا وحده وغزا هديلا فغنم وأصاب فقال تأبط شرا في ذلك
( أقسمتُ لا أنسى وإن طال عيشُنا ... صنيع لكُيْزٍ والأَحلّ بن قنصل )
( نزلنا به يوماً فساء صَبَاحُنا ... فإنك عَمْري قد ترى أيّ منزل )
( بَكَى إذ رآنا نازلين ببابه ... وكَيف بُكاءُ ذي القليل المُعَيَّل )
( فلا وأبيك ما نَزَلنا بعامرٍ ... ولا عامر ولا الرئيس ابن قَوقل )
عامر بن مالك أبو براء ملاعب الأسنة وعامر بن الطفيل وابن قوقل مالك بن ثعلبة أحد بني عوف بن الخزرج
( ولا بالشّليل ربّ مروان قاعداً ... بأحسن عَيْش والنُّفاثيّ نوفَلِ )
رب مروان جرير بن عبد الله البجلي
ونوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر أحد بني الديل بن بكر
( ولا ابن وَهيب كاسبِ الحمد والعُلاَ ... ولا ابن ضُبَيْعٍ وسط آل المُخبَّل )
( ولا ابنِ حُلَيْسٍ قاعدا في لِقاحه ... ولا ابن جُرَيٍّ وسط آل المغفّل )

( ولا ابنِ رياحٍ بالزُّليفات دارُه ... رِياح بن سعد لا رياح بن مَعْقلِ )
( أولِئك أَعطَى للوَلائد خِلْفَةً ... وأَدْعَى إلى شحم السَّديف المُرَعْبَل )

نجاته من موت محتم
وقال أيضا في هذه الرواية كان تأبط شرا يشتار عسلا في غار من بلاد هذيل يأتيه كل عام وأن هذيلا ذكرته فرصدوه لإبان ذلك حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى فدخل الغار وقد أغاروا عليهم فأنفروهم فسبقوهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل فأطلع تأبط شرا رأسه فقالوا اصعد فقال ألا أراكم قالوا بلى قد رأيتنا
فقال فعلام أصعد أعلى الطلاقة أم الفداء قالوا لا شرط لك قال فأراكم قاتلي وآكلي جناي لا والله لا أفعل قال وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب فجعل يسيل العسل من الغار ويهريقه ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه حتى خرج سليما وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث فقال تأبط شرا في ذلك
( أقول للحيانٍ وقد صَفِرت لهم ... وِطابي ويَوْمي ضَيّق الحَجْر مُعوِرُ )
( هما خُطَّتا إما إسارٌ ومِنَّةٌ ... وإما دَمٌ والقتلُ بالحُرّ أجدَرُ )
( وأُخرى أصادِي النّفسَ عنها وإنها ... لمورِدُ حَزْم إن ظَفِرت ومَصدَرُ )
( فرَشْتُ لها صدري فزَلّ عن الصّفا ... به جؤجؤٌ صَلْبٌ ومتنُ مُخصَّرُ )
( فخالطَ سهلَ الأرض لم يكدح الصَّفا ... به كَدْحَةً والموتُ خَزيانُ يَنْظُر )

( فأُبْتُ إلى فَهمٍ وما كُنتُ آئباً ... وكم مثلها فارقتُها وهي تَصْفِر )
( إذا المرء لم يَحْتلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدبِر )
( ولكن أَخْو الحَزْم الذي ليس نازلاً ... به الأمرُ إلا وهْو للحزم مُبْصِرُ )
( فذاك قَريعُ الدَّهر ما كان حوَّلا ... إذا سُدّ منه مَنْخِرٌ جاش مَنْخرُ )
( فإنّك لو قَايَسْت باللِّصب حِيلَتي ... بلُقْمان لم يُقصِر بي الدهرَ مُقْصِرُ )

قتل هو وأصحابه نفرا من العوص
وقال أيضا في حديث تأبط شرا إنه خرج في عدة عن فهم فيهم عامر ابن الأخنس والشنفرى والمسيب وعمرو بن براق ومرة بن خليف حتى بيتوا العوص وهم حي من بجيلة فقتلوا منهم نفرا وأخذوا لهم إبلا فساقوها حتى كانوا من بلادهم على يوم وليلة فاعترضت لهم خثعم وفيهم ابن حاجز وهو رئيس القوم وهم يومئذ نحو من أربعين رجلا فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس ماذا ترى قال لا أرى لكم إلا صدق الضراب فإن ظفرتم فذاك وإن قتلتم كنتم قد أخذتم ثأركم قال تأبط شرا بأبي أنت وأمي فنعم رئيس القوم أنت إذا جد الجد وإذا كان قد أجمع رأيكم على هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل والقوم كثير ومتى افترقتم كثركم القوم فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم فحملوا ثانية فانهزمت خثعم وتفرقت وأقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز فقال تأبط شرا في ذلك

( جَزَى الله فِتيانا على العوْص أمطرت ... سَماؤُهُم تحت العَجاجة بالدَّم )
( وقد لاح ضَوءُ الفجر عَرْضا كأنه ... بلَمْحته إقراب أبْلَق أدْهَم )
( فإنَّ شِفَاء الداء إدراك ذَحْلةً ... صباحاً على آثار حوم عَرَمْرَم )
( وضاربْتُهم بالسفحِ إذ عارَضَتْهُمُ ... قبائلُ من أبناء قسرٍ وخثعم )
( ضِرابا عَدَا منه ابنُ حاجز هاربا ... ذُرا الصَّخر في جوف الوجين المُديَّم )
وقال الشنفرى في ذلك
( دَعيني وقُولي بَعدُ ما شئتِ إنّني ... سَيُغدّى بنَعْشِي مرةً فأُغيَّب )
( خرجنَا فلم نعهد وقَلَّت وصاتنا ... ثمانيةٌ ما بعدها مُتعَتَّب )
( سراحينُ فتيانٍ كأن وُجوهَهم ... مصابيحُ أو لونٌ من الماء مذهب )
( نَمُرّ برَهوْ الماء صَفْحاً وقد طَوَتْ ... ثمائِلُنا والزّادُ ظَنٌّ مُغَيَّبُ )
( ثلاثاً على الأَقدام حتى سما بنا ... على العَوْص شَعْشاعٌ من القوم مِحْربُ )
( فثاروا إلينا في السواد فَهجْهَجُوا ... وصَوَّت فينا بالصّباح المُثوّب )
( فشنَّ عليهم هذة السيف ثابِتٌ ... وصَمَّم فيهم بالحُسام المُسيِّبُ )
( وظَلْتُ بفتيانٍ معي أتّقيهمُ ... بهنّ قليلا ساعة ثم جنبوا )

( وقد خَرّ منهم راجلان وفارسٌ ... كميّ صرعناه وحَوْم مسلّب )
( يَشُقُّ إليه كلّ رَبْعٍ وقَلْعَةٍ ... ثمانيةٌ والقوم رَجْلٌ ومِقْنبُ )
( فلما رآنا قومنا قيل أفلَحُوا ... فقلنا : اسألوا عن قائل لا يُكَذَّبُ )
وقال تأبط شرا في ذلك
( أرى قدمَيَّ وقَعهُما خَفيفٌ ... كتحليل الظَّليم حَدَا رِئالَه )
( أرى بهما عذاباً كلّ يومٍ ... بخَثْعَم أو بَجِيلَةَ أو ثُمالَه )
ففرق تأبط شرا أصحابه ولم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم وساق تأبط شرا وأصحابه الإبل حتى قدم بها عليا مكة
وقال غيره إنما سمي تأبط شرا ببيت قاله وهو
( تأبط شراً ثم راح أو اغتدىَ ... يُوائِم غُنْما أو يَشِيفُ على ذَحْل )

شعره عندما هرب من مراد إلى قومه
قال وخرج تأبط شرا يوما يريد الغارة فلقى سرحا لمراد فأطرده ونذرت به مراد فخرجوا في طلبه فسبقهم إلى قومه وقال في ذلك
( إذا لاقيتَ يومَ الصّدق فارْبَع ... عليه ولا يَهمّك يومُ سَوِّ )
( على أنِّي بِسَرْح بني مرادٍ ... شجوتهُم سِباقاً أيَّ شجوِ )
( وآخر مثله لا عيبَ فيه ... بَصَرتُ به ليوم غيرِ زوِّ )
( خَفَضتُ بساحةٍ تجري علينا ... أباريق الكرامة يومَ لَهْوِ )

أغار تأبط شرا وحده على خثعم فبينا هو يطوف إذ مر بغلام يتصيد الأرانب معه قوسه ونبله فلما رآه تأبط شرا أهوى ليأخذه فرماه الغلام فأصاب يده اليسرى وضربه تأبط شرا فقتله وقال في ذلك
( وكادت وبيتِ الله أطناب ثابت ... تقوّضُ عن لَيْلَى وتبكي النَّوائح )
( تمنّى فتى منّا يلاقي ولم يَكد ... غلامٌ نَمَتْه المُحْصنات الصّرائِح )
( غلام نَمى فوق الخماسيِّ قدره ... ودون الذي قد تَرْتَجِيه النّوَّاكحُ )
( فإن تك نالته خطاطِيف كفّه ... بأبيض قصّال نمى وهو فادح )
( فقد شد في إحدى يديه كِنانه ... يُداوَى لها في أسود القلب قادح )
هذه الأبيات أن تكون لقوم المقتول أشبه منها بتأبط شرا

خبره مع امرأة من هذيل
قال وخطب تأبط شرا امرأة من هذيل من بني سهم فقال لها قائل لا تنكحيه فإنه لأول غدا يفقد فقال تأبط شرا
( وقالوا لها لا تَنكَحِيه فإنّه ... لأول نَصْل أن يُلاقى مَجمَعا )
( فلم تَرَ مِنْ رأيٍ فتيلا وحاذرت ... تأَيّمها من لابس الليلِ أَرْوَعا )

( قليل غِرارِ النّوم أكبر هَمّه ... دَمُ الثّأر أو يلقى كَمِيا مُقَنَّعا )
( قليلِ ادّخَارِ الزَّادِ إلاّ تَعِلَّة ... وقد نَشَزَ الشُّرسُوفُ والتصق المِعَى )
( تُناضِله كلٌّ يشجّع نفسَه ... وما طبُّه في طرْقه أن يُشجَّعا )
( يبيت بمغنى الوحش حتى ألفْنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهرَ مرتعا )
( رأين فتىً لا صَيْدُ وحش يَهمّه ... فَلَوْ صافحت إنْسا لصافَحْنَه معا )
( ولكنّ أربابَ المخاض يشقّهم ... إذا افتقدوه أو رأوه مُشيّعا )
( وإني ولا عِلمٌ لأَعلَمُ أنني ... سألقَى سِنانَ الموت يرشُق أضلعا )
( على غِرّةٍ أو جَهْرةٍ من مُكاثِرٍ ... أطال نِزالَ الموت حتى تَسَعْسَعا )
تسعسع فني وذهب
يقال قد تسعسع الشهر ومنه حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر شهر رمضان فقال ( إن هذا الشهر قد تسعسع )
( وكنت أظن الموت في الحي أو أرى ... أَلَذّ وأُكرَى أو أَمُوتَ مُقَنَّعا )
( ولست أبيتُ الدَّهر إلا على فتى ... أسلِّبه أو أُذغِرُ السِرْبَ أجمَعَا )
( ومن يَضربُ الأبطالَ لا بدّ أنه ... سيَلْقى بهم من مَصْرع الموت مَصْرعا )
قال وخرج تأبط شرا ومعه صاحبان له عمرو بن كلاب أخو المسيب

وسعد بن الأشرس وهم يريدون الغارة على بجيلة فنذروا بهم وهم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم وأخذوا عليهم الطريق فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبط شرا ونجا ولم يكد حتى أتى قومه
فقالت له امرأته وهي أخت عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح هربت عن أخي وتركته وغررته أما والله لو كنت كريما لما أسلمته فقال تأبط شرا في ذلك
( ألا تِلكما عِرْسي مَنيعة ضُمِّنَت ... من الله خِزياً مُسْتسرّاً وعاهنا )
وذكر باقي الأبيات
وإنما دعا امرأته إلى أن عيرته أنه لما رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق إلى امرأة كان يتحدث عندها وهي من بني القين بن فهم فبات عندها فلما أصبح غدا إلى امرأته وهو مدهن مترجل فلما رأته في تلك الحال علمت أين بات فغارت عليه فعيرته

غارته على خثعم
وذكروا أن تأبط شرا أغار على خثعم فقال كاهن لهم أروني أثره حتى آخذه لكم فلا يبرح حتى تأخذوه فكفئوا على أثره جفنة ثم أرسلوا إلى الكاهن فلما رأى أثره قال هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ فقال تأبط شرا
( ألا أبلغ بني فَهْم بن عمرو ... على طولِ التَّنائي والمقَالَهْ )

( مقَال الكاهن الجامِيّ لمّا ... رأى أثري وقد أُنهِبتُ مالَهْ )
( رأى قدمَيّ وقعُهما حثيثٌ ... كتحليل الظليم دعا رئاله )
( أرى بهما عذاباً كلَّ عام ... لخثعمَ أو بجيلةَ أو ثُمالهْ )
( وشرٌّ كان صُبَّ على هذيل ... إذا علقت حِبالهمُ حِبالَه )
( ويَومُ الأزد منهم شرّ يوم ... إذا بَعُدوا فقد صَدَّقتُ قاله )
فزعموا أن ناسا من الأزد بئوا لتأبط شرا ربيئة وقالوا هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من غيره فأقيموا فيه حتى يأتيكم فلما دنا من القوم توجس ثم انصرف ثم عاد فنهضوا في أثره حين رأوه لا يجوز ومر قريبا فطمعوا فيه وفيهم رجل يقال له حاجز ليث من ليوثهم سريع فأغروه به فلم يلحقه فقال تأبط شرا في ذلك
( تَتعتعتُ حِضْنَيْ حاجزٍ وصحابِه ... وقد نبذوا خُلقانَهم وتشنَّعوا )
( أَظن وإن صادفتُ وعثاً وأَنْ جرّى ... بِيَ السّهلُ أو متنٌ من الأرض مَهْيَع )
( أُجارِي ظلالَ الطير لو فات واحدٌ ... ولو صدقوا قالوا له هو أسرع )
( فلو كان من فتيان قيسٍ وخِنْدفٍ ... أَطاف به القُنَّاصُ من حيث أُفزِعوا )
( وجاب بلادا نصف يوم وليلة ... لآب إليهم وهو أشوس أروع )
( فلو كان منكم واحدٌ لكُفِيتُه ... وما ارتجعوا لو كان في القوم مطمع )
فأجابه حاجز

( فإن تك جاريْتَ الظلال فربما ... سُبِقْتَ ويومُ القِرْن عُريان أسْنَع )
( وخلَّيْتَ إخوان الصفاء كأنهم ... ذبائحُ عَنزٍ أو فَحِيلٌ مُصرَّع )
( تبكيِّهمُ شجوَ الحمامة بعدما ... أرحْتَ ولَم تُرفَع لهم منك إصْبَع )
( فهذي ثلاثٌ قد حويت نجاتَها ... وإن تنجُ أخرى فهي عندك أربع )

خير أيامه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال ذكر علي بن محمد المدائني عن ابن دأب قال
سئل تأبط شرا أي يوم مر بك خير قال خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة أضاءت لي النار رجلا جالسا إلى امرأة
فعمدت إلى سيفي فدفنته قريبا ثم أقبلت حتى استأنست فنبحني الكلب فقال ما هذا فقلت بائس
فقال ادنه فدنوت فإذا رجل جلحاب آدم وإذا أضوى الناس إلى جانبه فشكوت إليه الجوع والحاجة فقال اكشف تلك القصعة فأتيت قصعة إلى جنب إبله فإذا فيها تمر ولبن فأكلت منه حتى شبعت ثم خررت متناوما فو الله ما شئت أن أضطجع حتى أضطجع هو ورفع رجله على رجله ثم اندفع يغني وهو يقول
( خَيرُ اللَّيالي إن سألت بليلة ... ليل بخيْمة بين بِيشَ وعَثّرِ )

( لِضجيعِ آنسةٍ كأَنَّ حَدِيثَها ... شَهدٌ يُشاب بمزجةٍ من عَنْبر )
( وضجيعِ لاهيةٍ أُلاعِب مِثلَها ... بيضاءَ واضحةٍ كَظِيظ المِئْزَر )
( ولأَنْت مثلُهما وخَيرٌ منهما ... بعد الرُّقاد وقبل أَن لم تُسْحِري )
قال ثم انحرف فنام ومالت فنامت فقلت ما رأيت كالليلة في الغرة فإذا عشر عشراوات بين أثلاث فيها عبد واحد وأمه فوثبت فانتضيت سيفي وانتحيت للعبد فقتلته وهو نائم ثم انحرفت إلى الرجل فوضعت سيفي على كبده حتى أخرجته من صلبه ثم ضربت فخذ المرأة فجلست فلما رأته مقتولا جزعت فقلت لا تخافي أنا خير لك منه
قال وقمت إلى جل متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا والأمة فما حللت عقده حتى نزلت بصعدة بني عوف بن فهر وأعرست بالمرأة هناك وحين اضطجعت فتحت عقيرتي وغنيت
( بحَليلة البجليّ بِتْ من ليلِها ... بين الإِزار وكَشِحْها ثم الصَقِ )
( بأَنسيةٍ طُوِيت على مَطْويّها ... طيَّ الحمالةِ أو كطيّ المِنْطَقِ )
( فإذا تقوم فصَعدةٌ في رَمْلَة ... لبَدَت برِيّق دِيمة لم تُغدِق )

( وإذا تجيءُ تجيء شحب خلفها ... كالأَيْم أصْعَد في كَثِيبٍ يَرْتَقِي )
( كَذَب الكوَاهِنُ والسَّواحِرُ والهُنا ... أن لا وفاء لعاجِزٍ لا يَتَّقِي )
قال فهذا خير يوم لقيته
وشر يوم لقيت أني خرجت حتى إذا كنت في بلاد ثمالة أطوف حتى إذا كنت من الفقير عشيا إذا بسبع خلفات فيهن عبد فأقبلت نحوه وكأني لا أريده وحذرني فجعل يلوذ بناقة فيها حمراء فقلت في نفسي والله إنه ليثق بها
فأفوق له ووضع رجله في أرجلها وجعل يدور معها فإذا هو على عجزها
وأرميه حين أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخر وندت الناقة شيئا وأتبعتها فرجعت فسقتهن شيئا ثم قلت والله لو ركبت الناقة وطردتهن وأخذت بعثنون الحمراء فوثبت فساعة استويت عليها كرت نحو الحي تريع وتبعتها الخلفات وجلعت أسكنها وذهبت فلما خشيت أن تطرحني في أيدي القوم رميت بنفسي عنها فانكسرت رجلي وانطلقت والذود معها
فخرجت أعرج حتى انخنست في طرف كثيب وجازني الطلب فمكثت مكاني حتى أظلمت وشبت لي ثلاثة أنوار فإذا نار عظيمة ظننت أن لها أهلا كثيرا ونار دونها ونويرة صغيره فهويت للصغرى وأنا أجمر فلما نبحني الكلب نادى رجل فقال من هذا فقلت بائس فقال ادنه فدنوت وجلست وجعل يسائلني إلى أن قال والله إني لأجد منك ريح دم
فقلت لا والله ما بي دم
فوثب إلي فنفضني ثم نظر في جعبتي فإذا

السهم فقلت رميت العشية أرنبا فقال كذبت هذا ريح دم إنسان ثم وثب إلي ولا أدفع الشر عن نفسي فأوثقني كتافا ثم علق جعبتي وقوسي وطرحني في كسر البيت ونام فلما أسحرت حركت رجلي فإذا هي صالحة وانفتل الرباط فحللته ثم وثبت إلى قوسي وجعبتي فأخذتهما ثم هممت بقتله فقلت أنا ضمن الرجل وأنا أخشى أن أطلب فأدرك ولم أقتل أحدا أحب إلي فوليت ومضيت
فو الله إني لفي الصحراء أحدث نفسي إذا أنا به على ناقة يتبعني فلما رأيته قد دنا مني جلست على قوسي وجعبتي وأمنته وأقبل فأناخ راحلته ثم علقها ثم أقبل إلي وعهده بي عهده فقلت له ويلك ما تريد مني فأقبل يشتمني حتى إذا أمكنني وثبت عليه فما ألبثته أن ضربت به الأرض وبركت عليه أربطه فجعل يصيح يا لثمالة لم أر كاليوم
فجنبته إلى ناقته وركبتها فما نزعت حتى أحللته في الحي وقلت
( أغرّكَ منّي يا بن فَعْلة عِلَّتي ... عَشِيَّةَ أَن رابت عليَّ روائِبِي )
( وَ موقد نيران ثَلاثٍ فشَرُّهَا ... وألأَمُها إذ قُدْتُها غير عازِبِ )
( سلبتَ سِلاحِي بَائِساً وشَتَمْتَنِي ... فيا خَيْر مَسْلُوب ويا شَرَّ سَالِب )
( فإن أَكُ لم أخْضِبك فيها فإنَّها ... نُيوبُ أساوِيد وشَوْل عَقارِب )
( ويا رَكْبة الحَمْراء شَرَّة رَكْبةٍ ... وكادَتْ تكون شَرّ ركبةِ راكِبِ )

غارته على الأزد
قال وخرج تأبط غازيا يريد الغارة على الأزد في بعض ما كان يغير عليهم وحده فنذرت به الأزد فأهملوا له إبلا وأمروا ثلاثة من ذوي بأسهم حاجزين أبي وسواد بن عمرو بن مالك وعوف بن عبد الله أن يتبعوه حتى ينام فيأخذوه أخذا فكمنوا له مكمنا وأقبل تأبط شرا فبصر بالإبل فطردها بعض يومه
ثم تركها ونهض في شعب لينظر هل يطلبه أحد فكمن القوم حين رأوه ولم يرهم فلما لم ير أحدا في أثره عاود الإبل فشلها يومه وليلته والغد حتى أمسى ثم عقلها وصنع طعاما فأكله والقوم ينظرون إليه في ظله ثم هيأ مضطجعا على النار ثم أخمدها وزحف على بطنه ومعه قوسه حتى دخل بين الإبل وخشي أن يكون رآه أحد وهو لا يعلم ويأبى إلا الحذر والأخذ بالحزم فمكث ساعة وقد هيأ سهما على كبد قوسه فلما أحسوا نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمون المهاد الذي رأوه هيأه فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله وجال الآخران ورمى آخر فقتله وأفلت حاجز هاربا وأخذ سلب الرجلين وأطلق عقل الإبل وشلها حتى جاء بها قومه وقال تأبط في ذلك
( تُرَجِّى نِساءُ الأَزْدِ طلعةَ ثابتِ ... أسِيراً ولم يَدْرِين كيف حَوِيلي )
( فإنّ الأُلي أَوصَيْتُم بَيْن هارِبٍ ... طَرِيدٍ ومَسْفُوح الدَّماءِ قَتِيلَ )
( وخدتُ بهم حتى إذا طال وَخْدُهم ... ورابَ عليهم مَضْجَعِي وَمَقِيلِي )
( مَهدتُ لهم حتى إذا طاب رَوعُهم ... إلى المهْد خَاتلْت الضِّيا بِخَتِيل )

