كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

الوليد فقال بعضهم صَريعُ الغواني فقال العباس ذاك ينبغي أن يسمى صريع الغيلان لا صريع الغواني وبلغ ذلك مسلما فقال يهجوه
( بَنُو حَنِيفَةَ لا يَرْضَى الدّعيُّ بهم ... فاتُركْ حَنيفَةَ واطلُب غيرَها نَسَبَا )
( فاذهبْ فأنت طَلِيقُ الحِلْم مُرْتَهَنٌ ... بسَوْرة الجَهْلِ ما لم أَمْلِك الغَضَبَا )
( اذْهَبْ إلى عَرَبِ تَرْضَى بنِسْبَتهم ... إني أَرَى لَك خَلْقاً يُشبِهُ العَرَبا )
( مُنِّيتَ مِنّي وقد جَدّ الجِرَاءُ بنا ... بغَايةٍ مَنَعَتْك الفَوْتَ والطَّلَبَا )
أخبرني محمد بن يزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال قلت لمسلم بن الوليد ويحك أما استحييت من الناس حين تهجو خزيمة بن خازم ولا استحييت منا ونحن إخوانك وقد علمت أنا نتولاه وهو من تعرف فضلاً وجوداً فضحك وقال لي يا أبا إسحاق لغيرك الجهل أما تعلم أن الهجاء آخذ بضبع الشاعر وأجدي عليه من المديح المضرع وما ظلمت مع ذلك منهم أحداً وما مضى فلا سبيل إلى رده ولكن قد وهبت لك عرض خزيمة بعد هذا قال ثم أنشدني قوله في سعيد بن سلم
( دُيونُك لا يُقْضَى الزّمانَ غَرِيمُها ... وبُخْلُك بُخلُ البَاهِلِيِّ سَعِيدِ )
( سَعِيدُ بنُ سَلْم أبَخلُ الناس كُلِّهم ... وما قومُه من بُخله بِبَعيدِ )
فقلت له وسَعيدُ بنُ سَلْم صَديقي أيضاً فهبه لي فقال إن أَقبْلتَ على ما يَعنيك وإلا رَجعْت فيما وهبت لك من خزيمة فأمسكت عنه راضياً بالكفاف

يمدح محمد بن يزيد بن مزيد ثم الفضل بن يحيى
أخبرني جبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن محمد بن موسى بن عمر بن حمزة بن بزيع قال حدثني عبد الله بن الحسن اللهبي قال
كان مسلم بن الوليد مداحاً ليزيد بن مزيد وكان يؤثره ويقدمه ويجزل صلته فلما مات وفد على ابنه محمد فمدحه وعزاه عن أبيه وأقام ببابه أياماً فلم ير منه ما يحب فانصرف عنه وقال فيه
( لَبِستُ عَزاءً عن لِقاءِ محمدٍ ... وأعرضتُ عنه مُنْصِفاً وَوَدُوَدا )
( وقلتُ لِنَفْس قادَها الشّوقُ نحوَه ... فَعوَّضها منه اللِّقاءُ صُدُودَا )
( هَبِيبهِ امرأً قد كان أصفاكِ وُدَّه ... وماتَ وإلا فاحسُبيه يَزِيدَاً )
( لعَمْري لقد وَلَّى فلم ألْقَ بَعدَه ... وفاءً لذي عَهْدٍ يُعَدُّ حَمِيدَا )
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال
دخل مسلم بن الوليد يوماً على الفضل بن يحيى وقد كان أتاه خبر مسيره فجلس للشعراء فمدحوه وأثابهم ونظر في حوائج الناس فقضاها وتفرق الناس عنه وجلس للشرب ومسلم غير حاضر لذلك وإنما بلغه حين انقضى المجلس فجاءه فأدخل إليه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده وقوله فيه

( أتَتْكَ المَطَايا تَهْتَدِي بمَطِيَّة ... عليها فَتىً كالنَّصْل مُؤنِسُه النَّصْلُ )
يقول فيها
( وَرَدتُ رِواقَ الفَضْل آملُ فَضلَه ... فحَطَّ الثَّناءَ الجَزْلَ نائِلُه الجَزْلُ )
( فتىً تَرْتَعِي الآمالُ مُزنَةَ جُودِه ... إذا كان مَرْعَاهَا الأَمانِيُّ والمَطْلُ )
( تساقطُ يُمناه النَّدى وشِمالُه الرَّدَى ... وعُيون القَوْل مَنطِقُه الفَصْلُ )
( أَلحّ على الأيام يَفرِي خُطوبَها ... على مَنْهجٍ أَلْفى أباه به قبْلُ )
( أَنافَ به العلياءَ يَحْيِى وَخَالِدٌ ... فلَيس له مِثْلٌ ولا لَهُما مِثْلُ )
( فُروعٌ أصابت مَغْرِساً مُتَمَكِّناً ... وأَصْلاً فطابت حيث وجّهها الأَصلُ )
( بكفِّ أبي العَبّاس يُستَمطَر الغِنَى ... وتُستَنْزَل النُّعمى ويُسْتَرعَف النَّصلُ )
قال فطرب الفضل طربا شديداً وأمر بأن تعد الأبيات فعدت فكانت ثمانين بيتا فأمر له بثمانين ألف درهم وقال لولا أنها أكثر ما وصل به الشعراء لزدتك ولكنه شأوٌ لا يمكنني أن أتجاوزه يعني أن الرشيد رسمه لمروان ابن أبي حفصة وأمره بالجلوس معه والمقام عنده لمنادمته فأقام عنده وشرب معه وكانت على رأس الفضل وصيفة تسقيه كأنها لؤلؤة فلمح الفضل مسلماً ينظر إليها فقال قد وحياتي يا أبا الوليد أعجبتك فقل فيها أبياتاً حتى أهبها لك فقال
( إن كُنتِ تَسْقِين غيرَ الرَّاح فاسقِينِي ... كأْساً ألذّ بها من فِيكِ تَشْفِيني )

( عَيْناكِ راحِي ورَيْحاني حَدِيثُك لي ... ولَونُ خَدَّيْك لَونُ الوَرْد يَكْفِيني )
( إذا نَهانيَ عن شُرْب الطِّلاَ حَرَجٌ ... فخَمْرُ عَيْنَيْكِ يُغنِينِي ويَجْزِينِي )
( لولاَ علاماتُ شيبٍ لو أَتَت وَعَظت ... لقد صَحوتُ ولكِن سوف تَأْتِيني )
( أُرضِي الشَّبابَ فإن أهلِك فعن قَدَر ... وإن بَقيتُ فإن الشَّيبَ يُشقِيني )
فقال له خذها بورك لك فيها وأمر بتوجيهها مع بعض خدمها إليه

يتنسك بعد موت زوجته
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن إبراهيم قال
كانت لمسلم بن الوليد زوجة من أهله كانت تكفيه أمره وتسره فيما تليه له منه فماتت فجزع عليها جزعاً شديداً وتنسك مدة طويلة وعزم على ملازمة ذلك فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل فأَكلوا وقدموا الشاب فامتنع منه فسلم وأباه وأنشأ يقول
( بُكاءٌ وكَأسٌ كيف يَتَّفِقانِ ... سَبيلاهُما في القَلْب مُختَلِفانِ )
( دَعانِي وإفراطَ البُكاءِ فإنَّني ... أَرَى اليومَ فيه غَيْرَ ما تَرَيانِ )
( غَدَتْ والثَّرى أولَى بها من وَلِيّها ... إلى منزلٍ ناءٍ لعَيْنكَ دَانِ )
( فلا حُزْن حتى تَذِرِفَ العَيْنُ ماءها ... وتعترِفَ الأَحشاءُ للخَفَقَان )
( وكَيفَ بِدَفْع اليأسِ للوَجْدِ بعدَها ... وسَهْمَاهُما في القلب يَعْتَلِجان )
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال حدثني مالك بن إبراهيم قال
كان مسلم بن الوليد يهاجي الحكم بن قنبر المازني فغلب عليه ابن قنبر

مدة وأخرسه ثم أثاب مسلم بعد أن انخزل وأفحم فهتك ابن قنبر حتى كف عن مناقضته فكان يهرب منه فإذا لقيه مسلم قبض عليه وهجاه وأنشده ما قاله فيه فيمسك عن إجابته ثم جاءه ابن قنبر إلى منزله واعتذر إليه مما سلف وتحمل عليه بأهله وسأله الإمساك فوعده بذلك فقال فيه
( حَلُم ابنُ قَنْبَرَ حين أَقْصَر جهلُه ... هل كان يَحلُم شاعِرٌ عن شاعِرِ )
( ما أنتَ بالحَكَم الذي سُمِّيتَه ... غالتْك حِلْمَك هَفْوةٌ من قاهرِ )
( لو لا اعْتِذارُك لارْتَمى بك زاخِرٌ ... مَرِحُ العُبابَ يَفوتُ طرف النَّاظِرِ )
( لا تُرتِعَنْ لَحمِي لِسانَك بعدَها ... إنّي أخاف عليك شَفْرَةَ جَازِرِ )
( واستَغْنِم العَفوَ الذي أُوتِيتَه ... لا تأمنَنَّ عُقوبةً من قادِرِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن ا لقاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله أبو بكر العبدي قال
رأيت مسلم بن الوليد وابن قنبر في مسجد الرصافة في يوم جمعة وكل واحد منهما بإزاء صاحبه وكانا يتهاجيان فبدأ مسلم فقال
( أنا النَّار في أحجارها مُستكنَّةٌ ... فإن كنتَ ممن يقدحُ النّارَ فاقدحِ )
فأجابه ابن قنبر فقال
( قد كنتَ تَهوِي وما قوسى بمُوتَرة ... فكيف ظنُّك بي والقوسُ في الوَترِ )
قال فوثب إليه مسلم وتواخزا وتواثبا وحجز الناس بينهما فتفرقا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن عبيد الكوفي قال حدثني علي بن عمروس الأنصاري قال
جاء رجل من الأنصار ثم من الخزرج إلى مسلم بن الوليد فقال له ويلك

ما لنا ولك قد فضحتنا وأخزيتنا تعرضت لابن قنبر فهاجيته حتى إذا أمكنته من أعراضنا انخزلت عنه وأرعيته لحومنا فلا أنت سكت ووسعك ما وسع غيرك ولا أنت لما انتصرت انتصفت فقال له مسلم فما أصنع فأنا أصبر عليه فإن كف وإلا تحملت عليه بإخوانه فإن كف وإلا وكلته إلى بغيه ولنا شيخ يصوم الدهر ويقوم الليل فإن أقام على ما هو عليه سألته أن يسهر له ليلة يدعو الله عليه فيها فإنها تهلكه فقال له الأنصاري سخنت عينيك أو بهذا تنتصف ممن هجاك ثم قال له
( قد لاذ من خوفِ ابنِ قَنبر مُسلمٌ ... بدُعاء والِده مع الأسحارِ )
( ورأيتُ شرَّ وعيده أن يشتكي ... ما قد عراه إلى أخٍ أو جارِ )
( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ قد هتكْتَ حريمنَا ... وفضَحت أُسرتَنا بني النجارِ )
( عمَّمتَ خَزْرَجَنا ومَعشَر أوْسِنا ... خِزياً جَنيتَ به على الأنصارِ )
( فعليكَ من مولىً وناصرِ أُسرةٍ ... وعشيرةٍ غضَبُ الإِله البارِي )
قال فكاد مسلم أن يموت غماً وبكاء وقال له أنت شر علي من ابن قنبر ثم أثاب رحمي فهتك ابن قنبر ومزقه حتى تركه وتحمل عليه بابنه وأهله حتى أعفاه من المهاجاة
ونسخت هذا الخبر من كتاب جدي يحي بن محمد بن ثوابة بخطه قال
حدثني الحسن بن سعيد قال حدثني منصور بن جمهور قال
لما هجا ابن قنبر مسلم بن الوليد أمسك عنه مسلم بعد أن أشلى عليه لسانه قال فجاءه عم له فقال له يا هذا الرجل إنك عند الناس فوق ابن قنبر في عمود الشعر وقد بعث عليك لسانه ثم أمسكت عنه فإما أن قارعته أو سالمته فقال له مسلم إن لنا شيخاً وله مسجد يتهجد فيه وله بين ذلك

دعوات يدعو بهن ونحن نسأله أن يجعله من بعض دعواته فإنا نكفاه فأطرق الرجل ساعة ثم قال
( غلب ابنُ قَنبر واللئيمُ مُغلَّبٌ ... لما اتَّقيتَ هِجاءه بدُعاءِ )
( ما زال يقْذِف بالهِجاء ولذعِه ... حتى اتّقوه بدَعوة الآباء )
قال فقال له مسلم والله ما كان ابن قنبر يبلغ مني هذا كله فأمسك لسانك عني وتعرف خبره بعد هذا قال فأمسك لسانك عني وتعرف خبره بعد هذا قال فبعث والله عليه من لسان مسلم ما أسكته هكذا جاء في الأخبار
وقد حدثني بخبر مناقضته ابن قنبر جماعة ذكروا قصائدهما جميعا فوجدت في الشعر الفضل لابن قنبر عليه لأن له عدة قصائد لا نقائض لها يذكر فيها تعريده عن الجواب وقصائد يذكر فيها أن مسلماً فخر على قريش وعلى النبي بأشياء تبيح دمه فكف مسلم عن مناقضته خوفاً منها وجحد أشياء كان قالها فيه
فممن أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي قال
حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن الوليد مولى الأنصار وكان عالماً بشعر مسلم بن الوليد وأخباره قال

سبب المهاجاة بينه وبين ابن قنبر
كان سبب المهاجاة بين مسلم بن الوليد والحكم بن قنبر أن الطرماح بن

حكيم قد كان هجا بني تميم بقصيدته التي يقول فيها
( لا عَزّ نصرُ امرئٍ أضحَى له فرسُ ... على تميم يريد النصرَ من أَحدِ )
( إذا دعا بشعارِ الأزْدِ نَفَّرهم ... كما يُنفِّر صوتُ الليث بالنَّقَدِ )
( لو حانَ وِردُ تميم ثم قيل لهم ... حَوضُ الرسولِ عليه الأزدُ لم تَرِدِ )
( أو أنزل الله وحْياً أن يعذّبَها ... إن لم تَعُد لقتال الأَزد لم تَعُدِ )
وهي قصيدة طويلة وكان الفرزدق أجاب الطرماح عنها ثم إن ابن قنبر المازني قال بعد خبر طويل يرد على الطرماح
( يا عاوِياً هاج لَيْثاً بالعُواء له ... شَثْنَ البراثن وَرْدَ اللون ذا لِبَدِ )
( أيّ الموارد هابت جَمَّ غَمْرتِه ... بنو تميم على حال فلم تَرِدِ )
( ألم تَرِدْ يوم قَنْدَابِيل مُعلمَة ... بالخَيْل تَضْبِر نحو الأَزْد كالأُسُدِ )
( بفتيةٍ لم تنازعْهَا فتطبَعها ... بلؤمها طَيِّئٌ ثدياً ولم تلدِ )
( خاضت إلى الأزد بحراً ذا غوارب من ... سُمْرٍ طوالٍ وبحراً من قَناً قِصَدِ )
( فأوردَتْها مَناياها بِمُرْهَفَةٍ ... مُلسِ المضارب لم تُفْلَلْ ولم تَكَدِ )

وهي قصيدة طويلة وقد كان الطرماح قال أيضاً
( تميمٌ بطُرْقِ اللؤمِ أهدى منَ القَطَا ... ولو سلَكتْ طُرْقَ المكارمِ ضَلَّتِ )
( أرى الليلَ يجلوه النهارُ ولا أرى ... عظامَ المخازي عن تميم تَجَلَّتِ )
وقد كان الفرزدق أيضاً أجابه عنها فقال ابن قنبر ينقضها
( لَعمرُك ما ضلَّتْ تَميمٌ ولا جَرَتْ ... على إثر أَشْياخ عن المَجْد ضَلَّتِ )
( ولا جَبُنت بل أقدَمت يوم كسَّرت ... لها الأزدُ أغمادَ السُّيوفِ وسَلَّتِ )
( بغائط قنْدابِيل والموْتُ خائضٌ ... عليها بآجالٍ لها قد أظلَّت )
( فما بَرِحت تُسقَى كُؤوسَ حِمامِها ... إذا نَهِلتْ كرُّوا عليها فَعلَّتِ )
( إلى أن أبادَتْهم تَمِيمٌ وأكذبت ... أمانِيَّ للشَّيطان عنها اضمحلّتِ )
( وحانَ فِراقٌ منهمُ كُلَّ خَدْلة ... مُفارِقةٍ بَعلاً به قد تَمَلَّتِ ) وهي أيضاً طويلة قال فبلغ مسلم بن الوليد هجاء ابن قنبر للأزد وطيء ورده على الطرماح بعد موته فغضب من ذلك وقال ما المعنى في مناقضة رجل ميت وإثارة الشر بذكر القبائل لا سيما وقد أجابه الفرزدق عن قوله فأبى ابن قنبر إلا تماديا في مناقضته فقال مسلم قصيدته التي أولها
( آياتُ أطلالٍ برامةَ دُرَّسِ ... هِجْن الصَّبابةَ إذ ذكرْتُ مُعرَّسِي )
( أوحَتْ إلى دِرَرِ الدُّموع فأسْبَلت ... واستَفْهَمْتها غيرَ أنْ لَمْ تَنبسِ )

يقول فيها يصف الخمر
( صفراءَ من حَلب الكروم كسوتُها ... بيضاء من حَلب الغُيُوم البُجَّسِ )
( طارت ولاوَذَها الحَبَابُ فحَاكَها ... فكأن حِلْيَتها جَنِيُّ النَّرجِسِ )
ويقول فيها يصف السيوف
( وتُفارِقُ الأغمادَ تبدوُ تارةً ... حُمْراً وتَخفى تارة في الأرُؤُسِ )
( حَربٌ يكون وَقودُها أبناءَها ... لَقِحَتْ على عُقْرٍ ولمَّا تُنْفَسِ )
( من هاربٍ رَكِب النَّجاء ومُقعَصٍ ... جَثَمت منيتهُ على المُتنفَّسِ )
( غصَبْته أطرافُ الأسِنَّة نفسَه ... فَثوى فَريسةَوُلَّغٍ أو نُهَّسِ )
( إن كنتِ نازلةَ اليفاع فَنَكِّبِي ... دار الرِّباب وخَزْرِجي أو أوِّسِي )
( وتجنَّبي الجَعْراءَ إِنَّ سُيوفَهم حُدُثٌ وإن قناتَهم لم تَضْرَسِ )
( هل طَيِّءُ الأجبال شاكرةُ امرئٍ ... ذادَ القوافي عن حِماها مِردسِ )
( أحمِي أبا نفر عِظامَ حُفَيْرة ... دَرَسَتْ وباقي غَرْسِها لم يَدرُس )
( كافأتُ نِعْمتها بضِعْفِ بلائِها ... ثم انفردْتُ بمنْصِب لم يَدْنَس )
( وإذا افتخرتُ عددْتُ سَعيَ مآثر ... قَصَرت على الإِغضاء طَرْفَ الأشْوسِ )
( رَفَعت بَنُو النّجَار حِلْفي فيهمُ ... ثم انفردتُ فأفسَحُوا عن مَجلِسي )
( فاعقِلْ لسانَك عن شتائِم قومِنا ... لا يعلقنّك خادرٌ من مأنَسِ )

( أخلفْت فَخْرَك من أبيك وجِئْتَني ... بأبٍ جَدِيدٍ بعد طُول تَلمُّسِ )
( أخذَتْ عليه المحكَماتُ طريقَها ... فَغَدا يُهاجي أعظُماً في مَرْمَسِ )
قال فلم يُجبه ابن قنبر عن هذه بشيء ثم التقيا فتعاتبا واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه فقال مسلم يهجوه
( حَلُمَ ابنُ قَنْبر حين قَصَّر شِعرُه ... هل كان يَحلُمُ شاعرٌ عن شاعِرِ )

مسلم يهجو قريشا ويفخر بالأنصار
وقد مضت هذه الأبيات متقدما قال ومكث ابن قنبر حينا لا يجيبه عن هذا ولا عن غيره بشيء طلباً للكفاف ثم هجا مسلم قريشاً وفخر بالأنصار فقال
( قل لِمَن تاه إذ بِنا عَزَّ جهْلاً ... ليس بالتِّيه يفخَر الأحرارُ )
( فتناهَوْا وأقصِرُوا فلقد جارَت ... عن القَصْد فيكمُ الأنصارُ )
( أيُّكم حاطَ ذا جِوارٍ بعزٍّ ... قبل أنْ تَحتوِيه مِنَّا الدّارُ )
( أو رَجا أن يفوتَ قَوماً بِوتْرٍ ... لم تَزلْ تَمتطِيهمُ الأوتارُ )
( لم يَكُن ذاك فيكُمُ فدَعوا الفخْر ... بما لا يَسوغُ فيه افتِخارُ )
( ونِزاراً ففاخِرُوا تَفضلُوهم ... ودَعُوا مَنْ له عبيداً نِزارُ )
( فَبِنا عَزّ منكُم الذُّلُّ والدّهْرُ ... عليكم بريبةٍ كرَّارُ )
( حاذِرُوا دولةَ الزَّمان عليكمْ ... إنّه بين أهله أطْوارُ )
( فتُرَدُّوا ونحن للحالة الأُولى ... وللأَوْحد الأذلّ الصَّغارُ )

( فاخرتْنا لمّا بَسَطنا لها الفخرَ ... قريشٌ وفخرُها مُستَعارُ )
( ذكرتْ عِزَّها وما كان فيها ... قَبْل أن يَسْتَجيرَنامُستَجارُ )
( إنَّما كان عِزُّها في جبال ... تَرتَقِيها كما تَرقّى الوِبارُ )
( أيُّها الفاخِرُون بالعِزّ والعِزُّ ... لقَومٍ سِواهُمُ والفخارُ )
( أَخبِرونا مَنِ الأعزُّ أألَمْنصورُ ... حتى اعتلَى أم الأنصارُ )
( فَلَنَا العِزُّ قبل عِزّ قُريشٍ ... وقُريشٌ تِلك الدُّهور تِجارُ )
قال فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال
( ألا امثُلْ أميرَ المؤمنين بمُسلمِ ... وأَفلِق به الأحشاءَ من كل مُجرمِ )
( ولا ترجِعَنْ عن قَتْله باستِتابةٍ ... فما هو عن شَتْم النَّبي بمُحرِمِ )
( ولا عن مُساواةٍ له ولقوْمه ... قُريشٍ بأصداءٍ لِعادٍ وجُرْهُمِ )
( ويفخَر بالأنصار جَهْلاً على الذي ... بنُصرته فازوا بحظٍّ ومَغْنَمِ )
( وسُمُّوا به الأنصارَ لا عزَّ قائلٌ ... أرادَ قُريشاً بالمَقَالِ المُذمَّمِ )
( ومنهم رَسول الله أزكى مَنِ انتمَى ... إلى نَسب زاكٍ ومجْد مُقدَّمِ )
( وما كانَت الأنصار قبل اعْتصامِها ... بنَصْر قُريش في المحلِّ المُعظِّمِ )
( ولا بالأُلى يعلون أقدارَ قومِهم ... صُداء وخَولانٍ ولَخمٍ وسلْهَمِ )
( ولكنَّهم بالله عاذُوا ونَصرِهم ... قريشاً ومن يَسْتعصِم الله يُعصَم )
( فعزُّوا وقد كانوا وفُطيون فيهم ... من الذلّ في باب من العِزّ مُبْهمِ )

( يسومهم الفِطْيَوْن ما لا يُسامُه ... كريمٌ ومن لا يُنكر الظُّلم يُظلَمِ )
( وإنّ قُريشاً بالمآثر فُضِّلَتْ ... على الخلق طُرّاً من فَصِيح وأعجَمِ )
( فما بالُ هذا العِلْجِ ضلَّ ضلالُه ... يَمُدّ إليهم كفَّ أجذَم أعْسَمِ )
( يُسامي قُريشاً مُسلمٌ وهمُ هُم ... بِمولىً يَمانِيٍّ وبيتٍ مُهَدَّمِ )
( إذا قام فيه غيرهم لم يكُن له ... مقامٌ به من لُؤم مَبْنىً ومَدْعَمِ )
( جَعاسيسُ أشباهُ القُرود لو أنّهم ... يُباعون ما ابتِيعوا جميعاً بِدرْهمِ )
( وما مُسلمٌ من هؤلاء ولا أُلى ... ولكنَّه من نسْل عِلْجٍ مُلَكَّمِ )
( تولَّى زماناً غيرهم ثُمَّتَ ادَّعى ... إليهم فلم يَكرُم ولم يَتَكرَّمِ )
( فإن يَكُ منهم فالنَّضير ولِفُّهُم ... مواليه لا مَنْ يَدَّعي بالتَّزعُّمِ )
( وإن تدعُه الأنصارُ مولىً أَسمهم ... بقافيةٍ تَسْتكرِه الجِلْدَ بالدَّمِ )
( عِقاباً لهم في إفكهم وادّعائهم ... لأقلفَ منقوش الذراع مُوَشَّمِ )
( فلا تَدَّعوه وانتفوا منه تسْلموا ... بِنَفْيِكُمُوه من مَقامٍ ومأْثمِ )
( وإلا فغُضُّوا الطَّرْفَ وانتظروا الرَّدى ... إذا اختلفت فيكم صوارِدُ أسهُمِي )
( ولم تَجدوا منها مِجَنّاً يُجِنُّكم ... إذا طلعت من كُلّ فجٍّ ومَعْلَمِ )

وأنتُم بنو أذناب من أنتُمُ له ... ولستم بأبناء السَّنام المقدّمِ )
( ولا ببني الرأسِ الرفيعِ مَحلُّه ... فيسمو بكم مَولىً مُسَامٍ وينْتمي )
فكيفَ رضيتم أن يُسامَى نبيّكم ... بيتكُم الرَّثِّ القصيرِ المهدَّمِ )
( سأحطِم من سَامى النبيَّ تطاوُلاً ... عليه وأَكوِي مُنتماه بِمِيسَمِ )
( أَيُعدلُ بيتٌ يثربيٌّ بكعبةٍ ... ثوتها قُريشٌ في المكان المُحرَّمِ )
( قُريش خِيارُ الله واللهُ خصَّهم ... بذلك فاقْعَسْ أَيُّها العِلْجُ وارْغَمِ )
( ومَنْ يَدّعي منه الولاءَ مُؤخَّرٌ ... إذا قِيل للجَارِي إلى المجد أقدِمِ )
مسلم يهجو تميماً وابن قنبر يهجوه
قال وكان مسلم قال هذه القصيدة في قريش وكتمها فوقعت إلى ابن قنبر وأجابه عنها واستعلى عليه وهتكه وأغرى به السلطان فلم يكن عند مسلم في هذا جواب أكثر من الانتفاء منها ونسبتها إلى قنبر والادعاء عليه أنه ألصقها به ونسبها إليه ليعرضه للسلطان وخافه فقال ينتفي من هذه القصيدة ويهجو تميماً
( دعوتَ أميرَ المُؤمنين ولم تَكُن ... هُناك ولكن مَنْ يَخَفْ يَتَجشَّمِ )
( وإِنَّكَ إذ تَدْعُوا الخليفَةَ ناصِراً ... لكالمُتَرقِّي في السماء بسُلَّمِ )
( كذاكَ الصَّدَى تَدْعوه من حيث لا تَرى ... وإن تَتَوَهَّمْه تَمُتْ في التَّوهُّمِ )
( هجوتَ قُريْشاً عامداً ونحْلَتَنِي ... رُويدَك يَظهرْ ما تَقول فيُعْلَمِ )
( إذا كان مِثْلي في قَبيل فإنَّه ... على ابنَيْ لُؤيٍّ قُصْرَةً غير مُتْهِمِ )
( سيكْشِفُك التَّعدِيلُ عمَّا قَرفْتني ... به فتأخّرْ عارِفاً أو تَقَدَّمِ )
( فإنَّ قُريْشاً لا تُغَيِّر وُدَّها ... ولا يُسْتمالُ عهدُها بالتَّزعُّم )

( مضى سَلفٌ منهم وصلَّى بِعَقْبِهِم ... لنا سلف في الأوَّل المُتقدِّمِ )
( جَرَوْا فَجريْنا سابِقينَ بسَبْقهم ... كما اتَّبَعَتْ كفٌّ نواشرَ مِعْصَمِ )
( وإنَّ الذي يَسْعى ليقطَع بيننا ... كمُلتمِس اليربُوعِ في جُحر أرقَمِ )
( أَضلّك قَدْعُ الآبِدات طرِيقَها ... فأصبحتَ من عَميائِها في تَهَيُّمِ )
( وخانَتك عند الجري لمّا اتَّبَعْتَها ... تميمٌ فحاولتَ العُلا بالتَّقَحُّمِ )
( فأصبحت ترميني بسَهمي وتتَّقي ... يدِي بيدِي أُصلِيتَ نارَك فاضْرَمِ )
قال ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أولها
( قُل لعبدِ النَّضير مُسلمٍ الوغْدِ ... الدَّنيِّ اللئيم شيْخ النِّصابِ )
( أخسَ يا كلبُ إذ نبحتَ فإنّي ... لستُ ممن يجيبُ نبْحَ الكِلابِ )
( أفأرضَى ومنْصبِي مَنْصبُ العِزّ ... وبيتي في ذِرْوة الأحسابِ )
( أن أحطّ الرَّفيعَ من سَمْك بيْتي ... بمُهاجاة أوشَبِ الأوشَابِ )
( مَنْ إذا سِيل مَن أبُوه بَدا منه ... حياءٌ يَحمِيه رجْع الجوابِ )
( وإذا قيل حين يُقبِلُ من أنْتَ ... ومَنْ تعتزيه في الأنْسابِ )
( قلتَ هاجِي ابنِ قَنْبرٍ فتسربلتَ ... بذكرِي فخراً لَدَى النُّسَّابِ )
وهي قصيدة فلم يُجبه مسلم عنها بشيء فقال فيه ابن قنبر أيضاً

( لستُ أنفيك إنْ سِوايَ نَفَاكا ... عن أبيك الذي له مُنتماكَا )
( ولماذا أنفِيك يا بنَ وليدٍ ... من أبٍ إن ذكرتَه أَخزَاكَا )
( ولو أنِّي طلبتُ ألأمَ منه ... لم أَجِده إن لم تكن أنتَ ذاكا )
( لو سِواه أباك كان جَعَلنا ... إن الناسُ طاوعونا أباكا )
( حاك دهراً بِغَيْر حِذقٍ لبُرْد ... وتحوكُ الأشعار أنتَ كذاكا )
وهي طويلة فلم يجبه مسلم عنها بشيء فقال ابن قنبر أيضاً يهجوه
( فَخر العبدُ عبدُ قِنّ اليهودِ ... بضعيفٍ من فخره مَرْدودِ )
( فاخر الغُرَّ من قريش بإخْوان ... خنازير من يثربٍ والقُرودِ )
( يتولَّى بني النَّضير ويدعُو ... بهمُ الفخْرَ من مكان بَعيدِ )
( وبَنِي الأوسِ والخزارج أهْل الذّلّ ... في سالف الزّمان التَّليدِ )
( إذ رَضُوا بافتضاض فِطْيَوْن منهم ... كلّ بِكْرٍ ريَّا الروَّادفِ رُودِ )
( وبنو عمِّها شُهود لمَا يَفْعل ... فِطْيَوْن قُبِّحوا من شُهودِ )
( خَلْفَ باب الفِطْيَون والبَعلْ منهم ... لا بذي غَيرةِ ولا بنجِيدِ )
( فإذا ما قَضى اليهُوديّ منها ... نَحْبه قُنِّعوا بخِزْيِ جديدِ )
قال فلما أفحش في هذه القصيدة وفي عدة قصائد قالها ومسلم لا يجيبه مشى إليه قوم من مشيخة الأنصار واستعانوا بمشيخة من قراء تميم وذوي العلم والفضل منهم فمشوا معهم إليه فقالوا له ألا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك أنت بدأت الرجل فأجابك ثم عدت فكف وتجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض

الأنصار التي كان رسول الله يحميها ويذب عنها ويصونها لغير حال أحلت لك ذلك منهم فما زالوا يغطونه ويقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم فانقطعت

صوت
( ثلاثةٌ تُشرق الدُّنيا ببَهْجتهم ... شمسُ الضحى وأَبُو إسحاق والقمرُ )
( يحكِي أفاعيلَه في كلّ نائبةٍ ... الغيثُ والليثُ والصَّمصامةُ الذَّكَرُ )
الشعر لمحمد بن وهيب والغناء لعلويه ثقيل أول بالوسطى وفيه لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول آخر عن الهشامي

أخبار محمد بن وهيب
محمد بن وهيب الحميري صليبة شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية وأصله من البصرة وله أشعار كثيرة يذكرها فيها ويتشوقها ويصف إيطانه إياها ومنشأَه بها
وكان يستمنح الناس بشعره ويتكسب بالمديح ثم توسل إلى الحسن ابن سهل بالحسن بن رجاء بن أبي الضحاك ومدحه فأوصله إليه وسمع شعره فأعجب به واقتطعه إليه وأوصله إلى المأمون حتى مدحه وشفع له فأسنى جائزته ثم لم يزل منقطعاً إليه حتى مات وكان يتشيع وله مراث في أهل البيت
وهو متوسط من شعراء طبقته وفي شعره أشياء نادرة فاضلة وأشياء متكلفة
المعتصم يسمعه ويجيزه
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال زعم أبو محلم وأخبرني عمي عن علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم قال
اجتمع الشعراء على باب المعتصم فبعث إليهم محمد بن عبد الملك

الزيات أن أمير المؤمنين يقول لكم من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد
( خَليفَةَ الله إن الجُودَ أودِيَةٌ ... أحلَّك اللَّهُ منها حيث تجتمعُ )
( مَنْ لم يكن بأمين الله مُعتصِماً ... فليس بالصلوات الخمس ينتفعُ )
( إن أخلف القطرُ لم تُخلِف مخايله ... أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتَّسِعُ )
فليدخل وإلا فلينصرف فقام محمد بن وهيب فقال فينا من يقول مثله قال وأي شيء قلت فقال
( ثلاثةٌ تُشرِق الدنيا ببهجتهم ... شمسُ الضُّحى وأبو إسحاقَ والقمرُ )
( تحكي أفاعيلَه في كل نائبةٍ ... الغيثُ والليثُ والصَّمصامةُ الذّكرُ )
فأمر بإدخاله وأحسن جائزته
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان أبو موسى قال حدثني محمد بن وهيب الشاعر قال

لما تولى الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الجبل قلت فيه شعراً وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي وأبا سعد المخزومي وأبا تمام الطائي فاستحسنوا الشعر وقالوا هذا لعمري من الأشعار التي تلقى بها الملوك فخرجت إلى الجبل فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي
( أجارتَنا إنّ التّعفُّفَ بالياسِ ... وصَبْراً على استِدْرار دُنيا بإبْساسِ )
( حَرِيَّان ألاّ يقذِفا بمذلةٍ ... كريماً وألاّ يُحوِجاه إلى الناسِ )
( أجارتنا إنَّ القِداحَ كواذِبٌ ... وأكثرُ أسباب النَّجاح مع الياسِ )
فأمر حاجبه بإضافتي فأقمت بحضرته كلما دخلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى انصرم الصيف فقال لي يا محمد إن الشتاء عندنا علج فأعد يوماً للوداع فقلت خدمة الأمير أحب إلي فلما كاد الشتاء أن يشتد قال لي هذا أوان الوداع فأنشدني الثلاثة الأبيات فقد فهمت الشعر كله فلما أنشدته
( أجارتنَا إن القِداح كواذِبٌ ... وأكثرُ أسباب النَّجاح مع الياسِ )
قال صدقت ثم قال عدوا أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتاً فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم وكان فيما أنشدته في مقامي واستحسنه قولي

صوت
( دِماءُ المُحبِّين لا تُعقَلُ ... أما في الهوى حَكَمٌ يعدِلُ )

( تعبَّدني حَوَرُ الغانيات ... ودانَ الشبابُ له الأخطل )
( ونظرةِ عين تعلَّلتُها ... غِراراً كما ينظر الأَحولُ )
( مُقَسَّمةٍ بين وجه الحبيبِ ... وطرف الرقيبِ متى يغفَلُ )
في هذه الأبيات هزج طنبوري سمعته من جحظة فذكر أنه يراه للمسدود ولم يحقق صانعه
قال الأصبهاني وهذه الأبيات له في المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي
قال محمد بن وهيب وأهدي إلى الحسن بن رجاء غلام فأعجب به فكتبت إليه
( ليهنك الزائرُ الجديدُ ... جرى به الطائرُ السعيدُ )
( جاء مشوقٌ إلى مشوقٍ ... فذا وَدُودٌ وذا وَدودُ )
( يَومُ نَعيمٍ ويومُ لهوٍ ... خُصِصْتَ فيه بما تريدُ )
( إلفٌ مشوقٌ أتاه إلفٌ ... فمستفادٌ ومُستفيدُ )
حدثني أحمد بن عبد الله بن عمار بهذا الحديث عن يعقوب بن إسرائيل قرقارة عن محمد بن محمد بن مروان بن موسى عن محمد بن وهيب فذكر مثل الذي قبله وزاد فيه فلم يزل يستعيدني
( أجارتنا إن القِداح كواذبٌ ... وأكثر أسباب النّجاح مع الياسِ ) وأنا أعيده عليه فانصرفت من عنده بأكثر مما كنت أؤمل

أبو دلف يعجب به ويعظمه
حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب قال حدثني أبو هفان

قال حدثني خالي قال
كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى فدخل عليه محمد بن وهيب الشاعر فأعظمه جداً فلما انصرف قال له أخوه معقل يا أخي قد فعلت بهذا ما لم يستحقه ما هو في بيت من الشرف ولا في كمال من الأدب ولا بموضع من السلطان فقال بلى يا أخي إنه لحقيق بذلك أو لا يستحقه وهو القائل

