كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

نتنها ووسخها فيقال له ما هذا يا أبا معاذ فيقول هذه ثمرة صلة الرحم
قال وكان يقول الشعر وهو صغير فإذا هجا قوما جاءوا إلى أبيه فشكوه فيضربه ضربا شديدا فكانت أمه تقول كم تضرب هذا الصبي الضرير أما ترحمه فيقول بلى والله إني لأرحمه ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلي فسمعه بشار فطمع فيه فقال له يا أبت إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر وإني إن ألممت عليه أغنيتك وسائر أهلي فإن شكوني إليك فقل لهم أليس الله يقول ( ليس على الأعمى حرج )
فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله بشار فانصرفوا وهم يقولون فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عثمان الكريزي قال حدثني بعض الشعراء قال
أتيت بشارا الأعمى وبين يديه مائتا دينار فقال لي خذ منها ما شئت أو تدري ما سببها قلت لا قال جاءني فتى فقال لي أنت بشار فقلت نعم فقال إني آليت أن أدفع إليك مائتي دينار وذلك أني عشقت امرأة فجئت إليها فكلمتها فلم تلتفت إلي فهممت أن أتركها فذكرت قولك
( لا يُوْيسَنَّكَ من مُخَبَّأةٍ ... قولٌ تُغلِّظُهُ وإن جَرَحَا )
( عُسْرُ النِّساء إلى مُيَاسَرَةٍ ... والصَّعْبُ يُمكِنُ بعد ما جَمَحَا )
فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي

هابه الأخفش فاستشهد بشعره
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن أبي حاتم قال
كان الأخفش طعن على بشار في قوله
( فالآنَ أَقْصَرَ عن سُمَيَّةَ باطِلي ... وأشار بالوَجْلَى عليّ مُشِيرُ )
وفي قوله
( على الغَزَلى مِنّي السَّلامُ فربَّما ... لَهَوْتُ بها في ظِلِّ مَرْؤُومَةٍ زُهْر )
وفي قوله في صفة سفينة
( تُلاَعِبُ نِينَانَ البُحورِ ورُبَّما ... رأيتَ نُفوسَ القوم من جَرْيها تَجْرِي )
وقال لم يسمع من الوجل والغزل فعلى ولم أسمع بنون ونينان فبلغ ذلك بشارا فقال ويلي على القصارين متى كانت الفصاحة في بيوت القصارين دعوني وإياه فبلغ ذلك الأخفش فبكى وجزع فقيل له ما يبكيك فقال وما لي لا أبكي وقد وقعت في لسان بشار الأعمى فذهب أصحابه إلى بشار فكذبوا عنه واستوهبوا منه عرضه وسألوه ألا يهجوه فقال قد وهبته للؤم عرضه فكان الأخفش بعد ذلك يحتج بشعره في كتبه ليبلغه فكف عن ذكره بعد هذا
قال وقال غير أبي حاتم إنما بلغه أن سيبويه عاب هذه الأحرف عليه لا الأخفش فقال يهجوه
( أَسِبْوَيْهِ يابنَ الفارسيَّة ما الذي ... تَحَدَّثْتَ عن شَتْمِي وما كنتَ تَنبِذُ )

( أَظَلْتَ تَغنِّي سادِراً في مَسَاءتِي ... وأُمُّكَ بالمِصْرَينِ تُعْطِي وتَأْخُذُ )
قال فتوقاه سيبويه بعد ذلك وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدا من شعر بشار احتج به استكفافا لشره

أهله يستعينون به لهجاء بني سدوس
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن علي بن سويد بن منجوف قال
كان بشار مجاورا لبني عقيل وبني سدوس في منزل الحيين فكانوا لا يزالون يتفاخرون فاستعانت عقيل ببشار وقالوا له يا أبا معاذ نحن أهلك وأنت ابننا وربيت في حجورنا فأعنا فخرج عليهم وهم يتفاخرون فجلس ثم أنشد
( كأنّ بني سَدُوسٍ رهطَ ثَوْرٍ ... خَنَافِسُ تحتَ مُنكَسرِ الجِدَارِ )
( تُحرِّكُ للفَخَارِ زُبانَيَيْها ... وفخرُ الخُنْفَساءِ من الصَّغَارِ )
فوثب بنو سدوس إليه فقالوا ما لنا ولك يا هذا نعوذ بالله من شرك فقال هذا دأبكم إن عاودتم مفاخرة بني عقيل فلم يعاودوها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن إسماعيل عن محمد بن سلام قال قال يونس النحوي العجب من الأزد

يدعون هذا العبد ينسب بنسائهم ويهجو رجالهم يعني بشارا ويقول
( ألاَ يا صَنَمَ الأَزِدْ ... الذي يَدْعُونَه رَبّا )
ألا يبعثون إليه من يفتق بطنه
أخبرني الحسن قال حدثني ابن مهرويه عن أحمد بن إسماعيل عن محمد بن سلام قال
مر ابن أخ لبشار ببشار ومعه قوم فقال لرجل معه وسمع كلامه من هذا فقال ابن أخيك قال أشهد أن أصحابه سفلة قال وكيف علمت قال ليس عليهم نعال
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني الفضل بن يعقوب قال
كنا عند جارية لبعض التجار بالكرخ تغنينا وبشار عندنا فغنت في قوله
( إنّ الخليفةَ قد أبى ... وإِذا أبَى شيئاً أبَيتُهْ )
( ومُخَضّبٍ رَخْصِ البَنَان ... ِ بكى علَيَّ وما بكَيْتُهْ )
( يا مَنْظراً حَسَناً رأيت ... ُ بوجهِ جاريةٍ فَدَيْتُهْ )
( بعثَتْ إليّ تَسُومُنِي ... ثَوبَ الشَّبابِ وقد طَوَيْتُهْ )
فطرب بشار وقال هذا والله يا أبا عبد الله أحسن من سورة الحشر وقد روى هذه الكلمة عن بشار غير من ذكرته فقال عنه إنه قال هي والله أحسن من سورة الحشر الغناء في هذه الأبيات
وتمام الشعر

( وأنا المطِلُّ على العِدَا ... وإِذا غَلا الحمدُ اشتريتُهْ )
( وأمِيلُ في أُنسِ النّدِيم ... من الحياءِ وما اشتهَيتُهْ )
( ويُشوقُنِي بيتُ الحبيب ... إذا غدوتُ وأينَ بيتُهْ )
( حالَ الخليفةُ دونه ... فصبَرتُ عنه وما قَليتُهْ )
وأنشدني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي هذه الأبيات وأخبرني أن الجاحظ أخبره أن المهدي نهى بشارا عن الغزل وأن يقول شيئا من النسيب فقال هذه الأبيات قال وكان الخليل بن أحمد ينشدها ويستحسنها ويعجب بها
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ أبو غسان عن محمد بن الحجاج قال
قالت بنت بشار لبشار يا أبت مالك يعرفك الناس ولا تعرفهم قال كذلك الأمير يا بنية

دفاعه عن أبي النضير
أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال
قال عبد الله بن مسور الباهلي يوما لأبي النضير وقد تحاورا في شيء يابن اللخناء أتكلمني ولو اشتريت عبدا بمائتي درهم وأعتقته لكان خيرا منك فقال له أبو النضير والله لو كنت ولد زنا لكنت خيرا من باهلة كلها فغضب الباهلي فقال له بشار أنت منذ ساعة تزني أمه ولا يغضب فلما كلمك كلمة واحدة لحقك

هذا كله فقال له وأمه مثل أمي يا أبا معاذ فضحك ثم قال والله لو كانت أمك أم الكتاب ما كان بينكما من المصارمة هذا كله

هجاؤه ليزيد بن مزيد
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثني سعيد بن عبيد الخزاعي قال ورد بشار بغداد فقصد يزيد بن مزيد وسأله أن يذكره للمهدي فسوفه أشهرا ثم ورد روح بن حاتم فبلغه خبر بشار فذكره للمهدي من غير أن يلقاه وأمر بإحضاره فدخل إلى المهدي وأنشده شعرا مدحه به فوصله بعشرة آلاف درهم ووهب له عبدا وقينة وكساه كسا كثيرة وكان يحضر قيسا مرة فقال بشار يهجو يزيد بن مزيد
( ولمّا التقينا بالجُنَينَةِ غَرَّني ... بمعروفه حتى خرجتُ أفُوقُ )
غرني أوجرني كما يغر الصبي أي يوجر اللبن
( حَبَانِي بعبدٍ قَعْسَرِيٍّ وقَيْنَةٍ ... ووَشْيٍ وآلافٍ لهنَّ بَرِيقُ )
( فَقُل ليزيدٍ يَلعصُ الشهدَ خالياً ... لنا دونه عند الخليفة سُوقُ )
( رَقدت فنَمْ يابنَ الخبيثةِ إنها ... مكارِمُ لا يَسْتطِيعُهُنَّ لَصِيقُ )
( أبَى لكَ عِرْقٌ من فلانةَ أن تُرى ... جواداً ورأسٌ حين شِبْتَ حَلِيقُ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي

قال كان بشار كتب إلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بقصيدة يمدحه بها ويحرضه ويشير عليه فلم تصل إليه حتى قتل وخاف بشار أن تشتهر فقلبها وجعل التحريض فيها على أبي مسلم والمدح والمشورة لأبي جعفر المنصور فقال
( أبا مُسلمٍ ما طِيبُ عَيشٍ بدائمِ ... ولا سالمٌ عما قليلٍ بسالمِ )
وإنما كان قال أبا جعفر ما طيب عيش فغيره وقال فيها
( إذا بلغ الرأيُ النصيحةَ فاستَعِنْ ... بعَزْمِ نَصيحٍ أو بتأييدِ حازمِ )
( ولا تَجعَلِ الشُّورَى عليك غضاضةً ... مكانُ الحوافي نافعٌ للقوادمِ )
( وخَلّ الهُوينَى للضعيف ولا تكن ... نَؤُوماً فإِنّ الحزمَ ليس بنائمِ )
( وما خيرُ كَفٍّ أمسكَ الغُلُّ أختَها ... وما خيرُ سيفٍ لم يُؤيَّدْ بقائمِ )
( وحارِبْ إذا لم تُعطَ إلا ظُلاَمةً ... شَبَا الحربِ خيرٌ منِ قَبول المظالِم )
( وأَدْنِ على القُرْبَى المقرِّبَ نَفسَه ... ولا تُشْهِد الشّورَى امرأً غيرَ كاتِم )
( فإِنّكَ لا تَسْتَطْرِدُ الهمَّ بالمُنَى ... ولا تَبلُغُ العَلْيَا بغير المكارِمِ )
( إذا كنتَ فرداً هَرَّكَ القومُ مُقبلاً ... وإِن كنت أدنى لم تَفُزْ بالعَزَائِمِ )
( وما قَرَعَ الأقوامَ مِثلُ مُشيَّع ... أريبٍ ولا جَلَّى العَمَى مثلُ عالِم )
قال الأصمعي فقلت لبشار إني رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في

المشورة فقال أما علمت أن المشاور من إحدى الحسنين بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه فقلت أنت والله أشعر في هذا الكلام منك في الشعر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني علي بن الصباح عن بعض الكوفيين قال
مررت ببشار وهو متبطح في دهليزه كأنه جاموس فقلت له يا أبا معاذ من القائل
( في حُلّتِي جسمُ فتىً ناحلٍ ... لو هَبّتِ الريحُ به طاحا )
قال أنا قلت فما حملك على هذا الكذب والله إني لأرى أن لو بعث الله الرياح التي أهلك بها الأمم الخالية ما حركتك من موضعك فقال بشار من أين أنت قلت من أهل الكوفة فقال يا أهل الكوفة لا تدعون ثقلكم ومقتكم على كل حال
نسخت من كتاب هارون بن علي قال حدثني عافية بن شبيب قال
قدم كردي بن عامر المسمعي من مكة فلم يهد لبشار شيئا وكان صديقه فكتب إليه
( ما أنت يا كرديّ بالهَشِّ ... ولا أُبَرِّيك من الغِشِّ )
( لم تُهْدِنا نعلاً ولا خاتَماً ... من أين أقبلتَ من الحشّ )
فأهدى إليه هدية حسنة وجاءه فقال عجلت يا أبا معاذ علينا فأنشدك الله ألا تزيد شيئا على ما مضى

ونسخت من كتابه عن عافية بن شبيب أيضا قال حدثني صديق لي قال
قلت لبشار كنا أمس في عرس فكان أول صوت غنى به المغني
( هَوَى صاحبي ريحُ الشَّمالِ إذا جرتْ ... وأشْفَى لنفسي أن تَهُبَّ جَنُوبُ )
( وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تَنَاهَى وفيها من عُبَيدة طِيبُ )
فطرب وقال هذا والله أحسن من فلج يوم القيامة
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبي عن عافية بن شبيب عن أبي جعفر الأسدي قال
مدح بشار المهدي فلم يعطه شيئا فقيل له لم يستجد شعرك فقال والله لقد قلت شعرا لو قيل في الدهر لم يخش صرفه على أحد ولكنا نكذب في القول فنكذب في الأمل

هجاء روح بن حاتم
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني يحيى بن خليفة الدارمي عن نصر بن عبد الرحمن العجلي قال
هجا بشار روح بن حاتم فبلغه ذلك فقذفه وتهدده فلما بلغ ذلك بشارا قال فيه
( تَهَدّدني أبو خلفٍ ... وعن أوتاره ناما )
( بسيفٍ لأبي صُفْرَةَ ... لا يَقْطَع إبهاما )

( كأنّ الوَرْسَ يَعْلُوهُ ... إذا ما صدرهُ قاما )
قال ابن أبي سعد ومن الناس من يروي هذين البيتين لعمرو الظالمي قال فبلغ ذلك روحا فقال كل مالي صدقة إن وقعت عيني عليه لأضربنه ضربة بالسيف ولو أنه بين يدي الخليفة فبلغ ذلك بشارا فقام من فوره حتى دخل على المهدي فقال له ما جاء بك في هذا الوقت فأخبره بقصة روح وعاذ به منه فقال يا نصير وجه إلى روح من يحضره الساعة فأرسل إليه في الهاجرة وكان ينزل المخرم فظن هو وأهله أنه دعي لولاية
قال يا روح إني بعثت إليك في حاجة فقال له أنا عبدك يا أمير المؤمنين فقل ما شئت سوى بشار فإني حلفت في أمره بيمين غموس قال قد علمت وإياه أردت قال له فاحتل ليميني يا أمير المؤمنين فأحضر القضاة والفقهاء فاتفقوا على أن يضربه ضربة على جسمه بعرض السيف وكان بشار وراء الخيش فأخرج وأقعد واستل روح سيفه فضربه ضربة بعرضه فقال أوه باسم الله فضحك المهدي وقال له ويلك هذا وإنما ضربك بعرضه وكيف لو ضربك بحده

مدح سليمان بن هشام
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو عبيدة قال

مدح بشار سليمان بن هشام بن عبد الملك وكان مقيما بحران وخرج إليه فأنشده قوله فيه
( نأتْكَ على طُول التجاوُرِ زينبُ ... وما شَعَرتْ أن النَّوَى سوف تَشعَبُ )
( يرى الناسُ ما تَلْقَى بزينبَ إذ نأتْ ... عجيباً وما تُخْفِي بزينبَ أعجبُ )
( وقائلةٍ لي حين جَدّ رحيلُنا ... وأجفانُ عينيها تجودُ وتسكُبُ )
( أَغادٍ إلى حَرّانَ في غيرِ شيعة ... وذلك شأوٌ عن هَوَاها مُغَرّبُ )
( فقلتُ لها كَلّفتني طَلَبَ الغِنَى ... وليس ورَاءَ ابنِ الخليفةِ مذهبُ )
( سيكفي فتىً من سعيه حَدُّ سيفِه ... وكُورٌ عِلافِيٌّ ووجناء ذِعْلبُ )
( إذا استوغرتْ دارٌ عليه رَمَى بها ... بناتِ الصُّوَى منها رَكوبٌ ومُصْعَبُ )
( فعُدّي إلى يوم ارتحلتُ وسائلي ... بزَوْرك والرَّحَّال من جاء يضربُ )
( لعلكِ أن تستيقني أن زَوْرتي ... سليمانَ من سير الهواجر تُعقِبُ )
( أَغَرُّ هِشاميُّ القَنَاةِ إذا انتَمى ... نَمَتْه بدورٌ ليس فيهنَّ كوكبُ )

( وما قصدت يوماً مخيلين خَيلُه ... فتُصْرَفُ إلاّ عن دِماءٍ تَصَبّبُ )
فوصله سليمان بخمسة آلاف درهم وكان يبخل فلم يرضها وانصرف عنه مغضبا فقال
( إن أُمْسِ مُنْقبِضَ اليدين عن النَّدَى ... وعن العدوّ مُخَيَّسَ الشيطانِ )
( فلقد أروحُ عن اللئام مُسَلَّطاً ... ثَلِجَ المَقِيلَ مُنَعَّمِ النَّدْمَانِ )
( في ظِلِّ عيشِ عشيرةٍ محمودةٍ ... تَنْدَى يدي ويُخافُ فَرْطُ لساني )
( أزْمَانَ جِنِّيُّ الشباب مُطَاوعٌ ... وإِذ الأميرُ عليّ من حَرّانِ )
( رِيمٌ بأحْوِيةِ العراق إذا بَدَا ... برَقَتْ عليه أكِلَّةُ المَرْجانِ )
( فاكحَلْ بعَبْدَة مُقْلَتيْكَ من القَذَى ... وبِوَشْكِ رُؤْيتها من الهَمَلانِ )
( فَلقُرْبُ مَنْ تهوَى وأنتَ متيّمٌ ... أَشْفَى لدائكَ من بني مَرْوانِ )
فلما رجع إلى العراق بره ابن هبيرة ووصله وكان يعظم بشارا ويقدمه لمدحه قيسا وافتخاره بهم فلما جاءت دولة أهل خراسان عظم شأنه

المهدي ينهاه عن التشبيب
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن الحجاج قال
قدم بشار الأعمى على المهدي بالرصافة فدخل عليه في البستان فأنشده مديحا فيه تشبيب حسن فنهاه عن التشبيب لغيرة شديدة كانت فيه فأنشده مديحا فيه يقول فيه

( كأنما جئتُه أُبشِّرهُ ... ولم أجِىء راغِباً ومُحتَلِبَا )
( يُزَيِّنُ المِنبرَ الأشمَّ بعِطْفِيه ... ِ وأقواله إذا خَطَبَا )
( تُشَمُّ نَعْلاه في النَّدِيّ كما ... يُشَمُّ ماءُ الرّيحانِ مُنتَهبا )
فأعطاه خمسة آلاف درهم وكساه وحمله على بغل وجعل له وفادة في كل سنة ونهاه عن التشبيب البتة فقدم عليها في السنة الثالثة فدخل عليه فأنشده
( تَجَالَلْتُ عن فِهْرٍ وعن جارَتي فِهر ... وودَّعتُ نُعْمَى بالسّلام وبالبِشْرِ )
( وقالتْ سُليمَى فيكَ عنّا جَلاّدَةٌ ... مَحلُّكَ دَانٍ والزيارَةُ عن عُفْرِ )
( أخي في الهوى مالي أراكَ جَفَوْتَنا ... وقد كنتَ تقفُونا على العُسْرِ واليُسرِ )
( تثاقلتُ إلا عن يدٍ أستفِيدها ... وزَوْرَةِ أمُلاكٍ أَشُدُّ بها أَزْرِي )
( وأخرجني من وِزْرِ خمسينَ حجّةً ... فَتىً هاشميٌّ يَقْشَعِر من الوِزْرِ )
( دَفنتُ الهوى حَيّاً فلسْتُ بزائرٍ ... سُلَيمَى ولا صفراءَ ما قَرْقَر القُمْري )
( ومُصْفَرَّة بالزعفرانِ جلودُها ... إذا اجتُليتْ مثلَ المُفَرطَحَةِ الصُّفْرِ )
( فرُبَّ ثَقَالِ الرَّدفِ هَبَّتْ تلُومنِي ... ولو شَهِدَتْ قبري لصَلَّتْ على قبري )
( تَركتُ لِمَهْديّ الأنام وِصَالَها ... وراعيتُ عهداً بيننا ليس بالختر )

( ولولا أميرُ المؤمنين محمدٌ ... لقبَّلتُ فاها أو لكانَ بها فِطْرِي )
( لَعَمْري لقد أوقَرتُ نفسي خطيئةً ... فما أنا بالمُزْدَادِ وِقْراً على وِقْرِ )
في قصيدة طويلة امتدحه بها فأعطاه ما كان يعطيه قبل ذلك ولم يزده شيئا

تمثل بقول جرير في رثائه لابنه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي عن محمد بن سلام عن بعض أصحابه قال
حضرنا جنازة ابن لبشار توفي فجزع عليه جزعا شديدا وجعلنا نعزيه ونسليه فما يغني ذلك شيئا ثم التفت إلينا وقال لله در جرير حيث يقول وقد عزي بسوادة ابنه
( قالوا نَصِيبَكَ من أجرٍ فقلتُ لهم ... كيف العَزَاءُ وقد فارقتُ أشبالي )
( ودَّعْتَنِي حين كفَّ الدَّهرُ من بَصري ... وحين صِرتُ كعَظمِ الرِّمّةِ البَالِي )
( أوَدى سَوَادةُ يَجْلُو مُقلَتي لحمٍ ... بازٍ يُصَرصِرُ فوقَ المِربأ العالي )
( إلاّ تكُنْ لكَ بالدَّيْرين نائحةٌ ... فرُبَّ نائحةٍ بالرّمل مِعْوَالِ )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني خلاد الأرقط قال لما أنشد المهدي قول بشار
( لا يُؤْيسَنَّكَ من مُخبَّأةٍ ... قولٌ تُغَلِّظُهُ وإِن جَرَحَا )
( عُسْرُ النساءِ إلى مُياسَرَةٍ ... والصَّعبُ يُمكِنُ بعد ما جَمَحَا )

فنهاه المهدي عن قوله مثل هذا ثم حضر مجلسا لصديق له يقال له عمرو بن سمان فقال له أنشدنا يا أبا معاذ شيئا من غزلك فأنشأ يقول
( وقائلٍ هاتِ شَوِّقْنَا فقلتُ له ... أنائمٌ أنتَ يا عمرو بنَ سَمّانِ )
( أما سَمِعتَ بما قد شاع في مُضَرٍ ... وفي الحليفتينِ من نَجْرٍ وقَحطانِ )
( قال الخليفةُ لا تَنْسُبْ بجارِيةٍ ... إيّاكَ إياكَ أن تَشْقَى بِعصيانِ )
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا سليمان بن أيوب المدائني قال
قال مروان بن أبي حفصة قدمت البصرة فأنشدت بشارا قصيدة لي واستنصحته فيها فقال لي ما أجودها تقدم بغداد فتعطى عليها عشرة آلاف درهم فجزعت من ذلك وقلت قتلتني فقال هو ما أقول لك وقدمت بغداد فأعطيت عليها عشرة آلاف درهم ثم قدمت عليه قدمة أخرى فأنشدته قصيدتي
( طَرَقَتْكَ زائرةً فحيّ خيالها ... )
فقال تعطى عليها مائة ألف درهم فقدمت فأعطيت مائة ألف درهم فعدت إلى البصرة فأخبرته بحالي في المرتين وقلت له ما رأيت أعجب من حدسك فقال يا بني أما علمت أنه لم يبق أحد أعلم بالغيب من عمك أخبرنا بهذا الخبر محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن محمد بن عبد الله بن أبي عيينة عن مروان أنه قدم على بشار فأنشده قوله
( طرقتكَ زائرةً فحيِّ خيالَها ... )
فقال له يعطونك عليها عشرة آلاف درهم ثم قدم فيه فأنشده قوله

( أنَّى يكونُ وليس ذاك بكائنٍ ... لبني البناتِ وِرَاثَةُ الأعمامِ )
فقال يعطونك عليها مائة ألف درهم وذكر باقي الخبر مثل الذي قبله
أخبرني عيسى قال حدثنا سليمان قال
قال بعض أصحاب بشار كنا نكون عنده فإذا حضرت الصلاة قمنا إليها ونجعل على ثيابه ترابا حتى ننظر هل يقوم يصلي فنعود والتراب مجاله وما صلى
أخبرني عيسى قال حدثنا سليمان قال
قال أبو عمرو بعث المهدي إلى بشار فقال له قل في الحب شعرا ولا تطل واجعل الحب قاضيا بين المحبين ولا تسم أحدا فقال
( اجعل الحبَّ بين حِبّي وبيني ... قاضِياً إنّني به اليومَ رَاضِي )
( فاجتمعنَا فقلتُ يا حِبَّ نفسي ... إنّ عَينِي قليلةُ الإِغماضِ )
( أنتَ عذَّبتَني وانحلتَ جسمِي ... فارحمِ اليومَ دائمَ الأمراضِ )
( قال لي لا يَحِلّ حُكمِي عليها ... أنتَ أولى بالسُّقْمِ والإِحراضِ )
( قلتُ لمّا أجابني بهواها ... شَمِلَ الجورُ في الهَوى كلَّ قاضِي )
فبعث إليه المهدي حكمت علينا ووافقنا ذلك فأمر له بألف دينار
أخبرني عيسى قال حدثني سليمان المدني قال حدثني الفضل بن إسحاق الهاشمي قال
أنشد بشار قوله
( يُرَوِّعُهُ السِّوارُ بكلّ أرضٍ ... مخافةَ أن يكونَ به السّرارُ )

فقال له رجل أظنك أخذت هذا من قول أشعب ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء فقال إن كنت أخذت هذا من قول أشعب فإنك أخذت ثقل الروح والمقت من الناس جميعا فانفردت به دونهم ثم قام فدخل وتركنا
وأخذ أبو نواس هذا المعنى بعينه من بشار فقال فيه
( ترَكتْنَي الوُشاةُ نُصْبَ المُسِرِّين ... َ وأُحدوثَهً بكلّ مَكَان )
( ما أرى خاليَيْنِ في السرّ إلاّ ... قلتُ ما يخلوانِ إلا لِشَانِي )
أخبرني عمي قال حدثني سليمان قال قال لي أبو عدنان حدثني سعيد جليس كان لأبي زيد قال
أتاني أعشى سليم وأبو حنش فقالا لي انطلق معنا إلى بشار فتسأله أن ينشدك شيئا من هجائه في حماد عجرد أو في عمرو الظالمي فإنه إن عرفنا لم ينشدنا فمضيت معهما حتى دخلت على بشار فاستنشدته فأنشد قصيدة له على الدال فجعل يخرج من واد في الهجاء إلى واد آخر يستمعان وبشار لا يعرفهما فلما خرجا قال أحدهما للآخر أما تعجب مما جاء به هذا الأعمى فقال أبو حنش أما أنا فلا أعرض والله والدي له أبدا وكانا قد جاءا يزورانه وأحسبهما أرادا أن يتعرضا لمهاجائه

مدحه لواصل بن عطاء
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن الجاحظ قال
كان بشار صديقا لأبي حذيفة واصل بن عطاء قبل أن يدين بالرجعة ويكفر الأمة وكان قد مدح واصلا وذكر خطبته التي خطبها فنزع منها كلها الراء وكانت

على البديهة وهي أطول من خطبتي خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة فقال
( تكلَّفُوا القولَ والأقوامُ قد حَفَلُوا ... وحَبَّرُوا خُطَباً ناهيكَ من خُطَبِ )
( فقام مُرتِجِلاً تَغْلِي بَداهَتُهُ ... كَمِرْجَلِ القَيْنِ لمّا حُفَّ بِاللَّهَبِ )
( وجانَبَ الراءِ لم يَشْعُرْ به أحدٌ ... قبل التصَفُّح والإِغراقِ في الطلبِ )
قال فلما دان بالرجعة زعم أن الناس كلهم كفروا بعد رسول الله فقيل له وعلي بن أبي طالب فقال
( وما شَرُّ الثلاثةِ أمّ عمرو ... بصاحبِك الذي لا تَصْبَحِينا )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال قال لي محمد بن الحجاج
قال بشار ما كان الكميت شاعرا فقيل له وكيف وهو الذي يقول
( أَنِصْفُ امْرِىءٍ من نصف حيٍّ يسُبُّنِي ... لَعَمْري لقد لاقيتُ خَطْباً من الخَطْبِ )
( هنيئاً لكَلبٍ أنَّ كلباً يسُبُّنِي ... وأنِّيَ لم أَردُدْ جواباً على كَلْبِ )
فقال بشار لا بل شانئك أترى رجلا لو ضرط ثلاثين سنة لم يستحل من ضرطه

ضرطة واحدة
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثني حجاج المعلم قال سمعت سفيان بن عيينة يقول
عهدي بأصحاب الحديث وهم أحسن الناس أدبا ثم صاروا الآن أسوأ الناس أدبا وصبرنا عليهم حتى أشبهناهم فصرنا كما قال الشاعر
( وما أنا إلا كالزمان إذا صحَا ... صَحوتُ وإِن ماقَ الزمانُ أمُوقُ )
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن الحجاج قال
كنا مع بشار فأتاه رجل فسأله عن منزل رجل ذكره له فجعل يفهمه ولا يفهم فأخذ بيده وقام يقوده إلى منزل الرجل وهو يقول
( أعمى يقودُ بصيراً لا أبَالكُم ... قد ضَلَّ مَنْ كانتِ العُمْيانُ تَهديِهِ )
حتى صار به إلى منزل الرجل ثم قال له هذا هو منزله يا أعمى
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
زعم أبو دعامة أن عطاء الملط أخبره أنه أتى بشارا فقال له يا أبا معاذ أنشدك شعرا حسنا فقال ما أسرني بذلك فأنشده
( أَعَاذِلتيَّ اليومَ ويلَكُمَا مَهْلاَ ... فما جَزعاً مِ الآنَ أبكي ولا جَهْلاَ )
فلما فرغ منها قال له بشار أحسنت ثم أنشده على رويها ووزنها
( لقد كادَ من أُخْفِي من الوَجدِ والهَوى ... يكون جَوًى بين الجوانِج أو خَبْلاَ )

صوت
( إذا قال مهلاً ذو القرابة زادَنِي ... وَلُوعاً بذكراها ووجْداً بها مَهْلاَ )
( فلا يَحسَبِ البِيضُ الأوانسُ أنّ في ... فؤادي سوى سُعْدَى لِغانيةٍ فَضْلاَ )
( فَأُقْسِمُ إن كان الهوى غيرَ بالغ ... بِي القتلَ من سُعدَى لقد جاوزَ القتلاَ )
( فيا صاحِ خَبِّرنِي الذي أنت صانعٌ ... بقاتِلَتي ظُلْماً وما طَلَبَتْ ذَحْلاَ )
( سِوَى أنّني في الحبّ بيني وبينها ... شَدَدْتُ على أكظامِ سِرٍّ لها قُفْلاَ )
وذكر أحمد بن المكي أن لإسحاق في هذه الأبيات ثقيلا أول بالوسطى فاستحسنت القصيدة وقلت يا أبا معاذ قد والله أجدت وبالغت فلو تفضلت بأن تعيدها فأعادها على خلاف ما أنشدنيها في المرة الأولى فتوهمت أنه قالها في تلك الساعة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد قال حدثني أبي قال
كنت أكلم بشارا وأرد عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد فكان يقول لا أعرف إلا ما عاينته أو عاينت مثله وكان الكلام يطول بيننا فقال لي ما أظن الأمر يا أبا خالد إلا كما تقول وأن الذي نحن فيه خذلان ولذلك أقول
( طُبِوعْتُ على ما فيّ غيرَ مُخَيَّرٍ ... هَوايَ ولو خُيِّرتُ كنتُ المهذَّبا )
( أُريدُ فلا أُعْطَى وأُعطَى ولم أرِدْ ... وقَصَّر عِلْمي أنْ أنالَ المغَيَّبَا )
( فَأُصرَفُ عن قَصْدِي وعلمي مُقَصِّرٌ ... وأمْسِي وما أُعْقِبْتُ إلا التعجُّبَا )
خبره مع فتى من بني منقر أهدى إليه أضحية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد

ابن المبارك قال حدثني أبي قال
كان بالبصرة فتى من بني منقر أمه عجلية وكان يبعث إلى بشار في كل أضحية بأضحية من الأضاحي التي كان أهل البصرة يسمنونها سنة وأكثر للأضاحي ثم تباع الأضحية بعشرة دنانير ويبعث معها بألف درهم قال فأمر وكيله في بعض السنين أن يجريه على رسمه فاشترى له نعجة كبيرة غير سمينة وسرق باقي الثمن وكانت نعجة عبدلية من نعاج عبد الله بن دارم وهو نتاج مرذول فلما أدخلت عليه قالت له جاريته ربابة ليست هذه الشاة من الغنم التي كان يبعث بها إليك فقال أدنيها مني فأدنتها ولمسها بيده ثم قال اكتب يا غلام
( وهبتَ لنا يا فتَى مِنقَرٍ ... وعِجْلٍ وأكْرَمَهمْ أوّلاَ )
( وأبسَطَهم راحةً في النَّدَى ... وأرفعَهم ذِرْوَةً في العُلا )
( عجوزاً قَد اوْردَها عمرُها ... وأسكنَها الدهرُ دارَ البِلى )
( سَلُوحاً توهّمتُ أن الرِّعاءَ ... سَقَوْها ليُسهِلَها الحنظَلاَ )
( وأَضرَطَ من أُمّ مُبتَاعها ... إن اقتحَمَتْ بُكرةً حَرْمَلاَ )
( فلو تأكلُ الزُّبدَ بالنِّرسيَان ... وتَدَّمِجُ المِسكَ والمَنْدَلاَ )
( لَمَا طَيَبَ الله أرواحَها ... ولا بلّ من عَظْمها الأقْحَلا )
( وضعتُ يميني على ظهرها ... فخِلْتُ حَرَاقِفَها جَنْدلاَ )