( فلما أحسُّوا النَّوم جاءُوا كأنَّهم ... سِباعٌ أَصابت هجمةً بِسَلِيلِ )
( فَقلّدتُ سَوَّارَ بنَ عَمْرو بنِ مَالِكٍ ... بأَسْمَر جَسْر القُذَّتَين طَمِيل )
( فخَرَّ كأنّ الفِيَل ألقى جِرانَه ... عليه بريّان القِواء أسيلِ )
( وظل رعاع المَتْن من وقع حاجِزٍ ... يخرُّ ولو نَهْنَهْتَ غَيْر قَلِيل )
( لأبتَ كما آبا ولو كُنتَ قَارِناً ... لجئتَ وما مالكتَ طول ذَميلِي )
( فسرك ندماناك لما تتابعا ... وأنك لم ترجع بعوص قتيل )
( سَتأتي إلى فَهْمٍ غَنِيمَةُ خلْسَة ... وفي الأزد نَوْحُ وَيْلةٍ بِعَوِيلِ )
فقال حاجز بن أبي الأزدي يجيبه
( سألت فلم تُكلِّمني الرُّسوم ... )
وهي في أشعار الأزد
فأجابه تأبط شرا
( لقد قال الخِليُّ وقال خَلْساً ... بظهر الليل شُدَّ به العُكومُ )
( لِطَيفٍ من سُعادَ عَناك منها ... مُراعاةُ النُّجوم ومَنْ يَهِيمُ )

( وتلك لئن عُنِيتَ بها رَداحٌ ... من النّسوان مَنْطِقُها رَخِيمُ )
( نِياقُ القُرطِ غَرَّاءُ الثَّنايَا ... ورَيْداءُ الشَّباب ونِعْم خِيم )
( ولكن فاتَ صاحبُ بَطْن رَهْوٍ ... وصاحبه فأنتَ به زَعِيم )
( أُؤاخِذُ خُطَّة فيها سواء ... أَبِيتُ وَليلُ واترها نَؤُومُ )
( ثأرتُ بها وما اقْتَرفَت يَدَاه ... فَظلَّ لها بنا يومٌ غَشُومُ )
( نَحزُّ رِقابَهم حتى نَزَعْنا ... وأنفُ المَوْت مَنْخِرُه رَمِيمُ )
( وإن تَقع النّسورُ عليَّ يوْماً ... فلَحْم المعنْفِي لَحْم كَرِيمُ )
( وَذِي رَحمٍ أحالَ الدَّهْر عنه ... فلَيْس له لذي رَحِمِ حَرِيم )
( أصاب الدَّهرُ آمنَ مَرْوَتَيْه ... فألقاه المصاحِب والحَمِيمُ )
( مَددتُ له يَميناً من جَناحي ... لها وَفرُ وكافَيةٌ رَحُومُ )
( أُواسيه على الأيَّام إني ... إذا قَعَدت به اللُّؤَما أَلومُ )

رثاؤه لأخيه عمرو
ذكروا انه لما انصرف الناس عن المستغل وهي سوق كانت العرب

تجتمع بها قال عمرو بن جابر بن أخو سفيان تأبط شرا لمن حضر من قومه لا واللات والعزى لا أرجع حتى أغير على بني عتير من هذيل ومعه رجلان من قومه هو ثالثهما فأطردوا إبلا لبني عتير فأتبعهم أرباب الإبل فقال عمرو أنا كار على القوم ومنهنهم عنكما فامضيا بالإبل
فكر عليهم فنهنهم طويلا فجرح في القوم رئيسا ورماه رجل من بني عتير بسهم فقتله فقالت بنو عتير هذا عمرو بن جابر ما تصنعون أن تلحقوا بأصحابه أبعدها الله من إبل فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا فيكونوا قد أخذوا الثأر فرجعوا ولم يجاوزوه
وكانوا يظنون أن معه أناسا كثيرا فقال تأبط لما بلغه قتل أخيه
( وحرّمتُ النساءَ وإن أُحِلّت ... بشَور أو بمزج أو لَصابِ )
( حياتي أو أزور بني عُتَير ... وكاهلها بَجمْع ذي ضباب )
( إذا وَقَعت لكَعْب أو خثيمٍ ... وسيار يَسُوغ لها شَرابِي )
( أَظُنّي مَيِّتا كَمداً ولَمّا ... أطالِعْ طلعةً أهلَ الكِراب )
( ودُمْتُ مُسَيَّرا أهدِي رعيلا ... أؤم سوادَ طَوْدٍ ذِي نِقاب )
فأجابه أنس بن حذيفة الهذلي
( لعلّك أن تَجِيء بك المَنايَا ... تُساق لِفِتْية منا غضابِ )
( فتنزلَ في مَكَرِّهُم صريعاً ... وتنزلَ طُرْقةَ الضَّبعُ السّغابِ )

( تأبَّطَ سَوْأةً وحملتَ شَرًّا ... لعلك أن تكون من المُصاب )
ثم أن السمع بن جابر أخا تابط شرا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني عتير ليثأر بأخيه عمرو بن جابر حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم فسأله عنهم فأخبره بأهل بيت من عتير كثير مالهم فبيتهم فلم يفلت منهم مخبر واستاقوا أموالهم فقال في ذلك السمع بن جابر
( بأعلى ذي جماجم أهلُ دارٍ ... إذا ظَعنَت عشيرتُهم أقاموا )
( طرقْتُهمُ بفتيانٍ كِرامٍ ... مَساعِيرٍ إذا حَمِي المُقامُ )
( متى ما أدعُ من فَهْم تُجِبْني ... وعدوان الحماةِ لهم نِظامُ )

أصابته في غارته غلى الأزد
ذكروا أن تأبط شرا خرج ومعه مرة بن خليف يريدان الغارة على الأزد وقد جعلا الهداية بينهما فلما كانت هداية مرة نعس فجار عن الطريق ومضيا حتى وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب وإذا فيها مياه يصيح الطير عليها وإذا البيض والفراخ بظهور الأكم فقال تأبط شرا هلكنا واللات يا مرة ما وطيء هذا المكان إنس قبلنا ولو وطئته إنس ما باضت الطير بالأرض فاختر أية هاتين القنتين شئت وهما أطول شيء يريان من الجبال فأصعد إحداهما وتصعد أنت الأخرى فإن رأيت الحياة فألح بالثوب وإن رأيت الموت فألح بالسيف فإني فاعل مثل ذلك فأقاما يومين
ثم إن تأبط شرا ألاح بالثوب وانحدرا حتى التقيا في سفح الجبل فقال مرة ما رأيت يا ثابت قال دخانا أو جرادا
قال مرة

إنك إن جزعت منه هلكنا فقال تأبط شرا أما أنا فإني سأخرم بك من حيث تهتدي الريح فمكثا بذلك يومين وليلتين ثم تبعا الصوت فقال تأبط شرا النعم والناس
أما والله لئن عرفنا لنقتلن ولئن أغرنا لندركن فأت الحي من طرف وأنا من الآخر ثم كن ضيفا ثلاثا فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع ثم أغر على ما قبلك إذا تدلت الشمس فكانت قدر قامة وموعدك الطريق
ففعلا حتى إذا كان اليوم الثالث أغار كل واحد منهما على ما يليه فاستاقا النعم والغنم وطردا يوما وليلة طردا عنيفا حتى أمسيا الليلة الثانية دخلا شعبا فنحرا قلوصا فبينا هما يشويان إذ سمعا حسا على باب الشعب فقال تأبط الطلب يا مرة إن ثبت فلم يدخل فهم مجيزون وإن دخل فهو الطلب فلم يلبث أن سمع الحس يدخل فقال مرة هلكنا ووضع تأبط شرا يده على عضد مرة فإذا هي ترعد فقال ما أرعدت عضدك إلا من قبل أمك الوابشية من هذيل خذ بظهري فإن نجوت نجوت وإن قتلت وقيتك
فلما دنا القوم أخذ مرة بظهر تأبط وحمل تأبط فقتل رجلا ورموه بسهم فأعلقوه فيه وأفلتا جميعا بأنفسهما فلما أمنا وكان من آخر الليل قال مرة ما رأيت كاليوم عنيمة أخذت على حين أشرافنا على أهلنا وعض مرة عضده وكان الحي الذين أغاروا عليهم بجيلة وأتى تأبط امرأته فلما رأت جراحته ولولت فقال تأبط في ذلك
( وبالشِّعب إذ سدّت بجِيلةُ فَجَّهُ ... ومِن خَلفه هَضبٌ صغار وجامل )
( شدّدْتُ لنفس المرء مُرَّةَ حَزْمَه ... وقد نُصِبت دون النَّجاء الحبائل )
( وقلت له كن خلفَ ظهري فإنني ... سأفديك وانظر بعدُ ما أنتَ فاعِل )

( فعاذ بَحدّ السيف صاحبُ أمرهم ... وَخلَّوْا عن الشيء الذي لم يحاولوا )
( وأخطأهم قَتِلى ورفَّعتُ صاحبي ... على الليل لم تُؤخذ عليه المخاتلُ )
( واخطأ غُنْم الحَيّ مُرَّة بعدما ... حوته إليه كفُّه والأناملُ )
( يعض على أطرافه كيف زَوْلُه ... ودون الملا سهلٌ من الأرض ماثل )
( فقلت له هذي بتلك وقد يَرَى ... لها ثَمَنا من نفسه ما يُزاول )
( تُوَلْوِل سُعدى أن أتيتُ مُجرَّحا ... إليها وقد مَنَّت عليّ المَقاتلُ )
( وكائِنْ أتاها هارِباً قبل هذه ... ومن غانمٍ فأين مِنْكِ الوَلاوِل )

أراد هو وأصحابه الأخذ بثأر صاحبيهم
فلما انقضت الأشهر الحرم وخرج تأبط والمسيب بن كلاب في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة والأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب وسعد بن الأشرس
فخرج تأبط والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وعمرو بن براق ومرة ابن خليف والشنفرى بن مالك والسمع وكعب بن حدار ابنا جابر أخوا تأبط
فمضوا حتى أغاروا على العوص فقتلوا منهم ثلاثة نفر فارسين وراجلا وأطردوا لهم إبلا وأخذوا منهم امرأتين فمضوا بما غنموا حتى إذا كانوا على يوم وليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في نحو من أربعين رجلا فيهم أبي بن جابر الخثعمي وهو رئيس القوم فقال تأبط يا قوم لا تسلموا لهم ما في أيديكم حتى تبلوا عذرا وقال عامر بن الأخنس عليكم بصدق الضراب وقد أدركتم بثأركم وقال

المسيب اصدقوا القوم الحملة وإياكم والفشل وقال عمرو بن براق ابذلوا مهجكم ساعة فإن النصر عند الصبر وقال الشنفرى
( نحن الصَّعالِيك الحُماةُ البُزَّلُ ... إذا لَقِينا لا نُرَى نُهَلّلُ )
وقال مرة بن خليف
( يا ثابتَ الخَيْر ويا بنَ الأخنسِ ... ويا بنَ بَرّاق الكَريمِ الأشْوسِ )
( والشّنفَرى عند حُيودِ الأنفسِ ... أنا ابن حَامِي السِّربِ في المغمَّسِ )
( نحن مساعِيرُ الحُروبِ الضُّرّس ... )
وقال كعب حدار أخو تأبط
( يا قوم أَمَّا إذ لَقِيتم فاصْبِرُوا ... ولا تَخيِمُوا جزَعاً فتُدْبِروا )
وقال السمع أخو تأبط
( يا قوم كونوا عندها أَحْرارا ... لا تُسلِموا العُونَ ولا البِكارا )
( ولا القَنَاعيسَ ولا العِشَارا ... لخَثْعمٍ وقد دَعَوْا غِرَارَا )
( ساقوهُم المَوْت معاً أحرارا ... وافتخِرُوا الدَّهْر بها افْتِخارا )

فلما سمع تأبط مقالتهم قال بأبي أنتم وأمي نعم الحماة إذا جد الجد أما إذا أجمع رأيكم على قتال القوم فاحملوا ولا تتفرقوا فإن القوم أكثر منكم فحملوا عليهم فقتلوا منهم ثم كروا الثانية فقتلوا ثم كروا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم وتفرقت في رؤوس الجبال ومضى تأبط وأصحابه بما غنموا وأسلاب من قتلوا فقال تأبط في ذلك
( جَزَى اللَّهُ على فِتْياناً على العَوْصِ أشرقت ... سيوفهم تحت العَجاجَة بالدَّمِ )
الأبيات
وقال الشنفرى في ذلك
( دَعِيني وقُولي بعد ما شئتِ إنني ... سيفدى بنَفْسي مَرَّةً فأُغيَّبُ )
الأبيات
وقال الشنفرى أيضا
( ألا هل أَتَى عَنَّا سُعادَ ودُونَها ... مهامِهُ بِيدٍ تعْتَلي بالصعالِكِ )
( بأَنّا صَبَحْنا القوم في حُرّ دارِهِم ... حِمامَ المنايا بالسُّيوف البَواتِك )
( قَتَلْنا بعمرو منهمُ خيْرَ فارس ... يزيدَ وسعدا وابنَ عوفٍ بمالك )
( ظَلَلْنا نُفَرِّي بالسّيوف رُؤوُسَهم ... ونَرشُقهم بالنَّبْل بين الدَّكَادِك )

كان ضعيفا أمام النساء
قال وخرج تأبط في سرية من قومه فيهم عمرو بن براق ومرة بن خليف والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وهو رأس القوم وكعب

حدار وريش كعب والسمع وشريس بنو جابر إخوة تأبط شرا وسعد ومالك ابنا الأقرع حتى مروا ببني نفاثة بن الديل وهم يريدون الغارة عليهم فباتوا في جبل مطل عليهم فلما كان في وجه السحر أخذ عامر بن الأخنس قوسه فوجد وترها مسترخيا فجعل يوترها ويقول له تأبط بعض حطيط وترك يا عامر وسمعه شيخ من بني نفاثة فقال لبنات له أنصتن فهذه والله غارة لبني ليث وكان الذي بينهم يومئذ متفاقما في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء وكانوا أصابوه خطأ وكانت بنو نفاثة في غزوة والحي خلوف وليس عندهم غير أشياخ وغلمان لا طباخ بهم فقالت امرأة منهم اجهروا الكلام والبسوا السلاح فإن لنا عدة فو اللات ما هم إلا تأبط وأصحابه
فبرزن مع نوفل وأصحابه
فلما بصر بهم قال انصرفوا فإن القوم قد نذروا بكم فأبوا عليه إلا الغارة فسل تأبط سيفه وقال لئن أغرتم عليهم لأتكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري فانصرفوا ولا يحسبون إلا أن النساء رجال حتى مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب المنازل فأطردوها فلحقهم غلام من بني جندع بن ليث فقال يا عامر بن الأخنس أتهاب نساء بني نفاثة وتغير على رجال بني ليث هذه والله إبل لبلعاء بن قيس
فقال له عامر أو كان رجالهم خلوفا قال نعم قال أقرئ بلعاء مني السلام وأخبره بردي إبله وأعلمه أني قد حبست منها بكرا لأصحابي فإنا قد أرملنا فقال الغلام لئن حبست منها هلبة لأعلمنه ولا أطرد منها بعيرا أبدا
فحمل عليه تأبط فقتله ومضوا بالإبل إلى قومهم فقال في ذلك تأبط
( ألا عَجِب الفِتْيان من أمّ مالك ... تقول أراك اليوم أشعثَ أغبرا )

( تَبوعاً لآثار السَّريَّة بعد ما ... رأيتُك بَرَّاق المَفارق أَيْسرا )
( فقلتُ له يَوْمان يَومُ إقامة ... أهزّ به غُصْناً من البانِ أخضرا )
( ويومٌ أهزّ السَّيفَ في جيد أغيد ... له نِسوةٌ لم تلق مثلي أنكرا )
( يخفن عليه وهو ينزِع نفسَه ... لقد كنت أبّاء الظلامة قَسْورا )
( وقد صِحْت في آثار حَوْم كأنها ... عَذارَى عُقيل أو بَكارةُ حِمْيرا )
( أبعد النّفاثيَين آمل طرقةً ... وآسَى على شيء إذا هو أَدْبَرا )
( أكفكِف عنهم صُحْبَتي وإخالهم ... من الذلّ يَعْراً بالتّلاعة أَعْفَرَا )
( فلو نالت الكَفَّان أصحابَ نوفل ... بمهمهةٍ من بطن ظَرْء فعَرْعَرَا )
( ولمّا أَبَى الليثيُّ إلا تَهَكُّماً ... بِعرضي وكان العِرضُ عِرضي أوفرا )
( فقلت له حقَّ الثناءُ فإنّني ... سأذهب حتى لم أجد متأخَّرَا )
( ولما رأيتُ الجَهْلَ زاد لَجاجةً ... يقول فلا يأْلوك أَن تَتَشَوَّرَا )
( دنوت له حتى كَأنَّ قَميصَه ... تَشرَّب من نضح الأَخادِع عُصْفُرا )
( فمن مُبَلغٌ ليثُ بنَ بكرٍ بأننَّا ... تركنا أخاهم يوم قِرْنٍ مُعَفَّرا )

قال غزا تأبط بني نفاثة بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهم خلوف ليس في دارهم رجل وكان الخبر قد أتى تأبط فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحي وهم أسفل منه فرأته امرأة فطرح نفسه فعلمت المرأة أنه تأبط وكانت عاقلة فأمرت النساء فلبسن لبسة الرجال ثم خرجن كأنهن يطلبن الضالة وكان أصحابه يتفلتون ويقولون اغز وإنما كان في سرية من بين الستة إلى السبعة فأبى أن يدعهم وخرج يريد هذيلا وانصرف عن النفاثيين فبينا هو يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل فقال له العجب لك يا تأبط قال وما هو قال إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة وأنهم قد رجعوا
ففي ذلك يقول
( ألا عَجِب الفِتيان من أمّ مالك ... تقول لقد أصبحت أشعثَ أغبرا )
وذكر باقي الأبيات المتقدمة
وقال غيره لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن الأخنس الفهمي وكان من حديث عامر بن الأخنس انه غزا في نفر بضعة وعشرين رجلا فيهم عامر بن الأخنس وكان سيدا فيهم وكان إذا خرج في غزو رأسهم وكان يقال له سيد الصعاليك فخرج بهم حتى باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الديل ممسين ينتظرون أن ينام الحي حتى إذا كان في سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر فمعه غديرته يسوقها فبصر بهم وبمكانهم فخلى الغديرة وتبع الضراء ضراء الوادي حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان القوم وحيث رآهم فقاموا فاختاروا فتيان الحي فسلحوهم وأقبلوا نحوهم حتى إذا دنوا منهم قال رجل من النفاثيين والله ما قوسي بموترة
فقالوا فأوتر

قوسك فوضع قوسه فأوترها فقال تأبط لأصحابه
اسكتوا واستمع فقال أتيتم والله قالوا وما ذلك قال أنا والله أسمع حطيط وترقوس
قالوا والله ما نسمع شيئا قال بلى والله إني لأسمعه يا قوم النجاء قالوا لا والله ما سمعت شيئا فوثب فانطلق وتركهم ووثب معه نفر وبيتهم بنو نفاثة فلم يفلت منهم إنسان وخرج هو وأصحابه الذين انطلقوا معه وقتل تلك الليلة عامر بن الأخنس
قال ابن عمير وسألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس فزعموا أنه مات على فراشه
فلما رجع تأبط قالت له امرأته تركت أصحابك فقال حينئذ
( ألا عَجِب الفِتيان من أُمّ مالِك ... تقول لقد أصبحْتَ أشعثَ أغْبَرا )

مصرعه على يد غلام
فلما رجع تأبط وبلغه ما لقي أصحابه قال والله ما يمس رأسي غسل ولادهن حتى أثأر بهم
فخرج في نفر من قومه حتى عرض لهم بيت من هذيل بين صوى جبل فقال اغنموا هذا البيت أولا قالوا لا والله ما لنا فيه أرب ولئن كانت فيه غنيمة ما نستطيع أن نسوقها
فقال إني أتفاءل أن أنزل ووقف وأتت به ضبع من يساره فكرهها وعاف على غير الذي رأى فقال أبشري أشبعك من القوم غدا
فقال له أصحابه ويحك انطلق فو الله ما نرى أن نقيم عليها
قال لا والله لا أريم حتى أصبح وأتت

به ضبع عن يساره فقال أشبعك من القوم غدا فقال أحد القوم والله إني أرى هاتين غدا بك فقال لا والله لا أريم حتى أصبح
فبات حتى إذا كان في وجه الصبح وقد رأى أهل البيت وعدهم على النار وأبصر سواد غلام من القوم دون المحتلم وغدوا على القوم فقتلوا شيخا وعجوزا وحازوا جاريتين وإبلا
ثم قال تأبط إني قد رأيت معهم غلاما فأين الغلام الذي كان معهم فأبصر أثره فاتبعه فقال له أصحابه ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا فاتبعه واستتر الغلام بقتادة إلى جنب صخرة وأقبل تأبط يقصه وفوق الغلام سهما حين رأى انه لا ينجيه شيء وأمهله حتى إذا دنا منه قفز قفزة فوثب على الصخرة وأرسل السهم فلم يسمع تأبط إلى الحبضة فرفع رأسه فانتظم السهم قلبه وأقبل نحوه وهو يقول لا بأس فقال الغلام لا بأس والله لقد وضعته حيث تكره وغشيه تأبط بالسيف وجعل الغلام يلوذ بالقتادة ويضر بها تأبط بحشاشته فيأخذ ما أصابت الضربة منها حتى خلص إليه فقتله ثم نزل إلى أصحابه يجر رجله فلما رأوه وثبوا ولم يدروا ما أصابه فقالوا مالك فلم ينطق ومات في أيديهم فانطلقوا وتركوه فجعل لا يأكل منه سبع ولا طائر إلا مات فاحتملته هذيل فألقته في غار يقال له غار رخمان فقالت ريطة أخته وهي يومئذ متزوجة في بني الديل
( نِعْم الفَتَى غادَرتُم برُخمانْ ... ثابتٌ بنُ جابرِ بنِ سُفْيانْ )