صوت
( يَدُلُّ على أنني عاشقٌ ... من الدمع مُسْتَشْهَدٌ ناطِقُ )
( ولي مالكٌ أنا عبدٌ له ... مُقِرٌّ بأني له وامقُ )
( إذا ما سموتُ إلى وَصلِه ... تعرّض لي دونه عائقُ )
( وحاربني فيه ريبُ الزَّمان ... كأنَّ الزَّمان له عاشِقُ )
في هذه الأبيات رمل طنبوري أظنه لجحظة
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
لما قدم المطلب بن عبد الله بن مالك من الحج لقيه محمد بن وهيب مستقبلاً مع من تلقاه ودخل إليه مهنئاً بالسلامة بعد استقراره وعاد إليه في الثالثة فأنشده قصيدة طويلة مدحه بها يقول فيها

( وما زلت أسترعِي لك الله غائِباً ... وأُظهِرُ إشفاقاً عليك وأَكتُم )
( وأعلم أنَّ الجودَ ما غِبتَ غائبٌ ... وأنَّ النَّدى في حيث كُنتَ مُخَيِّم )
( إلى أن زجرتُ الطيرَ سعداً سوانحاً ... وحُمَّ لقاءٌ بالسُّعود ومَقْدَمُ )
( وظلَّ يُناجيني بمدْحِك خاطرٌ ... وليلِيَ ممدودٌ الرّواقين أدهمُ )
( وقال طواه الحجُّ فاخشعْ لفقده ... ولا عيشَ حتى يستهِلَّ المحرَّم )
( سيفخَر ما ضمّ الحطيمُ وزمزمٌ ... بمُطَّلبٍ لو أنه يتكلّمُ )
( وما خُلِقَتْ إلا من الجود كَفُّه ... على أنها والبأس خِدْنانِ توأَمُ )
( أعدْتَ إلى أكناف مكة بهْجةً ... خُزاعيَّةً كانت تُجِلّ وتُعظمُ )
( ليالي سُمَّارِ الحَجون إلى الصّفا ... خُزاعة إذ خلَّت لها البيتَ جُرهُمُ )
( ولو نطقت بَطحاؤُها وحَجونُها ... وخِيفُ مِنىً والمأزِمان وزمزمُ )

( إذا لدَعت أجزاءُ جسمك كلها ... تَنافسُ في أقسامه لو تُحَكَّمُ )
( ولو رُدَّ مخلوقٌ إلى بدءِ خلقه ... إذاً كنت جسماً بينهن تُقَسَّمُ )
( سَما بك منها كل خيْفٍ فأبطحٍ ... نَما بك منه الجوهرُ المتقدِّمُ )
( وحنَّ إليك الركنُ حتى كأنَّه ... وقد جئتَه خِلٌّ عليك مُسَلِّمُ )
قال فوصله صلة سنية وأهدى له هدية حسنة من طرف ما قدم به وحمله والله أعلم

يمدح الحسن بن سهل فيطربه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني الحسن بن الحسن بن رجاء عن أبيه وأهله قالوا
كان محمد بن وهيب الحميري لما قدم المأمون من خراسان مضاعاً مطرحاً إنما يتصدى للعامة وأوساط الكتاب والقوّاد بالمديح ويسترفدهم فيحظى باليسير فلما هدأت الأمور واستقرت واستوسقت جلس أبو محمد الحسن بن سهل يوماً منفرداً بأهله وخاصته وذوي مودته ومن يقرب من أنسه فتوسل إليه محمد بن وهيب بأبي حتى أوصله مع الشعراء فلما انتهى إليه القول استأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده قصيدته التي أولها
( ودائعُ أسرارٍ طَوتْها السرائرُ ... وباحت بمكتوماتِهنّ النّواظرُ )
( مَلكْتُ بها طيّ الضمير وتحته ... شَبَا لوعةٍ عضب الغِرارين باترُ )
( فأعجم عنها ناطقٌ وهو مُعرِبٌ ... وأعرَبت العُجمُ الجفونُ العواطِرُ )

( ألم تغذُني السّرّاءُ في رَيِّقِ الهوى ... غريراً بما تَجْنِي عليّ الدَّوائِرُ )
( تُسللني الأيّامُ في عُنفوانِه ... ويكَلؤُني طرْفٌ من الدهر ناظِرُ )
حتى انتهى إلى قوله
( إلى الحَسن الباني العُلا يَممَّتْ بنا ... عَوالِي المُنى حيثُ الحَيا المتظاهرُ )
( إلى الأملِ المبسُوطِ والأجلِ الذي ... بأعدائِه تكبُو الجدودُ العواثرُ )
( ومن أنبعت عينَ المكارمِ كفُّه ... يقوم مقام القَطْر والروضُ داثرُ )
( تعصَّب تاجَ الملكِ في عُنفوانِه ... وأطّت به عصْرَ الشَّباب المنابرُ )
( تُعظِّمُه الأوهامُ قبل عِيانه ... ويصدُر عنه الطَّرف والطَّرف حاسرُ )
( به تُجتَدَى النُّعمَى وتُستدرَك المُنى ... وتُستكمل الحُسنى وتُرعَى الأواصرُ )
( أصات بنا داعِي نوالِك مؤذِناً ... بجودك إلا أنه لا يُحاورُ )
( قسمْتَ صُروفَ الدهر بأساً ونائلاً ... فَمالُك موتورٌ وسيفُك واترُ )
( ولمّا رأى اللهُ الخلافَة قد وَهَتْ ... دعائمُها واللهُ بالأمر خابرُ )
( بَنَى بك أركاناً عليك مُحيطةً ... فأنت لها دون الحوادِثِ سائرُ )
( وأرعنَ فيه للسوابغ جُنَّةٌ ... وسقفَ سماءٍ أنشأتْه الحوافِرُ )
يعني أن على الدروع من الغبار ما قد غشيها فصار كالجنة لها
( لها فَلكٌ فيه الأسنَّةُ أنجمٌ ... ونقعُ المنايا مُستطيِرٌ وثائرُ )
( أجزْتَ قضاءَ الموتِ في مُهَج العِدا ... ضُحىً فاستباحتْها المنايا الغوادِرُ )

( لكَ اللّحظاتُ الكالِئاتُ قواصداً ... بنُعمَىوبالبَأساءِ وَهْي شَوَازِرُ )
( ولم لم تكن إلا بنَفسِك فاخراً ... لما انتسبتْ إلاَّ إليك المفاخرُ )
قال فطرب أبو محمد حتى نزل عن سريره إلى الأرض وقال أحسنت والله وأجملت ولو لم تقل قط ولا تقول في باقي دهرك غير هذا لما احتجت إلى القول وأمر له بخمسة آلاف دينار فأحضرت واقتطعه إلى نفسه فلم يزل في جنبته أيام ولايته وبعد ذلك إلى أن مات ما تصدى لغيره

يهجو علي بن هشام
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
كان محمد بن وهيب الحميري الشاعر قد مدح علي بن هشام وتردد إليه وإلى بابه دفعات فحجبه ولقيه يوماً فعرض له في طريقه وسلم عليه فلم يرفع إليه طرفه وكان فيه تيه شديد فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها فلما وصلت إليه خرّقها وقال أي شيء يريد هذا الثقيل السيء الأدب فقيل له ذلك فانصرف مغضباً وقال والله ما أردت ماله وإنما أردت التوسل بجاهه وسيغني الله جل وعز عنه أما والله ليذمن مغبة فعله وقال يهجوه
( أَزْرت بِجُودِ عليٍّ خِيفة العَدَم ... فصَدَّ مُنهزِماً عن شَأْوِ ذِي الهِمَمِ )
( لو كَانَ مِنْ فارسٍ في بَيْت مَكرُمةٍ ... أو كان من وَلَد الأملاك في العَجَمِ )
( أو كان أولَه أَهلُ البِطاح أو الرَّكبُ ... المُلَبُّونَ إهلالاً إلى الحَرَمِ )
( أيامَ تُتَّخذ الأصنامُ آلهةً ... فلا تَرَى عاكفاً إلا على صَنَمِ )
( لشجَّعَتْه على فعل المُلوك لهم ... طَبائِعٌ لم تَرُعْها خِيفَةُ العَدَمِ )
( لم تندَ كَفَّاك من بذْلِ النَّوال كما ... لم يندَ سَيْفُك مُذْ قُلِّدتَه بدَمِ )

( كُنْتَ امرأً رفعَتْه فِتْنَةٌ فَعلا ... أيامَها غادِراً بالعَهْد والذّمَمِ )
( حتى إذا انكشَفَت عَنَّا عِمايَتُها ... ورُتّبَ النّاسُ بالأحساب والقِدَم )
( مات التَّخلّقُ وارتّدّتك مُرتَجعَا ... طَبيعَة نَذْلَة الأخلاقِ وَالشِّيَمِ )
( كَذاكَ مَنْ كان لاَ رأْساً ولا ذَنَباً ... كَزّ اليَدَيْن حَدِيثَ العَهْدَ بالنِّعمِ )
( هَيهاتَ ليسَ بحمَّالِ الدِّيات ولا ... مُعطِي الجَزيل ولا المَرهُوب ذِي النِّقَمِ )
قال فحدثني بعض بني هاشم أن هذه الأبيات لما بلغت علي بن هشام ندم على ما كان منه وجزع لها وقال لعن الله اللجاج فإنه شر خلق تخلقه الناس ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال الله يعلم أني لا أدخل على الخليفة وعلي السيف إلا وأنا مستحٍ منه أذكر قول ابن وهيب في
( لم تَندَ كَفّاك من بَذْلِ النّوال كما ... لم يَنْدَ سَيْفُكَ مذ قُلِّدتَه بِدَمِ )
حدثني محمد بن يحي الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال من سمع ابن الأعرابي يقول
أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهيب
( لم تَندَ كَفّاك من بَذْل النوال كما ... لم يندَ سيفُكَ مذ قُلِّدتَه بِدَمِ )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن مرزوق البصري قال
حدثني محمد بن وهيب قال جلست بالبصرة إلى عطار فإذا أعرابيه سوداء قد جاءت فاشترت من العطار خلوقاً فقلت له تجدها اشترته لابنتها وما ابنتها

إلا خنفساء فالتفتت إلى متضاحكة ثم قالت لا والله لكن مهاة جيداء إن قامت فقناة وإن قعدت فحصاة وإن مشت فقطاة أسفلها كثيب وأعلاها قضيب لا كفتياتكم اللواتي تسمنونهن بالفتوت ثم انصرفت وهي تقول
( إن الفَتُوتَ للفَتاةِ مَضْرطََه ... يَكرُبها في البَطْن حتى تَثلطَه )
فلا أعلمني ذكرتها إلا أضحكني ذكرها
حدثني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أبو هفان قال
كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس يزيد بن هارون فلزمه عدة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لا يذكر شيئاً من فضائل علي عليه السلام فقال فيه ابن وهيب
( آتِي يزيدَ بنَ هَارونٍ أدالِجُه ... في كل يَوْمٍ وَمَالِي وابن هارونِ )
( فلَيتَ لي بِيَزيدٍ حين أَشهَدُه ... راحاً وقَصْفاً ونَدْماناً يُسَلِّيني )
( أَغدُو إلى عُصْبة صَمَّتْ مسامِعُهم ... عن الهُدَى بين زِنْدِيق ومأْفُونِ )
( لا يذكُرون عَلِيّاً في مَشاهِدِهم ... ولا بَنِيه بَني البيضِ المَيامِين )
( اللهُ يعْلَم أَني لا أُحِبُّهمُ ... كما هُمُ بِيَقِينٍ لا يُحِبُّوني )

( لو يَسْتَطيعون عن ذكريْ أبا حَسَن ... وفَضْله ... قَطَّعُوني بالسَّكَاكينِ )
( ولستُ أترُك تَفْضِيلي له أَبداً ... حَتى المَمَاتِ عَلَى رَغْم المَلاَعين )

مذهبه من شعره
أخبرني محمد بن خلف بن المزربان قال حدثني إسحاق بن محمد الكوفي قال حدثني محمد بن القاسم بن يوسف وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن القاسم قال حدثني إسحاق عن محمد بن القاسم بن يوسف قال
كان محمد بن وهيب يأتي أبي فقال له أبي يوماً إنك تأتينا وقد عرفت مذاهبنا فنحبُ أن تعرفنا مذهبك فنوافقك أو نخالفك فقال له في غد أبين لك أمري ومذهبي فلما كان من غدٍ كتب إليه
( أَيُّها السَّائلُ قد بيّنتُ ... إن كنتَ ذَكيَّا )
( أَحمدُ اللهَ كَثِيراً ... بأياديه عَلَيّا )
( شَاهِداً أن لا إله ... غيره ما دمتُ حَيّا )
( وَعَلَى أحمدَ بِالصِّدقِ ... رَسولاً وَنَبِيّا )
( وَمنحْتُ الوُدَّ قُرْباهُ ... وَوَاليتُ الوَصِيّا )
( وَأتانِي خَبرٌ مُطَّرحٌ ... لم يَكُ شَيَّا )
( أَنّ عَلَى غير اجْتِماع ... عَقَدُوا الأمر بَديَّا )
( فوقَفتُ القَوْم تَيْماً ... وَعَدِيّاً وَأُمَيَّا )
( غَيْر شَتَّامٍ وَلَكِني ... تولَّيتُ عَلِيّا )
حدثني جَحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
بلغ محمد بن وهيب أن دعبل بن علي قال أنا ابن قولي
( لا تَعْجَبي يا سَلْمُ من رَجُلٍ ... ضَحِك المَشِيبُ برأْسِه فَبكَى )

وإن أبا تمام قال أنا ابن قولي
( نَقِّل فؤادَك حَيْث شِئْتَ من الَهَوى ... ما الحب إلا للحَبِيب الأوّلِ )
فقال محمد بن وهيب وأنا ابن قولي
( ما لِمَن تَمَّت محاسِنُه ... أن يُعادِي طَرْفَ مَنْ رَمَقَا )
لك أن تُبدي لنا حَسَناً ... ولنا أَن نُعمِل الحَدَقَا )
قال أبو الفرج الأصبهاني وهذا من جيد شعره ونادره وأول هذه الأبيات قوله
( نَم فقد وكَّلتَ بي الأَرَقا ... لاهياً تُغرِي بمَنْ عَشِقا )
( إنما أبقيتَ من جَسَدي ... شَبَحاً غَيرَ الذي خُلِقاً )
( وَفَتىً نادَاك من كَثَبٍ ... أُسْعِرَت أَحشاؤُه حُرَقَا )
( غَرِقَت في الدَّمع مُقلتُه ... فدعا إنسانُها الغَرقَا )
( إنّما عاقَبتَ ناظِرَه ... أن أعاد اللَّحظَ مُسْتَرِقا )
( ما لِمَن تَمّت محاسنُه ... أن يُعادِي طَرْف من رَمَقَا )
( لك أن تُبدِي لنا حُسناً ... ولنا أن نُعمِل الحَدَقا )
( قدَحت كَفّاك زَنْدَ هَوىً ... في سَوادِ القَلْب فاحْتَرَقَا )
حدثني عمي قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن أبيه قال
دخل محمد بن وهيب على أحمد بن هشام يوماً وقد مدحه فرأى بين يديه

غلماناً روقة مردا وخدماً بيضاً فرها في نهاية الحسن والكمال والنظافة فدهش لما رأى وبقي متبلداً لا ينطق حرفاً فضحك أحمد منه وقال له ما لك ويحك تكلم بما تريد فقال
( قد كانت الأَصنامُ وَهي قدِيمَةٌ ... كُسِرَت وجَدَّعَهُنَّ إبراهيمُ )
( ولَديْك أصنامٌ سَلِمْنَ من الأذى ... وصَفَت لَهُنّ غَضَارةٌ ونَعِيمٌ )
( وبِنا إلى صَنَمٍ نَلُوذِ بِرُكْنِه ... فَقرٌ وأنت إذا هُزِزْتَ كريمُ )
فقال له اختر من شئت فاختار واحداً منهم فأعطاه إياه فقال يمدحه
( فَضَلتْ مَكارِمُه على الأقوامِ ... وعَلا فَحازَ مَكارِمَ الأيَّامِ )
( وعلَتْه أُبَّهَةُ الجَلال كأنَّه ... قَمَرٌ بدا لك من خِلال غَمامِ )
( إنَّ الأميرَ على البَرِيَّة كُلِّها ... بعد الخَليفة أحمدُ بنُ هشامِ )
وأخبرني جعفر بن قدامة في خبره الذي ذكرته آنفاً عنه عن الحسين بن الحسن بن رجاء عن أبيه قال
لما قدم المأمون لقيه أبو محمد الحسن بن سهل فدخلا جميعاً فعارضهما ابن وهيب وقال
( اليومَ جُدِّدَت النَّعماءُ والمِنَنُ ... فالحمد لله حَلَّ العُقدَةَ الزَّمنُ )
( اليومَ أظهَرتِ الدُّنيا محاسِنَها ... للِنَّاس لما الْتَقَى المأمونُ والحَسَنُ )
قال فلما جلسنا سأله المأمون عنه فقال هذا رجل من حمير شاعر مطبوع اتصل بي متوسلاً إلى أمير المِؤمنين وطالباً الوصول مع نظرائه فأمر

المأمون بإيصاله مع الشعراء فلما وقف بين يديه وأذن له في الإنشاد أنشده قوله
( طَلَلان طل عليهما الأمَدُ ... دَثَرا فلا عَلَمٌ ولا نَضَدُ )
( لَبِسَا البِلَى فكأنَّما وَجَدَا ... بعد الأحبّة مثلَ ما أَجِدُ )
( حُييِّتُما طَلَلين حالهُما ... بعد الأحبَّة غَيرُ ما عَهِدوا )
( إِمَّا طَوَاك سُلُوُّ غانِيَةٍ ... فهَواك لا مَلَلٌ ولا فَنَدُ )
( إن كنتِ صادِقةَ الهَوَى فرِدي ... في الحُبِّ مَنْهَليَ الذي أَرِدُ )
( أَدَمِي هَرقْتِ وأنتِ آمنة ... أم ليس لي عَقْلٌ ولا قَودُ )
( إن كُنتِ فُتِّ وخانني سَبَب ... فلربّما يُخْطىءُ مُجتهِدُ )
حتى انتهى إلى قوله في مدح المأمون
( يا خَيْرَ مُنتَسْبٍ لِمَكْرُمةٍ ... في المجد حيث تَبحْبَح العَدَدُ )
( في كل أُنمُلةٍ لراحَتِه ... نَوءٌ يَسُحُّ وعارِض حَشِدُ )
( وإذا القَنَا رَعَفَت أسِنَّتُه ... عَلَقَاً وصُمُّ كُعوبها قِصَدُ )
فكأنَّ ضوءَ جَبِينه قَمَرٌ ... وكأنَّه في صَولةٍ أَسَدُ )

( وكأنَّه رُوحٌ تُدَبِّرنا ... حَرَكاتُه وكأنَّنا جَسَدُ )
فاستحسنها المأمون وقال لأبي محمد احتكم له فقال أمير المؤمنين أولى بالحكم ولكن إن أذن لي في المسألة سألت له فأما الحكم فلا فقال سل فقال يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة فقال ذلك والله أردت وأمر بأن تعد أبيات قصيدته ويعطى لكل بيت ألف درهم فعدت فكانت خمسين فأعطي خمسين ألف درهم

من مدائحه للمأمون والمطلب بن عبد الله
قال الأصبهاني وله في المأمون والحسن بن سهل خاصة مدائح شريفة نادرة من عيونها قوله في المأمون في قصيدة أولها
( العُذرُ إن أَنصفتَ مُتَّضِحُ ... وشَهِيدُ حُبِّك أَدمعٌ سُفُحُ )
( فضَحَت ضَمِيرَك عن وَدائِعِه ... إنّ الجُفونَ نَواطِقٌ فُصُح )
( وإذا تكلمَّت العُيون على ... إعجامِها فالسٍّر مُفتضِحُ )
( رُبما أَبيتُ مُعانِقي قَمَرٌ ... للحُسْن فيه مخايل تَضِحُ )
( نَشَر الجمالُ على مَحاسِنه ... بِدَعَاً وأَذهَبَ هَمَّه الفَرحُ )
( يَخْتال في حُلَلِ الشّباب به ... مَرَحٌ ودَاؤُك أَنه مَرِحُ )
( ما زال يُلثِمُني مراشِفَه ... ويَعُلُّني الإِبريقُ والقَدَحُ )
( حتى استرَّد الَّليلُ خِلْعَتَه ... ونَشَا خِلالَ سَوادِه وَضَحُ )
( وَبَدا الصَّباحُ كأن غُرَّتَه ... وَجهُ الخَلِيفةِ حين يُمتَدَحُ )
يقول فيها
( نَشَرت بك الدُّنيا محاسِنَها ... وتَزَيَّنت بصفاتِكَ المِدَحُ )
( وكأَنَّ ما قد غابَ عنك له ... بإزاء طرفك عارِضاً شبحُ )

( وإذا سَلِمتَ فكلُّ حادِثَةٍ ... جلَلٌ فلا بُؤسٌ ولا تَرَحُ )
أخبرني هاشمُ بن محمد الخزاعيّ قال حدثني أهلُنا
أنّ محمد بن وهيب قصد المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي عم أبي وقد ولي الموصل وكان له صديقاً حفياً وكان كثير الرفد له والثواب على مدائحه فأنشده قوله فيه

صوت
( دِماءُ المُحبيِّين لا تُعقَل ... أَما في الهَوَى حاكِمٌ يَعدِلُ )
( تَعبَّدني حوَرُ الغَانِيات ... ودَانَ الشَّبابُ له الأَخطلُ )
( ونَظرةِ عين تَلافَيْتُها ... غِراراً كما يَنظُر الأَحولُ )
( مُقسَّمةِ بين وَجِه الحَبِيب ... وطَرْفِ الرَّقيب متى يَغَفُل )
( أَذمُّ على غرباتِ النَّوى ... إليك السُّلُوَّ ولا أَذهَلُ )
( وقالوا عَزاؤُك بعد الفِراق ... إذا حُمَّ مكروهُه أَجملُ )
( أَقِيدي دَماً سفَكَتْه العُيونُ ... بإيماضِ كحلاء لا تُكحَلُ )
( فكُلُّ سِهامِك لي مُقصِدٌ ... وكُلُّ مواقِعِها مَقْتَلُ )
( سلامٌ على المنزل المُسْتَحِيل ... وإن ضَنَّ بالمَنْطِق المنزِلُ )
( وعَضْب الضَّريبة يَلْقى الخُطوب ... بجِدّ عن الدّهر لا يَنْكِلُ )
( تَغلْغَل شَرْقاً إلى مَغرِبٍ ... فلمّا تبدّت له الموصِلُ )

( ثَوَى حيث لا يُستمال الأريب ... ولا يُوْلف الَّقِين الحُوّلُ )
( لَدى مَلِكٍ قابلْته السُّعودُ ... وجانَبَه الأنجُم الأُفَّلُ )
( لأيَّامه سَطَواتُ الزَّمان ... وإنعامُه حينَ لا مَوْئِلُ )
( سما مَالِكٌ بك للبَاهِرات ... وأوْحَدَكَ المَرْبأُ الأَطولُ )
( وليس بَعيداً بأن تَحْتَذِي ... مذاهِبَ آسادِها الأَشبُلُ )
قال فوصله وأحسن جائزته وأقام عنده مدة ثم استأذنه في الانصراف فلم يأذن له وزاد في ضيافته وجراياته وجدد له صلة فأقام عنده برهة أخرى ثم دخل عليه فأنشده
( أَلاَ هل إلى ظِلّ العَقِيق وأهلِه ... إلى قَصْر أوس فَالحزِير مَعادُ )
( وهل لي بأكنافِ المُصلّى فسفْحِه ... إلى السُّور مَغْدىً ناعمٌ ومُرادُ )
( فلم تُنسِني نهرَ الأُبُلَّةِ نِيَّةٌ ... ولا عَرَصاتِ المَرْبِدَيْن بِعادُ )

( هنالك لا تبْني الكواعِبُ خيمةً ... ولا تَتَهادى كَلْثَمٌ وسُعادُ )
( أَجِدّي لا أَلْقَى النوَى مُطْمَئِنَّةً ... ولا يَزْدَهِيني مَضجَعٌ وجِهادُ )
فقال له أبيت إلا الوطن والنّزاعَ إليه ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وأوقَر له زورقاً من طرف الموصل وأذن له
حدثني محمد بن يحي الصولي قال حدثني أبو عبد الله الماقطاني عن علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن سعيد بن وهيب قال
كان المأمون كثيراً ما يتمثل إذا كربه الأمر
( ألا رُبَّما ضَاقَ الفَضَاءُ بأهلِه ... وأَمكَن من بين الأسِنَّة مَخرَجُ )

قصيدته في ابن عباد
قال الأصبهاني وهذا الشعر لمحمد بن وهيب يقوله في ابن عباد وزير المأمون وكان له صديقاً فلما ولي الوزارة اطرحه لانقطاعه إلى الحسن بن سهل فقال فيه قصيدة أولها
( تكلَّمَ بالوحي البَنانُ المُخَضَّبُ ... ولله شكوى مُعجِمٍ كيف يُعرِبُ )
( أإيماءُ أطراف البنانِ وَوَجهُها ... أبانا له كيف الضَّمِيرُ المُغَيَّبُ )
( وقد كان حُسنُ الظَّنِّ أنجبَ مَرَّة ... فأَحْمَد عُقْبى أمرِه المتَعَقِّبُ )
( فلما تَدبَّرت الظُّنون مُراقِباً ... تَقَلُّبَ حالَيْها إذا هي تَكذِبُ )
( بدأتَ بإحسانٍ فلما شَكرتُه ... تَنكَرتَ لي حتى كأنِّيَ مُذنبُ )

( وَكلُّ فتىً يلقى الخطوبَ بعزمه ... له مذهبٌ عَمَّن له عنه مذهبٌ )
( وهل يصرع الحُبُّ الكرِيمَ وقلبُه ... عَلِيمٌ بما يأْتي وما يتجَنَّبُ )
( تأَنَّيْتُ حتى أوضح العِلمُ أنَّني ... مع الدهر يوما مُصعِدٌ ومَصُوِّبُ )
( وألحقتُ أعجازَ الأمور صُدورَها ... وَقَوَّمها غَمزُ القِداح المُقَلِّبُ )
( وأيقنتُ أن البأْسَ للعِرض صائنٌ ... وأن سوف أغضِي للقذى حين أرغبُ )
( أغادرتَني بين الظُّنون مُمَيّزاً ... شواكِلَ أمر بينهن مجرِّبُ )
( يُقرِّبني مَنْ كُنت أُصفِيك دونه ... بُودّي وتنأَى بي فلا أتقَرَّبُ )
( فللَّهِ حظِّي منك كيف أضاعَه ... سُلوُّك عنِّي وَالأمورُ تَقَلبُ )
( أبعدَك أستَسْقِي بوارِقَ مزنَةٍ ... وإن جاد هَطِّالٌ من المُزن هَيْدَبٌ )
( إذا ما رأيتُ البرقَ أغضَيْت دونَه ... وَقلت إذا ما لاح ذَا البرقُ خُلَّبُ )
( وإن سنحت لي فُرصَةٌ لم أُسامِها ... وَأَعرضتَ عنها خوف ما أترقَّبُ )
( تأَدَّبتُ عن حُسْن الرّجاء فلن أُرَى ... أعودُ له إن الزّمان مؤدِّبُ )
وقال له أيضاً
( هل الهَمُّ إِلا كُربةٌ تتفَرَّج ... لها مُعقِب تُحدَى إليه وَتُزْعَجُ )
( وَما الدَّهر إلا عائدٌ مِثْلُ سالِفٍ ... وما العَيْش إلا جُدّهُ ثم تَنْهَجُ )
( وَكيف أشِيمُ البَرقَ وَالبرْقُ خُلَّبٌ ... وَيُطْمِعُني رَيْعانُه المُتَبَلِّجُ )

( وَكيفَ أُدِيِم الصبرَ لا بي ضَراعةٌ ... ولا الرِّزقُ مَحْظورٌ وَلا أنا مُحرَجُ )
( ألا رُبَّما كان التّصَبُّرُ ذِلَّةً ... وَأدْنَى إلى الحال التي هي أَسْمَجُ )
( وَهَل يَحمِل الهَمَّ الفَتَى وَهْو ضامنٌ ... سُرى الليل رَحّالُ العَشيّات مُدلِجُ )
( وَلا صبرَ ما أعدى على الدَّهر مطلبٌ ... وَأَمكن إدلاجٌ وَاَصحر منهجُ )
( ألا رُبّما ضاق الفضاءُ بأهلِه ... وَأَمكن من بيْن الأسِنّة مَخْرجُ )
( وَقد يُركَبُ الخَطبُ الذي هو قاتِلٌ ... إذا لم يَكُن إلا عليْه مُعرَّجُ )

مدحه الأفشين
حدثني بعض أصحابنا عن أحمد بن أبي كامل قال
كان محمد بن وهيب تياهاً شديد الذهاب بنفسه فلما قدم الأفشين وقد قتل بابك مدحه بقصيدته التي أولها
( طُلولٌ ومَغانِيها ... تُناجِيها وَتَبْكِيها )
يقول فيها
( بَعثْتَ الخَيلَ وَالخَيرُ ... عَقِيدٌ في نَوَاصِيها )

وهي من جيد شعره فأنشدناها ثم قال ما لها عيب سوى أنها لا أخت لها
قال وأمر المعتصم للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلاثمائة ألف درهم جرت تفرقتها على يد ابن أبي داود فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفاً وأعطى أبا تمام عشرة آلاف درهم قال ابن أبي كامل فقلت لعلي بن يحي المنجم ألا تعجب من هذا الحظ يعطى أبو تمام عشرة آلاف وابن وهيب ثلاثين الفا وبينهما كما بين السماء والأرض فقال لذلك علة لا تعرفها كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان فلذلك وصل إلى هذه الحال
أخبرني محمد بن يحي الصولي قال حدثني ابو زكوان قال
حدثني من دخل إلى محمد بن وهيب يعوده وهو عليل قال فسألته عن خبره فتشكى ما به ثم قال
( نُفوسُ المَنَايا بالنُّفوس تَشعَّبُ ... وكُلٌّ له من مَذِهَب المَوت مَذْهَبُ )
( نُزاعُ لذِكر الموت ساعةَ ذِكْرِه ... وتَعتَرض الدُّنيا فنلْهُو ونلعَبُ )
( وآجالُنا في كلّ يَوْم وليلةٍ ... إلينا على غِرَّاتِنا تتقَرّبُ )
( أأيقَنَ أَنَّ الشيبَ يَنْعَى حياته ... مُدِرٌّلأَخْلافِ الخَطِيئةِ مُذنِبُ )
( يَقِينٌ كأنَّ الشَّكّ أغلبُ أمرِه ... عليه وعرفانٌ إلى الجهل يُنْسَبُ )

( وقد ذَمَّت الدُّنيا إليّ نَعيمَها ... وخَاطَبَني إعجامُها وهو مُعْرِبُ )
( ولكنَّني منها خُلِقتُ لغَيْرها ... وما كنتُ منه فهو عندي مُحبَّبُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مُهْرُويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال
كنا في مجلس ومعنا أبو يوسف الكندي وأحمد بن أبي فنن فتذاكرنا شعر محمد بن وهيب فطعن عليه ابن أبي فنن وقال هو متكلف حسود وإذا أنشد شعراً لنفسه قرظه ووصفه في نصف يوم وشكا أنه مظلوم منحوس الحظ وأنه لا تقصر به عن مراتب القدماء حال فإذا أنشد شعر غيره حسده وإن كان على نبيذ عربد عليه وإن كان صاحياً عاداه واعتقد فيه كل مكروه فقلت له كلاكما لي صديق وما أمتنع من وصفكما جميعاً بالتقدم وحسن الشعر فأخبرني عما أسألك عنه إخبار منصف أو يُعَدُّ متكلفاً من يقول
( أَبَى لِيَ إِغضاءَ الجُفونِ على القَذَى ... يَقِينيَ أن لا عُسْرَ إِلاَّ مُفرَّجُ )
( أَلا رُبَّما ضاق الفَضاءُ بأهلِه ... وأمكَن مِن بَيْن الأسِنَّةِ مَخرَجُ )
أو يعد متكلفاً من يقول
( رَأَتْ وَضَحاً من مَفْرِق الرأسِ راعها ... شَرِيحين مُبْيَضٌّ به وبَهيمُ )
فأمسك ابن أبي فنن واندفع الكندي فقال كان ابن وهيب ثنوياً
فقلت له من أين علمت ذاك أكلمك على مذهب الثنوية قط قال لا ولكني استدللت من شعره على مذهبه فقلت حيث يقول ماذا فقال حيث يقول
( طَلَلاَنِ طال عليهما الأمَدُ ... )
وحيث يقول

( تفتَرُّ عن سِمْطَيْنِ من ذَهب ... )
إلى غير ذلك مما يستعمله في شعره من ذكر الإثنين
فشغلني والله الضحك عن جوابه وقلت له يا أبا يوسف مثلك لا ينبغي أن يتكلم فيما لم ينفذ فيه علمه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه قال
سأل محمد بن وهيب محمد بن عبد الملك الزيات حاجة فأبطأ فيها فوقف عليه ثم قال له
( طُبِعَ الكَريمُ على وَفائِهْ ... وعَلَى التَّفضُّل في إخائِهْ )
( تُغنِي عِنَايَتُه الصدِي ... قَ عن التَّعرُّض لاقْتِضائِهْ )
( حَسْبُ الكَريِم حَياؤه ... فكِلِ الكَريمَ إلى حَيائِهْ )
فقال له حسبك فقد بلغت إلى ما أحببت والحاجة تسبقك إلى منزلك ووفى له بذلك

صوت
( ودِدْتُ على ما كان من سَرَف الهَوَى ... وغَيّ الأماني أَنّ ما شِئْتُ يُفَعلُ )
( فترجِعَ أَيَّام تَقَضَّت ولَذَّةٌ ... تولَّت وهل يُثْنَى مِن الدّهَر أوَّل )
الشعر لمزاحم العقيلي والغناء لمقاسمة بن ناصح خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي قال الهشامي وفيه لأحمد بن يحيى المكي رمل

أخبار مزاحم ونسبه
هو مزاحم بن عمرو بن الحارث بن مصرف بن الأعلم بن خويلد بن عوف ابن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن
وقيل مزاحم بن عمرو بن مرة بن الحارث بن مصرف بن الأعلم وهذا القول عندي أقرب إلى الصواب
بدوي شاعر فصيح إسلامي صاحب قصيد ورجز كان في زمن جرير والفرزدق وكان جرير يصفه ويقرظه ويقدمه
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق الموصلي قال
قال لي عمارة بن عقيل كان جرير يقول ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي

( وَدِدْتُ على ما كان من سَرَف الهَوَى ... وغَيّ الأماني أنّ ماشئتُ يُفعَلُ )
( فترجِع أَيَّامٌ مضَيْنَ وَلَذَّةٌ ... تَوَلَّت وهل يُثْنَى من العَيْش اَوّلُ )
قال المفضل قال إسحاق سرف الهوى خطؤه ومثله قول جرير
( أعطوْا هُنَيْدَة تحدُوها ثَمَانِيَة ... ما في عطائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفٌ )
أراد أنهم يحفظون مواضع الصنائع لا أنه وصفهم بالاقتصاد والتوسط في الجود
قال إسحاق وواعدني زياد الأعرابي موضعاً من المسجد فطلبته فيه فلم أجده فقلت له بعد ذلك طلبتك لموعدك فلم أجدك فقال أين طلبتني فقلت في موضع كذا وكذا فقال هناك والله سرفتك أي أخطأتك
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال
أنشدني حماد عن أبيه لمزاحم العقيلي قال وكان يستجيدها ويستحسنها
( لِصَفْرَاءَ في قَلْبي من الْحُبِّ شُعبَة ... حِمىً لم تُبِحْه الغانياتُ صَمِيمُ )
( بِها حلَّ بَيتُ الحُبِّ ثم ابتَنَى بها ... فبانَت بُيوتُ الحَيِّ وهو مُقِيمُ )
( بَكَت دارُهم من نَأْيهم فتهلَّلَت ... دموعي فأيَّ الجَازِعين ألُومُ )
( أُمُسْتَعْبِراً يبكِي من الحُزْن والجَوَى ... أم آخرُ يَبْكي شَجوه فَيَهيمُ )
( تَضمَّنه من حُبِّ صَفْراء بعد ما ... سلا هَيَضات الحب فهو كَليمُ )
( ومن يَتَهَيَّض حبُّهن فُؤادَه ... يَمُت أو يَعِش ما عاش وهو سَقِيمُ )
( كحَرَّان صادٍ ذِيدَ عن بَرْد مَشْربِ ... وعن بَلَلاتِ الرِّيق فَهُوْ يَحُومُ )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال

أخبرنا محمد بن حبيب عن ابن أبي الدنيا العقيلي قال ابن حبيب وهو صاحب الكسائي وأصحابنا قال
كان مزاحم العقيلي خطب ابنة عم له دنيةً فمنعه أهلها لإملاقه وقلة ماله وانتظروا بها رجلاً موسراً في قومها كأن يذكرها ولم يحقق وهو يومئذ غائب فبلغ ذلك مزاحماً من فعلهم فقال لعمه يا عم أتقطع رحمي وتختار علي غيري لفضل أباعر تجوزها وطفيف من الحظ تحظى به وقد علمت أني أقرب إليك من خاطبها الذي تريده وأفصح منه لساناً وأجود كفاً وأمنع جانباً وأغنى عن العشيرة فقال له لا عليك فإنها إليك صائرة وإنما أعلل أمها بهذا ثم يكون أمرها لك فوثق به وأقاموا مدة ثم ارتحلوا ومزاحم غائب وعاد الرجل الخاطب لها فذاكروه أمرها فرغب فيها فأنكحوه إياها فبلغ ذلك مزاحماً فأنشأ يقول
( نَزَلتُ بمُفْضَى سيلِ حَرْسَيْن والضُّحى ... يَسِيلُ بأطراف المخارم آلهُا )
( بمسقِيَّة الأجفان أنفَذ دَمعَها ... مُقاربةُ الأٌلاَّف ثُمَّ زِيالُها )
( فلما نَهاها اليأسُ أن تُونِس الحِمَى ... حِمَى البئِرِ جَلَّى عَبْرَة العَيْنِ جالُها )
( أياليلَ إن تَشْحَط بك الدارُ غُربَةً ... سوانا ويُعْيِي النَّفسَ فيك احتِيَالُها )
( فكَمْ ثم كَمْ من عَبْرة قد رَدَتها ... سَريعٍ على جَيْب القَميصِ انهِلالُها )