( وأهوتْ شِمالي لعُرْقوبها ... فخلتُ عَرَاقِبَها مِغْزَلاَ )
( وقَلّبتُ أَلْيَتَها بعد ذا ... فشَبَّهتُ عُصْعُصَها مِنْجَلاَ )
( فقلتُ أبيع فلا مشرباً ... أُرَجِّي لديها ولا مَأكَلاَ )
( أمَ اشوِي وأطبُخُ من لحمها ... وأطْيَبُ من ذاك مَضْغُ السَّلَى )
( إذا ما أُمِرَّتْ على مجلسٍ ... من العُجْبِ سَبّحَ أو هَلّلا )
( رأوْا آيةً خَلْفَها سائقٌ ... يَحُثّ وإِن هَرْولتْ هَرْولا )
( وكنتَ أمرتَ بها ضَخْمةً ... بلحمٍ وشحمٍ قد استُكْمِلا )
( ولكنّ رَوحاً عَدَا طورَه ... وما كنتُ أحسَبُ أن يفعلا )
( فعَضّ الذي خانَ في أمرها ... مِن اسْتِ امّه بَظْرَها الأغْرلاَ )
( ولولا مكانُك قَلّدته ... عِلاَطاً وأنشقتُه الخَرْدلا )
( ولولا استِحَائِيكَ خَضبَتُها ... وعَلّقت في جِيدها جُلْجُلا )
( فجاءتْكَ حتى ترى حالَها ... فتعلَمَ أنِّي بها مُبْتَلَى )
( سألتُك لحماً لصِبْياننا ... فقد زِدْتَني فيهمُ عَيِّلا )
( فخُذْها وأنت بنا مُحسِنٌ ... وما زلتَ بي مُحسِناً مُجْمِلاَ )

قال وبعث بالرقعة إلى الرجل فدعا بوكيله وقال له ويلك تعلم أني أفتدي من بشار بما أعطيه وتوقعني في لسانه إذهب فاشتر أضحية وإن قدرت أن تكون مثل الفيل فافعل وابلغ بها ما بلغت وابعث بها إليه
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال
رأيت بشارا المرعث يرثي بنية له وهو يقول
( يا بنتَ من لم يكُ يَهْوَى بنتا ... ما كنتِ إلا خمسةً أو ستاً )
( حتّى حلَلتِ في الحَشَى وحتّى ... فَتَّتِّ قلبي من جوىً فانفَتّا )
( لأَنتِ خيرٌ من غلامٍ بتّا ... يُصبِحُ سكرانَ ويُمْسِي بَهْتَا )
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني قال
كان نافع بن عقبة بن سلم جوادا ممدحا وكان بشار منقطعا إلى أبيه فلما مات أبوه وفد إليه وقد ولي أبيه فمدحه بقوله
( ولنافعٍ فضلٌ على أكفائه ... إن الكريمَ أحقُّ بالتفضيلِ )
( يا نافعَ الشِّبْراتِ حين تناوحتْ ... هُوجُ الرياحِ وأَعْقِبْتُ بُوبُولِ )
( أشبهتَ عُقْبةَ غيرَ ما مُتَشبِّهٍ ... ونشأتَ في حلمٍ وحسنِ قبُول )
( وولِيتَ فينا أشهراً فكفيتَنَا ... عَنَتَ المُريبِ وسَلّة التّضليلِ )
( تُدْعَى هِلاَلاً في الزمان ونافعاً ... والسَّلمُ نِعْم أُبُوَّةُ المأمولِ )
فأعطاه مثل ما كان أبوه يعطيه في كل سنة إذا وفد عليه

خبر المهدي مع جارية تغتسل وشعر بشار في ذلك
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إبراهيم بن عقبة الرفاعي قال حدثني إسحاق بن إبراهيم التمار البصري قال
دخل المهدي إلى بعض حجر الحرم فنظر إلى جارية منهن تغتسل فلما رأته حصرت ووضعت يدها على فرجها فأنشأ يقول
( نظرتْ عيني لحَينِي ... )
ثم أرتج عليه فقال من بالباب من الشعراء قالوا بشار فأذن له فدخل فقال له أجز
( نظرتْ عيني لحيني ... )
فقال بشار
( نظرتْ عيني لحَيْنِي ... نَظَراً وافَقَ شَيْنِي )
( سَتَرتْ لمّا رأتني ... دونَه بالراحَتينِ )
( فَضلتْ منه فُضُولٌ ... تحت طَيِّ العُكْنَتين )
فقال له المهدي قبحك الله ويحك أكنت ثالثنا ثم ماذا فقال
( فتمنّيتُ وقلبي ... للهوى في زَفْرتَينِ )
( أنّني كنتُ عليه ... ساعةً أو ساعَتينِ )
فضحك المهدي وأمر له بجائزة فقال يا أمير المؤمنين أقنعت من هذه الصفة بساعة أو ساعتين فقال اخرج عني قبحك الله فخرج بالجائزة

شعر على لسان حمار له مات عشقا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو شبل عاصم بن وهب البرجمي قال حدثني محمد بن الحجاج قال
جاءنا بشار يوما فقلنا له مالك مغتما فقال مات حماري فرأيته في النوم فقلت له لم مت ألم أكن أحسن إليك فقال
( سَيِّدي خُذْ بي أتَاناً ... عند باب الأصبهانِي )
( تَيْمتني ببنانٍ ... وبَدلٍّ قد شَجَاني )
( تَيّمتني يوم رُحنا ... بثناياها الحسان )
( وبغُنْج ودَلال ... سَلّ جسمي وبَراني )
( ولها خَدٌّ أسِيلٌ ... مثلُ خدّ الشيفرانِ )
( فلذا متُّ ولو عِشْت ... ُ إذاً طال هوانِي )
فقلت له ما الشيفران قال ما يدريني هذا من غريب الحمار فإذا لقيته فاسأله
أخبرني الحسن قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني علي بن إياس قال حدثني السري بن الصباح قال
شهد بشار مجلسا فقال لا تصيروا مجلسنا هذا شعرا كله ولا حديثا كله ولا غناء كله فإن العيش فرض ولكن غنوا وتحدثوا وتناشدوا وتعالوا نتناهب بالعيش تناهبا
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن ابن عائشة قال
جاء بشار يوما إلى أبي وأنا على الباب فقال لي من أنت يا غلام فقلت

من ساكني الدار قال فكلمني والله بلسان ذرب وشدق هريت
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن أبي حاتم قال
كان سهيل بن عمر القرشي يبعث إلى بشار في كل سنة بقواصر تمر ثم أبطأ عليه سنة فكتب إليه بشار
( تمركُم يا سُهَيلُ دُرٌّ وهل يُطْمَع ... ُ في الدرّ مِنْ يَدَيٍْ مُتَعتِّي )
( فاحبُنِي يا سهيلُ من ذلك التمرِ ... نواةً تكون قُرْطاً لبنتِي )
فبعث إليه بالتمر وأضعفه له وكتب إليه يستعفيه من الزيادة في هذا الشعر
ونسخت من كتاب هارون بن علي عن عافية بن شبيب عن الحسن بن صفوان قال
جلس إلى بشار أصدقاء من أهل الكوفة كانوا على مثل مذهبه فسألوه أن ينشدهم شيئا مما أحدثه فأنشدهم قوله
( أنَّى دعاه الشّوقُ فارتاحا ... من بعد ما أصبح جَحجاحا )
حتى أتى على قوله
( في حُلَّتي جسمُ فتىً ناحلٍ ... لو هّبت الرّيح به طاحا )
فقالوا يابن الزانية أتقول هذا وأنت كأنك فيل عرضك أكثر من طولك فقال

قوموا عني يا بني الزناء فإني مشغول القلب لست أنشط اليوم لمشاتمتكم

ألح على امرأة فشكته إلى زوجها
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب قال
كان لبشار مجلس يجلس فيه بالعشي يقال له البردان فدخل عليه نسوة في مجلسه هذا فسمعن شعره فعشق امرأة منهن وقال لغلامه عرفها محبتي لها واتبعها إذا إنصرفت إلى منزلها ففعل الغلام وأخبرها بما أمره فلم تجبه إلى ما أحب فتبعها إلى منزلها حتى عرفه فكان يتردد إليها حتى برمت به فشكته إلى زوجها فقال لها أجيبيه وعديه إلى أن يجيئك إلى هاهنا ففعلت وجاء بشار مع امرأة وجهت بها إليه فدخل وزوجها جالس وهو لا يعلم فجعل يحدثها ساعة وقال له ما اسمك بأبي أنت فقالت أمامة فقال
( أمامةُ قد وُصفتِ لنا بحسن ... وإِنّا لا نَراكِ فألمِسينا )
قال فأخذت يده فوضعتها على أير زوجها وقد أنعظ ففزع ووثب قائما وقال
( عليّ ألِيّةٌ ما دمتُ حيّا ... أَمَسُّكِ طائعاً إلا بعُودِ )
( ولا أُهدي لقومٍ أنتِ فيهم ... سلامَ الله إلاّ من بعيدِ )
( طلبتُ غنيمةً فوضعت كفّي ... على أير أشدَّ من الحديدِ )
( فخيرٌ منكِ من لا خيرَ فيه ... وخيرٌ من زيارتكم قُعودي )
وقبض زوجها عليه وقال هممت بأن أفضحك فقال له كفاني فديتك ما فعلت بي ولست والله عائدا إليها أبدا فحسبك ما مضى وتركه وانصرف وقد روي مثل هذه الحكاية عن الأصمعي في قصة بشار هذه
وهذا الخبر بعينه يحكى بإسناد أقوى من هذا الإسناد وأوضح عن أبي العباس الأعمى السائب بن

فروخ وقد ذكرته في أخبار أبي العباس بإسناده

بشار يرثي أصدقاءه الخمسة
نسخت من كتاب هارون بن علي قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني حمدان الآبنوسي قال حدثنا أبو نواس قال
كان لبشار خمسة ندماء فمات منهم أربعة وبقي واحد يقال له البراء فركب في زورق يريد عبور دجلة العوراء فغرق وكان المهدي قد نهى بشارا عن ذكر النساء والعشق فكان بشار يقول ما خير في الدنيا بعد الأصدقاء ثم رثى أصدقاءه بقوله
( يابنَ موسى ماذا يقول الإِمامُ ... في فتاة بالقلب منها أوامُ )
( بِتُّ منْ حبّها أُوَقَّرُ بالكأس ... ويهفُو على فؤادي الهُيَامُ )
( وَيْحَها كاعباً تُدِلّ بجَهْمٍ ... كَعَثبيّ كأنّه حَمّامُ )
( لم يكن بينها وبيني إلاّ ... كُتُبُ العاشقين والأحلامُ )
( يابنَ موسى اسقني ودَع عنك سلمى ... إنّ سلمى حِمىً وفيّ احتشامُ )
( رُبّ كأسٍ كالسَّلسبيل تعلّلتُ ... بها والعيون عنّي نيامُ )
( حُبستْ للشُّراة في بَيت رأس ... عُتّقتْ عانساً عليها الخِتامُ )
( نَفحتْ نَفحةً فهزّت نديمي ... بنسيمٍ وانشقّ عنها الزّكامُ )

( وكأنّ المعلولَ منها إذا راح ... شَجٍ في لسانه بِرْسامٌ )
( صدّمْته الشَّمولُ حتَى بعينيه ... انكسارٌ وفي المفاصل خَامُ )
( وهو باقِي الأطراف حَيّت به الكأس ... وماتت أوصالُه والكَلامُ )
( وفتىً يشربُ المدامةَ بالمال ... ويمشي يروم ما لا يُرامُ )
( أنفدتْ كأسُه الدنانيرَ حتّى ... ذهب العينُ واستمرّ السَّوَامُ )
( تركتْه الصَّهباء يرنو بعين ... نام إنسانُها وليست تَنامُ )
( جُنّ من شَربة تُعَلّ بأخرى ... وبكَى حين سار فيه المُدامُ )
( كان لي صاحباً فأودَى به الدّهر ... وفارقتُه عليه السَّلامُ )
( بَقِيَ الناس بعدَ هُلْك نَدامايَ ... وقوعاً لم يشعروا ما الكلامُ )
( كجَزور الأيسار لا كَبدٌ فيها ... لباغٍ ولا عليها سَنامُ )
( يابنَ موسى فَقْدُ الحبيب على العين ... َ قَذاةٌ وفي الفؤاد سقَامُ )
( كيف يصفو ليَ النعيم وحيداً ... والأخلاّء في المقابر هام )
( نَفِسَتْهم علي أمُّ المنايا ... فأنامَتْهُم بعنُفٍ فناموا )
( لا يَغيض انسجامُ عيني عنهم ... إنّما غاية الحزين السِّجامُ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي

أن بشارا وفد إلى عمر بن هبيرة وقد مدحه بقوله
( يخاف المنايا أن ترحّلت صاحبي ... كأنّ المنايا في المُقام تُناسِبُهْ )
( فقلتُ له إنّ العراق مقامه ... وخيم إذا هبّت عليك جنائُبهْ )
( لألقى بني عَيلان إنّ فعالهم ... تزيد على كلّ الفَعال مَراتُبهْ )
( أولاك الأُلى شقّوا العمَى بسيوفهم ... عن العين حتّى أبصر الحقَّ طالبُهْ )
( وجيشٍ كجُنح الليل يزحَف بالحصا ... وبالشوك والخَطِّيِّ حُمراً ثَعَالِبُهْ )
( غَدَونا له والشّمسُ في خِدر أُمّها ... تُطالعنا والطَّلُّ لم يَجرِ ذائبُهْ )
( بضَربٍ يذوق الموتَ من ذاق طعمَه ... وتُدْرِك من نجّى الفرارُ مَثَالبُهْ )
( كأنّ مُثَارَ النّقع فوقَ رؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهَاوَى كوكبُهْ )
( بعثنا لهم موتَ الفُجاءةِ إنّنا ... بنو الموت خفّاق علينا سَبائبُهْ )
( فراحوا فريقٌ في الإِسار ومثلُه ... قتيلٌ ومثلٌ لاذ بالبحر هاربُهْ )
( إذا الملك الجبّار صعر خدّه ... مَشيْنا إليه بالسُّيوف نعاتبُهْ )
فوصله بعشرة آلاف درهم فكانت أول عطية سنية أعطيها بشار ورفعت من ذكره وهذه القصيدة هي التي يقول فيها

صوت
( إذا كنتَ في كلّ الأمور مُعاتبا ... صديقَك لم تلق الذي لا تعاتبُهْ )
( فعِشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنه ... مُقارِفُ ذنبٍ مرّة ومجانبُهْ )
( إذا أنت لم تشرَبْ مِراراً على القَذَى ... ظَمئتَ وأيّ النّاس تصفو مَشاربُهْ )
الغناء في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال ذكر أبو أيوب المديني عن الأصمعي قال
كان لبشار مجلس يجلس فيه يقال له البردان وكان النساء يحضرنه فبينما هو ذات يوم في مجلسه إذ سمع كلام امرأة في المجلس فعشقها فدعا غلامه فقال إذا تكلمت المرأة عرفتك فاعرفها فإذا انصرفت من المجلس فاتبعها وكلمها وأعلمها أني لها محب وقال فيها
( يا قومُ أُذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشَق قبل العين أحيانا )
( قالوا بمن لا تَرى تَهذِي فقلتُ لهم ... الأذن كالعين تُوفي القلب ما كانا )
( هل من دواءٍ لمشغوف بجارية ... يلقَى بلُقيانها رَوحا ورَيحانا )
وقال في مثل ذلك
( قالت عُقَيل بن كعب إذ تَعلّقها ... قلبي فأضحَى به من حبّها أثرُ )
( أنَّى ولم ترها تَهذِي فقلتُ لهم ... إنّ الفؤاد يَرى ما لا يَرى البصرُ )

( أصبحتُ كالحائم الحَيران مُجتنباً ... لم يقضِ وِرداً ولا يُرجَى له صَدَرُ )
قال يحيى بن علي وأنشدني أصحاب أحمد بن إبراهيم عنه لبشار في هذا المعنى وكان يستحسنه
( يُزهّدني في حبّ عَبدةَ مَعشرٌ ... قلوبُهُم فيها مخالفةٌ قلبي )
( فقلت دَعوا قلبي وما اختار وارتضَى ... فبالقلب لا بالعين يُبصِر ذو الحبِّ )
( فما تُبصر العينان في مَوضع الهوى ... ولا تَسمع الأذنان إلاَّ من القلبِ )
( وما الحسنُ إلاّ كلُّ حسنٍ دعا الصّبا ... وألّف بين العشق والعاشِق الصَّبِّ )
قال أبو أحمد وقال في ذلك
( يا قلبُ مالي أراكَ لا تَقِرُ ... إيّاك أعنِي وعندَكَ الخبرُ )
( أذعتَ بعدَ الألى مَضْوا حُرقاً ... أم ضاع ما استودعوك إذ بَكَروا )
قال أبو أحمد وقال في مثل ذلك
( إنّ سليمى واللهُ يكلؤها ... كالسُّكر تَزدادُه على السَّكَرِ )
( بُلّغتُ عنها شَكلاً فأعجبني ... والسّمعُ يكفيك غَيبةَ البصرِ )
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال
زعم أبو العالية أن بشارا قدم على المهدي فلما استأذن عليه قال له الربيع قد أذن لك وأمرك ألا تنشد شيئا من الغزل والتشبيب فادخل على ذلك فأنشده قوله
( يا مَنظَراً حَسَناً رأيتُهْ ... من وجه جارية فديتُهْ )

( بعثتْ إليّ تَسومني ... بُردَ الشّباب وقد طوَيْتُهْ )
( واللهِ ربِّ مُحمّد ... ما إن غَدرتُ ولا نَويتُهْ )
( أمسكتُ عنك وربّما ... عَرض البلاء وما ابتغيتُهْ )
( إنّ الخليفة قد أبَى ... وإِذا أبَى شيئاً أبيتُهْ )
( ومُخضَّبٍ رَخص البَنان ... بَكى عليّ وما بكَيتُهْ )
( ويُشوقني بيتُ الحبيب ... إذا ادّكرتُ وأينَ بيتُهْ )
( قام الخليفة دونَه ... فصبرتُ عنه وما قلَيْتُه )
( ونَهانِيَ الملك الهمام ... عن النَّسيب وما عصَيْتُهْ )
( لا بل وفَيتُ فلم أُضِع ... عهداً ولا رأياً رأيتُهْ )
( وأنا المُطلّ على العِدا ... وإِذا غلا علق شريتُه )
( أُصفِي الخليلَ إذا دنا ... وإِذا نأى عنّي نأيتُهْ )
ثم أنشده ما مدحه به بلا تشبيه فحرمه ولم يعطه شيئا فقيل له إنه لم يستحسن شعرك فقال والله لقد مدحته بشعر لو مدح به الدهر لم يخش صرفه على أحد ولكنه كذب أملي لأني كذبت في قولي ثم قال في ذلك
( خليليَّ إنّ العسرَ سوف يُفيقُ ... وإِنّ يساراً في غدٍ لخليقُ )
( وما كنتُ إلا كالزّمان إذا صحا ... صَحوتُ وإِن ماق الزّمان أموقُ )
( أأدْماء لا أستطيع في قلّة الثّرى ... خُزُوزا وَوشيا والقليلُ مَحيقُ )

( خُذي من يدي ما قلّ إنّ زماننا ... شَمُوسٌ ومعروف الرجال رقيقُ )
( لقد كنتُ لا أرضَى بأدنى مَعيشة ... ولا يَشتكِي بُخلاً عليّ رفيقُ )
( خليليّ إنّ المال ليس بنافع ... إذا لم يَنل منه أخٌ وصديقُ )
( وكنتُ إذا ضاقت عليّ مَحَلَّةٌ ... تيمّمتُ أخرى ما عليّ تضيقُ )
( وما خاب بينَ الله والناس عاملٌ ... له في التّقى أو في المحامد سُوقُ )
( ولا ضاق فضلُ الله عن مُتعفّفٍ ... ولكنّ أخلاقَ الرجال تَضيقُ )

المهدي يتهدده إذا عاد إلى قول النسيب
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثني عمر بن شبة قال
بلغ المهدي قول بشار
( قاسِ الهمومَ تنلْ بها نَجَحا ... والليلَ إنّ وراءه صُبُحا )
( لا يُؤيسنك من مُخبّاةٍ ... قولٌ تُغلِّظه وإِن جَرَحا )
( عُسر النّساء إلى مُياسرَةٍ ... والصّعبُ يُمكن بعد ما جَمَحا )
فلما قدم عليه استنشده هذا الشعر فأنشده إياه وكان المهدي غيورا فغضب وقال تلك أمك يا عاض كذا من أمه أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبات والله لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لأتين على روحك فقال بشار في ذلك
( والله لولا رِضا الخليفة ما ... أعطيتُ ضَيما عليَّ في شَجنِ )
( وربّما خِيرَ لابن آدمَ في الكُره ... وشقَّ الهوى على البدنِ )

( فاشرَبْ على ابنة الزّمان فما ... تَلقى زمانا صفَا من الأُبَنِ )
( الله يُعطيك من فواضله والمرء ... يُغضي عيناً على الكُمَنِ )
( قد عشتُ بين الرَّيحان والراح والمزهر ... في ظلّ مَجلسٍ حسنِ )
( وقد ملأتُ البلاد ما بين فُغْفُور ... الى القَيروان فاليمنِ )
قال عمر بن شبة فغفور ملك الصين
( شِعرا تُصلّي له العواتِقُ والثِّيبُ ... صلاةَ الغُواة للوثَنِ )
( ثم نهاني المَهديّ فانصرفتْ ... نفسي صنيعَ الموفَّق اللّقنِ )
( فالحمد لله لا شريكَ له ... ليس بباق شيءٌ على الزّمنِ )
ثم أنشده قصيدته التي أولها
( تجاللتُ عن فِهرٍ وعن جارتَيْ فهرِ ... )
ووصف بها تركه التشبيب ومدحه فقال
( تَسلّى عن الأحباب صَرّامُ خُلّة ... ووصّالُ أخرى ما يُقيم على أمرِ )
( وركّاض أفراس الصّبابة والهوى ... جرت حِجَجاً ثم استقرّت فما تَجري )
( فأصبحن ما يُركَبن إلاّ إلى الوغَى ... وأصبحتُ لا يُزْرى عليّ ولا أزرِي )
( فهذا وإِنّي قد شَرَعْتُ مع التّقى ... وماتت همومي الطارقاتُ فما تسري )
ثم قال يصف السفينة

( وعذراء لا تجري بلحم ولا دمٍ ... قليلة شكوى الأيْن ملجَمة الدُّبْرِ )
( إذا ظَعَنت فيها الفُلول تشخّصت ... بفُرسانها لا في وُعوث ولا وعرِ )
( وإِن قصدت زلّت على مُتنصِّب ... ذليل القوى لا شيءَ يَفري كما تفري )
( تُلاعب تَيّارَ البحور وربّما ... رأيتَ نفوس القوم من جَريها تجري )
قال وكان قال نينان البحور فعابه بذلك سيبويه فجعله تيار البحور
( إلى ملك من هاشم في نبوّة ... ومن حِميْر في الملك في العدد الدَّثرِ )
( مِنَ المشترين الحمد تَندى من النّدى ... يداه ويندَى عارِضاه من العِطرِ )
( فألزمتُ حبلي حبلَ من لا تُغبّه ... عُفاة الندى من حيثُ يَدري ولا يَدري )
( بَنَى لك عبد الله بيتَ خلافة ... نزلتَ بها بين الفَراقد والنَّسرِ )
( وعندك عهدٌ من وَصاة محمّد ... فَرعتَ به الأملاكَ من ولد النّضرِ )
فلم يحظ منه أيضا بشيء فهجاه فقال في قصيدته

المهدي يأمر بقتله بعد أن هجاه
( خليفةٌ يزني بعمّاته ... يلعب بالدَّبُّوق والصّوْلجانْ )
( أبدلنا الله به غيرَه ... ودسّ مُوسى في حِر الخَيْزُرانْ )
وأنشدها في حلقة يونس النحوي فسعي إلى يعقوب بن داود وكان بشار قد هجاه فقال
( بني أميّة هُبّوا طال نومُكُم ... إنّ الخليفة يعقوبُ بنُ داودِ )
( ضاعتْ خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفةَ الله بينَ الزِّق والعودِ )
فدخل يعقوب على المهدي فقال له يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك فقال بأي شيء فقال بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري قال له بحياتي إلا أنشدتني فقال والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي فحلف عليه المهدي بالأيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره فقال أما لفظا فلا ولكني أكتب ذلك فكتبه ودفعه إليه فكاد ينشق غيظا وعمد على الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها وما وكده غير بشار فانحدر فلما بلغ إلى البطيحة سمع أذانا في وقت ضحى النهار فقال انظروا ما هذا الأذان فإذا بشار يؤذن سكران فقال له يا زنديق يا عاض بظر أمه عجبت أن يكون هذا غيرك أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسوط فضربه بين يديه على صدر الحراقة سبعين

سوطا أتلفه فيها فكان إذا أوجعه السوط يقول حس وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع فقال له بعضهم انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين يقول حس ولا يقول بسم الله فقال ويلك أطعام هو فأسمي الله عليه فقال له الآخر أفلا قلت الحمد لله قال أو نعمة هي حتى أحمد الله عليها فلما ضربه سبعين صوتا بان الموت فيه فألقي في سفينة حتى مات ثم رمي به في البطيحة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة فدفن بها
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال
لما ولي صالح بن داود أخو يعقوب بن داود وزير المهدي البصرة قال بشار يهجوه
( هُمُ حَملوا فوقَ المنابر صالحاً ... أخاك فضجّت من أخيك المنابُر )
فبلغ ذلك يعقوب فدخل على المهدي فقال يا أمير المؤمنين أبلغ من قدر هذا الأعمى المشرك أن يهجو أمير المؤمنين قال ويحك وما قال قال يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدمه فقال خالد بن يزيد بن وهب في خبره وخاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهدي فيمدحه ويعفو عنه فوجه إليه من استقبله فضربه بالسياط حتى قتله ثم ألقاه في البطيحة في الخرارة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعن جماعة من رواة البصريين وأخبرنا يحيى بن علي عن أحمد بن أبي طاهر عن علي بن محمد وخبره أتم قالوا
خرج بشار إلى المهدي ويعقوب بن داود وزيره فمدحه ومدح يعقوب فلم يحفل به يعقوب ولم يعطه شيئا ومر يعقوب ببشار يريد منزله فصاح به بشار
( طال الثَّواء على رُسوم المنزِلِ ... )

فقال يعقوب
( فإِذا تشاءُ أبا معاذٍ فارحَلِ ... )
فغضب بشار وقال يهجوه
( بني أميّة هُبّوا طال نومُكُم ... إنّ الخليفة يعقوبُ بن داودِ )
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزِّقّ والعُودِ )
قال النوفلي فلما طالت أيام بشار على باب يعقوب دخل عليه وكان من عادة بشار إذا أراد أن ينشد أو يتكلم أو يتفل عن يمينه ويصفق بإحدى يديه على الآخرى ففعل ذلك وأنشد
( يعقوبُ قد ورد العُفاةُ عشيّةً ... مُتعرّضين لسَيبك المُنتاب )
( فسقَيتَهم وحسبتني كَمّونةً ... نَبتت لزارعها بغير شرابِ )
( مَهلاً لديك فإِنّني رَيحانة ... فاشمُمْ بأنفك واسقِها بذِنابِ )
( طال الثواءُ على تنظُّرِ حاجةٍ ... شَمِطتْ لديك فمن لها بخِضابِ )
( تُعطِي الغزيرةُ درَّها فإِذا أبتْ ... كانت مَلامتُها على الحُلاّبِ )
يقول ليعقوب أنت من المهدي بمنزله الحالب من الناقة الغزيرة التي إذا لم يوصل إلى درها فليس ذلك من قبلها إنما هو في منع الحالب منها وكذلك الخليفة ليس من قبله لسعة معروفة إنما هي من قبل السبب إليه
قال فلم يعطف ذلك يعقوب عليه وحرمه فانصرف إلى البصرة مغضبا فلما قدم المهدي البصرة أعطى عطايا كثيرة ووصل الشعراء وذلك كله على يدي يعقوب فلم يعط بشارا

شيئا من ذلك فجاء بشار إلى حلقة يونس النحوي فقال هل ها هنا أحد يحتشم قالوا له لا فأنشأ بيتا يهجو فيه المهدي فسعى به أهل الحلقة إلى يعقوب فقال يونس للمهدي إن بشارا زنديق وقامت عليه البينة عندي بذلك وقد هجا أمير المؤمنين فأمر ابن نهيك بأخذه وأزف خروجهم فخرجوا وأخرجه ابن نهيك معه في زورق فلما كانوا بالبطيحة ذكره المهدي فأرسل إلى ابن نهيك يأمره أن يضرب بشارا ضرب التلف ويلقيه بالبطيحة فأمر به فأقيم على صدر السفينة وأمر الجلادين أن يضربوه ضربا يتلفون فيه نفسه ففعلوا ذلك فجعل يسترجع فقال بعض من حضر أما تراه لا يحمد الله فقال بشار أنعمة هي فأحمد الله عليها إنما هي بلية أسترجع عليها فضرب سبعين سوطا مات منها وألقي في البطيحة
قال يحيى بن علي فحكى قعنب بن محرز الباهلي قال حدثني محمد بن الحجاج قال
لما ضرب بشار بالسياط وطرح في السفينة قال ليت عين أبي الشمقمق رأتني حين يقول
( إنّ بشّارَ بنَ برد ... تيسٌ أعمى في سفينة )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال
أمر المهدي عبد الجبار صاحب الزنادقة فضرب بشارا فما بقي في بالبصرة شريف إلا بعث إليه بالفرش والكسوة والهدايا ومات بالبطيحة قال وكانت وفاته وقد ناهز ستين سنة

نعي بشار
قال عمر بن شبة حدثني سالم بن علي قال كنا عند يونس فنعى بشارا إلينا ناع فأنكر يونس ذلك وقال لم يمت فقال الرجل أنا رأيت قبره فقال أنت رأيته قال نعم وإلا فعلي وعلي وحلف له حتى رضي فقال يونس لليدين وللفم
قال أبو زيد وحدثني جماعة من أهل البصرة منهم محمد بن عون بن بشير وكان يتهم بمذهب بشار فقال
لما مات بشار ألقيت جثته بالبطيحة في موضع يعرف بالخرارة فحمله الماء فأخرجه إلى دجلة البصرة فأخذ فأتي به أهله فدفنوه قال وكان كثيرا ما ينشدني
( ستَرى حولَ سَريري ... حُسّرا يَلْطِمن لَطما )
( يا قَتيلا قتلتْه ... عبدةُ الحوراءُ ظلما )
قال وأخرجت جنازته فما تبعها أحد إلا أمة له سوداء سندية عجماء ما تفصح رأيتها خلف جنازته تصيح واسيداه واسيداه
قول الناس في موت بشار
قال أبو زيد وحدثني سالم بن علي قال
لما مات بشار ونعي إلى أهل البصرة تباشر عامتهم وهنأ بعضهم بعضا وحمدوا الله وتصدقوا لما كانوا منوا به من لسانه

وقال أبو هشام الباهلي فيما أخبرنا به يحيى بن علي في قتل بشار
( يا بُؤْسَ مَيْتٍ لم يبكِه أحدُ ... أَجَلْ ولم يَفتقدْه مُفتقِدُ )
( لا أُمُّ أولاده بكتْه ولم ... يَبْكِ عليه لفُرقةٍ وَلدُ )
( ولا ابنُ أختٍ بكى ولا ابنُ أخٍ ... ولا حَميمٌ رقّت له كبِدُ )
( بل زعموا أنّ أهلَه فرحاً ... لمّا أتاهم نَعِيُّه سَجَدوا )
قال وقال أيضا في ذلك
( قد تبِع الأعمى قَفا عَجْرَدٍ ... فأصبحا جارَين في دارِ )
( قالت بِقاعُ الأرض لا مَرحباً ... برُوح حمّادٍ وبشّارِ )
( تَجاورَا بعد تَنائيهما ... ما أبْغضَ الجارَ إلى الجارِ )
( صارا جميعاً في يديّ مالكٍ ... في النّار والكافرُ في النارِ )
قال أبو أحمد يحيى بن علي وأخبرنا بعض إخواني عن عمر بن محمد عن أحمد بن خلاد عن أبيه قال
مات بشار سنة ثمان وستين ومائة وقد بلغ نيفا وسبعين سنة