وقال مرة بن خليف يرثيه
( إن العَزيمةَ والعَزَّاءَ قد ثَوَيا ... أكفانَ ميت غدا في غار رُخْمانِ )
( إلاّ يَكُن كُرسفٌ كُفِّنتَ جَيّدَه ... ولا يكن كَفَنٌ من ثَوْبِ كَتَّانِ )
( فإن حُراًّ من الأَنْساب ألبسه ... ريش الندى والنَّدَى من خير أَكفان )
( وليلةٍ رأسُ أفعاها إلى حجرٍ ... ويومِ أورِ من الجوزاءِ رنَّان )
( أمضيتَ أولَ رهطٍ عند آخره ... فَي إثر عاديةٍ أو إثر فتيان )
وقالت أم تأبط ترثيه
( وابناهُ وابنَ اللَّيْل ... )
قال أبو عمرو الشيباني لا بل كان من شأن تأبط وهو ثابت بن جابر بن سفيان وكان جزيئا شاعرا فاتكا انه خرج من أهله بغارة من قومه يريدون بني صاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعيد بن هذيل وذلك في عقب شهر حرام مما كان يحرم أهل الجاهلية حتى هبط صدر أدم وخفض عن جماعة بني صاهلة فاستقبل التلاعة فوجد بها دارا من بني نفاثة بن عدي ليس فيها إلا النساء غير رجل واحد فبصر الرجل بتأبط وخشيه وذلك في الضحى فقام الرجل إلى النساء فأمرهن فجعلن رؤوسهن جمما وجعلن دروعهن أردية وأخذن من بيوتهن عمدا كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل ثم تأبطنها ثم نهض ونهضن معه يغريهن كما يغري القوم وأمرهن أن لا يبرزن

خدا وجعل هو يبرز للقوم ليروه وطفق يغري ويصيح على القوم حتى أفزع تأبط شرا وأصحابه وهو على ذلك يغري في بقية ليلة أوليلتين من الشهر الحرام فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل وتأبط ينهض في الشعب مع أصحابه ثم يقف في آخرهم ثم يقول يا قوم لكأنما يطردكم النساء فيصيح عليه أصحابه فيقولون انج أدركك القوم وتأبى نفسه فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبط في ذلك
( أبعد النّفاثيين أزجر طائرا ... وآسَى على شيء إذا هو أدبرا )
( أُنهنهِ رِجلي عنهم وإخالهم ... من الذّلَ يعراً بالتّلاعة أعفرا )
( ولو نالت الكَفّان أصحابَ نوفل ... بمَهْمَهَة من بين ظَرْء وعرعرا )
قال ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذ من بني قريم ذنب نمار فظل يراقبهم حتى أمسوا وذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم فحصرهم تأبط وأصحابه حتى أمسوا
قال وقد كانت قالت وليدة لساعدة إني قد رأيت اليوم القوم أو النفر بهذا الجبل فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله
وانتظر تأبط وأصحابه أن يغفل الشيخ وذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح ولم يقدروا على غرة مشوا إليه وغروه ببقية الشهر الحرام وأعطوه من مواثيقهم ما أقنعه وشكوا إليه الجوع فلما اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه وابنا له صغيرا حين مشى قال ومضى تأبط شرا إلى ابن له ذي ذؤابة كان أبوه قد أمره فارتبأ

من وراء ماله يقال له سفيان بن ساعدة
فأقبل إليه تأبط شرا مستترا بمجنة فلما خشي الغلام أن يناله تأبط بسيفه مع الغلام سيف وهو مفوق سهما رمى مجن تأبط بحجر فظن تأبط انه قد أرسل سهمه فرمى مجنة عن يده ومشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبته حتى خرج منه السهم ووقع في البطحاء حذو القوم وأبوه ممسك فقال أبو الغلام حين وقع السهم أخاطئه سفيان فحرد القوم فذلك حين قتلوا الشيخ وابنه الصغير ومات تأبط

أمه ترثيه
فقالت أمه وكانت امرأة من بني القين بن جسر بن قضاعة ترثيه
( قتِيلٌ ما قتِيلُ بني قُرَيْمٍ ... إذا ضَنّت جُمادى بالقَطارِ )
( فتى فَهْمٍ جميعا غادَروُه ... مقيما بالحُرَيْضَةِ من نُمارِ )
وقالت أمه ترثيه أيضا
( ويلُ امِّ طِرف غادروا برُخْمانْ ... بثابت بن جابر بن سفيان )
( يجدِّل القرِنَ ويُروِي النَّدمانْ ... ذو مأْقِطٍ يحمي وراء الإِخوان )
وقالت ترثيه أيضا

وابناه ابن الليل ليس بزميل شروب للقيل رقود بالليل وواد ذي هول أجزت بالليل تضرب بالذيل برجل كالثول
قال وكان تأبط شرا يقول قبل ذلك
( ولقد علمتُ لتعدُوَنَّم ... عليّ شتْمٌ كالحساكل )
( ياكلنَ أوصالا ولحما ... كالشَّكاعِي غيرَ جاذِل )
( يا طيرُ كُلْنَ فإنني ... سُمٌّ لَكُنّ وذو دَغَاوِل )
وقال قبل موته
( لعلي ميِّتٌ كمداً ولَّما ... أطالع أهلَ ضيم فالكرابِ )
( وإن لم آتِ جمع بني خُثيم ... وكاهلها برَجْل كالضّباب )
( إذا وقعتُ بكعب أو قُرَيْمٍ ... وسيَّارٍ فياسَوْغَ الشّراب )
فأجابه شاعر من بني قريم
( تأَبّطَ سَوْأَةً وحملْتَ شرًّا ... لعلك أن تكونَ من المُصابِ )
( لعلك أن تجيءَ بك المنايا ... تُساقُ لفتيةٍ منا غِضاب )
( فتُصْبحَ في مَكَرِّهمُ صريعاً ... وتصبحَ طرفة الضَّبُعِ السَّغاب )

( فزلتم تهربون ولو كرهتم ... تسوقون الحَرائمَ بالنقاب )
( وزال بأَرضكم منّا غلامٌ ... طليعةُ فتْيَةٍ غُلْبِ الرقاب )
ونذكر ها هنا بعد أخبار تأبط شرا أخبار صاحبيه عمرو بن براق والشنفرى ونبدأ بما يغنى فيه من شعريهما ونتبعه بالأخبار
فأما عمرو بن براق فمما يغنى فيه من شعره قوله

صوت
( متى تجمع القلبَ الذكيَّ وصارما ... وأنفا حَمِيَّا تجتنبْك المَظالِمُ )
( وكنت إذا قومٌ غَزوْني غَزَوتهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمْدَانَ ظَالِم )
( كذبتُم وبيتِ الله لا تأخذونها ... مراغمةً ما دام للسيف قائِم )
( ولا صُلْحَ حتى تعثُر الخَيلُ بالقَنا ... وتُضْرَبَ بالبِيضِ الرّقاقِ الجَماجِمُ )
عروضه من الطويل الشعر لابن براق وقيل ابن براقة
والغناء لمحمد ابن إسحاق بن عمرو بن بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي

عمرو بن براق
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا السكري عن ابن حبيب قال واخبرنا الهمداني ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل قالا
سلب منه ماله ثم استرده
فقال في ذلك
أغار رجل من همدان يقال له حريم على إبل لعمرو بن براق وخيل فذهب بها فأتى عمرو امرأة كان يتحدث إليها ويزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله وخيله فذهب بها وأنه يريد الغارة عليه فقالت له المرأة ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك قال فخالفها وأغار عليه فاستاق كل شيء كان له فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يرد عليه ما أخذه منه فقال لا أفعل وأبى عليه فانصرف فقال عمرو في ذلك
( تقول سُلَيمى لا تعَرَّضْ لتَلفةٍ ... وليلُك عن ليل الصعاليك نائمُ )
( وكيف ينامُ الليلَ من جُلّ مالِهِ ... حُسامٌ كلون المِلح أَبيضُ صارمُ )
( صَمُوتٌ إذا عضَّ الكريهةَ لم يَدَعْ ... لها طَمعاً طوعُ اليمينِ ملازمُ )
( نَقدْتُ به ألْفاً وسامحتُ دونه ... على النقدِ إذ لا تُستطاع الدراهمُ )

( ألم تَعلمي أنّ الصعاليكَ نومُهم ... قليلٌ إذا نام الدَّثُور المُسالِمْ )
( إذا الليل أدجى واكفهرّت نجومه ... وصاح من الإِفراطِ هامٌ جواثم )
( ومال بأصحاب الكرى غالباتُه ... فإني على أمر الغَواية حازم )
( كذبتم وبيتِ الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دام للسيف قائمُ )
( تَحالفَ أقوامٌ عليّ ليسمَنُوا ... وجروا عليَّ الحَرْبَ إذا أَنَا سَالِمُ )
( أَفَالآن أُدْعى للهَوادة بعدما ... أُجِيل على الحيّ المَذاكِي الصَّلادمُ )
( كأنّ حُريماً إذ رجا أن يَضُمَّها ... ويُذْهِبَ مالي يا بنَة القوم حالِمُ )
( متى تجمعِ القلبَ الذَّكِيَّ وصارِماً ... وأنفاً حَميًّا تَجْتَنْبك المظالِمُ )
( ومَن يَطلبِ المالَ المُمَنَّع بالقَنَا ... يَعِشْ ذا غِنىً أو تَخْتَرِمْه المَخارِمُ )
( وكنتُ إذا قومٌ غَزوني غزَوْتُهم ... فهل أنا في ذا يالَهمْدان ظالم )
( فلا صُلْح حتى تعثر الخَيل بالقنا ... وتُضْرب بالبِيض الرِّقاقِ الجَماجِمُ )
وأما الشنفرى فإنه رجل من الأزد ثم من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد
ومما يغنى فيه من شعره قوله

صوت
( ألا أمٍّ عَمْرو أزمعت فاستقَلَّت ... وما ودَّعت جِيرانها إذ تولّت )
( فوانَدَما بانَت أُمامةُ بعدما ... طَمِعتُ فهَبْها نِعْمةً قد تولّتِ )
( وقد أعجَبتْنِي لا سَقُوطاً خِمارُها ... إذا ما مشَت ولا بذاتِ تَلَفُّتِ )
غنى في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة

أخبار الشنفرى ونسبه
أخبار في غير قومه
وأخبرني بخبره الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا أبو يحيى المؤدب وأحمد ابن أبي المنهال المهلبي عن مؤرج عن أبي هشام محمد بن هشام النميري
أن الشنفرى كان من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج بن عوف بن ميدعان بن مالك بن الأزد رجلا من فهم أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة بالشنفرى قال فكان الشنفرى في بني سلامان بن مفرج لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره وكان السلامي اتخذه ولدا وأحسن إليه وأعطاه فقال لها الشنفرى اغسلي رأسي يا أخية وهو لا يشك في أنها أخته فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته فذهب مغاضبا حتى أتى الذي اشتراه من فهم فقال له الشنفرى اصدقني ممن أنا قال أنت من الأواس بن الحجر فقال أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني ثم إنه ما زال يقتلهم حتى قتل تسعة وتسعين رجلا وقال الشنفرى للجارية السلامية التي لطمته وقالت لست بأخي

( ألا ليتَ شِعْري والتّلَهّفُ ضَلّةٌ ... بما ضَربتْ كَفُّ الفتاة هَجِينَها )
( ولو علمت قُعسوسُ أنساب والدي ... ووالدِها ظَلّت تقاصَرُ دونها )
( أنا ابن خيار الحُجْر بيتا ومَنْصِبا ... وأمي ابنةُ الأحرار لوْ تعْرِفينها )
قال ثم لزم الشنفرى دار فهم فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم وكان يغير وحده أكثر من ذلك وقال الشنفرى لبني سلامان
( وإني لأهوىَ أن أَلُفَّ عجَاجتي ... على ذي كساء من سَلامانَ أَو بُرد )
( وأصبحَ بالعضْدَاء أبغي سَراتَهم ... وأسلكَ خَلاًّ بين أَرباع والسّرد )
فكان يقتل بني سلامان بن مفرج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرمداء فأعجزهم فأشلوا عليه كلبا لهم يقال له حبيش ولم يضعوا له شيئا ومر وهو هارب بقرية يقال لها دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال
( قتيلَيْ فِجارٍ أنتُما إن قُتِلتُما ... بجوف دَحِيس أو تبالةَ يا اسمعا )
يريد يا هذان اسمعا وقال فيما كان يطالب به بني سلامان
( فإلا تزرني حَتْفتي أو تُلاقني ... أُمشِّ بدَهْرٍ أو عذافَ فنوَّرا )
( أمشي بأطراف الحماطِ وتارةً ... تُنفِّضُ رجلي بَسْبُطاً فعَصَنْصَرا )

( وأبغي بني صَعب بن مُرّ بلادَهم ... وسوف أُلاقيهم إنِ اللَّهُ يسّرا )
( ويوما بذاتِ الرَّأس أو بطن مِنجَلٍ ... هنالك تَلْقى القاصيَ المُتِغَوّرا )

سملوا عينه ثم قتلوه
قال ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن جابر السلاماني وخازم الفهمي بالناصف من أبيدة ومع أسيد ابن أخيه فمر عليهم الشنفرى فأبصر السواد بالليل فرماه وكان لا يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان فشك ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده فلم يتكلم فقال الشنفرى إن كنت شيئا فقد أصبتك وإن لم تكن شيئا فقد أمنتك وكان خازم باطحا يعني منبطحا بالطريق يرصده فنادى أسيد يا خازم أصلت يعني اسلل سيفك
فقال الشنفرى لكل أصلت فأصلت الشنفرى
فقطع إصبعين من أصابع خازم الخنصر والبنصر وضبطه خازم حتى لحقه أسيد وابن أخيه نجدة فأخذ أسيد سلاح الشنفرى وقد صرع الشنفرى خازما وابن أخي أسيد فضبطاه وهما تحته وأخذ أسيد برجل ابن أخيه فقال أسيد رجل من هذه فقل الشنفرى رجلي فقال ابن أخي أسيد بل هي رجلي يا عم فأسروا الشنفرى وأدوه إلى أهلهم وقالوا له أنشدنا فقال إنما النشيد على المسرة فذهبت مثلا ثم ضربوا يده فتعرضت أي اضطربت فقال الشنفرى في ذلك
( لا تَبْعَدي إِمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه )
( ورُبَّ قِرْنٍ فَصَلتْ عِظامَهْ ... )

ثم قال له السلامي أأطرفك ثم رماه في عينه فقال الشنفرى له كأن كنا نفعل أي كذلك كنا نفعل وكان الشنفرى إذا رمى رجلا منهم قال له أأطرفك ثم يرمي عينه
ثم قالوا له حين أرادوا قتله أين نقبرك فقال
( لا تَقبُروني إنّ قَبري مُحرَّم ... عليكم ولكن أبشرِي أُمَّ عامر )
( إذا احْتمَلَتْ رأسي وفي الرأس أكثَري ... وغُودِر عند المُلْتَقَى ثَمّ سائِرِي )
( هنالك لا أرجو حياةً تَسُرُّنِي ... سَمِيرَ الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائِر )

تأبط شرا يرثيه
وقال تأبط شرا يرثي الشنفرى
( على الشَّنْفَرَى ساري الغمام ورائحٌ ... غزيرُ الكلى وَصَيِّبُ الماء باكر )
( عليك جزاءٌ مثلُ يومِكَ بالجَبَا ... وقد أُرعِفتْ منك السُّيوفُ البواتر )
( ويومِكَ يومِ العَيْكَتَيْن وعطفةٍ ... عطفتَ وقد مَسَّ القلُوبَ الحناجِرُ )

( تجول ببز الموت فيهم كأَنهم ... بشوكتك الحُدّى ضَئِينٌ نوافرُ )
( فإنك لو لاقيتني بعدما ترى ... وهل يُلقَيْن مَنْ غَيَّبته المقابر )
( لألفيتني في غارة أنتمي بها ... إِليك وإمّا راجعاً أنا ثاِئرُ )
( وإن تكُ مأْسورا وظلْت مُخَيِّماً ... وأبْليت حتى ما يكيدك واتِرُ )
( وحتى رماك الشَّيبُ في الرأس عانسا ... وخيرُك مبسوطٌ وزادك حاضر )
( وأجملُ موتِ المرء إذ كان ميتا ... ولا بد يوما مَوتُه وهو صابر )
( فلا يَبعَدنّ الشَّنْفَري وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشدٌّ خَطْوُه متواتر )
( إذا راع رَوْعُ الموت راع وإن حَمَى ... معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ )

خبر آخر عن سبب اسره ومقتله
قال وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفرى وسبب أسره ومقتله أن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي فأبوا أن يبوءوا بقتله فباء بقتله رجل منهم يقال له حزام بن جابر قبل ذلك فمات أخو الشنفرى فأنشأت أمه تبكيه فقال الشنفرى وكان أول ما قاله من الشعر
( ليس لوالدة هوءُها ... ولا قولُها لابنها دَعْدَع )

( تُطيف وتُحدِث أحوالهَ ... وغيْرُكِ أملكُ بالمَصْرَع )
قال فلما ترعرع الشنفرى جعل يغير على الأزد مع فهم فيقتل من أدرك منهم ثم قدم منى وبها حزام بن جابر فقيل له هذا قاتل أبيك فشد عليه فقتله ثم سبق الناس على رجليه فقال
( قتلتُ حزاماً مُهْدِياً بمُلَبِّدٍ ... ببطن مِنىً وسْط الحجيج المُصَوّتِ )
قال ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن جابر وهو أخو حزام المقتول فقال تركت الشنفرى بسوق حباشة فقال أسيد بن جابر والله لئن كنت صادقا لا نرجع حتى نأكل من جنى أليف أبيدة فقعد له على الطريق هو وابنا حزام فأحسوه في جوف الليل وقد نزع نعلا ولبس نعلا ليخفي وطأه فلما سمع الغلامان وطأه قالا هذه الضبع فقال أسيد ليست الضبع ولكنه الشنفرى ليضع كل واحد منكما نعله على مقتله حتى إذا رأى سوادهم نكص مليا لينظر هل يتبعه أحد ثم رجع حتى دنا منهم فقال الغلامان أبصرنا فقال عمهما لا والله ما أبصركما ولكنه أطرد لكيما تتبعاه فليضع كل وحدا منكما نعله على مقتله
فرماهم الشنفرى فخسق في النعل ولم

يتحرك المرمي
ثم رمى فانتظم ساقي أسيد فلما رأى ذلك أقبل حتى كان بينهم فوثبوا عليه فأخذوه فشدوه وثاقا ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم فطرحوه وسطهم فتماروا بينهم في قتله فبعضهم يقول أخوكم وابنكم فلما رأى ذلك أحد بني حزام ضربه ضربة فقطع يده من الكوع وكانت بها شامة سوداء فقال الشنفرى حين قطعت يده
( لا تَبَعدي إمّا هلكت شامَهْ ... فربَّ خَرقٍ قَطَعتُ قتامَهْ )
( وربَّ قِرْنٍ فصَلت عظامَه ... )
وقال تأبط شرا يرثيه
( لا يبعَدنَّ الشَّنفرى وسلاحُه الحديدُ ... وشَدٌّ خَطْوُه مُتواتر )
( إذا راع رَوْعَ الموت رِاعَ وإن حَمى ... حَمى معه حُرٌّ كريمٌ مُصابِرُ )
قال وذرع خطو الشنفرى ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة ثم الثانية سبع عشرة خطوة
قال وقال ظالم العامر في الشنفرى وغاراته على الأزد وعجزهم عنه ويحمد أسيد بن جابر في قتله الشنفرى
( فما لَكُم لم تدركوا رٍِجْلَ شنفرى ... وأنتم خِفاف مثلُ أجنحة الغُرْبِ )
( تعاديتم حتى إذا ما لحقتُم ... تباطأَ عنكم طالبٌ وأبو سَقْب )
( لعمركَ للَسَّاعي أُسَيدُ بن جابِرٍ ... أحقُّ بها مِنْكم بَنِي عقبِ الكلب )

قال ولما قتل الشنفرى وطرح رأسه مر به رجل منهم فضرب جمجمة الشنفرى بقدمه فعقرت قدمه فمات منها فتمت به المائة

شعره لما قتل حزاما قاتل أبيه
وكان مما قاله الشنفرى فيهم من الشعر وفي لطمه المرأة التي أنكرته الذي ذكرته واستغني عن إعادته مما تقدم ذكره من شعر الشنفرى وقال الشنفرى في قتله حزاما قاتل أبيه
( أرى أُمَّ عمرو أجمعت فاستقلَّتِ ... وما ودّعت جيرانَها إذْ تولّتِ )
( فقد سبقتنا أُمُّ عمرو بأَمرها ... وقد كان أعناقُ المَطيِّ أظلَّت )
( فواندمَا على أميمةَ بعدما ... طمِعتُ فَهبْها نِعمةَ العيش ولَّت )
( أُميمةُ لا يُخزِي نَثاها حَليلها ... إذا ذُكِر النسوان عَفَّت وجَلّت )
( يَحُلّ بمنجاةٍ من اللّوم بيتُها ... إذا ما بُيوتٌ بالمَلامة حُلَّت )
( فقد أعجبتني لا سَقُوطٌ قِناعُها ... إذا ما مَشت ولا بذات تَلَفُّت )
( كأَنّ لها في الأرض نِسْياً تَقُصُّه ... إذا ما مشت وإن تُحدِّثْك تَبْلِت )
النسي الذي يسقط من الإنسان وهو لا يدري أين هو يصفها بالحياء وأنها لا تلتفت يمينا ولا شمالا ولا تبرج
ويروى
( تقصه على أمها وإن تُكلِّمك ... )
( فدَقَّت وجلَّت واسْبَكرَّت وأُكمَلتْ ... فلو جَنَّ إنسانٌ من الحُسْن جُنَّتِ )