( خليليَّ هل من حِيلَة تَعْلَمَانها ... يُقرَّب من ليلى إلينا احتِيالُها )
( فإنَّ بأَعْلى الأخشَبَيْن أراكةً ... عَدَتنيَ عنها الحَرْب دانٍ ظِلالُها )
( وفي فَرْعها لو تُستَطاع جَنَابُها ... جنىً يجتَنِبيه المُجْتَنِي لو يَنَالُها )
( هنِيئاً لليْلَى مُهْجَةٌ ظَفِرت بها ... وتَزْوِيجُ لَيْلى حين حان ارتِحالُها )
( فقد حَبَسُوها مَحْبِس البُدْن وابتَغَى ... بها الرِبحَ أقوامٌ تَسَاخَف مَالُها )
( فإنّ مع الرَّكْبِ الذين تحمَّلُوا ... غمامة صَيْف زعزعَتْها شمالُها )
حُبس طويلاً ثم هرب من السجن
وقال محمد بن حبيب في خبره قال ابن الأعرابي
وقع بين مزاحم العقيلي وبين رجل من بني جعدة لحاء في ماء فتشاتما وتضاربا بعصيهما فشجه مزاحم شجة أمته فاستعدت بنو جعدة على مزاحم فحبس حبساً طويلاً ثم هرب من السجن فمكث في قومه مدة وعزل ذلك الوالي وولي غيره فسأله ابن عمّ لمزاحم يقال له مغلس أن يكتب أماناً لمزاحم فكتبه له وجاء مغلس والأمان معه فنفر مزاحم منه وظنها حيلة من السلطان فهرب وقال في ذلك
( أَتانِي بِقرطاس الأمير مُغَلِّسٌ ... فأفزعَ قِرطاسُ الأمير فُؤادِيَا )
( فَقلتُ له لا مَرحباً بك مرسلاً ... إليّ ولا لي من أميرك داعِيَا )

أليسَت جِبالُ القَهْر قُعساً مكانها ... وعَرْوى وأجبالَ الوَحَاف كما هِيا )
( أخاف ذُنُوبي أن تُعَدّ بِبابِه ... وما قد أزَلَّ الكاشِحونَ أمامِيَا )
( ولا أسْترِيم عُقْبَةَ الأمر بعدما ... تورَّط في بهماء كَعْبي وساقيا )
أخبرني محمد بن مزْيد وأحمد بن جعفر جحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان مزاحم العقيلي يهوى امرأة من قومه يقال لها مية فتزوجت رجلاً كان أقرب إليها من مزاحم فمر عليها بعد أن دخل بها زوجها فوقف عليها ثم قال
( أيَا شَفَتيْ مَيٍّ أما من شَريعةٍ ... من الموت إلا أنتما تُورِدَانِيَا )
( ويا شَفَتيْ ميٍّ أمالِي إليكما ... سبيلٌ وهذا الموت قد حَلَّ دانيا )
( ويا شَفَتَيْ مَيٍّ أما تَبذُلان لي ... بشيء وإن أعطَيت أهلي وماليا )
فقالت أعزز علي يا بن عم بأن تسأل ما لا سبيل إليه وهذا أمر قد حيل

دونه فاله عنه فانصرف
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال
حدثني عمارة بن عقيل قال قال لي أبي قال عبد الملك بن مروان لجرير يا أبا حَرْزة هل تحب أن يكون لك بشيء من شعرك شيء من شعر غيرك قال لا ما أحب ذلك إلا أن غلاماً ينزل الرّوضات من بلاد بني عقيل يقال له مزاحم العقيلي يقول حسناً من الشعر لا يقدر أحد أن يقول مثله كنت أحب أن يكون لي بعض شعره مقايضة ببعض شعري
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال
كان مزاحم العقيلي يهوى امرأةً من قومه يقال لها ليلى فغاب غيبة عن بلاده ثم عاد وقد زوجت فقال في ذلك
( أتانِي بظَهْر الغَيْب أن قد تَزَوَّجَت ... فظلَّت بيَ الأرضُ الفضاءُ تدُورُ )
( وزايَلَني لُبِّي وقد كان حاضِراً ... وكاد جَنانِي عند ذاك يَطِيرُ )
( فَقلت وقد أيقنْتُ أن ليس بَيْنَنا ... تَلاقٍ وعَيْني بالدموع تمورُ )
( أيا سُرعةَ الأخبارِ حين تَزَوَّجتْ ... فهل يأتِيَنِّي بالطَّلاق بَشِيرُ )
( ولستُ بمُحْصٍ حُبَّ ليلى لسائلٍ ... من النَّاس إلا أن أقول كَثِيرُ )

صوت
لها في سَوادِ القَلْبِ تِسعةُ أَسْهُمٍ ... وللناس طُرّاً مِن هَوَاي عَشِيرُ )

قال ابن الكلبي ومن الناس من يزعم أن ليلى هذه التي يهواها مزاحم العقيلي هي التي كان يهواها المجنون وأنهما اجتمعا هو ومزاحم في حبها
قال الأصبهاني وقد أخبرني بشرح هذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
كان مزاحم بن مرة العقيلي يهوى امرأة من قشير يقال لها ليلى بنت موازر ويتحدث إليها مدة حتى شاع أمرهما وتحدثت جواري الحي به فنهاه أهلها عنها وكانوا متجاورين وشكوه إلى الأشياخ من قومه فنهوه واشتدوا عليه فكان يتفلت إليها في أوقات الغفلات فيتحدثان ويتشاكيان ثم انتجعت بنو قشير في ربيع لهم ناحية غير تلك قد نضرها غيث وأخصبها فبعد عليه خبرها واشتاقها فكان يسأل عنها كل وارد ويرسل إليها بالسلام مع كل صادر حتى ورد عليه يوماً راكب من قومها فسأله عنها فأخبره أنها خطبت فزوجت فوجم طويلاً ثم أجهش باكياً وقال
( أتاني بظَهْر الغَيْب أن قد تَزَوَّجت ... فظلَّت بي الأرضُ الفَضاء تَدورُ )
وذكر الأبيات الماضية
وقد أنشدني هذه القصيدة لمزاحم ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه فأتى بهذه الأبيات وزاد فيها

( وتُنشَر نفسي بعد مَوْتي بِذِكْرها ... مراراً فموتٌ مرَّة ونُشورٌ )
( عَجَجْت لربي عَجَّة ما مَلَكتُها ... وربّي بذِي الَّشوْق الحزينِ بَصِيرُ )
( ليرحم ما أَلقَى ويعلمَ أنّنِي ... له بالذي يُسدِي إليَّ شَكورٌ )
( لئن كان يُهدي بردُ أنيابها العُلاَ ... لأحْوجَ مِنِّي إنِّنِي لَفَقيرُ )

مكانته عند الشعراء
حدثني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال قال أبو عدنان
أخبرنا تميم بن رافع قال حدثت أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان أو بعض بنيه فقال له يا فرزدق أتعرف أحداُ أشعر منك قال لا إلا غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه فلم يلبث أن جاءه ذو الرمة فقال له أنت أشعر الناس قال لا ولكن غلام من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الروضات يقول وحشياً من الشعر لا يقدر على مثله فقال فأنشدني بعض ما تحفظ من ذلك فأنشده قوله
( خلِيلَيَّ عُوجَا بِي على الدار نَسْألِ ... مَتَى عهدُها بالظاَّعِن المُتَرحِّلِ )
( فعُجتُ وعاجوا فوق بَيْداء موَّرت ... بها الريح جولان الترابِ المُنَخَّلِ )
حتى أتى على آخرها ثم قال ما أعرف أحداُ يقول قولاً يواصل هذا

صوت
( أُكذِّب طَرْفي عنكِ فِي كُلِّ ما أرى ... أُسمِع أُذْنِي منك ما ليس تَسْمَعُ )
( فلا كَبِدي تَبلَى ولا لكِ رَحمةٌ ... ولا عنك إقصارٌ ولا فيك مَطْمَعُ )
( لقِيتُ أموراً فيك لم ألقَ مِثْلَها ... وأعظمُ منها فيك ما أَتوقعُ )
( فلا تسأَليني في هواكِ زِيادةً ... فأيسرُه يُجزِي وأدناه يُقنِعُ )
والشعر لبكر بن النطاح والغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي

أخبار بكر بن النطاح ونسبه
بكر بن النطاح الحنفي يكنى أبا وائل هكذا أخبرنا وكيع عن عبد الله بن شبيب وذكر غيره أنه عجلي من بني سعد بن عجل واحتج من ذكر أنه عجلي بقوله
( فإن يَكُ جَدَّ القومِ فِهْرُ بن مالِك ... فجَدِّيَ عِجْلٌ قَرْم بَكْرِ بن وَاِئلِ )
وأنكر ذلك من زعم أنه حنفي وقال بل قال
( فَجدِّي لُجَيْمٌ قَرْمُ بَكْر بنِ وائلِ ... )
وعجل بن لجيم وحنيفة بن لجيم أخوان
وكان بكر بن النطاح صعلوكاً يصيب الطريق ثم أقصر عن ذلك فجعله أبو دلف من الجند وجعل له رزقاً سلطانياً وكان شجاعاً بطلاً فارساً شاعراً حسن الشعر والتصرف فيه كثير الوصف لنفسه بالشجاعة والإقدام
قصته مع أبي دلف والرشيد
فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال

قال بكر بن النطاح الحنفي قصيدته التي يقول فيها
( هنيئاً لإخواني ببَغذاد عِيدهُم ... وعِيدِي بُحلوانٍ قِراعُ الكَتائِبِ )
وأنشدها أبا دلف فقال له إنك لتكثر الوصف لنفسك بالشجاعة وما رأيت لذلك عندك أثراً قط ولا فيك فقال له أيها الأمير وأي غناء يكون عند الرجل الحاسر الأعْزل فقال أعطوه فرساً وسيفاً وترساً ودرعاً ورمحاً فأعطوه ذلك أجمع فأخذه وركب الفرس وخرج على وجهه فلقيه مال لأبي دلف يحمل من بعض ضياعه فأخذه وخرج جماعة من غلمانه فمانعوه عنه فجرحهم جميعاً وقطعهم وانهزموا وسار بالمال فلم ينزل إلا على عشرين فرسخاً فلما اتصل خبره بأبي دلف قال نحن جنينا على أنفسنا وقد كنا أغنياء عن إهاجة أبي وائل ثم كتب إليه بالأمان وسوغه المال وكتب إليه صر إلينا فلا ذنب لك لأنا نحن كنا سبب فعلك بتحريكنا إياك وترحيضنا فرجع ولم يزل معه يمتدحه حتى مات
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني الحسن ابن إسماعيل عن ابن الحفصي قال قال يزيد بن مزيد
وجه إلي الرشيد في وقت يرتاب فيه البرىء فلما مثلت بين يديه قال يا يزيد من الذي يقول
( ومن يَفْتَقِر مِنَّا يَعِيْش بحُسامِه ... ومَن يَفْتَقِر مِن سائر النّاسِ يَسْألِ )

فقلت له والذي شرفك وأكرمك بالخلافة ما أعرفه قال فمن الذي يقول
( وإن يَكُ جَدُّ القَوْم فِهْرَ بن مَالِك ... فجدِّي لُجَيْمٌ قَرْمٌ بَكْر بن وائِلِ )
قلت لا والذي أكرمك وشرفك يا أمير المؤمنين ما أعرفه قال والذي كرمني وشرفني إنك لتعرفه أتظن يا يزيد أني إذا أوطأتك بساطي وشرفتك بصنيعتي أني أحتملك على هذا أو تظن أني لا أراعي أمورك وأتقصاها وتحسب أنه يخفى علىّ شيء منها والله إن عيوني لعليك في خلواتك ومشاهدك هذا جلف من أجلاف ربيعة عدا طوره وألحق قريشاً بربيعة فأتني به فانصرفت وسألت عن قائل الشعر فقيل لي هو بكر بن النطاح وكان أحد أصحابي فدعوته وأعلمته ما كان من الرشيد فأمرت له بألفي درهم وأسقطت اسمه من الديوان وأمرته ألا يظهر ما دام الرشيد حياً فما ظهر حتى مات الرشيد فلما مات ظهر فألحقت اسمه وزدت في عطائه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن حمزة العلوي قال حدثني أبو غسان دماذ قال
حضرت بكر بن النطاح الحنفي في منزل بعض الحنفيين وكانت للحنفي جارية يقال لها رامشنة فقال فيها بكر بن النطاح
( حيَّتكْ بالرَاَّمِشْن رامِشْنَةٌ ... أحسنُ من رامِشْنَة الآسِ )
( جارِيةٌ لم يُقْتَسَم بُضْعُها ... ولم تَبِتْ في بَيْت نَخَّاسِ )

( أفسدت إنساناً عَلَى أهلِه ... يا مُفْسْدَ النّاسِ على النّاسِ )
وقال فيها
( أُكذِّب طَرْفي عنكِ والطَّرْف صادِقٌ ... وأْسمِعُ أُذْنِي منكِ ما لَيْس تَسْمَعُ )
( ولم أسكُن الأرضَ التي تَسْكُنِينها ... لكي لا يقولوا صابرٌ ليس يَجْزَعُ )
( فلا كَبِدي تَبْلَى ولا لَكِ رَحْمَة ... ولا عَنْكِ إقصارٌ ولا فيكِ مطْمَعُ )
( لَقِيتُ أُموراً فيكِ لم ألقَ مِثلَها ... وأعظَمُ منها منكِ ما أتوقَّعُ )
( فلا تَسْألِيني في هَوَاكِ زيادة ... فأيْسَرُه يُجْزِي وأَدناه يُقْنِعُ )

المأمون يعطي رأيه بشعره وسلوكه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن علي ابن الصباح وأظنه مرسلاً وأن بينه وبينه ابن أبي سعد أو غيره لأنه لم يسمع من علي بن الصباح قال حدثني أبو الحسين الرواية قال لي المأمون
أنشدني أشجع بيت وأعفه وأكرمه من شعر المحدثين فأنشدته
( ومن يَفْتَقِر منّا يَعِشْ بحُسَامه ... ومن يَفْتَقِرْ من سائِرِ النَّاسِ يسْالِ )
( وإنّا لنَلهُو بالسُّيوف كما لَهَت ... عَروسٌ بعِقدٍ أوسخِابِ قَرَنْفُلِ )
فقال ويحك من يقول هذا فقلت بكر بن النطاح فقال أحسن والله ولكنه قد كذب في وقوله فما باله يسأل أبا دلف ويمتدحه وينتجعه هلا أكل خبزه بسيفه كما قال
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو الحسن الكسكري قال

بلغني أن أبا دلف لحق أكراداً قطعوا الطريق في عمله وقد أردف منهم فارس رفيقاً له خلفه فطعنهما جميعاً فأنفذهما فتحدث الناس بأنه نظم بطعنة واحدة فارسين على فرس فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النطاح فأنشده

صوت
( قالوا ويَنْظِم فارسَيْن بطَعْنَةٍ ... يوم الِّلقاء ولا يَراهُ جَليلاً )
( لا تَعْجَبوا فَلَو أنّ طُولَ قَناتِه ... ميلٌ إذاً نَظَم الفوارسَ ميلاً )
قال فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف درهم فقال بكر فيه
( له راحةٌ لو أن مِعْشار جُودهِا ... على البَرّكان البَرُّ أندى من البَحْرِ )
( ولو أنّ خَلْقَ الله في جِسْم فارِس ... وبارزَه كان الخليَّ من العُمْر )
( أبا دُلَف بُورِكْتَ في كل بَلْدةٍ ... كما بُورِكَتْ في شهْرها لَيلةُ القَدْرِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وعيسى بن الحسين قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو زائدة قال
كان بكر بن النطاح الحنفي يتعشق غلاماً نصرانياً ويجن به وفيه يقول
( يا مَنْ إذا دَرَس الإنْجِيلَ كان له ... قَلْبُ التَّقِيِّ عن القُرآن مُنْصَرَفا )
( إنِّي رأَيتُك في نومي تُعانِقُنِي ... كما تُعانِق لامُ الكاتِب الألِفا )
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال
كان بكر بن النطاح يأتي أبا دلف في كل سنة فيقول له إلى جنب أرضي أرض تباع وليس يحضرني ثمنها فيأمر له بخمسة آلاف درهم ويعطيه ألفاً لنفقته

فجاءه في بعض السنين فقال له مثل ذلك فقال له أبو دلف ما تفنى هذه الأرضون التي إلى جانب ضيعتك فغضب وانصرف عنه وقال
( يا نفسُ لا تجزَعي من التّلَفِ ... فإن في الله أعظمَ الخَلَفِ )
( إن تَقْنَعي باليَسِيرِ تَغْتَبِطي ... ويُغْنِكِ الله عن أبي دُلَفِ )
قال وكان بَكْر بنُ النَطاح يأتي قرةَّ بنَ مُحرِز الحنفيّ بكْرمان فيعطيه عشرة آلاف درهم ويُجري عليه في كل شهر يقيم عنده ألف درهم فاجتاز به قرة يوماً وهو ملازم في السوق وغرماؤه يطالبونه بدين فقال له ويحك أما يكفيك ما أعطيك حتى تستدين وتلازم في السوق فغضب عليه وانصرف عنه وأنشأ يقول
( ألا يا قُرّ لاتَكُ سَامرِيّاً ... فتَتْرك َمَنْ يَزُورك في جِهادِ )
( أتعْجب أنْ رأيتَ عليَّ دَيْناً ... وقد أودَى الطّرِيفُ مع التِّلادِ )
( ملأتُ يَدِي منَ الدُّنيا مِراراً ... فما طَمِعَ العَوَاذِلُ في اقْتِصادي )
( ولا وَجَبت عليَّ زَكاةُ مالٍ ... وهل تَجِبُ الزّكاةُ على جَوَادِ )
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كنت يوماً عند علي بن هشام وعنده جماعة فيهم عمارة بن عقيل فحدثته أن بكر بن النطاح دخل إلى أبي دلف وأنا عنده فقال لي أبو دلف يا أبا محمد أنشدني مديحاً فاخراً تستطرفه فبدر إليه بكر وقال أنا أنشدك أيها الأمير بيتين

قلتهما فيك طريقي هذا إليك وأحكمك فقال هات فإن شهد لك أبو محمد رضينا فأنشده
( إذا كانَ الشِّتاءُ فأنت شَمْسٌ ... وإن حَضَر المَصِيف فأنتَ ظِلُّ )
( وما تَدْرِي إذا أَعْطَيْتَ مالاً ... أتُكثِرُ في سَماحِك أم تُقِلُّ )
فقلت له أحسن والله ما شاء ووجبت مكافأته فقال أما إذ رضيت فأعطوه عشرة آلاف درهم فحملت إليه وانصرفت إلى منزلي فإذا أنا بعشرين ألفاً قد سبقت إلي وجه بها أبو دلف قال فقال عمارة لعلي بن هشام فقد قلت أنا في قريب من هذه القصة
( ولا غيبَ فيهم غيرَ أَنَّ أَكفَّهم ... لأموالهم مِثْلَ السِّنين الحَواطم )
( وأنهمُ لا يُورِثُون بَذيهمُ ... وإن وَرِثوا خَيْراً كُنوزَ الدَّراهِم )

ابن النطاح يرثي معقل بن عيسى
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال كان معقل بن عيسى صديقاً لبكر بن النطاح وكان بكر فاتكاً صعلوكاً فكان لا يزال قد أحدث حادثة في عمل أبي دلف أو جنى جناية فيهم به فيقوم دونه معقل حتى يتخلصه فمات معقل فقال بكر بن النطاح يرثيه بقوله
( وحدَّث عنه بعضُ من قال إنَّه ... رَأتْ عَينُه فيما تَرَى عَينُ حالِم )
( كأنَّ الذي يَبْكي على قَبْر مَعْقِل ... ولم يَره يَبكي على قَبْر حاتِم )
( ولا قَبرِ كَعْب إذ يَجودُ بنَفْسِه ... ولا قَبْر حِلْفِ الجُود قَيْسِ بنِ عاصِمْ )
( فأيقَنتُ أنَّ الله فضَّل مَعْقِلاً ... على كل مَذْكُور بفَضْلِ المَكارِم )

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري قال
كان بكر بن النطاح الحنفي أبو وائل بخيلاً فدخل عليه عباد بن الممزق يوماً فقدم إليه خبزاً يابساً قليلاً بلا أدم ورفعه من بين يديه قبل أن يشبع فقال عباد يهجوه
( مَنْ يَشْتَرِي مِني أبا وائِلٍ ... بكرَ بنَ نَطَّاح بفَلْسَيْن )
( كأنما الآكِلُ من خُبزِهِ ... يأكلُه من شَحمَهِ العَيْنِ )
قال وكان عباد هذا هجاء ملعوناً وهو القائل
( أنَا المُمزّقِ أعراضَ اللًّئام كما ... كان المُمزِّق أعراضَ الِّلئام أبي )
أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال
كان بكر بن النطاح قصد مالك بن طوق فمدحه فلم يرض ثوابه فخرج من عنده وقال يهجوه
( فليتَ جَدَا مَالكٍ كُلَّه ... وما يُرتجى منه من مَطْلبِ )
( أُصِبْتُ بأَضْعاف أضعافِه ... ولم أنتَجِعْه ولم أرغَبِ )
( أسأْتُ أخْتِياريَ منك الثَّوابَ ... لي الذّنبُ جَهْلاً ولم تُذنِبِ )
وكتَبها في رقعة وبعث إليه فلما قرأها وَجّه جماعة من أَصحابه في طلبه

وقال لهم الويل لكم إن فاتكم بكر بن النطاح ولا بد أن تنكفئوا على أثره ولو صار إلى الجبل فلحقوه فردوه إليه فلما دخل داره ونظر إليه قام فتلقاه وقال يا أخي عجلت علينا وما كنا نقتصر بك على ما سلف وإنما بعثنا إليك بنفعه وعولنا بك على ما يتلوها واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه ثم أعطاه حتى أرضاه فقال بكر بن النطاح يمدحه
( أقولُ لمُرتادٍ ندى غيرِ مالِكٍ ... كفى بَذْلَ هذا الخلقِ بعضُ عِداتِه )
( فَتىً جاد بالأموال في كُلّ جانبٍ ... وأنْهَبَها في عَوْده وبَداتِه )
( فلو خَذَلتْ أموالُه بذْلَ كَفِّه ... لقاسَم مَنْ يَرجُوه شَطْرَ حَيَاتِه )
( ولو لم يجد في العُمْر قِسمة مالِه ... وجاز له الإعطاء من حَسناتِه )
( لجادَ بها من غَيْر كُفْر برَبّه ... وشاركَهم في صَوْمه وصَلاتِه )
فوصله صلة ثانية لهذه الأبيات وانصرف عنه راضياً
هكذا ذكر أبو هفان في خبره وأحسبه غلطاً لأن أكثر مدائح بكر بن النطاح في مالك بن علي الخزاعي وكان يتولى طريق خراسان وصار إليه بكر بن النطاح بعد وفاة أبي دلف ومدحه فأحسن تقبله وجعله في جنده وأسنى له الرزق فكان معه إلى أن قتله الشراة بحلوان فرشاه بكر بعدة قصائد هي من غرر شعره وعيونه

ابن النطاح يرثي مالك الخزاعي
فحدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر عن أبي وائلة السدوسي قال
عاثت الشراة بالجبل عيثاً شديداً وقتلوا الرجال والنساء والصبيان فخرج إليهم مالك بن علي الخزاعي وقد وردوا حلوان فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم

عنها وما زال يتبعهم حتى بلغ بهم قرية يقال لها حدان فقاتلوه عندها قتالاً شديداً وثبت الفريقان إلى الليل حتى حجز بينهم وأصابت مالكاً ضربة على رأسه أثبتته وعلم أنه ميت فأمر برده إلى حلوان فما بلغها حتى مات فدفن على باب حلوان وبنيت لقبره قبة على قارعة الطريق وكان معه بكر بن النطاح يومئذ فأبلى بلاء حسناً وقال بكر يرثيه
( يا عينُ جُودِي بالدّموع السّجامْ ... على الأمير اليمنيّ الُهُمامْ )
( على فَتَى الدّنيا وصِنديدِها ... وفارس الدّين وسَيفِ الإمامْ )
( لا تَدْخَرِي الدمعَ على هالك ... أيْتَم إذ أودى جَمِيعُ الأنامْ )
( طاب ثَرَى حُلوان إذ ضُمِّنت ... عِظامَه سَقْياً لها من عِظامْ )
( أغلقَتِ الخَيراتُ أبوابَها ... وامتَنَعت بعدَك يا بنَ الكِرامْ )
( أغلقَتِ الخَيراتُ أبوبَها ... وامتَنَعت بعدَك يا بنَ الكِرامْ )
( وأصبحَتْ خَيلك بعد الوَجَا ... والغَزو تَشكُو منك طُولَ الجَمامْ )
( ارحَلْ بنا نَقرُبْ إلى مالكٍ ... كيما نُحيِّي قَبرَه بالسّلامْ )
( كان لأهل الأرض في كَفِّه ... غِنىً عن البحر وصَوْبِ الغَمامْ )
( وكان في الصُّبح كشمس الضُّحى ... وكان في الليل كبَدْرِ الظّلامْ )
( وسائِلٍ يعجَب من موتِه ... وقد رآه وهو صَعْبُ المَرامْ )
( قُلتُ له عَهدِي به مُعلِماً ... يضربهم عند ارتفاع القَتامْ )

( والحربُ مَنْ طاولها لم يَكَدَ ... يُفلِت من وَقْعِ صقيلٍ حُسامْ )
( لم ينظُر الدَّهرُ لنا إذ عدا ... على رَبيعِ النّاسِ في كل عامْ )
( لن يَسْتَقِيلوا أبداً فقدَه ... ما هَيَّج الشّجوَ دُعاءُ الحَمامْ )
قال وقال أيضاً يرثيه
( أيُّ امرىءٍ خَضَب الخوارجُ ثوبَه ... بدمٍ عَشِيَّة راح من حُلْوانِ )
( يا حُفْرةً ضمَّتْ محاسِنَ مالِكٍ ... ما فيكِ من كَرَمٍ ومن إحسانِ )
( لَهْفي على البَطَل المُعرِّض خَدَّه ... وجبينَه لأسنة الفُرسانِ )
( خَرَق الكتِيبة مُعلماً مُتَكَنِّباً ... والمرُهفاتُ عليه كالنّيرانِ )
( ذهبت بَشاشَةُ كلّ شيءٍ بعده ... فالأرضُ مُوحِشة فلا عُمرانِ )
( هدَم الشُّراةُ غَداة مَصْرع مالكٍ ... شرف العُلا ومكارمَ البُنيانِ )
( قَتَلوا فتى العرب الذي كانت به ... تَقْوى على اللَّزبات في الأزمانِ )
( حرموا مَعَدّاً ما لديه وأوقَعُوا ... عصبِيَّةً في قَلب كُلّ يَماني )
( تَركُوه في رَهَج العَجاج كأنه ... أسَدٌ يَصول بساعِدٍ وبَنانِ )
( هَوتِ الجُدودُ عن السُّعود لفقدِه ... وتمسَّكتْ بالنَّحْس والدَّبَرَانِ )
( لا يَبْعَدَنّ أخُو خُزاعةَ إذ ثَوَى ... مستَشْهِداً في طاعة الرَّحمنِ )
( عَزَّ الغُواةُ به وذَلَّت أُمةٌ ... مَحْبُوَّةٌ بحقائق الإيمانِ )

( وبكاه مُصحَفةُ وصدْرُ قَناتِه ... والمُسلمِون ودَوْلَةُ السُّلطانِ )
( وغدت تُعقَّر خَيلُه وتُقُسِّمت ... أدراعُه وسَوابِغُ الأبدانِ )
( أَفتُحمَد الدُّنيا وقد ذَهَبَتْ بمَنْ ... كان المُجِيرَ لنا من الحَدَثَانِ )
تشوّقه بغداد وهو بالجبل
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال أنشدني أبو غسان دماذ لبكر بن النطاح يتشوق بغداد وهو بالجبل يومئذ
( نَسِيمُ المُدامِ وبَرْد السَّحرْ ... هما هيَّجا الشّوقَ حتى ظَهَرْ )
( تقول اجتَنِب دارَنا بالنّهار ... وزُرْنا إذا غاب ضوءُ القَمَرْ )
( فإنّ لنا حَرَساً إن رأوْكَ ... نَدِمْتَ وأُعطُوا عليك الظَّفَرْ )
( وكم صَنَعَ الله بغدادَ من بلدةٍ ... وساكنَ بَغْداد صَوْبَ المَطَرْ )
( ونُبِّئْتُ أنّ جَوارِي القُصُورِ ... صَيَّرن ذِكْرِي حديثَ السَّمَرْ )
( ألا رُبَّ سائلةٍ بالعراق ... عنِّي وأخرى تُطِيل الذِّكَرْ )
( تقول عَهِدْنا أبا وائِلٍ ... كظَبْي الفَلاة المَلِيح الحَوَرْ )
( لياليَ كنتُ أَزور القِيانَ ... كأنَّ ثِيابِي بَهارُ الشّجَرْ )
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال
كان بكر بن النطاح يهوى جارية من جواري القيان وتهواه وكانت لبعض الهاشميين يقال لها درة وهو يذكرها في شعره كثيراً وكان يجتمع معها في منزل رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له الفرز فسعى به إلى مولاها وأعلمه أنه قد أفسدها وواطأها على أن تهرب معه إلى الجبل فمنعه من لقائها

وحَجَبه عنها إلى أن خرج الكرج مع أبي دلف فقال بكر بن النطاح في ذلك
( أهلُ دَارٍ بين الرُصافة والجِسْرِ ... أطالوا غَيْظي بطُول الصُّدودِ )
( عذَّبوني بُبعدهم وابْتَلَوا قَلْبي ... بحُزْنين طارِفٍ وتَليدِ )
( ما تَهُبّ الشَّمال إلا تَنَفَّت ... وقال الفُؤَادُ للعَيْن جُودي )
( قلَّ عنهم صَبْري ولم يرحمُوني ... فتحَّيرت كالطّريد الشّريدِ )
( وكلتْني الأيامُ فيكِ إلى نفسِي ... فأعَيْيتُ وانتهى مَجْهودِي )
وقال فيها أيضاً وفيه غناء من الرمل الطنبوري
( العَينُ تُبدِي الحُبَّ والبُغضا ... وتُظهِر الإبرامَ والنَّقْضا )
( دُرَّةُ ما أنصْفتِني في الهوى ... ولا رَحِمْتِ الجَسَدَ المُنْضَى )
( مرَّت بنا في قُرطُق أَخْضَرِ ... يعشَق منها بَعضُها بَعْضا )
( غَضْبَى ولا والله يا أهلَها ... لا أشرَبُ البارِدَ أو تَرْضَى )
( كيف أطاعَتْكم بهَجْرِي وقد ... جَعلتُ خَدّيَّ لها أرْضا )
وقال فيها أيضاً وفيه رمل طنبوري
( صدّتْ فأمسى لِقاؤُها حُلما ... واستبدل الطرفُ بالدُّموع دَمَا )
( وسلَّطت حُبَّها على كَبِدي ... فأبدَلْتني بصِحةٍ سَقَما )
( وصِرْتُ فرداً أبكِي لفُرقتها ... وأقرُع السِّنَّ بعدها نَدَما )
( شَقّ عليها قولُ الوُشاة لها ... أصبحتِ في أمرِ ذا الفَتَى عَلَما )
( ولولا شَقائي وما بُليتُ به ... من هَجْرها ما استَثَرْت ما اكتُتِما )

( كم حاجةٍ في الكتاب بُحتُ بها ... أَبكيتُ منها القِرطاسَ والقَلَما )
وقال فيها أيضاً وفيه رمل لأبي الحسن أحمد بن جعفر جحظة
( بَعُدتِ عني فتغيَّرتِ لي ... وليس عندي لكِ تَغْيِيرُ )
( فَجدِّدي ما رَثَّ من وَصْلنا ... وكلّ ذَنْبٍ لك مَغْفورُ )
( أُطَيِّب النّفسَ بكتمان ما ... سارت به من غدْوِك العِيرُ )
( وَعدُك يا سَيِّدتي غرّني ... منك وَمَن يَعْشَقُ مَغْرورُ )
( يَحزُنُني عِلِمي بنَفْسي إذا ... قال خَلِيلي أَنتَ مَهْجورُ )
( ياليت مَن زَيّنَ هذا لها ... جارت لنا فيه المَقَادِير )
( ساقِي النَّدامىَ سَقِّها صاحِبي ... فإنني وَيْحك مَعْذور )
( أَأَشرَبُ الخَمر على هَجْرِها ... إني إذاً بالهَجْر مسرور )
وفيها يقول وقد خرج مع أبي دلف إلىأصبهان
( يا ظبيةَ الِّسيب التي أحببتُها ... ومَنحتُها لُطفِي ولِينَ جَناحِي )
( عَينايَ باكِيتانِ بعدَكِ للذّي ... أوْدَعْتِ قلبي مِن نُدوبِ جِراحِ )
( سَقْياً لأحمدَ من أخٍ ولِقاسِمٍ ... فَقَدا غُدوِّي لاهِياً ورَوَاحِي )
( وتَردُّدِي من بَيت فرْزٍ آمِناً ... من قُربِ كُلِّ مُخالِفٍ ومُلاحِي )
( أيامَ تَغبِطُني المُلوكُ ولا أرى ... أحداً له كتدلُّلي ومَراحِي )
( تَصِفُ القِيانُ إذا خلونَ مجانَتِي ... ويَصِفْنَ للشَّربِ الكرام سماحِي )
ومما يغنى فيه من شعر بكر بن النطاح في هذه الجارية قوله

صوت
( هل يُبتَلى أحدٌ بِمِثْلِ بليَّتي ... أم ليس لي في العَالَمين ضَرِيبُ )
( قالت عَنانُ وأبصرتْنِي شاحباً ... يا بَكْرُ مالكَ قد عَلاك شُحوبُ )

( فأجبتُها يا أختُ لم يلقَ الذي ... لاقيتُ إلا المُبْتَلَى أيُّوبُ )
( قد كنتُ أسمع بالهوى فأظُنُّه ... شيئاً يلَذُّ لأهله ويَطِيبُ )
( حتى ابتُلِيت بحُلْوه وبمُرِّه ... فالحلو منه للقلُوب مُذيبُ )
( والمُرّ يَعجِز مَنْطِقي عن وَصْفِه ... للمُرّ وصفٌ يا عَنان عَجِيبُ )
( فأنا الشّقِيّ بحُلْوِه وبمُرّه ... وأنا المُعَنَّى الهائِمُ المَكروبُ )
( يا دُرَّ حالَفَكِ الجَمالُ فَمالَه ... في وَجْه إنسانٍ سواكِ نَصِيبُ )
( كلُّ الوجوه تَشَابَهت وبَهَرْتِها ... حُسناً فَوَجهُك في الوُجوه غرِيبُ )
( والشمس يغرُب في الحِجاب ضِياؤُها ... عنّا ويُشْرق وَجهُك المَحْجوبُ )
ومما يغنّى فيه من شعره فيها أيضاً
( غَضِب الحبِيبُ عليَّ في حُبِّي له ... نَفْسي الفِداءُ لمُذْنِبِ غَضْبانِ )
( مالِي بما ذكر الرّسولُ يدانِ بل ... إن تَمّ رأيُكَ ذَا خَلْعت عِناني )
( يا مَنْ يَتُوقُ إلى حَبِيب مُذنِبٍ ... طاوعْته فَجزاك بالعِصْيانِ )
( هلاّ انتحرتَ فكنتَ أولَ هَالكٍ ... إن لم يَكُن لك بالصُّدود يَدانِ )
( كنّا وكُنْتُم كالبَنان وَكَفَّها ... فالكفُّ مفردَةٌ بغَيْر بَنانِ )
( خُلِق السُّرورُ لمَعْشر خُلِقوا له ... وخُلِقْتُ للعَبَرات والأحزانِ )
صوت
( ليتَ شِعْرِي أَأَوَّلُ الهَرْج هذا ... أم زَمانٌ من فِتْنَةٍ غير هَرْجِ )
( إن يَعِش مُصعَبٌ فنحن بخَيْر ... قد أتانا من عَيْشِنا ما نُرَجِّي )
( ملِكٌ يُطْعِم الطَّعام ويَسْقِي ... لبنَ البُخْت في عِساس الْخَلَنْجِ )

( جَلَب الخَيْل من تِهامَةَ حتّى ... بلَغت خيلُه قصور زَرَنْج )
( حيث لم تأتِ قبله خيلُ ذِي الأعتاف ... يُوجِفن بين قُفٍّ ومَرْجِ )
عروضه من الخفيف الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات والغناء ليونس الكاتب ماخوري بالبنصر وفيه لمالك ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق

مقتل مصعب بن الزبير
وهذا الشعر يقوله عبيد الله بن قيس لمصعب بن الزبير لما حشد للخروج عن الكوفة لمحاربة عبد الملك بن مروان
وكان السبب في ذلك فيما أجاز لنا الحرمي بن أبي العلاء روايته عنه عن الزبير بن بكار عن المدائني قال
لما كانت سنة اثنتين وسبعين استشار عبد الملك بن مروان عبد الرحمن ابن الحكم في المسير إلى العراق ومناجزة مصعب فقال يا أمير المؤمنين قد واليت بين عامين تغزو فيهما وقد خسرت خيلك ورجالك وعامك هذا عام حارد فأرح نفسك ورجلك ثم ترى رأيك فقال إني أبادر ثلاثة أشياء وهي أن الشام أرض بها المال قليل فأخاف أن ينفد ما عندي وأشراف أهل العراق قد كاتبوني يدعونني إلى أنفسهم وثلاثة من أصحاب رسول الله كبروا ونفدت