المهدي يندم على أمره بقتل بشار
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال
لما ضرب المهدي بشارا بعث إلى منزله من يفتشه وكان يتهم بالزندقة فوجد في منزله طومار فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول الله فأمسكت عنهم إجلالا له على أني قد قلت فيهم

( دِينارُ آلِ سليمانٍ ودِرهَمُهم ... كالبابِليِّين حُفّا بالعفاريتِ )
( لا يُبصَران ولا يُرجَى لقاؤهما ... كما سمعتَ بهارُوتٍ ومارُوت )
فلما قرأه المهدي بكى وندم على قتله وقال لا جزى الله يعقوب بن داود خيرا
فإنه لما هجاه لفق عندي شهودا على أنه زنديق فقتلته ثم ندمت حين لا يغني الندم
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدثني محمد بن هارون قال
لما نزل المهدي البصرة كان معه حمدويه صاحب الزنادقة فدفع إليه بشارا وقال اضربه ضرب التلف فضربه ثلاثة عشر سوطا فكان كلما ضربه سوطا قال له أوجعتني ويلك فقال يا زنديق أتضرب ولا تقول بسم الله قال ويلك أثريد هو فأسمي الله عليه قال ومات من ذلك الضرب
ولبشار أخبار كثيرة قد ذكرت في عدة مواضع منها أخباره مع عبدة فإنها أفردت في بعض شعره فيها الذي غنى فيه المغنون وأخباره مع حماد عجرد في تهاجيهما فإنها أيضا أفردت وكذلك أخباره مع أبي هاشم الباهلي فإنا لا نجمع جميعها في هذا الموضع إذ كان كل صنف منها مستغنيا بنفسه حسبما شرط في تصدير الكتاب

أخبار يزيد حوراء
طبقة يزيد حوراء
يزيد حوراء رجل من أهل المدينة ثم من موالي بني ليث بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة ويكنى أبا خالد مغن محسن كثير الصناعة من طبقة ابن جامع وإبراهيم الموصلي وكان ممن قدم على المهدي في خلافته فغناه وكان حسن الصوت حلو الشمائل
وذكر ابن خرداذبه أنه بلغه أن إبراهيم الموصلي حسده على شمائله وإشارته في الغناء فاشترى عدة جوار وشاركه فيهن وقال له علمهن فما رزق الله فيهن من ربح فهو بيننا وأمرهن أن يجعلن وكدهن أخذ إشارته ففعلن ذلك وكان إبراهيم يأخذها عنهن هو وابنه ويأمرهن بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس فأبطل عليه ما كان منفردا به من ذلك

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثني جماعة من موالي الرشيد
إن يزيد حوراء كان صديقا لأبي العتاهية فقال أبو العتاهية أبياتا في أمر عتبة يتنجز فيها المهدي ما وعده إياه من تزويجها فإذا وجد المهدي طيب النفس غناه بها وهي
( ولقد تَنَسّمتُ الرياحَ حاجتي ... فإِذا لها من راحتَيْكَ نسيمُ )
( أشْربتُ نفسي من رجائك ماله ... عَنَقٌ يخُبّ إليك بي ورَسِيمُ )
( ورَمَيتُ نحوَ سماء جَوْدِك ناظِري ... أرْعَى مخايلَ بَرْقِهِ وأشيمُ )
( ولربّما استيأستُ ثم أقولُ لا ... إنّ الّذي ضَمِنَ النجاحَ كريمُ )
فصنع بها لحنا وتوخى لها وقتا وجد المهدي فيه طيب النفس فغناه بها فدعا بأبي العتاهية وقال له أما عتبة فلا سبيل إليها لأن مولاتها منعت من ذلك
ولكن هذه خمسون ألف درهم فاشتر ببعضها خيرا من عتبة فحملت إليه وانصرف

جمال وجهه وخصاله
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثنا شيبة بن هشام عن عبد الله بن العباس الربيعي قال

كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن الوجه شكلا لم يقدم علينا من الحجاز أنظف ولا أشكل منه وما كنت تشاء أن ترى خصلة جميلة لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيهم وكان يتعصب لإبراهيم الموصلي على ابن جامع فكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبه على مواضع تقدمه وإحسانه ويبعث بابنه إسحاق إليه يأخذ عنه وكان صديقا لأبي مالك الأعرج التميمي لا يكاد أن يفارقه فمرض مرضا شديدا واحتضر فاغتم عليه الرشيد وبعث بمسرور الخادم يسأل عنه ثم مات فقال أبو مالك يرثيه

صوت
( لم يُمَتَّعْ من الشباب يزيدُ ... صار في التُّرْبِ وهو غَضٌّ جديدُ )
( خانَه دهرهُ وقابَلَه منهُ ... بنَحْسٍ ودَابَرتْهُ السُّعودُ )
( حين زُقَّتْ دُنْياه من كل وجهٍ ... وتَدَانَى إليه منه البعيد )
( فكأن لم يكنْ يزيدُ ولم يَشْجُ ... نَدِيماً يَهُزُّه التّغريدُ )
وفي هذه الأبيات لحسين بن محرز لحن من الثقيل الثاني بالبنصر من نسخة عمرو بن بانة
إنشاده شعر أبي العتاهية في حضرة المهدي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي يوسف قال حدثني الحسين بن جمهور بن زياد بن طرخان مولى المنصور قال حدثني أبو محمد عبد الرحمن بن عيينة بن شارية الدؤلي قال حدثني محمد بن ميمون أبو زيد قال حدثني يزيد حوراء المغني قال

كلمني أبو العتاهية في أن أكلم له المهدي في عتبة فقلت له إن الكلام لا يمكنني ولكن قل شعرا أغنه به فقال

صوت
( نفسِي بشيءٍ من الدنيا مُعَلَّقةٌ ... اللهُ والقائمُ المهديُّ يَكْفِيها )
( إني لأيأسُ منها ثم يُطْمِعُني ... فيها احتقارُكَ للدنيا وما فيها )
قال فعملت فيه لحنا وغنيته به فقال ما هذا فأخبرته خبر أبي العتاهية فقال ننظر فيما سأل فأخبرت أبا العتاهية ثم مضى شهر فجاءني وقال هل حدث خبر فقلت لا قال فاذكرني للمهدي قلت إن أحببت ذلك فقل شعرا تحركه وتذكره وعده حتى أغنيه به فقال
صوت
( ليتَ شعرِي ما عندكم ليتَ شعرِي ... فلقد أُخِّرَ الجوابُ لأمرِ )
( ما جوابٌ أوْلَى بكلّ جميلٍ ... من جوابٍ يُرَدُّ من بعد شهرِ )
قال يزيد فغنيت به المهدي فقال علي بعتبة فأحضرت فقال إن أبا العتاهية كلمني فيك فما تقولين ولك وله ما تحبان مما لا تبلغه أمانيكما فقالت له قد علم أمير المؤمنين ما أوجب الله علي من حق مولاتي وأريد أن أذكر لها هذا قال فافعلي قال وأعلمت أبا العتاهية ومضت أيام فسألني معاودة المهدي فقلت قد عرفت الطريق فقل ما شئت حتى أغنيه به فقال
صوت
( أشْربتُ قلبي من رجائك ما له ... عَنَقٌ يَخُبّ إليك بي ورسيم )
( وأمَلتُ نحوَ سماء جَودِك ناظِري ... أرعَى مَخَايِلَ بَرْقِها وأشيمُ )

( ولربّما استيأستُ ثم أقول لا ... إنّ الذي وعَدَ النجاحَ كريمُ )
قال يزيد فغنيته المهدي فقال علي بعتبة فجاءت فقال ما صنعت فقالت ذكرت ذلك لمولاتي فكرهته وأبته فليفعل أمير المؤمنين ما يريد فقال ما كنت لأفعل شيئا تكرهه فأعلمت أبا العتاهية بذلك فقال
( قَطّعْتُ منكِ حبائلَ الآمالِ ... وأَرحْتُ من حِلٍّ ومن تَرْحالِ )
( ما كان أشأمَ إذ رجاؤُكِ قاتِلي ... وبناتُ وَعْدِكِ يَعْتلِجن ببالي )
( ولئن طَعِمتُ لرُبَّ برْقةِ خُلّبٍ ... مالتْ بذِي طَمَع ولمعةِ آلِ )

عشقه لجارية
أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
قال يزيد حوراء كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش فكانت تمر بي جارية تختلف إلى الزرقاء تتعلم منها الغناء فقلت لها يوما افهمي قولي وردي جوابي وكوني عند ظني فقالت هات ما عندك فقلت بالله ما اسمك فقالت ممنعة فأطرقت طيرة من اسمها مع طمعي فيها فقلت بل باذلة أو مبذولة إن شاء الله فاسمعي مني فقالت وهي تتبسم إن كان عندك شيء فقل فقلت
( لِيَهْنِكِ منّي أنني لستُ مُفْشِيا ... هواكِ إلى غيري ولو مُتُّ من كَرْبِ )
( ولا مانحاً خَلْقاً سواكِ مودّتي ... ولا قائلاً ما عشتُ من حبّكم حَسْبي )
قال فنظرت إلي طويلا ثم قالت أنشدك الله أعن فرط محبة أم اهتياج غلمة

تكلمت فقلت لا والله ولكن عن فرط محبة فقالت
( فواللهِ ربِّ الناس لا خُنتُكَ الهَوَى ... ولا زلتَ مخصوصَ المحبَّة من قلبي )
( فثِقْ بي فإنِّي قد وَثِقْتُ ولا تكنْ ... على غيرِ ما أظهرتَ لي يا أخا الحُبِّ )
قال فوالله لكأنما أضرمت في قلبي نارا فكانت تلقاني في الطريق الذي كانت تسلكه فتحدثني وأتفرج بها ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء فكانت تكاتبني وتلاطفني دهرا طويلا

صوت من المائة المختارة
( يا ليلةً جمعتْ لنا الأحبابا ... لو شئتِ دام لنا النعيمُ وطابا )
( بيتنا نُسَقَّاها شَمولا قَرْقفاً ... تَدعُ الصحيحَ بعقله مُرتابا )
( حمراء مثل دمِ الغزال وتارة ... عند المِزاج تخالها زريابا )
( من كفِّ جاريةٍ كأنّ بنَانَها ... من فِضّة قد قُمِّعَتْ عُنّابا )
( وكأنّ يُمناها إذا نقَرتْ بها ... تُلقِي على الكفِّ الشِّمالِ حِسابا )
عروضه من الكامل الشعر لعكاشة العمي والغناء لعبد الرحيم الدفاف ولحنه المختار هزج بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

أخبار عكاشة العمى ونسبه
سبب تسميته بالعمي
هو عكاشة بن عبد الصمد العمي من أهل البصرة من بني العم وأصل بني العم كالمدفوع يقال إنهم نزلوا ببني تميم بالبصرة في أيام عمر بن الخطاب فأسلموا وغزوا مع المسلمين وحسن بلاؤهم فقال الناس أنتم وإن لم تكونوا من العرب إخواننا وأهلنا وأنتم الأنصار والإخوان وبنو العم فلقبوا بذلك وصاروا في جملة العرب
وقال بعض الشعراء وهو كعب بن معدان يهجو بني ناجية ويشبههم ببني العم
( وجدنا آلَ سامةَ في قَريشٍ ... كمثل العمِّ بين بني تميمِ )
ويروى في سلفي تميم
أخبرني عيسى بن الحسين عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو عبيدة قال
لما تواقف جرير والفرزدق بالمربد للهجاء اقتتلت بنو يربوع وبنو

مجاشع فأمدت بنو العم بني مجاشع وجاؤوهم وفي أيدهم الخشب فطردوا بني يربوع فقال جرير من هؤلاء قالوا بنو العم فقال جرير يهجوهم
( ما للفرزدقِ مِنْ عزٍّ يلوذُ به ... إلاّ بني العمِّ في أيديهم الخشَبُ )
( سِيروا بني العمِّ فالأهواز داركُمُ ... ونهرَ تِيرَى ولم تعرفْكم العَربُ )
وعكاشة شاعر مقل من شعراء الدولة العباسية ليس ممن شهر وشاع شعره في أيدي الناس ولا ممن خدم الخلفاء ومدحهم

خبره مع جارية تدعى نعيم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن عن ابن الأعرابي قال حدثني سعيد بن حميد الكاتب البصري قال قال أبي
كان عكاشة بن عبد الصمد العمي صديقا لي وإلفا وكنا نتعاشر ولا نكاد نفترق ولا يكتم أحدنا صاحبه شيئا فرأيته في بعض أيامه متغير الهيئة عما عهدته مقسم القلب والفكر غير آخذ ما كنا فيه من الفكاهة والمزاح فسألته عن حاله فكاتمنيها مليا ثم أخبرني أنه يهوى جارية لبعض الهاشميين يقال لها نعيم وأن مرامها عليه مستصعب لا يراها إلا من جناح لدارهم تشرف عليه في الفيئة بعد الفيئة فتكلمه كلاما يسيرا ثم تذهب فعاتبته على ذلك فلم يزدجر وتمادى في

أمره ثم جاءني يوما فقال قد وعدتني الزيارة لأن شكواي إليها طالت فقلت له فهل حققت لك الوعد على يوم بعينه قال لا إنما سألتها الزيارة فقالت نعم أفعل فقلت له هذا والله أعجب من سائر ما مضى وأي شيء لك فيه هذا من الفائدة بلا تحصيل وعد فقال لي يا أخي إن لي في قولها نعم فرجا كبيرا فقلت أنت أقنع الناس ثم جاءني بعد يومين وهو كاسف البال مهموم فقلت له مالك فقال مضيت إلى نعيم فتنجزت وعدها فقالت لي إن لي صاحبة أستنصحها وأعلم أنها تشفق علي شفقة الأخت على أختها والأم على ولدها وقد نهتني عن ذلك وقالت لي إن في الرجال غدرا ومكرا ولا آمن أن تفتضحي ثم لا تحصلي منه على شيء وقد انقطعت عني ثم أنشدني لنفسه
( علامَ حبلُ الصفاءِ منصرمُ ... وفيمَ عنّي الصدودُ والصَّمَمُ )
( يا من كَنَيْنا عن اسمه زمناً ... نتبعُ مرضاتَهُ ويجترمُ )
( قد عِيلَ صبري وأنتِ لاهيةٌ ... عنّي وقلبي عليكِ يَضْطَرِمُ )
( مَنْ جَدَّ حبلَ الوفاء سيِّدتي ... منكِ ومن سامني له العَدَمُ )
( فكم أتاني واشٍ يعيبكُمُ ... فقلتُ إخسَأْ لأنفِك الرَّغَمُ )
( أنتَ الفِدّأ والحِمَى لمن عِبتَ فارجع ... ْ صاغِراً راغماً لك الندَمُ )

صوت
( يا ربِّ خُذْ لي من الوُشاة إذا ... قاموا وقُمنا إليكَ نختصِمُ )
( دَبُّوا إليها يُوَسوسون لها ... كي يستزلُّوا حبيبتي زَعموا )
( هيهات مِنْ ذاك ضَلَّ سعيهُمُ ... ما قلبها المستعارُ يُقتَسَمُ )

( يا حاسدينا موتوا بغيظِكُمُ ... حَبْلِي متينٌ بقولها نَعَمُ )
( بالله لا تُشْمِتي العُدَاةَ بنا ... كوني كقلبي فلست أتّهمْ )
الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل وقيل إنه لغيرها قال ثم طال ترداده إليها واستصلاحه لها فلم ألبث أن جاءتني رقعته في يوم خميس يعلمني أنها قد حصلت عنده ويستدعيني فحضرت وتوارت عني ساعة وهو يخبرها أنه لا فرق بيني وبينه ولا يحتشمني في حال البتة إلى أن خرجت فاجتمعنا وشربنا وغنت غناء حسنا إلى وقت العصر ثم انصرفت وأخذ دواة ورقعة فكتب فيها
( سَقْياً لمجلسنا الذي كنَّا به ... يومَ الخميسِ جماعةً أَتْرابا )
( في غُرفةٍ مَطَرَت سماوةُ سقفِها ... بحيَا النعيم من الكروم شَرابا )
( إذ نحنُ نُسقَاها شَمولاً قَرْقَفاً ... تَدَعُ الصحيحَ بعقله مُرتابا )
( حمراء مثل دمِ الغزال وتارةً ... بعد المِزاج تخالُها زِرْيابا )
( من كفِّ جاريةٍ كأنَّ بناَنَها ... من فِضَّةٍ قد قُمِّعتْ عُنّابا )
( تزدادُ حسناً كأسُها من كفّها ... ويطيب منها نشرُها أحقَابا )
( وإذا المزاجُ عَلاَ فَشَجّ جبينَها ... نَفَثَتْ بألْسِنةِ المِزاجِ حَبَابا )
( وتخالُ ما جَمَعتْ فأحدق سِمْطُه ... بالطَّوق رِيقَ حَبَائبٍ ورُضَابا )
( كَفَتِ المَنَاصِفَ أن تَذُبَّ أكُفُّها ... عنها إذا جعلتْ تَفُوح ذُبَابا )

( والعُودُ مُتّبعٌ غِناءَ خَرِيدةٍ ... غَرِداً يقول كما تقول صوابا )
( وكأنّ يُمناها إذا نَطَقتْ به ... تُلقِي على يدها الشِّمالِ حِسابا )
( فهناك خَفّ بنا النعيمُ وصار من ... دون الثقيل لنا عليه حِجَابا )
( آلَيتُ لا ألْحَى على طلب الهَوى ... مُتَلذِّداً حتى أكونَ تُرابا )

شعره في نعيم بعد تزويجها وسفرها
قال ثم قدم قادم من أهل بغداد فاشترى نعيم هذه من مولاتها ورحل إلى بغداد فعظم أسف عكاشة وحزنه عليها واستهيم بها طول عمره فاستحالت صورته وطبعه وخلقه إلى أن فرق الدهر بيننا فكان أكثر وكده وشغله أن يقول فيها الشعر وينوح به عليها ويبكي قال حميد بن سعيد فأنشدني أبي له في ذلك
( ألاَ ليتَ شِعْرِي هل يعودنّ ما مَضَى ... وهل راجعٌ ما مات من صِلة الحَبْلِ )
( وهل أجلسنْ في مثل مجلِسِنا الذي ... نَعِمْنا به يومَ السعادة بالوصلِ )
( عشيّةَ صَبّتْ لذةُ الوصل طِيبَها ... علينا وأفنانُ الجِنان جَنَى البَذْلِ )
( وقد دار ساقِينا بكأسٍ رَوِيَّةٍ ... تُرَحِّلُ أحزانَ الكئيبِ مع العقلِ )
( وشَجَّ شُمولاً بالمِزاج فطيَّرت ... كألسنة الحَيّات خافتْ من القتلِ )
( فبِتْنا وعينُ الكأسِ سَحٌّ دموعُها ... لِكلِّ فتىً يهتزّ للمجد كالنَّصْلِ )
( وقَيْنتنا كالظبي تسمَح بالهوى ... وبَثِّ تَبَارِيح الفؤادِ على رِسْلِ )
( إذا ما حَكَتْ بالعُودِ رَجْعَ لسانِها ... رأيتَ لسانَ العودِ من كَفِّها يُمْلي )
( فلم أر كاللّذّات أمطرَتِ الهَوَى ... ولا مثلَ يومي ذاك صادَفه مِثلي )

ومما قاله فيها
( أَنُعَيْم حبُّكِ سَلَّني وبَلاَنِي ... وإلى الأمَرِّ من الأمور دعاني )
( أَنُعَيْم لو تَجِدِينَ وَجْدِي والذي ... أَلْقَى بَكَيتِ من الذي أبكاني )
( أنعيم سيّدتي عليكِ تَقَطَّعتْ ... نفسي من الحَسَرات والأحزانِ )
( أنعيم قد رَحِم الهوى قلبي وقد ... بكتِ الثيابُ أسًى على جُثْماني )
( أنعيم وانحدرتْ مدامعُ مقلتي ... حتّى رَحِمتُ لرحمتي إخواني )
( أنعيم مَثَّلك الهُيَامُ لمقلتي ... فكأنّني ألقاكِ كلَّ مكانِ )
( أنعيم نظرةُ سحرِ عينِك بالهوى ... معروفةٌ بالقتل في إنسانِ )
( أنعيمٌ اشفِي أو دَعِي مَنْ داؤه ... ودواؤه بيديكِ مُقترنانِ )
( هذا وكم من مجلسٍ لي مُؤْنِفٍ ... بين النعيم وبين عيشٍ داني )
( نازعتُه أردانَه فَلَبِستُها ... مع ظَبْيةٍ في عيشنا الفَيْنانِ )
( تُنْسِي الحليمَ من الرجال مَعَادَه ... بين الغِناء وعُودَها الحَنّانِ )
( حتى يعودَ كأنّ حَبَّةَ قلبه ... مشدودَةٌ بمَثَالِبٍ ومَثَانِي )
( ظَلَّت تُغَنِّيني وتَعْطِفُ كفَّها ... بالعود بين الرَّاح والرَّيْحانِ )
( فسمِعتُ ما أبكَى وأضْحَكَ سامعاً ... وسكِرتُ من طَرَبٍ ومن أشجانِ )
( ومَشَيتُ في لُجَج الهوَى مُتَبختراً ... ومشى إليّ اللهوُ في الألوانِ )
( فعلِمتُ أنْ قد عاد قلبي عائدٌ ... من بينِ عُودٍ مُطرِبٍ وَبَنَانٍ )

ومما قاله أيضا فيها
( نُعَيْمٌ هل بَكَيتِ كما بَكَيتُ ... وهل بعدِي وَفَيتِ كما وَفَيتُ )
( ألاَ يا ليت شِعرِي كيف بَعدِي اصطبارُك ... ِ إذ نَأَيتِ وإذ نأيتُ )
( فكم من عَبْرةٍ ذَرَفتْ فلمّا ... خَشيِتُ عيونَ أهلي واستحيَتُ )
( نَهَضتُ بها مُكاتَمَةً فلمّا ... خلوتُ ذَرَفتُها حتّى اشتفيتُ )
( وقلتُ لصُحْبتي لمّا رَمَانِي ... هواكِ بدائه حتى انطويتُ )
( أراني من هموم النفسِ مَيْتاً ... ولم أرَ في نُعَيمٍ ما نَوَيتُ )
( فليتَ الموتَ عَجّل قبضَ رُوحي ... جِهاراً فاسترحتُ وأين ليتُ )
وقال أيضا في فراقه إياها
( أَنُعَيْمُ في قلبي عليك شَرَارُ ... وعلى الفؤاد من الصَّبابةِ نارُ )
( وعلى الجفون غِشاوةُ وعلى الهَوَى ... داعٍ دَعَتْه لِحَيْنَى الأقدارُ )
( بمضِلّةٍ لُبَّ الحليم إذا رَمَتْ ... بالمقلتين كأنها سَحّارُ )
( طالبتُها حَوْلَينِ لا لَيْلي بها ... ليلٌ ولا هذا النهارُ نهارُ )
( حتى إذا ظَفِرَتْ يدايَ بكاعِبٍ ... كالشمس تَقْصُر دونها الأبصارُ )
( وثَلِجتُ صدراً بالفتاة وصارتَا ... كالنفسِ نفسانَا وقَرّ قَرارُ )
( بَلَغ الشقاءُ أشدَّ ما يِسْطِيعُهُ ... فينا وفَرّق بيننا المِقْدارُ )
ومما يغنى فيه من شعر عكاشة الذي قاله في هذه الجارية

صوت
( لَهْفِي على الزمن الذي ... وَلَّى ببهجته القصيرِ )
( قد كان يُؤْنقني الهَوَى ... ويُقِرّ عيني بالسرورِ )
( إذ نحن خُلاّنُ الهَوَى ... رَيْحانُنا عَبِقُ العبيرِ )
( وغناؤنا وصفُ الهَوَى ... نلتذّ بالحبّ اليسيرِ )
الغناء في هذه الأبيات لابن صغير العين من كتاب إبراهيم ولم يذكر طريقته
وفيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف رمل
وتمام هذه الأبيات
( وجهُ التواصُل بيننا ... في الحسن كالقمر المنيرِ )
( إيماؤنا يُحكي الكلامَ ... وسِرُّنا فَطَنُ المشيرِ )
( وحديثُنا بحواجبٍ ... نطقتْ بألسنة الضَّميرِ )
( بل رُسْلنا الكُتُبُ التي ... تَجري بخافيةِ الصُّدورِ )
المهدي أراد له الحد بعد أن أنشده شعرا في الخمر
حدثني الحسن بن عليل قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو مسلم عن المدائني قال
أنشد عكاشة بن عبد الصمد المهدي قوله في الخمر
( حمراء مثل دم الغزال وتارةً ... عند المِزاج تَخالها زِرْيابا )
فقال له المهدي لقد أحسنت في وصفها إحسان من قد شربها ولقد استحققت بذلك الحد فقال أيؤمنني أمير المؤمنين حتى أتكلم بحجتي قال قد أمنتك

قال وما يدريك يا أمير المؤمنين أني أحسنت وأجدت صفتها إن كنت لا تعرفها فقال له المهدي اعزب قبحك الله
قال الحسن وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير ابن بكار أن عكاشة أنشد موسى الهادي هذا الشعر ثم أنشده قوله
( كأنّ فُضولَ الكأس من زَبَداتها ... خَلاخِلُ شُدّت بالجُمان إلى حَجْلِ )
فقال له موسى والله لأجلدنك حد الخمر قال ولم يا أمير المؤمنين إنما نقول ولا نفعل فقال كذبت قد وصفتها صفة عالم بها قال فاجعل لي الأمان حتى أتكلم بحجتي قال تكلم وأنت آمن قال أجدت وصفها أم لم أجد قال بل قد أجدت قال وما يدريك أني أجدت إن كنت لا تعرفها إن كنت وصفتها بطبعي دون امتحاني فقد شركتني في ذلك بطبعك وإن كان وصفها لا يعلم إلا بالتجربة فقد شركتني أيضا فيها فضحك موسى وقال له قد نجوت بحيلتك مني قاتلك الله فما أدهاك

متفرقات من شعره
ومما وجدت فيه غناء من شعر عكاشة قوله
( وجاءوا إليه بالتَّعاويذ والرُّقَى ... وَصَبّوا عليه الماء من شدّة النُّكْسِ )
( وقالوا به من أعين الجنّ نَظرةٌ ... ولو صدَقوا قالوا به أعينُ الإِنسِ )
الغناء لعريب
ومنها
( طَرفي يذوب وماءُ طَرفِك جامدُ ... وعليَّ من سِيمَا هواكِ شواهدُ )

( هذا هواكِ قسَمتِه بين الورى ... ومنحتِني أرَقاً وطَرفُكِ راقدُ )
( فعليّ منه اليومَ تسعةُ أَسهُمٍ ... وعلى جميع النّاسِ سهمٌ واحدُ )
الغناء لجحظة
ومنها
( غَادِ الهوى بالكأس بردَا ... وأطِعْ إمارَةَ من تَبدّى )
ومنها
( كما اشتهتْ خُلقتْ حتّى إذا اعتدلتْ ... تمّت قَواماً فلا طولٌ ولا قِصَرُ )
ومنها
( وزَعفرانيّة في اللّون تحسَبُها ... إذا تأمّلتَها في جِسم كافُورِ )
( تخال أنّ سَقِيط الطَّلّ بينَهما ... دمعٌ تَحيّر في أجفان مَهْجُورِ )

أخبار عبد الرحيم الدفاف ونسبه
الخلاف في اسم أبيه
عبد الرحيم بن الفضل الكوفي ويكنى أبا القاسم وقيل هو عبد الرحيم ابن سعد وقيل عبد الرحيم بن الهيثم بن سعد مولى لآل الأشعث بن قيس وقيل بل هو مولى خزاعة
ذكر أبو أيوب المديني أن حمادا الراوية حدثه قال رأيت عبد الرحيم الدفاف أيام هارون الرشيد بالرقة وقد ظهرت فحضرني وسمعته يغني يومئذ صوتا سئل عنه فذكر أنه من صنعته وهو
( فَديتُكِ لو تَدْرِين كيف أحِبكم ... وكيف إذا ما غِبتُ عنكِ أقولُ )

وكان عبد الرحيم منقطعا إلى علي بن المهدي المعروف بأمه ريطة بنت أبي العباس
فأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال
غنت جارية يوما بحضرة الرشيد
( قُل لعليّ أيا فتى العربِ ... وخيرَ أنامٍ وخيرَ مُكتسِبِ )
( أعلاك جَدّاك يا عليّ إذا ... قصّر جَدٌّ عن ذروة الحسبِ )
فأمر بضرب عنقها فقالت يا سيدي ما ذنبي هذا صوت علمته والله ما أدري من قاله ولا فيمن قيل فعلم أنها صدقت فقال لها عمن أخذته فقالت عن عبد الرحيم الدفاف فأمر بإحضاره فأحضر فقال له يا عاض بظر أمه أتغني في شعر تفاخر فيه بيني وبين أخي جردوه فجردوه ودعا له بالسياط فضرب بين يديه خمسمائة سوط
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن القطراني عن محمد بن جبر قال
قال لي عبد الرحيم بن القاسم الدفاف دخلت على علي بن ريطة يوما وستارته منصوبة فغنت جاريته
( أُناسٌ أمِنّاهم فَنَمّوا حديثَنا ... فلما كَتَمنا السرَّ عنهم تقَوَّلوا )
فقلت أرأيت إن غنيتك هذا الصوت وفي تمامه زيادة بيت واحد أي شيء لي عليك قال خلعتي التي علي فغنيته

( فلم يحفَظوا الوُدّ الذي كان بيننا ... ولا حينَ هَمّوا بالقَطيعة أجملوا )
قال فنزع خلعته فخلعها علي وأقمت عنده بقية يومي على عربدة كانت فيه
الشعر لعباس بن الأحنف والغناء لعبد الرحيم الدفاف هزج بالبنصر
وهذا أخذه العباس من قول أبي دهبل

صوت
( أمِنّا أُناساً كنتِ تأتمِنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأَوْهَمُوا )
( وقالوا لها مالم نقل ثمّ أكثروا ... عليّ وباحوا بالذي كنتُ أكتمُ
وفي هذين البيتين أغاني قديمة منها لحن لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
ولابن زرزور الطائفي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
وفيه خفيف رمل بالبنصر والوسطى لمتيم وعريب
صوت من المائة المختارة
( بَكَرتْ سُمَيّةُ غُدْوةً فتمتَّعِي ... وغدتْ غُدُوَّ مُفَارقٍ لم يَرْبَعِ )
( وتَعَرّضتْ لكَ فاستبتكَ بواضح ... صَلْتٍ كمُنْتَصّ الغزال الأتلعِ )
عروضه من الكامل والشعر للحادرة الثعلبي والغناء في اللحن المختار لسعيد بن مسجح وإيقاعه من خفيف الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى

البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز
وفيهما للغريض ثقيل أول بالبنصر عن عمرو
وفيهما خفيف رمل بالوسطى لابن سريج عن حبش
ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
( أسُمِيّ ما يُدريكِ كم من فِتْية ... بادرتُ لَذّتَهم بأدكَنَ مُتْرَعِ )
( بَكَروا عليّ بسُحْرة فصَبَحتُهم ... من عاتقٍ كدَمِ الذبيح مُشَعْشَعِ )
غناه مالك ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو
وفيه لمالك خفيف ثقيل أيضا
وفيهما لعلويه
ثقيل أول صحيح من جيد صنعته
قوله فتمتعي يخاطب نفسه أي تمتعي منها قبل فراقها
ولم يربع لم يقم
والواضح الصلت يعني عنقها وأصل الصلت الماضي ومنه الناقة المصلات الماضية وشد عليه بالسيف صلتا أي خارجا من غمده
والصلت في هذا الشعر الطويل الذي لا قصر فيه
والمنتص المنتصب يقال انتص فلان أي انتصب
ومنصة العروس مأخوذة من هذا ومنه نص الحديث رفعه إلى صاحبه
واستبتك غلبتك على عقلك
والواضح الخالص الأبيض
وأدكن مترع يعني الزق
والمشعشع المرقرق بالماء

أخبار الحادرة ونسبه
أخبرني بنسبه هذا محمد بن العباس اليزيدي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب ابن أخي الأصمعي عن عمه قال وإنما سمي الحادرة بقول زبان بن سيار الفزاري له
( كأنّكَ حادرةُ المَنْكبَيْن ... رَصْعاءُ تُنْقِض في حائرِ )
( عجوزُ ضَفَادِعَ محجوبةٌ ... يَطيفُ بها وِلْدةُ الحاضرِ )
قال والحادرة الضخم
وذكر أبو عمرو الشيباني أن الحادرة خرج هو وزبان الفزاري يصطادان فاصطادا جميعا فخرج زبان يشتوي ويأكل في الليل وحده فقال الحادرة
( تركتَ رفيقَ رَحْلِكَ قد تراه ... وأنت لِفيكَ في الظَّلْماء هادِي )
فحقدها عليه زبان ثم أتيا غديرا فتجرد الحادرة وكان ضخم المنكبين