( تبيتُ بُعَيْدَ النوم تُهدِي غَبُوبَها ... لجاراتِها إذا الهديّة قَلَّت ) الغبوب ما غب عندها من الطعام أي بات ويروى غبوقها
( فبتنا كأنَّ البيت حُجِّر حولنا ... بريحانةٍ راحت عِشاءً وطُلَّتِ )
( بريحانةٍ من بطن حلْيةَ أُمْرِعت ... لها أرجُ مِنْ حَولِها غيْرُ مُسْنت )
( غدوتُ من الوادي الذي بين مَشْعَل ... وبين الجبَا هيهات أنْسأتُ سُربتي )
( أمشِّي على الأرض التي لن تضيرَني ... لأكسِبَ مالا أو أُلاقِيَ حُمَّتِي )
( إذا ما أتتني حَتْفتي لم أُبالها ... ولم تُذْرِ خالاتي الدموع وعَمَّتِي )
( وهُنِّيءَ بي قومٌ وما إن هنأْتُهم ... وأصبحت في قوم وليسوا بمنْبِتي )
( وأُمَّ عيالٍ قد شهدتُ تَقُوتُهم ... إذا أطَعَمتْهم أوْتَحَتْ وأقلَّت )
( تخاف علينا الجوعَ إن هيَ أكثرت ... ونحن جياعٌ أيَّ أَلْيٍ تأَلَّت )
( عُفَاهيَةٌ لا يقصرُ السّترُ دونها ... ولا تُرتَجى للبَيْت إن لم تُبَيَّت )
( لها وَفْضَةٌ فيها ثلاثون سَلْجَماً ... إذَا ما رأَت أُولى العَدِي اقْشَعَرَّت )

( وتأتي العَدِيَّ بارزاً نصفُ ساقِها ... كَعدْو حِمار العانةِ المتفَلِّت )
( إذا فُزِّعت طارت بأَبيضَ صارمٍ ... وراحت بما في جُفرها ثم سَلَّت )
( حُسامٍ كلون الملح صافٍ حديدُه ... جُرَازٍ من أقطار الحديد المنعَّت )
( تراها كأَذناب المَطِيّ صوادراً ... وقد نهِلتْ منَ الدّماء وعلّت )
( سنجزي سَلامانَ بنَ مُفْرِجَ قرضَهم ... بما قدَّمت أيديهم وأَزَلَّت )
( شفَيْنا بعبد الله بعضَ غليلِنا ... وعوفٍ لدى لمَعْدَى أوانَ استهلَّت )
( قتلنا حزاما مُهدِيا بمُلَبّدٍ ... محلّهما بين الحجيج المصوِّت )
( فإن تُقبلوا تُقبِل بمَنْ نِيلَ منهمُ ... وإن تُدبروا فأُمّ مَنْ نيلَ فُتّت )
( ألا لا تزرني إن تشكيت خُلَّتي ... كفاني بأَعلى ذي الحُمَيرةِ عُدْوَتي )
( وإني لُحلوٌ إن أُرِيدت حلاوتي ... ومُرٌّ إذا النفس الصَّدوفُ استَمرَّت )
( أبيّ لما آبى وشيكٌ مَفِيئَتي ... إلى كُلِّ نفس تَنْتَحِي بمودّتي )
وقال الشنفرى أيضا
( ومرقبةٍ عَنْقاء يَقصُرُ دونها ... أخو الضَّرْوة الرّجْل الخفيُّ المخَفَّف )

( نَميتُ إلى أعلى ذراها وقد دنا ... من الليل ملتَفُّ الحدِيقةِ أسدَف )
( فبِتُّ على حَدّ الذّراعين أحدباً ... كما يَتَطَوَّى الأرقَم المُتَعَطِّفُ )
( قليلُ جَهازِي غيرُ نعلين أَسحقَت ... صُدورُهما مخصورةً لا تُخصَّفُ )
( ومِلْحَفَةٍ دَرْسٍ وَجَرْدِ مُلاَءةٍ ... إذا أنهجت من جانب لا تَكفّفُ )
( وأبيضُ من ماء الحديد مهنّدُ ... مِجدٌّ لأطراف السّواعد مِقطفُ )
( وصفراءُ من نبعٍ أبيُّ ظَهيرةٌ ... تُرِنّ كإرنان الشّجيَ وَتَهْتِفُ )
( إذا طال فيها النزع تأتي بعَجْسها ... وترمي بذَرْوَيْهَا بهنّ فتَقْذِفُ )
( كأَنّ حفِيفَ النَّبل من فوق عَجْسها ... عوازبُ نحلٍ أخطأَ الغارَ مُطْنِفُ )
( نأت أمُّ قيسِ المرْبَعَين كليهما ... وتحذَر أن يَنأَى بها المتصيَّفُ )
( وإنك لو تَدرينَ أنْ رُبَّ مشربٍ ... مخوفٍ كداء البطن أو هو أخوفُ )
( وردتُ بمأثورٍ ونبِلٍ وضالةٍ ... تخيَّرتها مما أَرِيش وأرصُفُ )
( أُركِّبها في كل أحمر عاتِرٍ ... وأقذف منهن الذي هو مقرِف )
( وتابعتُ فيه البّرْيَ حتى تركتُه ... يَزِفُّ إِذا أنفذتُه ويزفزفُ )

( بِكفّيَ منها للبغيض عُراضَةٌ ... إذا بعتُ خلاَّ ما له مُتَخَوَّفُ )
( ووادٍ بعيدِ العُمق ضنكٍ جِماعُه ... بواطِنُه للجنّ والأسْدِ مأْلَفُ )
( تعسَّفتُ منه بعد ما سقط الندى ... غَماليل يخشى غِيلَها المُتعسِّفُ )
( وإني إذا خَامَ الجبانُ عن الرّدى ... فلِي حيث يُخشى أن يُجاوزَ مخسَف )
( وإن امرأً أجار سعدَ بنَ مالكٍ ... عليّ وأثوابِ الأُقَيْصِرِ يَعْنُف )
وقال الشنفرى أيضا
( ومُستبسلٍ ضافي القميصِ ضَغَتُّه ... بأَزرقَ لا نِكسٍ ولا مُتَعَوِّج )
( عليه نُسارِيٌ على خُوطِ نَبْعةٍ ... وفُوقٌ كعرقوب القطاة مُحَدْرَج )
( وقاربتُ من كفَّيَّ ثم فَرَجتها ... بنزع إذا ما استُكرِه النزعُ مُخْلِج )
( فصاحت بكفي صيحةً ثم رجَّعَت ... أنينَ الأمِيم ذي الجراح المُشجَّج )
وقد روى فناحت بكفي نوحة

رواية ثالثة في مقتله
وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفرى انه سبت بنو سلامان بن مفرج

ابن مالك بن هوازن بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد الشنفرى وهو أحد بني ربيعة بن الحجر بن عمران بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد وهو غلام فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنه له فلما خلا بها الشنفرى أهوى ليقبلها فصكت وجهه ثم سعت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليه ليقتله فوجده وهو يقول
( أَلاَ هل أَتى فِتيانَ قومي جَماعةً ... بما لطمت كفُّ الفتاة هجينها )
( ولو علمتْ تلك الفتاةُ مَناسبي ... ونسبتها ظلَّت تقَاصَرُ دونها )
( أليس أبي خيرَ الأَواسِ وغيرِها ... وأُميّ ابنةُ الخَيْرِينَ لو تَعلمينها )
( إذا ما أَرُومُ الودَّ بيني وبينها ... يؤمُّ بياضُ الوجه منّي يمينَها )
قال فلما سمع قوله سأله ممن هو فقال أنا الشنفرى أخو بني الحارث بن ربيعة وكان من أقبح الناس وجها فقال له لولا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي
فقال علي إن قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم فأنكحه ابنته وخلى سبيله فسار بها إلى قومه فشدت بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه فلما بلغه ذلك سكت ولم يظهر جزعا عليه وطفق يصنع النبل ويجعل أفواقها من القرون والعظام ثم إن امرأته بنت السلاماني قالت له ذات يوم لقد خست بميثاق أبي عليك فقال
( كأَن قَدْ فلا يغْرُرْكِ مني تمَكُّثِي ... سلكتُ طريقا بين يُرْبَغ فالسَّردِ )

( وإنِّي زعيمٌ أن تثور عَجاَجتي ... على ذي كِساءٍ من سَلامان أو بُرد )
( همُ عرفوني ناشئاً ذا مَخيِلة ... أُمشِّي خلال الدار كالفرس الوَرْدِ )
( كأَني إذا لم يُمسِ في الحي مالك ... بتيهاء لا أُهدَي السَّبِيلَ ولا أَهدِي )
قال ثم غزاهم فجعل يقتلهم ويعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم حتى قتل منهم تسعة وتسعين رجلا ثم غزاهم غزوة فنذروا به فخرج هاربا وخرجوا في إثره فمر بامرأة منهم يلتمس الماء فعرفته فأطعمته أقطا ليزيد عطشا ثم استسقى فسقته رائبا ثم غيبت عنه الماء ثم خرج من عندها وجاءها القوم فأخبرتهم خبره ووصفت صفته وصفة نبله فعرفوه فرصدوه على ركي لهم وهو ركي ليس لهم ماء غيره فلما جن عليه الليل أقبل إلى الماء فلما دنا منه قال إني أراكم وليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثم فأصاخ القوم وسكتوا
ورأى سوادا وقد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه لئلا تكون حركة قال فرمى لما أبصر السواد فأصاب رجلا فقتله فلم يتحرك أحد فلما رأى ذلك أمن في نفسه وأقبل إلى الركي فوضع سلاحه ثم انحدر فيه فلم يرعه إلا بهم على رأسه قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج
فضرب بعضهم شماله فسقطت فأخذها فرمى بها كبد الرجل فخر عنده في القليب فوطئ على رقبته فدقها
وقال في قطع شماله

( لا تبعَدِي إِمَّا ذهبتِ شامهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرتْ حَمَامَهُ )
( وربّ قِرْنٍ فَصَلَتْ عظامَهْ ... وربَّ حيٍّ فرَّقت سَوامَهْ )
قال ثم خرج إليهم فقتلوه وصلبوه فلبث عاما أو عامين مصلوبا وعليه من نذره رجل قال فجاء رجل منهم كان غائبا فمر به وقد سقط فركض رأسه برجله فدخل فيها عظم من رأسه فعلت عليه فمات منها فكان ذلك الرجل هو تمام المائة

صوت
( ألا طرقتْ في الدّجى زينبُ ... وأحببْ بزينبَ إذ تَطْرُقُ )
( عجبتُ لزينبَ أَنَّى سَرَت ... وزينبُ من ظلّها تَفرَق )
عروضه من المتقارب الشعر لابن رهيمة والغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر عن الهشامي وأبي أيوب المدني

أخبار الخليل ونسبه
هو الخليل بن عمرو مكي مولى بني عامر بن لؤي مقل لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني القطراني المغني عن محمد بن حسين قال
عمل في تأديب الصبيان وتعليم الجواري الغناء
كان خليل المعلم يلقب خليلان وكان يؤدب الصبيان ويلقنهم القرآن والخط ويعلم الجواري الغناء في موضع واحد فحدثني من حضره قال كنت يوما عنده وهو يردد على صبي يقرأ بين يديه ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ) ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردد عليها
( اعتادَ هذا القلبَ بلبالُهُ ... أن قُرِّبتْ للبَيْنِ أَجمالُهُ )
فضحكت ضحكا مفرطا لما فعله فالتفت الي فقال ويلك مالك فقلت أتنكر ضحكي مما تفعل والله ما سبقك إلى هذا أحد ثم قلت أنظر أي

شيء أخذت على الصبي من القرآن وأي شيء هوذا على الصبية والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله فقال أرجو ألا أكون كذلك إن شاء الله
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال
كان خليلان المعلم أحسن الناس غناء وأفتاهم وأفصحهم فدخل يوما على عقبة بن سلم الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده فأكل معه ثم شرب وحانت منة التفاتة فرأى عودا معلقا فعلم أنه عرض له به فدعا به وأخذه فغناهم
( يا بنةَ الأزديّ قلبي كَئِيبُ ... مُستَهام عندها ما يُنيِبُ )
وحانت منه التفاتة فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا وقد ظن أنه عرض به ففطن لما أراد فغنى
( ألا هّزِئت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها )
فسري عن عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه

نسبة هذين الصوتين
( يا بنةَ الأَزدْيِّ قلبي كئيبُ ... مستهام عندها ما يُنِيبُ )
( ولقد لاموا فقلتُ دعوني ... إنّ مَنْ تَنهوْنَ عنه حَبِيبُ )
( إنما أبلَى عِظامِي وجٍسْمِي ... حُبُّها والحُبُّ شيءٌ عَجِيبُ )
( أيها العائِبُ عندي هواهاَ ... أنتَ تَفدي مَن أراك تَعِيبُ )

عروضه من المديد والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عنه وفيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق إلى أحد ووجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين وقد ذكر يونس أن فيه لحنين ولمالك كلاهما ولعل هذا أحدهما وذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج وذكر الهشامي وعلي بن يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا في مجرى البنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمالك فيه ثقيلا أول وخفيفه ولمعبد خفيف ثقيل آخر

صوت
( ألا هزِئت بنا قُرَشِيَّةٌ ... يهتزُّ موكبُها )
( رأت بي شيْبَةً في الرأس ... منّي ما أُغَيّبُها )
( فقالت لي ابنُ قَيْسٍ ذا ... وبَعضُ الشيب يُعجِبها )
( لها بعلٌ خَبِيثُ النَّفْس ... يحصُرُها ويحْجُبُها )
( يراني هكذا أمشي ... فيُوعِدُها ويَضْرِبُها )
عروضه من الوافر الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لمعبد خفيف

ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم والهشامي
صوت
( هل ما علمتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبلُها إذ نأتك اليومَ مَصرومُ )
( أم هل كئيبٌ بكى لم يقضِ عبرتَهُ ... إثْر الأَحِبَّة يوم البين مَشْكومُ )
( يحملن أترُجّةً نَضْخُ العبير بها ... كأنَّ تَطيابَها في الأنف مَشْموم )
( كأنّ فَأْرةَ مسكٍ في مفارقها ... للباسط المُتعاطى وَهْو مزكوم )
( كأن إبريقَهم ظبيٌ على شرف ... مُفَدَّمٌ بسَبَا الكتّان ملثُوم )
( قد أشْهدُ الشَّربَ فيهم مِزْهرٌ صَدِحٌ ... والقومُ تصرعهم صهباءُ خُرطومُ )
الشعر لعلقمة بن عبدة والغناء لابن سريج وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق

والآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في الخامس والسادس من الأبيات وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول المتوالية لمالك خفيف ثقيل بالوسطى وفيها ثقيل أول نسبه الهشامي إلى الغريض وذكر حبش أن لحن الغريض ثاني ثقيل بالبنصر وذكر حبش أن في الخامس والسادس خفيف رمل بالبنصر لابن سريج

أخبار علقمة ونسبه
هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار
وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل وكانا لدة عصر واحد على بعض الملوك وكان زيد مناة حسودا شرها طعانا وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا فخاف زيد مناة أن يحظى من الملك بفائدة ويقل معها حظه فقال له يا بكر لا تلق الملك بثياب سفرك ولكن تأهب للقائه وادخل عليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة إلى الملك فسأله عن بكر فقال ذلك مشغول بمغازلة النساء والتصدي لهن وقد حدث نفسه بالتعرض لبنت الملك فغاظه ذلك وأمسك عنه ونمى الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر إليه مما قاله فيه عذرا قبله فلما كان من غد اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك فقال لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها ماء فذهب بها فكان لا يعلم من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له ما تحب أن أفعل بك يا بكر قال تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر بعينه

العوراء ففقئت وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا فخرج بكر وهو أعور بحاله وخرج زيد مناة وهو أعمى

سبب تلقيبه بالفحل
واخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة
ويقال لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرئ القيس لما حكمت له على امرئ القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسه فطلقها فخالفه عليها وما زالت العرب تسميه بذلك وقال الفرزدق
( والفحلُ عَلمقةُ الذي كانت له ... حُلَلُ الملوك كلامُه يتنحل )
علقمة يحكم قريشا في شعره
أخبرني عمي قال حدثني النضر بن عمرو قال حدثني أبو السوار عن أبي عبيد الله مولى إسحاق بن عيسى عن حماد الراوية قال
كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوه منها كان مقبولا وما ردوه منها كان مردودا فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها
( هل ما علمتَ وما استُودعْتَ مكتوم ... أم حَبْلُها أَنْ نأتكَ اليومَ مصرومُ )

فقالوا هذه سمط الدهر ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم
( طحابك قلب في الحِسَان طروبُ ... بُعَيْد الشَّباب عَصْرَ حان مَشِيبُ )
فقالوا هاتان سمطا الدهر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول
سرق ذو الرمة قوله
( يطفو إذا ما تلقَّته الجراثيم ... )
من قول العجاج
( إذا تلقَّتْه العقاقيلُ طفا ... )
وسرقه العجاج من علقمة بن عبدة في قوله
( يطفو إذا ما تلقته العقاقِيل ... )

هو امرؤ القيس يتحاكمان إلى زوجته
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عبيدة قال
( كانت تحت امرئ القيس امرأة من طيء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به علقمة الفحل بن عبدة التميمي فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحاكما إليها فأنشد امرؤ القيس قوله
( خليليَّ مُرّا بي على أُمّ جُنْدُبِ )
حتى مر بقوله
( فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ ... وللزَّجر منه وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب )
ويروى أهوج منعب
فأنشدها علقمة قوله
( ذَهَبْتَ من الهِجران في غير مَذْهَب ... )
حتى انتهى الى قوله
( فأدركه حتى ثنى من عِنانه ... يمُرُّ كغيث رائحٍ مُتَحَلَّب )
فقالت له علقمة أشعر منك قال وكيف قالت لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك
وأنه جاء هذا الصيد ثم أدركه ثانيا من عنانه فغضب امرؤ القيس وقال ليس كما قلت ولكنك هويته فطلقها فتزوجها علقمة بعد ذلك وبهذا لقب علقمة الفحل

ربيعة بن حذار يصنف الشعراء
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال
تحاكم علقمة بن عبدة التميمي
والزبرقان بن بدر السعدي والمخبل وعمرو بن الأهتم إلى ربيعة بن حذار الأسدي فقال أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل ولا ترك نيئا فينتفع به وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر فكلما أعدته فيه نقص وأما أنت يا مخبل فإنك قصرت عن الجاهلية ولم تدرك الإسلام وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال

مر رجل من مزينة على باب رجل من الأنصار وكان يتهم بامرأته فلما حاذى بابه تنفس ثم تمثل
( هل ما علمتَ وما اسْتُوْدِعْتَ مكتومُ ... أم حبلُها إذ نأتك اليوم مصرومُ )
قال فتعلق به الرجل فرفعه إلى عمر رضوان الله عليه فاستعداه عليه فقال له المتمثل وما علي في أن أنشدت بيت شعر فقال له عمر رضي الله عنه مالك لم تنشده قبل أن تبلغ بابه ولكنك عرضت به مع ما تعلم من القالة فيه ثم أمر به فضرب عشرين سوطا

صوت
( فو الله لا أنسَى قتِيلاً رُزِيتُه ... بجانب قَوسَى ما حييتُ على الأرض )
( بلى إنها تَعْفُو الكلُومُ وإنما ... نُوكَّلُ بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضِي )
( ولم أدرِ مَن أَلْقَى عليه رداءَه ... ولكنه قد بُزَّ عن ماَجدٍ محضِ )
الشعر لأبي خراش الهذلي والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية عمرو بن بانة وذكر يحيى بن المكي أنه لابن مسجح وذكر الهشامي أنه ليحيى المكي لحنه ابن مسجح وفي أخبار معبد إن له فيه لحنا

ذكر أبي خراش الهذلي وأخباره
نسبه وموته
أبو خراش اسمه خويلد بن مرة أحد بني قرد واسم قرد عمرو بن معاوية بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
شاعر فحل من شعراء هذيل المذكورين الفصحاء مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم وعاش بعد النبي مدة ومات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهشته أفعى فمات وكان ممن يعدو فيسبق الخيل في غارات قومه وحروبهم
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي والحسن بن علي قالوا
حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني أبو بركة الأشجعي من أنفسهم قال
خرج أبو خراش الهذلي من أرض هذيل يريد مكة فقال لزوجته أم خراش ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة وإنك من أفك النساء وإن بني الديل يطلبونني بترات فإياك وأن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر منها قالت معاذ الله أن أذكرك لأهل مكة وأنا أعرف السبب

قال فخرج بأم خراش وكمن لحاجته وخرجت إلى السوق لتشتري عطرا أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن فجلست إلى عطار فمر بها فتيان من بني الديل فقال أحدهما لصاحبه أم خراش ورب الكعبة وإنها لمن أفك النساء وإن كان أبو خراش معها فستدلنا عليه قال فوقفا عليها فسلما وأحفيا المسألة والسلام فقالت من أنتما بأبي أنتما فقالا رجلان من أهلك من هذيل قالت بأبي أنتما فإن أبا خراش معي ولا تذكراه لأحد ونحن رائحون العشية فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم يقال له مخلد وكان من أجود الرجال عدوا فمكنوا في عقبة على طريقه فلما رآهم قد لاقوه في عين الشمس قال لها قتلتني ورب الكعبة لمن ذكرتني فقالت والله ما ذكرتك لأحد إلا لفتيين من هذيل فقال لها والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل وقد جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا أستوحش فأفوتهم فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا والنجاء النجاء
قال فانطلقت وهي على قعود عقيلي يسابق الريح فلما دنا منهم وقد ثلثموا ووضعوا تمرا على طريقه على كساء فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا وجازت بهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم ووضعت العصا على قعودها وتواثبوا إليه ووثب يعدو
قال فزاحمه على المحجة التي يسلك فيها على العقبة ظبي فسبقه أبو خراش وتصايح القوم يا مخلد أخذا أخذا
قال ففات الأخذ
فقالوا ضربا ضربا فسبق الضرب فصاحوا رميا