أعمارهم وأنا أبادر بهم الموت أحب أن يحضروا معي
ثم دعا يحي بن الحكم وكان يقول من أراد أمرا فليشاور يحي بن الحكم فإذا أشار عليه بأمر فليعمل بخلافه فقال ما ترى في المسير إلى العراق قال أرى أن ترضى بالشام وتقيم بها وتدع مصعبا بالعراق فلعن الله العراق فضحك عبد الملك
ودعا عبد الله بن خالد بن أسيد فشاوره فقال يا أمير المؤمنين قد غزوت مرة فنصرك الله ثم غزوت ثانية فزادك الله بها عزاً فأقم عامك هذا
فقال لمحمد بن مروان ما ترى قال أرجو أن ينصرك الله أقمت أم غزوت فشمر فإن الله ناصرك فأمر الناس فاستعدوا للمسير فلما أجمع عليه قالت عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجته يا أمير المؤمنين وجه الجنود وأقم فليس الرأي أن يباشر الخليفة الحرب بنفسه فقال لو وجهت أهل الشام كلهم فعلم مصعب أني لست معهم لهلك الجيش كله ثم تمثل
( ومُسْتَخبِرٍ عنّا يُرِيد بنا الرَّدَى ... ومُستَخبراتٍ والعُيونُ سواكِبُ )
ثم قدم محمد بن مروان ومعه عبد الله بن خالد بن أسيد وبشر بن مروان ونادى مناديه إن أمير المؤمنين قد استعمل عليكم سيد الناس محمد بن مروان وبلغ مصعب بن الزبير مسير عبد الملك فأراد الخروج فأبى عليه أهل البصرة

وقالوا عدونا مطل علينا يعنون الخوارج فأرسل إليهم بالمهلب وهو بالموصل وكان عامله عليها فولاه قتال الخوارج وخرج مصعب فقال بعض الشعراء
( أكُلَّ عام لك باجُمَيْرا ... تَغْزُو بنا ولا تُفِيد خَيْراً )

مصعب وعبد الملك
قال وكان مصعب كثيرا ما يخرج إلى باجميرا يريد الشام ثم يرجع فأقبل عبد الملك حتى نزل الأخنونيّه ونزل مصعب بمسكن إلى جنب أوانا وخندق خندقا ثم تحول ونزل دير الجاثليق وهو بمسكن وبين العسكرين ثلاثة فراسخ ويقال فرسخان فقدم عبد الملك محمدا وبشرا أخويه وكل واحد منهما على جيش والأمير محمد وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر ثم كتب عبد الملك إلى أشراف أهل الكوفة والبصرة يدعوهم إلى نفسه ويمنيهم فأجابوه وشرطوا عليه شروطا وسألوه ولايات وسأله ولاية أصبهان أربعون رجلا منهم فقال عبد

الملك لمن حضره ويحكم ما أصبهان هذه تعجبا ممن يطلبها وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر لك ولاية ما سقى الفرات إن تبعتني فجاء إبراهيم بالكتاب إلى مصعب فقال هذا كتاب عبد الملك ولم يخصصني بهذا دون غيري من نظرائي ثم قال فأطعني فيهم قال أصنع ماذا قال تدعوهم فتضرب أعناقهم قال أقتلهم على ظن ظننته قال فأوقرهم حديداً وابعث بهم إلى أرض المدائن حتى تنقضي الحرب قال إذا تفسد قلوب عشائرهم ويقول الناس عبث مصعب بأصحابه قال فإن لم تفعل فلا تمدني بهم فإنهم كالمومسة تريد كل يوم خليلاً وهم يريدون كل يوم أميراً
أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلاً يدعوه إلى أن يجعل الأمر شورى في الخلافة فأبى مصعب فقدم عبد الملك أخاه محمدا ثم قال اللهم انصر محمدا ثلاثاً ثم قال اللهم أنصر أصلحنا وخيرنا لهذه الأمة قال وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر فالتقت المقدمتان وبين عسكر مصعب وعسكر ابن الأشتر فرسخ ودنا عبد الملك حتى قرب من عسكر محمد فتناوشوا فقتل رجل على مقدمة محمد يقال له فراس وقتل صاحب لواء بشر وكان يقال له أسيد فأرسل محمد إلى عبد الملك أن بشراً قد ضيع لواءه فصرف عبد الملك الأمر كله إلى محمد وكف الناس وتواقفوا وجعل أصحاب ابن الأشتر يهمون بالحرب ومحمد بن مروان يكف أصحابه فأرسل عبد الملك إلى محمد ناجزهم فأبى فأوفد إليه رسولاً آخر وشتمه فأمر محمد رجلاً فقال له قف خلفي في ناس من أصحابك فلا تدعن أحداً يأتيني من قبل عبد الملك وكان قد دبر تدبيراً سديداً في تأخير المناجزة إلى وقت رآه فكره أن يفسد عبد الملك تدبيره عليه فوجه إليه عبد الملك عبد الله بن خالد بن أسيد فلما رأوه أرسلوا إلى محمد بن مروان هذا عبد الله بن خالد بن أسيد فقال ردوه بأشد مما رددتم من جاء قبله فلما قرب المساء أمر محمد بن مروان أصحابه بالحرب وقال حركوهم قليلاً فتهايج

الناس ووجه مصعب عتاب بن ورقاء الرياحي يعجز إبراهيم فقال له قد قلت لا تمدني بأحد من أهل العراق فلم يقبل واقتتلوا وأرسل إبراهيم بن الأشتر إلى أصحابه بحضرة الرسول ليرى خلاف أهل العراق عليه في رأيه ألا تنصرفوا عن الحرب حتى ينصرف أهل الشام عنكم فقالوا ولم لا ننصرف فانصرفوا وانهزم الناس حتى أتوا مصعبا وصبر إبراهيم بن الأشتر فقاتل حتى قتل فلما أصبحوا أمر محمد بن مروان رجلاً فقال انطلق إلى عسكر مصعب فانظر كيف تراهم بعد قتل ابن الأشتر قال لا أعرف موضع عسكرهم فقال له إبراهيم ابن عدي الكناني انطلق فإذا رأيت النخل فاجعله منك موضع سيفك فمضى الرجل حتى أتى عسكر مصعب ثم رجع إلى محمد فقال رأيتهم منكسرين وأصبح مصعب فدنا منه ودنا محمد بن مروان حتى التقوا فترك قوم من أصحاب مصعب مصعباً وأتوا محمد بن مروان فدنا إلى مصعب ثم ناداه فداك أبي وأمي إن القوم خاذلوك ولك الأمان فأبى قبول ذلك فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى ابن مصعب فقال له أبوه انظر ما يريد محمد فدنا منه فقال له إني لكم ناصح إن القوم خاذلوكم ولك ولأبيك الأمان وناشده فرجع إلى أبيه فأخبره فقال إني أظن القوم سيفون فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم فقال والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك قال فتقدم حتى أحتسبك فتقدم وتقدم ناس معه فقتل وقتلوا وترك أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة

مقتل مصعب
وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى فشد عليه مصعب فقتله ثم شد على الناس فانفرجوا ثم رجع فقعد على مرفقة ديباج ثم جعل يقوم عنها

ويحمل على أهل الشأم فيفرجون عنه ثم يرجع فيقعد على المرفقة حتى فعل ذلك مراراً وأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال له أعزب يا كلب وشد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه فرجع عبيد الله فعصب رأسه وجاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له جعلت فداك قد تركك القوم وعندي خيل مضمرة فاركبها وانج بنفسك فدفع في صدره وقال ليس أخوك بالعبد ورجع ابن ظبيان إلى مصعب فحمل عليه وزرق زائدة بن قدامة مصعباً ونادى يا لثارات المختار فصرعه وقال عبيد الله لغلام له احتز رأسه فنزل فاحتز رأسه فحمله إلى عبد الملك فقال إنه لما وضعه بين يديه سجد قال ابن ظبيان فهممت والله أن أقتله فأكون أفتك العرب قتلت ملكين من قريش في يوم واحد ثم وجدت نفسي تنازعني إلى الحياة فأمسكت
قال وقال يزيد بن الرّقاع العاملي أخو عدي بن الرقاع وكان شاعرً أهل الشام
( نحن قتلْنا ابنَ الحوارِيِّ مُصعَباً ... أخَا أسد والمَذْحِجِيَّ اليمانيا )
يعني ابن الأشتر قال

( ومرَّت عُقاب الموت منا بمُسلمٍ ... فأهْوَت له ظُفراً فأصبَح ثاوِيا )
قال الزبير ويروى هذا الشعر للبعيث اليشكري ومسلم الذي عناه هو مسلم بن عمرو الباهلي

مقتل مسلم بن عمرو الباهلي
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة قال
كان مسلم بن عمرو الباهلي على ميسرة إبراهيم بن الأشتر فطعن وسقط فارثت فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك فأرسل إليه ما تصنع بالأمان وأنت بالموت قال ليسلم لي مالي ويأمن ولدي قال فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك لأهل الشام هذا أكفر الناس لمعروف ويحك أكفرت معروف يزيد بن معاوية عندك فقال له خالد تؤمنه يا أمير المؤمنين فأمنه ثم حمل فلم يبرح الصحن حتى مات فقال الشاعر
( نحنُ قَتَلْنا ابنَ الحَوارِيّ مُصعَبا ... أخا أسَدٍ والمذحِجيّ اليمانيا )
حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال
قال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان بماذا تحتج عند الله عز و جل من قتلك لمصعب قال إن تركت أحتج رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان

مصعب وسكينة بنت الحسين
وقال مصعب الزبيري في خبره قال الماجشون
فلما كان يوم قتل مصعب دخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فنزع عنه ثيابه ولبس غلالة وتوشح بثوب وأخذ سيفه فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع فصاحت من خلفه واحزناه عليك يا مصعب فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها منه فقال أوكل هذا لي في قلبك فقالت أي والله وما كنت أخفي أكثر فقال لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي ولك حال ثم خرج ولم يرجع
قال مصعب وحدثني مصعب بن عثمان أن مصعب بن الزبير لما قدمت عليه سكينة أعطى أخاها علي بن الحسين عليهم السلام وهو كان حملها إليه أربعين ألف دينار
قال مصعب وحدثني معاوية بن بكر الباهلي قال
قالت سكينة دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة قال وكانت قد ولدت منه بنتاً فقال لها سميها زبراء فقالت بل أسميها باسم بعض أمهاتي فسمتها الرباب
قال فحدثني محمد بن سلام عن شعيب بن صخر عن أمه سعدة بنت

عبد الله بن سالم قالت
لقيت سكينة بنت الحسين بين مكة ومنى فقالت قفي يا بنت عبد الله ثم كشفت عن ابنتها فإذا هي قد أثقلتها باللؤلؤ فقالت والله ما ألبستها إياه إلا لتفضحه قال فلما قتل مصعب ولي أمر ماله عروة بن الزبير فزوج ابنه عثمان بن عروة ابنة أخيه من سكينة وهي صغيرة فماتت قبل أن تبلغ فورث عثمان بن عروة منها عشرة آلاف دينار
قال ولما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك فقالت والله لا يتزوجني بعده قاتله أبداً وتزوجت عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ودخلت بينها وبينه رملة بنت الزبير أخت مصعب حتى تزوجها خوفاً من أن تصير إلى عبد الملك فولدت منه ابناً فسمته عثمان وهو الذي يلقب بقرين وربيحه ابني عبد الله بن عثمان فتزوج ربيخة العباس بن الوليد بن عبد الملك

ابن قيس الرقيات يرثي مصعبا
ً
ثم مات عبد الله بن عثمان عنها فتزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعباً
صوت
( إن الرَّزِيَّة يوم مَسْكِنَ ... والمُصِيبَةَ والفَجِيعَهْ )
( يابن الحوارِيّ الذي ... لم يَعده يومُ الوقيَعهْ )

( غَدَرتْ به مُضَرُ العِراق ... وأمكَنَتْ منه رَبيعَهْ )
( تَاللَّه لو كانت له ... بالدَّيْر يومَ الدير شِيعَهْ )
( لوجَدْتُموه حين يدُلج ... لا يُعرِّس بالمَضِيعَهْ )
غناه يونس الكاتب من كتابه ولحنه خفيف رمل بالوسطى وفيه لموسى شهوات خفيف رمل بالبنصر عن حبش وقيل بل هو هذا اللحن وغلط من نسبه إلى موسى
وقال عدي بن الرقاع العاملي يذكر مقتله
( لَعَمْرِي لقد أصحَرَتْ خيلُنا ... بأكنافِ دِجْلَةَ للمُصْعَبِ )
( يَهُزّون كُلَّ طويل القناة ... معتدلَ النَّصلِ والثَّعلبِ )
( فِداؤُك أُمّي وأبناؤُها ... وإن شئتَ زِدتُ عليهم أَبي )
( وما قلتُها رَهبَةً إنما ... يَحُلّ العِقابُ على المذنب )
( إذا شِئتُ دافعْتُ مُسْتَقْتِلاً ... أُزاحِمُ كالْجَمَل الأجربِ )
( فمن يَكُ منّا يَبِتْ آمِناً ... ومن يَكُ من غَيرِنا يَهرُبِ )
غناه معبد من رواية إسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى

وقال ابن قيس يرثي مصعبا
( لقد أورَثَ المِصْرَيْنِ خِزْياً وذِلَّةً ... قتيلٌ بدَيْر الجاثَلِيقِِ مُقِيمُ )
( فما قاتَلتْ في اللهِ بكرُبنُ وائلٍ ... ولا صَبرتْ عند اللِّقاء تميمُ )
( ولكنه رامَ القِيامَ ولم يَكُن ... لها مُضَرِيُّ يوم ذاك كَرِيمُ )

مصعب يسأل عن قتل الحسين
قال الزبير وكان مصعب لما قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن علي عليهما السلام وعن قتله فجعل عروة بن المغيرة يحدثه عن ذلك فقال متمثلاًبقول سليمان بن قتة
( فإن الأُلى بالطَّفِّ من آل هاشمِ ... تأسَّوْا فسَنُّوا للِكرام التَّأَسِّيا )
قال عروة فعلمت أن مصعبا لا يفر أبداً
قال الزبير وقال أبو الحكم بن خلاد بن قرة السدوسي حدثني أبي قال
لما كان يوم السبخة حين عسكر الحجاج بإزاء شبيب الشاري قال له الناس لو تنحيت أيها الأمير عن هذه السبخة فقال لهم ما تنحوني والله إليه أنتن وهل ترك مصعب لكريم مفرا ثم تمثل قول الكلحبة
( إذا المَرْءُ لم يَغْشَ المكارِهَ أوشَكت ... حِبال الهُوَيْنَى بالفتى أن تَقَطَّعَا )
قال الزبير وحدثني المدائني عن عوانة والشرقي بن القطامي عن أبي جناب قال
لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياماً حتى تحدثت به

إماء مكة في الطريق ثم صعد المنبر فجلس عليه ملياً لا يتكلم فنظرت إليه والكآبة على وجهه وجبينه يرشح عرقاً فقلت لآخر إلى جنبي ما له لا يتكلم أتراه يهاب المنطق فوالله إنه لخطيب فما تراه يهاب قال أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب فهو يفظعُ لذكره وغير ملوم فقال الحمد لله الذي له الخلق والأمر ومالك الدنيا والآخرة يعز من يشاء ويذل من يشاء ألا إنه يذل والله من كان الحق معه وإن كان مفرداً ضعيفا ولم يعز من كان الباطل معه وإن كان في العدة والعدد والكثرة ثم قال إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا أتانا أن مصعباً قتل رحمة الله عليه ومغفرته فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأن الله عز و جل جاعل لنا وله ذلك خيرة إن شاء الله تعالى أن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره أسلموه إسلام النعم المخطم فقتل ولئن قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين إنا والله ما نموت حتف أنوفنا ما نموت إلا قتلا قعصا بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف وليس كما يموت بنو مروان والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام قط وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل الدنيا عليَّ لا آخذها أخذ الأشر البطر وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل
وقال رجل من بني أسد بن عبد العزى يرثي مصعباً
( لعمرُك إنّ الموتَ منا لمُولَعٌ ... بكُلّ فتىً رَحْبِ الذّراع أَرِيبِ )
( فإن يَكُ أمسَى مُصعبٌ نال حَتفَه ... لقد كان صُلْبَ العُودِ غيرَ هَيُوب )

( جمِيلَ المُحَيَّا يُوهِن القِرنَ غربُه ... وإن عضَّه دَهْرٌ فغير رَهُوب )
( أتاه حِمامُ المَوْت وَسْط جُنودِه ... فطاروا شِلالاً واسْتَقَى بذَنُوب )
( ولو صَبروا نالوا حُباً وكرامةً ... ولكنَّهم وَلَّوْا بغير قُلوبِ )

عبد الملك لجلسائه مصعب أشجع الناس
قال وقال عبد الملك يوماً لجلسائه من أشجع الناس فأكثروا في هذا المعنى فقال أشجع الناس مصعب بن الزبير جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمه الحميد بنت عبد الله بن عاصم وولي العراقين ثم زحف إلى الحرب فبذلت له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده فأبى قبول ذلك واطرح كل ما كان مشغوفاً به من ماله وأهله وراء ظهره وأقبل بسيفه قَرماً يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريماً
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال
لما ولي مصعب بن الزبير العراق أقر عبد العزيز بن عبد الله بن عامر على سجستان وأمده بخيل فقال ابن قيس الرقيات
( ليتَ شِعْري أأوَّلُ الهَرْج هذا ... أم زَمانٌ من فتْنةٍ غير هَرْجِ )
( إن يَعِش مُصعَبٌ فنحن بخيرٍ ... قد أتانا من عيْشنا ما نُرَجّي )
( أُعطِيَ النّصرَ والمهابةَ في الأعداءِ ... حتى أتَوْه من كل فجِّ )
( حيث لم تأتِ قبله خيلُ ذي الأكتاف ... يُوجِفْن بين قُفٍّ ومَرْجِ )

( ملكٌ يُطعِم الطّعامَ ويَسْقي ... لَبَنَ البُخْتِ في عِساسِ الخَلَنْجِ )
قال الزبير حدثني عمي مصعب أن عبيد الله بن قيس كان عند عبد الملك فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت فقال عبد الملك يا بن قيس أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها
( ملكٌ يطعم الطعام ويسقي ... لبنَ البُخت في عِساس الخَلنج )
فقال لا أين يا أمير المؤمنين لو طرحت عساسك هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه فضحك عبد الملك ثم قال قاتلك الله يا بن قيس فإنك تأبى إلا كرماً ووفاء

يونس الكاتب والوليد بن يزيد
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب قال قال لي أحمد بن إبراهيم ابن إسماعيل بن داود
خرج يونس الكاتب من المدينة يريد الشام بتجارة فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأتته رسله وهو في الخان وذلك في خلافة هشام والوليد يومئذٍ أمير فقالوا له أجب الأمير قال فذهبت معهم فأدخلوني عليه ولا أدري من هو إلا أنه حسن الوجه نبيل فسلمت عليه فأمرني بالجلوس فجلست ودعا بالشراب والجواري فكنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب وغنيته فأعجبه لغنائي وكان مما أعجبه
( لَيْتَ شِعْرِي أَأَوَّل الهَرْج هذا ... أم زَمانٌ من فِتْنةٍ غير هَرْج )
فلم يزل يستعيده إلى الصبح ثم اصطبح عليه ثلاثة أيام فقلت أيها الأمير أنا رجل تاجر قدمت هذا البلد في تجارة لي وقد ضاعت فقال تخرج غداً غُدوة وقد ربحت أكثر من تجارتك وتمم شربه فلما أردت الانصراف لحقني غلام من غلمانه بثلاثة آلاف دينار فأخذتها ومضيت فلما أفضت الخلافة إليه أتيته فلم أزل مقيماً عنده حتى قتل

قال أحمد بن الطيب وذكر مصعب الزبيري أن يونس قال
كنت أشرب مع أصحاب لي فأردت أن أبول فقمت وجلست أبول على كثيب رمل فخطر ببالي قول ابن قيس
( ليت شعري أَأَوَّل الهَرْج هذا ... )
فغنيت فيه لحنا استحسنه وجاء عجباً من العجب فألقيته على جاريتي عاتكة ورددته حتى أخذته وشاع لي في الناس فكان أول

صوت
شاع لي وارتفع به قدري وقرنت بالفحول من المغنين وعاشرت الخلفاء من أجله وأكسبني مالاً جليلاً
صوت
( ألا نادِ جِيرانَنا يَقصِدُوا ... فنَقْضي اللُّبانَةَ أو نَعْهدُ )
( كأَنَّ على كَبدِي جَمْرةً ... حِذاراً من البَيْن ما تَبْردُ )
الشعر لكثير والغناء لأشعب المعروف بالطمع ثاني ثقيل بالوسطى وفي البيت الثاني لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن حبش

ذكر أشعب وأخباره
هو أشعب بن جبير واسمه شعيب وكنيته أبو العلاء كان يقال لأمه أم الخلندج وقيل بل أم جميل وهي مولاة أسماء بنت أبي بكر واسمها حميدة وكان أبوه خرج مع المختار بن أبي عبيد وأسره مصعب فضرب عنقه صبراً وقال تخرج علي وأنت مولاي ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبي طالب وتولت تربيته وكفلته عائشة بنت عثمان عفان
وحكي عنه أنه حكى عن أمه أنها كانت تغري بين أزواج النبي زنت فحلقت وطيف بها وكانت تنادي على نفسها من رآني فلا يزنين فقالت لها امرأة كانت تطلع عليها يا فاعلة نهانا الله عز و جل عنه فعصيناه أو نطيعك وأنت مجلودة محلوقة راكبة على جمل
وذكر رضوان بن أحمد الصيدلاني فيما أجاز لي روايته عنه عن يوسف بن الداية عن إبراهيم بن المهدي
أن عبيدة بن أشعب أخبره وقد سأله عن أولهم وأصلهم أن أباه وجده كانا موليي عثمان وأن أمه كانت مولاة لأبي سفيان بن حرب وأن ميمونة أم المؤمنين أخذتها معها لما تزوجها النبي تدخل إلى أزواج النبي ثم إنها فارقت ذلك وصارت تنقل أحاديث بعضهن إلى بعض وتغري

بينهن فدعا النبي فماتت
وذكروا أنه كان مع عثمان رضي الله عنه في الدار فلما حصر جرد مماليكه السيوف ليقاتلوا فقال لهم عثمان من أغمد سيفه فهو حر قال أشعب فلما وقعت والله في أذني كنت أول من أغمد سيفه فأعتقت
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني الفضل بن الربيع قال
كان أشعب عند أبي سنة أربع وخمسين ومائة ثم خرج إلى المدينة فلم يلبث أن جاء نعيه وهو أشعب بن جبير وكان أبوه مولى لآل الزبير فخرج مع المختار فقتله مصعب صبراً مع من قتل
أخبرني الجوهري قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا أحمد بن إسماعيل اليزيدي قال حدثني التوزي عن الأصمعي قال
قال أشعب نشأت أنا وأبو الزناد في حجر عائشة بنت عثمان فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبيد الله بن الحسن والي المأمون على المدينة قال
حدثني محمد بن عثمان بن عفان قال قلت لأشعب لي إليك حاجة

فحلف بالطلاق لابنه وردان لا سألته حاجة إلا قضاها فقلت له أخبرني عن سنك فأنشد ذلك عليه حتى ظننت أنه سيطلق فقلت له على رسلك وحلفت له إني لا أذكر سنه ما دام حياً فقال لي أما إذ فعلت فقد هونت علي أنا والله حيث حصر جدك عثمان بن عفان أسعى في الدار ألتقط السهام قال الزبير وأدركه أبي
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله اليعقوبي عن الهيثم بن عدي قال
قال أشعب كنت ألتقط السهام من دار عثمان يوم حوصر وكنت في شيبتي ألحق الحمر الوحشية عدوا

بغت أمه فطيف بها
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الرحمن بن الجهم أبو مسلم وأحمد بن إسماعيل قالا أخبرنا المدائني قال
كان أشعب الطامع واسمه شعيب مولى لآل الزبير من قبل أبيه وكانت أمه مولاة لعائشة بنت عثمان بن عفان وكانت بغت فضربت وحلقت وطيف بها وهي تنادي من رآني فلا يزنين فأشرفت عليها امرأة فقالت يا فاعلة نهانا الله عز و جل عن الزنا فعصيناه ولسنا ندعه لقولك وأنت محلوقة مضروبة يطاف بك
أخبرني أحمد قال حدثنا أحمد بن مهرويه قال كتب إلي ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد الله أخبره قال
اسم أشعب شعيب ويكنى أبا العلاء ولكن الناس قالوا أشعب فبقيت

عليه وهو شعيب بن جبير مولى آل الزبير وهم يزعمون اليوم أنهم من العرب فزعم أشعب أن أمه كانت تغري بين أزواج النبي وامرأة أشعب بنت وردان ووردان الذي بنى قبر النبيحين بنى عمر بن عبد العزيز المسجد
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال وكتب إلي ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد الله أخبره قال
كان أشعب من القراء للقرآن وكان قد نسك وغزا وكان حسن الصوت بالقرآن وربما صلى بهم القيام
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني أحمد بن يحي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال
كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغني أصواتاً فيجيدها وفيه يقول عبد الله بن مصعب الزبيري

صوت
( إذا تمزَّزْتُ صُراحِيِّةً ... كمثل ريح المسك أو أَطْيَبُ )
( ثم تغنَّى لي بأهْزاجِه ... زَيدٌ أخو الأنصارِ أو أشْعبُ )
( حسِبتُ أنّي ملك جالِسٌ ... حَفَّت به الأملاكُ والمَوْكِبُ )
( وما أُبالي وإلهِ الوَرَى ... أشرَّق العالَمُ أم غَرَّبُوا )
غنى في هذه الأبيات زيد الأنصاري خفيف رمل بالبنصر
وقد روى أشعب الحديث عن جماعة من الصحابة
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد أن الربيع بن ثعلب حدثهم قال حدثني أبو البختري

حدثني أشعب عن عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلي كراع لقبلت

أشعب وسالم بن عبد الله
قال ابن أبي سعد وروي عن محمد بن عباد بن موسى عن عتاب بن إبراهيم عن أشعب الطامع قال عتاب وإنما حملت هذا الحديث عنه لأنه عليه قال دخلت إلى سالم بن عبد الله بستاناً له فأشرف علي وقال يا أشعب ويلك لا تسأل فإني سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ليأتين أقوام يوم القيامة ما في وجوههم مزعة لحم قد أخلقوها بالمسألة
ويروى عن يزيد بن موهب الرملي عن عثمان بن محمد عن أشعب عن عبد الله بن جعفر أن النبي في يمينه
أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني الأصمعي عن أشعب قال استنشدني ابن لسالم بن عبد الله بن عمر غناء الركبان بحضرة أبيه سالم فأنشدته ورأس أبيه سالم في بت فلم ينكر ذلك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن عبد الرحمن بن الحكم عن المدائني قال دفعت عائشة بنت عثمان أشعب في البزازين فقالت له بعد حول أتوجهت لشيء قال

نعم تعلمت نصف العمل وبقي نصفه قالت وما تعلمت قال تعلمت النشر وبقي الطي
قال المدائني وقال أشعب تعلقت بأستار الكعبة فقلت اللهم أذهب عني الحرص والطلب إلى الناس فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطني أحد شيئاً فجئت إلى أمي فقالت مالك قد جئت خائباً فأخبرتها فقالت لا والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك فرجعت فقلت يا رب أقلني ثم رجعت فلم أمر بمجلس لقريش وغيرهم إلا أعطوني ووهب لي غلام فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء فقالت ما هذا الغلام فخفت أن أخبرها بالقصة فتموت فرحاً فقلت وهبوا لي قالت أي شيء قلت غين قالت أي شيء غين قلت لام قالت وأي شيء لام قلت ألف قالت وأي شيء ألف قلت ميم قالت وأي شيء ميم قلت غلام فغشي عليها ولو لم أقطع الحروف لماتت الفاسقة فرحاً
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني العباس بن ميمون قال سمعت الأصمعي يقول
سمعت أشعب يقول سمعت الناس يموجون في أمر عثمان قال الأصمعي ثم أدرك المهدي
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني يحي بن

الحسن بن عبد الخالق بن سعيد الربيعي قال حدثني هند بن حمدان الأرقمي المخزومي قال أخبرني أبي قال كان أشعب أزرق أحول أكشف أقرع
قال وسمعت الأرقمي يقول كان أشعب يقول كنت أسقي الماء في فتنة عثمان بن عفان والله أعلم
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا عيسى بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال
أصاب أشعب ديناراً بالمدينة فاشترى به قطيفة ثم خرج إلى قباء يعرفها ثم أقبل علي فيما أحسب شك أبو يحي فقال أتراها تعرف
قال أحمد وحدثناه أبو محمد بن سعد قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال حدثني الواقدي قال كنت مع أشعب نريد المصلى فوجد ديناراً فقال لي يا بن واقد قلت ما تشاء قال وجدت دينار فما أصنع به قال قلت عرفه قال أم العلاء إذا طالق قال قلت فما تصنع به إذا قال أشتري به قطيفة أعرفها
قال وحدثني محمد بن القاسم قال وحدثنيه محمد بن عثمان الكريزي عن الأصمعي أن أشعب وجد ديناراً فتحرج من أخذه دون أن يعرفه فاشترى به قطيفة ثم قام على باب المسجد الجامع فقال من يتعرف الوبدة
أخبرني أحمد الجوهري قال حدثني محمد بن القاسم قال سألت العنزي فقال الوبد من كل شيء الخلق وبد الثوب وومد إذا أخلق

أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا عيسى بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال رأيت أشعب يغني وكأن صوته صوت بلبل
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن القاسم بن عبد الله في رفقة فيها ألف محمل وكان ثم قاص عليهم فجئت فأخذت في أغنية من الرقيق فتركوه وأقبلوا إلي فجاء يشكوني إلى سالم فقال إن هذا صرف وجوه الناس عني قال وأتيت سالماً وأحسبه قال والقاسم فسألتهما بوجه الله العظيم فأعطياني وكانا يبغضانني أو أحدهما يبغضني في الله قال قلنا لا تجعل هذا في الحديث قال بلى
حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال وحدثناه قعنب بن محرز الباهلي قال أخبرنا الأصمعي عن أشعب قال
قدم علينا قاص كوفي يقص في رفقته وفيها ألف بعير فخرجنا وأحرمنا من الشجرة بالتلبية فأقبل الناس إلي وتركوه قال ابن أم حميد فجاء إلي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فقال إن مولاك هذا قد ضيق علي معيشتي
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم عن المدائني قال
تغدى أشعب مع زياد بن عبد الله الحارثي فجاؤوا بمضيرة فقال أشعب لخباز ضعها بين يدي فوضعها بين يديه فقال زياد من يصلي بأهل السجن قال ليس لهم إمام قال أدخلوا أشعب يصلي بهم قال أشعب أو غير ذلك أصلح الله الأمير قال وما هو قال أحلف ألا آكل مضيرة أبداً

أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني قعنب بن المحرز قال حدثنا الأصمعي قال
ولى المنصور زياد بن عبد الله الحارثي مكة والمدينة قال أشعب فلقيته بالجحفة فسلمت عليه قال فحضر الغداء وأهدي إليه جدي فطبخه مضيرة وحشيت القبة قال فأكلت أكلا أتملح به وأنا أعرف صاحبي ثم أتي بالقبة فشققتها فصاح الطباخ إنا لله شق القبة قال فانقطعت فلما فرغت قال يا أشعب هذا رمضان قد حضر ولا بد أن تصلي بأهل السجن قلت والله ما أحفظ من كتاب الله إلا ما أقيم به صلاتي قال لا بد منه قال قلت أو لا آكل جديا مضيرة قال وما أصنع به وهو في بطنك قال قلت الطريق بعيد أريد أن أرجع إلى المدينة قال يا غلام هات ريشة ذنب ديك قال أشعب والجحفة أطول بلاد الله ريشة ذنب ديك قال فأدخلت في حلقي فتقيأت ما أكلت ثم قال لي ما رأيك قال قلت لا أقيم ببلدة يصاح فيها شق القبة قال لك وظيفة على السلطان وأكره أن أكسرها عليك فقل ولا تشطط قال قلت نصف درهم كراء حمار يبلغني المدينة قال أنصفت وأعطانيه

من طرائف أشعب
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرني أبو مسلم عن المدائني قال
أتي أشعب بفالوذجة عند بعض الولاة فأكل منها فقيل له كيف تراها يا أشعب قال امرأته طالق إن لم تكن عملت قبل أن يوحي الله عز و جل إلى النحل
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن شعيب الزبيري عن عمه قال أبو بكر وحدثني ابن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن شعيب وهو أتم من هذا وأكثر كلاماً قال
جاء أشعب إلى أبي بكر بن يحي من آل الزبير فشكا إليه فأمر له بصاع من تمر وكانت حال أشعب رثة فقال له أبو بكر بن يحي ويحك يا أشعب أنت في سنك وشهرتك تجيء في هذه الحال فتضع نفسك فتعطى مثل هذا اذهب فادخل الحمام فاخضب لحيتك قال أشعب ففعلت ثم جئته فألبسني ثياب صوف له وقال اذهب الآن فاطلب قال فذهبت إلى هشام بن الوليد صاحب البغلة من آل أبي ربيعة وكان رجلاً شريفاً موسراً فشكا إليه فأمر له بعشرين ديناراً فقبضها أشعب وخرج إلى المسجد وطفق كلما جلس في حلقة يقول أبو بكر بن يحي جزاه الله عني خيراً أعرف الناس بمسألة فعل بي وفعل فيقص قصته فبلغ ذلك أبا بكر فقال يا عدو نفسه فضحتني في الناس أفكان هذا جزائي
أخبرنا أحمد قال قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرني محمد بن الحسين بن عبد الحميد قال
حدثني شيخ أنه نظر إلى أشعب بموضع يقال له الفرع يبكي وقد خضب

بالحناء فقالوا يا شيخ ما يبكيك قال لغربة هذا الجناح وكان على دار واحدة ليس بالفرع غيره
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرني محمد ابن الحسين قال حدثني ابي قال
نظرت إلى أشعب يسلم على رسول الله قال وهو يدعو ويتضرع قال فأدمت نظري إليه فكلما أدمت النظر إليه كلح وبث أصابعه في يده بحذائي حتى هربت فسألت عنه فقالوا هذا أشعب
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عجلان الفهري قال
إن أشعب مرّ برش قد رش من الليل في بعض نواحي المدينة فقال كأن هذا الرش كساء برنكانيُّ فلما توسطه قال أظنني والله قد صدقت وجلس يلمس الأرض
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا بعض المدنيين قال
كان لأشعب خرق في بابه فينام ويخرج يده من الخرق ويطمع أن يجيء إنسان فيطرح في يديه شيئاً من الطمع
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال
صلى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان وكان مروان عظيم

الخلق والعجيزة فأفلتت منه ريح عند نهوضه لها صوت فانصرف أشعب من الصلاة فوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له الدية فقال دية ماذا فقال دية الضرطة التي تحملتها عنك والله وإلا شهرتك فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني إبراهيم بن الجنيد قال حدثني سوار بن عبد الله قال حدثني مهدي بن سليمان المنقري مولى لهم عن أشعب قال
دخلت على القاسم بن محمد وكان يبغضني في الله وأحبه فيه فقال ما أدخلك علي اخرج عني فقلت أسألك بالله لما جددت عذقاً قال يا غلام جد له عذقاً فإنه سأل بمسألة لا يفلح من ردها أبداً
أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا الرياشي قال حدثني أبو سلمة أيوب بن عمر عن المحرزي وهو أيوب بن عباية أبو سليمان قال
كان لأشعب علي في كل سنة دينار قال فأتاني يوماً ببطحان فقال عجل لي ذلك الدنيار ثم قال لقد رأيتني أخرج من بيتي فلا أرجع شهراً مما آخذ من هذا وهذا وهذا
أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يحكي عن بعض المدنيين قال

كبر أشعب فمله الناس وبرد عندهم ونشأ ابنه فتغنى وبكى وأندر فاشتهى الناس ذلك فأخصب وأجدب أبوه فدعاه يوماً وجلس هو وعجوزه وجاء ابنه وامرأته فقال له بلغني أنك تغنيت وأندرت وحظيت وأن الناس قد مالوا إليك فهلم حتى أخايرك قال نعم فتغنى أشعب فإذا هو قد انقطع وأرعد وتغنى ابنه فإذا هو حسن الصوت مطرب وانكسر أشعب ثم أندر فكان الأمر كذلك ثم خطبا فكان الأمر كذلك فاحترق أشعب فقام فألقى ثيابه ثم قال نعم فمن أين لك مثل خلقي من لك بمثل حديثي قال وانكسر الفتى فنعرت العجوز ومن معها عليه
أخبرني أحمد قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني علي بن الحسين بن هارون قال حدثني محمد بن عباد بن موسى قال حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر بن سليمان وكان جارنا هنا قال حدثني محمد بن حرب الهلالي وكان على شرطة محمد بن سليمان قال
دخلت على جعفر بن سليمان وعنده أشعب يحدثه قال
كانت بنت حسين بن عليّ عند عائشة بنت عثمان تربيها حتى صارت امرأة وحج الخليفة فلم يبق في المدينة خلق من قريش إلا وافى الخليفة إلا من لا يصلح لشيء فماتت بنت حسين بن علي فأرسلت عائشة إلى محمد بن عمرو بن حزم وهو والي المدينة وكان عفيفاً حديداً عظيم اللحية له جارية موكلة بلحيته إذا ائتزر لا يأتزر عليها وكان إذا جلس للناس جمعها ثم أدخلها تحت فخذه
فأرسلت عائشة يا أخي قد ترى ما دخل علي من المصيبة بابنتي وغيبة أهلي وأهلها وأنت الوالي فأما ما يكفي النساء من النساء فأنا أكفيكه بيدي وعيني