ارسح فقال زبان
( كأنك حادرةُ المنكَبيْن ... ِ رصعاء تُنْقِض في حائرِ )
فقال له الحادرة
( لَحَا اللهُ زَبّانَ من شاعرٍ ... أخِي خَنْعَةٍ فاجر غادرِ )
( كأنك فُقّاحةٌ نوّرتْ ... مع الصبح في طَرَف الحائرِ )
فغلب هذا اللقب على الحادرة
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال سمعت شيخا من بني كنانة من أهل المدينة يقول
كان حسان بن ثابت إذا قيل له تنوشدت الأشعار في موضع كذا وكذا يقول فهل أنشدت كلمة الحويدرة
( بَكَرَتْ سُمَيّةُ غُدْوةً فَتَمتّعي ... )
قال أبو عبيدة وهي من مختار الشعر أصمعية مفضلية

سبب الهجاء بينه وبين زبان بن سيار
نسخت من كتاب ابن الأعرابي قال حدثني المفضل قال
كان الحادرة جارا لرجل من بني سليم فأغار زبان بن سيار على إبله فأخذها فدفعها إلى رجل من أهل وادي القرى يهودي ومكان له عليه دين فأعطاه إياها بدينه وكان أهل وادي القرى حلفاء لبني ثعلبة فلما سمع اليهودي بذلك قال سيجعل الحادرة هذا سببا لنقض العهد الذي بيننا وبينه ونحن نقرأ الكتاب ولا ينبغي لنا أن

نغدر فرد الإبل على الحادرة فردها على جاره ورجع إلى زبان فقال له أعطني مالي الذي عليك فأعطاه إياه زبان ووقع الهجاء بينه وبين الحادرة فقال الحادرة فيه
( لعَمْرَة بين الأخرمَيْنِ طلولُ ... تَقَادَمَ منها مُشْهِرٌ ومُحِيلُ )
( وَقَفتُ بها حتى تعالَى لِيَ الضُّحَى ... لأُخبَرَ عنها إنّني لَسَئُولُ )
يقول فيها
( فإِن تَحْسَبوها بالحجابِ ذلِيلةً ... فما أنا يوماً إن رَكِبتُ ذليلُ )
( سأمنَعُها في عُصْبةٍ ثَعْلبيَّةٍ ... لهم عَددٌ وافٍ وعِزٌّ أصيلُ )
( فإِنْ شئِتُم عُدْنا صديقاً وعُدْتُم ... وإِمّا أبيتَم فالمُقامُ زَحُولُ )
قال ولج الهجاء بينهما بعد ذلك فكان هذا سببه

شعره في غزوة بني عامر
ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني يذكر عن أبيه
أن جيشا لبني عامر بن صعصعة أقبل وعليهم ثلاثة رؤساء ذؤاب بن غالب من عقيل ثم من بني كعب بن ربيعة وعبد الله بن عمرو من بني الصموت وعقيل بن مالك من بني نمير وهم يريدون غزو بني ثعلبة بن سعد رهط الحادرة ومن معهم من محارب وكانوا يومئذ معهم فنذرت بهم بنو ثعلبة فركب قيس بن مالك المحاربي الخصفي وجؤية بن نصر الجرمي أحد بني ثعلبة للنظر إلى القوم فما دنوا منهم عرف عقيل بن مالك النميري جؤية بن نصر الجريم فناداه إلي يا جؤية بن نصر فإن لي خبرا أسره إليك فقال إليك أقبلت لكن لغير ما

ظننت فقال له ما فعلت قلوص يعني إمرأته فقال هي في الظعن أسر ما كانت قط وأجمله ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه واختلفا طعنتين فطعنه جؤية طعنة دقت صلبه وانطلق قيس بن مالك المحاربي إلى بني ثعلبة فأنذرهم فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمت بنو نمير وسائر بني عامر ومات عقيل النميري وقتل ذؤاب بن غالب وعبد الله بن عمرو أحد بني الصموت فقال الحادرة في ذلك
( كأنّ عُقَيلاً في الضُّحَى حَلَّقتْ به ... وطارتْ بِهِ في الجوّ عنقاءُ مُغرِب )
ويروي وطارت به في اللوح وهو الهواء
( وذي كَرمٍ يدعوكُمُ آلَ عامرٍ ... لدى مَعْرَكٍ سِرْبالُه يتصبَّبُ )
( رأت عامرٌ وقْعَ السيوف فأسلموا ... أخاهم ولم يعطف من الخيل مرهبُ )
( وسلَّم لمّا أن رأى الموتَ عامرٌ ... له مركبٌ فوق الأسنّة أحْدبُ )
( إذا ما أظلّتْه عَوالَي رماحِنا ... تدلَّى به نَهْدُ الجُزَارة مِنْهَبُ )
( على صَلَوَيْه مُرْهَفَاتٌ كأنها ... قوادمُ نسرٍ بُزَّ عنهنّ مَنكِبُ )
قال وفي هذه الوقعة يقول خداش بن زهير

( أيا أخَوَيْنا من أبينا وأُمِّنا ... إليكم إليكم لا سبيلَ إلى جَسْرِ )
جسر قبيلة من محارب
قال وهذا اليوم يعرف بيوم شواحط قبيلة من محارب

شعره في يوم الكفافة
وقال أبو عمرو خرج خارجة بن حصن في جمع من بني فزارة ومن بني ثعلبة بن سعد وهو يريد غزو بني عبس بن بغيض فلقوا جيشا لبني تميم على ماء يقال له الكفافة وتميم في جمع سعد والرباب وبني عمرو فقاتلوهم قتالا شديدا وهزمت تميم وأجفلت وهذا اليوم يقال له يوم كفافة فقال الحادرة في ذلك
( ونحن مَنَعْنا من تميم وقد طغتْ ... مَراعي المَلا حتى تضمَّنها نجدُ )
( كمَعْطَفِنا يومَ الكُفَافَة خَيْلَنا ... لتتْبَع أُخرَى الجيش إذ بلغ الجِدُّ )
( على حين شالتْ واسْتَخَفَّتْ رجالَهم ... جلائبُ أحياءٍ يسيلُ بها الشدُّ )
( إذا هي شَكَّ السَّمْهَرِيُّ نحورَها ... وخامت عن الأبطال أتعبها القِدُّ )
( تَكُرُّ سِرَاعا في المَضِيق عليهِمُ ... وتُثْنَى بِطاءً ما تخُبُّ ولا تَعدو )
( فأَثْنُوا علينا لا أبَا لأبيكُمُ ... بإِحساننا إن الثناءَ هو الخُلْدُ )

أخبار ابن مسجح ونسبه
سعيد بن مسجح أبو عثمان مولى بني جمح وقيل إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب مكي أسود مغن متقدم من فحول المغنين وأكابرهم وأول من صنع الغناء منهم ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب ثم رحل إلى الشأم وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية وانقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيرا وتعلم الضرب ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب وغنى على هذا المذهب فكان أول من أثبت ذلك ولحنه وتبعه الناس بعد
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن هشام بن المرية أن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح مولى بني مخزوم وذلك أنه مر بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام فسمع غناءهم بالفارسية فقلبه في شعر عربي وهو الذي علم ابن سريج والغريض وكان ابن مسجح مولدا أسود يكنى بأبي عيسى
أخبرني محمد بن عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني وذكر إسحاق عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
كان سبب بناء ابن الزبير الكعبة لما احترقت أن أهل الشام لما حاصروه

سمع أصواتا بالليل فوق الجبل فخاف أن يكون أهل الشام قد وصلوا إليه وكانت ليلة ظلماء ذات ريح شديدة صعبة ورعد وبرق فرفع نارا على رأس رمح لينظر إلى الناس فأطارتها الريح فوقعت على أستار الكعبة فأحرقتها واستطالت فيها وجهد الناس في إطفائها فلم يقدروا وأصبحت الكعبة تتهافت وماتت امرأة من قريش فخرج الناس كلهم في جنازتها خوفا من أن ينزل العذاب عليهم وأصبح ابن الزبير ساجدا يدعو ويقول اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي وهذه ناصيتي بين يديك فلما تعالى النهار أمن وتراجع الناس فقال لهم الله الله أن ينهدم في بيت أحدكم حجر فيزول عن موضعه فيبنيه ويصلحه وأترك الكعبة خرابا ثم هدمها مبتدئا بيده وتبعه الفعلة حتى بلغوا إلى قواعدها ودعا ببنائين من الفرس والروم فبناها

نقل غناء الفرس من بنائي الكعبة الذين أعادوا بناءها
قال إسحاق وأخبرني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال
كان سعيد بن مسجح أسود مولدا يكنى أبا عيسى مولى لبني جمح فرأى الفرس وهم يعملون الكعبة لابن الزبير ويتغنون بالفارسية فاشتق غناءه على ذلك
قال إسحاق وحدثني محمد بن سلام عن شعيب بن صخر وجرير قالا
كان سعيد بن مسجح أسود وهو مولى بني جمح يكنى أبا عيسى
قال إسحاق وحدثني المدائني عن صخر بن جعفر عن أبي قبيل بمثل

ذلك وذكر أنه كان يكنى أبا عثمان قال وهو مولى لبني نوفل بن الحارث كان هو وابن سريج لرجل واحد ولذلك قبل عنه ابن سريج

ظهرت عليه علامات الذكاء منذ صغره
قال إسحاق وحدثني الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان فذكر مثل ما ذكر أبو قبيل من كنيته وولائه وقال كان ابن مسجح فطنا كيسا ذكيا وكان أصفر حسن اللون وكان مولاه معجبا به وكان يقول في صغره ليكونن لهذا الغلام شأن وما منعني من عتقه إلا حسن فراستي فيه ولئن عشت لأتعرفن ذلك وإن مت فهو حر فسمعه مولاه يوما وهو يتغنى بشعر ابن الرقاع العاملي وهو من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى
صوت
( ألمِمْ على طَللٍ عَفا متقادم ... بين اللَّكيكِ وبين غَيْب الناعِم )
( لولا الحياء وأنّ رأسي قد عَثا ... فيه المشيبُ لزرتُ أمّ القاسِمِ )
فدعا به مولاه فقال له يا بني أعد ما سمعته منك علي فأعاده فإذا هو أحسن مما

ابتدأ به فقال إن هذا لمن بعض ما كنت أقول ثم قال أنى لك هذا قال سمعت هذه الأعاجم تتغنى بالفارسية فثقفتها وقلبتها في هذا الشعر قال له فأنت حر لوجه الله فلزم مولاه وكثر أدبه واتسع في غنائه ومهر بمكة وأعجبوا به لظرفه وحسن ما سمعوه منه فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال له يا بني علمه واجتهد فيه وكان ابن سريج أحسن الناس صوتا فتعلم منه ثم برز عليه حتى لم يعرف له نظير
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أخي هارون عن ابن الماجشون عن شيخ من أهل المدينة وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان والحسين بن يحيى قالا أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال ذكر ابن الكلبي عن أبي مسكين عن شيخ من أهل المدينة قال
دخلت على رجل من قريش بالمدينة وعنده رجل ساكن الطرف نبيل تأخذه العين لا أعرفه فقال له القرشي أقسمت عليك إلا ما غنيت صوتا فحول خاتمه من خنصره اليسرى إلى بنصره اليمنى ثم تناول قدحا فغناه لحن ابن سريج في شعر كعب بن جعيل
( إذا امتشطتْ عالَوْا لها بوِسادةٍ ... ومدِّتْ عَسيبَ المتن أن يتعَفَّرا )
( ثَوَتْ نصفَ شهر تحسَبُ الشهر ليلةً ... تُنَاغي غزَالاً ساجِي الطرف أحوَرَا )

( تَزَيَّنُ حتى تَسلُبَ المرءَ عقلَه ... وحتى يَحَارَ الطرْفُ فيها ويَسْكُرا )
ثم غنى في شعر توبة بن الحمير
( وغَيَّرني إن كنتِ لَمّا تَغَيّري ... هواجرُ تَكْتَنِّينَها وأسِيرُها )
( وأدْمَاء من سِرِّ المَهَارى كأنها ... مَهَاةُ صُوَارٍ غيرَ ما مَسّ كُورُها )
( قطعتُ بها أجوازَ كلِّ تَنُوفَةٍ ... مَخُوفٍ ردَاها كلّما استنَّ مُورُها )
( تَرى ضعفاءَ القوم فيها كأنهم ... دَعَامِيصُ ماءٍ نَشَّ عنها غَدِيرُها )
قال فقلت له إني لأروي هذا الشعر وما أعرف هذه الأبيات فيه فقال هكذا رويتها عن عبد الله بن جعفر قال وإذا هو نافع الخير مولى عبد الله بن جعفر
الغناء في هذين اللحنين لابن مسجح ولم أجد لهما طريقة في شيء من الكتب التي مرت وذكر حبش أن في أبيات كعب بن جعيل لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى

خبر آخر عن نقله غناء الفرس
حدثني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب وعمي وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن محمد بن موسى الهاشمي قال حدثني أحمد بن موسى بن حمزة بن عمارة بن صفوان الجمحي عن أبيه قال
أول من نقل الغناء الفارسي من الفارسي إلى الغناء العربي سعيد بن مسجح مولى بني مخزوم
قال وقد يختلف في ولائه إلا أن الأغلب عليه ولاء بني مخزوم وذلك أن معاوية بن أبي سفيان لما بنى دوره التي يقال لها الرقط وهي ما بين الدارين إلى الردم أولها الدار البيضاء وآخرها دار الحمام وهي على يسار المصعد من المسجد إلى ردم عمر حمل لها بنائين فرسا من العراق فكانوا يبنونها بالجص والآجر وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع من غنائهم على بنيانهم فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربي ثم صاغ على نحو ذلك وهو الذي علم الغريض فكان من قديم غنائه الذي صنعه على تلك الأغاني
صوت
( أسَلاَمٌ إنَّكِ قد مَلَكْتِ فَأَسجِحي ... قد يملِكُ الحرُّ الكريمُ فَيُسجِحُ )
( مُنّي على عَانٍ أَطَلْتِ عَنَاءَه ... في الغُلِّ عندك والعُنَاةُ تُسَرَّحُ )
( إنّي لأنصَحُكُمْ وأعلَمُ أنه ... سِيَّانِ عندك مَنْ يَغُشُّ ويَنصَحُ )

( وإِذا شكوتُ إلى سَلاَمةَ حُبِّها ... قالتْ أجِدُّ منكَ ذا أم تَمزَحُ )
الشعر للأحوص
والغناء لابن مسجح ثقيل أول بالبنصر
ولدحمان فيه ثقيل أول بالبنصر
ولمالك فيه خفيف ثقيل عن الهشامي قال وهو أول من غنى الغناء العربي المنقول عن الفارسي وعاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك

خبره مع عبد الملك بن مروان
حدثني عمي والحسين بن القاسم الكوفي قالا جميعا حدثنا محمد بن سعيد الكراني قال حدثني النضر بن عمرو قال حدثني أبو أمية القرشي قال حدثنا دحمان الأشقر قال
كنت عاملا لعبد الملك بن مروان بمكة فنمي إليه أن رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم فكتب إلي أن اقبض ماله وسيره ففعلت فتوجه ابن مسجح إلى الشام فصحبه رجل له جوار مغنيات في طريقه فقال له أين تريد فأخبره خبره وقال له أريد الشام قال له فتكون معي قال نعم فصحبه حتى بلغا دمشق فدخلا مسجدها فسألا من أخص الناس بأمير المؤمنين فقالوا هؤلاء النفر من قريش وبنو عمه فوقف ابن مسجح عليهم وسلم ثم قال يا فتيان هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها برق الأفق فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمم فقال أنا أضيفك وقال لأصحابه

انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي قالوا لا بل تجيء أنت وضيفك فذهبوا جميعا إلى بيت القينة فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد إني رجل أسود ولعل فيكم من يقذرني فأنا أجلس وآكل ناحية وقام فاسحيوا منه وبعثوا إليه بما أكل فلما صاروا إلى الشراب قال لهم مثل ذلك ففعلوا به وأخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما فغنتا إلى العشاء ثم دخلتا وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلست على السرير وجلستا أسفل منها عن يمين السرير وشماله قال ابن مسجح فتمثلت هذا البيت
( فقلتُ أشمسٌ أم مَصابيحٌ بِيعَةٍ ... بدَتْ لكَ خلفَ السَّجفِ أم أنت حَالمُ )
فغضبت الجارية وقالت أيضرب هذا الأسود بي الأمثال فنظروا إلي نظرا منكرا ولم يزالوا يسكنونها ثم غنت صوتا فقال ابن مسجح أحسنت والله فغضب مولاها وقال أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم فذهبت أقوم فتذمم القوم وقالوا لي بل أقم وأحسن أدبك فأقمت وغنت فقلت أخطأت والله يا زانية وأسأت ثم اندفعت فغنيت الصوت فوثبت الجارية فقالت لمولاها هذا والله أبو عثمان سعيد بن مسجح فقلت إني والله أنا هو والله لا أقيم عندكم فوثب القرشيون فقال هذا يكون عندي وقال هذا يكون عندي وقال هذا بل عندي فقلت والله لا أقيم إلا عند سيدكم يعني الرجل الذي أنزله منهم ثم سألوه عما أقدمه فأخبرهم الخبر فقال له صاحبه إني أسمر الليلة مع أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو قال لا ولكني أستعمل حداء قال فإن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين فإن وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك ومضى إلى عبد الملك فلما رآه طيب النفس أرسل إلى ابن مسجح وأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا

( إنكَ يا مُعاذُ يابنَ الفُضَّل ... إن زُلزِلَ الأقدامُ لم تُزلزلَ )
( عن دين موسى والكتابِ المنزَل ... تُقيمُ أصداغ القرونِ المُيَّلِ )
( للحقّ حتى ينتَحُوا للأعدلِ ... )
فقال عبد الملك للقرشي من هذا قال رجل حجازي قدم علي قال أحضره فأحضره له وقال له أحد مجدا ثم قال له هل تغني غناء الركبان قال نعم قال غنه فتغنى فقال له فهل تغني الغناء المتقن قال نعم قال غنه فتغنى فاهتز عبد الملك طربا ثم قال له أقسم إن لك في القوم لأسماء كثيرة من أنت ويلك قال له أنا المظلوم المقبوض ماله المسير عن وطنه سعيد بن مسجح قبض مالي عامل الحجاز ونفاني فتبسم عبد الملك ثم قال له قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم وأمنه ووصله وكتب إلى عامله برد ماله عليه وألا يعرض له بسوء

صوت من المائة المختارة
( سلا دارَ ليلى هل تُبِين فتَنْطِقُ ... وأَنَّى تردّ القولَ بيداءُ سَمْلَقُ )
( وأنَّى تردّ القولَ دارٌ كأنها ... لطُول بِلاها والتقادمِ مُهْرَقُ )
عروضه من الطويل الشعر لابن المولى
وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن إسحاق أن الشعر للأعشى وذلك غلط وقد التمسناه في شعر كل أعشى ذكر في شعراء العرب فلم نجده ولا رواه أحد من الرواة لأحد منهم ووجدناه في شعر

ابن المولى من قصيدة له طويلة جيدة وقد أثبتناها بعقب أخباره ليوقف على صحة ما ذكرناه إذ كان الغلط إذا وقع من مثل هذه الجهة احتيج إلى إيضاح الحجة على ما خالفه والدلالة على الصواب فيه
والغناء في اللحن المختار لعطرد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وعمرو وفيه لأيوب زهرة خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن المكي
وفي غناء أيوب زهرة زيادة بيتين وهما
( وقال خليلي والبُكا ليَ غالبٌ ... أقاضٍ عليك ذا الأسى والتشوُّقُ )
( وقد طال تَوْقاني أُكفكِف عَبْرةً ... تكاد إذا رُدَّتْ لها النفسُ تَزْهَقُ )

أخبار ابن المولى ونسبه
هو محمد بن عبد الله بن مسلم بن المولى مولى الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف شاعر متقدم مجيد من مخضرمي الدولتين ومداحي أهلهما وقدم على المهدي وامتدحه بعدة قصائد فوصله بصلات سنية وكان ظريفا عفيفا نظيف الثياب حسن الهيئة
مدح المهدي فاستحق عطاءه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل قال قال لي محمد بن صالح بن النطاح
كان ابن المولى يسمى محمدا مولى بني عمرو بن عوف من الأنصار وكان مسكنه بقباء وكان يقدم على المهدي فيمدحه فقدم عليه فأنشده قوله
( سَلاَ دارَ ليلى هل تُبِين فَتَنْطِقُ ... وأنْي تردّ القولَ بيداءُ سَمْلَقُ )
( وأنىّ تردّ القولَ دارٌ كأنها ... لطول بِلاها والتقادمِ مُهْرَقُ )
( وقال خليلي والبكا لِيَ غالبٌ ... أقاضٍ عليك ذا الأسى والتشوّقُ )
( وإِنسانُ عيني في دوائرِ لُجّةٍ ... من الدمع يبدو تارةً ثم يَغْرَقُ )

يقول فيها
( إلى القائم المهديّ أعملتُ ناقتي ... بكل فلاةٍ آلُها يترقرق )
( إذا غال منها الركبَ صحراء برّحت ... بهم بعدها في السير صحراءُ دردقُ )
( رَميتُ قَراها بين يوم وليلة ... بفَتْلاء لم ينكُبْ لها الزَّوْرَ مِرْفَقُ )
( مُزَمِّرَةً سَقْباً كأن زِمامَها ... بحرداء من عُمّ الصَّنَوْبر مُعْلَقُ )
( موكَّلةً بالفادحات كأنها ... وقد جَعَلت منها الثَّمِيلةُ تَخْلُقُ )
( بِقِيّ الملا هَيْقٌ أمام رِئاله ... أصَمُّ هِجَفٌّ أقرعُ الرأس نِقْنق )
( تراها إذا استعجلتَها وكأنها ... على الأَيْن يَعْرُوها من الرَّوْع أَوْلَق )
( موركِّة أرضَ العُذَيْب وقد بدا ... فسُرّ به للآئبين الخَوَرنقُ )
فاستحسنها المهدي وأجزل صلته وأمر فغني في نسيب القصيدة فأما ما شرطت ذكره من تمام القصيدة فهو بعقب البيت الثاني منها
( عفَتْها الرياحُ الرامِساتُ مع البِلَى ... بأذيالها والرائحُ المُتبَعِّقُ )

( بكل شآبيبٍ من الماء خلفَها ... شآبيبُ ماءٍ مُزْنها متألِّقُ )
( إذا رَيِّقٌ منها هُرِيقَتْ سِجَالُه ... أُعِيد لها كِرْفِيُّ ماءٍ ورَيِّقُ )
( فأصبح يرمي بالرَّباب كأنما ... بأرجله منه نَعامٌ مُعَلَّقُ )
( فلا تبكِ أطلالَ الديار فإِنها ... خبالٌ لمن لا يدفع الشوقَ عَوْلَقٌ )
( وإِنّ سفاهاً أن تُرَى متفجِّعا ... بأطلال دارٍ أو يقودَك مَعْلَقُ )
( فلا تَجْزَعَنْ للبين كلُّ جماعةٍ ... وجَدِّك مكتوبٌ عليها التفرُّقُ )
( وخذ بالتعزّي كلُّ ما أنتَ لابسٌ ... جديداً على الأيام بالٍ ومُخْلِقُ )
( فصبرُ الفتى عما تولّى فإِنه ... من الأمر أولَى بالسَّداد وأوفقُ )
ويروى أدنى للذي هو أوفق
( وإِنك بالإِشفاق لا تدفع الرّدى ... ولا الحَيْنُ مجلوبٌ فما لك تُشْفِقُ )
( كأنْ لم يَرُعْك الدهرُ أو أنتَ آمن ... لأحداثه فيما يُغادي ويَطْرُقُ )
( وقال خليلي والبكا ليَ غالبٌ ... أقاضٍ عليك ذا الأسى والتشوّقُ )
( وقد طال تَوْقاني أُكفكِف عَبرةً ... على دِمْنةٍ كادت لها النفسُ تَزْهَقُ )
( وإِنسانُ عيني في دوائرِ لجّةٍ ... من الماء يبدو تارة ثم يَغرَقُ )
( وللدّمع من عيني شَريجا صبابةٍ ... مُرِشُّ الرَّجا والجائلُ المُترقرِقُ )
( وكنتُ أخا عشق ولم يك صاحبي ... فيعذِرَني ممّا يَصَبُّ ويعشَقُ )

( وقد يعذِر الصبُّ السقيمُ ذوي الهوى ... ويَلحَى المحبيّن الصديقُ فيَخرَقُ )
( وعاب رجالٌ أن عَلِقتُ وقد بدا ... لهم بعضُ ما أهوَى وذو الحلم يعلَقُ )
والقصيدة طويلة وفي بعض ما ذكرته منها دلالة على صحة ما قلته

تشبيه بقوس له سماه ليلى
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال
خرجت أنا وأبو السائب المخزومي وعبيد الله بن مسلم بن جندب وابن المولى وأصبغ بن عبد العزيز بن مروان إلى قباء وابن المولى متنكب قوسا عربية فأنشد ابن المولى لنفسه
( وأبكِي فلا ليلَى بكت من صَبابةٍ ... إليّ ولا ليلَى لذي الودّ تَبذُلُ )
( وأخنَع بالعُتبى إذا كنتُ مُذنباً ... وإِن أذنبتْ كنتُ الذي أتنصَّلُ )
فقال له أبو السائب وعبيد الله بن مسلم بن جندب من ليلى هذه حتى نقودها إليك فقال لهما ابن المولى ما هي والله إلا قوسي هذه سميتها ليلى
في هذين البيتين ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى لخزرج ويقال إنه لهاشم بن سليمان
أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال أخبرني أبو محلم عن المفضل الضبي قال
وفد ابن المولى على يزيد بن حاتم وقد مدحه بقصيدته التي يقول فيها

( يا واحدَ العرب الذي ... أضحَى وليس له نظيرُ )
( لو كان مثلَك آخَرٌ ... ما كان في الدّنيا فقيرُ )
قال فدعا بخازنه وقال كم في بيت مالي فقال له من الورق والعين بقية عشرون ألف دينار فقال ادفعها إليه ثم قال يا أخي المعذرة إلى الله وإليك والله لو أن في ملكي أكثر لما احتجبتها عنك

يزيد بن حاتم يعوده في مرضه
أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا مصعب الزبيري عن عبد الملك بن الماجشون قال
كان ابن المولى مداحا لجعفر بن سليمان وقثم بن العباس الهاشميين ويزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب واستفرغ مدحه في يزيد وقال في قصيدته التي يقول فيها
( يا واحدَ العرب الذي دانت له ... قَحطانُ قاطبةً وساد نِزارا )
( إنّي لأرجو إن لقيتُك سالما ... ألاّ أعالِجَ بعدَك الأسفارا )
( رِشْتَ النَّدَى ولقد تكسَّر رِيشُه ... فعَلا النّدى فوقَ البلاد وطارا )
ثم قصده بها إلى مصر وأنشده إياها فأعطاه حتى رضي
ومرض ابن المولى عنده مرضا طويلا وثقل حتى أشفى فلما أفاق من علته ونهض دخل عليه يزيد بن حاتم متعرفا خبره فقال لوددت والله يا أبا عبد الله ألا تعالج بعدي الأسفار حقا ثم أضعف صلته

أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني الزبير بن بكار عن عبد الملك بن عبد العزيز قال أخبرني ابن المولى قال
كنت أمدح يزيد بن حاتم من غير أن أعرفه ولا ألقاه فلما ولاه المنصور مصر أخذ على طريق المدينة فلقيته فأنشدته وقد خرج من مسجد رسول الله إلى أن صار إلى مسجد الشجرة فأعطاني رزمتي ثياب وعشرة آلاف دينار فاشتريت بها ضياعا تغل ألف دينار أقوم في أدناها وأصيح بقيمي ولا يسمعني وهو في أقصاها
أخبرني عمي قال حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو قال بلغني أن الحسن بن زيد دعا بابن المولى فأغلظ له وقال أتشبب بحرم المسلمين وتنشد ذلك في مسجد رسول الله وفي الأسواق والمحافل ظاهرا فحلف له بالطلاق أنه ما تعرض لمحرم قط ولا شبب بامرأة مسلم ولا معاهد قط قال فمن ليلى هذه التي تذكر في شعرك فقال له امرأتي طالق إن كانت إلا قوسي هذه سميتها ليلى لأذكرها في شعري فإن الشعر لا يحسن إلا بالتشبيب فضحك الحسن ثم قال إذا كانت القصة هذه فقل ما شئت

حنينه إلى المدينة
فقال الحزنبل وحدثت عن ابن عائشة محمد بن يحيى قال قدم ابن المولى إلى العراق في بعض سنيه فأخفق وطال مقامه وغرض به وتشوق إلى المدينة فقال في ذلك

صوت
( ذهبَ الرجالُ فلا أُحِسّ رِجالا ... وأرَى الإِقامةَ بالعراق ضَلالا )
( وطِربتُ إذ ذَكَر المدينةَ ذاكرٌ ... يومَ الخميس فهاج لي بَلْبالا )
( فظللتُ أنظُر في السماء كأنّني ... أبغِي بناحية السماء هلالا )
( طرباً إلى أهل الحِجاز وتارة ... أبكي بدمع مُسبِل إسبالا )
غنى في هذه الأربعة الأبيات ابن عائشة ولحنه ثاني ثقيل عن الهشامي وذكره حماد عن أبيه في أخباره ولم يذكر طريقته
( فيقال قد أضحَى يُحدِّث نفسَه ... والعينُ تَذرِف في الرّداءِ سِجالا )
( إنّ الغريب إذا تذكّر أوشكت ... منه المدامع أن تَفيض عِلالا )
( ولقد أقول لصاحبي وكأنّه ... ممّا يعالج ضُمِّن الأغلالا )
( خَفِّضْ عليك فما يُرَدْ بك تَلقَهُ ... لا تُكثِرنّ وإِن جزِعتَ مَقالا )
( قد كنتَ إذ تدع المدينةَ كالذي ... ترك البحارَ ويَمّم الأوشالا )
( فأجابني خاطرْ بنفسك لا تكن ... أبداً تُعَدّ مع العِيال عِيالا )
( واعلم بأنك لن تَنالَ جَسيمةً ... حتى تُجشِّم نفسَك الأهوالا )
( إنّي وجدّك يوم أتْرك زاخراً ... بحراً يُنفّل سيبُه الأنفالا )
( لأضلُّ من جَلب القوافي صَعْبةً ... حتّى أذَلّ مُتونَها إذلالا )

مدح المهدي والتعريض بالطالبين
قال الحزنبل وحدثني عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال حدثني مولى للحسن بن زيد قال
قدم ابن المولى على المهدي وقد مدحه بقصيدته التي يقول فيها
( وما قارعَ الأعداءَ مثلُ محمّد ... إذا الحرب أبدت عن حُجول الكَواعبِ )
( فتىً ماجدُ الأعراقِ من آل هاشمٍ ... تَبَحْبَح منها في الذُّرى والذَّوائبِ )
( أشمُّ من الرّهط الذين كأنّهم ... لَدى حِنْدِس الظَّلماء زُهْرُ الكواكبِ )
( إذا ذُكِرَتْ يوماً مَنَاقِبُ هاشِمٍ ... فإِنكُم منها بخيرِ المَنَاصِبِ )
( وَمَن عِيبَ في أخلاقه ونِصابِه ... فما في بني العبّاس عَيْبٌ لِعائبِ )
( وإِنّ أميرَ المؤمنين ورَهْطَهُ ... لأهلُ المَعَالِي من لُؤيِّ بن غالبِ )
( أُولئك أوتادُ البلادِ ووَارِثوا النبي ... ِّ بأمرِ الحقِّ غير التَّكَاذُبِ )
ثم ذكر فيها آل أبي طالب فقال
( وما نَقَموا إلا المودَةَ منهمُ ... وأن غادرُوا فيهم جزيلَ المواهبِ )
( وأنهمُ نالوا لهم بدمائهم ... شفاءَ نفوسٍ من قتيلٍ وهاربِ )
( وقاموا لهم دون العدا وكفَوْهُم ... بسُمر القنا والمُرهَفاتِ القَواضِبِ )
( وحامَوْا على أحسابهم وكرائم ... حسانِ الوجوهِ واضحاتِ التّرائبِ )
( وإن أمير المؤمنين لعائدٌ ... بإِنعامه فيهم على كلّ تائبِ )