رميا فسبق الرمي وسبقت أم خراش إلى الحي فنادت ألا إن أبا خراش قد قتل فقام أهل الحي إليها وقام أبوه وقال ويحك ما كانت قصته فقالت إن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة قال فما رأيت أو ما سمعت قالت سمعتهم يقولون يا مخلد أخذا أخذا قال ثم سمعت ماذا قالت ثم سمعتهم يقولون ضربا ضربا قال ثم سمعت ماذا قالت سمعتهم يقولون رميا رميا قال فإن كنت سمعت رميا رميا فقد أفلت وهو منا قريب ثم صاح يا أبا خراش فقال أبو خراش يا لبيك وإذا هو قد وافاهم على أثرها
وقال أبو خراش في ذلك

شعره في نجاته من خصومه
( رَفَوْنِي وقالوا يا خُويْلدُ لم تُرَعْ ... فقلت وأنكرتُ الوجوهَ هُم هُم )
رفوني بالفاء سكنوني وقالوا لا بأس عليك
( فغارَرْتُ شيئَاً والدّريسُ كأنما ... يزعزعُه وعْكٌ من المُومِ مُرْدِمُ )
غاررت تلبثت
والدريس الخلق من الثياب ومثله الجرد والسحق والحشيف
ومردم لازم
( تذكرتُ ما أينَ المفرُّ وإنني ... بحبل الذي يُنْجِي من الموت مُعْصِم )
( فواللَّهِ ما ربْدَاءُ أو عِلْجُ عَانَةٍ ... أقبٌّ وما إنْ تَيْسُ رَمْلٍ مُصَمِّم )

( بأسرعَ منّي إذ عرفت عَدِيَّهُم ... كأني لأَولاهُمْ من القُرْبِ تَوْأَم )
( وأجودَ مِنِّي حينَ وافيْتُ ساعِياً ... وأخطأني خَلْف الثَّنِيَّة اسهُم )
( أُوَائِلُ بالشَّدِّ الذَّلِيقِ وحَثَّنِي ... لدى المتن مشبوحَ الذراعين خَلْجَمُ )
( تَذَكَّرَ ذَحْلاً عندنا وهْو فاتكٌ ... من القوم يَعرُوه اجتراءٌ ومَأْثم )
( تقول ابنتي لما رأتني عشيَّةً ... سلمتَ وما إن كِدتَ بالأمس تَسلمُ )
( فقلتُ وقد جاوزت صَارَى عشيَّةً ... أجاوزتُ أولَى القوم أم أنا أحلُم )
( فلولا دِرَاكُ الشدّ آضتْ حليلَتي ... تخيَّر في خُطَّابِها وَهْيَ أيِّمُ )
( فستخَطُ أو ترضَى مكانِي خليفةً ... وكادَ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَم )

عدا بين فرسين فسبقهما
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين الكندي خطيب المسجد الجامع بالقادسية قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال حدثني رجل من هذيل قال
دخل أبو خراش الهذلي مكة وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة فقال للوليد ما تجعل لي إن سبقتهما قال إن فعلت فهما لك فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما

قال الأصمعي إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو راميا فلا خير فيه
وأخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري وأخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم وأخبارهم فذكره أبو سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن أبي عمرو
واخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي وقد ذكرت ما رواه في أشعار هذيل وأخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه قال السكري فيما رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال
نزل أبو خراش الهذلي دبية السلمي وكان صاحب العزى التي في غطفان وكان يسدنها وهي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول الله إليها فهدمها وكسرها وقتل دبية السلمي قال فلما نزل عليه أبو خراش أحسن ضيافته
ورأى في رجله نعلين قد أخلقتا فأعطاه نعلين من حذاء السبت فقال أبو خراش يمدحه
( حذَانِيَ بعد ما خَذِمَتْ نِعالي ... دُبَيَّةُ إِنَّه نِعمَ الخليلُ )
( مُقابَلَتين من صَلوَيْ مُشِبٍّ ... من الثيران وصلُهما جميلُ )

( بمثلهما يروح المرءُ لَهواً ... ويقْضِي الهمَّ ذو الأربِ الرّجيل )
( فنعم مُعرَّسُ الأضياف تُذْحِي ... رحالَهُم شآميةُ بَلِيلُ )
( يُقاتل جوعَهم بمكلَّلاَتٍ ... من الفُرْنِّي يَرْعَبُها الجميل )
قال أبو عمرو الجميل الإهالة ولا يقال لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما وقال أبو عمرو ولما بعث رسول الله خالد بن الوليد فهدم عزى غطفان وكانت ببطن نخلة نصبها ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة وقتل دبية فقال أبو خراش الهذلي يرثيه
( مَا لِدُبَيَّةَ منذُ اليوم لم أَرَهُ ... وسْطَ الشُّرُوب ولم يُلْمِمْ ولم يطفِ )
( لو كان حياًّ لغاداهم بمُترعَةٍ ... فيها الرّواوِيق من شِيزَى بني الهَطِف )
بنو الهطف قوم من بني أسد يعملون الجفان
( كَابِي الرماد عظيمُ القِدْرِ جَفْنَتُه ... حين الشتاء كحَوْضِ المُنْهَلِ اللَّقِف )
المنهل الذي إبله عطاش
واللقف الذي يضرب الماء أسفله فيتساقط وهو ملآن
( أمسى سَقامٌ خَلاءً لا أنيسًَ به ... إلا السّباعُ ومَرُّ الريح بالغَرَفِ )

يرثي زهير بن العجوة
وقال الأصمعي وأبو عمرو في روايتهما جميعا
أخذ أصحاب رسول الله في يوم حنين أسارى وكان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن الحارث فمر به جميل بن معمر بن حبيب بن وهب نب حذافة بن جمح وهو مربوط في الأسرى وكانت بينهما إحنة في الجاهلية فضرب عنقه فقال أبو خراش يرثيه
( فَجَّع أصحابي جميلُ بن معْمَر ... بذي فَجَرٍ تأويِ إليه الأَراملُ )
( طويلُ نِجادِ السيف ليس بحيْدَرٍ ... إذا قام واستنَّت عليه الحمائِلُ )
( إلى بَيْتِهِ يأوي الغريبُ إذا شتا ... ومُهتَلِكٌ بالي الدّريسَيْن عائِلُ )
( تروَّحَ مقرورا وراحت عشيّة ... لها حَدَبٌ تحتثُّه فيُوائِلُ )
( تكاد يداه تُسْلِمَان رداءَه ... من القُرِّ لمّا استقبلْته الشمائل )
( فما بالُ أهلِ الدّار لم يتصدَّعوا ... وقد خفّ منها اللّوذعيٌّ الحُلاَحلُ )
( فأُقسِمُ لو لاقيتَه غيرَ موثَقٍ ... لآبك بالجِزْع الضّباعُ النّواهلُ )
( لظلّ جميلٌ أَسوأَ القوم تَلَّةً ... ولكنَّ ظَهْرَ القِرْنِ للمَرْء شاغلُ )
( فليس كعهدِ الدار يا أمَّ مالكٍ ... ولكنْ أحاطت بالرقاب السلاسل )

( وعاد الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقِّ شيئا فاستراح العواذلُ )
( ولم أَنْسَ أياماً لا وليالياً ... بِحَلْيَةَ إذ نلقَى بها ما نحاول )
وقال أيضا يرثيه
( أَفِي كلِّ ممَسى ليلةٍ أنا قائل ... من الدهر لا يبعَدْ قتيلُ جميلِ )
( فما كنتُ أخشى أن تصيبَ دماءَنا ... قريشٌ ولما يُقتلوا بقتيل )
( فأبرحُ ما أُمِّرْتُمُ وعَمَرتُمُ ... مدَى الدهر حتى تُقْتَلُوا بِغلِيلِ )

شعره في إنقاذ أسرى
وقال أبو عمرو في خبره خاصة أقبل أبو خراش وأخوه عروة وصهيب القردي في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديون قوما من بني ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن أو من بني حبيب أحد بني نصر فعدا الهذليون إليهم يطلبونهم وطمعوا فيهم حتى خالطوهم وأسروهم جميعا وإذا هم قوم من بني ليث بن بكر فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي فهم بقتلهما وعرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا من أصحابه وأطلقهم فقال أبو خراش في ذلك يمن على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن ليث فعله بهما
( عدونَا عدوةَ لا شكَّ فيها ... وخِلناهمْ ذُؤيبةَ أو حَبيبا )
( فنُغرِي الثائرين بهم وقلنا ... شفاءُ النفس أنْ بَعَثوا الحروبا )

( مَنَعْنا من عدِيِّ بني حُنَيفٍ ... صِحابَ مضرّسٍ وابني شَعوبا )
( فأَثْنُوا يا بني شِجْعٍ عَلَيْنَا ... وحقُّ ابني شَعُوب أنْ يُثيِبا )
( وسائلْ سَبرةَ الشِّجْعِيِّ عنا ... غداة نخالهم نَجْواً جَنيبا )
( بأن السابق القردي ألقى ... عليه الثوب إذ ولى دبيبا )
( ولولا ذاكَ أرهقَه صُهيبٌ ... حسامَ الحَدِّ مطروراً خشيبا )

شعره في زهده
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال أقفر أبو خراش الهذلي من الزاد أياما ثم مر بامرأة من هذيل جزلة شريفة فأمرت له بشاة فذبحت وشويت فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر فضرب بيده على بطنه وقال إنك لتقرقر لرائحة الطعام والله لاطعمت منه شيئا ثم قال يا ربة البيت هل عندك شيء من صبر أو مر قالت تصنع به ماذا قال أريده فأتته منه بشيء فاقتمحه ثم أهوى إلى بعيره فركبه فناشدته المرأة فأبى فقالت له يا هذا هل رأيت بأسا أو أنكرت شيئا قال لا والله ثم مضى وأنشأ يقول
( وإني لاْثوي الجوعَ حتى يَملَّني ... فأحيا ولم تدنَس ثيابي ولا جِرمي )
( وأصْطَبحُ الماءَ القَراحَ فأكتفي ... إذا الزادُ أضحَى للمزلَّجِ ذَا طَعْم )
( أردُّ شجاعَ البطن قد تَعلمينه ... وأوثر غيرِي من عِيالِك بالطُّعْم )

( مخافَة أن أحيا برَغمٍ وذلّةٍ ... فلَلْمَوتُ خيرٌ من حياةٍ على رَغُم )

يفتدي أخاه عروة بن مرة
وأخبرني عمي بن هارون بن محمد الزيات عن أحمد بن الحارث عن المدائني بنحو مما رواه الأصمعي
وقال أبو عمرو
أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبي خراش وقال غيره بل بنو كنانة أسرته فلما دخلت الأشهر الحرم مضى أبو خراش إليهم ومعه ابنه خراش فنزل بسيد من ساداتهم ولم يعرفه نفسه ولكنه استضافه فأنزله وأحسن قراه فلما تحرم به انتسب له وأخبره خبر أخيه وسأله معاونته حتى يشتريه منهم فوعده بذلك وغدا على القوم مع ذلك الرجل فسألهم في الأسير أن يهبوه له فما فعلوا فقال لهم فبيعوينه فقالوا أما هذا فنعم فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم فدفع أبو خراش إليهم ابنه خراشا رهينة وأطلق أخاه عروة ومضيا حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه وعاد به إلى القوم حتى أعطاهم إياه وأخذ ابنه
فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ جاءه عبد له فقال إن أخاك عروة جاءني وأخذ شاة من غنمك فذبحها ولطمني لما منعته منها فقال له دعه فلما كان بعد أيام عاد فقال له قد أخذ أخرى فذبحها فقال دعه فلما أمسى قال له إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه فلما انتشى جاء إلينا وأخذ ناقة من إبلك لينحرها لهم فعاجله فوثب أبو خراش إليه فوجده قد أخذ الناقة لينحرها فطردها أبو خراش فوثب أخوه عروة إليه فلطم وجهه وأخذ الناقة فعقرها وانصرف أبو خراش فلما كان من غد لامه قومه وقالوا له بئست لعمر الله المكافأة كانت منك لأخيك رهن ابنه فيك وفداك بماله ففعلت به ما فعلت فجاء عروة يعتذر إليه فقال أبو خراش

( لَعلَّكَ نافعي يا عُروَ يوماً ... إذا جاورْتُ مَنْ تحتَ القبور )
( أخذتَ خُفَارَتِي ولطمتَ عَيْني ... وكيف تُثِيبُ بالمنِّ الكبيرِ )
( ويومٍ قد صبْرتُ عليكَ نفسي ... لدى الأشْهَاد مُرْتَدِيَ الحرورِ )
( إذا ما كان كَسُّ القوم رَوْقاً ... وجالت مقلتا الرجل البصير )
( بما يممتُه وتركْتُ بِكْرى ... وما أُطْعِمْتَ من لحم الجَزُور )
قال معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي أولهم

كان بنو مرة عشرة
وقال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو عمرو وابن الأعرابي
كان بنو مرة عشرة أبو خراش وأبو جندب وعروة والأبح والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وكانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا يدركون عدوا فأما الأسود بن مرة فإنه كان على ماء من داءة وهو غلام شاب فوردت عليه إبل رئاب بن ناضرة بن المؤمل من بني لحيان ورئاب شيخ كبير فرمى الأسود ضرع ناقة من الإبل فعقرها فغضب رئاب فضربه بالسيف فقتله وكان أشدهم أبو جندب فعرف خبر أخيه فغضب غضبا شديدا وأسف فاجتمعت رجال هذيل إليه يكلمونه وقالوا خذ عقل أخيك واستبق ابن عمك فلم يزالوا به حتى قال نعم اجمعوا العقل فجاؤوه به في مرة واحدة فلما أراحوه عليه صمت فطال صمته فقالوا

له أرحنا اقبضه منا فقال إني أريد أن أعتمر فاحبسوه حتى أرجع فإن هلكت فلأم ما أنتم هذه لغة هذيل يقولون إم بالكسر ولا يستعملون الضم وإن عشت فسوف ترون أمري وولى ذاهبا نحو الحرم فدعا عليه رجال من هذيل وقالوا اللهم لا ترده فخرج فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه فخرج صادرا حتى أخذته الذبحة في جانب الحرم فمات قبل أن يرجع فكان ذلك خبره

خبر أخيه زهير
قالوا واما زهير بن مرة فخرج معتمرا قد جعل على جسده من لحاء الحرم حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا هو يسقي إبلا له إذ ورد عليه قوم من ثمالة فقتلوه فله يقول أبو خراش وقد انبعث يغزو ثمالة ويغير عليهم حتى قتل منهم بأخيه أهل دارين أي حلتين من ثمالة
( خذوا ذلكم بالصّلْحِ إني رأيتكُمُ ... قتلتم زُهيرا وهو مهْدٍ ومُهْمِل )
مهد أي أهدى هديا للكعبة
ومهمل قد أهمل إبله في مراعيها
( قتلتم فتى لا يفجُرُ الله عامداً ... ولا يجتويه جارُه عامَ يُمْحِل )
ولهم يقول أبو خراش
( إنّي امرؤٌ أَسْاَلُ كيما أعلَما ... مَنْ شَرُّ رهْطٍ يَشْهَدُون الموسِمَا )

( وجدتُهم ثُمالةَ بنَ أسلمَا )
وكان أبو خراش إذا لقيهم في حروبه أوقع بهم ويقول
( إليك أمَّ ذِبَّان ... ما ذاكِ من حلْبِ الضَّانْ )
( لكن مَصاع الفِتيانْ ... بكل لِيْنٍ حَرّان )

خبر أخيه عروة
قال وأما عروة بن مرة وخراش بن أبي خراش فأخذهما بطنان من ثمالة يقال لهما بنو رزام وبنو بلال وكانوا متجاورين فخرج عروة بن مرة وابن أبي خراش أخيه مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء فظفر بهما الثماليون فأما بنو رزام فنهوا عن قتلهما وأبت بنو بلال إلا قتلهما حتى كاد يكون بينهم شر فألقى رجل من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ثم قال له انج وانحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا أسلموه إليه فقالوا أين خراش فقال أفلت مني فذهب فسعى القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة ويذكر خلاص ابنه
( حمدتُ إلَهِي بعد عُروةَ إذ نجا ... خراشٌ وبعضُ الشر أهونُ من بعض )
( فواللهِ لا أنسىَ قتيلاً رُزِيتَه ... بجانب قَوْسَى ما حييتُ على الأرض )
( بلى إنها تَعفو الكلومُ وإنما ... نُوكلُّ بالأدْنى وإن جلَّ ما يَمضِي )

( ولم أدر مَن أَلْقَى عليه رداءَهُ ... سوى أنه قد سُلَّ عن ماجِد محضِ )
( ولم يك مثلوجَ الفؤاد مهبَّلاً ... أضاع الشبابَ في الرّبِيلَةِ والخفض )
( ولكنهُ قد نازعته مَجَاوعٌ ... على أنه ذو مرة صادق النهض )
قال ثم إن أبا خراش وأخاه عروة استنفرا حيا من هذيل يقال لهم بنو زليفة بن صبيح ليغزوا ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى وكانت به حمى الربع فجعل عروة يقول
( أصبحتُ موروداً فقرّبُوني ... إلى سواد الحيِّ يَدْفِنوني )
( إنّ زهيراً وسطَهم يَدعوني ... رَبَّ المخاض والِلَّقاحِ الجُون )
فلبثوا إلى أن سكنت الحمى ثم بيتوا ثمالة فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال فقتلوا من وجدوا من الرجال وساقوا النساء والذراري والأموال وجاء الصائح إلى ثمالة عشاء فلحقوهم وانهزم أبو خراش واصحابه وانقطعت بنوزليفة فنظر الأكنع الثمالي وكان مقطوع الأصبع إلى عروة فقال يا قوم ذلك والله عروة وأنا والله رام بنفسي عليه حتى يموت أحدنا وخرج يمعج نحو عروة فصلح عروة بأبي خراش أخيه أي

أبا خراش هذا والله الأكنع وهو قاتلي فقال أبو خراش أمضه وقعد له على طريقه ومر به الأكنع مصمما على عروة وهو لا يعلم بموضع أبي خراش فوثب عليه أبو خراش فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضربة سحره وانهزمت ثمالة ونجا أبو خراش وعروة
وقال أبو خراش يرثي أخاه ومن قتلته ثمالة وكنانة من أهله وكان الأصمعي يفضلها
( فَقَدْتُ بني لُبْنَى فلما فقدتُهم ... صبَرتُ فلم أقطعُ عليهم أبَاجِلي )
الأبجل عرق في الرجل
( رماحٌ من الخطِّيِّ زُرْقٌ نِصالُها ... حِدادٌ أعاليها شِدادُ الأسافل )
( فلَهفِي على عمرِو بن مُرَّة لهفةً ... ولهْفِي على ميْتٍ بقَوسَى المعاقل )
( حِسانُ الوجوه طيِّبٌ حُجُزِاتُهُم ... كريمٌ نَثاهم غيرُ لُفِّ مَعازلِ )
( قتلتَ قتيلاً لا يُحاِلِفُ غَدْرَةً ... ولا سُبَّةً لا زِلتَ أسفلَ سافل )
( وقد أَمِنُوني واطمأنّتْ نفوسُهم ... ولم يعلموا كلّ الذي هو داخلي )
( فمن كان يرجو الصلْحَ مِنِّي فإنه ... كأحمرِ عاد أو كُلَيْبِ بن وائل )
( أُصيبتْ هُذيلٌ بابن لُبْنَى وجُدّعت ... أنوفُهُمُ باللَّوْذعيِّ الحُلاَحِل )

( رأيتُ بني العَلاَّتِ لما تضافروا ... يَحوزون سَهْمي دونَهمُ بالشَّمائل )

أخبار سائر اخوته
قالوا وأما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل وأما الأبح فكان شاعرا فأمسى بدار بعرعر من ضيم فذكر لسارية بن زنيم العبدي أحد بني عبد بن عدي ابن الديل فخرج بقوم من عشيرته يريده ومن معه فوجدوهم قد ظعنوا
وكان بين بني عبد بن عدي بن الديل وبينهم حرب فقال الأبح في ذلك
( لعمرُكَ سارِيَ بْنَ أبيِ زُنَيْمٍ ... لأَنْتَ بعَرْعَرَ الثأرُ المنيمُ )
( تركتَ بني معاويةَ بنِ صخرٍ ... وأنت بمربَعٍ وهُمُ بضِيمِ )
( تُساقيهمْ على رَصَفٍ وظُرٍّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأَديمُ )
رصف وظر ماءان ومربع وضيم موضعان
( فلم نتركهُمُ قصداً ولكنْ ... فرِقْتَ من المصالِت كالنّجوم )
( رأيتَهُم فوارسَ غيرَ عُزْلٍ ... إذا شَرِقَ المُقاتِلُ بالكُلومِ )
فأجابه سارية قال

( لعِلك يا أَبَحُّ حسِبْتَ أنّي ... قتلتُ الأسودَ الحسَن الكريمَا )
( أخذتُمْ عقلَه وتركتُمُوه ... يسوق الظُّمْيَ وسْطَ بني تميمَا )
عيرهم بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم وأنهم لم يدركوا بثأره وبنو تميم من هذيل
قالوا وأما جنادة وسفيان فماتا وقتل عمرو ولم يسم قاتله
قالوا وأمهم جميعا لبنى إلا سفيان بن مرة فإن أمه أم عمرو القردية وكان أيسر القوم وأكثرهم مالا
وقال أبو عمرو وغزا أبو خراش فهما فأصاب منهم عجوزا وأتى بها منزل قومه فدفعها إلى شيخ منهم وقال احتفظ بها حتى آتيك وانطلق لحاجته فأدخلته بيتا صغيرا وأغلقت عليه وانطلقت فجاء أبو خراش وقد ذهبت فقال
( سَدَّتْ عليه دَوْلَجاً ثم يَمَّمَت ... بنيِ فالج بالليث أهلَ الخزائم )
الدولج بيت صغير يكون للبهم والليث ماء لهم والخزائم البقر واحدتها خزومة
( وقالت له دَنِّخْ مكانَكَ إنني ... سألقاك إن وافيتَ أهلَ المواسم )
يقال دنخ الرجل ودمخ إذا أكب على وجهه ويديه
وقال أبو عمرو دخلت أميمة امرأة عروة بن مرة على أبي خراش وهو يلاعب ابنه فقالت له يا أبا خراش تناسيت عروة وتركت الطلب بثأره ولهوت مع ابنك أما والله لو كنت المقتول ما غفل عنك ولطلب قاتلك حتى يقتله فبكى أبو خراش وأنشأ يقول