وأما ما يكفي الرجال من الرجال فاكفنيه مر بالأسواق أن ترفع وأمر بتجويد عمل نعشها ولا يحملها إلا الفقهاء الألباء من قريش بالوقار والسكينة وقم على قبرها ولا يدخله إلا قرابتها من ذوي الحجا والفضل فأتى ابن حزم رسولها حين تغدى ودخل ليقيل فدخل عليه فأبلغه رسالتها فقال ابن حزم لرسولها أقرئ ابنة المظلوم السلام وأخبرها أني قد سمعت الواعية وأردت الركوب إليها فأمسكت عن الركوب حتى أبرد ثم أصلي ثم أنفذ كل ما أمرت به وأمر حاجبه وصاحب شرطته برفع الأسواق ودعا الحرس وقال خذوا السياط حتى تحولوا بين الناس وبين النعش إلا ذوي قرابتها بالسكينة والوقار ثم نام وانتبه وأسرج له واجتمع كل من كان بالمدينة وأتى باب عائشة حين أخرج النعش فلما رأى الناس النعش التقفوه فلم يملك ابن حزم ولا الحرس منه شيئاً وجعل ابن حزم يركض خلف النعش ويصيح بالناس من السفلة والغوغاء اربعوا أي ارفقوا فلم يسمعوا حتى بلغ بالنعش القبر فصلى عليها ثم وقف على القبر فنادى من هاهنا من قريش فلم يحضره إلا مروان بن أبان بن عثمان وكان رجلاً عظيم البطن بادناً لا يستطيع أن ينثني من بطنه سخيف العقل فطلع وعليه سبعة قمص كأنها درج بعضها أقصر من بعض ورداء عدني يثمن ألفي درهم فسلّم وقال له ابن حزم أنت لعمري قريبها ولكن القبر ضيق لا يسعك فقال أصلح الله الأمير إنما تضيق الأخلاق قال ابن حزم إنا لله ما ظننت أن هذا هكذا كما أرى فأمر أربعة فأخذوا بضبعه حتى أدخلوه في القبر ثم أتى خراء الزنج وهو عثمان بن عمرو ابن عثمان فقال السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله ثم قال واسيدتاه وابنت أختاه فقال ابن حزم تالله لقد كان يبلغني عن هذا أنه مخنث فلم أكن أرى أنه بلغ هذا كله دلوه فإنه عورة هو والله أحق بالدفن منها فلما أدخلا قال مروان

لخراء الزنج تنح إليك شيئاً فقال له خراء الزنج الحمد لله رب العالمين جاء الكلب الإنسي يطرد الكلب الوحشي فقال لهما ابن حزم اسكتا قبحكما الله وعليكما لعنته أيكما الإنسي من الوحشي والله لئن لم تسكتا لآمرن بكما تدفنان ثم جاء خال للجارية من الخاطبيين وهو ناقة من مرض لو أخذ بعوضة لم يضبطها فقال أنا خالها وأمي سودة وأمها حفصة ثم رمى بنفسه في القبر فأصاب ترقوة خراء الزنج فصاح أوه أصلح الله الأمير دق والله عرقوبي فقال ابن حزم دق الله عرقوبك وترقوتك اسكت ويلك ثم أقبل على أصحابه فقال ويحكم إني خبرت أن الجارية بادن ومروان لا يقدر أن ينثني من بطنه وخراء الزنج مخنث لا يعقل سنة ولا دفناً وهذا الحاطبي لو أخذ عصفوراً لم يضبطه لضعفه فمن يدفن هذه الجارية والله ما أمرتني بهذا بنت المظلوم فقال له جلساؤه لا والله ما بالمدينة خلق من قريش ولو كان في هؤلاء خير لما بقوا فقال من هاهنا من مواليهم فإذا أبو هانئ الأعمى وهو ظئر لها فقال ابن حزم من أنت رحمك الله قال أنا أبو هانئ ظئر عبد الله بن عمرو بن عثمان وأنا أدفن أحياءهم وأمواتهم فقال أنا في طلبك ادخل رحمك الله فادفن هؤلاء الأحياء حتى يدلى عليك الموتى ثم أقبل على أصحابه فقال إنا لله وهذا أيضاً أعمى لا يبصر فنادوا من هاهنا من مواليهم فإذا برجل يزيدي يقال له أبو موسى قد جاء فقال له ابن حزم من أنت أيضاً قال أنا أبو موسى صالمين وأنا ابن السميط سميطين والسعيد سعيدين والحمد لله رب العالمين فقال ابن حزم والله العظيم لتكونن لهم خامساً رحمك الله يا بنت رسول الله فما اجتمع على جيفة خنزير ولا كلب ما اجتمع على جثتك فإنا لله وإنا إليه راجعون وأظنه سقط رجل آخر
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني اليعقوبي محمد ابن عبد الله قال حدثني أبو بكر الزلال الزبيري قال حدثني من رأى أشعب وقد

علق رأس كلبه وهو يضربه ويقول له تنبح الهدية وتبصبص للضيف
أشعب يرضع جدياً لبن زوجته
أخبرنا أحمد قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الزبيري أبو الطاهر قال حدثني يحي بن محمد بن أبي قتيلة قال
غذا أشعب جديا بلبن زوجته وغيرها حتى بلغ الغاية قال ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته أي ابنة وردان إني أحب أن ترضعيه بلبنك قال ففعلت قال ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال بالله إنه لابني قد رضع بلبن زوجتي وقد حبوتك به ولم أر أحداً يستأهله سواك قال فنظر إسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذبح وسمط فأقبل عليه أشعب فقال المكافأة فقال ما عندي والله اليوم شيء ونحن من تعرف وذلك غير فائت لك فلما يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمد ثم اندفع يشهق حتى التقت أضلاعه ثم قال أخلني قال ما معنا أحد يسمع ولا عين عليك قال وثب ابنك إسماعيل على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه قال فارتاع جعفر وصاح ويلك وفيم وتريد ماذا قال أما ما أريد فوالله ما لي في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبداً بعدك فجزاه خيراً وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار وقال له خذ هذه ولك عندنا ما تحب قال وخرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه فإذا به مترسل في مجلسه فلما رأى وجه أبيه نكره وقام إليه فقال يا إسماعيل أو فعلتها بأشعب قتلت ولده قال فاستضحك وقال جاءني بجدي من صفته كذا وخبره الخبر فأخبره أبوه ما كان منه وصار إليه قال فكان جعفر يقول لأشعب رعبتني رعبك الله فيقول روعة ابنك والله إياي في الجدي أكبر من روعتك أنت في المائتي الدينار
أخبرنا أحمد قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثني عمير بن عبد الله بن أبي بكر بن سليمان

ابن أبي خيثمة قال وعمير لقب واسمه عبد الرحمن عن أشعب قال
أتيت خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ليلة أسأله فقال لي أنت على طريقة لا أعطي على مثلها قلت بلى جعلت فداءك فقال قم فإن قدر شيء فسيكون قال فقمت فإني لفي بعض سكك المدينة إذ لقيني رجل فقال يا أشعب إن كان الله قد ساق إليك رزقاً فما أنت صانع قلت أشكرالله وأشكر من فعله قال كم عيالك فأخبرته قال قد أمرت أن أجري عليك وعلى عيالك ما كنت حياً قال من أمرك قال لا أخبرك ما كانت هذه فوق هذه يريد السماء وأشار إليها قال قلت إن هذا معروف يشكر قال الذي أمرني لم يرد شكرك وهو يتمنى ألا يصل مثلك قال فمكثت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال فشهدته قريش وحفل له الناس قال فشهدته فلقيني ذلك الرجل فقال يا أشعب انتف رأسك ولحيتك هذا والله صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك وكان والله يتمنى مباعدة مثلك قال فحمله والله الكرم إذ سألته أن فعل بك ما فعل قال عمير قال أشعب فعملت بنفسي والله حينئذٍ ما حل وحرم
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا الزبير ابن بكار قال
كان أشعب يوماً في المسجد يدعو وقد قبض وجهه فصيره كالصبرة المجموعة فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه يا أشعب إذا تناجي ربك فناجه بوجه طلق قال فأرخى لحيه حتى وقع على زوره قال فأعرض عنه عامر وقال ولا كل هذا

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني الزبير قال حدثني مصعب قال
جز أشعب لحيته فبعث إليه نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ألم أقل لك إن البطال أملح ما يكون إذا طالت لحيته فلا تجزر لحيتك

طرائف من طمع أشعب وبخله
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا أبو الحسن أحمد ابن يحي قال أخبرنا أبو الحسن المدائني قال
وقف أشعب على امرأة تعمل طبق خوص فقال لتكبريه فقالت لم أتريد أن تشتريه قال لا ولكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إلي فيه فيكون كبيرا خير من أن يكون صغيراً
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أحمد بن يحي قال أخبرنا المدائني قال صديقة أشعب لأشعب هب لي خاتمك أذكرك به قال اذكريني أني منعتك إياه فهو أحب إلي
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
قال أشعب مرة للصبيان هذا عمرو بن عثمان يقسم مالا فمضوا فلما أبطأوا عنه اتبعهم يحسب أن الأمر قد صار حقا كما قال
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أحمد بن يحي قال أخبرنا المدائني قال
دعا زياد بن عبد الله أشعب فتغدّى معه فضرب بيده إلى جدي بين يديه

وكان زياد أحد البخلاء بالطعام فغاظه ذلك فقال لخدمه أخبروني عن أهل السجن ألهم إمام يصلي بهم وكان أشعب من القراء لكتاب الله تعالى قالوا لا قال فأدخلوا أشعب فصيروه إماماً لهم قال أشعب أو غير ذلك قالو وما هو قال أحلف لك أصلحك الله ألا أذوق جديا أبداً فخلاه
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
رأيت أشعب بالمدينة يقلب مالا كثيرا فقلت له ويحك ما هذا الحرص ولعلك أن تكون أيسر ممن تطلب منه قال إني قد مهرت في هذه المسألة فأنا أكره أن أدعها فتنفلت مني
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
قيل لأشعب ما بلغ من طمعك قال ما رأيت اثنين يتساران قط إلا كنت أراهما يأمران لي بشيء
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
قال أشعب لأمه رأيتك في النوم مطلية بعسل وأنا مطلي بعذرة فقالت يا فاسق هذا عملك الخبيث كساكه الله عز و جل قال إن في الرؤيا شيئاً آخر قالت ما هو قال رأيتني ألطعك وأنت تلطعيني قالت لعنك الله يا فاسق
أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال

أخبرنا المدائني قال
كان أشعب يتحدث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف ذلك فقالت لها جاراتها يوما لو سألته شيئاً فإنه موسر فلما جاء قالت إن جاراتي ليقلن لي ما يصلك بشيء فخرج نافراً من منزلها فلم يقربها شهرين ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب فأخرجت إليه قدحاً ملآن ماء فقالت اشرب هذا من الفزع فقال اشربيه أنت من الطمع
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم وأحمد بن يحي واللفظ لأحمد قال أخبرنا المدائني عن جهم بن خلف قال
حدثني رجل قال قلت لأشعب لو تحدثت عندي العشية فقال أكره أن يجيء ثقيل قال قلت ليس غيرك وغيري قال فإذا صليت الظهر فأنا عندك فصلى وجاء فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدق الباب فقال ألا ترى قد صرت إلى ما أكره قال قلت إن عندي فيع عشر خصال قال فما هي قال أولها أنه لا يأكل ولا يشرب قال التسع الخصال لك أدخله قال أبو مسلم إن كرهت واحدة منها لم أدخله
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
دخل أشعب يوماً على الحسين بن علي وعنده أعرابي قبيح المنظر مختلف الخلقة فسبح أشعب حين رآه وقال للحسين عليه السلام بأبي أنت وأمي أتأذن لي أن أسلح عليه فقال الأعرابي ما شئت ومع الأعرابي قوس وكنانة ففوق له سهما وقال والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها قال أشعب للحسين جعلت فداءك قد أخذني القولنج

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
ذكر أشعب بالمدينة رجلاً قبيح الإسم فقيل له يا أبا العلاء أتعرف فلاناً قال ليس هذا من الأسماء التي عرضت على آدم
وجدت في بعض الكتب عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال
توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى فقيل له لم تركت غسل اليمنى قال لأن النبي قال أمتي غر محجلون من آثار الوضوء وأنا أحب أن أكون أغر محجلاً مطلق اليمنى
وأخبرت بهذا الإسناد قال
سمع أشعب حبى المدينّية تقول اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنونبي فقال لها يا فاسقة أنت لم تسألي الله المغفرة إنما سألته عمر الأبد يريد أنه لا يغفر لها أبداً
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا المدائني عن فليح بن سليمان قال
ساوم أشعب رجلاً بقوس عربية فقال الرجل لا أنقصها عن دينار قال أشعب أعتق ما أملك لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء ووقع مشوياً بين رغيفين مأخذتها بدينار
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا مسلم قال أخبرنا المدائني قال
أهدى رجل من بني عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر بن

محمد فالوذجة وأشعب حاضر قال كل يا أشعب فلما أكل منها قال كيف تجدها يا أشعب قال أنا برىء من الله ورسوله إن لم تكن عملت قبل أن يوحي الله عز و جل إلى النحل أي ليس فيها من الحلاوة شيء
أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال
سأل سالم بن عبد الله أشعب عن طعمه قال قلت لصبياني مرة هذا سالم قد فتح باب صدقة عمر فانطلقوا يعطكم تمراً فمضوا فلما أبطأوا ظننت أن الأمر كما قلت فاتبعتهم
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرني المدائني قال
بينا أشعب يوماً يتغدى إذ دخلت جارة له ومع أشعب امرأته تأكل فدعاها ليتغدّى فجاءت الجارة فأخذت العرقوب بما عليه قال وأهل المدينة يسمونه عرقوب رب البيت قال فقام أشعب فخرج ثم عاد فدفق الباب فقالت له أمرأته يا سخين العين مالك قال أدخل قالت أتستأذن أنت وأنت رب البيت قال لو كنت رب البيت ما كانت العرقوب بين يدي هذه
أخبرني بعض أصحابنا قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب قال قال لي ابن كليب
حدثت مرة أشعب بملحة فبكى فقلت ما يبكيك قال أنا بمنزلة شجرة الموز إذا نشأت ابنتها قطعت وقد نشأت أنت في موالي وأنا الآن أموت فإنما أبكي على نفسي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا الزبير بن بكار قال
كان أشعب الطمع يغني وله أصوات قد حكيت عنه وكان ابنه عبيدة يغنيها فمن أصواته هذه

( أروني مَن يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلّ عن الخِطابِ )
( إلى مَن تَفزعون إذا حَثوتُم ... بأيديكم عليّ من الترابِ )

أشعب وسكينة بنت الحسين
أخبرني الحسن بن علي الحفاف قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا شعيب بن عبيدة بن أشعب عن أبيه عن جده قال
كانت سكينة بنت الحسين بن علي عليهم السلام عند زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان قال وقد كانت أحلفته ألا يمنعها سفراً ولا مدخلاً ولا مخرجاً فقالت اخرج بنا إلى حمران من ناحية عسفان فخرج بها فأقامت ثم قالت له اذهب بنا نعتمر فدخل بها مكة فأتاني آت فقال تقول لك ديباجة الحرم وهي امرأة من ولد عتاب بن أسيد لك عشرون ديناراً إن جئتني بزيد ابن عمرو الليلة في الأبطح قال أشعب وأنا أعرف سكينة وأعلم ما هي ثم غلب علي طباع السوء والشره فقلت لزيد فيما بيني وبينه إن ديباجة الحرم

أرسلت إلي بكيت وكيت فقال عدها الليلة بالأبطح فأرسلت إليها فواعدتها الأبطح وإذا الديباجة قد افترشت بساطاً في الأبطح وطرحت النمارق ووضعت حشايا وعليها أنماط فجلست عليها فلما طلع زيد قامت إليه فتلقته وسلمت عليه ثم رجعت إلى مجلسها فلم ننشب أن سمعنا شحيج بغلة سكينة فلما استبانها زيد قام فأخذ بركابها واختبأت ناحية فقامت الديباجة إلى سكينة فتلقتها وقبلت بين عينيها وأجلستها على الفراش وجلست هي على بعض النمارق فقالت سكينة أشعب والله صاحب هذا الأمر ولست لأبي إن لم يأت يصيح صياح الهرة لن يقوم لي بشيء أبداً فطلعت على أربع أصيح صياح الهرة ثم دعت جارية معها مجمر كبير فحفنت منه وأكثرت وصبت في حجر الديباجة وحفنت لمن معها فصبته في حجورهن وركبت وركب زيد وأنا معهم فلما صارت إلى منزلها قالت لي يا أشعب أفعلتها قلت جعلت فداءك إنما جعلت لي عشرين دينارا وقد عرفت طمعي وشرهي والله لو جعلت لي العشرين ديناراً على قتل أبوي لقتلتهما قال فأمرت بالرحيل إلى الطائف فأقامت بالطائف وحوطت من ورائها بحيطان ومنعت زيداً أن يدخل عليها قال ثم قالت لي يوماً قد أثمنا في زيد وفعلنا ما لا يحل لنا ثم أمرت بالرحيل إلى المدينة وأذنت لزيد فجاءها
قال الزبير وحدثني عبد الله بن محمد بن أبي سلمة قال
جاء أشعب إلى مجلس أصحابنا فجلس فيه فمرت جارية لأحدهم بحزمة عراجين من صدقة عمر فقال له أشعب فديتك أنا محتاج إلى حطب فمر لي بهذه الحزمة قال لا ولكن أعطيك نصفها على أن تحدثني بحديث ديباجة

الحرم فكشف أشعب ثوبه عن استه واستوفز وجعل يخنس ويقول إن لهذا زماناً وجلعت خصيتاه تخطان الأرض ثم اقل أعطاني والله فلان في حديث ديباجة الحرم عشرين ديناراً وأعطاني فلان كذا وأعطاني فلان كذا حتى عد أموالاً وأنت الآن تطلبها مني بنصف حزمة عراجين ثم قام فانصرف وفي ديباجة الحرم يقول عمر بن أبي ربيعة

صوت
( ذَهبتَ ولم تُلم بديباجة الحرمْ ... وقد كنتَ منها في عَناءٍ وفي سَقمْ )
( جُنِنْتَ بها لمّا سمعتَ بذكرها ... وقد كنتَ مجنوناً بجاراتها القُدُمْ )
( إذا أنتَ لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فكن حجراً بالحزْن من حَرَّةٍ أصمّْ )
غناه مالك بن أبي السمح من رواية يونس عن حبيش
قال الزبير وحدثني شعيب بن عبيدة عن أبيه قال
دخل رجل من قريش على سكينة بنت الحسين عليهما السلام قال فإذا أنا بأشعب متفحج جالس تحت السرير فلما رآني جعل يقرقر مثل الدجاجة فجعلت أنظر إليه وأعجب فقالت مالك تنظر إلى هذا قلت إنه لعجب قالت إنه لخبيث قد أفسد علينا أمورنا بغباوته فحضنته بيض دجاج ثم أقسمت أنه لا يقوم عنه حتى ينفق وهذا الخبر عندنا غير مشروح ولكن هذا ما سمعناه ونسخته على الشرح من أخبار إبراهيم بن المهدي التي رواها عنه يوسف ابن إبراهيم وقد ذكر في أخبار سكينة

وروى عن أحمد بن الحسن البزار وجدت بخط ابن الوشاء عن أبي الوشاء عن الكديمي عن أبي عاصم قال قيل لأشعب الطامع أرأيت أحداً قط أطمع منك قال نعم كلباً يتبعني أربعة أميال على مضغ العلك
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء وعمي عبد العزيز بن أحمد وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني مصعب عن عثمان بن المنذر عن عبيد الله بن أبي بشر بن عثمان بن المغيرة قال
سمعت جلبة شديدة مقبلة من البلاط وأسرعت فإذا جماعة مقبلة وإذا امرأة قد فرعتهم طولاً وإذا أشعب بين أيديهم بكفه دف وهو يغني به ويرقص ويحرف استه ويحركها ويقول
( ألا حيِّ التي خرجت ... قُبيلَ الصّبح فاختمرتْ )
( يقال بعينها رَمَدٌ ... ولا واللهِ ما رمِدتْ )
فإذا تجاوز في الرقص الجماعة رجع إليهم يخالطهم ويستقبل المرأة فيغني في وجهها وهي تبسم وتقول حسبك الآن فسألت عنها فقالوا هذه جارية صريم المغنية استلحقها صريم عند موته واعترف بأنهها بنته فحاكمت ورثته إلى السلطان فقامت لها البينة فألحقها به وأعطاها الميراث منه وكانت أحسن خلق الله غناء كان يضرب بها المثل في الحجاز فيقال أحسن من غناء الصريمية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال وحدثني أبي قال
اجتازت جنازة الصريمية بأشعب وهو جالس في وقوم من قريش فبكى عليها

ثم قال ذهب اليوم الغناء كله وعلى أنها الزانية كانت لا رحمها الله شر خلق الله فقيل يا أشعب ليس بين بكائك عليها ولعنك إياها فصل في كلامك قال نعم كنا نجيئها الفاجرة بكبش فيطبخ لنا في دارها ثم لا تعشينا يشهد الله إلا بسلق

أشعب والغاضري
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال قال حدثنا مصعب
بلغ أشعب أن الغاضري قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره وأن جماعة قد استطابوه فرقبه حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم فصار إليه ثم قال له قد بلغني أنك قد نحوت نحوي وشغلت عني من كان يألفني فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل ثم غضن وجهه وعرضه وشنجه حتى صار عرضه أكثر من طوله وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها ثم أرسل وجهه وقال له افعل هكذا وطول وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره وصار كأنه وجه الناظر في سيفه ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير وصار طوله مقدار شبر أو أكثر ثم نزع سراويله وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض ثم خلاهما من يده ومشى وجعل يخنس وهما يخطان الأرض ثم قام فتطاول وتمدد وتمطى حتى صار أطول ما يكون من الرجال فضحك والله القوم حتى أغمي عليهم وقطع الغاضري فما تكلم بنادرة ولا زاد على أن يقول يا أبا العلاء لا أعاود ما تكره إنما أنا تلميذك وخريجك ثم أنصرف أشعب وتركه
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي عن عبيدة بن أشعب عن أبيه أنه كان مولده في سنة تسع

من الهجرة وأن أباه كان من مماليك عثمان وأن أمه كانت تنقل كلام أزواح النبي بعضهن إلى بعض فتلقي بينهن الشر فتأذى رسول الله فدعا الله عز و جل عليها فأماتها وعمر ابنها أشعب حتى هلك في أيام المهدي
وكان في أشعب خلال منها أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة وأكثرهم نادرة ومنها أنه كان أحسن الناس أداء لغناء سمعه ومنها أنه أقوم أهل دهره بحجج المعتزلة وكان أمرأً منهم
قال إبراهيم بن المهدي فحدثني عبيدة بن أشعب عن أبيه قال بلغني أن عبد الله بن عمر كان في مال له يتصدق بثمرته فركبت ناضحاً ووافيته في ماله فقلت يا بن أمير المؤمنين ويا بن الفاروق أوقر لي بعيري هذا تمراً فقال لي أمن المهاجرين أنت قلت اللهم لا قال فمن الأنصار أنت فقلت اللهم لا قال أفمن التابعين بإحسان فقلت أرجو فقال إلى أن يحقق رجاؤك قال أفمن أبناء السبيل أنت قلت لا قال فعلام أوقر لك بعيرك تمراً قلت لأني سائل وقد قال رسول الله ( إن أتاك سائل على فرس فلا ترده ) فقال لو شئنا أن نقول لك إنه قال لو أتاك على فرس ولم يقل أتاك على ناضح بعير لقلنا ولكني أمسك عن ذلك لاستغنائي عنه لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب إذا أتاني سائل على فرس يسألني أعطيته فقال إني سألت رسول الله عما سألتني عنه فقال لي نعم إذا لم تصب راجلاً ونحن أيها الرجل نصيب رجالة فعلام أعطيك وأنت على بعير فقلت له بحق أبيك الفاروق وبحق الله عز و جل وبحق رسول الله صلى الله علية وآله وسلم لما أوقرته لي تمراً فقال لي عبد الله أنا موقره لك تمراً ووحق الله ووحق رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت لك قسمك ولو أنك اقتصرت على استحلافي بحق

أبي علي في تمرة أعطيكها لما أنفذت قسمك لأني سمعت أبي يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تشد الرحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي بيثرب ولا يبر امرؤ قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحق الله وحق رسوله ثم قال للسودان في تلك الحال أوقروا له بعيره تمراً قال ولما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت إن السودان أهل طرب وإن أطربتهم أجادوا حشو غرائري فقلت يا بن الفاروق أتأذن لي في الغناء فأغنيك فقال لي أنت وذلك فاندفعت في النصب فقال لي هذا الغناء الذي لم نزل نعرفه ثم غنيته صوتاً آخر لطويس المغني وهو
( خليلَيَّ ما أُخفِي من الحب ناطِقٌ ... ودمْعي بما قلتُ الغَداةَ شهيدُ )
فقال لي عبد الله يا هناه لقد حدث في هذا المعنى ما لم نكن نعرفه قال ثم غنيته لابن سريج
( يا عينُ جودي بالدموع السِّفاحْ ... وابْكي على قَتْلَى قُريشِ البِطاحْ )
فقال يا أشْعبَ ويحك هذا يَحْيِقُ الفؤاد أراد يحرق الفؤاد لأنه كان ألثغ لا يبين بالراء ولا باللام قال أشعب وكان بعد ذلك لا يراني إلا استعادني هذا الصوت

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال
لقي أشعب صديق لأبيه فقال له ويحك يا أشعب كان أبوك ألحى وأنت أثط فإلى من خرجت قال إلى أمي
أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان قال
لقي أشعب سالم بن عبد لله بن عمر فقال يا أشعب هل لك في هريس قد أعد لنا قال نعم بأبي أنت وأمي قال فصر إلي فمضى إلى منزله فقالت له امرأته قد وجه إليك عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك قال ويحك إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعاني إليها وعبد الله بن عمرو في يدي متى شئت وسالم إنما دعوته للناس فلتة وليس لي بد من المضي إليه قالت إذاً يغضب عبد الله قال آكل عنده ثم أصير إلى عبد الله فجاء إلى سالم وجعل يأكل أكل متعالل فقال له كل يا أشعب وابعث ما فضل عنك إلى منزلك قال ذاك أردت بأبي أنت وأمي فقال يا غلام احمل هذا إلى منزله فحمله ومضى معه فجاء به امرأته فقالت له ثكلتك أمك قد حلف عبد الله أن لا يكلمك شهراً قال دعيني وإياه هاتي شيئاً من زعفران فأعطته ودخل الحمام يمسح على وجهه ويديه وجلس في الحمام حتى صفره ثم خرج متكئاً على عصا يرعد حتى أتى دار عبد الله بن عمرو فلما رآه حاجبه قال ويحك بلغت بك العلة ما أرى ودخل وأعلم صاحبه فأذن له فلما دخل عليه إذا سالم بن عبد الله عنده فجعل يزيد في الرعدة ويقارب الخطو فجلس وما يقدر أن يستقل فقال عبد الله ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك فقال له سالم مالك ويلك ألم

تكن عندي آنفاً وأكلت هريسة فقال له وأي أكل ترى بي قال ويلك ألم أقل لك كيت وكيت وتقل لي كيت وكيت قال له شبه لك قال لا حول ولا قوة إلا بالله والله إني لأظن الشيطان يتشبه بك ويلك أجاد أنت قال علي وعلي إن كنت خرجت منذ شهر فقال له عبد الله أعزب ويحك أتبهته لا أم لك قال ما قلت إلا حقاً قال بحياتي اصدقني وأنت آمن من غضبي قال لا وحياتك لقد صدق ثم حدثه بالقصة فضحك حتى استلقى على قفاه

ابنه عبد الله يذكر بعض طرائفه
أخبرني رضوان بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي
أن الرشيد لما ولاه دمشق بعث إليه عبد الله بن أشعب وكان يقدم عليه من الحجاز إذا أراد أن يطرب
قال إبراهيم وكان يحدثني من حديث أبيه بالطرائف
عادلته يوماً وأنا خارج من دمشق في قبة على بغل لألهو بحديثه فأصابنا في الطريق برد شديد فدعوت بدواج سمور لألبسه فأتيت به فلما لبسته أقبلت على ابن اشعب فقلت حدثني بشيء من طمع ابيك فقال لي مالك ولأبي ها أنا إذ دعوت بالدواج فما شككت والله في أنك إنما جئت به لي فضحكت من قوله ودعوت بغيره فلبسته وأعطيته إياه ثم قلت له
ألأبيك ولد غيرك فقال كثير فقلت عشرة قال أكثر قلت فخمسون قال أكثر كثير قلت مائة قال دع المئين وخذ الألوف فقلت ويلك أي شيء تقوله أشعب أبوك ليس بينك وبينه أب فكيف يكون له ألوف

من الولد فضحك ثم قال لي في هذا خبر ظريف فقلت له حدثني به فقال
كان أبي منقطعاً إلى سكينة بنت الحسين وكانت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان وكانت محبة له فكان لا يستقر معها تقول له أريد الحج فيخرج معها فإذا أفضوا إلى مكة تقول أريد الرجوع إلى المدينة فإذا عاد إلى المدينة قالت أريد العمرة فهو معها في سفر لا ينقضي قال عبد الله فحدثني أبي قال
كانت قد حلفته بما لا كفارة له ألا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يلم بنسائه وجواريه إلا بإذنها وحج الخليفة في سنة من السنين فقال لها قد حج الخليفة ولا بد لي من لقائه قالت فاحلف بأنك لا تدخل الطائف ولا تلم بجواريك على وجه ولا سبب فحلف لها بما رضيت به من الأيمان على ذلك ثم قالت له احلف بالطلاق فقال لا أفعل ولكن ابعثي معي بثقتك فدعتني وأعطتني ثلاثين ديناراً وقالت لي اخرج معه وحلفتني بطلاق بنت وردان زوجتي ألا اطلق له الخروج إلى الطائف بوجه ولا سبب فحلفت لها بما أثلج صدرها فأذنت له فخرج وخرجت معه فلما حاذينا الطائف قال لي يا أشعب أنت تعرفني وتعرف صنائعي عندك وهذه ثلاثمائة دينار خذها بارك الله لك فيها وأذن لي ألم بجواري فلما سمعتها ذهب عقلي ثم قلت يا سيدي هي سكينة فالله الله في فقال أو تعلم سكينة الغيب فلم يزل بي حتى أخذتها وأذنت له فمضى وبات عند جواريه فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا فلبست حلة وشيءٍ كانت لزيد قيمتها ألف دينار وركبت فرسه وجئت إلى النساء فسلمت فرددن ونسبنني فانتسبت نسب زيد فحادثني وأنسن بي وأقبل رجال الحي وكلما جاء رجل سأل عن نسبي فخبر به هابني وسلم علي وعظمني وانصرف إلى أن أقبل شيخ كبير منكر مبطون فلما خبر بي وبنسبي شال حاجبيه عن عينه ثم نظر إلي وقال وأبي ما هذه خلقة قرشي ولا شمائله وما هو إلا عبد لهم ناد وعلمت أنه يريد شراً فركبت الفرس ثم مضيت ولحقني فرماني بسهم فما أخطأ قربوس

السرج وما شككت أنه يلحقني بآخر يقتلني فسلحت يعلم الله في ثيابي فلوثها ونفذ إلى الحلة فصيرها شهرة وأتيت رحل زيد بن عمرو فجلست أغسل الحلة وأجففها وأقبل زيد بن عمرو فرأى ما لحق الحلة والسرج فقال لي ما القصة ويلك فقلت يا سيدي الصدق أنجى وحدثته الحديث فاغتاظ ثم قال لي ألم يكفك أن تلبس حلتي وتصنع بها ما صنعت وتركب فرسي وتجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي وفضحتني وجعلتني عند العرب ولاجا جماشا وجرى عليك ذل نسب إلي أنا نفي من أبي ومنسوب إلى أبيك إن لم أسؤك وأبلغ في ذلك
ثم لقي الخليفة وعاد ودخلنا إلى سكينة فسألته عن خبره كله فخبرها حتى انتهى إلى ذكر جواريه فقالت إيه وما كان من خبرك قي طريقك هل مضيت إلى جواريك بالطائف فقال لها لا أدري سلي ثقتك فدعتني فسألتني وبدأت فحلفت لها بكل يمين محرجة أنه ما مرّ بالطائف ولا دخلها ولا فارقني فقال لها اليمين التي حلف بها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف وبت عند جواري وغسلتهن جميعا وأخذ مني ثلاثمائة دينار وفعل كذا وكذا وحدثها الحديث كله وأراها الحلة والسرج فقالت لي أفعلتها يا أشعب أنا نفية من أبي إن أنفقتها إلا فيما يسوءك ثم أمرت بكبس منزلي وإحضارها الدنانير فأحضرت

فاشترت بها خشبا وبيضاً وسرجينا وعملت من الخشب بيتاً فحبستني فيه وحلفت ألا أخرج منه ولا أفارقه حتى أحضن البيض كله إلى أن ينقب فمكثت أربعين يوماً أحضن لها البيض حتى نقب وخرج منه فراريج كثيرة فربتهن وتناسلن فكن بالمدينة يسمين بنات أشعب ونسل أشعب فهؤلاء إلى الآن بالمدينة نسل يزيد على الألوف كلهن أهلي وأقاربي
قال إبراهيم فضحكت والله من قوله ضحكاً ما أذكر أني ضحكت مثله قط ووصلته ولم يزل عندي زماناً حتى خرج إلى المدينة وبلغني أنه مات هناك
أخبرني أحمد قال حدثنا مصعب بن عبد الله بن عثمان قال
قال رجل لأشعب إن سالم بن عبد الله قد مضى إلى بستان فلان ومعه طعام كثير فبادر حتى لحقه فأغلق الغلام الباب دونه فتسور عليه فصاح به سالم بناتي ويلك بناتي فناداه أشعب ( لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ) فأمر بالطعام فأخرج إليه منه ما كفاه

أشعب يقوقئ مثل الدجاجة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال
بعثت سكينة إلى أبي الزناد فجاءها تستفتيه في شيء فاطلع أشعب عليه من بيت وجعل يقوقئ مثل ما تقوقئ الدجاجة قال فسبح أبو الزناد وقال ما هذا فضحكت وقالت إن هذا الخبيث أفسد علينا بعض أمرنا فحلفت أن يحضن بيضاً في هذا البيت ولا يفارقه حتى ينقب فجعل أبو الزناد يعجب من فعلها

وقد أخبرني محمد بن جعفر النحوي بخبر سكينة الطويل على غير هذه الرواية وهو قريب منها وقد ذكرته في أخبار سكينة بنت الحسين مفردا عن أخبار أشعب هذه في أخبارها مع زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب قال حدثني بعض المدنيين قال
كان لأشعب خرق في بابه فكان ينام ثم يخرج يده من الخرق يطمع في أن يجيء إنسان يطرح في يده شيئاً من شدة الطمع فبعث إليه بعض من كان يعبث به من مجان آل الزبير بعبد له فسلح في يده فلم يعد بعدها إلى أن يخرج يده
وأخبرني به الجوهري عن ابن مهرويه عن محمد بن الحسن عن مصعب عن بعض المدنيين فذكر نحوه ولم يذكر ما فعل به الماجن
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الزبيري أبو طاهر قال حدثنا يحي بن محمد بن أبي قتيلة قال حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرج أن أشعب حدثه قال
جاءني فتية من قريش فقالوا إنا نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتا من الغناء وتعلمنا ما يقول لك وجعلوا لي على ذلك جعلا فتنني فدخلت على سالم فقلت يا أبا عمر إن لي مجالسة وحرمة ومودة وسناً وأنا مولع بالترنم قال وما الترنم قلت الغناء قال في أي وقت قلت في الخلوة ومع الإخوان في المنزه فأحب ان أسمعك فإن كرهته أمسكت عنه وغنيتُه فقال ما أرى بأساً فخرجت فأعلمتهم قالوا وأي شيء غنيته قلت غنيته

( قَرِّبا مَربَطَ النّعَامَةِ مِنّي ... لَقَحتْ حربُ وائلٍ عن حِيالي )
فقالوا هذا بارد ولا حركة فيه ولسنا نرضى فلما رأيت دفعهم إياي وخفت ذهاب ما جعلوه لي رجعت فقلت يا أبا عمر آخر فقال مالي ولك فلم أملكه كلامه حتى غنيت فقال ما رأى بأساً فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا وأي شيء غنيته فقلت غنيته قوله
( لم يُطيقوا أن يَنْزِلوا ونَزلنا ... وأخو الحرب مَنْ أطاق النِّزالا )
فقالوا ليس هذا بشيء فرجعت إليه فقال مه قلت وآخر فلم أملكه أمره حتى غنيت
( غَيَّضْن من عَبَراتِهنّ وقَلنَ لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينا )
فقال نهلا نهلا فقلت لا والله إلا بذاك السداك وفيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال هو لك فخرجت به عليهم وأنا أخطر فقالوا مه فقلت غنيت الشيخ
( غَيَّضْن من عَبراتِهنّ وقُلْنَ لي ... . . . . )
فطرب وفرض لي فأعطاني هذا وكذبتهم والله ما أعطانيه إلا استكفافاً حتى صمت
قال ابن أبي سعد السداك الزبيل الكبير وفرض لي أي نقطني يعني ما يهبه الناس للمغنين ويسمونه النقط

أشعب المغني
حدثني الجوهري قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني قعنب بن المحرز عن الأصمعي قال حدثني جعفر بن سليمان قال
قدم أشعب أيام أبي جعفر فأطاف به فتيان بني هاشم وسألوه أن يغنيهم فغنى فإذا ألحانه مطربة وحلقه على حاله فقال له جعفر بن المنصور لمن هذا الشعر والغناء
( لِمَن طَلَلٌ بذاتِ الجَيْش ... أمسى دارساً خَلَقا )
فقال له أخذت الغناء عن معبد وهو للدلال ولقد كنت آخذ اللحن عن معبد فإذا سئل عنه قال عليكم بأشعب فإنه أحسن تأدية له مني
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عبد الله بن مصعب قال
قدم جرير المدينة فاجتمع إليه الناس يستنشدونه ويسألونه عن شعره فينشدهم ويأخذون عنه وينصرفون ولزمه أشعب من بينهم فلم يفارقه فقال له جرير أراك أطولهم جلوساً وأكثرهم سؤالاً وإني لأظنك ألأمهم حسباً فقال له يا أبا حزرة أنا والله أنفعهم قال وكيف ذلك قال أنا آخذ شعرك فأحسنه وأجوده قال كيف تحسنه وتجوده قال فاندفع فغناه في شعره والغناء لابن سريج
صوت
يا أختَ ناجِيَة السلامُ عليكم ... قبلَ الرحيلِ وقبل لَوْمِ العُذَّل )