( إذا ما دَنَوْا أدناهُمُ وإِذا هَفوْا ... تَجاوز عنهم ناظراً في العواقِب )
( شفيقٌ على الأقَصيْن أن يركبوا الرّدى ... فكيف به في واشِجات الأقاربِ )
قال فوصله المهدي بصلة سنية وقدم المدينة فأنفق وبنى داره ولبس ثيابا فاخرة ولم يزل كذلك مدى حياته بعد ما حباه
ثم قدم على الحسن بن زيد وكانت له عليه وظيفة في كل سنة فدخل عليه فأنشده قوله يمدحه
( هاج شوقي تفرّقُ الجِيرانِ ... واعترتني طوارقُ الأحزانِ )
( وتذكّرتُ ما مضى من زماني ... حين صار الزمانُ شرَّ زمانِ )
يقول فيها يمدح الحسن بن زيد
( ولو ان امرأ ينال خلوداً ... بمحلٍّ ومَنْصِب ومكانِ )
( أو ببيتٍ ذُراه تَلصَق بالنجم ... ِ قرانا في غير بُرج قِرانِ )
( أو بمجد الحياة أو بسماحٍ ... أو بحلم أوفَى عَلَى ثَهْلاَنِ )
( أو بفضل لناله حسَنُ الخَيْرِ ... بفضلِ الرسول ذي البرهانِ )
( فضلُه واضحٌ برهط أبي القاسم ... رهطِ اليقين والإِيمانِ )
( هم ذَوُو النور والهُدَى ومَدَى الأمر ... وأهلُ البرهان والعِرفانِ )
( مَعْدِنُ الحق والنبوّة والعدل ... إذا ما تنازع الخَصْمانِ )
( وابنُ زيد إذا الرجال تجَارَوْا ... يوم حَفْل وغايةٍ ورِهانِ )
( سابقٌ مُغْلِقٌ مجيزُ رِهانٍ ... وَرِث السَّبْقَ من أبيه الهِجانِ )

قال فلما أنشده إياها دعا به خاليا ثم قال له يا عاض كذا من أمه أما إذا جئت إلى الحجاز فتقول لي هذا وأما إذا مضيت إلى العراق فتقول
( وإِن أمير المؤمنين ورهطَه ... لرَهطُ المعالي من لُؤَيِّ بن غالبِ )
( أولئك أوتاد البلاد ووَارِثوا النبيّ ... ِ بأمر الحقِّ غير التَّكاذُبِ )
فقال له أتنصفني يابن الرسول أم لا فقال فقال ألم أقل
( وإِن أمير المؤمنين ورهطه ... )
ألستم رهطه فقال دع هذا ألم تقدر أن ينفق شعرك ومديحك إلا بتهجين أهلي والطعن عليهم والإغراء بهم حيث تقول
( وما نَقَموا إلا المودّةَ منهُمُ ... وأن غادروا فيهم جزيلَ المواهبِ )
( وأنهمُ نالوا لهم بدمائهم ... شفاءَ نُفوسٍ من قتيلٍ وهاربِ )
فوجم ابن المولى وأطرق ثم قال يابن الرسول إن الشاعر يقول ويتقرب بجهده ثم قال فخرج من عنده منكسرا فأمر الحسن وكيله أن يحمل إليه وظيفته ويزيده فيها ففعل فقال ابن المولى والله لا أقبلها وهو علي ساخط فأما إن قرنها بالرضا فقبلتها وأما إن أقام وهو علي ساخط البتة فلا فعاد الرسول إلى الحسن فأخبره فقال له قل له قد رضيت فاقبلها
ودخل على الحسن فأنشده قوله فيه
( سألتُ فأعطاني وأعطى ولم أَسَلْ ... وجاد كما جادت غوادٍ رَواعِدُ )
( فأُقسمُ لا أنفكُّ أُنشِدُ مَدْحَه ... إذا جمعتْني في الحَجيج المَشاهدُ )
( إذا قلتُ يوماً في ثنائي قصيدةً ... ثنَيْتُ بأخرى حيث تُجْزَى القصائدُ )
قال الحزنبل وحدثني مالك بن وهب مولى يزيد بن حاتم المهلبي قال

لما انصرف يزيد بن حاتم بن حرب الأزارقة وقد ظفر خلع عليه وعقد له لواء على كرر الأهواز وسائر ما افتتحه فدخل عليه ابن المولى وقد مدحه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده

صوت
( ألا يا لقَومي هل لِمَا فات مَطلبُ ... وهل يُعْذَرْن ذو صَبْوة وهو أَشْيَبُ )
( يحِنّ إلى ليلى وقد شَطّت النوى ... بليلَى كما حَنّ اليَراعُ المثقَبُ )
غنى في هذين البيتين عطرد ولحنه رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وفيه ليونس لحن ذكره لنفسه في كتابه ولم يذكر طريقته
( تقرّبتُ ليلى كي تُثيب فزادني ... بِعاداً على بعدٍ إليها التقرّبُ )
( فداويتُ وجدي باجتنابٍ فلم يكن ... دواءً لِما ألقاه منها التجنُّبُ )
( فلا أنا عند النَّأيِ سالٍ لحبها ... ولا أنا منها مُشْتَفٍ حين تَصْقَبُ )
( وما كنت بالراضي بما غيرُه الرِّضا ... ولكنني أنوي العزاءَ فأُغلَبُ )
( وليلٍ خُدَارِيّ الرّواق جَشِمتُه ... إذا هابه السارون لا أتهيّب )
( لأظْفَرَ يوماً من يزيد بن حاتم ... بحبل جِوارٍ ذاك ما كنتُ أطلبُ )
( بلَوتُ وقلّبتُ الرجال كما بَلاَ ... بكفّيه أوسَاطَ القِداح مُقلَّبُ )
( وصَعَّدني همّي وصَوَّب مرّةً ... وذو الهمّ يوماً مُصْعَدٌ ومُصوَّبُ )

( لأعرف ما آتى فلم أر مثله ... من الناس فيما حاز شرقٌ ومغرِبُ )
( أكَرَّ على جيش وأعظمَ هيبةً ... وأوهبَ في جود لما ليس يُوهبُ )
( تصدّى رجالٌ في المعالي ليَلْحَقوا ... مَداك وما أدركتَه فتَذَبْذبُوا )
( ورُمت الذي راموا فأذللتَ صعبه ... وراموا الذي أذللتَ منه فأصعَبوا )
( ومهما تَناولْ من مَنال سَنّية ... يساعدْك فيها المُنْتَمي والمُركِّبُ )
( ومَنصِبُ آباء كِرامِ نَماهُم ... إلى المجد آباءٌ كِرامٌ ومنصِبُ )
صوت
( كواكبُ دَجْنِ كلّما انقضَّ كوكبٌ ... بدا منهمُ درٌ مُنيرٌ وكوكبُ )
( أنارَ به آل المهلّب بعدما ... هَوى مَنكِبٌ منهم بليلٍ ومَنكِبُ )
( وما زال إلْحاحُ الزمان عليهمُ ... بنائبةٍ كادت لها الأرض تَخْرَبُ )
( فلو أبقتِ الأيامُ حيّاً نَفاسةً ... لأبقاهمُ للجود نابٌ ومِخْلَبُ )
( وكنتَ ليومَيْ نِعمةٍ ونِكايةٍ ... كما فيهما للنّاس كان المهلَّبُ )
( ألا حبّذا الأحياءُ منكم وحبّذا ... قبورٌ بها مَوتاكُم حين غُيّبوا )
فأمر له يزيد بن حاتم بعشرة آلاف درهم وفرس بسرجه ولجامه وخلعة وأقسم على من كان بحضرته أن يجيزوه كل واحد منهم بما يمكنه فانصرف بملء يده

استحسان عمرو بن أبي عمرو لشعره
قال الحزنبل أنشدني عمرو بن أبي عمرو لابن المولى وكان يستحسنها

صوت
( حَيّ المنازلَ قد بَلِينا ... أقوَينَ عن مَرّ السِّنينا )
( وسلِ الدّيار لعلَّها ... تُخبرْك عن أُمِّ البَنينا )
( بانت وكلُّ قرينةٍ ... يوماً مفارِقةٌ قرينا )
( وأخو الحياة من الحياةِ ... مُعالِجٌ غِلَظا ولِينا )
غنى في هذه الأبيات نبيه حفيف ثقيل بالبنصر
( وترى المُوَكَّل بالِغوْانِي ... راكباً أبداً فُنونا )
( ومن البليّة أن تُدانَ ... بما كرِهتَ ولن تَدينا )
( والمرءُ تُحرَم نفسُه ... ما لا يزال به حَزينا )
( وتَراه يَجمع مالَه ... جمعَ الحريص لوارِثينا )
( يسعَى بأفضلِ سعيه ... فيصيرُ ذاك لقاعدينا )
( لم يُعطِ ذا النّسب القريب ... ِ ولمِ يَجُدْ للأبعدينا )
( قد حلَّ منزلَه الذميمَ ... وفارق المتنصِّحينا )
المهدي يأمر له ولعياله ما يكفيه
قال الحزنبل وذكر أحمد بن صالح بن النطاح عن المدائني أن المهدي لما ولي الخلافة وحج فرق في قريش والأنصار وسائر الناس أموالا عظيمة ووصلهم صلات سنية فحسنت أحوالهم بعد جهد أصاب الناس في أيام أبيه لتسرعهم مع محمد بن عبد الله بن حسن وكانت سنة ولايته سنة خصب ورخص فأحبه الناس وتبركوا به وقالوا هذا هو المهدي وهذا ابن عم رسول الله وسميه فلقوه فدعوا له وأثنوا عليه ومدحته الشعراء فمد عينه في الناس

فرأى ابن المولى فأمر بتقريبه فقرب منه فقال له هات يا مولى الأنصار ما عندك فأنشده قوله فيه
( يا ليلَ لا تبخَلي يا ليلَ بالزادِ ... واشفِي بذلك داءَ الحائم الصادي )
( وأنجِزِي عِدّةً كانت لنا أمَلاً ... قد جاء مِيعادُها من بعد ميعادِ )
( ما ضرّه غيرُ أن أبدى مَودّته ... إنّ المحُبَّ هواه ظاهرٌ بادي )
ثم قال فيها يصف ناقته
( تَطوي البلادَ إلى جمٍّ منافعُه ... فعّال خيرٍ لفعل الخير عوّادِ )
( للمهتدين إليه من منافعه ... خيرٌ يروح وخير باكرٌ غادي )
( أغنَى قُريشاً وأنصارَ النبيّ ومَنْ ... بالمسجِدَيْن بإسعاد وإِحفادِ )
( كانت منافعُه في الأرض شائعةً ... تَتْرَى وسيرتُه كالماء للصّادي )
( خليفةُ الله عبدُ الله والدُه ... وأمُّه حُرّةٌ تُنْمَى لأمجادِ )
( من خير ذي يَمنٍ في خير رابِيةٍ ... من القبول إليها مَعْقِل النّادي )
حتى أتى على آخرها فأمر له بعشرة آلاف درهم وكسوة وأمر صاحب الجاري بأن يجري له ولعياله في كل سنة ما يكفيهم وألحقهم في شرف العطاء
قال وذكر ابن النطاح عن عبد الله بن مصعب الزبيري قال
وفدنا إلى المهدي ونحن جماعة من قريش والأنصار فلما دخلنا عليه سلمنا ودعونا وأثنينا فلما فرغنا من كلامنا أقبل على ابن المولى فقال هات يا محمد ما قلت فأنشده

صوت
( نادَى الأحبّةُ باحتمالِ ... إنّ المُقيم إلى زَوالِ )
( ردّ القِيانُ عليهمُ ... ذُلُلَ المطيّ من الجِمالِ )
( فتحمّلوا بعَقيلةٍ ... زهراءَ آنسةِ الدَّلالِ )
( كالشمس راق جَمالُها ... بين النّساء على الجَمالِ )
( لمّا رأيت جِمالهم ... في الآل تَغْرَق باللآلىء )
( يا ليت ذلك بعدَ أن ... أظهرتَ أنّك لا تُبالِي )
( ولمِثْل ما جرّبتَ من ... إخلافهنّ لذي الوصالِ )
( أسلاكَ عن طَلب الصِّبا ... وأخو الصّبا لا بدّ سالي )
( يابنِ الأطايب للأطايب ... ذا المَكارم والمَعالي )
( وابنَ الهُداةَ بني الهداةِ ... وكاشِفي ظُلمَ الضّلالِ )
( أصحبتَ أكرمَ غالبٍ ... عند التّفاخر والنِّضالِ )
( وإِذا تُحَصِّلُ هاشمٌ ... يعلو بمجدك كلُّ عالي )
( ويكون بيتُك منهمُ ... في الشاهقات من القِلالِ )
( هذا وأنت ثِمالُها ... وابنُ الثّمالِ أخو الثِّمالِ )
( ومآلُها بأمورها ... إنّ الأمور إلى مآلِ )
قال فأمر له خاصة بعشرة آلاف درهم معجلة ثم ساواه بسائر الوفد بعد ذلك في

الجائزة وأعطاه مثل ما أعطاهم وقال ذلك بحق المديح وهذا بحق الوفادة
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي أبو أحمد وعمي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إبراهيم بن إسحاق بن عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبيد الله قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال
قدم عبد الملك بن مروان المدينة وكان ابن المولى يكثر مدحه وكان يسأل عنه من غير أن يكونا التقيا قال وابن المولى مولى الأنصار فلما قدم عبد الملك المدينة قدم ابن المولى لما بلغه من مسألة عبد الملك عنه فوردها وقد رحل عبد الملك عنها فأتبعه فأدركه بإضمَ بذي خشب بين عين مروان وعين الحديد وهما جميعا لمروان فالتفت عبد الملك إليه وابن المولى على نجيب متنكبا قوسا عربية فقال له عبد الملك ابن المولى قال لبيك يا أمير المؤمنين قال مرحبا بمن نالنا شكره ولم ينله منا فعل ثم قال له أخبرني عن ليلى التي تقول فيها
( وأبكي فلا لَيْلَى بكَتْ من صَبابةٍ ... إليّ ولا ليلى لذي الوُدّ تَبذِلُ )
والله لئن كانت ليلى حرّةً لأزوجنكها ولئن كانت أمة لأبتاعنها لك بما بلغت فقال كلا يا أمير المؤمنين والله ما كنت لأذكر حرمة حر أبدا ولا أمته والله يا ليلى إلا قوسي هذه سميتها ليلى لأشبب بها وإن الشاعر لا يستطاب إذا لم يتشبب فقال له عبد الملك ذلك والله أظرف لك فأقام عنده يومه وليلته ينشده ويسامره ثم أمر له بمال وكسوة وانصرف إلى المدينة

شعره في جعفر بن سليمان
أخبرني حبيب المهلبي عن الزبير وغيره عن محمد بن فضالة النحوي قال

قدم ابن المولى البصرة فأتى جعفر بن سليمان فوقف على طريقه وقد ركب فناداه
( كم صارخٍ يدعو وذي فاقةٍ ... يا جعفرَ الخيراتِ يا جعفرُ )
( أنت الذي أحييتَ بَذْلَ الندى ... وكان قد مات فلا يُذْكَرُ )
( سليلُ عبّاسٍ وليّ الهدى ... ومن به في المَحْل يُسْتَمْطَرُ )
( هذا امتداحِيك عقيد الندى ... أشهد بالمجد لك الأَشْقَرُ )

أخبار عطرد ونسبه
عطرد مولى الأنصار ثم مولى بني عمرو بن عوف وقيل إنه مولى مزينة مدني يكنى أبا هارون وكان ينزل قباء
وزعم إسحاق أنه كان جميل الوجه حسن الغناء طيب الصوت جيد الصنعة حسن الرأي والمروءة فقيها قارئا للقرآن وكان يغني مرتجلا وأدرك دولة بني أمية وبقي إلى أيام الرشيد وذكر ابن خرداذبه فيما حدثني به علي بن عبد العزيز عنه أنه كان معدل الشهادة بالمدينة أخبره بذلك يحيى بن علي المنجم عن أبي أيوب المديني عن إسحاق
وأخبرنا محمد بن خلف وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه
أن سلمة بن عباد ولي القضاء بالبصرة فقصد ابنه عباد بن سلمة عطردا وهو بها مقيم قد قصد آل سليمان بن علي وأقام معهم فأتى بابه ليلا فدق عليه ومعه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس فخرج عطرد إليه فلما رآه ومن معه فزع فقال لا ترع
( إني قصدتُ إليك من أهلي ... في حاجةٍ يأتي لها مثلي )
فقال وما هي أصلحك الله قال
( لا طالباً شيئاً إليك سوى ... حيِّ الحُمُولَ بجانب العزْلِ )

فقال انزلوا على بركة الله فلم يزل يغنيهم هذا وغيره حتى أصبحوا

نسبة هذا الصوت
صوت
( حيِّ الحُمُولَ بجانب العَزْلِ ... إذ لا يوافق شكلُها شكلي )
( الله أنجحُ ما طلبتَ به ... والبِرُّ خيرُ حقيبة الرَّحْلِ )
( إني بحبلك واصلٌ حبلي ... وبريش نَبْلك رائشٌ نَبْلِي )
( وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحتْ كلابُك طارقاً مثلي )
الشعر لامرئ القيس بن عابس الكندي هكذا روى أبو عمرو الشيباني وقال إن من يرويه لامرئ القيس بن حجر يغلط
والغناء لعطرد ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وفيه لعمرو بن بانة ثقيل بالوسطى من روايته أيضا وفيه لابن عائشة خفيف رمل بالبنصر وفيه عنه وعن دنانير لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى وفيه عنه أيضا لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر
المهدي لا يأنس لغناء إبراهيم بن خالد المعيطي
وأخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني وأخبرني به الحسن بن علي قال

كتب إلي أبو أيوب المديني وخبره أتم قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه عن إبراهيم بن خالد المعيطي قال
دخلت على المهدي وقد كان وصف له غنائي فسألني عن الغناء وعن علمي به فنسبته من ذلك طرفا فقال لي أتغني النواقيس قلت نعم وأغني الصلبان يا أمير المؤمنين فتبسم والنواقيس لحن معبد كان معبد وأهل الحجاز يسمونه النواقيس وهو
( سَلاَ دارَ ليلَى هل تُبين فتَنْطِقُ ... وأنَّى تَرُدُّ القولَ بيداءُ سَمْلقُ )
قال ثم قال لي المهدي وهو يضحك غنه فعنيته فأمر لي بمال جزيل وخلع علي وصرفني ثم بلغني أنه قال هذا معيطي وأنا لا آنس به ولا حاجة لي إلى أن أدنيه من خلوتي وأنا لا آنس به هكذا ذكر في هذا الخبر أن اللحن لمعبد وما ذكره أحد من رواة الغناء له ولا وجد في ديوان من دواوينهم منسوبا إليه على انفراد به ولا شركة فيه ولعله غلط

خبر إبراهيم بن خالد مع ابن جامع
وقد أخبرني هذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال
كان إبراهيم بن المعيطي يغني فدخل يوما الحمام وابن جامع فيه وكان له شيء يجاوز ركبتيه فقال له ابن جامع يا إبراهيم أتبيع هذا البغل قال لا بل أحملك عليه يا أبا القاسم فلما خرج ابن جامع من الحمام رأى ثياب

المعيطي رثة فأمر له بخلعة من ثيابه فقال له المعيطي لو قبلت حملاني قبلت خلعتك فضحك ابن جامع وقال له مالك أخزاك الله ويلك أما تدع ولعك وبطالتك وشرك ودخل إلى الرشيد فحدثه حديثه فضحك وأمر بإحضاره فأحضر فقال له أتغني النواقيس قال نعم وأغني الصلبان أيضا
ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدمه
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني عن إسحاق قال
كان عطرد منقطعا في دولة بني هاشم إلى آل سليمان بن علي لم يخدم غيرهم وتوفي في خلافة المهدي
قال وكان يوما يغني بين يدي سليمان بن علي فغناه

صوت
( أُلْهُ فكم من ماجدٍ قد لَها ... ومن كريمٍ عرضُه وافِرُ )
الغناء لعطرد ثاني ثقيل عن الهشامي فقيل له سرقت هذا من لحن الغريض
( يا رَبْعَ سلاّمةَ بالمُنْحَنى ... فَخيْفِ سلْعٍ جادَك الوابلُ )
فقال لم أسرقه ولكن العقول تتوافق وحلف أنه لم يسمعه قط
نسبة هذا الصوت
صوت
( يا ربعَ سلاّمةَ بالمُنْحَنَى ... فخَيْفِ سَلْع جادكَ الوابلُ )
( إن تُمْسِ وحشاً طالما قد تُرَى ... وأنتَ معمورٌ بهم آهِلُ )

( أيامَ سلاّمةُ رُعْبُوبةٌ ... خَوْدٌ لَعُوبٌ حبُّها قاتلُ )
( محطوطةُ المَتْن هَضِيمُ الحَشى ... لا يطَّبيها الوَرَعُ الواغلُ )
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن يحيى المكي
قال ومن الناس من ينسبه إلى ابن سريج

إطلاقه ومن معه بعد أن حبسه زبراء والي المدينة
أخبرني أحمد بن علي بن يحيى قال سمعت جدي علي بن يحيى قال حدثني أحمد بن إبراهيم الكاتب قال حدثني خالد بن كلثوم قال
كنت مع زبراء بالمدينة وهو وال عليها وهو من بني هاشم أحد بني ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا وحبس عطرد وأخبروه أنه من أهل الهيئة والمروءة والنعمة والدين فدعا به فخلى سبيله وأمره برفع حوائجه إليه فدعا له وخرج فإذا هو بالمغنين أحضروا ليعرضوا فعاد إليه عطرد فقال أصلح الله الأمير أعلى الغناء حبست هؤلاء قال نعم قال فلا تظلمهم فوالله ما أحسنوا منه شيئا قط فضحك وخلى سبيلهم
خبره مع الوليد بن يزيد
أخبرني محمد بن مزيد وجحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي عن محمد بن عبد الحميد بن إسماعيل بن عبد الحميد بن يحيى عن عمه أيوب بن إسماعيل قال

لما استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بالشخوص إليه بعطرد المغني قال عطرد فأقرأني العامل الكاتب وزودني نفقة وأشخصني إليه فأدخلت عليه وهو جالس في قصره على شفير بركة مرصصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة ولكنها يدور الرجل فيها سباحة فوالله ما تركني أسلم عليه حتى قال أعطرد قلت نعم يا أمير المؤمنين قال لقد كنت إليك مشتاقا يا أبا هارون غنني
( حيِّ الحُمولَ بجانب العَزْلِ ... إذ لا يُلائم شكلُها شكلي )
( إني بحبلكِ واصلٌ حبلي ... وبريش نَبْلكِ رائشٌ نبلي )
( وشمائلي ما قد علمتِ وما ... نبحَتْ كلابُك طارقاً مثلي )
قال فغينته إياه فوالله ما أتممته حتى شق حلة وشي كانت عليه لا أدري كم قيمتها فتجرد منها كما ولدته أمه وألقاها نصفين ورمى بنفسه في البركة فنهل منها حتى تبينت علم الله فيها أنها قد نقصت نقصانا بينا وأخرج منها وهو كالميت سكرا فأضجع وغطي فأخذت الحلة وقمت فوالله ما قال لي أحد دعها ولا خذها فانصرفت إلى منزلي متعجبا مما رأيت من ظرفه وفعله وطربه فلما كان من غد جاءني رسوله في مثل الوقت فأحضرني فلما دخلت عليه قال لي يا عطرد قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال غنني
( أيَذْهبُ عمري هكذا لم أَنَلْ بها ... مَجَالسَ تَشفِي قَرْحَ قلبي من الوجدِ )
( وقالوا تَدَاوَ إنّ في الطّبِّ راحةً ... فعللتُ نفسي بالدواء فلم يُجْدِ )
فغنيته إياه فشق حلة وشي كانت تلتمع عليه بالذهب التماعا احتقرت والله الأولى عندها ثم ألقى نفسه في البركة فنهل فيها حتى تبينت علم الله نقصانها وأخرج

منها كالميت سكرا وألقي وغطي فنام وأخذت الحلة فوالله ما قال لي أحد دعها ولا خذها وانصرفت فلما كان اليوم الثالث جاءني رسوله فدخلت إليه وهو في بهو قد ألقيت ستوره فكلمني من وراء الستور وقال يا عطرد قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال كأني بك الآن قد أتيت المدينة فقمت بي في مجلسها ومحفلها وقعدت وقلت دعاني أمير المؤمنين فدخلت إليه فاقترح علي فغنيته وأطربته فشق ثيابه وأخذت سلبه وفعل وفعل والله يابن الزانية لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربن عنقك يا غلام أعطه ألف دينار خذها وانصرف إلى المدينة فقلت إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في تقبيل يده ويزودني نظرة منه وأغنيه صوتا فقال لا حاجة بي ولا بك إلى ذلك فانصرف
قال عطرد فخرجت من عنده وما علم الله أني ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بني هاشم مدة

نسبة هذين الصوتين
الصوت الأول مما غناه عطرد الوليد قد نسب في أول أخباره والثاني الذي أوله
( أَيذهبُ عمري هكذا لم أَنَلْ بها ... )
الغناء فيه لعطرد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه ليونس من كتابه لحن لم يذكر طريقته وذكر عمرو بن بانة أن فيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى

صوت من المائة المختارة
( إن امرأً تَعْتَاده ذكَرٌ ... منها ثَلاثُ مِنًى لَذو صَبرِ )
( ومواقفَ بالمَشْعَرَيْنِ لها ... ومناظرُ الجَمَرات والنحرِ )
( وإفاضةُ الرُّكبان خَلْفَهمَ ... مثلُ الغمام أَرَذّ بالقَطْرِ )
( حتى استلمنَ الركن في أَنُفٍ ... من ليلهنّ يَطَأن في الأُزْرِ )
( يَقْعُدن في التَّطْواف آوِنةً ... ويَطُفن أحياناً على فَتْرِ )
( ففرَغن من سَبْع وقد جُهِدَتْ ... أحشاؤهن موائلَ الخُمْرِ )
الشعر للحارث بن خالد المخزومي والغناء في اللحن المختار للأبجر وإيقاعه من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر في الأول والثاني والسادس من الأبيات عن إسحاق
وفيه للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
ولابن سريج في الثالث والرابع رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار الحارث بن خالد المخزومي ونسبه
الحارث بن خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
وأمه فاطمة بنت أبي سعيد بن الحارث بن هشام وأمها بنت أبي جهل بن هشام
وكان العاص بن هشام جد الحارث بن خالد خرج مع المشركين يوم بدر فقتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أبو لهب يسترق العاص بن هشام
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني مصعب بن عبد الله قال
قامر أبو لهب العاص بن هشام في عشر من الإبل فقمره أبو لهب ثم في عشر فقمره ثم في عشر فقمره ثم في عشر فقمره ثم في عشر فقمره إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيء فقال له إني أرى القداح قد حالفتك يابن عبد المطلب فهلم أقامرك فأينا قمر كان عبدا لصاحبه قال افعل ففعل فقمره أبو لهب فكره أن يسترقه فتغضب بنو مخزوم فمشى إليهم وقال افتدوه مني بعشر من الإبل فقالوا لا والله ولا بوبرة فاسترقه فكان يرعى له إبلا إلى أن خرج

المشركون إلى بدر وقال غير مصعب فاسترقه وأجلسه قينا يعمل الحديد
فلما خرج المشركون إلى بدر كان من لم يخرج أخرج بديلا وكان أبو لهب عليلا فأخرجه وقعد على أنه إن عاد إليه أعتقه فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ

الحارث بن خالد يقصر شعره على الغزل
والحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين الغزليين وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء وكان يهوى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ويشبب بها وولاه عبد الملك بن مروان مكة وكان ذا قدر وخطر ومنظر في قريش وأخوه عكرمة بن خالد المخزومي محدث جليل من وجوه التابعين قد روى عن جماعة من الصحابة وله أيضا أخ يقال له عبد الرحمن بن خالد شاعر وهو الذي يقول
( رَحَل الشبابُ وليتَه لم يَرْحَلِ ... وغدا لِطيَّةِ ذاهبٍ مُتَحمِّلِ )
( ولّى بلا ذمٍّ وغادر بعدَه ... شَيْباً أقام مكانَه في المَنزِلِ )
( ليت الشبابَ ثَوَى لدينا حِقْبَةً ... قبل المشيب وليته لم يَعْجَلِ )
( فنُصِيبَ من لذّاته ونعيمه ... كالعهد إذ هو في الزمان الأوّلِ )
وفيه غناء
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال
قال معاذ بن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء كان أبو عمرو إذا لم يحج

استبضعني الحروف أسأل عنها الحارث بن خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة الشاعر وآتيه بجوابها قال فقدمت عليه سنة من السنين وقد ولاه عبد الملك بن مروان مكة فلما رآني قال يا معاذ هات ما معك من بضائع أبي عمرو فجعلت أعجب من اهتمامه بذلك وهو أمير

هو أحد شعراء قريش الخمسة المشهورين
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار وأخبرني به الحسن ابن علي عن أحمد بن سعيد عن الزبير ولفظه أتم قال حدثني محمد بن الضحاك الحزامي قال
كانت العرب تفضل قريشا في كل شيء إلا الشعر فلما نجم في قريش عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي والعرجي وأبو دهبل وعبيد الله بن قيس الرقيات أقرت لها العرب بالشعر أيضا
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم وإسماعيل بن يونس وحبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان قال

تفاخر مولى لعمر بن أبي ربيعة ومولى للحارث بن خالد بشعريهما فقال مولى الحارث لمولى عمر دعني منك فإن مولاك والله لا يعرف المنازل إذا قلبت يعني قول الحارث
( إني وما نَحَروا غداةَ مِنًى ... عند الجِمار تَؤُودها العُقْلُ )
( لو بُدِّلتْ أعلى مَسَاكنِها ... سُفْلاً وأصبح سُفْلُها يَعْلُو )
( فَيكاد يعرِفها الخبيرُ بها ... فيرُدّه الإِقُدْاءُ والمَحْلُ )
( لعرفتُ مَغْناها بما احتمَلتْ ... منّي الضلوعُ لأهلها قَبْلُ )
قال عمر بن شبة وحدثني محمد بن سلام بهذا الخبر على نحو مما ذكره أبو غسان وزاد فيه فقال مولى ابن أبي ربيعة لمولى الحارث والله ما يحسن مولاك في شعر إلا نسب إلى مولاي
قال ابن سلام وأنشد الحارث بن خالد عبد الله بن عمر هذه الأبيات كلها حتى انتهى إلى قوله
( لعرفتُ مغناهَا بما احتملتْ ... منّي الضلوعُ لأهلها قبلُ )
فقال له ابن عمر قل إن شاء الله قال إذا يفسد بها الشعر يا عم فقال له يابن أخي إنه لا خير في شيء يفسده إن شاء الله
قال عمر وحدثني هذه الحكاية إسحاق بن إبراهيم في مخاطبته لابن عمر ولم يسندها إلى أحد وأظنه لم يروها إلا عن محمد بن سلام
وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي الفضل المروروذي عن إسحاق عن أبي عبيدة فذكر قصة الحارث مع ابن عمر مثل الذي تقدمه

كثير عزة يفضله على نفسه
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا الرياشي قال حدثني أبو سلمة الغفاري عن يحيى بن عروة بن أذينة عن أبيه قال
كان كثير جالسا في فتية من قريش إذ مر بهم سعيد الراس وكان مغنيا فقالوا لكثير يا أبا صخر هل لك أن نسمعك غناء هذا فإنه مجيد قال افعلوا فدعوا به فسألوه أن يغنيهم
صوت
( هَلاِّ سألتَ معالِمَ الأطلالِ ... بالجِزع من حُرُضٍ وهنَّ بَوَالِي )
( سَقْياً لعَزّةَ خُلّتي سَقْيا لها ... إذ نحن بالهَضَباتِ من أمْلالِ )
( إذ لا تكلّمنا وكان كلامُها ... نَفَلا نؤمّله من الأَنْفالِ )
فغناه فطرب كثير وارتاح وطرب القوم جميعا واستحسنوا قول كثير وقالوا له يا أبا صخر ما يستطيع أحد أن يقول مثل هذا فقال بلى الحارث بن خالد حيث يقول
صوت
( إني وما نَحروا غداةَ مِنًى ... عند الجِمار تَؤودُها العُقْلُ )
( لو بُدّلتْ أعلى مساكنها ... سُفْلا وأصبح سُفْلها يعلو )
( لعرَفتُ مَغناها بما احتملَتْ ... منّي الضلوع لأهلها قَبْلُ )

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني في أبيات كثير الأول
التي أولها
( هلاّ سألتَ مَعالِمَ الأطلال ... )
لابن سريج منها في الثاني والثالث رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق
وللغريض في الأول والثاني ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عنه
وفيهما لعلويه رمل بالوسطى عن عمرو
وفي أبيات الحارث بن خالد لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا
أشعب يتمثل بشعره
أخبرني عمي حدثنا الكراني قال حدثنا الخليل بن أسد عن العمري عن الهيثم بن عدي قال
دخل أشعب مسجد النبي فجعل يطوف الحلق فقيل له ما تريد فقال أستفتي في مسألة فبينا هو كذلك إذ مر برجل من ولد الزبير وهو مسند إلى سارية وبين يديه رجل علوي فخرج أشعب مبادرا فقال له الذي سأله عن دخوله وتطوافه أوجدت من أفتاك في مسألتك قال لا ولكني علمت ما هو خير لي منها قال وما ذاك قال وجدت المدينة قد صارت كما قال الحارث بن خالد

( قد بُدّلتْ أعْلَى مساكنها ... سُفْلاً وأصبح سُفْلها يعلو )
رأيت رجلا من ولد الزبير جالسا في الصدر ورجلا من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جالسا بين يديه فكفى هذا عجبا فانصرفت
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني هذا الخبر إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو عبد الله بن محمد بن حفص عن أبيه قال قال محمد بن خلف أخبرني به أبو أيوب سليمان بن أيوب المدني قال حدثنا مصعب الزبيري وأخبرني به أيضا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي وقد جمعت رواياتهم في هذا الخبر
أن بني مخزوم كلهم كانوا زبيرية سوى الحارث بن خالد فإنه كان مروانيا