( لعمري لقد راعتْ أُميمةَ طلعَتِي ... وإنّ ثَوَائي عندها لقليلُ )
( وقالت : أُراه بعد عُرْوة لاهِياً ... وذلك رُزْءٌ لو علمْت جليلُ )
( فلا تحسبي أني تناسيْتُ فقْدَهُ ... ولكنَّ صبرِي يا أُميْمَ جميلُ )
( ألم تعلمِي أنْ قدْ تفرّق قبلَنَا ... نديما صفاءٍ مالكٌ وعَقيلُ )
( أبى الصبرَ أنّى لا يزال يَهِيجُنِي ... مبيتٌ لنا فيما خلا ومَقيلُ )
( وأني إذا ما الصَبحُ آنَسْتُ ضوءَه ... يعاودني قُطْعٌ عليّ ثقيلُ )
قال أبو عمرو فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة ابن عدي بن الديل حينا من الدهر ثم إنهم هموا بأن يغدروا به وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة وإذا به كلوم فقال له أبو جندب حتى أتى جيرانه من بني نفاثة فقال لهم يا قوم ما هذا الجوار لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا
فقالوا أو لم يكن بنو لحيان يقتلوننا فو الله ما قرت دماؤنا وما زالت تغلي والله إنك للثأر المنيم فقال أما إنه لم يصب أخي إلا خير ولكنما هذه معاتبة لكم وفطن للذي يريد القوم من الغدر به وكان بأسفل دفاق فأصبحوا ظاعنين وتواعدوا ماء ظر فنفذ الرجال إلى الماء وأخروا

النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا واتخذوا لحياض للإبل فأمر أبو جندب أخاه جنادة وقال له اسرح مع نعم القوم
ثم توقف وتأخر حتى تمر عليك النعم كلها وأنت في آخرها سارح بإبلك واتركها متفرقة في المرعى فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك واطردها نحو أرضنا وموعدك نجد ألوذثنية في طريق بلاده وقال لامرأته أم زنباع وهي من بني كلب بن عوف اظعني وتمكثي حتى تخرج آخر ظعينة من النساء
ثم توجهي فموعدك ثنية يدعان من جانب النخلة وأخذ أبو جندب دلوه وورده مع الرجال فاتخذ القوم الحياض واتخذ أبو جندب حوضا فملأه ماء ثم قعد عنده فمرت به إبل ثم إبل فكلما وردت إبل سأل عن إبله فيقولون قد بلغت تركناها بالضجن
ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن أهله فيقولون بلغتك تركناها تظعن حتى إذا ورد آخر النعم أتخر الظعن قال والله لقد حبس أهلي حابس أبصر يا فلان حتى أستأنس أهلي وإبلي وطرح دلوه على الحوض
ثم ولى حتى أدرك القوم بحيث وعدهم فقال أبو جندب في ذلك
( أقول لأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمي ... صُدورَ العِيسِ شطرَ بني تميم )
( وغَرَّبْتُ الدّعَاءَ وأَيْنَ منَّي ... أُناسٌ بين مرَّ وذي يَدومِ )
غربت الدعاء دعوت من بعيد
( وَحَيٍّ بالمناقب قد حمُوْها ... لدى قُرَّانَ حتى بطنِ ضِيمِ )

( وأحياءٍ لدى سعْدِ بن بكر ... بأَملاحٍ فظاهرةِ الأديم )
( أُولئِكَ معشري وهُمُ أرومي ... وبعض القوم ليس بذي أُروم )
( هنالِكَ لو دَعَوْت أَتَاك منهم ... رجالٌ مثل أَرمِيةِ الحميمِ )
الأرمية السحاب الشديد الوقع واحدها رمي والحميم مطر القيظ
( أَقلَّ الله خَيْرَهُم أَلمَّا ... يَدَعْهُم بعضُ شرّهُم القديم )
( أَلمَّا يَسلم الجيرانُ منهم ... وقد سال الفِجاج من الغميم )
( غداةَ كأنَّ جنَّادَ بن لُبنى ... به نضخُ العبيرِ من الكُلوم )
( دعى حَوْلي نفاثةُ ثم قالوا ... لعلك لسْتَ بالثّأْر المنيمِ )
المنيم الذي إذا أدرك استراح أهله وناموا
( نعوْا مَنْ قَتَّلَتْ لِحَيانُ منهم ... ومن يغترُّ بالْحرب القروم )
قالوا جميعا وكان أبو جندب ذا شر وبأس وكان قومه يسمونه المشؤوم فاشتكى شكوى شديدة وكان له جار من خزاعة يقال له حاطم فوقعت به بنو لحيان فقتلوه قبل أن يستبل أبو جندب من مرضه واستاقوا أمواله وقتلوا امرأته وقد كان أبو جندب كلم قومه فجمعوا لجاره غنما فلما أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة ثم جاء يمشي

حتى استلم الركن وقد شق ثوبه عن استه فعرف الناس أنه يريد شرا فجعل يصيح ويقول
( إنّي امرؤ أبكي على جارَيَّهْ ... أبكِي على الكعبيِّ والَكعبيَّهْ )
( ولو هَلكتُ بَكَيا عليَّهْ ... كَانا مكَان الثوب من حَقْويَّه )
فلما فرغ من طوافه وقضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني لحيان فقتل منهم قتلى وسبى من نسائهم وذراريهم سبايا وقال في ذلك
( لقد أمسى بنو لِحْيان منّي ... بحمد الله في خِزْيٍ مُبين )
( تركتهمُ على الرّكَباتِ صُعْراً ... يُشِيبُون الذَوائب بالأنِين )

يشكو إلى عمر شوقه إلى ابنه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال
هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغزا مع المسلمين فأوغل في أرض العدو فقدم أبو خراش المدينة فجلس بين يدي عمر وشكا إليه شوقه إلى ابنه وأنه رجل قد انقرض أهله وقتل إخوته ولم يبق له ناصر ولا معين غير ابنه خراش وقد غزا وتركه وأنشأ يقول

( ألا مَن مُبلغٌ عني خِراشاً ... وقد يأْتيك بالنّبأ البعيدُ )
( وقد يأتيكَ بالأخبار مَنْ لا ... تُجَهِّزُ بالحِذاء ولا تُزِيدُ )
تزيد وتزود واحد من الزاد
( يُناديه ليَغْبِقَه كَلِيبٌ ... ولا يأتِي لقد سَفُه الوليدُ )
( فردَّ إناءَه لا شيءَ فيه ... كأنّ دموعَ عينيه الفَريد )
( وأصبحَ دون عابقِه وأمسى ... جبالٌ من حِرارِ الشام سُود )
( ألا فاعلم خِراشُ بأنّ خيرَ المهاجر ... بعد هجرته زهيد )
( رأيتكَ وابتغاءَ البِرِّدوني ... كمحصور اللِّبان ولا يصيد )
قال فكتب عمر رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن له
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي
وأخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه
وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أبو عبيدة
وأخبرني أيضا هاشم قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي

عن عمه وذكره أبو سعيد السكري في رواية الأخفش عنه عن أصحابه قالوا جميعا
أسلم أبو خراش فحسن إسلامه ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجاجا فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد فقال يا بني عمي ما أمسى عندنا ماء ولكن هذه شاة وبرمة وقربة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا برمتنا وقربتنا على الماء حتى نأخذها قالوا والله ما نحن بسائرين في لبلتنا هذه وما نحن ببارحين حيث أمسينا فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل أن يصل إليهم فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال اطبخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا وأصبح أبو خراش في الموت فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يعالج الموت
( لعمرُكَ والمنايا غالباتُ ... على الإنسان تطلُع كلَّ نجدِ )
( لقد أهلكْتِ حيّةَ بطنِ أنفٍ ... على الأَصحاب ساقاً ذاتَ فقد )
وقال أيضا
( لقد أهلكتِ حيةَ بطن أنفٍ ... على الأصحاب ساقاً ذاتَ فضلِ )
( فما تركتْ عدوًّا بين بُصْرَى ... إلى صنعاءَ يطلبُهُ بذَحْل )

قال فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره فغضب غضبا شديدا وقال لولا أن تكون سبة لأمرت ألا يضاف يمان أبدا
ولكتبت بذلك إلى الآفاق
إن الرجل ليضيف أحدهم فيبذل مجهوده فيسخطه ولا يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه كأنه يطالبه بدين أو يتعنته ليفضحه فهو يكلفه التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما وقتله ثم كتب إلى عامله باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة تمسهم جزاء لأعمالهم

صوت
( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا يُنسيك نَأْيٌ ولا شُغلُ )
( كبيضةِ أُدحيٍّ بِميثِ خميلةٍ ... يحفَّفها جَوْنٌ بجؤجؤه صَعْلُ )
الشعر لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي

أخبار ابن دارة ونسبه
هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة وقيل بل هو عبد الرحمن بن ربعي بن مسافع بن دارة وأخوه مسافع بن دارة وكلاهما شاعر وفي شعريهماجميعا غناء يذكرها هنا وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار هذين
فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام
وأما هذان فمن شعراء الإسلام ودارة لقب غلب على جدهم ومسافع أبوهم وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب بن عدي بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر
وهذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له وأخا
هجا بني أسد وحرض عكلا عليهم
أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل وكانت بنو أسد أخذته وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة فقتل بعد طول حبس فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا

صوت
( إِن يُمْسِ بالعينين سُقْمٌ فقد أتى ... لعينيكَ من طول البكاء على جُمْلِ )
( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا تُسْلى بنأْيٍ ولا شُغلِ )
( كبيضة أَدحيٍّ بمْيثِ خميلةٍ ... يُحَفِّفها جَوْن بجؤجؤه الصَّعلِ )
( وما الشمسُ تبدو يومَ غيم فأَشرقَتْ ... على الشّامة العنقاء فالنِّير فالذبل )
( بدا حَاجبٌ منهَا وضنَّتْ بحَاجب ... بأَحسن منها يوم زالت على الحمْلِ )
( يقولون إزْلٌ حُبٌّ جُمْلٍ وقُرْبُها ... وقد كذبوا ما في المودة من إزلِ )
( إذا شحَطتْ عنّي وجدتُ حرارة ... على كبِدي كادت بها كمَداً تغلي )
( ولم أَرَ محزونَين أجملَ لوعةً ... على نَائبات الدهر مِنَِي ومن جُمل )
( كلانا يذود النفسَ وهْي حزينة ... ويُضمِرُ وجداً كَالنوافذ بالنبل )
( وإِني لمُبلِي اليأْسِ من حُبّ غيرها ... فأَمَّا على جُمْلٍ فإِنيَ لا أُبلي )
( وإنّ شفاء النفس لو تُسْعِفُ المنى ... ذواتُ الثنايا الغُرّ والحدَقِ النُّجلِ )
( أُولئك إن يَمْنَعْنَ فالمنعُ شِيمةٌ ... لهنَّ وإنْ يُعْطِينَ يُحْمدن بالبذلِ )
( سأُمسِك بالوصل الذي كان بيننا ... وهل تركَ الواشون والنأْيُ من وصل )

( أَلا سَقِّيَانِي قهوةً فارسيّة ... من الأوَّل المختوم ليست من الفضل )
( تُنسّي ذوي الأحلامِ واللبِّ حلمَهم ... إذا أَزبدت في دَنَّهَا زَبدَ الفحل )
( ويا راكباً إمَّا عرضت فبلِّغَنْ ... عَلَى نأْيهم مني القبائلَ من عُكل )
( بأَنّ الذي أمست تجمجم فقعَسٌ ... إسارٌ بلا أَسْرٍ وَقتلٌ بلا قتل )
( وكيف تنام الليلَ عكلٌ ولم تنَل ... رِضَى قوَدٍ بالسمْهريّ ولا عقل )
( فلا صلحَ حتى تَنْحِط الخيلُ في القنا ... وتوقدَ نارُ الحرب بالحطب الجزل )
( وَجُرْدٍ تَعادَى بالكماة كأنها ... تُلاحِظ من غيظٍ بأَعينها القُبْل )
( عليها رجال جالدوا يوم مَنْعِجٍ ... ذوي التاج ضرَّابو الملوكِ على الوَهل )
( بضربٍ يُزيل الهامَ عن مستقرِّه ... وطعنٍ كأَفواه المفرَّجة اْلهُدْل )
( علامَ تُمشّي فقعسٌ بدمائكم ... وما هي بالفَرغ المُنيفِ ولا الأصل )
( وكنّا حسِبنا فقعساً قبل هذه ... أذلَّ على وقع الهوان من النَّعْل )
( فقد نظرْت نحو السماءِ وسلّمَت ... على الناس واعتاضت بخِصْبٍ من المحل )
( رمى الله في أكبادكم أن نجت بها ... شِعابُ القِنان من ضعيفٍ ومن وَغْل )

( وإِن أنتُم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نِساءً للخَلوق وللكُحْلِ )
( وبيعوا الرّدينياتِ بالحَلْيِ واقْعدُوا ... على الذلّ وابتاعوا المغازل بالنّبل )
( ألا حبّذا من عندَهُ القلبُ في كَبْلٍ ... ومَنْ حُبّه داءٌ وخبْلٌ من الخبل )
( ومَن هو لا يُنسَى ومَنْ كلُّ قَولِه ... لدينا كطعم الراح أو كجَنَى النّحل )
( ومن إن نأَى لم يحدث النأيُ بغُضَه ... ومن إن دنا في الدار أُرْصِدَ بالبَذْلِ )
( وأما خبر السمهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال

خبر مصرع السمهري
لقي السمهري بن بشر بن أقيش بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي ويكنى أبا الديل هو وبهدل ومروان بن قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله أحد بني حارثة بن لأم من طيء بالثعلبية وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة فقالوا له العراضة أي مر لنا بشيء فقال يا غلام جفن لهم فقالوا لا والله ما الطعام نريد فقال عرضهم فقالوا ولا ذلك نريد فارتاب بهم فأخذ السيف فشد عليهم وهو صائم وكان بهدل لا

يسقط له سهم فرمى عونا فأقصده فلما قتلوه ندموا فهربوا ولم يأخذوا إبله فتفرقت إبله ونجا خاله الطائي إما عرفوه فكفوا عن قتله وإما هرب ولم يعرف القتلة فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسدي
وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى الحجاج بن يوسف وهو عامله على العراق وإلى هشام بن إسماعيل وهو عامله على المدينة والى عامل اليمامة أن يطلبوا قتله عون ويبالغوا في ذلك وأن يأخذوا السعادة به أشد أخذ ويجعلوا لمن دل عليهم جعله وانشام السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله
ثم مر بنخل فقالت عجوز من بني فزارة أظن والله هذا العكلي الذي قتل عونا فوثبوا عليه فأخذوه ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم فقالت له بنو فزارة هذا العكلي قاتل عون ابن عمك فأخذه منهم فأتى به هشام ابن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة فجحد وأبى أن يقر فرفعه إلى السجن فحبسه
وزعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت إبل عون في يدي شافع ابن واتر اتهموه بقتله فأخذوه وقالوا أنت قرفتنا قتلت عونا وحبسوه بصل ماء لبني أسد وجحد وقد كان عرف من قتله إما أن يكون كان معهم فورى عنهم وبرأ نفسه وإما أن يكون أودعوها إياه أو باعوها منه فقال شافع
( فإن سرَّكم أن تعلموا أين ثأْرُكم ... فسلمَى معانٌ وابن قرفة ظالمُ )

( وفي السجن عُكْلِيُّ شَريك لبهدل ... فولّوا ذُبابَ السّيف من هْو حازم )
( فوالله ما كنا جُناةً ولا بنا ... تأوّب عونا حتفُه وهو صائم )
فعرفوا من قتله فألحوا على بهدل في الطلب وضيقوا على السمهري في القيود والسجن وجحد فلما كان ذلك من إلحاحهم على السمهري أيقنت نفسه أنه غير ناج فجعل يلتمس الخروج من السجن فلما كان يوم الجمعة والإمام يخطب وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلفتي قيده ورمى بنفسه من فوق السجن والناس في صلاتهم فقصد نحو الحرة فولج غارا من الحرة وانصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه وغلقوا أبوابهم وقال لهم الأمير اتبعوه فقالوا وكيف نتبعه وحدنا فقال لهم أنتم ألفا رجل فكيف تكونون وحدكم فقالوا أرسل معنا الأبليين وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة فأعجزهم الطلب فلما أمسى كسر الحلقة الأخرى ثم همس ليلته طلقا فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة فبينا هو يمضي إذ نعب غراب عن شماله فتطير فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه ويلقيه فاعتاف شيئا في نفسه فمضى وفيها ما فيها فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك فسأله من أنت قال رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي فقال له هل عندك شيء من زجر قومك فقال إني لآنس من ذلك شيئا أي لأبصر فقص عليه حاله غير أنه ورى

الذنب على غيره والعيافة وخبره عن الغراب والشجرة فقال اللهبي هذا الذي فعل ما فعل ورأى الغراب على البانة يطرح ريشه سيصلب فقال السمهري بفيك الحجر فقال اللهبي بل بفيك الحجر استخبرتني فأخبرتك ثم تغضب
ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله وهل يعود من حيث جاء ثم سار حتى أتى أرض عذرة بن سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا ويستحلب الرعيان اللبن فيحلبون له ولقيه عبد الله الأحدب السعدي أحد بني مخزوم من بني عبد شمس وكان أشد منه وألص فجنى جناية فطلب فترك بلاد تميم ولحق ببلاد قضاعة وهو على نجيبة لا تساير فبينا السمهري يماشي راعيا لبني عذرة ويحدثه عن خيار إبلهم ويسأله السمهري عن ذلك وإنما يسأله عن أنجاههن ليركبها فيهرب بها لئلا يفارق الأحدب أشار له إلى ناقة فقال السمهري هذه خير من التي تفضلها هذه لا تجارى فتحين الغفلة فلما غفل وثب عليها ثم صاح بها فخرجت تطير به وذلك في آخر الليل فلما أصبحوا فقدوها وفقدوه فطلبوه في الأثر
وخرجا حتى إذا كان حجر عن يسارهما وهو واد في جبل أو شبه الثقب فيه استقبلتهما سعة هي أوسع من الطريق فظنا أن الطريق فيها فسارا مليا فيها ولا نجم يأتمان به فلما عرفا أنهما حائدان والتفت عليهما الجبال أمامهما وجد الطلب إثر بعيريهما ورأوه وقد سلك الثقب في غير طريق عرفوا أنه سيرجع فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين وجاءت الناقة وعلى رأسها مثل الكوكب من لغامها فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم فقال له الأحدب ما هذا جزاؤها
فنزل ونزل الأحدب فقاتلهما القوم حتى كادوا

يغشون السمهري فهتف بالأحدب فطرد عنه القوم حتى توقلا في الجبل وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله

متفرقات من شعر السمهري
( وما كنت محيارا ولا فزع السرى ... ولكن حذا حجر بغير دليل ) وقال الأحدب في ذلك
( لمّا دعاني السمهريُّ أجبتُه ... بأبيضَ من ماء الحديد صقيلِ )
( وما كنتُ ما اشتدّتْ على السيفِ قبضتي ... لأُسْلِمَ من حُبَّ الحياة زميلي )
وقال السمهري أيضاً
( نجوتُ ونفسِي عند ليلى رهينة ... وقد غَمّني داجِ من الليل دامسُ )
( وغامسْتُ عن نفسي بأخلَقَ مِقصلٍ ... ولا خيرَ في نفس امرئٍ لاتُغَامِس )
( ولو أَنّ ليلَى أَبصرتنِيَ غدوة ... ومَطْوايَ والصفَّ الذين أُمارس )
( إذاً لبكت ليلَى عليّ وأَعولت ... وما نالت الثوبَ الذي أَنا لابس )
فرجع إلى صحراء منعج وهي إلى جنب أضاخ والحلة قريب منها وفيها منازل عكل فكان يتردد ولا يقرب الحلة وقد كان أكثر الجعل فيه فمر بابني فائد بن حبيب من بني أسد ثم من بني فقعس فقال أجيرا متنكرا فحلبا له فشرب ومضى لا يعرفانه وذهبا ثم لبث السمهري ساعة وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها

فنظر أحدهما إلى ساقه مكدحة وإذا كدوح طرية فأخبر أخاه بذلك فنظر فرأى ما أخبره أخوه فارتابا به فقال أحدهما هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل فاتفقا على مضابرته فوثبا عليه فقعد أحدهما على ظهره وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري فألقى الذي على ظهره وقال أتلعبان وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه وعالجه الآخر فجعل رأسه تحت إبطه أيضا وجعلا يعالجانه فناديا أختهما أن تعينهما فقالت ألي الشرك في جعلكما قالا نعم فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطة ثم جذبته وهو مشغول بالرجلين يمنعهما فلما استحكمت العقدة وراحت من علابيه خلى عنهما وشد أحدهما فجاء بصرار فألقاه في رجله وهو يداور الآخر والأخرى تخنقه فخر لوجهه فربطاه ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان المري وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه فكتب فيه إلى الخليفة فكتب أن ادفعه إلى ابن أخي عون عدي فدفع إليه فقال السمهري أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك أنا أم لا ادن أخبرك فأراد الدنو منه فنودي إياك والكلب وإنما أراد أن يقطع أنفه فقتله بعمه ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقة فقال
( ألا أيّها البيتُ الذي أنا هاجِرُه ... فلا البيتُ منسيٌّ ولا أنا زائرُهْ )
( ألا طرقت ليلَى وساقي رهينةٌ ... بأشهبَ مشدودٍ عليّ مَسامرُه )
( فإن أنجُ يا ليلى فربّ فتىً نجا ... وإن تَكنِ الأخرى فشيءٌ أحاذره )

( وما أصْدَق الطيْر التي بَرِحت لنا ... وما أعيفَ اللّهِبيّ لا عزَّ ناصرُه )
( رأيتُ غُرابا ساقطا فوق بانة ... ينشنشُ أعلى ريشه ويُطايرِه )
( فقال غرابٌ باغترابٍ من النوى ... وبانٌ بِبَيْنٍ من حبيبٍ تُحاذره )
( فكان اغترابٌ بالغراب ونِيةٌ ... وبالبان بَيْنٌ بَيِّنٌ لك طائِرُه )
وقال السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد
( فمن مُبلغٌ عنّي خِليليَ مالكاً ... رسالة مشدود الوَثَاق غريبِ )
( ومن مبلغْ حَزْماً وتَيْماً ومالكاً ... وأربابَ حامِي الحفر رهطِ شبيبِ )
( ليُبْكوا التي قالت بصحراء مَنْعِج ... لِيَ الشِّركُ يا بني فائدِ بن حبيب )
( أَتضرب في لحمي بسهم ولم يكن ... لها في سهام المسلمين نَصِيبُ )
وقال السمهري يرقق بني أسد
( تمنّتْ سُليمَى أن أَقِيلَ بأرضها ... وأَنّى لسَلْمَى ويْبَهَا ما تَمَنَّتِ )
( ألا ليتَ شعري هل أزورَنَّ ساجِراً ... وقد رَوِيَت ماءَ الغوادي وعلّت )
( بني أسد هل فيكمُ من هَوادةٍ ... فَتَغْفرَ إن كانتْ بي النعل زَلَّتِ )
وبنو تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي

وقال السمهري في الحبس يذم قومه
( لقد جمع الحدّادُ بين عِصابة ... تسائل في الأقياد ماذا ذُنوبُها )
( بمنزلة أمّا اللئيمُ فشَامِتٌ ... بها وكِرامُ القوم بادٍ شحوبُها )
( إذا حَرَسِيٌّ قَعقعَ البابَ أُرْعِدَتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها )
( ألا ليتني من غير عُكْلٍ قبيلتي ... ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشِيبُها )
( قبيلة مَنْ لا يقرع البابَ وفدُها ... لخير ولا يَهْدي الصوابَ خطيبُها )
( نرى الباب لا نَسطيع شيئا وراءه ... كأنّا قُنِيٌّ أسلَمتْها كُعوبُها )
( وإن تكُ عُكلٌ سرَّها ما أصابني ... فقد كنتُ مصبوباً على ما يَرِيبها )
وقال السمهري أيضا في الحبس
( ألا حيِّ ليلَى إِذ ألَمَّ لِمامُها ... وكان مع القوم الأعادِي كلامُها )
( تعلَّلْ بليلَى إنما أنتَ هامَةٌ ... من الغد يدنو كلَّ يوم حِمامُها )
( وبادِرْ بليلَى أوجهَ الركب إنهم ... متى يرجِعوا يَحْرُمْ عليك كلامها )
( وكيف ترجِّيها وقد حِيلَ دونها ... وأَقسم أقوامٌ مَخوفُ قِسَامُها )
( لأَجْتَنِبْنَها أو لَيَبْتَدِرُنَّني ... ببيضٍ عليها الأَثْرُ فعْمٌ كلامُها )
( لقد طرقتْ ليلَى ورِجْلِي رهينةٌ ... فما راعني في السجن إِلا لِمامها )
( فلمّا انتبهتُ للخيال الذي سرى ... إذا الأرضُ قَفر قد علاها قَتامُها )

( فإلاّ تكن ليلَى طَوتْك فإِنه ... شبيهٌ بليلى حُسنُها وقوامُها )
( ألا ليتنَا نَحْيا جميعاً بغِبْطَةٍ ... وتَبلى عظامِي حين تبلى عِظامُها )
وقال أيضا
( ألا طرقتْ ليلَى وساقِي رَهينةٌ ... بأسمَر مشدودٍ عليّ ثقيلُ )
( فما البينُ يا سلْمى بأن تَشْحَطَ النّوى ... ولكنّ بيناً ما يُرِيد عقيلُ )
( فإن أنجُ منها أَنْجُ من ذي عظيمةٍ ... وإن تكن الأخرى فتلك سبيلُ )
وقال أيضا وهو طريد
( فلا تيأسَا من رحمةِ الله وانظُرا ... بوادي جَبُونَا أن تَهُبَّ شَمال )
( ولا تيأسا أن تُرْزَقا أريِحيَّةُ ... كعِينِ المها أعناقُهنّ طِوال )
( من الحارثِيِّينَ الذين دِماؤهم ... حَرامٌ وأما مالُهُم فحلال )
وقال أيضا
( ألم ترَ أنِّي وابنَ أبيضَ قد جفت ... بنا الأرضُ إلا أَنْ نَؤمَّ الفَيافيا )
( طَريديْن من حيَّيْنِ شتى أَشَدَّنا ... مخافَتُنا حتى نخلْنا التّصافيا )
( وما لُمْتُه في أمرِ حَزمٍ ونجدةٍ ... ولا لامني في مِرَّتِي واحتياليا )

( وقلتُ له إذْ حلّ يسقي ويَسْتَقي ... وقد كَان ضوءُ الصبح لِلَّيْلِ حاديا )
( لعمري لقد لاقت ركابُك مشْرَباً ... لئنْ هِيَ لم تَضْبَحْ عليهنَّ عاليا )
وأخذت طيء ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ وحبسوا فقالوا إن حبسنا لم نقدر عليهما ونحن محبوسون ولكن خلوا عنا حتى نتجسس عنهما فنأتيكم بهما وكانا تأبدا مع الوحش يرميان الصيد فهو رزقهما
ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع فتحدث إليه فسقاه وبسطه حتى اطمأن إليه ولم يشعره أنه يعرفه فجعل يأتيه بين الأيام فلا ينكره فانطلق الراعي فأخبره باختلافه إليه فجاء معه الطلب وأكمنهم حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما كان يفعل سقاه وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به فأخذوه وأتوا به عثمان بن حيان أيضا عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة فأعطى الذي دل عليه جعله وقتله

نهاية بهدل
وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى فبلغ ذلك سيدا من سلمى من طيء فقال قد أخيفت طيء وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك الهضبة ومعه أهلات من قومه فقال لهم إنكم بعيني الخبيث فإذا كان النهار فليخرج الرجال من البيوت وليخلوا النساء فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب وطلب الحاجة والعل فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما فظن بهدل أنهم يفعلون ذلك لشغل يأتيهم فانحدر إلى قبة السيد وقد أمر النساء إن

انحدر إليكن رجل فإنه ابن عمكن فأطعمنه وادهن رأسه
وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما من أنتما فأخبرتاه وأطعمتاه ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه فقال أحسنتما إلى ابن عمكما فجعل ينحدر اليهما حتى اطمأن وغسلتا رأسه وفلتاه ودهنتاه فقال الشيخ لابنتيه أفلياه ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل القطيفة
ثم إذا شددنا عليه فاقلبا القطيفة على وجهه وخذا أنتما بشعره من ورائه فمدا به إليكما ففعلتا واجتمع له أصحابه فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها وشدوا عليه فربطوه فدفعوه إلى عثمان بن حيان فقتله فقالت بنت بهدل ترثيه
( فيَا ضَيْعةَ الفِتيانِ إِذ يَعِتلونه ... ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدّم )
( دعَا دعوة لما أَتى أرضَ مالك ... ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يُسلِم )
( أما كان في قيسٍ من ابن حفيظة ... من القوم طَلاَّبِ التِّرَات غَشمْشم )
( فيقتُل جَبراً بامرئٍ لم يكن به ... بواءً ولكِنْ لا تكَايُلَ بالدم )
وكان دعا يا لمالك لينتزعوه فلم يجبه أحد

تساجل هو والكميت بن معروف
قال ولما قال عبد الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة

يحض عكلا على بني فقعس اعترض الكميت بن معروف الففعسي فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري فقال قوله
( فلا تُكثِروا فيه الضَّجاج فإِنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا )
فقال عبد الرحمن بن دارة
( فيا راكباً إمّا عرضْتَ فبلّغَنْ ... مُغَلْغَلةً عنّي القبَائلَ من عُكلِ )
( جلت حمماً عنها القِصَافُ وما جلتْ ... قُشَيْرٌ وفي الشّدّاتِ والحرب ما يُجلي )
( فإِن يك باع الفَقعسِيُّ دماءَهم ... بوَكٍ بوكس فقد كانت دماؤكم تَغلِي )
( وكيف تنام الليلَ عُكلٌ ولم يكن ... لها قَوَدٌ بالسّمْهريّ ولا عَقْلُ )
( رمى اللَّهُ في أكبَادِهم إِن نجتْ بها ... حروفُ القِنَانِ من ذليلٍ ومن وغلِ )
( وكنا حسبْنَا فقْعساً قبل هذه ... أذلّ على طول الهوان من النَّعل )
( فإن انتمُ لم تثأَروا بأَخيكمُ ... فكونوا بَغايا للخَلُوق وللكُحل )
( وبيعوا الردينيّاتِ بالحلْيِ واقعدوا ... على الوِتْرِ وابتاعوا المغازلَ بالنَّبل )
( فإنّ الذي كانت تُجمجمُ فقْعَسٌ ... قتيلٌ بلا قَتْلَى وَتَبْلٌ بلا تَبْلِ )
( فلا سِلْمَ حتى تنحَطَ الخيلُ بالقنا ... وتُوقَدَ نارُ الحَرْب بالحَطَب الجَزْلِ )
فلما بلغ قوله مالكا أخا السمهري بخراسان انحط من خراسان حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا من قومه فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس فقتلوه وحزوا رأسه

وذهبوا بالرأس وتركوا جسده كما قتلوها أيضا وذكر لي أن الرجل ابن سعدة والمرأة التي كانت معه هي سعدة أمه فقال عبد الرحمن في ذلك
( مَا لقتيلِ فَقْعَسٍ لا رَأْسَ له ... هلاَّ سألْتَ فقْعَساً من جَدّلَهْ )
( لا يتْبعَنَّ فَقْعَسِيٌّ جملَهْ ... فرداً إذا ما الفقعسِيُّ أعملَه )
( لا يلقَيَنَّ قاتلاً فيقتلَه ... بسيفه قد سَمَّهْ وصقَلْه )
وقال عبد الرحمن أيضا
( لمَّا تمَالَى القومُ في رَأْدِ الضُّحَى ... نَظراً وقد لَمَعَ السّرابُ فجالا )
( نظر ابنُ سعْدةَ نظرةً ويَلاً لها ... كانت لصحبك والمطيِّ خَبالا )
( لَمْحاً رَأَى من فوقِ طودٍ يافعٍ ... بعضَ العُداة وجُنّة وظِلالا )
( عيَّرتَنِي طَلبَ الحُمُول وقد أَرَى ... لم آتهنَّ مكفِّفا بطَّالا )
( فانظر لنفسِكَ يا بن سَعْدةَ هل ترى ... ضبُعاً تجرُّ بثادِقٍ أَوْصالا )
( أوصالَ سَعْدةَ والكميتِ وإنما ... كان الكُميتُ على الكُميت عِيالا )
وقال عبد الرحمن في ذلك

( أصبحتُمُ ثَكْلَى لِئاماً وأصبحتْ ... شياطينُ عُكْلٍ قد عَراهُنَّ فقْعَسُ )
( قَضَى مالكٌ ما قد قَضَى ثم قلّصت ... به في سواد الليل وجناءُ عِرْمُس )
( فأضحتْ بأَعلى ثادقٍ وكأنها ... مَحَالَةُ غَرْبٍ تستَمِرُّ وتمْرُس )

مقتله
وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله فقال بعضهم لا تقتلوه ولتأخذوا عليه أن يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه فعزموا على ذلك ثم إن رجلا منهم كان قد عضه بهجائه اغتفله فضربه بسيفه فقتله وقال في ذلك
( قُتِلَ ابنُ دارةَ بالجزيرةِ سَبَّنَا ... وزعمتَ أن سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ )
قال علي بن سليمان وقد روي أن البيت المتقدم
( فلا تكثروا فيه الضَجَاج فإنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا )
لهذا الشاعر الذي قتل ابن دارة وهو من بني أسد وهكذا ذكر السكري
صوت
( كلانا يرى الجوزاءَ يا جُملُ إِذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ )

( فكيف بكم يا جملُ أَهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ )
( إذا قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد )
الشعر لمسعود بن خرشة المازني والغناء لبحر خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي

أخبار مسعود بن خرشة
حنينه إلى جارية عشقها
مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل المازني الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود
( كلانا يرى الجوازءَ يا جُمْلُ إذ بدتْ ... ونَجْمَ الثّريَّا والمَزَارُ بعيدُ )
( فيكف بكم يا جُمْلُ أهلاً ودونَكم ... بُحورٌ يُقَمِّصْن السّفينَ وبِيدُ )
( إّذا قلت قد حان القُفولُ يصدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيدُ )
قال أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال
( أيا جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب )
( له أعنزٌ حُوُّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب )

وقال أبو عمرو وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي هو ورفقاء له وكان معه رجلان من قومه فأتوا بها اليمامة ليبيعوها فاعترض عليهم أمير كان بها من بني أسد ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك
( يقول المرجفون أجاءَ عهدُ
كفى عهداً بتنفيذ القِلاصِ )
( أتى عهدُ الإِمارة من عُقيلٍ ... أغرَّ الوجه رُكّب في النواصي )
( حُصونُ بني عُقيلٍ كلُّ عَضْبٍ ... إذا فَزِعوا وسابغةٍ دِلاصِ )
( وما الجارات عند المَحْل فيهم ... ولو كثر الروازحُ بالخِماصِ )
قال وقال مسعود وقد طلبه والي اليمامة فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب
( ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةَ ... بوعثاءَ فيها للظباءِ مكانسُ )
( وهل أنجُوَنْ من ذي لَبيدِ بن جابرٍ ... كأنَّ بناتِ الماء فيه المُجالس )
( وهل أسمعَنْ صوتَ القَطَا تندب القطا ... إلى الماء منه رابع وخوامس )

أخبار بحر ونسبه
هو بحر بن العلاء مولى بني أمية حجازي أدرك دولة بني هاشم وعمر إلى أيام الرشيد وقد هرم وكان له أخ يقال له عباس وأخوه بحر أصغر منه مات في أيام المعتصم وكان يلقب حامض الرأس وله صنعة وأقدمه الرشيد عليه ثم كرهه فصرفه
الرشيد يشرب على أصواته
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول عن علي بن صالح صاحب المصلى
أن الرشيد سمع من علوية ومخارق وهما يومئذ من صغار المغنين في الطبقة الثالثة أصواتا استحسنها ولم يكن سمعها فقال لهما ممن أخذتما هذه الأصوات فقالا من بحر فاستعادها وشرب عليها ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر فأمر بإحضاره وأمره أن يغني ذلك الصوت فغناه

فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم يعجبه واستثقله لولائه لبني أمية فوصله وصرفه ولم يصل إليه بعد ذلك

صوت
( إلا يا لَقومي للِنوائب والدّهر ... ولِلمرء يُرِدي نفسه وَهْو لا يَدري )
( وللأرض كم من صالح قد تودّات ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفر )
عروضه من الطويل قال الأصمعي يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم يال كذا بفتح اللام وإذا دعوت للشيء
قلت بالكسرة تقول يا للرجال ويا للقوم
وتقول يا للغنيمة ويا للحادثة أي اعجلوا للغنيمة وللحادثة فكأنه قال يا قوم اعجلوا للغنيمة
وروى الأصمعي وغيره مكان قد تودأت قد تلمأت عليه وتلاءمت أي وارته ويروى تأكمت أي صارت أكمة
الشعر لهدبة بن خشرم والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار هدبة بن خشرم ونسبه
وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله
هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبه بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني سعدا هذا
طبقته في الشعر
وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير
وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضا

وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة ابن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم
أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا فجمعت بعض روايتهم إلى بعض واقتصرت على ما لا بد منه من الأشعار وأتيت بخبرهما على شرح وألحقت ما نقص من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان
فممن حدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي تينة قال حدثنا خلف بن المثنى الحداني عن أبي عمرو المديني
وأخبرني الحسن بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه

الحرب بين قومه بني عامر وقوم زيادة بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمه
وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما انفرد به من الرواية وجمعت ما اتفقوا عليه قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة
كان أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش وهم بنو قرة بن حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان وهم

رهط زيادة بن زيد وبنو عامر رهط هدبة أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب وكانت أخت حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة ففني ماؤه قبل ماء صاحبه فقال زيادة
( قد جعلت نَفْسِيَ في أَديِم ... مُحَرّمِ الدّباغ ذِي هُزُومِ )
( ثمّ رَمَت بِي عُرُضَ الدّيْمومِ ... في بارحٍ من وَهَج السَّموم )
( عند اطّلاع وعرة النجوم ... )
قال اليزيدي في خبره المحرم الذي لم يدبغ والهزوم الشقوق
قال
وقال زيادة أيضا
( قد علِمَتْ سلمةُ بالعَميسِ ... ليلَة مَرْمَارٍ وَمَرْمَرِيس )
( أَنّ أَبَا المِسْور ذو شَرِيس ... يَشفي صُداع الأبلَج الدِّلْعِيس )
العميس موضع والمرمار والمرمريس الشدة والاختلاط وأبا المسور يعني زيادة نفسه وكانت كنيته أبا المسور

تبادل التشبيب بأختيهما
قال فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما
ثم إن هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال
( عُوجي علينا واربَعي يا فاطَما ... ما دون أَن يُرَى البَعيرُ قائمَا )
أي ما بين مناخ البعير إلى قيامه
( ألا تَرين الدمع منّي ساجمَا ... حِذارَ دارٍ منك لن تُلائمَا )
( فَعرَّجَتْ مطَّرداً عُراهِمَا ... فَعْماً يبذّ القُطُفَ الرَّوَاسما )
مطرد متتابع السير وعراهم شديد وفعم ضخم والرسيم سير فوق العنق والرواسم الإبل التي تسير هذا السير الذي ذكرناه
( كأن في المثْناة منه عائَما ... إِنّكَ والله لأَنْ تُبَاغِمَا )
المثناة الزمام وعائم سائح تباغم تكلم
( خَوْداً كأَنّ البُوْصَ والمآكما ... منها نقاً مُخالطٌ صَرائما )
البوص العجز والمأكمتان ما عن يمين العجز وشماله والنقا ما عظم من الرمل
والصرائم دونه
( خيرُ من استقبالك السَّمائمَا ... ومن مُنادٍ يبتغي مُعَاكِما )

ويروى ومن نداء أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى فيما روى اليزيدي أم حازم وقال الآخرون وأم القاسم فقال هدبة
( لقد أراني والغُلامَ الحازمَا ... نُزجِي المَطيَّ ضُمّراً سَواهِما )
( متى تَظُنّ القُلُصَ الرّوَاسما ... والجِلّةَ النّاجيةَ العَيَاهِما )
العَياهم الشداد
( يُبلِغْن أمَّ حازم وحازماً ... إذا هَبَطن مُسْتَحيراً قاتِمَا )
( ورجَّع الحادي لهما الهَمَاهِمَا ... ألا تَريْنَ الحُزنَ مني دائمَا )
( حِذارَ دارٍ منك لن تُلائما ... والله لا يَشفي الفؤادَ الهائمَا )
( تَمساحُكَ اللَّبّاتِ والمآكمَا ... ولا اللِّمامُ دون أن تلازِمَا )
( ولا اللِثام دون أن تُفاقما ... ولا الفِقامُ دون أن تفاغمَا )

( وتَعْلُوَ القوائمُ القوائما ... )
قال فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلا فصاح بهما القوم اركبا لاحملكما الله
فإنا قوم حجاج وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه وهدبة أشدهما حنقا لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى عشيرتيهما

خبر عمه زفر وسبب غضب قومه
قال اليزيدي خاصة في خبره
ثم التقى نفر من بني عامر من رهط هدبة فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه وخشرم أبو هدبة وزفر عم هدبة وهو الذي بعث الشر وحجاج بن سلامة وهو أبو ناشب ونفر من بني رقاش رهط زيادة وفيهم زيادة بن زيد وإخواته عبد الرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم فكان بينهم كلام فغضب ابن الغسانية وهو أدرع وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش فقام له أدرع فرجز به فقال
( أَدُّوا إلينا زُفَرَا ... نعرفُ منه النَّظَرَا )
( وعينَه والأثَرَا ... )
قال فغضب رهط هدبة وادعوا حدا على بني رقاش فتداعوا إلى السلطان ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع فيخلو به نفر منهم فما رأوه عليه أمضوه فلما خلوا به ضربوه الحد ضربا مبرحا فراح بنو رقاش وقد

أضمروا الحرب وغضبوا فقال عبد الرحمن بن زيد
( ألا أَبلغ أبا جَبْرٍ رسولاً ... فما بيني وبينكُم عِتابُ )
( ألم تعلم بأن القوم راحوا ... عشيةَ فارقوك وهم غِضابُ )
فأجابه الحجاج بن سلامة فقال
( إن كان ما لاقى ابنُ كنعاء مُرغِماً ... رقاشَ فزاد اللَّهُ رَغْما سِبالَها )
( منعنا أخانا إذ ضربنا أخاكُم ... وتلك من الأعداء لا مِثْلَ مالها )

هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار
قال اليزيدي في خبره وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره وذكر أشعارا كثيرة فذكرت بعضها وأتيت بمختار ما فيه فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها
( أراك خليلاً قد عزمت التَجنبا ... وقطَّعتَ حاجاتِ الفؤاد فأصحبا )
اخترت منها قوله
( وأنك للناس الخليلُ إذا دنتْ ... به الدارُ والباكي إذا ما تغيَّبا )
( وقد أعذَرَتْ صرفُ الليالي بأهلها ... وشَحْطُ النَّوَى بيني وبينك مَطلبا )
( فلا هي تأْلو ما نأَتْ وتباعدَتْ ... ولا هو يأْلو ما دنا وتقرَّبا )
( اطعتُ بها قول الوشاة فلا أرى الوشاةَ ... انتهوا عنه ولا الدهرَ أَعتبا )