( لو كنتُ أعلمُ أن آخر عَهْدكم ... يوم الرّحيل فعلْتُ ما لم أفْعلِ )
قال فطرب جرير حتى بكى وجعل يزحف إليه حتى لصقت ركبته بركبته وقال أشهد أنك تحسنه وتجوده فأعطاه من شعره ما أراد ووصله بدنانير وكسوة
حدثني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أبي قال الهيثم بن عدي
لقيت أشعب فقلت له كيف ترى أهل زمانك هذا قال يسألونك عن أحاديث الملوك ويعطون إعطاء العبيد
حدثني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم حدثنا أحمد بن يحي قال أخبرنا مصعب قال
حجت أم عمر بنت مروان فاستحجبت أشعب وقالت له أنت أعرف الناس بأهل المدينة فأذن لهم على مراتبهم وجلست لهم مليا ثم قامت فدخلت القائلة فجاء طويس فقال لأشعب استأذن لي على أم عمر فقال ما زالت جالسة وقد دخلت فقال له يا أشعب ملكت يومين فلم تفت بعرتين ولم تقطع شعرتين فدق أشعب الباب ودخل إليها فقال لها أنشدك الله يا بنة مروان هذا طويس بالباب فلا تتعرضي للسانه ولا تعرضيني فأذنت له فلما دخل إليها قال لها والله لئن كان بابك غلقاً لقد كان باب أبيك فلقاً ثم أخرج دفه ونقر به وغنى
( ما تمنعني يَقظى فقد تُؤْتَيْنَه ... في النَّوم غير مُصَرَّد محسوبِ )
( كان المُنَى بلقائها فَلِقيتُها ... فلهوتُ من لهو امرئٍ مكذوبِ )

قالت أيهما أحب إليك العاجل أم الآجل فقال عاجل وآجل فأمرت له بكسوة
أخبرني الجوهري قال حدثني ابن مهرويه عن أبي مسلم عن المدائني قال
حدث رجل من أهل المدينة أشعب بحديث أعجبه فقال له في حديثك هذا شيء قال وما هو تقلبيه على الرأس

أشعب والوليد بن يزيد
أخبرني الجوهري قال حدثني ابن مهرويه قال أخبرنا أبو مسلم قال حدثنا المدائني قال
بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعدما طلق امرأته سعدة فقال له يا أشعب لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة فقال له أحضر المال حتى انظر إليه فأحضر الوليد بدرة فوضعها أشعب على عنقه ثم قال هات رسالتك يا أمير المؤمنين قال قل لها يقول لك
( أَسُعْدَةُ هل إليكِ لنا سبيلٌ ... وهل حتى القيامَة من تلاقِي )
( بلى ولعلَّ دهراً أن يُوَاتِي ... بموتٍ من حليلكِ أو طلاقِ )
( فأُصبِحَ شامتاً وتقرَّ عيني ... ويُجمَع شملُنا بعد افتراق )

قال فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت ففرشت لها فرش وجلست فأذنت له فدخل فأنشدها ما أمره فقالت لخدمها خذوا الفاسق فقال يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم قالت والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني قال وما تهبين لي قالت بساطي الذي تحتي قال قومي عنه فقامت فطواه ثم قال هاتي رسالتك جعلت فداءك قالت قل له
( أتبكي على لُبْنَى وأنتَ تركتَها ... فقد ذهبتْ لُبْنَى فما أنت صانعُ )
فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت فقال أوه قتلتني والله ما تراني صانعاً بك يا بن الزانية اختر إما أن أدليك منكساً في بئر أو أرمي بك من فوق القصر منكسا أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة فقال ما كنت فاعلا بي شيئاً من ذلك قال ولم قال لأنك لم تكن لتعذب رأساً فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال صدقت يا بن الزانية اخرج عني
وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن الهيثم ابن عدي أن سعدة لما أنشدها أشعب قوله
( أسُعدَة هل إليك لنا سَبيلٌ ... وهل حَتَّى القيامة من تلاقي )
قالت لا والله لا يكون ذلك ابدا فلما أنشدها
( بلى ولعلَّ دهرا أن يُواتِي ... بموْتٍ من حلِيلِك أو طلاقِ )
قالت كلا إن شاء الله بل يفعل الله ذلك به فلما أنشدها
( فأُصبِحَ شامِتاً وتَقَرَّ عَيْني ... ويُجمَعَ شُملُنا بعد افْتراقِ )
قالت بل تكون الشماتة به وذكر باقي الخبر مثل حديث الجوهري عن ابن مهرويه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال

كتب الوليد بن يزيد في إشخاص أشعب من الحجاز إليه وحمله على البريد فحمل إليه فلما دخل أمر بأن يلبس تبانا ويجعل فيه ذنب قرد ويشد في رجليه أجراس وفي عنقه جلاجل ففعل به ذلك فدخل وهو عجب من العجب فلما رآه ضحك منه وكشف عن أيره قال أشعب فنظرت إليه كأنه ناي مدهون فقال لي اسجد للأصم ويلك يعني أيره فسجدت ثم رفعت رأسي وسجدت أخرى فقال ما هذا قلت الأولى للأصم والثانية لخصيتيك فضحك وأمر بنزع ما كان ألبسنيه ووصلني ولم أزل من ندمائه حتى قتل
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
قال رجل لأشعب إنه أهدي إلى زياد بن عبد الحارثي قبة أدم قيمتها عشرة آلاف درهم فقال امرأته الطلاق لو أنها قبة الإسلام ما ساوت ألف درهم فقيل له إن معها جبة وشيٍ حشوها قز قيمتها عشرون ألف دينارٍ فقال أمه زانية لو أن حشوها زغب أجنحة الملائكة ما ساوت عشرين ديناراً
أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المدائني قال حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه قال حدثني أشعب قال
ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي وكان أبخل الناس وأنكدهم وأغراه الله بي يطلبني في ليله ونهاره فإن هربت منه هجم على منزلي بالشرط وإن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده يطلبني منه فيطالبني بأن أحدثه وأضحكه ثم لا أسكت ولا ينام ولا يطعمني ولا يعطيني فلقيت منه جهداً عظيماً وبلاء شديداً وحضر الحج فقال لي يا أشعب كن معي فقلت بأبي أنت وأمي أنا عليل وليست لي نية في الحج فقال عليه وعليه

وقال إن الكعبة بيت النار لئن لم تخرج معي لأودعنك حيث أقدم فخرجت معه مكرهاً فلما نزلنا المنزل أظهر أنه صائم ونام حتى تشاغلت ثم أكل ما في سفرته وأمر غلامه أن يطعمني رغيفين بملح فجئت وعندي أنه صائم ولم أزل أنتظر المغرب أتوقع إفطاره فلما صليت المغرب قلت لغلامه ما ينتظر بالأكل قال قد أكل منذ زمان قلت أو لم يكن صائماً قال لا قلت أفأطوي أنا قال قد أعد لك ما تأكله فكل وأخرج إلي الرغيفين والملح فأكلتها وبت ميتاً جوعاً وأصبحت فسرنا حتى نزلنا المنزل فقال لغلامه ابتع لنا لحماً بدرهم فابتاعه فقال كبب لي قطعاً ففعل فأكله ونصب القدر فلما أغبَّرت قال اغرف لي منها قطعاً ففعل فأكلها ثم قال لي اطرح فيها دقة وأطعمني منها ففعل ثم قال ألق توابلها وأطعمني منها ففعل وأنا جالس أنظر إليه لا يدعوني فلما استوفى اللحم كله قال يا غلام أطعم أشعب ورمى إلي برغيفين فجئت إلى القدر وإذا ليس فيها إلا مرق وعظام فأكلت الرغيفين وأخرج له جرابا فيه فاكهة يابسة فأخذ منها حفنة فأكلها وبقي في كفه كف لوز بقشره ولم يكن له فيه حيلة فرمى به إلي وقال كل هذا يا أشعب فذهبت أكسر واحدة منها فإذا بضرسي قد انكسرت منه قطعة فسقطت بين يدي وتباعدت أطلب حجراً أكسره به فوجدته فضربت به لوزة فطفرت يعلم الله مقدار رمية حجر وعدوت في طلبها فبينما أنا في ذلك إذ أقبل بنو مصعب يعني ابن ثابت وإخوته يلبون بتلك الحلوق الجهورية فصحت بهم الغوث الغوث العياذ بالله وبكم يا آل الزبير الحقوني وأدركوني فركضوا إلي فلما رأوني قالوا أشعب مالك ويلك قلت خذوني معكم تخلصوني من الموت فحملوني معهم فجعلت أرفرف بيدي كما يفعل الفرخ إذا طلب الزق من أبويه فقالوا مالك ويلك قلت ليس هذا وقت الحديث زقوني مما معكم فقد مت ضراً وجوعاً منذ ثلاث قال فأطعموني حتى تراجعت نفسي وحملوني معهم في محمل ثم قالوا أخبرنا بقصتك فحدثتهم وأريتهم ضرسي المكسورة فجعلوا يضحكون ويصفقون وقالوا ويلك من أين وقعت على هذا هذا من أبخل خلق الله

وأدنئهم نفساً فحلفت بالطلاق أني لا أدخل المدينة ما دام له بها سلطان فلم أدخلها حتى عزل
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثنا إبراهيم بن المهدي قال حدثني عبيدة بن أشعب قال
كان الغاضري منذر أهل المدينة ومضحكهم قبل أبي فأسقطه أبي واطرح وكان الغاضري حسن الوجه ماد القامة عبلا فخما وكان أبي قصيرا دميماً قليل اللحم إلا أنه كان يتضرم ويتوقد ذكاء وحدة وخفة روح وكان الغاضري يحسده إلا أنهما متساويان وكان الغاضري لقيطاً منبوذاً لا يعرف له أب فمر يوماً ومعه فتية من قريش بأبي في المسجد وقد تأذى بثيابه فنزعها وتجرد وجلس عرياناً فقال لهم الغاضري أنشدتكم الله هل رأيتم أعجب من هذه الخلقة يريد خلقة أبي فقال له أبي إن خلقتي لعجيبة وأعجب منها أنه زفني فصرت نضوا وزفك فصرت بختيا قال وأهل المدينة يسمون المهلوس من الفراخ النضو والمسرول البختي فغضب الغاضري عند ذلك وشتمه فسقط واستبرد وترك النوادر بعد ذلك وغلب أبي على أهل المدينة واستطابوه وكان هذا سببه

أشعب وزياد بن عبد الله الحارثي
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

كان زياد بن عبد الله الحارثي أبخل خلق الله فأولم وليمة لطهر بعض أولاده وكان الناس يحضرون ويقدم الطعام فلا يأكلون منه إلا تعللاً وتشعثاً لعلمهم به فقدم فيما قدم جدي فلم يعرض له أحد وجعل يردده على المائدة ثلاثة أيام والناس يجتنبونه إلى أن انقضت الوليمة فأصغى أشعب إلى بعض من كان هناك فقال امرأته الطلاق إن لم يكن هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول عمراً وأمد حياة منه قبل أن يذبح فضحك الرجل وسمعها زياد فتغافل
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك بن إسحاق قال حدثني إبراهيم بن المهدي عن عبيدة بن أشعب قال
غضبت سكينة على أبي في شيء خالفها فيه فحلفت لتحلقَن لحيته ودعت بالحجام فقالت له احلق لحيته فقال له الحجام انفخ شدقيك حتى أتمكن منك فقال له يا بن البظراء أمرتك أن تحلق لحيتي أو تعلمني الزمر خبرني عن امرأتك إذا أردت أن تحلق حرها تنفخ أشداقه فغضب الحجام وحلف ألا يحلق لحيته وانصرف وبلغ سكينة الخبر وما جرى بينهما فضحكت وعفت عنه
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العيناء عن الأصمعي قال
أهدى كاتب لزياد بن عبد الله الحارثي إليه طعاماً فأتي به وقد تغدى فغضب

وقال ما أصنع به وقد أكلت ادعوا أهل الصفة يأكلونه فبعث إليهم وسأل كاتبه فيم دعا أهل الصفة فعرف فقال الكاتب عرفوه أن في السلال أخبصةً وحلواء ودجاجا وفراخا فأخبر بذلك فأمر بكشفها فلما رآها أمر برفعها فرفعت وجاء أهل الصفة فأعلم فقال اضربوهم عشرين عشرين درة واحبسوهم فإنهم يفسون في مسجد رسول الله المصلين فكلم فيهم فقال حلفوهم ألا يعاودوا وأطلقوهم

أشعب وأبان بن عثمان والأعرابي
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن زبالة قال حدثنا ابن زنبج راوية ابن هرمة عن أبيه قال
كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم وبلغ من عبثه أنه كان يجيء بالليل إلى منزل رجل في أعلى المدينة له لقب يغضب منه فيقول له أنا فلان بن فلان ثم يهتف بلقبه فيشتمه أقبح شتم وأبان يضحك فبينما نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب إذ أقبل أعرابي ومعه جمل له والأعرابي أشقر أزرق أزعر غضوب يتلظى كأنه أفعى ويتبين الشر في وجهه ما يدنو منه أحدٌ إلا شتمه ونهره فقال أشعب لأبان هذا والله من البادية ادعوه فدعي وقيل له إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك فأتاه فسلم عليه فسأله ابان عن نسبه فانتسب له فقال حياك الله يا

خالي حبيب ازداد حباً فجلس فقال له إني في طلب جمل مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهي بهذه الصفة وهذه القامة واللون والصدر والورك والأخفاف فالحمد لله الذي جعل ظفري به من عند من أحبه أتبيعه فقال نعم أيها الأمير فقال فإني قد بذلت لك به مائة دينار وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فطمع الأعرابي وسر وانتفخ وبان السرور والطمع في وجهه فأقبل أبان على أشعب ثم قال له ويلك يا أشعب إن خالي هذا من أهلك وأقاربك يعني في الطمع فأوسع له مما عندك فقال له نعم بأبي أنت وزيادة فقال له أبان يا خالي إنما زدتك في الثمن على بصيرة وإنما الجمل يساوي ستين ديناراً ولكن بذلت لك مائة لقلة النقد عندنا وإني أعطيك بها عروضاً تساوي مائة فزاد طمع الأعرابي وقال قد قبلت ذلك أيها الأمير فأسر إلى أشعب فأخرج شيئاً مغطى فقال له أخرج ما جئت به فأخرج جرد عمامة خز خلق تساوي أربعة دراهم فقال له قومها يا أشعب فقال له عمامة الأمير تعرف به ويشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء خمسون ديناراً فقال ضعها بين يديه وقال لابن زبنج أثبت قيمتها فكتب ذلك ووضعت العمامة بين يدي الأعرابي فكاد يدخل بعضه في بعض غيظاً ولم يقدر على الكلام ثم قال هات قلنسوتي فأخرج قلنسوة طويلة خلقة قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت تساوي نصف درهم فقال قوم فقال قلنسوة الأمير تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات الخمس ويجلس للحكم ثلاثون دينارا قال أثبت فأثبت ذلك ووضعت القلنسوة بين يدي الأعرابي فتربد وجهه وجحظت عيناه وهم بالوثوب ثم تماسك وهو متقلقل
ثم قال لأشعب هات ما عندك فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا

وتفتقا فقال له قوم فقال خفا الأمير يطأ بهما الروضة ويعلو بهما منبر النبي دينارا فقال ضعهما بين يديه فوضعهما ثم قال للأعرابي اضمم إليك متاعك وقال لبعض الأعوان اذهب فخذ الجمل وقال لآخر امض مع الأعرابي فاقبض منه ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع وهو عشرون دينارا فوثب الأعرابي فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدة الرمي به ثم قال له أتدري أصلحك الله من أي شيء أموت قال لا قال لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك ثم نهض مثل المجنون حتى أخذ برأس بعيره وضحك أبان حتى سقط وضحك كل من كان معه وكان الأعرابي بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له هلم إلي يا بن الخبيثة حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قوم فيهرب أشعب منه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال حدثني شيخ من أهل المدينة قال
كانت بالمدينة عجوز شديدة العين لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته فدخلت على أشعب وهو في الموت وهو يقول لبنته يا بنية إذا مت فلا تندبيني والناس يسمعونك فتقولين واأبتاه أندبك للصوم والصلوات واأبتاه أندبك للفقه والقراءة فيكذبك الناس ويلعنوني والتفت أشعب فرأى المرأة فغطى وجهه بكمه وقال لها يا فلانة بالله إن كنت استحسنت شيئاً مما أنا فيه فصلِ على النبي تهلكيني فغضبت المرأة وقالت سخنت عينك في أي شيء أنت مما يستحسن أنت في آخر رمق قال قد علمت ولكن قلت لئلا تكوني قد استحسنت خفة الموت علي وسهولة النزع فيشتد ما أنا فيه وخرجت من عنده وهي تشتمه وضحك كل من كان حوله من كلامه ثم مات

نماذج من طرائفه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو أيوب المديني عن مصعب قال
لاعب أشعب رجلاً بالنرد فأشرف على أن يقمره إلا بضرب دويكين ووقع الفصان في يد ملاعبه فأصابه زمع وجزع فضرب يكين وضرط مع الضربة فقال له أشعب امرأته طالق إن لم أحسب لك الضرطة بنقطة حتى يصير لك اليكان دو ويك وتقمر وسلم له القمر بسبب الضرطة
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثني أبو أيوب عن حماد عن ابن إسحاق عن أبيه قال
قال رجل لأشعب كان أبوك ألحى وأنت أثط فإلى من خرجت قال إلى أمي فمر الرجل وهو يعجب من جوابه وكان رجلاً صالحاً
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني الرياشي قال
سمعت أبا عاصم النبيل يقول رأيت أشعب وسأله رجل ما بلغ من طمعك قال ما زفت عروس بالمدينة إلى زوجها قط إلا فتحت بابي رجاء أن تهدى إلي
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال تظلمت امرأة أشعب منه إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم وقالت لا يدعني أهدأ من كثرة الجماع فقال له أشعب أتراني أعلف ولا أركب لتكف ضرسها لأكف أيري

قال وشكا خال لأشعب إليه امرأته وأنها تحزنه في ماله فقال له فديتك لا تأْمنَنَ قحبة ولو أنها أمك فانصرف عنه وهو يشتمه
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني قعنب بن المحرز عن الأصمعي عن جعفر بن سليمان قال
قدم علينا أشعب أيام أبي جعفر فأطاف به فتيان بني هاشم وسألوه أن يغني فغناهم فإذا ألحانه مطربة وحلقه على حاله فسألوه لمن هذا اللحن
( لمَنْ طَللٌ بذاتِ الجَيْشِ وأمسَى دارِساً خَلَقا )
فقال للدلال وأخذته عن معبد ولقد كنت آخذ عنه الصوت فإذا سئل عنه قال عليكم بأشعب فإنه أحسن أداء له مني

أشعب والحسن بن الحسن بن علي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال ذكر الزبير بن بكار عن شعيب بن عبيدة بن أشعب عن أبيه قال
كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يعبث بأبي أشد عبث وربما أراه في عبثه أنه قد ثمل وأنه يعربد عليه ثم يخرج إليه بسيف مسلول ويريه أنه يريد قتله فيجري بينهما في ذلك كل مُستمع فهجره أبي مدة طويلة ثم لقيه يوما فقال له يا أشعب هجرتني وقطعتني ونسيت عهدي فقال له بأبي أنت وأمي لو كنت تعربد بغير السيف ما هجرتك ولكن ليس مع السيف لعب فقال له فأنا أعفيك من هذا فلا تراه مني أبداً وهذه عشرة دنانير ولك حماري الذي تحتي أحملك عليه وصر إلي ولك الشرط ألا ترى في داري

سيفاً قال لا والله أو تخرج كل سيف في دارك قبل أن نأكل ذلك لك قال قال فجاءه أبي ووفى له بما قال من الهبة وإخراج السيوف وخلف عنده سيفاً في الدار فلما توسط الأمر قام إلى البيت فأخرج السيف مشهوراً ثم قال يا أشعب إنما أخرجت هذا السيف لخير أريده بك قال بأبي أنت وأمي فأي خير يكون مع السيف ألست تذكر الشرط بيننا قال له فاسمع ما أقول لك لست أضربك به ولا يلحقك منه شيء تكرهه وإنما أريد أن أضجعك وأجلس على صدرك ثم آخذ جلدة حلقك بإصبعي من غير أن أقبض على عصب ولا ودج ولا مقتل فأحزها بالسيف ثم أقوم عن صدرك وأعطيك عشرين ديناراً فقال نشدتك الله يا بن رسول الله ألا تفعل بي هذا وجعل يصرخ ويبكي ويستغيث والحسن لا يزيده على الحلف له أنه لا يقتله ولا يتجاوز به أن يحز جلده فقط ويتوعده مع ذلك بأنه إن لم يفعله طائعاً فعله كارهاً حتى إذا طال الخطب بينهما واكتفى الحسن من المزح معه أراه أنه يتغافل عنه وقال له أنت لا تفعل هذا طائعاً ولكن أجيءْ بحبل فأكتفك به ومضى كأنه يجيء بحبل فهرب أشعب وتسور حائطاً بينه وبين عبد الله بن حسن أخيه فسقط إلى داره فانفكت رجله وأغمي عليه فخرج عبد الله فزعاً فسأله عن قصته فأخبره فضحك منه وأمر له بعشرين دينارا وأقام في منزله يعالجه ويعوله إلى أن صلحت حاله قال وما رآه الحسن بن الحسن بعدها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال

دعا حسن بن حسن بن علي عليهم السلام أشعب فأقام عنده فقال لأشعب يوماً أنا اشتهي كبد هذه الشاة لشاة عنده عزيزة عليه فارهه فقال له أشعب بأبي أنت وأمي أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة فقال أخبرك أني اشتهي كبد هذه وتقول لي أسمن شاة بالمدينة اذبح يا غلام فذبحها وشوى له من كبدها وأطايبها فأكل ثم قال لأشعب من الغد يا أشعب أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا لنجيب كان عنده ثمنه ألوف دراهم فقال له أشعب يا سيدي في ثمن هذا والله غناي فأعطينه وأنا والله أطعمك من كبد كل جزور بالمدينة فقال أخبرك أني أشتهي من كبد هذا وتطعمني من غيره يا غلام انحر فنحر النجيب وشوى كبده فأكلا فلما كان اليوم الثالث قال له يا أشعب أنا والله أشتهي أن آكل من كبدك فقال له سبحان الله أتأكل من أكباد الناس قال قد أخبرتك فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله فقيل له ويلك أظننت أنه يذبحك فقال والله لو أن كبدي وجميع أكباد العالمين جميعاً اشتهاها لأكلها وإنما فعل حسن بالشاة والنجيب ما فعل توطئة للعبث بأشعب تمت أخباره

صوت
( ألَمّتْ خُناسُ وإلمامُها ... أحادِيثُ نَفْس وأحلامُها )
( يَمانِيةُ من بني مالِكٍ ... تَطَاوَل في المَجْد أعمامُها )
الشعر لعويف القوافي الفزاري والغناء للهذلي رمل بالوسطى عن

عمرو وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أن فيه لحناً لجميلة ولم يذكر طريقته وفيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى

أخبار عويف ونسبه
هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن وقيل ابن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
وعويف القوافي شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية من ساكني الكوفة وبيته أحد البيوت المقدمة الفاخرة في العرب
قال أبو عبيدة حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل بعد بيت هاشم بن عبد مناف في قريش ثلاثة بيوت ومنهم من يقول أربعة أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري بيت قيس وبيت آل زرارة بن عدس الدارميين بيت تميم وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام بيت شيبان وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن
وأما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات إنما كانوا ملوكاً
وقال ابن الكلبي قال كسرى للنعمان هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة قال نعم قال بأبي شيء قال من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم اتصل ذلك بكمال الرابع والبيت من قبيلته فيه قال فاطلب لي ذلك فطلبه

فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر بيت قيس بن عيلان وآل حاجب بن زرارة بيت تميم وآل ذي الجدين ببيت شيبان وآل الأشعث بن قيس بيت كندة قال فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم فاقعد لهم الحكام العدول فأقبل من كل قوم منهم شاعرهم وقال لهم ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه وفعالهم وليقل شاعرهم فيصدق فقام حذيفة بن بدر وكان أسن القوم وأجرأهم مقدما فقال لقد علمت معد أن منا الشرف الأقدم والعز الأعظم ومأثرة الصنيع الأكرم فقال من حوله ولم ذاك يا أخا فزارة فقال ألسنا الدعائم التي لا ترام والعز الذي لا يضام قيل له صدقت ثم قام شاعرهم فقال
( فَزارةُ بيتُ العِز والعِزُّ فيهمُ ... فَزارةُ قَيْسٍ حَسْبُ قَيْسٍ نِضالُها )
( لها العِزَّةُ القَعْسَاءُ والحَسَبُ الذي ... بَناه لِقَيْس في القديم رِجالُها )
( فَمَنْ ذا إذا مُدَّ الأكفُّ إلى العُلا ... يَمُدُّ بأُخْرى مِثْلَها فينالُها )
( فهَيْهاتَ قد أعْيا القُرونَ التي مَضَت ... مآثرُ قَيْس مَجدُها وفَعَالُها )
( وهل أحدٌ إن مَدَّ يوماً بكَفِّه ... إلى الشمس في مَجْرَى النُّجوم ينالُها )
( وإن يَصْلُحوا يَصْلُحْ لذاك جَمِيعُنا ... وإن يَفْسُدوا يفْسُدْ على النّاس حالُها )
ثم قام الأشعث بن قيس وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته

بالنعمان فقال لقد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر وقديم زحفها الأكبر وأنا غياث اللزبات فقالوا لم يا أخا كندة قال لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه وتقلدنا منكبه الأعظم وتوسطنا بحبوحه الأكرم ثم قام شاعرهم فقال
( إذا قِسْتَ أبياتَ الرِّجالِ بِبَيْتِنا ... وجدتَ له فَضْلاً على من يُفاخِرُ )
( فَمنْ قال كَلاَّ أو أتانا بخُطَّةٍ ... يُنافِرُنا يوماً فنحن نُخاطِرُ )
( تَعالوا فعُدُّوا يعلم النَّاس أيُّنَا ... له الفَضلُ فيما أورثَتْه الأكابِرُ )
ثم قام بسطام بن قيس فقال لقد علمت ربيعة أنا بناة بيتها الذي لا يزول ومغرس عزها الذي لا ينقل قالوا ولم يا أخا شيبان قال لأنا أدركهم للثأر وأقتلهم للملك الجبار وأقولهم للحق وألدهم للخصم ثم قام شاعرهم فقال
( لعَمْري لَبِسْطامٌ أحقُّ بفضلها ... وأولَى بِبَيْت العزِّ عِزِّ القبائِل )
( فسائِلْ أبيتَ اللّعْن عن عِزّ قَومِنا ... إذا جَدَّ يوم الفَخْر كُلُّ مناضِل )
( ألسْنَا أعزَّ الناسِ قوماً وأُسرةً ... وأضْرَبَهم للكَبْشِ بين القبائِل )
( فَيُخْبرَك الأقوامُ عنها فإنها ... وقائعُ لَيسَت نُهزةً للقَبائِل )
( وقائعُ عِزَّ كلّها رَبَعِيَّةٌ ... تَذِلُّ لهم فيها رِقابُ المَحافِل )
( إذا ذُكِرت لم يُنْكِر النَّاس فضلَها ... وعاذَ بها من شَرِّها كُلُّ قائِل )

( وإنّا مُلوكُ النَّاسِ في كل بَلْدةِ ... إذا نَزَلت بالنّاس إحْدى الزَّلازِلِ )
ثم قام حاجب بن زرارة فقال لقد علمت معد أنا فرع دعامتها وقادة زحفها فقالوا له بم ذاك يا أخا بني تميم قال لأنا أكثر الناس إذا نسبنا عدداً وأنجبهم ولداً وأنَّا أعطاهم للجزيل وأحملهم للثقيل ثم قام شاعرهم فقال
( لقد عَمِلتْ أَبناءُ خِنْدِفَ أَنَّنا ... لنا العِزُّ قِدْماً في الخُطوبِ الأوائِلِ )
( وأَنّا هِجانٌ أَهْل مجد وثَرْوَةٍ ... وعِزٍّ قديمٍ ليس بالمُتضائِلِ )
( فكَمْ فيهمُ من سَيّدٍ وابْنِ سَيّدٍ ... أغرَّ نجيبٍ ذي فَعال ونائِلِ )
( فسائلْ أبيتَ اللَّعن عنّا فإنّنا ... دعائمُ هذا النّاس عند الجَلائِلِ )
ثم قام قيس بن عاصم فقال لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم وأثبتهم في النائبات مقاوم قالوا ولم ذاك يا أخا بني سعد قال لأنا أمنعهم للجار وأدركهم للثأر وأنا لا ننكل إذ حملنا ولا نرام إذا حللنا ثم قام شاعرهم فقال
( لقد عَلِمت قَيْسٌ وخِنْدِفُ كُلّها ... وجُلُّ تمِيم والجُموع التي تَرَى )
( بأَنّا عِمادٌ في الأمور وأنَّنَا ... لنا الشّرفُ الضَّخْم المُركَّب في النَّدى )
( وأنَّا لُيوثُ النّاس في كل مأزِقٍ ... إذا اجتُرَّ بالبيضِ الجماجِمُ والطُّلَى )
( وأَنَّا إذا داعٍ دَعَانا لنَجْدةٍ ... أجْبنا سِراعاً في العُلا ثَمَّ مَنْ دَعَا )
( فَمَنْ ذا لِيوْم الفَخْر يَعْدِل عاصِماً ... وقَيْساً إذا مُدَّ الأكُفُّ إلى العُلاَ )

( فَهَيْهاتَ قد أعْيَا الجمِيعَ فَعالُهم ... وفاتُوا بَيْوم الفَخْر مَسْعاةَ مَنْ سَعَى )
فلما سمع كسرى ذلك منهم قال ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه فأثنى حباءهم

سبب تسميته عويف القوافي
وإنما قيل لعويف عويف القوافي لبيت قاله نسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن الحسن بن دريد ولم أسمعه منه قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال
أقبل عويف القوافي وهو عويف بن معاوية بن عقبة لن حصْن بن حذيفة الفزاري وإنما قيل له عويف القوافي كما حدثني عمار بن أبان بن سعيد بن عيينة ببيت قاله
( سأكذِبُ مَن قد كان يَزَعُم أنّني ... إذا قُلْتُ قولاً لا أُجِيدُ القَوافِيَا )
قال فوقف على جرير بن عبد الله البجلي وهو في مجلسه فقال
( أصُبّ على بجيلة من شقاها ... هِجائِي حين أدركني المَشيِبُ )
فقال له جرير ألا أشتري منك أعراض بجيلة قال بلى قال بكم قال بألف درهم وبرذون فأمر له بما طلب فقال
( لولا جَرِيرٌ هلَكْتْ بَجِيلَهْ ... نِعْم الفَتَى وبِئْسَتِ القَبِيلَهْ )
فقال جرير ما أراهم نجوا منك بعد
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري في كتاب من قال بيتاً فلقب به قال أخبرني محمد بن حبيب قال وإنما قيل لعويف عويف القوافي لقوله

وقد كان بعض الشعراء عيره بأنه لا يجيد الشعر فقال أبياتاً منها
( سأكذِب مَنْ قد كان يَزعُم أنَّني ... إذا قُلْتُ شعْراً لا أُجِيدُ القَوَافِيا )
فسمي عويف القوافي

عويف وعبد الملك بن مروان
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني عزيز بن طلحة بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم المخزومي قال حدثني غير واحد من مشيخة قريش قالوا
لم يكن رجل من ولاة أولاد عبد الملك بن مروان كان أنفس على قومه ولا أحسد لهم من الوليد بن عبد الملك فأذن يوماً للناس فدخلوا عليه وأذن للشعراء فكان أول من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاري فاستأذنه في الإنشاد فقال ما بقيت لي بعد ما قلت لأخي بني زهرة قال وما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين قال ألست الذي تقول
( يا طَلْحَ أنت أخو النَّدَى وحَلِيفُه ... إنَّ النَّدَى من بعد طَلْحَة ماتَا )
( إنَّ الفَعال إليك أطلَق رَحْلَه ... فبِحَيْث بِتَّ من المَنازِل بَاتَا )
أو لست الذي تقول
( إذا ما جاءَ يومُك يا بنَ عَوْف ... فلا مَطَرتْ على الأرض السَّماءُ )
( ولا سار البَشيرُ بغُنْم جَيْشٍ ... ولا حَمَلَت على الطُّهْرِ النِّساءُ )
( تَساقَى الناسُ بعدكَ يا بْنَ عَوْفٍ ... ذَريعَ الموْتِ ليس له شِفاءُ )

ألم تقم علينا الساعة يوم قامت عليه لا والله لا أسمع منك شيئاً ولا أنفعك بنافعة أبداً أخرجوه عني
فلما أخرج قال له القرشيون والشاميون وما الذي أعطاك طلحة حين استخرج هذا منك قال أما والله لقد أعطاني غيره أكثر من عطيته ولكن لا والله ما أعطاني أحد قط أحلى في قلبي ولا أبقى شكراً ولا أجدر ألاَّ أنساها ما عرفت الصلات من عطيتَّهِ قالوا وما أعطاك قال قدمت المدينة ومعي بضيعة لي لا تبلغ عشرة دنانير أريد أن أبتاع قعوداً من قعدان الصدقة فإذا برجل في صحن السوق على طنفسة قد طرحت له وإذا الناس حوله وإذا بين يديه إبل معلوفة له فظننت أنه عامل السوق فسلمت عليه فأثبتني وجهلته فقلت أي رحمك الله هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي فقال نعم أو معك ثمنه فقلت نعم فأهوى بيده إلي فأعطيته بضيعتي فرفع طنفسته وألقاها تحتها ومكث طويلاً ثم قمت إليه فقلت أي رحمك الله انظر في حاجتي فقال ما منعني منك إلا النسيان أمعك حبل قلت نعم قال هكذا أفرجوا فأفرجوا عنه حتى استقبل الإبل التي بين يديه فقال اقرن هذه وهذه وهذه فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة أدنى بكرة منها ولا دنية فيها خير من بضاعتي ثم رفع طنفسته فقال وشأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه فقلت أي رحمك الله أتدري ما تقول فما بقي عنده إلا من نهرني وشتمني ثم بعث معي نفراً فأطردوها حتى أطلعوها من رأس الثنية فوالله لا أنساه ما دمت حياً أبداً
وهذا الصوت المذكور تمثل به إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي يوم مقتله

حدثني ابن عبيد الله بن عمار قال حدثني ميسرة بن سيار أبو محمد قال حدثني إبراهيم بن علي الرافقي عن المفضل الضَّبَّيّ وحدثنا يحي ابن علي بن يحي المنجم وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الملك بن سليمان عن علي بن الحسن عن المفضل الضَّبَّيّ ورواية ابن عمار أتم من هذه الرواية
ونسخت هذا الخبر أيضاً من بعض الكتب عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عثمان اليقطري عن أبيه عن المفضل وهو أتم الروايات وأكثر اللفظ له قال
قال المفضل خرجت مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن فلما صار بالمربد وقف على رأس سليمان بن علي فأخرج إليه صبيان من ولده فضمهم إليه وقال هؤلاء والله منا ونحن منهم إلا أن آباءهم فعلوا بنا وصنعوا وذكر كلاماً يعتد عليهم فيه بالإساءة ثم توجه لوجهه وتمثل

( مَهْلاً بَني عَمِّنا ظَلاَمتنا ... إنّ بنا سَوْرَةً من القَلَقِ )
( لمِثْلِكم نَحمِل السيوفَ ولا ... تُغَمز أحسابُنا من الدَّقَقِ )
( إِنِّي لأَنمِي إذا انتَميْت إلى ... عزٍّ عزيزٍ ومَعْشَرِ صُدُقِ )
( بيضٍ سِباطٍ كأنّ أعينَهم ... تكحَل يوم الهِياجِ بالعُلُقِ )
فقلت ما أفحل هذه الأبيات فلمن هي قال لضرار بن الخطاب الفهري قالها يوم الخندق وتمثل بها علي بن أبي طالب عليه السلام يوم صفين والحسين بن علي يوم قتل وزيد بن علي عليهم السلام ولحق القوم ثم مضى إلى باخمرى فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد فتمثل
( نُبِّئْتُ أنَّ بني رَبيعة أجمعوا ... أمراً خلالُهُم لتقْتُلَ خالِدَا )
( إِن يَقْتُلوني لا تُصِب أرماحُهم ... ثأرِي ويَسْعَى القَومُ سَعْياً جاهِدا )
( أرمِي الطريقَ وإِن صُدِدتُ بِضِيقه ... وأُنازِلُ البطَل الكَمِيَّ الجاحِدَا )
فقلت لمن هذه الأبيات فقال للأحوص بن جعفر بن كلاب تمثل بها يوم شعب جبلة وهو اليوم الذي لقيت فيه قيس تميماً قال وأقبلت عساكر أبي جعفر فقتل من أصحابه وقتل من القوم وكاد أن يكون الظفر له