عبد الملك يوليه مكة
فلما ولي عبد الملك الخلافة عام الجماعة وفد عليه في دين كان عليه وذلك في سنة خمس وسبعين وقال مصعب في خبره بل حج عبد الملك في تلك السنة فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق فظهرت له منه جفوة وأقام ببابه شهرا لا يصل إليه فانصرف عنه وقال فيه
( صَحِبتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ ... فلما انجَلَتْ قَطّعتُ نفسي ألومُها )
( وما بي وإن أَقصْيتَني من ضرَاعةٍ ... ولا افتقرتْ نفسي إلى من يضيمُها )
هذا البيت في رواية ابن المرزبان وحده
( عَطَفتُ عليك النفسَ حتى كأنما ... بكفّيْكَ بؤسِي أو عليك نعيمُها )

وبلغ عبد الملك خبره وأنشد الشعر فأرسل إليه من رده من طريقه فلما دخل عليه قال له حار أخبرني عنك هل رأيت عليك في المقام ببابي غضاضة أو في قصدي دناءة قال لا والله يا أمير المؤمنين قال فما حملك على ما قلت وفعلت قال جفوة ظهرت لي كنت حقيقا بغير هذا قال فاختر فإن شئت أعطيتك مائة ألف درهم أو قضيت دينك أو وليتك مكة سنة فولاه إياها فحج بالناس وحجت عائشة بنت طلحة عامئذ وكان يهواها فأرسلت إليه أخر الصلاة حتى أفرغ من طوافي فأمر المؤذنين فأخروا الصلاة حتى فرغت من طوافها ثم أقيمت الصلاة فصلى بالناس وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه فعزله وكتب إليه يؤنبه فيما فعل فقال ما أهون والله غضبه إذا رضيت والله لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخرت الصلاة إلى الليل
فلما قضت حجها أرسل إليها يابنة عمي ألمي بنا أوعدينا مجلسا نتحدث فيه فقالت في غد أفعل ذلك ثم رحلت من ليلتها فقال الحارث فيها

صوت
( ما ضرّكم لو قلتم سَددَاً ... إنّ المطايا عاجِلٌ غَدُها )
( ولها علينا نِعمةٌ سَلَفتْ ... لسنا على الأيام نجحدُها )
( لو تمّمَتْ أسبابَ نعمتها ... تمّتْ بذلك عندنا يدُها )

لمعبد في هذه الأبيات ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة ويونس ودنانير وقد ذكره إسحاق فنسبه إلى ابن محرز ثقيلا أول في أصوات قليلة الأشباه وقال عمرو بن بانة من الناس من نسبه إلى الغريض

نسبة ما في الأخبار من الغناء
صوت
( وما بي وإن أقصيتني من ضَراعة ... ولا افتقرتْ نفسي إلى من يُهينُها )
( بَلَى بأبي إني إليك لضَارعٌ ... فقيرٌ ونفسي ذاك منها يَزِينُها )
البيت الأول للحارث بن خالد والثاني ألحق به
والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي وذكر الهشامي أن لحن الغريض خفيف ثقيل في البيت الأول فقط وحكى أن قافيته على ما كان الحارث قاله
( ولا افتقرت نفسي إلى من يَضيمها ... )
وأن الثقيل الأول لعلية بنت المهدي ومن غنائها البيت المضاف
وأخلق بأن يكون الأمر على ما ذكره لأن البيت الثاني ضعيف يشبه شعرها
شعره بعائشة بنت طلحة بعد رحيلها وزوجها
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر وإسماعيل بن يونس قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى قال
لما تزوج مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة ورحل بها إلى العراق قال الحارث بن خالد في ذلك
صوت
( ظَعَن الأميرُ بأحسن الخَلْقِ ... وغدا بلُبّك مَطْلَعَ الشَّرْقِ )
( في البيت ذي الحسبِ الرفيعِ ومِن ... أهلِ التُّقَى والبرِّ والصِّدقِ )

( فظَلِلتُ كالمقهور مهجته ... هذا الجنونُ وليس بالعِشْقِ )
( أَتْرُجَّةٌ عَبِقَ العبيرُ بها ... عَبَقَ الدِّهان بجانب الحُقِّ )
( ما صبّحتْ أحداً برؤيتها ... إلا غدا بكواكب الطَّلْقِ )
وهي أبيات غنى ابن محرز في البيتين الأولين خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن فيها لمالك ثقيلا بالوسطى وذكر حبش أن فيهما لمالك رملا بالوسطى وذكر حبش أيضا أن فيهما للدلال ثاني ثقيل بالبنصر ولابن سريج ومالك رملين ولسعيد بن جابر هزجا بالوسطى

خبره في مكة مع عائشة
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام عن ابن جعدية قال
لما أن قدمت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد وهو أمير على مكة إني أريد السلام عليك فإذا خف عليك أذنت وكان الرسول الغريض فقالت له إنا حرم فإذا أحللنا أذناك فلما أحلت سرت على بغلاتها ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ومعه كتاب الحارث إليها
( ما ضَرّكم لو قلتُمُ سَدَداً )
الأبيات المذكورة فلما قرأت الكتاب قالت ما يدع الحارث باطله ثم قالت

للغريض هل أحدثت شيئا قال نعم فاسمعي ثم اندفع يغني في هذا الشعر فقالت عائشة والله ما قلنا إلا سددا ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه وأتى على الشعر كله فاستحسنته عائشة وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب وقالت زدني فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا
( زَعَموا بأن البَيْن بعد غَدٍ ... فالقلبُ مما أحْدَثوا يَجِفُ )
( والعَيْنُ منذ أُجِدّ بَيْنهُمُ ... مثل الجُمانِ دموعُها تَكِفُ )
( ومقالها ودموعُها سُجُمٌ ... أَقْلِلْ حنينَك حين تَنصرِفُ )
( تشكو ونشكو ما أشَتَّ بنا ... كلُّ بوَشْك البيْن مُعْتَرِفُ )
إيقاع هذا الصوت ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي ولم يذكر له حماد طريقا قال فقالت له عائشة يا غريض بحقي عليك أهو أمرك أن تغنيني في هذا الشعر فقال لا وحياتك يا سيدتي فأمرت له بخمسة آلاف درهم ثم قالت له غنني في شعر غيره فغناها قول عمر فيها

صوت
( أجْمَعتْ خُلّتي مع الفجر بَيْنا ... جَلّل اللهُ ذلك الوجهَ زَيْنا )
( أجمعتْ بينَها ولم نَكُ منها ... لذّةَ العيشِ والشبابِ قضَيْنا )
( فتولت حُمُولُها واستقلّت ... لم نَنَلْ طائلاً ولم نُقْضَ دَيْنا )

( ولقد قلتُ يومَ مكّة لمّا ... أرسلتْ تَقْرَأ السلامَ علينا )
( أنعم اللهُ بالرسول الذي أُرسِلَ ... والمُرسِلِ الرسالةِ عَيْنا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وغيره ينسبه إلى ابن سريج
وفيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وأظنه هذا اللحن قال فضحكت ثم قالت وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا وبابن أبي ربيعة عينا لقد تلطفت حتى أديت إلينا رسالته وإن وفاءك له لمما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك
وقد كان عمر سأل الغريض أن يغنيها هذا الصوت لأنه قد كان ترك ذكرها لما غضبت بنو تيم من ذلك فلم يحب التصريح بها وكره إغفال ذكرها وقال له عمر إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم فوفى له بذلك وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى ثم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان وكانت قد حجت في تلك السنة فقال لها جواريها هذا الغريض فقالت لهن علي به فجيء به إليها
قال الغريض فلما دخلت سلمت فردت علي وسألتني عن الخبر فقصصته عليها فقالت غنني بما غنيتها به ففعلت فلم أرها تهش لذلك فغنيتها معرضا لها ومذكرا بنفسي في شعر مرة بن محكان السعدي يخاطب امرأته وقد نزل به أضياف
( أقولُ والضّيفُ مَخْشِيٌّ ذَمَامَتُه ... على الكريم وحقُّ الضيفِ قد وجَبا )
صوت
( يا ربّة البيت قُومِي غيرَ صاغرةٍ ... ضٌمِّي إليك رِحالَ القوم والقِرَبا )

( في ليلةٍ من جُمَادَى ذاتِ أندِيَةٍ ... لا يُبصر الكلبُ من ظَلْمائها الطٌّنُبا )
( لا ينبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ... حتى يَلُفَّ على خَيْشومه الذَّنَبا )
الشعر لمرة بن محكان السعدي والغناء لابن سريج
ذكر يونس أن فيه ثلاثة ألحان فوجدت منها واحدا في كتاب عمرو بن بانة رملا بالوسطى والآخر في كتاب الهشامي خفيف ثقيل بالوسطى والآخر ثاني ثقيل في كتاب أحمد بن المكي قال فقالت وهي متبسمة قد وجب حقك يا غريض فغنني فغنيتها

صوت
( يا دهرُ قد أكثرتَ فَجْعتنا ... بسَراتنا ووَقَرْتَ في العَظْمِ )
( وسَلَبتنا ما لستَ مُخْلِفَه ... يا دهرُ ما أنصفتَ في الحُكْمِ )
( لو كان لي قِرنٌ أناضِله ... ما طاش عند حَفِيظةٍ سَهْمي )
( لو كان يُعطِي النّصْفَ قلتُ له ... أحرزتَ سهمك فالْهُ عن سهمي )
فقالت نعطيك النصف ولا نضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك وأمرت لي بخمسة آلاف درهم وثياب عدنية وغير ذلك من الألطاف وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر وقصصت عليه القصة فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا فأتيت ابن أبي ربيعة وأعلمته بما جرى فأمر لي بمثل ذلك فما انصرف واحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به بنظرة من عائشة ونظرة من عاتكة وهما من أجمل نساء عالمهما وبما أمرتا لي به وبالمنزلة عند الحارث وهو أمير مكة وابن أبي ربيعة وما أجازاني به جميعا من المال

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو الحسن المروزي قال حدثنا محمد بن سلام عن يونس قال
لما حجت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد وهو أمير مكة أنعم الله بك عينا وحياك وقد أردت زيارتك فكرهت ذلك إلا عن أمرك فإن أذنت فيها فعلت فقالت لمولاة لها جزلة وما أرد على هذا السفيه فقالت لها أنا أكفيك فخرجت إلى الرسول وقالت له اقرأ عليه السلام وقل له وأنت أنعم الله بك عينا وحياك نقضي نسكنا ثم يأتيك رسولنا إن شاء الله ثم قالت لها قومي فطوفي واسعي واقضي عمرتك واخرجي في الليل ففعلت وأصبح الحارث فسأل عنها فأخبر خبرها فوجه إليها رسولا بهذه الأبيات فوجدها قد خرجت عن عمل مكة فأوصل الكتاب إليها فقالت لمولاتها خذيه فإني أظنه بعض سفاهاته فأخذته وقرأته وقالت له ما قلنا إلا سددا وأنت فارغ للبطالة ونحن عن فراغك في شغل

يحمل قادما إلى المدينة رقعة كتب فيها لعائشة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب ابن نصر المهلبي وإسماعيل بن يونس الشيعي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال زعم كلثوم بن أبي بكر بن عمر بن الضحاك بن قيس الفهري قال
قدم المدينة قادم من مكة فدخل على عائشة بنت طلحة فقالت له من أين أقبل الرجل قال من مكة فقالت فما فعل الأعرابي فلم يفهم ما أرادت فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث فقال له من أين قال من المدينة قال فهل دخلت على عائشة بنت طلحة قال نعم قال فعماذا سألتك قال قالت

لي ما فعل الأعرابي قال له الحارث فعد إليها ولك هذه الراحلة والحلة ونفقتك لطريقك وادفع إليها هذه الرقعة وكتب إليها فيها

صوت
( من كان يَسأل عنا أين منزِلنا ... فالأُقْمُوانَةُ منا منزلٌ قَمَنُ )
( إذ نلبَس العيشَ صفواً ما يكدّره ... طَعْنُ الوُشَاة ولا ينبو بنا الزمنُ )
قال إسحاق وزادني غير كلثوم فيها
( ليت الهوى لم يقرّبني إليكِ ولم ... أعْرِفْكِ إذ كان حظّي منكُم الحَزَن )
غنى في هذه الأبيات ابن محرز خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر يونس أن فيها لحنا ولم يجنسه وذكر عمرو أن فيه لبابويه ثاني ثقيل بالبنصر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال
لما ولى عبد الملك بن مروان الحارث بن خالد المخزومي مكة بعث إلى الغريض فقال له لا أرينك في عملي وكان قبل ذلك يطلبه ويستدعيه فلا يجبيه فخرج الغريض إلى ناحية الطائف وبلغ ذلك الحارث فرق له فرده وقال له لم كنت تبغضنا وتهجر شعرنا ولا تقربنا قال له الغريض كانت هفوة من هفوات النفس وخطرة من خطرات الشيطان ومثلك وهب الذنب وصفح عن الجرم وأقال العثرة وغفر الزلة ولست بعائد إلى ذلك أبدا قال وهل غنيت

في شيء من شعري قال نعم قد غنيت في ثلاثة أصوات من شعرك قال هات ما غنيت فغينت

صوت
( بان الخَلِيطُ فما عاجوا ولا عَدَلوا ... إذا ودّعوك وحنّت بالنوى الإِبلُ )
( كأن فيهم غداةَ البَيْن إذ رَحَلوا ... أَدْمَاءَ طاع لها الحَوْذَانُ والنَّفَلُ )
الغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش قال حبش وفيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر ولإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر فقال له أحسنت والله يا غريض هات ما غنيت فيه أيضا من شعري فغناه في قوله
صوت
( يا ليت شعري وكم من مُنْية قُدِرتْ ... وَفْقا وأُخرى أتى من دونها القَدَرُ )
( ومُضْمَرِ الكَشْح يَطْوِيه الضجيعُ له ... طيَّ الحِمالة لا جافٍ ولا فَقِرُ )
( له شَبِيهان لا نَقْصٌ يَعِيبهما ... بحيث كانا ولا طُولٌ ولا قِصَرُ )
لم أعرف لهذا الشعر لحنا في شيء من الكتب ولا سمعته فقال له الحارث أحسنت والله يا غريض إيه وماذا أيضا فغناه قوله
( عَفَتِ الديارُ فما بها أهلُ ... حُزّانُها ودِمَاثُها السهلُ )
( إني وما نحروا غداةَ مِنَّي ... عند الجِمار تؤدها العُقْلُ )

الأبيات المذكورة وقد مضت نسبتها معها فقال له الحارث يا غريض لا لوم في حبك ولا عذر في هجرك ولا لذة لمن لا يروح قلبه بك يا غريض لو لم يكن لي في ولايتي مكة حظ إلا أنت لكان حظا كافيا وافيا يا غريض إنما الدنيا زينة فأزين الزينة ما فرح النفس ولقد فهم قدر الدنيا على حقيقته من فهم قدر الغناء

سكينة بنت الحسين تنقد شعره
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب الزبيري قال
أنشدت سكينة بيت الحسين قول الحارث بن خالد
( فَفَرَغْن من سَبْع وقد جُهِدت ... أحشاؤهن موائلَ الخُمْرِ )
فقال أحسن عندكم ما قال قالوا نعم فقالت وما حسنه فوالله لو طافت الإبل سبعا لجهدت أحشاؤها
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن كلثوم بن أبي بكر قال
لما مات عمر بن عبد الله التيمي عن عائشة بنت طلحة وكانت قبله عند مصعب بن الزبير قيل للحارث بن خالد ما يمنعك الآن منها قال لا يتحدث والله رجال من قريش أن نسيبي بها كان لشيء من الباطل
شعره في أبان بن عثمان بعد أن تولى على موسم الحج
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال
لما خرج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان شغل عن أن يولي على

الحج رجلا وكان الحارث بن خالد عامله على مكة فخرج أبان بن عثمان من المدينة وهو عامله عليها فغدا على الحارث بمكة ليحج بالناس فنازعه الحارث وقال له لم يأتني كتاب أمير المؤمنين بتوليتك على الموسم وتغالبا فغلبه أبان ابن عثمان بنسبه ومال إليه الناس فحج بهم فقال الحارث بن خالد في ذلك
( فإن تَنْجُ منها يا أبَانُ مسلَّما ... فقد أفلتَ الحجّاجَ خيلُ شَبِيبَ )
( وكاد غَداةَ الدّير يُنْفِذُ حِضْنَه ... غلامٌ بطعن القِرْن جِدُّ طبيبِ )
( وأَنْسَوْه وصف والدَّيْر لما رآهُمُ ... وحسَّنَ خوفُ الموت كلَّ مَعيبِ )
فلقيه الحجاج بعد ذلك فقال مالي ولك يا حارث أينازعك أبان عملا فتذكرني فقال له ما اعتمدت مساءتك ولكن بلغني أنك أنت كاتبته قال والله ما فعلت فقال له الحارث المعذرة إلى الله وإليك أبا محمد
نسخت من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات حدثني عمرو ابن سلم قال حدثني هارون بن موسى الفروي قال حدثني موسى بن جعفر أن يحيى قال حدثني مؤدب لبني هشام بن عبد الملك قال
بينا أنا ألقي على ولد هشام شعر قريش إذ أنشدتهم شعر الحارث بن خالد
( إن امرأً تعتادُه ذِكَرٌ ... منها ثَلاثُ مِنًى لذو صَبْرِ )
وهشام مصغ إلي حتى ألقيت عليهم قوله
( ففَرغْنَ من سَبْع وقد جُهِدتْ ... أحشاؤهن موائلَ الخُمْرِ )

فانصرف وهو يقول هذا كلام معاين

شعره في عائشة بعد أن قدمت تريد العمرة
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو عبد الله السدوسي قال وحدثنا أبو حاتم السجستاني قال أخبرنا أبو عبيدة قال
قدمت عائشة بنت طلحة مكة تريد العمرة فلم يزل الحارث يدور حولها وينظر إليها ولا يمكنه كلامها حتى خرجت فأنشأ يقول وذكر في هذه الأبيات بسرة حاضنتها وكنى عنها
صوت
( يا دارُ أقفَر رسمُها ... بين المُحَصَّبِ والحَجُون )
( أَقْوَتْ وغيَّر آيَها ... مَرُّ الحوادث والسّنينِ )
( واستبدلوا ظَلَف الحجاز ... وسُرّة البلد الأمينِ )
( يا بُسْر إنّي فاعلمي ... بالله مجتهداً يَميني )
( ما إن صَرَمتُ حبالكم ... فَصِلِي حبالي أو ذَرِيني )
في هذه الأبيات ثاني ثقيل لمالك بالبنصر عن الهشامي وحبش قال وفيها لابن مسجح ثقيل أول وذكر أحمد بن المكي أن فيها لابن سريج رملا بالبنصر فيها لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن حبش
تشبيبه بزوجته أم عبد الملك
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال

حدثني مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزبير وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان عن أحمد بن زهير عن مصعب الزبيري قال
كانت أم عبد الملك بنت عبد الله بن خالد بن أسيد عند الحارث بن خالد فولدت منه فاطمة بنت الحارث وكانت قبله عند عبد الله بن مطيع فولدت منه عمران ومحمدا فقال فيها الحارث وكناها بابنها عمران
( يا أُمَّ عِمْرانَ ما زالت وما بَرِحت ... بِيَ الصبابةُ حتى شفّني الشَّفَقُ )
( القلبُ تاقَ إليكم كي يُلاقيكم ... كما يتوقُ إلى مَنْجاتَه الغَرقُ )
( تُنِيل نَزْرا قليلاً وهي مُشْفِقةٌ ... كما يخاف مَسِيسَ الحيّة الفَرِقُ )
قال مصعب بن عثمان فأنشد رجل يوما بحضرة ابنها عمران بن عبد الله بن مطيع هذا الشعر ثم فطن فأمسك فقال له لا عليك فإنها كانت زوجته
وقال ابن المرزبان في خبره فقال له امض رحمك الله وما بأس بذلك رجل تزوج بنت عمه وكان لها كفئا كريما فقال فيها شعرا بلغ ما بلغ فكان ماذا

تشبيبه بأم بكر أحسن الناس وجها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن عبد الرحمن التميمي عن أبي شعيب الأسدي عن القحذمي قال
بينا الحارث بن خالد واقف على جمرة العقبة إذ رأى أم بكر وهي ترمي الجمرة فرأى أحسن الناس وجها وكان في خدها خال ظاهر فسأل عنها فأخبر باسمها حتى عرف رحلها ثم أرسل إليها يسألها أن تأذن له في الحديث فأذنت له فكان يأتيها يتحدث إليها حتى انقضت أيام الحج فأرادت الخروج إلى بلدها فقال فيها

( ألا قُل لذاتِ الخال يا صاحِ في الخدّ ... تدوم إذا بانت على أحسن العَهْدِ )
( ومنها علاماتٌ بمجرى وِشاحها ... وأخرى تَزِين الجِيدَ من مَوْضِعِ العِقْدِ )
( وترعَى من الوُدّ الذي كان بيننا ... فما يَستوي راعي الأمانة والمُبْدي )
( وقل قد وعدتِ اليوم وعداً فأنجزي ... ولا تُخْلِفي لا خيرَ في مُخْلِف الوعدِ )
( وجُودي عليّ اليومَ منكِ بنائل ... ولا تَبْخَلي قُدِّمتُ قَبْلَك في اللَّحدِ )
( فمن ذا الذي يُبدي السرورَ إذا دنت ... بكِ الدارُ أو يُعْنَى بنأيكمُ بعدي )
( دنوّكُمُ منّا رَخاءٌ نناله ... ونأيُكُمُ والبعدُ جَهْدٌ على جَهدِ )
( كثيرٌ إذا تدنوا اغتباطي بك النوى ... ووجدي إذا ما بِنْتُمُ ليس كالوجدِ )
( أقول ودمعي فوق خدّي مُخَضِّل ... له وَشَلٌ قد بَلَّ تَهْتَانهُ خدّي )
( لقد منح اللهُ البخيلةَ وُدَّنا ... وما مُنِحتْ ودّي بدعوى ولا قَصْدِ )
أخبرني محمد بن خلف قال وحدثت عن المدائني ولست أحفظ من حدثني به قال طافت ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود وأمها ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب بالكعبة فرآها الحارث بن خالد فقال فيها
( أطافت بنا شمُس النهار ومَنْ رأى ... من النّاس شمساً بالعِشاء تطوفُ )
( أبو أُمّها أوفَى قريشٍ بذِمّةِ ... وأعمامُها إمّا سألتَ ثَقِيفُ )
وفيها يقول
( أَمِن طَلَلٍَ بالجِزْع من مكّة السِّدرِ ... عفا بين أكناف المُشَقَّر فالحَضْرِ )

( ظَلِلتَ وظَلَّ القوم من غير حاجةٍِ ... لَدُنْ غُدوةٍ حتى دنَتْ حَزَّةُ العَصْرِ )
( يُبَكُّونَ من ليلَى عهوداً قديمةً ... وماذا يُبكِّي القوم من منزلٍ قَفْرِ )
الغناء في هذه الأبيات لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر والبنصر عن يحيى المكي وذكر غيره أنه للغريض
وفي ليلى هذه يقول أنشدناه وكيع عن عبد الله بن شبيب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي للحارث بن خالد وفي بعض الأبيات غناء

صوت
( لقد أرسلتْ في السرّ ليلَى تلومني ... وتزعُمُني ذا مَلّةٍ طرِفاً جَلْدا )
( وقد أخلفتْنا كلَّ ما وَعدتْ به ... ووالله ما أخلفتُها عامداً وعْدا )
( فقلتُ مُجِيباً للرسول الذي أتى ... تُرَاه لكَ الوَيْلاتُ من قولها جِدّا )
( إذا جئتَها فاقْرَ السلامَ وقُلْ لها ... دعي الجَوْرَ ليلَى واسلُكي مَنْهَجاً قَصْدا )
( أفي مُكْثِنا عنكم ليالٍ مَرِضتُها ... تَزِيدينَني ليلَى على مَرضِي جَهْدا )
( تَعُدِّين ذنباً واحداً ما جنيتُه ... عليّ وما أُحصِي ذنوبَكُم عَدّا )
( فإِن شئتِ حرّمتُ النساءَ سِواكُم ... وإِن شئتِ لم أَطْعَمُ نُقَاخا ولا بَرْدا )
( وإِن شئتِ غُرْنا بعدكم ثم لم نزَل ... بمكّةَ حتى تَجْلِسي قابِلاً نَجْدا )
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى وذكر ابن المكي أن

فيه لدحمان ثاني ثقيل بالوسطى لا أدري أهذا أم غيره
وفيه ثقيل أول للأبجر عن يونس والهشامي
وفيه لابن سريج رمل بالبنصر
ولعرار خفيف ثقيل عن الهشامي وحبش
أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني محمد بن الحارث الخراز قال حدثنا أبو الحسن المدائني قال
كان الحارث بن خالد واليا على مكة وكان أبان بن عثمان ربما جاءه كتاب الخليفة أن يصلي بالناس ويقيم لهم حجهم فتأخر عنه في سنة الحرب كتابه ولم يأت الحارث كتاب فلما حضر الموسم شخص أبان من المدينة فصلى بالناس وعاونته بنو أمية ومواليهم فغلب الحارث على الصلاة فقال
( فإِن تَنْجُ منها يا أبَانُ مسلَّماً ... فقد أفلتَ الحجّاجَ خيلُ شَبِيبِ )
فبلغ ذلك الحجاج فقال مالي وللحارث أيغلبه أبان بن عثمان على الصلاة ويهتف بي أنا ما ذكره أياي فقال له عبيد بن موهب أتاذن أيها الأمير في إجابته وهجائه قال نعم فقال عبيد
( أبا وابِصٍ رَكِّب علاتَك والتَمِس ... مَكاسِبهَا إن اللئيم كَسوبُ )
( ولا تَذْكُرِ الحجّاج إلا بصالح ... فقد عِشْتَ من معروفه بذَنُوبِ )
( ولستَ بوالٍ ما حيِيتَ إمارةً ... لمُسْتخلَفٍ إلا عليك رقيبُ )
قال المدائني وبلغني أن عبد الملك قال للحارث أي البلاد أحب إليك قال ما حسنت فيه حالي وعرض وجهي ثم قال
( لا كُوفةٌ أُمّي ولا بَصْرةٌ أبي ... ولستُ كمن يَثنيه عن وجهه الكَسَلْ )

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
منها في تشبيب الحارث بامرأته أم عمران
صوت
( بانَ الخَليطُ الذي كنّا به نَثِقُ ... بانوا وقلبُك مجنونٌ بهم عَلِقُ )
( تُنِيل نَزْراً قليلاً وهي مُشْفِقةٌ ... كما يَخاف مَسِيسَ الحيّة الفَرِقُ )
( يا أمّ عِمرانَ ما زلتْ وما بَرِحت ... بيَ الصّبابةُ حتى شفّني الشّفقُ )
( لا أعتقَ اللهُ رقّي من صبابتكم ... ما ضرّني أنني صَبُّ بكم قَلِقُ )
( ضحِكتِ عن مُرْهَفِ الأنياب ذي أُشُرٍ ... لا قَضَمٌ في ثناياه ولا رَوقُ )
( يتوقُ قلبي إليكم كي يلاقيكم ... كما يتوق إلى مَنْجاته الغَرِقُ )
غنّى ابن محرز في الثالث ثم السادس ثم الخامس ثم الثاني ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وللغريض في الرابع والثاني والثالث والسادس خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو ولسلسل في الأول والثاني ثقيل أول مطلق عن الهشامي ولابن سريج في الثاني والأول والرابع والخامس رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وللهذلي في الثاني ثم الأول هزج عن الهشامي
وذكر حبش أن فيها لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى ولابن محرز ثاني ثقيل آخر بالبنصر وذكر الهشامي أن لابن سريج في الأبيات خفيف رمل
معبد يغني شعره في عائشة
ومما يغني فيه من شعر الحارث بن خالد في عائشة بنت طلحة تصريحا وتعريضا ببسرة جاريتها

صوت
( يا رَبْعَ بُسْرَة بالجناب تَكَلَّمِ ... وأَبِنْ لنا خبراً ولا تَسْتَعْجِمِ )
( مالي رأيتُك بعد أهلك مُوحِشاً ... خَلَقاً كحَوْض الباقر المتهدِّمِ )
( تَسْبي الضجيعَ إذا النجومُ تغوّرت ... طوعُ الضجيع أنيقةُ المتوسَّمِ )
( قُبُّ البطون أوانسٌ مثلُ الدُّمَى ... يَخْلِطن ذاك بعِفّةٍ وتكرُّمِ )
الغناء لمعبد خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
والأبيات أكثر من هذه إلا أني اعتمدت على ما غني فيه
ومنها صوت قد جمعت فيه عدة طرائق وأصوات في أبيات من القصيدة
( أعَرفتَ أطلالَ الرُّسوم تنكّرتْ ... بعدي وبُدِّل آيهُنّ دُثُورَا )
( وتَبدّلتْ بعد الأنيس بأهلها ... عُفْراً بَواغِم يَرْتَعِين وُعُورا )
( من كلّ مُصْبِيَة الحديثِ ترى لها ... كَفَلاً كرابية الكَثِيب وثِيرا )
( دَعْ ذا ولكن هل رأيتَ ظَعائِنا ... قَرِّبْن أجْمالا لهنّ بُكُورا )
( قَرّبنَ كلّ مُخَيَّسٍ مُتحَمِّل ... بُزُلا تُشَبِّه هامهنّ قُبُورا )
( يَفْتِنَّ لا يألُون كلَّ مُغَفَّلٍ ... يَملأنه بحديثهنّ سرورا )
( يا دارُ حسَّرها البلى تحسِيرا ... وسَفَتْ عليها الريحُ بعدك بُورا )

( دَقّ الترابُ نَخِيلُه فمخيِّم ... بِعِراصها ومُسَيَّر تسْيِيرا )
( يا رَبْعَ بُسْرة إن أضرّ بك البِلَى ... فلقد عهدتُك آهلاً معمورا )
( عَقَبَ الرّذَاذُ خِلافَهم فكأنّما ... بَسط الشّواطِبُ بينهنّ حصيرا )
( إنْ يُمسِ حبلُك بعد طول تواصُلٍ ... خَلَقاً ويُصْبِح بَيْنُكم مهجورا )
( فلقد أرانِي والجديدُ إلى بِلىً ... زمناً بوصلِك قانعاً مسرورا )
( جَذِلا بمالي عندكم لا أبتغي ... للنفس غيرَكِ حُلّةً وعشيرا )
( كنتِ المُنَى وأعزَّ مَنْ وطئ الحصا ... عندي وكنتُ بذاكِ منكِ جديرا )
غنى في الأول والثاني من هذه الأبيات معبد ولحنه ثقيل أول بالبنصر عن عمرو مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وللغريض فيه ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ولإسحاق فيهما ثاني ثقيل ولإبراهيم فيهما وفي الثالث خفيف ثقيل بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وغنى الغريض في الثالث والسادس والرابع والخامس ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وغنى معبد في السابع والثامن والعاشر خفيف ثقيل بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي وفيها ثاني ثقيل ينسب إلى طويس وابن مسجح وابن سريج ولمالك في التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر خفيف ثقيل بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي وفيها بأعيانها لابن سريج رمل بالسبابة والوسطى عن يحيى أيضا وليحيى المكي في الحادي عشر وما بعده إلى آخر الأبيات ثاني ثقيل ولإبراهيم فيها بعينها ثقيل أول عن الهشامي وفيها لإسحاق رمل وفي الثالث والرابع لحن لخليدة المكية خفيف رمل عن الهشامي أيضا
ومنها من أبيات قالها بالشأم عند عبد الملك أولها

( هل تعرفُ الدارَ أضحت آيُها عُجُمَا ... كالرَّقِّ أجرى عليها حاذقٌ قَلَمَا )
( بالخَيفِ هاجت شؤونا غيرَ جامدةً ... فانهلّت العينُ تُذْرِي واكفا سَجِما )
( دارٌ لبُسرةَ أمست ما تُكلّمنا ... وقد أبنتُ لها لو تعرِفُ الكَلِما )
( واهاً لبُسرةَ لو يدنو الأميرُ بها ... يا ليت بُسرةَ قد أمست لنا أَمَمَا )

صوت
( حلَّتْ بمكّة لا دارٌ مُصاقِبة ... هيهات جَيْرونُ ممّن يسكن الحَرَما )
( يا بُسرٌ إنكُمُ شطَّ البِعادُ بكم ... فما تُنيلوننا وصلا ولا نِعَما )
غنى في هذين البيتين الهذلي ثاني ثقيل بالوسطى وفيهما ليحيى المكي ثقيل أول بالبنصر جميعا من روايته
( قد قُلتُ بالخَيفِ إذ قالت لجارتها ... أدامَ وصلُ الذي أهدي لنا الكَلِما )
صوت
( لا يُرغِمُ الله أنفاً أنت حاملُه ... بل أنفُ شانيك فيما سرّكم رَغما )
( إن كان رابِك شيء لستُ أعلمه ... منّي فهذي يميني بالرضا سَلَما )
( أو كنتُ أحببتُ شيئاً مثلَ حُبُّكُم ... فلا أرحتُ إذاً أهلا ولا نَعَما )