( فهلاّ صَرمْتِ والحبالُ متينةٌ ... أُميمةُ إن واشٍ وشى وتكذَّبا )
( إذا خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمة ... غَيَابَتَه يركب بك الدهرُ مركبا )
( وإن وِجهةٌ يُدَّتْ سدت عليك فُروُجُها ... فإِنّك لاقٍ لا محالة مذهبا )
( يُلامُ رجالٌ قبل تجريبِ غَيْبِهم ... وكيف يُلام المرءُ حتى يُجرَّبا )
( وإنيّ لمِعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجه امرئ يوما إذا ما تجنَّبا )
( قليلٌ عِثَاري حين أُذعَرُ ساكنٌ ... جَناني إذا ما الحرب هرَّت لتكْلَبا )
( بحسبك ما يأتيك فاجمع لنازل ... قِراهُ ونَوِّبْه إذا ما تنوّبا )
( ولا تَنتجِع شَراًّ إذا حيل دونه ... بِسِتْرٍ وهَبْ أسبابَه ما تهيّبا )
( أنا ابن رَقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هاديا يعلو الهواديَ أغلبا )
( بنَى العِزُّ بنياناً لقومي فما صَعْوا ... بأَسيافهم عنه فأَصبح مُصعَبا )
( فما إنْ ترى في الناس أُماً كأُمِّنا ... ولا كأبينا حين ننسبُهُ أَبا )
( أَتمَّ وأَنمى بالبنين إلى العلا ... وأَكرمَ منا في المناصب مَنصَبا )
( مَلَكنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ... كأَنّ لنا حقاً على الناس تُرتَبا )
قال اليزيدي ترتب ثابت لازم
( بآيةِ أنّا لا نرى مُتَتَوِّجاً ... من الناسِ يعلونا إذا ما تعصّبا )
( ولا مِلكاً إلا اتّقانا بمُلكه ... ولا سُوقةً إلا على الخَرْج أُتعِبا )
( ملكنا ملوكاً واستبحْنا حِماهُم ... وكنّا لهم في الجاهلية موكِبا )

( ندامى وأردافاً فلم تَرَ سُوقةً ... توازننا فاسأَل إياداً وتَغلِبا )
فأجابه هدبة وهذا مختار ما فيها فقال
( تَذَكّر شَجواً من أُميمةَ مُنصِبا ... تليداً ومُنتاباً من الشوق مُجْلِبا )
( تَذَكّرَ حبًّا كان في مَيْعة الصِّبا ... ووجداً بها بعد المشيب مُعتِّبا )
( إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتُها ... فيا لكِ ما عَنّى الفؤادَ وعذَّبا )
( غَدّا في هواها مستكيناً كأَنه ... خليعُ قِداحٍ لم يجد متنشَّبا )
( وقد طال ما كان عُلِّقْتَ ليلى مُغَمّرا ... وليدا إلى أن صار رأْسُكَ أشْيَبا )
المغمر الغمر أي غير حدث
( رأيتك في لَيلَى كذي الدَّاءِ لم يجد ... طبيباً يداوِي ما به فَتَطَبَّبا )
( فلما اشتفى مما به كرَّ طِبُّه ... على نفسه من طول ما كان جرَّبا )

قتل زيادة وتنحى ثم استسلم
فلم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله وتنحى مخافة السلطان وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوسا حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد منه إذا قامت البينة

فأقامها فمشت عذرة إلى عبد الرحمن فسألوه قبول الدية فامتنع وقال

صوت
( أنختُم علينا كَلْكَلَ الحرب مُرَّة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكَلِ )
( فلا يدْعُني قومي لزيدِ بن مالك ... لئن لم أُعجِّل ضربةً أُو أعجَّلِ )
( أبعد الذي بالنَّعْف نعفِ كُوَيْكِبٍ ... رهينةِ رمسٍ ذي تراب وجندلِ )
( كريمٌ أصابته دياتٌ كثيرة ... فلم يدر حتى حين من كل مدخل )
( أُذكَّر بالبُقْيا على من أَصابني ... وبُقيايَ أَني جاهدٌ غيرُ مؤتِلي )
غناه ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وقيل إنه لمالك بن أبي السمح وله فيه لحن آخر
رجع الخبر إلى سياقته
سعيد بن العاص يحكم معاوية في أمر هدبة
وأما علي بن محمد النوفلي فذكر عن أبيه أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما فحملهما إلى معاوية فنظر في القصة ثم ردها إلى سعيد
وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية
قال علي بن محمد عن أبيه
فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت إليه وجرى علي وعلى أهلي وقرباي

وقتل أخي زيادة وترويع نسوتي فقال له معاوية يا هدبة قل
فقال إن هذا رجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت قال لا بل شعرا فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا
( ألا يا لقَومي لِلنّوائب والدّهر ... ولِلمرء يُردِي نفسه وهْو لا يدرِي )
( ولِلأرض كم من صالحٍ قد تأَكَّمَت ... عليه فوارتْهُ بلمَّاعةٍ قَفْر )
( فلا تتّقي ذا هَيْبة لجلالِه ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يُتْركْن للفقر )
حتى قال
( رُمِينا فَرامَينا فصادف رَمْيُنا ... مَنايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْر )
( وأنت أميرُ المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً ولا عنك من قَصْر )
( فإن تك في أموالنا لم نَضِق بها ... ذِراعاً وإن صبرٌ فنصبِرُ للصّبر )
فقال له معاوية أراك قد أقررت بقتل صاحبهم ثم قال لعبد الرحمن هل لزيادة ولد قال نعم المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه فقال إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور
جميل بن معمر يزوره في السجن ويهديه
أخبرني الحرمي بن العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال نسخت من كتاب عامر بن صالح قال

دخل جميل بن معمر العذري على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه إياها سعيد بن العاص وجاءه بنفقة فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله منه فقال له هدبة أأنت يا بن معمر الذي تقول
( بني عامرٍ أنَّى انتجعْتُم وكنتُم ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخُصْية الفرد )
أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر قال وكانت بنو عامر قد قلت فحالفت لإياد
قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني
فقالت أم هدبة فيه لما شخص إلى المدينة فحبس بها
( أيا إخوتي أهلَ المدينة أكرموا ... أسيركُمُ إن الأسيرَ كريمُ )
( فَرُبَّ كريمٍ قد قَرَاه وضافَه ... ورُبَّ أمورٍ كلُّهن عظيم )
( عَصَى جلُّهَا يوماً عليه فراضَه ... من القوم عَيّافٌ أشمُّ حليمُ )
فأرسل هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه فاستمع منهم ثم قال
( أبعد الذي بالنَّعف نعفِ كُويْكِبِ ... رهينةِ رمس ذي تُراب وجندَل )
( أُذكَّر بالبُقْيا على مَنْ أصابني ... وبُقْيَايَ أني جاهدٌ غيرُ مُؤْتلي )
فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال لم يؤئسني بعد فلما كانت السنة

الثالثة بلغ المسور فأرسل هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا ثم قام عنه مغضبا وأنشأ يقول
( سأُكذِب أَقواماً يقولون إنّني ... سآخذُ مالاً من دم أنا ثائرُهْ )
( فبِاسْتِ امرئٍ واسْتِ التي زَحَرت به ... يسوق سَواماً من أخٍ هو واترُهْ )
ونهض فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال الآن أيست منه وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة

لقاؤه الأخير بزوجته
قالوا فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته وكان يحبها إيتيني الليلة أستمتع بك وأودعك فأتته في اللباس والطيب فصارت إلى رجل قد طال حبسه وأنتنت في الحديد رائحته فحادثها وبكى وبكت ثم راودها عن نفسها وطاوعته فلما علاها سمعت قعقعة الحديد فاضطربت تحته فتنحى عنها وأنشأ يقول
( وأدْنَيْتِني حتى إذا ما جعلتِني ... لَدَى الخصْر أو أدنَى استقَلَّك راجفُ )
( فإن شئتُ والله انتهيتُ وَإنّني ... لئلا ترَيْني آخرَ الدهر خائفُ )
( رأت ساعدَيْ غُولٍ وتحت ثيابه ... جآجئ يدْمَى حدُّها وَالحراقفُ )
ثم قال الشعر حتى أتى عليه وهو طويل جدا وفيه يقول

( فلم تَرَ عيني مثلَ سربٍ رأيتُه ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ )
( تضمَّخْن في الجاديِّ حتى كأنَّما الأنوفُ ... إِذا استَعْرَضْتَهُنّ رَوَاعِف )
( خرجن بأَعناق الظباء وأعينُ الجآذرِ وَارتجَّت لهن السَّوالف )
( فلو أنّ شيْئاً صاد شيئا بطَرفه ... لصِدْن ظباء فوقهنَّ المطارفُ )
غنى فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش وفيه لحن خفيف ثقيل وذكر إسحاق أن فيه لحنا ليونس ولم يذكر طريقته في مجرده
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال
مر أبو الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شق أجوافها وقد خرج شحمها فبكى أبو الحارث ثم قال
تعس الذي يقول
( فلم تَرَ عيني مثلَ سِربٍ رأيته ... خرجن علينا من زُقاقِ ابنِ وَاقفِ )
وانتكس ولا انجبر والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف
وأحسب أن هذا الخبر مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف ولا بها سمك ولكن رويت ما روي

شعره في حبى امرأة مالك
وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال
مر بهدبة على حبى فقالت في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال هدبة
( تَعَجّبُ حُبَّى من أسير مُكبّلٍ ... صَليِبِ العَصَا باقٍ على الرّسَفَانِ )
( فلا تَعْجَبي مِنِّي حَليلَة مالكٍ ... كذلك يأْتي الدهرُ بالحدَثانِ )
وقال النوفلي عن أبيه
فلما مضي به من السجن للقتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء فقال
( أَقِلِّي عليّ اللَّومَ يا أُمّ بَوزَعا ... ولا تَجْزَعي ممّا أصَابَ فأَوجعا )
( ولا تْنكَحي إِن فرّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجهِ ليس بأنْزَعا )
( كَليلاً سوى ما كان من حَدّ ضِرْسه ... أُكَيْبِدَ مِبْطانَ العَشِيّاتِ أرْوَعا )
( ضَروباً بلَحييْه على عَظم زَوره ... إذا الناس هَشُّوا للفَعال تَقنَّعا )
( وحُلِّي بذي أُكرومة وحَمِيّةٍ ... وَصبْرٍ إذا ما الدهر عَضَّ فأَسرعا )
يذكر شرط زوجته في الزواج بعد موته
وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال
لما أخرج هدبة من السجن ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه فأدركه عبد الرحمن بن حسان فقال له يا هدبة

أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك يعني زوجته وهي تمشي خلفه فقال نعم إن كنت من شرطها قال وما شرطها قال قد قلت في ذلك
( فلاَ تنكَحِي إنْ فَرَّق الدهرُ بيننا ... أغَّم القفا والوجهِ ليس بأنزعا )
( وكُوني حَبِيساً أو لأروعَ ماجدٍ ... إذا ضَنَّ أعشاشُ الرّجال تَبرَّعا )
فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها وجاءته تدمى مجدوعة فقالت أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح قال فرسف في قيوده وقال الآن طاب الموت
وقال النوفلي عن أبيه
إنها فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له إن لهدبة عندي وديعة فأمهله حتى آتيه بها قال أسرعي فإن الناس قد كثروا وكان جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب وقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت يا هدبة أتراني متزوجة بعد ما ترى قال لا الآن طابت نفسي بعد بالموت ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فأقبل عليهما وقال
( أبلِياني اليومَ صبراً منكما ... إنّ حُزْناً إن بدا بادئُ شرَ )
( لا أُراني اليومَ إلا ميِّتاً ... إنّ بعدَ الموت دارَ المستَقَرّ )
( اصبِرَا اليوم فإني صابرٌ ... كلُّ حَيًّ لقَضاء وقَدرْ )

زوجته تنكث بعهدها
قال النوفلي فحدثني أبي قال حد
حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال إني لببلادنا يوما في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب من عجز وهيئة وتمام جسم وكمال قامة فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا فتقدمتها والتفت إليها فإذا هي أقبح منظر وإذا هي مجدوعة الأنف مقطوعة الشفتين فسألت عنها فقيل لي هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلا فأولدها هذين الصبيين
قال ابن قتيبة في حديثه
فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه قال أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء فقال له والله لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت بها من دم هذا الأجدع فلم يزل سعيد يسأله ويعرض عليه فيأبى ثم قال له والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله
( لنَجدَعَنّ بأيدينا أُنوفَكم ... ويذهبُ القتلُ فيما بيننا هَدَرا )
فدفعه حينئذ لقتله بأخيه
تعريضه بحبى في طريقه إلى الموت
قال حماد وقرأت على أبي عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال
ومر هدبة بحبى فقالت له كنت أعدك في الفتيان وقد زهدت فيك اليوم لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت لكن كيف تصبر عن

هذه فقال أما والله إن حبي لها لشديد وإن شئت لأصفن لك ذلك ووقف الناس معه فقال
( وَجِدت بها ما لم تَجِد أُمّ واحد ... ولا وجدُ حُبّى بابن أُمّ كِلابِ )
( رأَته طويل السّاعدين شمَرْدَلا ... كما تَشْتَهي من قوة وشباب )
فانقمعت داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه
قالوا فدفع إلى أخي زيادة ليقتله قال فاستأذن في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما ثم قال لأهله إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا ففعل ذلك حين قتل وقال قبل أن يقتل
( إن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلتُ أخاكم مُطْلقا لم يُقَيّدِ )
فقال عبد الرحمن أخو زيادة والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه فأطلق له فقام إليه وهز السيف ثم قال
( قد علِمتْ نفسِي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلَنَّ اليومَ من لا أَرحمُهْ )
ثم قتله
فقال حماد في روايته
ويقال إن الذي تولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف وقال له قم فاقتل قاتل أبيك فقام فضربه ضربتين قتله فيهما

هو أول من أقيد منه في الإسلام
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد فرأت على أبي قال
بلغني أن هدبة أول من أقيد منه في الإسلام
قال أحمد بن الحارث الخراز قال المدائني
مرت كاهنة بأم هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها فقالت يا هذه إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء بأمر
قالت وما هو قالت أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا وأما الواسع وسيحان فيموتان كمدا فكان كذلك
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أخبرك مروان بن أبي حفصة قال
كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه قال الخراز عن المدائني قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل
( يا هُدْبَ يا خيْرَ فتيان العشيرةِ مَنْ ... يُفجَعْ بمثلك في الدّنيا فقد فُجِعَا )
( الله يعلم أنّي لو خشيتهمُ ... أو أَوجسَ القلبُ من خوفٍ لهم فزعا )
( لم يقتلوه ولم أُسلِم أخي لهمُ ... حتى نَعيش جَمِيعاً أو نَمُوت معا )
وهذه الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ابن أبي طالب رضي عنهم لما بلغه قتل أخيه محمد

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال
حدثني مصعب الزبيري قال
كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب بها

كان جميل بن معمر راوية هدبة
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني محمد بن الحسن الأحول عن رواية من الكوفيين قالوا
كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة وكان هدبة راوية الحطيئة وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه
حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال حدثني أبو مصعب الزبيري قال حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال
بعث هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي يقول لها استغفري لي فقالت إن قتلت استغفرت لك
صوت
( أَلم تَرَ أنّي يومَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليَا )
( فقلتُ لها إنّ البكاء لراحةٌ ... به يشتفي مَنْ ظنّ أن لا تلاقيا )
( قِفي ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنَني ... أرى القوم قد شاموا العَقِيقَ اليمانيا )

ويروى أرى الركب قد شاموا
( إذا اغرورقت عَيناي أسبَلَ منهما ... إلى أن تغيب الشِّعْريان بكائيا )
الشعر للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها والغناء لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي قال الهشامي وفيه لمالك ثقيل أول وابتداء اللحنين جميعا
( ألم تر أني يوم جوّ سُوَيْقَة ... )
ولعلوية فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه
( قفي ودعينا يا هنيدَ فإنني ... )

نسب الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته
الفرزدق لقب غلب عليه وتفسيره الرغيف الضخم الذي يجففه النساء للفتوت وقيل بل هو القطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها الرغيف شبه وجهه بذلك لأنه كان غليظا جهما
واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بن تميم
قال أبو عبيدة اسم دارم بحر واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف
وسمي دارم دارما لأن قوما أتوا أباه مالكا في حمالة فقال له قم يا بحر فأتني بالخريطة يعني خريطة كان له فيها مال فحملها يدرم عنها ثقلا والدرمان تقارب الخطو فقال لهم جاءكم يدرم بها فسمي دارما وسمي أبوه مالك عرفا لجوده
وأم غالب ليلى بنت حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع
وكان للفرزدق أخ يقال له هميم ويلقب الأخطل ليست له نباهة فأعقب ابنا يقال له محمد فمات والفرزدق حي فرثاه وخبره يأتي بعد
وكان للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة هؤلاء المعروفون وكان له غيرهم فماتوا ولم يعرفوا
وكان له بنات خمس أو ست

وأم الفرزدق فيما ذكر أبو عبيدة لينة بنت قرظة الضبية

كان يقال لجده صعصعة محيي المؤودات
وكان يقال لصعصعة محيي الموءودات وذلك أنه كان مر برجل من قومه وهو يحفر بئرا وامرأته تبكي فقال لها صعصعة ما يبكيك قالت يريد أن يئد ابنتي هذه فقال له ما حملك على هذا قال الفقر
قال فإني أشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبانهما ولا تئد الصبية قال قد فعلت فأعطاه الناقتين وجملا كان تحته فحلا وقال في نفسه إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة موءودة وقيل أربعمائة
أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال قال صعصعة
خرجت باغيا ناقتين لي فارقتين والفارق التي تفرق إذا ضربها المخاض فتند على وجهها حتى تنتج فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم قال فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها فإذا حي بن بني أنمار من الهجيم بن عمرو بن تميم وإذا

أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها في مقدم بيته والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال
فسلمت فقال الشيخ من أنت فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال قال مرحبا بسيدنا ففيم أنت يا بن أخي فقلت في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي علي أثرهما فقال قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهل بيت من قومك وقد نتجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى وهما تانك في أدنى الإبل
قال قلت ففيم توقد نارك منذ الليلة قال أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال وتكلمت النساء فقلن قد جاء الولد فقال الشيخ إن كان غلاما فو الله ما ادري ما أصنع به وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها أي اقتلنها فقلت يا هذا ذرها فإنها ابنتك ورزقها على الله فقال اقتلنها فقلت أنشدك الله فقال إني أراك بها حفيا فاشترها مني فقلت إني أشتريها منك فقال ما تعطيني قلت أعطيك إحدى ناقتي قال لا قلت فأزيدك الأخرى فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن فقلت هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه قال قد فعلت فابتعتها منه بلقوحين وجمل وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين منه أو يدركها الموت فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فآليت ألا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل فبعث الله عز و جل محمدا عليه السلام وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا ولم يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل الله تحريمه في القرآن وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من شعره ومنها قصيدته التي أولها

( أبِي أحدُ الغَيْثيْن صعصعةُ الذي ... متى تُخْلفِ الجوزاءُ والدّلْوُ يُمْطِرِ )
( أجارَ بناتِ الوائدِينَ ومن يُجِرْ ... على الفقر يُعْلمْ أنه غيرُ مُخْفِر )
( على حينَ لا تحيا البناتُ وإذ هُمُ ... عكوف على الاصنام حول المدَوَّرِ )
المدور يعني الدوار الذي حول الصنم وهو طوافهم
( أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُه ... فما حسبٌ دافعتُ عنه بمُعْوِرِ )
( وفارقِ ليلٍ من نساء أتت أبي ... تُمارس ريحاً ليلُها غير مُقْمِر )
( فقالت أَجِرْ لي ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هزلَى الحَمولةِ مُقتِر )
( هِجفٌّ من العُثْو الرؤوس إذا بدت ... له ابنةُ عامٍ يحطم العظم منكر )
( رأى الأرضَ منها راحةً فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها إلى شرّ مخفر )
( فقال لها فِيئي فإني بذمتي ... لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّر )

إسلام أبيه على يد الرسول
ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة إلى النبي فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه وسأله هل له في ذلك من أجر قال نعم فأسلم وعمر غالب حتى لحق أمير المؤمنين

عليا صلوات الله عليه بالبصرة وأدخل إليه الفرزدق وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية
أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم بن محمد الخزاعي وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا حدثنا الرياشي قال حدثنا العلاء بن الفضل ابن عبد الملك بن أبي سوية قال حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري قال حدثني الطفيف بن عمرو الربعي عن ربيعة بن مالك بن حنظلة عن صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق قال
قدمت على النبي فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من القرآن فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر فقال وما عملت فقلت إني أضللت ناقتين لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض فقصدت قصدهما فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فقلت له هل أحسست من ناقتين عشراوين قال وما نارهما يعني السمة فقلت ميسم بني دارم فقال قد أصبت ناقتيك ونتجناهما وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت فقال وما ولدت إن كان غلاما فقد شركنا في قوتنا وإن كانت جارية فادفنوها فقالت هي جارية أفأئدها فقلت وما هذا المولود قالت بنت لي فقلت إني أشتريها منك فقال يا أخا بني نميم أتقول لي أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر فقلت إني لا أشتري منك رقبتها إنما أشتري دمها لئلا تقتلها
فقال وبم تشتريها فقلت بناقتي هاتين وولديهما
قال لا حتى تزيدني هذا البعير

الذي تركبه قلت نعم على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت إليك البعير ففعل فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي فقلت إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر يا رسول الله فقال عليه السلام هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام قال عباد ومصداق ذلك قول الفرزدق
( وجدِّي الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يُوأَدِ )
أخبرني محمد بن يحيى عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال
وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم وكان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية فقال للنبي أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك قال زدني قال احفظ ما بين لحييك وما بين رجليك
ثم قال له عليه السلام ما شيء بلغني عنك فعلته قال يا رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الوجه غير أني علمت أنهم ليسوا عليه ورأيتهم يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون وفديت من قدرت عليه
وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي إني حملت حمالات في الجاهلية

والإسلام وعلي منها ألف بعير فأديت من ذلك سبعمائة فقال له إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن الغدر فقال حسبي حسبي ووفى بها
وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب وقد وفد إليه في خلافته
وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه محمد بن يحيى له
( إذا المرء عادى من يودُّك صدرُه ... وكان لمن عاداك خِدْناً مُصافيَا )
( فلا تسأَلنْ عما لديه فإنّه ... هو الداءُ لا يخفى بذلك خافيا )

أبوه هو أعطى تميم وبكر
أخبرني محمد بن يحيى عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي عن عوانة قال
تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر نفرا ليسائلوهم فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم فاختار كل رجل منهم رجلا والذين اختيروا عمير بن السليك بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق فأتوا ابن السليك فسألوه مائة ناقة فقال من أنتم فانصرفوا عنه
ثم أتوا طلبة بن قيس فقال لهم مثل قول الشيباني فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم من هم فساروا بها ليلة ثم ردوها وأخذ صاحب غالب الرهن وفي ذلك يقول الفرزدق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45