قال ابن عمار في حديثه قال المفضل فقال لي حركني بشيء فأنشدته هذه الأبيات
( ألا أيُّها النّاهِي فَزارَةَ بعد ما ... أجدَّتْ بسَيْرٍ إِنما أنتَ حالِمُ )
( أَبى كُلُّ حُرِّ أن يَبِيتَ بوِتْره ... ويُمنعَ منه النومُ إذا أنت نائمُ )
( أقولُ لفِتيان العَشِيِّ تَروّحوا ... على الجُردِ في أفواهِهِنّ الشّكائمُ )
( قِفُوا وَقْفَةً مَنْ يَحْيَ لا يَخْز بعدها ... ومن يُخْتَرم لا تَتَّبِعه اللّوَائِمُ )
( وهل أَنتَ إِن باعَدْتَ نفسَكَ منهمُ ... لتَسْلم فيما بعد ذلك سالِمُ )
فقال لي أعد فتنبهت وندمت فقلت أو غير ذلك فقال لا أعدها فأعدتها فتمطى في ركابيه حتى خلته قد قطعهما ثم خمل فكان آخر العهد به
هذه رواية ابن عمار وفي الرواية الأخرى فحمل فطعن رجلاً وطعنه آخر فقلت أتباشر الحرب بنفسك والعسكر منوط بك فقال إليك يا أخا بني ضبة كأن عويفاً أخا بني فزارة نظر في يومنا هذا حيث يقول
( ألمَّت خُناسُ وإِلمامُها ... أَحاديثُ نفسٍ وأحلامُها )
( يَمانّيةٌ من بني مالكٍ ... تَطاولَ في المجد أعمامُها )
( وإنّ لنا أصلَ جُرْثُومةٍ ... تَرُدُّ الحوادثَ أيّامُها )
( تردُّ الكَتِيبَةَ مَغْلولَةً ... بها أفْنُها وبها آمُها )
قال وجاءه السهم العائر فشغله عني

عويف وعمر بن عبد العزيز
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثني أصحابنا الأسديون عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال
حضرت مع عمر بن عبد العزيز جنازة فلما انصرف انصرفت معه وعليه عمامة قد سدلها من خلفه فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به
( أجِبْني أبا حَفْص لقيتَ محمداً ... على حَوْضِه مًسْتَبْشِراً ورآكا )
فقال له عمر لبيك وقف ووقف الناس معه ثم قال له فمه فقال
( فأَنتَ امرؤٌ كِلْتا يديك مُفِيدَةٌ ... شِمالُك خيرٌ من يمين سِواكا )
قال ثم مه فقال
( بلغتَ مَدَى المُجرِين قبلَك إذْ جَروَْا ... ولم يَبلُغ المُجْرمون بَعدُ مَداكَا )
( فجَدَّاك لا جدَّينِ أكرمُ منهما ... هُناك تَناهَى المَجدُ ثم هُناكَا )
فقال له عمر ألا أراك شاعراً مالك عندي من حق قال لا ولكني سائل وابن سبيل وذو سهمة فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال أعطه فضل نفقتي

قال وإذا هو عويف القوافي الفزاري
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
لما كان يوم ابن جرح واقتتلت بنو مرة وبنو حن بن عذرة قال عويف القوافي لبني مرة يهجوهم ويوبخهم بتركهم نصرهم
( كُنَّا لكم يا مُرّ أُمّاً حَفِيَّةً ... وكنتُم لنا يا مرّ بَوّاً مُجَلَّدَا )
( وكنتم لنا سَيْفاً وكُنَّا وِعاءه ... إذا نحن خِفْنا أن يِكِلَّ فيُغْمَدَا )
فأجابه عقيل بن عُلَّفة بقصيدته التي أولها
( أماوِيَّ إنّ الركبَ مُرتحِلٌ غدَا ... وحَقّ ثَوِيٍّ نازِلٍ أن يُزَوَّدَا )
يقول فيها يخاطب عويفاً
( إذا قُلتُ قد سامحت سَهْماً ومازِناً ... أَبَى النَّسَبُ الدّاني وكُفرُهُم اليَدَا )
( وقد أسلَمُوا أَسنَاههم لقَبِيلةٍ ... قُضاعِيَّةٍ يدعون حُنّاً وأَصْيدَا )
( فما كنتَ أَمّاً بل جعلتُك لي أَخاً ... وقد كنتَ في النَّاس الطَّرِيدَ المُشَرَّدَا )
( عُويَف اسْتِها قد رُمتَ وَيْلك مَجدَنا ... قديماً فلم تَعْدُ الحِمارَ المُقَيَّدا )
( ولو أَنَّني يومَ ابنِ جُرْحٍ لَقِيتُهم ... لجرَّدْتُ في الأعداء عضْباً مُهَنَّدَا )
وأبيات عويف هذه يقولها يوم مرج راهط وهي الحرب التي كانت بين قيس وكلب

يوم مرج راهط
أخبرني بالسبب فيه أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرني سليمان بن أيوب بن أعين أبو أيوب المديني قال حدثنا المدائني قال
كان بدء حرب قيس وكلب في فتنة ابن الزبير ما كان من وقعة مرج راهط وكان قصة المرج أن مروان بن الحكم بن أبي العاص قدم بعد هلاك يزيد بن معاوية والناس يموجون وكان سعيد بن بحدل الكلبي على قنسرين فوثب عليه زفر بن الحارث فأخرجه منها وبايع لابن الزبير فلما قعد زفر على المنبر قال الحمد لله الذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر وحصر فضحك الناس من قوله وكان النعمان بن بشير على حمص فبايع لابن الزبير وكان حسان بن بحدل على فلسطين والأردن فاستعمل على فلسطين روح بن زنباع الجذامي ونزل هو الأردن فوثب نابل بن قيس الجذامي على رَوْح بن زنباع فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير

وكان الضحاك بن قيس الفهري عاملاً ليزيد بن معاوية على دمشق حتى هلك فجعل بقدم رجلاً ويؤخر أخرى إذا جاءته اليمانية وشيعة بني أمية أخبرهم أنه أموي وإذا جاءته القيسية أخبرهم أنه يدعو إلى ابن الزبير فلما قدم مروان قال له الضحاك هل لك أن تقدم على ابن الزبير ببيعة أهل الشام قال نعم وخرج من عنده فلقيه عمرو بن سعيد بن العاص ومالك بن هبيرة وحصين بن نمير الكنديان وعبيد الله بن زياد فسألوه عما أخبره به الضحاك فأخبرهم فقالوا له أنت شيخ بني أمية وأنت عم الخليفة هلم نبايعك فلما فشا ذلك أرسل الضحاك إلى بني أمية يعتذر إليهم ويذكر حسن بلائهم عنده وأنه لم يرد شيئاً يكرهونه فاجتمع مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد بن العاص وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية وقال لهم اكتبوا إلى حسان بن بحدل فليسر من الأردن حتى ينزل الجابية ونسير من ها هنا حتى نلقاه فيستخلف رجلاً

ترضونه فكتبوا إلى حسان فأقبل في أهل الأردن وسار الضحاك بن قيس وبنو أمية في أهل دمشق فلما استقلت الرايات من جهة دمشق قالت القيسية للضحاك دعوتنا لبيعة ابن الزبير وهو رجل هذه الأمة فلما تابعناك خرجت تابعاً لهذا الأعرابي من كلب تبايع لابن أخته تابعاً له قال فتقولون ماذا قالوا نقول أن تنصرف وتظهر بيعة ابن الزبير ونظهرها معك فأجابهم إلى ذلك وسار حتى نزل مرج راهط وأقبل حسان حتى لقي مروان بن الحكم فسار حتى دخل دمشق فأتته اليمانية تشكر بلاء بني أمية فساروا مع مروان حتى نزلوا المرج على الضحاك وهم نحو سبعة آلْفاً والضحاك في نحو من ثلاثين ألافً فلقوا الضحاك فقتل الضحاك وقتل معه أشراف من قيس فأقبل زفر هارباً من وجهه ذاك حتى دخل قِرقيسياً وأقام عمير بن الحباب شيئاً على طاعة بني مروان ثم أقبل حتى دخل فرقيسياً على زفر فأقام معه وذلك بعد يوم خازر حين قتل عبيد الله بن زياد
وأقبل زفر يبكي قتلى المرج ويقول
( لعَمْرِي لقد أبقَت وَقيعةُ راهِطٍ ... لمِروان صَدْعا بيننا مُتنائيَا )

( أتذهَبُ كَلْبٌ لم تَنَلْها رِماحُنا ... ويُترك قَتْلَى راهطٍ هِيَ ماهيَا )
( فقد يَنْبُت المَرْعى على دِمَن الثَّرى ... وتبقى حَزازَاتُ النُّفوس كما هِيَا )
( أبعدَ ابنِ صَفَرٍ وابنِ عَمرو تتابعا ... ومَصْرَعِ هَمَّام أُمَنَّي الأمانيا )
فقال ابن المخلاة الكلبي يجيبه
( لعَمْري لقد أبقَت وَقيَعةُ راهطٍ ... على زُفَرٍ داءً من الدَّاءِ باقِيَا )
( تُبَكِّي على قَتْلى سُلَيمٍ وعامرٍ ... وذُبيانَ مغروراً وتُبْكي البَواكيَا )
وقال ابن المخلاة في يوم المرج
( ويومٍ ترى الرّاياتِ فيه كأنَّها ... حوائمُ طَيْرٍ مُسْتَدِيرٌ وواقعُ )
( مضَى أَربعٌ بعد اللِّقاءِ وأَربعٌ ... وبالمرج باقٍ من دم القَوم نافِعُ )
( طعَنَّا زِياداً في اسْنته وهو مُدْبِرٌ ... وثَورٌ أَصابَتْه السُّيوفُ القواطعُ )
( ونَجَّى حُبَيْشاً ملهبٌ ذُو عُلالةٍ ... وقد جُذَّ من يُمنَى يدَيْه الأصابعُ )
وقد شَهِد الصَّفَّين عمرُو بنُ مُحرِزٍ ... فضاق عليه المَرجُ والمرجُ واسعُ )
وقال رجل من بني عذرة
( سائل بَني مَرْوان أهلَ العَجِّ ... رَهْطَ النَّبيِّ ووُلاة الحَجِّ )
( عنَّا وعن قَيْسٍ غَداةَ المَرْجِ ... إذ يُثْقِفُون ثَقفَاً بِنَجِّ )
( تَسْدِيسَ أَطْرَافِ القَنَا المُعْوَجِّ ... إذ أخلَف الضَّحَّاكَ ما يُرَجِّي )
( مُذ تَركوا من بَعْد طول هَرْج ... لَحمَ ابنَ قيسٍ للضِّباع العُرْجِ )
وقال جواس بن القعطل الكلابي في يوم المرج

( هُمُ قَتلُوا براهطَ جدَّ قَيْسٍ ... سُلَيْماً والقبائلَ من كلابِ )
( وهم قَتَلُوا بَني بَدْر وعَبْساً ... وأُلصِق حُرُّ وَجْهك بالتُّرابِ )
( تَذكّرت الدُّخول فلن تُقَضَّى ... ذحولُك أََو تُساقَ إلى الحِسابِ )
( إذا سارت قبائلُ من جَنابٍ ... وعوفٍ أَشْحنوا شُمَّ الهضابِ )
( وقد حاربْتَنا فوجَدْتَ حَرْباً ... تُغِصُّك حين تشرَب بالشَّرابِ )
فأقبل عمير يخطر فخرج من قرقيسيا يتطرف بوادي كلب فيغير عليها وعلى من أصاب من قضاعة وأهل اليمن ويخص كلباً ومعشر تغلب قبل أن تقع الحرب بين قيس وتغلب فجعل أهل البادية ينتصفون من أهل القرار كلهم فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم وأنهم لا يمتنعون من خيل الحاضرة اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل فسار بهم حتى نزلوا تدمر وبه بنو نمير وقد كان بين النميريين خاصة وبين الكلبيين الذين بتدمر عقد مع ابن بحدل بن بعاج الكلبي فأرسلت بنو نمير رسلاً إلى حميد يناشدونه الحرمة فوثب عليهم ابن بعاج الكلبي فذبحهم وأرسلوا إليهم إنا قد قطعنا الذي بيننا وبينكم فالحقوا بما يسعكم من الأرض فالتقوا فقتل ابن بعاج وظفر بالنميريين فقتلوا قتلا ذريعاً وأسروا فقال راعي الإبل في قتل ابن بعاج ولم يذكر غيره من الكلبيين
( تَجِيءُ ابنَ بَعَّاج نُسورٌ كأنَّها ... مجالسُ تَبغي بيْعةً عند تاجرِ )
( تُطِيف بكَلْبِيٍّ عليه جَدِيَّةُ ... طويل القَرَا يقذِفْنَه في الحَناجِرِ )

( يقولُ له مَن كان يَعْلم علمه ... كذاكَ انْتقام اللهِ من كُل فاجِرِ )
وقد كان زفر بن الحارث لما أغار عمير بن الحباب على الكلبيين قال يعيرهم بقوله
( يا كلبُ قد كَلِب الزَّمان عليكُمُ ... وأصابكم منّي عَذابٌ مُرسلُ )
( إن السَّماوةَ لا سماوةَ فاْلحقي ... بمنابِت الزَّيتُون وابَنيْ بَحْدَلِ )
وبأَرْض عَكٍّ والسَّواحلِ إِنَّها ... أرضٌ تُذَوَّب باللَّقاحِ وتُهزَلُ )

حميد بن بحدل يغير على بوادي قيس
فجمع لهم حميد بن الحريث بن بحدل ثم خرج يريد الغارة على بوادي قيس فانتهى إلى ماء لبني تغلب فإذا النساء والصبيان يبكون فقالت لهم النساء وهن يحسبنهم قيساً ويحكم ما ردكم إلينا فقد فعلتم بنا بالأمس ما فعلتم فقالت لهم كلب ومالكم قالوا أغار علينا بالأمس عمير بن الحباب فقتل رجالنا واستاق أموالنا ولم يشكُكْن أن الخيل خيل قيس وأن عميراً عاد إليهن فقال بعض كلب لحميد ما تريد من نسوة قد أغير عليهن وحربن وصبية يتامى وتدع عميراً فاتبعوه فبينا هم يسيرون إذ أ خذوا رجلاً ربيئة للقوم فسألوه فقال لهم هذا الجيش هاهنا والأموال وقد خرج عمير في فوارس يريد الغارة على أهل بيت من بني زهير بن جناب أخبر عنهم مخبر فأقام حميد حتى جن عليه الليل ثم بيت القوم بياتاً وقال حميد لأصحابه شعاركم نحن عباد الله حقاً فأصابوا عامة ذلك العسكر ونجا فيمن نجا رجل عريان قذف ثوبه وجلس على فرس عري فلما انتهى إلى عمير قال عمير قد كنت أسمع بالنذير

العريان فلم أره فهو هذا ويلك مالك قال لا أدري غير أنه لقينا قوم فقتلوا من قتلوا وأخذوا العسكر فقال أفتعرفهم قال لا فقصد عمير القوم وقال لأصحابه إن كانت الأعاريب فسيسارعون إلينا إذا رأونا وإن كانت خيول أهل الشام فستقف وأقبل عمير فقال حميد لأصحابه لا يتحركن منكم أحدٌ وانصبوا القنا فحمل عمير حملة لم تحركهم ثم حمل فلم يتحركوا فنادى مراراً ويحكم من أنتم فلم يتكلموا فنادى عمير أصحابه ويلكم خيل بني بحدل والأمانة انصرف على حاميته فحمل عليه فوارس من كلب يطلبونه ولحقه مولى لكلب يقال له شقرون فاطعنا فجرح عمير وهرب حتى دخل قرقيسيا إلى زفر ورجع حميد إلى من ظفر به من الأسرى والقتلى فقطع سبالهم وأنفهم فجلعها في خيط ثم ذهب بها إلى الشام وقال قائل بل بعث بها إلى عمير وقال كيف ترى أوقعي أم وقعك فقال في ذلك سنان بن جابر الجهني
( لقد طار في الآفاق أَنَّ ابنَ بَحْدلٍ ... حُمَيْداً شَفَى كَلْباً فقرَّت عُيُونُها )
( وعرَّف قَيْساً بالهوان ولم تكن ... لتَنْزِع إلاَّ عند أمرٍ يُهِينُها )
( فقلتُ له قَيسُ بنُ عَيْلان إِنَّه ... سرِيعٌ إذا ما عضَّت الحربُ لِينُها )
( سما بالعِتاق الجُردْ من مَرْج راهطٍ ... وتَدْمُرَ يَنْوي بَذْلَها لا يَصونُها )
( فكان لها عَرضُ السَّماوةِ ليلَةً ... سَواءٌ عليها سَهْلُها وحُزونُها )
( فمَنْ يَحْتَمِلْ في شأن كَلْبٍ ضَغِينةً ... علينا إذا ما حانَ في الحَرْب حِينُها )
( فإنَّا وكَلْباً كاليدين متى تَضَعْ ... شِمالك في شيْ تُعِنْها يَمْينُها )

( لقد تُركتْ قَتْلَى حُمَيدِ بن بَحْدل ... كثيراً ضواحِيها قليلاً دَفينُها )
( وقَيْسِيَّةٍ قد طَلَّقْتها رِماحُنَا ... تلفَّتُ كالصَّيْداءِ أَودَى جَنينُها )
وقال سنان أيضاً في هذا الأُمر بعد ما أوقع ببني فزارة
( يا أُختَ قَيْسَ سَلي عنّا علانِيَةً ... كي تُخبري من بَيان العلْم تِبْيانَا )
( إنَّا ذَوُو حَسَبٍ مالٍ وَمكْرُمَةٍ ... يومَ الفَخارِ وخَيرُ النَّاسِ فُرْسانا )
( منّا ابنُ مُرَّة عَمْرٌو قد سَمِعْتِ به ... غَيْثُ الأرامل لا يُردَينَ ما كانا )
( والبَحْدَليُّ الذي أردت فوارسُه ... قيساً غَداةَ اللّوى من رمل عَدْنانا )
( فغادرت حَلْبَساً منها بمُعْتَرَكٍ ... والجعدَ مُنعَفراً لم يُكْسَ أَكفانَا )
( كائِن تَرَكْنا غداةَ العاهِ من جَزَرٍ ... للطير منهم ومن ثَكْلى وثكْلانَا )
( ومن غوانٍ تُبكِّي لا حَمِيمَ لها ... بالعاهِ تدعو بني عَمٍّ وإخوانا )
فلما انتهى الخبر إلى عبد الملك بن مروان وعبد الله ومصعب يومئذ حيان وعند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل وعبد الله بن مسعدة بن

حكم الفزاري وجيء بالطعام فقال عبد الملك لابن مسعدة ادن فقال ابن مسعدة لا والله لقد أوقع حميد بسليم وعامر وقعة لا ينفعني بعدها طعام حتى يكون لها غير فقال له حسان أجزعت أن كان بيني وبينكم في الحاضرة على الطاعة والمعصية فأصبنا منكم يوم المرج وأغار أهل قرقيسا بالحاضرة على البادية بغير ذنب فلما رأى حميد ذلك طلب بثأر قومه فأصاب بعض ما أصابهم فجزعت من ذلك وبلغ حميداً قول ابن مسعدة فقال والله لأشغلنه بمن هو أقرب إليه من سليم وعامر
فخرج حميد في نحو من مائتي فارس ومعه رجلان من كلب دليلان حتى انتهى إلى بني فزارة أهل العمود لخمس عشرة مضت من شهر رمضان فقال بعثني عبد الملك بن مروان مصدقاً فابعثوا إلى كل من يطيق أن يلقانا ففعلوا فقتلهم أو من استطاع منهم وأخذ أموالهم فبلغ قتلاهم نحوا من مائة ونيف فقال عويف القوافي
( مَنَا الله أن ألقى حُمَيْد بنَ بَحْدل ... بمنزلة فيها إلى النّصف مُعْلَماً )
( لكيما نُعاطيه وَنَبلوَ بيننا ... سُريْجِيّةً يُعجِمن في الهام مُعجماً )
( ألا ليت أنِّي صادفَتْنِي مَنِيَّتي ... ولم أرَ قَتْلَى العامِ يا أُمَّ أسْلَما )
( ولم أرَ قَتلَى لم تَدَع لي بعدَها ... يَدَيْن فما أرجو من العيش أَجذَما )
( وأُقْسِم ما لَيثٌ بخَفّان خادِرٌ ... بأشجع من جعْدٍ جَناناً ومُقَدَما )
يعني الجعد بن عمران بن عيينة وقتل يومئذٍ

أسماء بن خارجة يشكو حميداً إلى عبد الملك
فلما رجع عبد الملك من الكوفة وقتل مصعب لحقه أسماء بن خارجة بالنخيلة فكلمه فيما أتى حميد به إلى أهل العمود من فزارة وقال حدثنا أنه مصدقك وعاملك فأجبناك وبك عُذنا فعليك وفي ذمتك ما على الحر في ذمته فأقدنا من قضاعي سكير فأبى عبد الملك وقال أنظر في ذلك وأستشير وحميد يجحد وليست لهم بينة فوداهم ألف ألف ومائتي ألف وقال إني حاسبها في أعطيات قضاعة فقال في ذلك عمرو بن مخلاة الكلبي

صوت
( خُذوها يا بَني ذُبْيان عَقْلاً ... على الأجياد ِواعتقِدوا الخِداما )
( دَراهِمَ من بني مَرْوانَ بيضاً ... يُنَجِّمها لكم عاماً فعاما )
( وأيقَنَ أنَّه يومٌ طويل ... على قَيْسٍ يُذِيقُهُم السِّماما )
( ومُخْتَبٍّ أمام القوم يَسْعَى ... كسِرحانِ التَّنُوفَةِ حين ساما )

( رأى شَخْصاً على بلد بَعيد ... فكبَّر حين أبصَره وقاما )
( وأقبلَ يسألُ البُشْرى إلينا ... فقال رأيتُ إنساً أو نعاما )
( وقال لخَيْله سيرى حُمَيد ... فإنّ لكُلّ ذي أجَل حماما )
( فما لاقيتُ من سجح وبدر ... ومُرَّة فاتركي حَطباً حُطاما )
( بكل مُقلَّص عَبْلٍ شَواه ... يَدُقُّ بِوقْع نابَيْه اللِّجامَا )
( وكل طِمِرَّةٍ مَرَطى سَبوحٍ ... إذا ما شَدَّ فارِسُها الحِزاما )
( وقائِلةٍ على دَهَشٍ وحُزْنٍ ... وقد بلَّت مدامِعُها اللِّثامَا )
( كأنَّ بَني فَزارةَ لم يكونوا ... ولم يَرْعَوْا بأَرْضهم الثُّمامَا )
( ولم أرَ حاضراً منهم بِشاءٍ ... ولا مَنْ يملِك النَّعَم الرُّكامَا )
قال فلما أخذوا الدية انطلقت فزارة فاشترت خيلا وسلاحا ثم استتبعت سائر قبائل قيس ثم أغارت على ماء يدعى بنات قين يجمع بطوناً من بطون كلب كثيرة وأكثر من عليه بنو عبد ود وبنو عليم بن جناب وعلى قيس يومئذٍ سعيد ابن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وحلحلة بن قيس بن الأشيم بن يسار أحد بني العشراء فلما أغاروا نادوا بني عليم إنا لا نطلبكم بشيء وإنما نطلب بني عبد ود بما صنع الدليلان اللذان حملا حميداً وهما المأمور ورجل آخر اسمه أبو أيوب فقتل من العبديين تسعة عشر رجلاً ثم مالوا على العليميين فقتلوا منهم خمسين رجلاً وساقوا أموالاً

فبلغ الخبر عبد الملك فأمهل حتى إذا ولي الحجاج العراق كتب إليه يبعث إليه سعيد بن عيينة وحلحلة بن قيس ومعهما نفر من الحرس فلما قدم بهما عليه قذفهما في السجن وقال لكلب والله لئن قتلتم رجلاً لأهريقن دماءكم فقدم عليه من بني عبد ود عياض ومعاوية ابنا ورد ونعمان بن سويد وكان سويد أبوه ابن مالك يومئذٍ أشرف من قتل يوم بنات قين وكان شيخ بني عبد ود فقال له النعمان دماءنا يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك إنما قتل منكم الصبي الصغير والشيخ الفاني فقال النعمان قتل منا والله من لو كان أخاً لأبيك لاختير عليك في الخلافة فغضب عبد الملك غضباً شديداً فقال له معاوية وعياض يا أمير المؤمنين شيخ كبير موتور
فأعرض عنه عبد الملك وعرض الدية وجعل خالد بن يزيد بن معاوية ومن ولدته كلب يقولون القتل ومن كانت أمه قيسية من بني أمية يقولون لا بل الدية كما فعل بالقوم حتى ارتفع الكلام بينهم بالمقصورة فأخرجهم عبد الملك ودفع حلحلة إلى بعض بني عبد ود ودفع سعيد بن عيينة إلى بعض بني عليم وأقبل عليهما عبد الملك فقال ألم تأتياني تستعدياني فأعديتكما وأعطيتكما الدية ثم انطلقتما فأخفرتما ذمتي وصنعتما ما صنعتما فكلمه سعيد بكلام يستعطفه به ويرققه فضرب حلحلة صدره وقال أترى خضوعك لابن الزرقاء نافعك عنده فغضب عبد الملك وقال اصبر حلحلة فقال له أصبر من عود بجنبيه جلب فقتلا وشق ذلك على قيس وأعظمه أهل البادية منهم والحاضرة فقال في ذلك علي بن الغدير الغنوي
( لِحَلْحَلَة القَتِيلِ ولاْبنِ بدْر ... وأهل دِمَشْقَ أنْجِبِة تَبِينُ )

( فبَعْد اليَوْم أيّامٌ طِوالٌ ... وبعد خمودِ فتنْتِكم فُتونُ )
( وكلُّ صَنِيعةٍ رصدٌ ليومٍ ... تحُلّ به لصاحِبها الزّبون )
( خليفة أُمّةٍ قُسٍرت عليه ... تخمَّط واستخفَّ بَمًنْ يدينُ )
( فقد أتيا حُمَيْد ابن المنايَا ... وكُلُّ فتىً سَتَشْعَبه المَنُونُ )
وقال رجل من بني عبد ودّ
( نحن قتَلْنا سَيِّدَهْم بشَيْخِنا ... سُوَيدٍ فما كانا وفاءً به دَمَا )
وقال حلحلة وهو في السجن
( لعَمْري لئن شَيْخا فَزارَة أُسلِما ... لقد خَزِيت قَيْسٌ وما ظَفِرت كَلْبُ )
وقال أرطاة بن سهية يحرض قيساً
( أيُقتَلُ شَيْخُنا ويُرَى حُمَيْدٌ ... رَخيّ البالِ مُنتَشِياً خُمورَاً )
( فإن دُمنا بذَاك وطال عُمْر ... بنا وبكُم و لم نَسْمع نَكيراً )
( فناكَتْ أُمَّها قيسٌ جِهاراً ... وعضَّت بعدَها مُضَرُ الأيُورَا )
وقالت عميرة بنت حسان الكلبية تفخر بفعل حميد في قيس
( سَمَت كلبٌ إلى قْيسٍ بجَمْعٍ ... يَهُدّ مناكِبَ الأكَم الصِّعابِ )
( بذِي لَجَبٍ يدُقُّ الأرضَ حتى ... تُضايق من دعا بِهَلا وهَابِ )

( نَفَين إلى الجزيرة فلَّ قيْسٍ ... إلى بَقٍّ بها وإلى ذُبابِ )
( وألفَينا هَجينَ بنِي سُلَيْم ... يُفدِّي المُهرَ من حُبّ الإيابِ )
( فلولا عَدْوة المُهْر المُفدّى ... لأُبْتَ وأبتَ وأنتَ مُنْخَرقُ الإهابِ )
( ونَجّاه حَثيثُ الرَّكْض منا ... أُصَيْلاناً ولَونُ الوجْه كابِي )
( وآض كأنه يُطلَى بوَرْسٍ ... ودُقَّ هُوِىَّ كاسِرةٍ عُقابِ )
( حَمِدت اللَّهَ إذ لَقِّي سُلَيْماً ... على دُهْمان صَقْرِ بَني جَنابِ )
( تركن الرُّوقَ من فَتَيات قَيْس ... أيامَى قد يَئِسن من الخِضابِ )
( فهُنَّ إذا ذَكَرن حُمَيْد كَلْب ... نَعقْن برَنَّةٍ بعد انْتِحابِ )
( متى تَذْكُر فتى كَلْب حُمَيْداً ... تَرَ القَيْسيَّ يشرَقُ بالشَّرابِ )

عويف يمدح عيينة بن اسماء
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
أنشدني رجل من بني فزارة لعويف القوافي وهو عويف بن معاوية بن عقبة ابن حصن بن حذيفة الفزاري وكانت أخته عند عيينة بن أسماء بن خارجة فطلقها فكان عويف مراغماً لعيينة وقال الحرة لا تطلق بغير ما بأس فلما حبس الحجاج عيينة وقيده قال عويف
( مَنَع الرُّقادَ فما يُحسُّ رُقادُ ... خَبرٌ أتاك ونامت العُوَّادُ )
( خَبرٌ أَتاني عن عُيَيْنة مُوجِعٌ ... ولِمِثْله تَتَصَدَّع الأكبادُ )
( بلغ النفوسَ بلاؤُها فكأننا ... مَوتى وفينَا الرُّوحُ والأجسادُ )

( ساءَ الأقاربَ يوم ذاك فأصْبَحُوا ... بهجينَ قد سُرّوا به الحُسّادُ )
( يرجون عَثْرة جَدِّنا ولو أنهم ... لا يدفعون بنا المكاراهَ بادُوا )
( لمّا أتاني عن عُيَيْنَة أنَّه ... عانٍ تَظاهرُ فوقه الأٌقيادُ )
( نَخَلت له نَفْسي النَّصيحَة إنه ... عند الشَّدائِد تَذْهَب الأحقْادُ )
( وذَكرتُ أَيُّ فتىً يَسُدُّ مكانَه ... بالرِّفدِ حين تَقاصرُ الأرفادُ )
( أم مَنْ يُهِينُ لنا كَرائمَ مالِه ... ولنا إذا عُدْنا إليه مُعادُ )
( لو كان من حَضَنٍ تضَاءَل رُكنُه ... أو من نَضَادَ بكت عليه نَضَادُ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال العتبي سأل عويف القوافي في حمالة فمر به عبد الرحمن بن محمد بن مروان

وهو حديث السن فقال له لا تسأل أحداً وصر إلي أكفك فأتاه فاحتملها جمعاء له فقال عويف يمدحه
( غلامٌ رماه اللّهُ بالخير يافِعاً ... له سِيمِياءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ )
( كأنّ الثُّريا عُلِّقت في جَبِينِه ... وفي حَدِّه الشِّعْرَى وفي جِيده القَمَرْ )
( ولمَّا رَأََى المجدَ استُعِيرت ثيابُه ... تَرَدَّى رِداءً واسِعَ الذيل واتّزرْ )
( إذا قيلَت العَوراءُ أغْضَى كأنّه ... ذلِيلٌ بلا ذُلِّ ولو شاء لا نْتَصَرْ )
( رَآني فآساني ولو صَدَّ لم ألُم ... على حينَ لا بادٍ يُرجَّى ولا حَضَرْ )
قال أبو زيد هذه الأبيات لابن عنقاء الفزاري يقولها في ابن أخ له كان قوم من العرب أغاروا على نعم ابن عنقاء فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء فأتى ابن أخيه فقال له يا بن أخي إنه نزل بعمك ما ترى فهل من حلوبة قال نعم يا عم يروح المال وأبلغ مرادك فلما راح ماله قاسمه إياه وأعطاه شطره فقال ابن عنقاء
( رآني على ما بِي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسرَّ كما جَهَرْ )
وذكر بعد هذا البيت باقى الأبيات قال أبو زيد وإنما تمثلها عويف

عويف يمدح عمر بن عبد العزيز ويرثي سليمان بن عبد الملك
أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسن بن علي قالا حدثنا الغلابي قالا حدثنا محمد بن عبيد الله عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال لما مات سليمان بن عبد الملك وولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد

حذف

إليه عويف القوافي وقال شعراً رثى به سليمان ومدح عمر فيه فلما دخل إليه أنشده
( لاح سحابٌ فرأينا برقَهُ ... ثم تدانَى فَسَمِعْنا صَعْقَهُ )
( وراحت الرِّيحُ تُزَجِّي بُلْقَهُ ... ودُهْمَه ثم تُزَجي وُرْقَهُ )
( ذاك سَقَى قَبْراً فَروَّى وَدْقَهُ ... قبرَ امرىءٍ عَظَّم ربّي حَقَّهُ )
( قبرَ سليمانَ الذي من عَقّهُ ... وجَحَد الخير الذي قد بَقَّهُ )
( في المسلمين جِلّة ودِقّهُ ... فارق في الجُحود مِنه صِدْقَهُ )
( قد ابتلى الَّلهُ بخيرٍ خلقَهُ ... ألْقى إلى خير قريش وَسْقَهُ )
( يا عُمرَ الخَيْرِ المُلَقَّى وَفْقَهُ ... سُمِّيت بالفاروق فافرُقْ فَرْقَهُ )
( وأرزُق عِيالَ المُسلِمِين رِزْقَهُ ... واقْصِد إلى الجُودِ ولا تَوقَّهُ )
( بحَرُكَ عَذبُ الماء ما اعقّه ... ربُّك فالمَحْروم مَنْ لم يُسْقَهُ )
فقال له عمر لسنا من الشعر في شيء ومالك في بيت المال حق فألح عويف يسأله فقال يا مزاحم انظر فيما بقي من أرزاقنا فشاطره إياه ولنصبر على الضيق إلى وقت العطاء فقال له عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الملك بل توفر يا أمير المؤمنين وعلي رضا الرجل فقال ما أولاك بذلك فأخذ بيده وانصرف به إلى منزله وأعطاه حتى رضي

صوت
( صَفراءُ يَطْوِيها الضَّجِيعُ لصُلْبِهَا ... طيِّ الحِماَلةِ لَيِّنٌ مَثْناها )

( نِعْم الضَّجِيعُ إذا النُّجوم تَغَوَّرت ... بالغَوْر أُولاها على أُخْراها )
( عَذْبٌ مُقَبِّلُها وَثِيرٌ رِدْفُها ... عَبْلٌ شَواها طَيِّبُ مَجْناها )
( يا دارَ صَهْباء التي لا أَنْتَهِي ... عن حُبِّها أبداً ولا أُنْساها )
الشعر لعبد الله بن جحش الصعاليك والغناء فيه لعلي بن هشام ثقيل أول بالوسطى من كتاب أحمد بن المكي

أخبار عبد الله بن جحش
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن غسان بن عبد الحميد قال
كان بالمدينة امرأة يقال لها صهباء من أحسن الناس وجهاً وكانت من هذيل فتزوجها ابن عم لها فمكث حيناً معها لا يقدر عليها من شدة ارتتاقها فأبغضته وطالبته بالطلاق فطلقها ثم أصاب الناس مطر شديد في الخريف فسال العقيق سيلاً عظيماً وخرج أهل المدينة وخرجت صهباء معهم فصادفت عبد الله بن جحش وأصحابه في نزهة فرآها وافترقا
ثم مضت إلى أقصى الوادي فاستنقعت في الماء وقد تفرق الناس وخفوا فاجتاز بها ابن جحش فرآها فتهالك عليها وهام بها وكان بالمدينة امرأة تدل على النساء يقال لها قطنة كانت تداخل القرشيات وغيرهن فلقيها ابن جحش فقال لها اخطبي علي صهباء فقالت قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأجابوه ولا أراهم يختارونك عليه فشتمها ابن جحش وقال لها كل مملوك له

فهو حر لئن لم تحتالي فيها حتى أتزوجها لأضربنك ضربة بالسيف وكان مقداماً جسوراً ففرقت منه فدخلت على صهباء وأهلها فتحدثت معهم ثم ذكرت ابن عمها فقالت لعمة صهباء ما باله فارقها فأخبرتها خبرها وقالت لم يقدر عليها وعجز عنها فقالت لها وأسمعت صهباء إن هذا ليعتري كثيراً من الرجال فلا ينبغي أن تتقدموا في أمرها إلا على من تختبرونه وأما والله لو كان ابن جحش لصهباء لثقبها ثقب اللؤلؤ ولو رتقت بحجر ثم خرجت من عندهم فأرسلت إليها صهباء مري ابن جحش فليخطبني فلقيته قطنة فأخبرته الخبر فمضى فخطبها فأنعمت له وأبى أهلها إلا عيسى بن طلحة وأبت هي إلا ابن جحش فتزوجته ودخل بها وافتضها وأحب كل واحد منهما صاحبه فقال فيها
( نِعْم الضّجِيعُ إذا النُجومَ تَغوَّرت ... بالغَوْر أُولاها على أُخراها )
( عَذْبٌ مُقبَّلُها وثيرٌ رِدْفُها ... عَبْلٌ شَواها طَيِّب مَجْناها )
( صفراءُ يَطوِيها الضجِيعُ لِجَنِبِها ... طَيَّ الحِمالة لَيِّن مَتْنَاها )
( لو يَسْتَطِيع ضجِيعُها لأجنّها ... في الجَوْف حبّ نسميها ونشاها )
( يا دارَ صَهباء التي لا أنتَهِي ... عن ذكرها أبداً ولا أنْساها )

عبد الملك بن مروان يعجب بشعره
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد بن الفرج قال حدثني محمد بن عبد الله قال
كان عبد الملك بن مروان معجباً بشعر عبد الله بن جحش فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه فورد كتابه وقد توفي فقال إخوانه لابنه

لو شخصت إلى أمير المؤمنين عن إذنه لأبيك لعله كان ينفعك ففعل فبينا هو في طريقه إذ ضاع منه كتاب الإذن فهم بالرجوع ثم مضى لوجهه فلما قدم على عبد الملك سأله عن أبيه فأخبره بوفاته ثم سأله عن كتابه فأخبره بضياعه فقال له أنشدني قول أبيك