( لا تكليني إلى من ليس يرحمُني ... وقاكِ مَنْ تُبْغِضين الحتفَ والسَّقما )
( إن الوُشاةَ كثيرٌ إن أطعتُهم ... لا يرقُبون بنا إلاَّ ولا ذِمَما )
غنى ابن محرز في
( لا يُرغمُ اللهُ أنفاً أنت حامله ... )
خفيف ثقيل بالبنصر ولابن مسجح فيه ثاني ثقيل عن حبش وفي
( لا تكليني إلى من ليس يرحمني ... )
لابن محرز ثقيل أول بالبنصر عن حبش والهشامي

عزله عبد الملك لأنه أخر الصلاة لعائشة
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى قالا أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبيري قال
أذن المؤذن يوما وخرج الحارث بن خالد إلى الصلاة فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة إنه بقي علي شيء من طوافي لم أتمه فقعد وأمر المؤذنين فكفوا عن الإقامة وجعل الناس يصيحون حتى فرغت من طوافها فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فعزله وولى مكة عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكتب إلى الحارث ويلك أتركت الصلاة لعائشة بنت طلحة فقال الحارث والله لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبرت وقال في ذلك
( لم أُرَحِّبْ بأن سَخِطتِ ولكن ... مرحباً أن رضيتِ عنّا وأهلا )
( إنَّ وجها رأيتُه ليلةَ البدر ... عليه انثنى الجمالُ وحَلاّ )
( وجهُها الوجهُ لو يُسألُ به المُزن ... ُ من الحسنِ والجمال استهلاَّ )
( إن عندَ الطَّوافِ حين أتته ... لَجمالاً فَعْما وخُلْقاً رِفَلاّ )

( وكُسِين الجمالَ إن غِبنَ عنها ... فإِذا ما بدتْ لهنّ اضمحلاّ )
في شعر الحارث هذا غناء قد جمع كل ما في شعره منه على اختلاف طرائقه وهو

صوت
( أَثْلَ جُودِي على المتيّم أثلاَ ... لا تزيدي فؤادَه بكِ خَبْلا )
( أثلَ إني والراقصاتِ بجَمْع ... يتباريْن في الأزمّةَ فُتْلا )
( سانحاتٍ يقطعن من عرفاتٍ ... بين أيدي المطيّ حَزْنا وسَهلا )
( والأكفِّ المضمّرات على الركن ... بشُعْثٍ سَعَوُا إلى البيت رَجْلى )
( لا أخونُ الصديق في السرّ حتّى ... يُنقَلَ البحرُ بالغرابيل نقلا )
( أو تمرَّ الجبالُ مرَّ سحابٍ ... مُرْتَقٍ قد وَعى من الماء ثِقْلا )
( أنعم اللهُ لي بذا الوجهِ عينا ... وبه مرحباً وأهلاً وسَهلا )
( حين قالت لا تُفشِينَّ حديثي ... يابن عمّي أقسمت قلت أجلْ لا )
( إتقي الله واقبلي العذَر منّي ... وتَجافَيْ عن بعض ما كان زَلاَّ )
( لا تصُدّي فتقتُليني ظُلما ... ليس قتلُ المحبِّ للحبّ حِلاَّ )
( ما أكن سؤتُكم به فلك العُتبى ... لدينا وحَقَّ ذاك وَقَلاّ )
( لم أرحِّبْ بأن سَخِطتِ ولكن ... مرحباً أن رضيت عنّا وأهلا )
( إنّ شخصاً رأيتُه ليلةَ البدر ... عليه انثنى الجَمالُ وحلاَّ )

( جعلَ اللهُ كلَّ أنثى فداءً ... لك بل خدَّها لرجلِك نعلا )
( وجهكِ البدرُ لو سألتُ به المزنَ ... من الحسنِ والجمالِ استهلاَّ )
غنى معبد في الأبيات الأربعة الأولى خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ولابن تيزن في الأول والثاني ثقيل أول عن إسحاق ولابن سريج في الأول والثاني والخامس ثقيل أول عن الهشامي وللغريض في الخامس إلى الثامن خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ولدحمان في التاسع والعاشر والثالث عشر والرابع عشر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو ولمالك في التاسع إلا آخر الثاني عشر لحن ذكره يونس ولم يجنسه ولابن سريج في هذه الأبيات بعينها رمل بالوسطى عن عمرو وللغريض فيها أيضا خفيف رمل بالبنصر عن ابن المكي ولابن عائشة في الخامس إلى آخر الثامن لحن ذكره حماد عن أبيه ولم يذكر طريقته
ومنها
صوت
( أَحَقّاً أن جيرتنا استحبّوا ... خُزُونَ الأرض بالبلد السَّخاخ )
( إلى عُقْر الأباطح من ثَبِير ... إلى ثور فَمدْفَعِ ذي مُرَاخِ )
( فتلك ديارُهم لم يَبْقَ فيها ... سوى طلل المُعَرِّس والمُناخ )
( وقد تَغْنَى بها في الدار حُورٌ ... نَواعمُ في المجاسد كالإِراخِ )
غنى في هذه الأبيات الغريض ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى عن الهشامي

وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرني محمد بن سلام قال
كانت سوداء بالمدينة مشغوفة بشعر عمر بن أبي ربيعة وكانت من مولدات مكة فلما ورد على أهل المدينة نعي عمر بن أبي ربيعة أكبروا ذلك واشتد عليهم وكانت السوداء أشدهم حزنا وتسلبا وجعلت لا تمر بسكة من سكك المدينة إلا ندبته فلقيها بعض فتيان مكة فقال لها خفضي عليك فقد نشأ ابن عم له يشبه شعره شعره فقالت أنشدني بعضه فأنشدها قوله
( إني وما نحروا غَداةَ مِنىً ... عند الجِمار تؤودُها العُقْلُ )
الأبيات كلها قال فجعلت تمسح عينيها من الدموع وتقول الحمد لله الذي لم يضيع حرمه
أخبرني اليزيدي قال حدثني عمي جد عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال
ناضل سليمان بن عبد الملك بين الحارث وبين رجل من أخواله من بني عبس فرمى الحارث بن خالد فأخطأ ورمى العبسي فأصاب فقال
( أنا نَضَلت الحارث بن خالِد ... )
ثم رمى العبسي فأخطأ ورمى الحارث فأصاب فقال الحارث
( حسِبْتَ نَضْلَ الحارث بن خالِد ... )
ورميا فأخطأ العبسي وأصاب الحارث فقال الحارث
( مَشْيَكَ بين الزَّرْبِ والمرَابِد ... )

ورميا فأخطأ العبسي وأصاب الحارث فقال الحارث
( وإِنك الناقصُ غيرُ الزائدِ ... )
فقال سليمان أقسمت عليك يا حارث إلا كففت عن القول والرمي فكف

أخبار الأبجر ونسبه
الأبجر لقب غلب عليه واسمه عبيد الله بن القاسم بن ضبية ويكنى أبا طالب هكذا روى محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق وروى هارون بن الزيات عن حماد عن أبيه أن اسمه محمد بن القاسم بن ضبية وهو مولى لكنانة ثم لبني بكر ويقال إنه مولى لبني ليث
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه وهارون بن الزيات قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك قال
كنا يوما جلوسا عند إسحاق فغنتنا جارية يقال لها سمحة
( إنّ العيونَ التي في طَرْفها مَرَضٌ ... قتَلْننا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلانا )
فهبت إسحاق أن أسأله لم الغناء فقلت لبعض من كان معنا سله فسأله فقال له إسحاق ما كان عهدي بك في شبيبتك لتسألنا عن هذا فقال أحببته لما أسننت فقال لا ولكن هذا النقب عمل هذا اللص وضرب بيده إلى تلابيبي فقال له الرجل صدقت يا أبا محمد فأقبل علي فقال لي ألم أقل لك إذا اشتهيت شيئا فسل عنه أما لأعطينك فيه ما تعايي به من شئت منهم

أتدري لمن الشعر فقلت لجرير فقال لي والغناء للأبجر وكان مدنيا منشؤه بمكة أو مكيا منشؤه بالمدينة أتدري ما اسمه قلت لا قال اسمه عبيد الله بن القاسم بن ضبية أتدري ما كنيته قلت لا قال أبو طالب ثم قال اذهب فعاي بهذا من شئت منهم فإنك تظفر به

كان يلقب بالحسحاس
وقال هارون حدثني حماد عن أبيه قال الأبجر اسمه محمد بن القاسم بن ضبية وقال مرة أخرى عبيد الله بن القاسم مولى لبني بكر بن كنانة وقيل إنه مولى لبني ليث يلقب بالحسحاس
قال هارون وحدثني حماد عن أبيه قال حدثني عورك اللهبي قال
لم يكن بمكة أحد أظرف ولا أسرى ولا أحسن هيئة من الأبجر كانت حلته بمائة دينار وفرسه بمائة دينار ومركبه بمائة دينار وكان يقف بين المأزمين فيرفع صوته فيقف الناس له يركب بعضهم بعضا
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قالا
جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحج على قريب من التنعيم فإذا عسكر جرار قد أقبل في آخر الليل وفيه دواب تجنب وفيها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب فاندفع فغنى
( عَرفتُ ديارَ الحيّ خاليةً قَفْرا ... كأن بها لمّا توهمتُها سَطْرا )

فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا وصاح صائح ويحك أعد الصوت فقال لا والله إلا بالفرس الأدهم بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار فإذا الوليد بن يزيد صاحب الإبل فنودي أين منزلك ومن أنت فقال أنا الأبجر ومنزلي على باب زقاق الخرازين فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت من ثياب وشي وغير ذلك ثم أتى به الوليد فأقام عنده وراح مع أصحابه عشية التروية وهو أحسنهم هيئة وخرج معه أو بعده إلى الشأم

خروجه مع الوليد بن يزيد إلى الشام
قال إسحاق وحدثني عورك اللهبي أن خروجه كان معه وذلك في ولاية محمد بن هشام بن إسماعيل مكة وفي تلك السنة حج الوليد لأن هشاما ما أمره بذلك ليهتكه عند أهل الحرم فيجد السبيل إلى خلعه فظهر منه أكثر مما أراد به من التشاغل بالمغنين واللهو وأقبل الأبجر معه حتى قتل الوليد ثم خرج إلى مصر فمات بها
نسبة الصوت المذكور في هذا الخبر
صوت
( عَرَفْتُ ديارَ الحيِّ خاليةً قَفْرا ... كأنّ بها لمّا توهّمتُها سَطْرا )
( وقفتُ بها كيما تَردّ جوابَها ... فما بيّنتْ لي الدارُ عن أهلها خُبْرا )
الغناء لأبي عباد ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وفيه لسياط خفيف رمل بالبنصر
قال إسحاق وحدثت أن الأبجر أخذ صوتا من الغريض ليلا ثم دخل في الطواف حين أصبح فرأى عطاء بن أبي رباح يطوف بالبيت فقال يا أبا محمد اسمع صوتا أخذته في هذه الليلة من الغريض قال له ويحك أفي هذا

الموضع فقال كفرت برب هذا البيت لئن لم تسمعه مني سرا لأجهرن به فقال هاته فغناه
صوت
( عُوجِي علينا ربّةَ الهودَج ... إنّكِ إلاّ تَفْعَلِي تَحْرَجيّ )
( إنِّي أُتِيحتْ لي يَمَانِيةٌ ... إحدى بني الحارثِ من مَذْحِجِ )
( نلبَثُ حولاً كاملاً كلَّه ... لا نلتقي إلا على مَنْهَجِ )
( في الحجِّ إن حجَّتْ وماذا مِنىً ... وأهلهُ إنْ هي لم تَحْجُجِ )
فقال له عطاء الخير الكثير والله في منى وأهله حجت أو لم تحج فاذهب الآن
وقد مرت نسبة هذا الصوت وخبره في أخبار العرجي والغريض
قال إسحاق وذكر عمرو بن الحارث عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال ختن عطاء بن أبي رباح بنيه أو بني أخيه فكان الأبجر يختلف إليهم ثلاثة أيام يغني لهم

تنازعه مع ابن عائشة في الغناء
قال هارون بن محمد حدثني حماد بن إسحاق قال نسخت من كتاب ابن أبي نجيح بخطه حدثني غرير بن طلحة الأرقمي عن يحيى بن عمران عن عمر بن حفص بن أبي كلاب قال
كان الأبجر مولانا وكان مكيا فكان إذا قدم المدينة نزل علينا فقال لنا يوما أسمعوني غناء ابن عائشتكم هذا فأرسلنا فيه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبار فتغنى ابن عائشة فقال الأبجر كل مملوك لي حر إن تغنيت معك إلا

بنصف صوتي ثم أدخل إصبعه في شدقه فتغنى فسمع صوته من في السوق فحشر الناس علينا فلم يفترقا حتى تشاتما قال وكان ابن عائشة حديدا جاهلا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال وحدثني ابن أبي سعد قال حدثنا القطراني المغني عن محمد بن جبر عن إبراهيم بن المهدي قال حدثني ابن أشعب عن أبيه قال
دعي ذات يوم المغنون للوليد بن يزيد وكنت نازلا معهم فقلت للرسول خذني فيهم قال لم أومر بذلك وإنما أمرت بإحضار المغنين وأنت بطال لا تدخل في جملتهم فقلت أنا والله أحسن غناء منهم ثم اندفعت فغنيته فقال لقد سمعت حسنا ولكني أخاف فقلت لا خوف عليك ولك مع هذا شرط قال وما هو كل ما أصبته فلك شطره فقال للجماعة اشهدوا عليه فشهدوا ومضينا فدخلنا على الوليد وهو لقس النفس فغناه المغنون في كل فن من خفيف وثقيل فلم يتحرك ولا نشط فقام الأبجر إلى الخلاء وكان خبيثا داهيا فسأل الخادم عن خبره وبأي سبب هو خاثر فقال بينه وبين امرأته شر لأنه عشق أختها فغضبت عليه فهو إلى أختها أميل وقد عزم على طلاقها وحلف لها ألا يذكرها أبدا بمراسلة ولا مخاطبة وخرج على هذا الحال من عندها فعاد الأبجر إلينا وما جلس حتى اندفع فغنى

صوت
( فبِينِي فإِني لا أُبالي وأيقنِي ... أصَعَّدَ باقي حبِّكم أم تَصَوَّبا )
( ألم تعلَمي أنِّي عَزُوفٌ عن الهَوَى ... إذا صاحبي من غير شيء تَغَضَّبا )
فطرب الوليد وارتاح وقال أصبت يا عبيد والله ما في نفسي وأمر له بعشرة آلاف درهم وشرب حتى سكر ولم يحظ بشيء أحد سوى الأبجر فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر من يضربني مائة الساعة بحضرتك فضحك وقال قبحك الله وما السبب في ذلك فأخبرته بقصتي مع الرسول وقلت إنه بدأني من المكروه في أول يومه بما اتصل علي إلى آخره فأريد أن أضرب مائة ويضرب بعدي مثلها فقال له لقد لطفت أعطوه مائة دينار وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوضنا عن الخمسين التي أراد أن يأخذها فقبضتها وما حظي أحد بشيء غيري وغير الرسول
والشعر الذي غنى فيه الأبجر الوليد بن يزيد لعبد الرحمن بن الحكم أخي مروان بن الحكم والغناء للأبجر ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لغيره عدة ألحان نسبت
صوت من المائة المختارة من رواية جحظة
( حمزةُ المبتاعُ بالمال الثَّنَا ... ويَرى في بَيْعه أنْ قد غَبَنْ )
( فهو إن أعطى عطاءً فاضلاً ... ذَا إخاءٍ لم يُكدِّرْهُ بمَنّ )

( وإِذا ما سَنَةٌ مُجْدِيَةٌ ... بَرَتِ الناسَ كبْريٍ بالسَّفَنْ )
( كان للناسِ ربيعاً مُغْدِقاً ... ساقط الأكنافِ إن راح ارجَحنّ )
( نُور شرقٍ بَيِّنٌ في وجهه ... لم يُصِبْ أثوابَه لونُ الدَّرَنْ )
عروضه من الرمل الشعر لموسى شهوات والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار موسى شهوات ونسبه وخبره في هذا الشعر
هو موسى بن يسار مولى قريش ويختلف في ولائه فيقال أنه مولى بني سهم ويقال مولى بني تيم بن مرة ويقال مولى بني عدي بن كعب ويكنى أبا محمد وشهوات لقب غلب عليه
سبب لقبه بشهوات
وحدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال
إنما لقب موسى شهوات لأنه كان سؤوالا ملحفا فكان كلما رأى مع أحد شيئا يعجبه من مال أو متاع أو ثوب أو فرس تباكى فإذا قيل له مالك قال أشتهي هذا فسمي موسى شهوات
قال وذكر آخرون أنه كان من أهل أذربيجان وأنه نشأ بالمدينة وكان يجلب إليه القند والسكر فقالت له امرأة من أهله ما يزال موسى يجيئنا بالشهوات فغلبت عليه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال
كان محمد بن يحيى يقول موسى شهوات مولى بني عدي بن كعب وليس ذاك بصحيح هو مولى تيم بن مرة وذكر عبد الله بن شبيب عن الحزامي أنه مولى بني سهم

وأخبرني وكيع عن أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب ومحمد بن سلام قال موسى شهوات مولى بني سهم

سعيد بن خالد بن عبد الله بن أسيد يعينه في ثمن جارية فيمدحه
وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
هوي موسى شهوات جارية بالمدينة فاستهيم بها وساوم مولاها فيها فاستام بها عشرة آلاف درهم فجمع كل ما يملكه واستماح إخوانه فبلغ أربعة آلاف درهم فأتى إلى سعيد بن خالد العثماني فأخبره بحاله واستعان به وكان صديقه وأوثق الناس عنده فدافعه واعتل عليه فخرج من عنده فلما ولى تمثل سعيد قوله الشاعر
( كتبتَ إليَّ تَسْتَهدِي الجَواري ... لقد أنْعَظْتَ من بَلَدٍ بَعيدِ )
فأتى سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فأخبره بقصته فأمر له بستة آلاف درهم فلما قبضها ونهض قال له اجلس إذا ابتعتها بهذا المال وقد أنفدت كل ما تملك فبأي حال تعيشان ثم دفع إليه ألفي درهم وكسوة وطيبا وقال أصلح بهذا شأنكما فقال فيه
( أبا خالدٍ أعني سعيدَ بن خالدٍ ... أخا العُرْف لا أعني ابنَ بنتِ سعيدِ )

عمرو بن عثمان بن عفان فقال يا أمير المؤمنين أتيتك مستعديا قال ومن بك قال موسى شهوات قال وماله قال سمع بي واستطال في عرضي فقال يا غلام علي بموسى فأقين به فأتي به فقال ويلك أسمعت به واستطلت في عرضه قال ما فعلت يا أمير المؤمنين ولكني مدحت ابن عمه فغضب هو قال وكيف ذلك قال علقت جارية لم يبلغ ثمنها جدتي فأتيته وهو صديقي فشكوت إليه ذلك فلم أصب عنده شيئا فأتيت ابن عمه سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فشكوت إليه ما شكوته إلى هذا فقال تعود إلي فتركته ثلاثا ثم أتيته فسهل من إذني فلما استقر بي المجلس قال يا غلام قل لقيمتي هاتي وديعتي ففتح بابا بين بيتين وإذا بجارية فقال لي أهذه بغيتك قلت نعم فداك أبي وأمي قال اجلس ثم قال يا غلام قل لقيمتي هاتي ظبية نفقتي فأتي بظبية فنثرت بين يديه فإذا فيها مائة دينار ليس فيها غيرها فردت في الظبية ثم قال عتيدة طيبي فأتي بها فقال ملحفة فراشي فأتي بها فصير ما في الظبية وما في العتيدة في حواشي الملحفة ثم قال شأنك بهواك واستعن بهذا عليه فقال له سليمان بن عبد الملك فذلك حين تقول ماذا قال قلت
( يا خالد أعْنِي سعيدَ بن خالدٍ ... أخا العُرف لا أعني ابنَ بنتِ سعيدِ )
( ولكنني أعني ابنَ عائشة الذي ... أبو أبويه خالدُ بن أسِيدِ )
( عقيد الندى ما عاش يَرضَى به الندى ... فإن مات لم يرضَ النَدَى بعقيدِ )
( دعوهُ دَعُوهُ إنكم قد رقدتُم ... وما هو عن أحسابكم برَقودِ )

فقال سليمان علي يا غلام بسعيد بن خالد فأتي به فقال أحق ما وصفك به موسى قال وما ذاك يا أمير المؤمنين فأعاد عليه فقال قد كان ذلك يا أمير المؤمنين قال فما طوقتك هذه الأفعال قال دين ثلاثين ألف دينار فقال له قد أمرت لك بمثلها وبمثلها وبمثلها وبثلث مثلها فحملت إليه مائة ألف دينار قال فلقيت سعيد بن خالد بعد ذلك فقلت له ما فعل المال الذي وصلك به سليمان قال ما أصبحت والله أملك منه إلا خمسين دينارا قلت ما اغتاله قال خلة من صديق أو فاقة من ذي رحم
أخبرني وكيع قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب الزبيري ومحمد بن سلام قال
عشق موسى شهوات جارية بالمدينة فأعطى بها عشرة آلاف درهم ثم ذكر باقي الحديث مثل حديث سليمان بن أبي شيخ وقال فيه أما والله لئن مدحته وهو سميك وأبوه سمي أبيك ولم أفرق بينكما ليقولن الناس أهذا أم هذا ولكن والله لأقولن قولا لا يشك فيه وتمام هذه الأبيات التي مدح بها سعيدا بعد الأربعة المذكورة منها
( فِدًى للكريم العَبْشِتمِيّ ابنِ خالد ... بنِيّ ومالي طارِفي وتَلِيدي )
( على وجهه تلقى الأيامِنَ واسمِهِ ... وكُلُّ جَواري طيره بِسُعودِ )
( أبان وما استغنى عن الثّدْي خيرُه ... أبان به في المهد قبلَ قُعُودِ )
( دعوه دعوه إنكم قد رقدتُم ... وما هو عن أحسابكم برَقودِ )
( ترى الجُنْد والجُنّابَ يَغشَوْن بابَه ... بحاجاتهم من سيّد ومَسُودِ )

( فيُعطِي ولا يُعطَى ويُغشَى ويُجتَدَى ... وما بابُه للمُجْتَدِي بسديدِ )
( قتلتَ أُناساً هكذا في جلودهم ... من الغيظ لم تقتلهمُ بحديدِ )
( يعيشون ما عاشوا بغيظٍ وإن تَحِنْ ... منَايَاهُمُ يوماً تَحِنْ بِحُقُودِ )
( فقل لبُغاة العُرْف قد مات خالدٌ ... ومات الندّى إلا فُضُولَ سعيدِ )
قال وكيع في خبره أما قوله لا أعني ابن بنت سعيد فإن أم سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان آمنة بنت سعيد بن العاصي وعائشة أم عقيد الندى بنت عبد الله بن خلف الخزاعية أخت طلحة الطلحات وأمها صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار بن قصي وأم أبي عقيد الندى رملة بنت معاوية بن أبي سفيان
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال
لما أنشد موسى شهوات سليمان بن عبد الملك شعره في سعيد بن خالد قال له اتفق اسماهما وإسما أبويهما فتخوفت أن يذهب شعري باطلا ففرقت بينهما بأمهما فأغضبه أن مدحت ابن عمه فقال له سليمان بلى والله لقد هجوته وما خفي علي ولكني لا أجد إليك سبيلا فأطلقه
أخبرني وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا محمد بن مسلمة الثقفي قال
قال موسى شهوات لمعبد أأمدح حمزة بن عبد الله بن الزبير بأبيات

وتغني فيها ويكون ما يعطينا بيني وبينك قال نعم فقال موسى
( حمزةُ المبتاعُ بالمال الثَّنا ... ويَرى في بَيْعه أن قد غَبَنْ )
( فهو إن أعطى عَطاءً فاضلاً ... ذا إخاءٍ لم يُكدِّرْه بِمَتْن )
( وإذا ما سَنّةٌ مُجْحِفَةٌ ... بَرَتِ الناسَ كَبَرْي بالسَّفَنْ )
( حَسَرَتْ عنه نقيًّا عرضُه ... ذا بلاءٍ عند مُخْناها حَسَنْ )
( نُور صدقِ بَيّنٌ في وجهه ... لم يُدَنِّسْ ثوبَه لونُ الدَّرَنْ )
( كنتَ للناس رَبيعاً مُغْدِقاً ... ساقطَ الأكناف إن راح ارجَحَنْ )
قال أحمد بن زهير وأول هذه القصيدة عن غير ابن سلام
( شاقَني اليومَ حبيبٌ قد ظَعَنْ ... ففؤادي مُسْتَهَامٌ مُرْتَهَنْ )
( إنّ هنداً تَديمتني حِقْبَةً ... ثم بانت وهي للنفس شَجَنْ )
( فتنةٌ ألْحَقَها اللهُ بنا ... عائذٌ من شرّ الفِتَنْ )

فاطمة بنت الحسين تجيزه على شعره
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني الطلحي قال أخبرني عبد الرحمن بن حماد عن عمران بن موسى بن طلحة قال
لما زفت فاطمة بنت الحسين رضوان الله عليه إلى عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان عارضها موسى شهوات
( طَلْحَةُ الخيرِ جَدِّكم ... ولخيرِ الفَوَاطمِ )

( أنتِ للطاهراتِ مِن ... فَرْع تَيْمٍ وهاشمِ )
( أَرْتجِيكُمْ لنَفْعِكم ... ولدَفْع المَظالِمِ )
فأمر له بكسوة ودنانير وطيب

تنقله بين الهجاء والمدح
قال حدثنا الكراني قال حدثنا العنزي عن العتبي قال
كانت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تحت عمر بن عبد العزيز فلما مات عنها تزوجها داود بن سليمان بن مروان وكان قبيح الوجه فقال في ذلك موسى شهوات
( أبعد الأَغرّ ابن عبد العزيز ... قَرِيعِ قريشٍ إذا يذْكَرُ )
( تَزوّجْتِ داودَ مَخْتارةً ... ألاَ ذلك الخَلَفُ الأَعْوَرُ )
فكانت إذا سخطت عليه تقول صدق والله موسى إنك لأنت الخلف الأعور فيشتمه داود
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال
أقام موسى شهوات ليزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية على بابه بدمشق وكان فتى جوادا سمحا فلما ركب وثب إليه فأخذ بعنان دابته ثم قال
( قُم فصوِّتْ إذا أتيت دِمَشْقاً ... يا يزيدُ بن خالدِ بن يزيدِ )
( يا يزيدُ بن خالدٍ إن تُجِبْني ... يَلْقَني طائري بنجم السُّعودِ )

فأمر له بخمسة آلاف درهم وكسوة وقال له كلما شئت فنادنا نجبك
أخبرنا وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب الزبيري قال
زوج موسى شهوات بنت مولى لمعن بن عبد الرحمن بن عوف يقال له داود ابن أبي حميدة فلما جليت عليه قال داود ما للجلوة فأنشأ يقول
( تقول ليَ النساءُ غدَاةَ تُجْلَى ... حميدةُ يا فتى ما للجِلاءِ )
( فقلتُ لهم سَمَرْقَنْدٌ وبَلْخٌ ... وما بالصين من نَعَمٍ وشَاءِ )
( أبوها حاتمٌ إن سِيلَ خيراً ... وليثُ كرِيهةٍ عند اللقاءِ )
أخبرني وكيع قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب قال
قضى أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب على موسى شهوات بقضية وكان خالد بن عبد الملك استقضاه في أيام هشام بن عبد الملك فقال موسى يهجوه
( وجدتُك فَهًّا في القضاء مُخلِّطاً ... فقَدْتُك من قاضٍ ومن مُتأمِّرِ )

( فدَعْ عنك ما شيدته ذات رخة ... أذى الناس لا تَحْشُرْهُمُ مَحْشَرِ )
ثم ولي القضاء سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري فقال يمدحه
( مَنْ سَرّه الحُكْمُ صِرفا لا مِزاجَ له ... من القُضَاة وعدلٌ غيرُ مَغْمُوز )
( فليأْت دارَ سعيد الخَيْر إنَّ بها ... أمضى على الحقّ من سيف ابن جُرْمُوزِ )
قال وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قد ولي المدينة واشتد على السفهاء والشعراء والمغنين ولحق موسى شهوات بعض ذلك منه وكان قبيح الوجه فقال موسى يهجوه
( قل لِسَعْدٍ وجهِ العجوز لقد كنتَ ... لِمَا قد أُوتِيت سعداً مخيلا )
( إن تكن ظالماً جهولاً فقد كان ... أبوك الأدْنَى ظلوما جهولا )
وقال يهجوه
( لعن اللهُ والعبادُ ثُطَيْطَ الوجه ... لا يُرْتَجَى قبيحَ الجِوارِ )
( يَتْقي الناسُ فحشه وأذَاه ... مثلَ ما يتَّقون بولَ الحِمارِ )
( لا تَغُرّنْك سَجْدةٌ بين عينيْه ... حَذارِ منها ومنه حَذارِ )
( إنها سَجْدةٌ بها يَخْدَع الناسَ ... عليها من سَجْدة بالدبَّارِ )
أخبرني عمي قال أخبرني ثعلب عن عبد الله بن شبيب قال
ذكر الحزامي أن موسى شهوات سأل بعض آل الزبير حاجة فدفعه عنها وبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن عثمان فبعث إليه بما كان التمسه من الزبيري من غير مسألة فوقف عليه موسى وهو جالس في المسجد ثم أنشأ يقول

( ليس فيما بَدا لنا منك عيبٌ ... عابَه الناسُ غيرَ أنك فاني )
( أنت نِعمَ المَتَاعُ لو كنتَ تَبْقَى ... غيرَ أنْ لا بَقَاءَ للإِنسانِ )
والشعر المذكور فيه الغناء يقوله موسى شهوات في حمزة بن عبد الله بن الزبير وكان فتى كريما جوادا على هوج كان فيه وولاه أبوه العراقين وعزل مصعبا لما تزوج سكينة بنت الحسين رضي الله عنه وعائشة بنت طلحة وأمهر كل واحدة منهما ألف ألف درهم

ابن الزبير يعزل أخاه مصعبا عن البصرة ويولي ابنه حمزة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن مصعب الزبيري وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني عبيد الله بن محمد الرازي والحسين بن علي قال عبيد الله حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني وقال الحسين حدثنا الحارث بن أبي أسامة عن المدائني عن أبي محنف
أن أنس بن زنيم الليثي كتب إلى عبد الله بن الزبير
( أبْلِغْ أميرَ المؤمنين رسالةً ... مِن ناصح لك لا يُريِك خِداعا )
( بضَع الفتاةَ بألفِ ألفٍ كاملٍ ... وتَبِيتُ قاداتُ الجيوش جيِاعا )
( لو لأبي حَفْصٍ أقولُ مَقَالتي ... وأُبِتُّ ما أبثثتُكم لارتاعا )
فلما وصلت الأبيات إليه جزع ثم قال صدق والله لو لأبي حفص يقول

إن مصعبا تزوج امرأتين بألفي ألف درهم لا رتاع وإنا بعثنا مصعبا إلى العراق فأغمد سيفه وسل أيره وسنعزله فدعا بابنه حمزة وأمه بنت منظور بن زبان الفزاري وكان لها منه محل لطيف فولاه البصرة وعزل مصعبا
فبلغ قوله عبد الملك في أخيه مصعب فقال لكن أنا خبيب أغمد سيفه وأيره وخيره
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال هذه الأبيات لعبد الله بن همام السلولي
قالوا جميعا فلما ولي ابنه حمزة البصرة أساء السيرة وخلط تخليطا شديدا وكان جوادا شجاعا أهوج فوفدت إلى أبيه الوفود في أمره وكتب إليه الأحنف بأمره وما ينكره الناس منه وأنه يخشى أن تفسد عليه طاعتهم فعزله عن البصرة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا المدائني قال
لما قدم حمزة بن عبد الله البصرة واليا عليها وكان جوادا شجاعا مخلطا يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه إلا وهبه ويمنع أحيانا ما لا يمنع من مثله فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف
وركب يوما إلى فيض البصره فلما رآه قال إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم صيفتهم هذه فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا فقال قد رأيته ذات يوم فظننت أن لن يكفيهم فقال له الأحنف إن هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنا ثم يعود
وشخص إلى الأهواز فرأى جبلها فقال هذا قعيقعان وقعيقعان جبل بمكة فلقب ذلك الجبل بقعيقعان
قال أبو زيد وحدثني غير المدائني أنه سمع بذكر الجبل بالبصرة فدعا بعامله فقال له ابعث فأتنا بخراج الجبل فقال له إن الجبل ليس ببلد فآتيك