صوت
( هل يُبلِغَنْها السلامَ أربعةٌ ... مِنّي وإن يفْعلوا فقد نَفَعُوا )
( على مِصَكّيْن من جِمالهُم ... وعَنْتَرِيسَين فيهما سَطَع )
( حَرَّب جِيرانُنَا جِمالَهُمُ ... صُبحاً فأضْحَوا بها قد انْتَجَعُوا )
( ما كنتُ أدْرِي بوَشْكَ بَيْنِهمُ ... حتى رأيتُ الحُداةَ قد طَلَعُوا )
( قد كاد قَلْبي والعين تُبْصرهم ... لما تَوَلَّى بالقوم يَنصْدعُ )
( ساروا وخُلِّفتُ بعدهم دَنِفاً ... أَليسَ بالله بِئْسَ ما صَنَعوا )
قال لا والله يا أمير المؤمنين ما أرويه قال لا عليك فأنشدني قول أبيك
صوت
( أَجدّ اليومَ جيرتُك الغِيارا ... رَواحاً أم أرادوه ابتِكارا )
( بعينِك كان ذاك وإن يَبِينوا ... يَزِدْك البَينُ صَدْعاً مُسْتَطارا )
( بَلَى أبقَت من الجِيران عندي ... أُنَاساً ما أُوافِقُهم كُثِارا )
( وماذا كَثْرةُ الجِيران تُغنِي ... إذا ما بان مَنْ أهوَى فَسارا )
قال لا والله ما أرويه يا أمير المؤمنين قال ولا عليك فأنشدني قول أبيك

( دارٌ لصَهْباء التي لا يَنْثَني ... عن ذكرها قلبي ولا أنساَها )
( صَفراءُ يطوِيها الضّجِيعُ لصُلْبها ... طَيّ الحمالة ليِّن مَتْناها )
( لو يَستطيعُ ضَجِيعُها لأجنّها ... في القلب شَهْوةَ ريحها ونَشَاها )
قال لا والله يا أمير المؤمنين ما أرويه وإن صهباء هذه لأمي قال ولا عليك قد يبغض الرجل أن يشبب بأمه ولكن إذا نسب بها غير أبيه فأف لك ورحم الله أباك فقد ضيعت أدبه وعققته إذ لم ترو شعره اخرج فلا شيء لك عندنا

صوت
( أماطَتْ كِساءَ الخَزّ عن حُرِّ وَجْهها ... وأدَنَت على الخَدَّين بُرْداً مُهَلْهَلاَ )
( من اللاّءِ لم يَحجُجْنَ يَبْغِين حِسْبةً ... ولكن يُقَتِّلن البريءَ المُغفّلا )
( رأتْنِي خَضِيبَ الرّأس شمّرتُ مِئْزري ... وقد عَهِدتْني أسودَ الرّأسِ مُسبَلا )
( خَطُوّاً إلى اللّذاتِ أجرَرْتُ مِئْزَرِي ... كإجرارِك الحَبْلَ الجواد المُحَجَّلا )
( صَريعَ الهَوَى لا يبرَحُ الحبُّ قائِدِي ... بشَرّ فلم أعدِل عن الشَّرِّ مَعْدلا )
( لَدَى الجَمْرة القُصْوى فرِيعَت وهَلَّلت ... ومَنْ رِيعَ في حَجٍّ من الناس هَلَّلاَ )
الشعر للعرجي والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات وهو من جيد الغناء وفاخر الصنعة ويقال إنه أول شعر صنعه ولعزار المكي في الثالث وما بعده ثاني ثقيل عن يحي المكي وغيره وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريج وإلى

الغريض وفيه لإبراهيم لحن من كتابه غير مجنس وأنا ذاكر هاهنا أخباراً لهذا الشعر من أخبار العرجي إذ كان أكثر أخباره قد مضى سوى هذه

بعض أخبار للعرجي
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني عن عبد الله بن سليم قال قال عبيد الله بن عمر العمري
خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت تأمل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله
( من اللاءِ لم يَحْجُجْن يَبْغين حِسْبةً ... ولكن لَيَقْتُلْنَ البريءَ المُغَفَّلا )
قال فقلت لها فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار قال وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال لها

اعزبي قبحك الله ولكنه ظرف عباد الحجاز
وقد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار
أخبرني به وكيع قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب الزبيري قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الحسن وقد روى عنه ابن أبي ذئب قال
بينا أبو حازم يرمي الجمار إذ هو بامرأة متشعبذة يعني حاسرة فقال لها أيتها المرأة استتري فقالت إني والله من اللواتي قال فيهن الشاعر قوله
( من اللاءِ لم يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً ... ولكن ليَقْتُلْن البَريءَ المُغَفَّلا )
( وترمي بعَيْنَيْها القُلوبَ ولا تَرَى ... لها رَميةً لم تُصمِ منهن مَقْتَلا )
فقال أبو حازم لأصحابه ادعوا الله لهذه الصورة الحسنة ألا يعذبها بالنار
وأبو حازم هذا هو أبو حازم بن دينار من وجوه التابعين قد روى عن سهل بن سعد وأبي هريرة وروى عنه مالك وابن أبي ذئب ونُظراؤهما
حدثني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن العتبي عن الحكم بن صخر قال
انصرفت من منى فسمعت زفناً من بعض المحامل ثم ترنمت جارية فتغنت

( من اللاءِ لم يَحْجُجْن يَبغِين حِسْبةً ... ولكن لَيَقْتُلنَ البرِيءَ المُغَفَّلا )
فقلت لها أهذا مكان هذا يرحمك الله فقالت نعم وإياك أن تكونه

أخبار عبد الله بن العباس الربيعي
عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع والربيع على ما يدعيه أهله ابن يونس بن أبي فروة وقيل إنه ليس ابنه وآل أبي فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذاً فكفله يونس بن أبي فروة ورباه فلما خدم المنصور ادعى إليه وأخباره مذكورة مع أخبار ابنه الفضل في شعر يغنى به من شعر الفضل وهو
( كنتُ صَبّاً وقَلْبيَ اليوم سالي ... )
ويكنى عبد الله بن العباس أبا العباس
شعره مطبوع وهو مغن جيد الصنعة
وكان شاعراً مطبوعاً ومغنياً محسناً جيد الصنعة نادرها حسن الرواية حلو الشعر ظريفه ليس من الشعر الجيد الجزل ولا من المرذُول ولكنه شعر مطبوع ظريف مليح المذهب من أشعار المترفين وأولاد النعم
حدثني أبو القاسم الشيربابكي وكان نديماً لجدي يحي بن محمد عن يحي بن حازم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال

دخل محمد بن عبد الملك الزيات عن الواثق وأنا بين يديه أغنيه وقد استعادني صوتاً فاستحسنه فقال له محمد بن عبد الملك هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه واستحسانك له واصطناعك إياه فقال أجل هذا مولاي وابن مولاي وابن موالي لا يعرفون غير ذلك فقال له ليس كل مولى يا أمير المؤمنين بولي لمواليه ولا كل مولى متجمل بولائه يجمع ما جمع عبد الله من ظرف وأدب وصحة عقل وجودة شعر فقال الحسن له صدقت يا محمد
فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكراً لمحضره فقلت له في أضعاف كلامي وأفرط الوزير أعزه الله في وصفي وتقريظي بكل شيء حتى وصفني بجودة الشعر وليس ذلك عندي وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة ولو كان عندي أيضاً شيء بعد ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ومحله في هذا الباب المحل الرفيع المشهور فقال والله يا أخي لو عرفت مقدار شعرك وقولك
( يا شادِناً رام إذ مَرّ ... في السَّعانين قَتْلِي )
( يقول لي كَيْفَ أَصْبَحْت ... كيف يُصبِحُ مِثْلي )
لما قلت هذا القول والله لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك كيف يصبح مثلي لكنت شاعراً مجيداً
حدثني جحظة قال حدثني أحمد بن الطيب قال حدثني حماد بن إسحاق قال

سمعت عبد الله بن العباس الربيعي يقول أنا أول من غنى بالكَنكلة في الإسلام ووضعت هذا الصوت عليها
( أتاني يُؤامِرُني في الصَّبُوح ... ليلاً فقلتُ له غادِها )

سبب تعلمه الغناء
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثناعلي بن يحي المنجم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيع يقال
كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه أني كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع فكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندي فيكون ذلك سبب منعي منها فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في ستر عن جدي وكان جدي وعمتي في حال من الرقة علي والمحبة لي لا نهاية وراءها لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل فقالت يا بني وما دعاك إلى ذلك فقلت شهوة غلبت على قلبي إن منعت منها مت غما وكان لي في الغناء طبع قوي فقالت لي أنت أعلم وما تختاره والله ما أحب منعك من شيء وإني لكارهة أن تحذق ذلك وتشهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك فقلت لا تخافي ذلك فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به ولا زمت الجارية لمحبتي إياها بعلة الغناء فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدمت الجماعة حذقاً وأقررن لي بذلك وبلغت ما كنت أريد من أمر الجارية وصرت ألازم مجلس جدي فكان يسر بذلك ويظنه تقربا مني إليه وإنما كان وكدي فيه أخذ الغناء فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بن دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته فكنت سريع الأخذ وإنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثاً وقد صح

لي وأحسست من نفسي قوة في الصناعة فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي
( أَماطَتْ كْساءَ الخَزِّ عن حُرٍّ وَجْهِها ... وأَدنت على الخَديّن بُرْداً مُهَلْهَلا )
ثم صنعت في
( أَقْفَر من بَعْد خُلَّةٍ سَرِفُ ... فالمُنحَنى فالعَقِيقُ فالجُرُفُ )
وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما فقالت لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا وكان جواري الحارث بن بسخنر وجواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي

وجواري جدي ويأخذن أيضاً مني ما ليس عندهن من غناء دارنا فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية فأخذنهما مني وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتي فسألنها أن تصححهما لهن ففعلت فأخذنهما عنها ثم اشتهر حتى غني الرشيد بهما يوماً فاستظرفهما وسأل إسحاق هل تعرفهما فقال لا وإنهما لمن حسن الصنعة وجيدها ومتقنها ثم سأل الجارية عنهما فتوقفت خوفاً من عمتي وحذراً أن يبلغ جدي أنها ذكرتني فانتهرها الرشيد فأخبرته بالقصة فوجه من وقته فدعا بجدي فلما أحضره قال له يا فضل يكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جواري القيان ولا تعلمني بذلك كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن فقال له جدي وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا نفي منهما برىء من بيعتك وعلي العهد والميثاق والعتق والطلاق إن كنت علمت بشيء من هذا قط إلا منك الساعة فمن هذا من ولدي قال عبد الله ابن العباس هو فأحضرنيه الساعة فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظاً فدعاني فلما خرجت إليه شتمني وقال يا كلب بلغ من أمرك ومقدارك أن تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذني ثم زاد ذلك حتى صنعت ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بسخنر فاشتهرت وبلغ أمرك أمير المؤمنين فتنكر لي ولا مني وفضحت آباءك في قبورهم وسقطت الأبد إلا من المغنين وطبقة الخنياكرين فبكيت غماً بما جرى وعلمت أنه قد صدق فرحمني وضمني إليه وقال قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين إحداهما به وقد مضى وفات والأخرى بك وهي موصولة بحياتي ومصيبة باقية العار علي وعلى أهلي بعدي وبكى وقال عز علي يا بني أن أراك أبداً ما بقيت على غير ما أحب وليست لي في هذا الأمر حيلة لأنه أمر قد خرج عن يدي ثم قال جئني بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت فإن كنت

تصلح للخدمة في هذه الفضيحة وإلا جئته بك منفرداً وعرفته خبرك واستعفيته لك فأتيته بعود وغنيته غناء قديماً فقال لا بل غن صوتيك اللذين صنعتهما فغنيته إياهما فاستحسنهما وبكى ثم قال بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك فواحزني عليك وعلى أبيك فقلت له يا سيدي ليتني مت من قبل أنكرته أو خرست ومالي حيلة ولكني وحياتك يا سيدي وإلا فعلي عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها حالف لازمة لي لا غنيت أبداً إلا لخليفة أو ولي عهد فقال قد أحسنت فيما نبهت عليه من هذا

الرشيد يطرب له ويجيزه
ثم ركب وأمرني فأحضرت فوقفت بين يدي الرشيد وأنا أرعد فاستدناني حتى صرت أقرب الجماعة إليه ومازحني وأقبل علي وسكّن مني وأمر جدي بالانصراف وأمر الجماعة فحدثوني وسقيت أقداحاً وغنى المغنون جميعاً فأومأ إلي إسحاق الموصلي بعينه أن أبدأ فغن إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أصلح وأجود بك فلما جاءت النوبة إلي أخذت عوداً ممن كان إلى جنبي وقمت قائماً واستأذنت في الغناء فضحك الرشيد وقال غن جالساً فجلست وغنيت لحني الأول فطرب واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أنصاف ثم غنيت الثاني فكانت هذه حاله وسكر فدعا بمسرور فقال له احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوباً من فاخر ثيابي وعيبة مملوءة طيباً فحمل ذلك أجمع معي

قال عبد الله ولم أزل كلما أراد ولي عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي أهو أم غيره دعاني فأمرني بأن أغني فأعرفه بيميني فيستأذن الخليفة في ذلك فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه ولي عهد وإلا عرف أنه غيره حتى كان آخرهم الواثق فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء فأذن لي ثم دعاني من الغد فقال ما غناؤك إلا سبباً لظهور سري وسر الخلفاء قبلي ولقد هممت أن آمر بضرب رقبتك لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عند أحد فوالله لئن بلغني لأقتلنك فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت وطلق من كان يوجد عندك من الحرائر واستبدل بهن وعلي العوض من ذلك وأرحنا من يمينك هذه المشؤومة فقمت وأنا لا أعقل خوفاً منه فأعتقت جميع من كان بقي عندي من مماليكي الذين حلفت يومئذٍ وهم في ملكي وتصدقت بجملة واستفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها وغنيت بعد ذلك إخواني جميعاً حتى اشتهر أمري وبلغ المعتصم خبري فتخلصت منه ثم غضب علي الواثق لشيء أنكره وولي الخلافة وهو ساخط علي فكتبت إليه
( أذْكُرْ أميرَ المؤمنين وسائلي ... أيّامَ أرهَبُ سَطْوةَ السَّيْفِ )
( أدعُو إلهي أن أراكَ خليفَةً ... بين المقام ومسجد الخَيْفِ )
فدعاني ورضي عني
حدثني سليمان بن أبي شيخ قال
دخلت على العباس بن الفضل بن الربيع ذات يوم وهو مختلط مغتاظ

وابنه عبد الله عنده فقلت له مالك أمتع الله بك قال لا يفلح والله ابني عبد الله أبداً فظننته قد جنى جناية وجعلت أعتذر إليه فقال ذنبه أعظم من ذلك وأشنع فقلت وما ذنبه قال جاءني بعض غلمان فحدثني أنه رآه بقطربل يشرب نبيذ الداذي بغير غناء فهل هذا فعل من يفلح فقلت له وأنا أضحك سهلت علي القصة قال لا تقل ذاك فإن هذا من ضعة النفس وسقوط الهمة فكنت إذا رأيت عبد الله بعد ذلك في جملة المغنين وشاهدت تبذله في هذه الحال وانخفاضه عن مراتب أهله تذكرت قول أبيه فيه
قال وسمعته يوما يغني بصنعته في شعر أبي العتاهية

صوت
( أنا عبدٌ لها مُقِرٌّ وما يَمْلِك ... غيرُها من النَّاس رِقا )
( ناصحٌ مُشفِقٌ وإن كنتُ ما أُرزق ... منها والحمدُ للهِ عِتْقا )
( ليتَني مُتُّ فاسترحْتُ فإنّي ... أبداً ما حَيِيتُ منها مُلقَّى )
لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر رمل
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحي وأحمد بن حمدون عن أبيه وأخبرني جحظة عن أبي عبد الله الهاشمي أن إسحاق الموصلي دخل يوماً إلى الفضل بن الربيع وابن ابنه عبد الله بن العباس في حجره قد أخرج إليه وله نحو السنتين وأبوه العباس واقف بين يديه فقال إسحاق للوقت

( مَدّ لك اللهُ الحياةَ مَدّاً ... حتى يكونَ ابنُكَ هذا جَدّاً )
( مؤَزَّراً بمَجْده مُردّى ... ثم يُغدّى مثلَ ما تُفدىَّ )
( أشْبَه منك سُنَّةً وخَدّاً ... وشِيَماً محمودةً ومَجْدَا )
( كأنَّه أنتَ إذا تَبَدّى ... )
قال فاستحسن الفضل الأبيات وصنع فيها إسحاق لحنه المشهور وقال جحظة في خبره عن الهاشمي وهو رمل ظريف من حسن الأرمال ومختارها فأمر له الفضل بثلاثين ألف درهم
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن عمر قال حدثني محمد ابن عبد الله بن مالك قال
حدثني بعض ندماء الفضل بن الربيع قال كنا عند الفضل بن الربيع في يوم دجن والسماء ترش وهو أحسن يوم وأطيبه وكان العباس يومئذٍ قد أصبح مهموماً فجهدنا أن ينشط فلم تكن لنا في ذلك حيلة فبينا نحن كذلك إذ دخل عليه بعض الشعراء إما الرقاشي وإما غيره من طبقته فسلم وأخذ بعضادتي الباب ثم قال

( ألا انْعِم صَباحاً يا أبا الفَضْلِ واربَع ... على مربع القُطربُّليّ المُشَعْشع )
( وعلّل نَداماك العِطاشَ بقَهْوةٍ ... لها مصرعٌ في القَوْمِ غيرُ مروَّعِ )
( فإِنك لاقٍ كُلَّما شِئتَ لَيْلَةً ... ويوماً يُغِصّان الجفونَ بأَدْمُعِ )
قال فبكى العباس وقال صدقت والله إن الإنسان ليلقى ذلك متى يشاء ثم دعا بالطعام فأكل ث دعا بالشراب فشرب ونشط ومر لنا يوم حسن طيب
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال
جاءني عبد الله بن العباس في خلافة المنتصر وقد سألني عرض رقعة عليه فأعلم أني نائم وقد كنت شربت بالليل شرباً كثيراً فصليت الغداة ونمت فلما انتبهت إذا رقعة عند رأسي وفيها مكتوب
( أنا بالبابِ واقفٌ مُنْذ أصبَحْتُ ... على السّرج مُمْسِكٌ بِعنانِي )
( وبعين البوَّابِ كُلُّ الذي بي ... ويَراني كأَنّه لا يَراني ) فأمرت بإدخاله فدخل فعرفته خبري واعتذرت إليه وعرضت رقعته على المنتصر وكلمته حتى قضى حاجته

عبد الله وإسحاق
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
دعا عبد الله بن العباس الربيعي يوماً أبي وسأله أن يبكر إليه ففعل فلما دخل بادر إليه عبد الله بن العباس ملتقياً وفي يده العود وغناه
( قُم نَصْطَبِح يَفدِيك كُلُّ مُبَخَّلٍ ... عاب الصبَّوحَ لحُبّه لِلمالِ )
( من قَهْوةٍ صفراءَ صِرْفٍ مُزّةٍ ... قد عُتِّقَت في الدَّنِّ مُذْ أحوالِ )

قال وقدم الطعام فأكلنا واصطبحنا واقترح أبي هذا الصوت عليه بقية يومه قال وأتيته في داره بالمطيرة عائداً فوجدته في عافية فجلسنا نتحدث فأنشدته لذي الرمة
( إِذا ما امرؤٌ حاولْنَ أن يَقْتَتِلْنَه ... بلا إحْنَةٍ بين النّفوس ولا ذَحْلِ )
( تبسَّمْنَ عن نَوْر الأقاحِيّ في الثَّرى ... وفَتَّرن عن أبصار مَكْحُولةٍ نُجْلِ )
( وكَشَّفْن عن أجياد غزِلان رَمْلَةٍ ... هِجانٍ فكان القَتْلَ أو شُبْهَة القَتْلِ )
( وإنّا لنَرضَى حين نشْكو بخَلْوةٍ ... إليهن حاجاتِ النُّفُوس بلا بَذْلِ )
( وما الفَقرُ أَزرَى عندهنّ بوصْلِنا ... ولكن جَرَت أخلاقَهنّ على البُخْلِ )
قال فأنشدني هو
( أنّى اهْتدَتْ لمُناخِنا جُمْلُ ... ومن الكرى لعُيونِنا كُحْلُ )
( طرَقتْ أخَا سَفَرٍ وناجِيةً ... خرقاء عرَّفني بها الرّحلُ )
( في مَهْمَهٍ هَجَع الدّليلُ به ... وتَعَّلَلتْ بصَرِيفها البزْلُ )
( فكأنَّ أحدثَ مَنْ ألَمَّ به ... دَرَجت على آثارِه النَّملُ )
قال إسحاق فقال لي عبد الله بن العباس كل ما يملك في سبيل الله إن

فارقتك ولم نصطبح على هذين الشعرين وأنشدك وتنشدني ففعلنا ذلك وما غنينا ولا غنينا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
لقيت عبد الله بن العباس يوماً في الطريق فقلت له ما كان خبرك أمس فقال اصطبحت فقلت على ماذا ومع من فقال مع خادم صالح بن عجيف وأنت به عارف وبخبري معه ومحبتي له عالم فاصطبحنا على زنا بنت الخس لما حملت من زنا وقد سئلت ممن حملت فقالت
( أشمُّ كغُصْن البان جَعدٌ مرجّلٌ ... شُغِفْتُ به ولو كان شَيْئاً مُدانِيا )
( ثَكِلتُ أبي إن كُنتُ ذُقْتُ كَرِيقِه ... سُلافاً ولا عَذْباً من الماء صافِيَا )
( وأُقسِم لو خُيِّرتُ بين فِراقه ... وبينَ أبي لاخْتَرْتُ أن لا أبا لِيَا )
( فإن لم أُوسِّد ساعِدي بَعْد هَجْعةٍ ... غُلاماً هلالِيّاً فشُلَّت بَنانِيَا )
فقلت له أقمت على لواط وشربت على زنا والله ماسبقك إلى هذا أحد
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني ميمون بن هارون قال
كان محمد بن راشد الخناق عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع على القاطول في أيام المعتصم وكان لمحمد بن راشد غلام يقال له فائز يغني غناء حسناً فأظلتهم سحابة وهم يشربون فقال عبد الله بن العباس

( محمدُ قد جادتْ علينا بمائِها ... سحابةُ مُزنٍ بَرقُها يتهلَّلُ )
( ونحن من القاطُولِ في مُتَربَّعٍ ... ومنزلُنا فيه المَنابِتُ مُبقِلُ )
( فمُر فائِزاً يشدُو إذا ما سَقَيْتَني ... أعن ظُعُن الحيّ الأُلَى كُنتَ تَسألُ )
( ولا تَسْقِنْي إلا حلالاً فإنِّنِي ... أَعافُ من الأشياءِ مالا يُحَلَّلُ )
قال فأمر محمد بن راشد غلامه فائزاً فغناه بهذا الصوت وشرب عليه حتى سكر
قال وكان أبو أحمد بن الرشيد قد عشق فائزا فاشتراه من محمد بن راشد بثلاثمائة ألف درهم فبلغ ذلك المأمون فأمر بأن يضرب محمد بن راشد ألف سوطٍ ثم سئل فيه فكف عنه وارتجع منه نصف المال وطالبه بأكثر فوجده قد أنفقه وقضى دينه ثم حجر على أبي أحمد بن الرشيد فلم يزل محجوراً عليه طوال أيام المأمون وكان أمر ماله مردوداً إلى مخلد بن أبان

يشرب الخمر حتى في رمضان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرني ابن الجرجاني قال
اتفق يوم النيروز في شهر رمضان فشرب عبد الله بن العباس بن الفضل في تلك الليلة إلى أن بدأ الفجر أن يطلع وقال في ذلك وغنى فيه قوله
( استعِيِني صفراءَ صافيةً ... ليلةَ النَّيْروزِ والأحدِ )
( حرَّم الصَّوْمُ اصطباحَكُما ... فتزوَّد شُرْبَها لغَدِ )
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني

إبراهيم بن المُدبر قال
قال لي محمد بن الفضل الجرجاني أنشدت عبد الله بن العباس الربيعي للمعلى الطائي
( باكِرْ صَبوحَك صَبْحةَ النَّيْروزِ ... واشرَبْ بكَأسٍ مُتْرَعٍ وبِكوزِ )
( ضَحِك الربيعُ إليك عن نُوَّارِه ... آسٍ ونِسْرِينٍ ومَرْماحُوزِ )
فاستعادنيهما فأعدتهما عليه وسألني أن أمليهما وصنع فيهما لحنا غنى به الواثق في يوم نيروز فلم يستعد غيره يومئذٍ وأمر له بثلاثين ألف درهم
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحي قال
أنشدني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع لجميل وأنشدنيه وهو يبكي ودموعه تنحدر على لحيته

صوت
( فمالكِ لما خَبَّرَ الناسُ أنَّنِي ... غَدَرتُ بظَهر الغيب لم تَسَلِيْني )
( فأحلِف بَتّاً أو أجيء بِشاهدٍ ... من الناس عَدْلٍ إنَّهم ظَلَمُونِي )
قال وله فيه صنعة من خفيف الثقيل وخفيف الرمل
أخبرني عمي قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا نافذ مولانا قال
كان عبد الله بن العباس صديقا لأبيك وكان يعاشره كثيرا وكان عبد الله ابن العباس مضطبحا دهره لا يفوته ذلك إلا في يوم جمعة أو صوم شهر رمضان وكان يكثر المدح للصبوح ويقول الشعر فيه ويغني فيما يقوله قال عبيد الله

فأنشدني نافذ مولانا وغيره من أصحابنا في ذلك منهم حماد بن إسحاق
صوت
( ومُسْتَطيلٍ على الصَّهْبَاءِ باكرها ... في فِتْيةٍ باصطباحِ الرَّاح حُذّاقِ )
( فكُلُّ شيءٍ رآه خاله قَدَحاً ... وكُلُّ شَخْص رآه خَالَه الساقِي )
قال ولحنه فيه خفيف رمل ثقيل قال حماد وكان أبي يستجيد هذا الصوت من صنعته ويستحسن شعره ويعجب من قوله
( فكُلُّ شَيْءِ رآه خَاله قدحَاً ... وكُلّ شَخْصٍ رآه خَالَه السّاقِي )
ويعجب من قوله
( ومُستَطيل على الصَّهْبَاءِ باكَرَها ... )
ويقول وأي شيء تحته من المعاني الظريفة
قال وسمعه أبي يغنيه فقال له كأنك والله يا عبد الله خطيب يخطب على المنبر قال عبد الله بن محمد فأنشدني حماد له في الصبوح
( لا تعذِلَنْ في صَبُوحِي ... فالعَيش شُرْبُ الصَّبُوحِ )
( ما عابَ مصْطَبِحاً قَطّ ... غيْرُ وَغْدٍ شَحِيحِ )
قال عمي قال عبيد الله دخل يوماً عبد الله بن العباس الربيعي على أبي مسلماً فلما استقر به المجلس وتحادثا ساعة قال له أنشدني شيئاً من شعرك فقال إنما أعبث ولست ممن يقدم عليك بإنشاد شعره فقال أتقول هذا وأنت القائل
( يا شادِناً رامَ إذْ مرَّ في السعَّانين قَتِلْي ... )
( تَقول لي كَيْف أصبَحْت كْيفَ يُصْبح مِثْلِي ... )
أنت والله أعزك الله أغزل الناس وأرقهم شعراً ولو لم تقل غير هذا البيت

الواحد لكفاك ولكنت شاعراً
أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي قالا حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن الحسين الهشامي أبو عبد الله قال
حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
كنت جالساً على دجلة في ليلة من الليالي وأخذت دواة وقرطاساً وكتبت شعراً حضرني وقلته في ذلك الوقت

صوت
( أخلَغَك الدهرُ ما تَنظرُه ... فاصبِر فذا جلُّ أَمْرِ ذا القَدَرِ )
( لَعّلنا أن نُديل من زَمَن ... فرَّقنا والزَّمانُ ذُو غِيرَ )
قال ثم أرتج علي فلم أدر ما أقول حتى يئست من أن يجيئني شيء فالتفت فرأيت القمر وكانت ليلة تتمته فقلت
( فانظر إلى البَدرْ فهو يُشبِهُه ... إن كان قد ضَنَّ عنك بالنَّظَر )
ثم صنعت فيه لحناً من الثقيل الثاني قال أبو عبد الله الهشامي وهو والله صوت حسن
أخبرني جحظة عن ابن حمدون وأخبرني به الكوكبي عن علي بن محمد ابن نصر عن خالد بن حمدون قال
كنا عند الواثق في يوم دجن فلاح برق واستطار فقال لو في هذا شيء فبدرهم عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع فقال هذين البيتين

( أعنِّي على لا مِعِ بارِقٍ ... خفِيَّ كلمْحِك بالحاجبِ )
( كأنّ تألُّقه في السَّماء ... يَدا كاتِبٍ أو يَدا حاسِبِ )
وصنع فيه لحناَ شرب فيه الواثق بغية يومه واستحسن شعره ومعناه وصنعته ووصل عبد الله بصلة سنية
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان قال حدثني الحسين بن الضحاك قال
كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع وهو مصطبح وخادم له قائم يسقيه فقال لي يا أبا علي قد استحسنت سقي هذا الخادم فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل فقلت
( أحَيتْ صَبوحِي فُكاهةُ اللاَّهِي ... وطاب يومي بقُرْب أشبِاهي )
( فاستَثِر اللهوَ من مَكامِنه ... من قبل يومٍ مُنغّصٍ ناهِي )
( بابنة كَرْمٍ من كَفِّ مُنْتَطِقٍ ... مُؤْتَزرٍ بالمجُونٍ تَيّاهِ )
( يَسقِيك من طَرْفِه ومن يَدِه ... سَقْيَ لطِيفٍ مُجرّبٍ داهي )
( وطاساً وكاساً كأنَّ شاربَها ... حَيرانُ بين الذَّكُورِ والسَّاهي )
فاستحسنه عبد الله وغنى فيه لحناً مليحاً وشربنا عليه بقية يومنا
أخبرني عمي قال حدثنا أبو عبد الله أحمد بن المرزبان بن الفيرزان قال حدثني شيبة بن هشام قال

كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قد علق جارية نصرانية قد رآها في بعض أعياد النصارى فكان لا يفارق البيع في أعيادهم شغفاً بها فخرج في عيد ما سرجيس فظفر بها في بستان إلى جانب البيعة وقد كان قبل ذلك يراسلها ويعرفها حبه لها فلا تقدر على مواصلته ولا على لقائه إلا على الطريق فلما ظفر بها التوت عليه وأبت بعض الإباء ثم ظهرت له وجلست معه وأكلوا وشربوا وأقام معها ومع نسوة كن معها أسبوعاً ثم انصرفت في يوم خميس فقال عبد الله بن العباس في ذلك وغنى فيه
( رُبَّ صَهْباء من شَرابِ المَجُوسِ ... قهوةٍ بابِليَّةٍ خَنْدَرِيسِ )
( قد تَجَلَّيتُها بنايٍ وعُودٍ ... قبل ضربِ الشَّمَّاس بالنّاقوسِ )
( وغَزال مُكَحَّلٍ ذِي دلالٍ ... ساحرِ الطرْفِ سامِريَّ عَرُوسِ )
( قد خَلَوْنا بطِيبِه نَجْتَلِيه ... يوم سَبْتٍ إلى صَباحِ الخمِيسِ )
( بين وَردٍ وبين آسٍ جَنِيٍّ ... وسط بُسْتان دَيْر ما سَرْجِيسِ )
( يَتَثَنَّى بحُسنِ جِيدِ غزَالٍ ... وصَلِيبِ مُفَضَّضٍ آبَنُوسِي )
( كم لثمتُ الصلِيّبَ في الجِيد منها ... كِهلالٍ مَكَلَّلٍ بشُمُوسِ )
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان عن شيبة بن هشام قال
كان عبد الله بن العباس يوماً جالساً ينتظر هذه النصرانية التي كان يهواها وقد وعدته بالزيارة فهو جالس ينتظرها ويتفقدها إذ سقط غراب على برادة داره فنعب مرة واحدة ثم طار فتطير عبد الله من ذلك ولم يزل ينتظرها يومه فلم يرها فأرسل رسوله عشاء يسأل عنها فعرف أنها قد انحدرت مع أبيها إلى بغداد

فتنغص عليه يومه وتفرق من كان عنده ومكث مدة لا يعرف لها خبراً فبينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه إذ سقط هدهد على برادته فصاح ثلاثة أصوات وطار فقال عبد الله بن العباس وأي شيء أبقى الغراب للهدهد علينا وهل ترك لنا أحداً يؤذينا بفراقه وتطير من ذلك فما فرغ من كلامه حتى دخل رسولها يعلمه أنها قد قدمت منذ ثلاثة أيام وأنها قد جاءته زائرة على إثر رسُولِها فقال في ذلك من وقته
( سقاكَ اللهُ يا هُدهدُ ... وَسْيمِيَّا من القَطْرِ )
( كما بَشَّرتَ بالوَصْلِ ... وما أنْذَرْت بالَهَجْرِ )
( فكم ذا لكَ من بُشْرَى ... أَتْتني منك في سِتْرِ )
( كما جاءت سُليمانَ ... فأوفت منه بالنّذْرِ )
( ولا زال غُرابُ البيْن ... في قُفاعَة الأسْرِ )
( كما صَرّح بالبَيْنِ ... وما كُنتُ به أَدْرِي )
ولحنه في هذا الشعر هزج

عبد الله والمتوكل والمنتصر
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال قال إسحاق بن إبراهيم ابن مصعب
قال لي عبد الله بن العباس الربيعي لما صنعت لحني في شعري
( ألا أصبَحاني يوم السّعانينِ ... من قَهْوةٍ عُتِّقَت بِكر كِينِ )
( عند أُناسٍ قَلبي بهم كلِفٌ ... وإن تولّوْا دِيناً سِوَى دِينِي )

( قد زَيّن المُلكَ جَعفرٌ وحكى ... جُودَ أبيه وبأسَ هارونِ )
( وأَمَّن الخائِفَ البرِيءَ كما ... أَخافَ أهلَ الإلحاد في الدِّينِ )
دعاني المتوكل فلما جلست في مجلس المنادمة غنيت هذا الصوت فقال لي يا عبد الله أين غناؤك في هذا الشعر في أيامي هذه من غنائك في
( أماطَت كِساءَ الخَزٍّ عَنْ حُرٍّ وَجْهِها ... وأدْنَتْ على الخَدَّيْن بْرْداً مُهَلْهلا )
ومن غنائك في
( أقفَر من بعد خُلَّةٍ سَرِفُ ... فالمُنْحَنَى فالعَقِيقُ فالجُرُف )
ومن سائر صنعتك المتقدمة التي استفرغت محاسنك فيها فقلت له يا أمير المؤمنين إني كنت أتغني في هذه الأصوات ولي شباب وطرب وعشق ولو رد علي لغنيت مثل ذلك الغناء فأمر لي بجائزة واستحسن قولي
حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي قال
ذكر المنتصر يوماً عبد الله بن العباس وهو في قراح النرجس مصطبح فأَحضره وقال له يا عبد الله اصنع لحناً في شعري الفلاني وغنني به وكان عبد الله حلف لا يغني في شِعره فأطرق ملياً ثم غنى في شعر قاله للوقت وهو
( يا طِيبَ يَومْي في قراح النَّرجِس ... في مَجلِس ما مِثْلُهُ مِنْ مَجْلِسِ )
( تُسقَى مُشعْشَعةً كأنَّ شُعاعَها ... نارٌ تُشَبُّ لِبائِسٍ مُسْتقْبِسِ )
قال فجهد أبي بالمنتصر يوماً واحتال عليه بكل حيلة أن يصله بشيء فلم يفعل حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي فقال غضبت قبيحة على المتوكل وهاجرته فجلس ودخل الجلساء والمغنون

وكان فيهم عبد الله بن العباس الربيعي وكان قد عرف الخبر فقال هذا الشعر وغنى فيه
( لستَ مِنِّي ولستُ منك فدَعْنِي ... وامْضِ عنّي مُصاحَباً بسَلامِ )
( لم تَجِد عِلَّةً تَجَنَّى بها الذَّنْبَ ... فصارتْ تعتلُّ بالأحْلامِ )
( فإذا ما شَكَوْتُ ما بِيَ قالت ... قد رأينَا خِلافَ ذَا في المَنامِ )
قال فطرب المتوكل وأمر له بعشرين ألف درهم وقال له إن في حياتك يا عبد الله لأنساً وجمالاً وبقاء للمروءة والظرف
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال
كنت في بعض العساكر فأصابتنا السماء حتى تأذينا فضربت لي قبة تركية وطرح لي فيها سريران فخطر بقلبي قول السليك

صوت
( قَرِّب النَّحّام واعجلْ يا غُلامْ ... واطْرَحِ السَّرْجَ عليه واللِّجامْ )
( أبلغ الفِتْيانَ أنّي خائِضٌ ... غمْرَةَ الضّرْب فَمْن شاء أَقامْ )
فغنيت فيه لحني المعروف وغدونا فدخلت مدينة فإذا أنا برجل يغني به ووالله ما سبقني إليه أحد ولا سمعه مني أحد فما أدري من الرجل ولا من أين كان له وما أرى إلا أن الجنَّ أوقعته في لسانه

محمد بن الجهم يحتمل خراجه سنة كاملة
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال
كنت عند محمد بن الجهم البرمكي بالأهواز وكانت ضيعتي في يده فغنيته في يوم مهرجان وقد دعانا للشرب
صوت
ً
( المِهرَجانُ ويومُ الاثْنَيْنِ ... يومُ سُرورٍ قد حُفَّ بالزّيْنِ )
( ينقل من وغْرة المَصِيف إلى ... بَرْدِ شِتاءٍ ما بَيْن فَصْلَيْنِ )
( محمدُ يا بْنَ الجَهْم ومَن بَنى ... للمَجْد بَيْتاً من خير بَيْتَيْنِ )
( عِشْ ألفَ نَيْروز ومَهْرِجْ فَرِحاً ... في طِيبِ عَيْش وقُرَّة العَيْنِ )
قال فسر بذلك واحتمل خراجي في تلك السنة وكان مبلغه ثلاثين ألف درهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني أبو توبة القطراني عن محمد بن حسين قال
كنا عند أبي عيسى بن الرشيد في زمن الربيع ومعنا مخارق وعلويه وعبد الله بن العباس الربيعي ومحمد بن الحارث بن بسخنر ونحن مصطبحون في طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45