بخراجه وبعث إلى مردانشاه فاستحثه بالخراج فأبطأ به فقام إليه بسيفه فقتله فقال له الأحنف ما أحد سيفك أيها الأمير وهدم بعبد العزيز بن شبيب بن خياط أن يضربه بالسياط فكتب إلى ابن الزبير بذلك وقال له إذا كانت لك بالبصرة حاجة فاصرف ابنك عنها وأعد إليها مصعبا ففعل ذلك
وقال بعض الشعراء يهجو حمزة ويعيبه بقوله في أمر الماء الذي رآه قد جزر
( يابن الزُّبَيْر بَعَثتَ حمزةَ عاملاً ... يا ليتَ حمزةَ كان خلفَ عُمَانِ )
( أزرَى بِدَجْلةَ حين عَبّ عُبَابُها ... وتقاذفتْ بزواخر الطُّوفانِ )

خبر الفرزدق مع النوار ابنة أعين المجاشعية
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
خطب النوار ابنة أعين المجاشعية رجل من قومها فجعلت أمرها إلى الفرزدق وكان ابن عمها دنية ليزوجها منه فأشهد عليها بذلك وبأن أمرها إليه شهودا عدولا فلما أشهدتهم على نفسها قال بهم الفرزدق فإني أشهدكم أني قد تزوجتها فمنعته النوار نفسها وخرجت إلى الحجاز إلى عبد الله بن الزبير فاستجارت بامرأته بنت منظور بن زبان وخرج الفرزدق فعاد بابنه حمزة وقال يمدحه
( يا حَمْز هَلْ لك في ذي حاجةٍ غَرِضتْ ... أَنضاؤه بمكان غير ممطورِ )
( فأنتَ أولَى قُرَيشٍ أن تكونَ لها ... وأنت بين أبي بكرٍ ومنظورِ )
فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف فقال الفرزدق في ذلك

( أمّا بَنُوه فلم تَنفَعْ شَفَاعتُهم ... وشُفِّعت بنتُ منظور بن زَبّانا )
( ليس الشفيعُ الذي يأتيكَ مُؤْتَزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عُرْيانا )
فبلغ ابن الزبير شعره ولقيه على باب المسجد وهو خارج منه فضغط حلقه حتى كاد يقتله ثم خلاه وقال
( لقد أصبحتْ عِرْسُ الفَرَزْدقِ ناشِزاً ... ولو رَضِيتْ رَمحَ استِهِ لاستقرَّتِ )
ثم دخل إلى النوار فقال لها إن شئت فرقت بينك وبينه ثم ضربت عنقه فلا يهجونا أبدا وإن شئت أمضيت نكاحه فهو ابن عمك وأقرب الناس إليك وكانت امرأة صالحة فقالت أو ما غير هذا قال لا قالت ما أحب أن يقتل ولكني أمضي أمره فلعل الله أن يجعل في كرهي إياه خيرا فمضت إليه وخرجت معه إلى البصرة

معبد يغني بشعره حمزة بن عبد الله
أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدثنا حماد ابن إسحاق عن أبيه عن الزبيري
أن حمزة بن عبد الله كان جوادا فدخل إليه معبد يوما وقد أرسله ابن قطن مولاه يقترض له من حمزة ألف دينار فأعطاه ألف الدينار فلما خرج من عنده قيل له هذا عبد ابن قطن وهويروي فيك شعر موسى شهوات فيحسن روايته فأمر برده فرد وقال له ما حكاه القوم عنه فغناه معبد الصوت فأعطاه أربعين دينارا ولما كان بعد ذلك رد ابن قطن عليه المال فلم يقبله وقال له إنه إذا خرج عني مال لم يعد إلى ملكي وقد روي أن الداخل على حمزة والمخاطب في أمره بهذه المخاطبة ابن سريج وليس ذلك بثبت هذا هو الصحيح والغناء لمعبد

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى الغساني
أن موسى شهوات أملق فقال لمعبد قد قلت في حمزة بن عبد الله شعرا فغن فيه حتى يكون أجزل لصلتنا ففعل ذلك معبد وغنى في هذه الأبيات ثم دخلا على حمزة فأنشده إياها موسى ثم غناه فيها معبد فأمر لكل واحد منهما بمائتي دينار
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عبد الله بن عبد الله بن عياش قال
كان موسى شهوات مولى لسليمان بن أبي خيثمة بن حذيفة العدوي وكان شاعرا من شعراء أهل الحجاز وكان الخلفاء من بني أمية يحسنون إليه ويدرون عطاءه وتجيئه صلاتهم إلى الحجاز
وكانت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تحت عمر بن عبد العزيز فلما مات عنها تزوجها داود بن سليمان بن مروان وكان دميما قبيحا فقال موسى شهوات في ذلك
( أبعد الأغرِّ ابن العزيز ... قريع قريشٍ إذا يُذكرُ )
( تزوّجتِ داودَ مختارةً ... أَلاَ ذَلك الخلَفُ الأعورُ )
فغلب عليه ذلك في بني مروان فكان يقال له الخلف الأعور

صوت من المائة المختارة
( عُوجَا خليليّ على المَحْضَرِ ... والربعِ من سَلاّمة المُقْفِرِ )
( عُوجا به فاستنطِقَاه فقد ... ذكَّرني ما كنتُ لم أذْكُرِ )

( ذكّرني سَلمَى وأيامَها ... إذ جاورَتْنا بلوَى عَسْجَرِ )
( بالربع من وَدّانَ مبدا لنا ... ومِحْوَراً ناهيكَ من محورِ )
( في مَحْضَرٍ كنّا به نلتقي ... يا حبّذا ذلك من محضَرِ )
( إذ نحن والحيّ به جِيرةٌ ... فيما مضى من سالف الأعصُرِ )
الشعر للوليد بن يزيد وقيل إنه لعمر بن أبي ربيعة وقيل إنه للعرجي وهو للوليد صحيح والغناء واللحن المختار لابن سريج خفيف رمل بالبنصر في مجراها وفيه لشارية خفيف رمل آخر عن ابن المعتز وذكر الهشامي أن فيه لحكم الوادي خفيف رمل أيضا

خبر أشعب مع زيد بن عمرو بن عثمان زوج سكينة بنت الحسين
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني قال
كان زيد بن عمرو بن عثمان قد تزوج سكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنه فعتب عليها يوما فخرج إلى مال له فذكر أشعب أن سكينة دعته فقالت له إن ابن عثمان خرج عاتبا علي فاعلم لي حاله قلت لا أستطيع أن أذهب إليه الساعة فقالت أنا أعطيك ثلاثين دينارا فأعطتني إياها فأتيته ليلا فدخلت الدار فقال انظروا من في الدار فأتوه فقالوا أشعب فنزل عن فرشه وصار إلى الأرض فقال أشعيب قلت نعم قال ما جاء بك قلت أرسلتني سكينة لأعلم خبرك أتذكرت منها ما تذكرت منك وأنا أعلم أنك قد فعلت حين نزلت عن فرشك وصرت إلى الأرض قال دعني من هذا وغنني

( عُوجا به فاستنطِقاه فقد ... ذكّرني ما كنتُ لم أذكر )
فغنيته فلم يطرب ثم قال غنني ويحك غير هذا فإن أصبت ما في نفسي فلك خلتي هذه وقد اشتريتها آنفا بثلمثمائة دينار فغنيته

صوت
( عَلِقَ القلب بعضُ ما قد شجاه ... من حبيبٍ أمسى هوانا هواهُ )
( ما ضِرارِي نفسي بهجران منْ ليس ... مُسيئا ولا بعيداً نواهُ )
( واجتنابي بنتَ الحبيب وما الخُلد ... ُ بأشهى إليّ من أن أراهُ )
فقال ما عدوت ما في نفسي خذ الحلة فأخذتها ورجعت إلى سكينة فقصصت عليها القصة فقالت وأين الحلة قلت معي فقالت وأنت الآن تريد أن تلبس حلة ابن عثمان لا والله ولا كرامة فقلت قد أعطانيها فأي شيء تريدين مني فقالت أنا أشتريها منك فبعتها إياها بثلثمائة دينار
الشعر المذكور في هذا الخبر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للدارمي خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى وذكر عمرو بن بانة أنه للهذلي وفيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه أن رجلا كانت له جارية يهواها وتهواه فغاضبها يوما وتمادى ذلك بينهما واتفق أن مغنية دخلت فغنتهما
( ما ضِرَاري نفسي بهِجرانَ مَنْ لِيس ... مُسيئاً ولا بعيداً نواه )
فقالت الجارية لا شيء والله إلا الحمق ثم قامت إلى مولاها فقبلت رأسه واصطلحا
صوت من المائة المختارة
( يا ويحَ نفسي لو أنه أقصَرْ ... ما كان عيشي كما أرى أكدَرْ )

( يا من عذيري ممن كَلِفتُ به ... يشهد قلبي بأنه يسْحَرْ )
( يا رُبَّ يومٍ رأيتُني مَرِحاً ... آخذٌ في اللهو مُسبِلَ المِئزرْ )
( بين ندامَى تحُثّ كأسَهُمُ ... عليهمُ كفُّ شادِنٍ أحوَرْ )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لفريدة خفيف رمل بالبنصر
إلى هنا انتهى الجزء الثالث من كتاب الأغاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع منه وأوله ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره سوى ما كان منها مع عتبة

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر نسب أبي العتاهية وأخباره
أبو العتاهية لقب غلب عليه
واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة
وكنيته أبو إسحاق
وأمه أم زيد بنت زياد المحاربي مولى بني زهرة وفي ذلك يقول أبو قابوس النصراني وقد بلغه أن أبا العتاهية فضل عليه العتابي
( قُلْ لِلمُكنِّي نفسه ... مُتَخيّرا بعَتَاهِيهْ )
( والمرسِل الكلِم القبيح ... وعتْه أُذْنٌ واعيهْ )
( إن كنت سِرّا سؤتني ... أو كان ذاك علانيهْ )
( فعليك لعنةُ ذي الجلال ... وأُمُّ زيدٍ زانيهْ )
ومنشؤه بالكوفة
وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين ثم كان يبيع الفخار بالكوفة ثم قال الشعر فبرع فيه وتقدم
ويقال أطبع الناس بشار والسيد وأبو العتاهية
وما قدر أحد على جمع شعر هؤلاء الثلاثة لكثرته
وكان

غزير البحر لطيف المعاني سهل الألفاظ كثير الافتنان قليل التكلف إلا أنه كثير الساقط المرذول مع ذلك
وأكثر شعره في الزهد والأمثال
وكان قوم من أهل عصره ينسبونه إلى القول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمن بالبعث ويحتجون بأن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون ذكر النشور والمعاد
وله أوزان طريفة قالها مما لم يتقدمه الأوائل فيها
وكان أبخل الناس مع يساره وكثرة ما جمعه من الأموال

سبب لقبة
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال أخبرني محمد بن موسى بن حماد قال
قال المهدي يوما لأبي العتاهية أنت إنسان متحذلق معته
فاستوت له من ذلك كنية غلبت عليه دون اسمه وكنيته وسارت له في الناس
قال ويقال

للرجل المتحذلق عتاهية كما يقال للرجل الطويل شناحية
ويقال أبو عتاهية بإسقاط الألف واللام
قال محمد بن يحيى وأخبرني محمد بن موسى قال أخبرني ميمون بن هارون عن بعض مشايخه قال كني بأبي العتاهية أن كان يحب الشهرة والمجون والتعته
وبلده الكوفة وبلد آبائه وبها مولده ومنشؤه وباديته
قال محمد بن سلام وكان محمد بن أبي العتاهية يذكر أن أصلهم من عنزة وأن جدهم كيسان كان من أهل عين التمر فلما غزاها خالد بن الوليد كان كيسان جدهم هذا يتيما صغيرا يكفله قرابة له من عنزة فسباه خالد مع جماعة صبيان من أهلها فوجه بهم إلى أبي بكر فوصلوا إليه وبحضرته عباد بن رفاعة العنزي بن أسد بن ربيعة بن نزار فجعل أبو بكر رضي الله عنه يسأل الصبيان عن أنسابهم فيخبره كل واحد بمبلغ معرفته حتى سأل كيسان فذكر له أنه من عنزة
فلما سمعه عباد يقول ذلك استوهبه من أبي بكر رضي الله عنه وقد كان خالصا له فوهبه له فأعتقه فتولى عنزة
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن الحجاج الجلاني الكوفي قال حدثني أبو دؤيل مصعب بن دؤيل الجلاني قال لم أر قط مندل بن علي العنزي وأخاه حيان بن علي غضبا من شيء قط إلا يوما واحدا دخل عليها أبو العتاهية وهو مضمخ بالدماء
فقالا له ويحك ما بالك فقال لهما من أنا فقالا له أنت أخونا وابن عمنا

ومولانا فقال إن فلانا الجزار قتلني وضربني وزعم أني نبطي فإن كنت نبطيا هربت على وجهي وإلا فقوما فخذا لي بحقي
فقام معه مندل بن علي وما تعلق نعله غضبا وقال له والله لو كان حقك على عيسى بن موسى لأخذته لك منه ومر معه حافيا حتى أخذ له بحقه
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى عن الحسن بن علي عن عمر بن معاوية عن جبارة بن المفلس الحماني قال أبو العتاهية مولى عطاء بن محجن العنزي

صنعة أبي العتاهية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال أبو عون أحمد بن المنجم أخبرني خيار الكاتب قال
كان أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي من أهل المذار جميعا وكان أبو العتاهية وأهله يعملون الجرار الخضر فقدما إلى بغداد ثم افترقا فنزل إبراهيم الموصلي ببغداد ونزل أبو العتاهية الحيرة
وذكر عن الرياشي أنه قال مثل ذلك وأن أبا أبي العتاهية نقله إلى الكوفة

قال محمد بن موسى فولاء أبي العتاهية من قبل أبيه لعنزة ومن قبل أمه لبني زهرة ثم لمحمد بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وكانت أمه مولاة لهم يقال لها أم زيد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن مهرويه قال قال الخليل بن أسد
كان أبو العتاهية يأتينا فيستأذن ويقول أبو إسحاق الخزاف
وكان أبوه حجاما من أهل ورجة ولذلك يقول أبو العتاهية
( أَلاَ إنّما التَّقْوَى هو العزّ والكَرَمْ ... وحُبُّك للدّنيا هو الفقر والعَدَمْ )
( وليس على عبدٍ تَقِيٍّ نقيصةٌ ... إذا صحّح التّقوى وإِن حاك أو حَجْم )

شعره بعد أن فاخره رجل من كنانة
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا محمد بن أبي العتاهية قال
جاذب رجل من كنانة أبا العتاهية في شيء ففخر عليه الكناني واستطال بقوم من أهله فقال أبو العتاهية
( دَعْنَي من ذِكْرِ أبٍ وجَدِّ ... ونَسَبِ يُعْلِيكَ سُورَ المجدِ )
( ما الفخرُ إلا في التُّقَى والزُّهدِ ... وطاعةٍ تُعطي جِنَان الخُلْدِ )
( لا بُدَّ من وِرْدٍ لأهلِ الوِردِ ... إمّا إلى ضَحْلٍ وإمّا عِدّ )
حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى عن أحمد بن حرب قال
كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا

من شيء ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما وأن العالم حديث العين والصنعة لا محدث له إلا الله وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا
وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا

مذهب أبي العتاهية
وكان يقول بالوعيد وبتحريم المكاسب ويتشيع بمذهب الزيدية البترية المبتدعة لا يتنقص أحدا ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان
وكان مجبرا
قال الصولي فحدثني يموت بن المزرع قال حدثني الجاحظ قال قال أبو العتاهية لثمامة بين يدي المأمون وكان كثيرا ما يعارضه بقوله في الإجبار أسألك عن مسألة
فقال له المأمون عليك بشعرك
فقال إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في مسألته ويأمره بإجابتي فقال له أجبه إذا سألك
فقال أنا أقول إن كل ما فعله العباد من خير وشر فهو من الله وأنت تأبى ذلك فمن حرك يدي هذه وجعل أبو العتاهية يحركها
فقال له ثمامة حركها من أمه زانية
فقال شتمني والله يا أمير المؤمنين
فقال ثمامة ناقض الماص بظر أمه والله يا أمير المؤمنين فضحك المأمون وقال له ألم أقل لك أن تشتغل بشعرك وتدع ما ليس من عملك قال ثمامة فلقيني بعد ذلك فقال لي يا أبا معن أما أغناك الجواب

عن السفه فقلت إن من أتم الكلام ما قطع الحجة وعاقب على الإساءة وشفى من الغيظ وانتصر من الجاهل
قال محمد بن يحيى وحدثني عون بن محمد الكندي قال
سمعت العباس بن رستم يقول كان أبو العتاهية مذبذبا في مذهبه يعتقد شيئا فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده إباه وأخذ غيره
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن أبي الدنيا قال حدثني الحسين بن عبد ربه قال حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال حدثني أبو الشمقمق أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المخنثين فقلت له أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك فقال له أريد أن أتعلم كيادهم وأتحفظ كلامهم

مارس صنعة الحجامة
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أن بشر بن المعتمر قال يوما لأبي العتاهية بلغني أنك لما نسكت جلست تحجم اليتامى والفقراء للسبيل أكذلك كان قال نعم قال له فما أردت بذلك قال أردت أن أضع من نفسي حسبما رفعتني الدنيا وأضع منها ليسقط عنها الكبر وأكتسب بما فعلته الثواب وكنت أحجم اليتامى والفقراء خاصة
فقال له بشر دعني من تذليلك نفسك بالحجامة فإنه ليس بحجة لك أن تؤدبها وتصلحها بما لعلك تفسد به أمر غيرك أحب أن تخبرني هل كنت تعرف الوقت الذي كان يحتاج فيه من تحجمه إلى إخراج الدم قال لا
قال هل كنت تعرف مقدار ما يحتاج كل واحد منهم إلى أن

يخرجه على قدر طبعه مما إذا زدت فيه أو نقصت منه ضر المحجوم قال لا
قال فما أراك إلا أردت أن تتعلم الحجامة على أقفاء اليتامى والمساكين
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو ذكوان قال حدثنا العباس بن رستم قال كان حمدويه صاحب الزنادقة قد أراد أن يأخذ أبا العتاهية ففزع من ذلك وقعد حجاما
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال أبو دعامة علي بن يزيد أخبر يحيى بن خالد أن أبا العتاهية قد نسك وأنه جلس يحجم الناس للأجر تواضعا بذلك
فقال ألم يكن يبيع الجرار قبل ذلك فقيل له بلى
فقال أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه ويستغني به عن الحجامة
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني شيخ من مشايخنا قال حدثني أبو شعيب صاحب ابن أبي داود قال
قلت لأبي العتاهية القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق فقال أتسألتني عن الله أم عن غير الله قلت عن غير الله فأمسك
وأعدت عليه فأجابني هذا الجواب حتى فعل ذلك مرارا
فقلت له ما لك لا تجيبني قال قد أجبتك ولكنك حمار

أوصافه
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا شيخ من مشايخنا قال حدثني محمد بن موسى قال
كان أبو العتاهية قضيفا أبيض اللون أسود الشعر له وفرة جعدة

وهيئة حسنة ولباقة وحصافة وكان له عبيد من السودان ولأخيه زيد أيضا عبيد منهم يعملون الخزف في أتون لهم فإذا اجتمع منه شيء ألقوه على أجير لهم يقال له أبو عباد اليزيدي من أهل طاق الجرار بالكوفة فيبيعه على يديه ويرد فضله إليهم
وقيل بل كان يفعل ذلك أخوه زيد لا هو وسئل عن ذلك فقال أنا جرار القوافي وأخي جرار التجارة
قال محمد بن موسى وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني عبد الحميد بن سريع مولى بني عجل قال
أنا رأيت أبا العتاهية وهو جرار يأتيه الأحداث والمتأدبون فينشدهم أشعاره فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيها
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال
لما هاجى أبو قابوس النصراني كلثوم بن عمرو العتابي جعل أبو العتاهية يشتم أبا قابوس ويضع منه ويفضل العتابي عليه فبلغه ذلك فقال فيه
( قُلْ للمُكَنِّي نفسَه ... مُتخيِّراً بعتاهيهْ )
( والمرسِل الكَلِمَ القبيحَ ... وعَتْه أُذْنٌ واعيهْ )
( إن كنتَ سرّاً سؤتَني ... أو كان ذاك عَلانيهْ )
( فعليك لعنةُ ذي الاجلاَل ... وأُمّ زيدٍ زانيهْ )
يعني أم أبي العتاهية وهي أم زيد بنت زياد فقيل له أتشتم مسلما فقال لم أشتمه وإنما قلت

( فعليك لعنةُ ذي الجلال ... ومَنْ عَنينْا زانيهْ )
قال وفيه يقول والبة بن الحباب وكان يهاجيه
( كان فينا يُكْنَى أبا إسحاقِ ... وبها الرّكْبُ سارَ في الآفاقِ )
( فتكنَّى مَعْتُوهُنَا بعَتَاهٍ ... يا لها كُنْيةً أتت باتّفاقِ )
( خلق الله لِحْيةً لك لا تنفكّ ... معقودةً بداء الحُلاَقِ )
أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا النوشجاني قال أتاني البواب يوما فقال لي أبو إسحاق الخزاف بالباب فقلت ائذن له فإذا أبو العتاهية قد دخل
فوضعت بين يديه قنو موز فقال قد صرت تقتل العلماء بالموز قتلت أبا عبيدة بالموز وتريد أن تقتلني به لا والله لا أذوقه
قال فحدثني عروة بن يوسف الثقفي قال رأيت أبا عبيدة قد خرج من دار النوشجاني في شق محمل مسجى إلا أنه حي وعند رأسه قنو موز وعند رجليه قنو موز آخر يذهب به إلى أهله
فقال النوشجاني وغيره لما دخلنا عليه نعوده قلنا ما سبب علتك قال هذا النوشجاني جاءني بموز كأنه أيور المساكين فأكثرت منه فكان سبب علتي
قال ومات في تلك العلة

مصعب يقول أبو العتاهية أشعر الناس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال
سمعت مصعب بن عبد الله يقول أبو العتاهية أشعر الناس فقلت له بأي شيء استحق ذلك عندك فقال بقوله
( تَعلّقتُ بآمالٍ ... طِوالٍ أيِّ آمالِ )
( وأقبلتُ على الدّنيا ... مُلِحّاً أيَّ إقبالِ )
( أيا هذا تَجَهَّزْ لفراق ... الأهل والمال )
( فلا بدّ من الموت ... على حالٍ من الحالِ )
ثم قال مصعب هذا كلام سهل حق لا حشو فيه ولا نقصان يعرفه العاقل ويقربه الجاهل
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يستحسن قول أبي العتاهية
( أنتَ ما استغنيتَ عن صاحبك ... الدهرَ أخوه )
( فإذا احتجتَ إليه ... ساعةً مجّك فُوه )
سلم الخاسر يقول أبو العتاهية أشعر الأنس والجن
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي إملاء قال حدثني عمي الفضل بن محمد

قال حدثني موسى بن صالح الشهرزوري قال
أتيت سلما الخاسر فقلت له أنشدني لنفسك
قال لا ولكن أنشدك لأشعر الجن والإنس لأبي العتاهية ثم أنشدني قوله

صوت
( سَكَنٌ يبقَى له سَكَنُ ... ما بهذا يُؤذِن الزَّمنُ )
( نحن في دارٍ يُخَبِّرنا ... بِبلاَها ناطقٌ لَسِنُ )
( دار سَوء لم يَدُمْ فَرَحٌ ... لامرىءٍ فيها ولا حَزَنُ )
( في سبيل الله أنفسُنا ... كلُّنا بالموت مُرتَهنُ )
( كلُّ نفسٍ عند مِيتَتِها ... حظُّها من مالها الكَفَنُ )
( إنّ مالَ المرء ليس له ... منه إلاّ ذكرُه الحسن )
فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني رجل من أهل البصرة أنسيت اسمه قال حدثني حمدون بن زيد قال حدثني رجاء بن مسلمة قال
قلت لسلم الخاسر من أشعر الناس فقال إن شئت أخبرتك بأشعر الجن والإنس
فقلت إنما أسالك عن الإنس فإن زدتني الجن فقد أحسنت
فقال أشعرهم الذي يقول
( سَكَنٌ يبقَى له سَكنُ ... ما بهذا يُؤذِن الزّمنُ )

قال والشعر لأبي العتاهية
حدثني اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا يحيى بن زياد الفراء قال
دخلت على جعفر بن يحيى فقال لي يا أبا زكريا ما تقول فيما أقول فقلت وما تقول أصلحك الله قال أزعم أن أبا العتاهية أشعر أهل هذا العصر
فقلت هو والله أشعرهم عندي
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني جعفر بن النضر الواسطي الضرير قال حدثني محمد بن شيرويه الأنماطي قال
قلت لداود بن زيد بن رزين الشاعر من أشعر أهل زمانه قال أبو نواس
قلت فما تقول في أبي العتاهية فقال أبو العتاهية أشعر الإنس والجن
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال قال الزبير بن بكار أخبرني إبراهيم بن المنذر عن الضحاك قال
قال عبد الله بن عبد العزيز العمري أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول
( ما ضَرّ مَنْ جَعل التُّرابَ مِهادَه ... ألاّ ينامَ على الحرير إذا قَنِعْ )
صدق والله وأحسن

حدثني الصولي قال حدثني محمد بن محمد بن موسى قال حدثني أحمد بن حرب قال حدثني المعلى بن عثمان قال
قيل لأبي العتاهية كيف تقول الشعر قال ما أردته قط إلا مثل لي فأقول ما أريد وأترك ما لا أريد
أخبرني ابن عمار قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني روح بن الفرج الحرمازي قال
جلست إلى أبي العتاهية فسمعته يقول لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرا لفعلت
حدثنا الصولي قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو عكرمة قال
قال محمد بن أبي العتاهية سئل أبي هل تعرف العروض فقال أنا أكبر من العروض
وله أوزان لا تدخل في العروض

شعره في الرشيد وهو مريض
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو عكرمة قال
حم الرشيد فصار أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها
( لو عَلِم النّاسُ كيف أنت لهم ... ماتوا إذا ما ألِمْتَ أجْمُعُهمْ )
( خليفةَ اللَّه أنت ترجَحُ بالنّاس ... إذا ما وُزِنتَ أنت وهُمْ )
( قد عَلِم النّاسُ أنّ وجهَك يَستَغْنِي ... إذا ما رآهُ مُعدِمُهمْ )
فأنشدها الفضل بن الربيع الرشيد فأمر بإحضار أبي العتاهية فما زال يسامره ويحدثه إلى أن برئ ووصل إليه بذلك السبب مال جليل

ابن الأعرابي يدافع عنه
قال وحدثت أن ابن الأعرابي حدث بهذا الحديث فقال له رجل بالمجلس ما هذا الشعر بمستحق لما قلت
قال ولم قال لأنه شعر ضعيف
فقال ابن الأعرابي وكان أحد الناس الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر ثم أنشد له
( قطَّعتُ منك حَبائلَ الآمال ... وحَطَطتُ عن ظَهْر المَطِيّ رِحالي )
( ووجدتُ بَرْد اليأس بين جَوانحي ... فأَرَحْتُ من حَلِّ ومن تَرْحال )
( يأَيها البَطِرُ الذي هو من غدٍ ... في قبره متمزِّقُ الأَوْصال )
( حذَف المُنَى عنه المُشَمِّرُ في الهُدى ... وأرى مُناك طَويلَةَ الأذيال )
( حِيَلُ ابن آدم في الأمور كثيرةٌ ... والموتُ يَقْطَعُ حيلةَ المُحتال )
( قِستُ السؤالَ فكان أعظمَ قيمةً ... من كلّ عارفةٍ جَرَتْ بسؤال )
( فإذا ابتُلِيتَ ببَذْلِ وجهك سائلاً ... فابذُلْه للمُتَكَرِّمِ المِفْضال )
( وإذا خَشِيتَ تَعَذُّراً في بلدةٍ ... فاشدُدْ يَديْك بعاجِل التَّرحال )
( واصْبِرْ على غَيِر الزَّمان فإِنَّما ... فَرَجُ الشّدائد مثلُ حَلّ عِقال )

ثم قال للرجل هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر فقال له الرجل يا أبا عبد الله جعلني الله فداءك إني لم أردد عليك ما قلت ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد
فقال أفليس الذي يقول في المديح
( وهارونُ ماءُ المُزْن يُشْفَى به الصَّدَى ... إذا ما الصَّدِي بالرِّيق غَصَّتْ حَنَاجِرُهْ )
( وأَوْسَطُ بيتٍ في قريش لبَيتُه ... وأوّلُ عِزٍّ في قريش وآخرُه )
( وزَحْفٍ له تَحكي البروقَ سيوفهُ ... وتَحكي الرعودَ القاصفاتِ حوافرُه )
( إذا حَمِيتْ شمسُ النَّهار تضاحكتْ ... إلى الشّمس فيه بَيْضُه ومَغَافره )
( إذا نُكِبَ الإِسلامُ يوماً بِنَكْبةٍ ... فهارونُ من بين البَرِيّة ثائرُه )
( ومَنْ ذا يفوت الموتَ والموتُ مُدرِكٌ ... كذا لم يَفُتْ هارونَ ضِدٌّ يُنافرهْ )
قال فتخلص الرجل من شر ابن الأعرابي بأن قال له القول كما قلت وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين وكتبهما عنه
حدثني محمد قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني ابن الأعرابي المنجم قال حدثني هارون بن سعدان بن الحارث مولى عباد قال

أبو نواس يفضله على نفسه
حضرت أبا نواس في مجلس وأنشد شعرا
فقال له من حضر في المجلس أنت أشعر الناس
قال أما والشيخ حي فلا
يعني أبا العتاهية
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الحسين ابن أبي السري قال
قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية

( إذا المرءُ لم يُعْتِقْ من المال نفسَه ... تَملّكه المالُ الذي هو مالِكُه )
( ألاَ إِنَّما مالي الذي أنا مُنفِقٌ ... وليس لِيَ المالُ الذي أنا تارِكُه )
( إذا كنتَ ذا مالٍ فبادِرْ به الذي ... يَحِقّ وإلاّ استهلَكتهْ مَهَالِكُهْ )
فقلت له من أين قضيت بهذا فقال من قول رسول الله إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت فقلت له أتؤمن بأن هذا قول رسول الله وأنه الحق قال نعم قلت فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس
فقلت وبم تزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحرص دائم الجمع شحيح على نفسك لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد فترك جواب كلامي كله ثم قال لي والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم
فلما قال لي هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام

أخبار عن بخله
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثني علي بن المهدي قال قال الجاحظ حدثني ثمامة قال
دخلت يوما إلى أبي العتاهية فإذا هو يأكل خبزا بلا شيء
فقلت كأنك رأيته يأكل خبزا وحده قال لا ولكني رأيته يتأدم بلا شيء
فقلت وكيف

ذلك فقال رأيت قدامه خبزا يابسا من رقاق فطير وقدحا فيه لبن حليب فكان يأخذ القطعة من الخبز فيغمسها من اللبن ويخرجها ولم تتعلق منه بقليل ولا كثير فقلت له كأنك اشتهيت أن تتأدم بلا شيء وما رأيت أحدا قبلك تأدم بلا شيء
قال الجاحظ وزعم لي بعض أصحابنا قال دخلت على أبي العتاهية في بعض المتنزهات وقد دعا عياشا صاحب الجسر وتهيأ له بطعام وقال لغلامه إذا وضعت قدامهم الغداء فقدم إلي ثريدة بخل وزيت
فدخلت عليه
وإذا هو يأكل منها أكل متكمش غير منكر لشيء
فدعاني فمددت يدي معه فإذا بثريدة بخل بزر بدلا من الزيت
فقلت له أتدري ما تأكل قال نعم ثريدة بخل وبزر
فقلت ما دعاك إلى هذا قال غلط الغلام بين دبة الزيت ودبة البزر فلما جاءني كرهت التجبر وقلت دهن كدهن فأكلت وما أنكرت شيئا
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني علي بن مهدي قال حدثنا عبد الله بن عطية الكوفي قال حدثنا محمد بن عيسى الخزيمي وكان جار أبي العتاهية قال
كان لأبي العتاهية جار يلتقط النوى ضعيف سيئ الحال متجمل عليه ثياب فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار فيقول أبو العتاهية اللهم أغنه عما هو بسبيله شيخ ضعيف سيئ الحال عليه ثياب متجمل اللهم أغنه إصنع له بارك فيه
فبقي على هذا إلى أن مات الشيخ نحوا من عشرين سنة
ووالله إن تصدق عليه بدرهم ولا دانق قط وما زاد على الدعاء شيئا
فقلت له يوما يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم أنه فقير مقل فلم لا تتصدق عليه بشيء فقال أخشى أن يعتاد الصدقة والصدقة أخر كسب العبد وإن في الدعاء لخيرا كثيرا

قال محمد بن عيسى الخزيمي هذا وكان لأبي العتاهية خادم أسود طويل كأنه محراك أتون وكان يجري عليه في كل يوم رغيفين
فجاءني الخادم يوما فقال لي والله ما أشبع
فقلت وكيف ذاك قال لأني ما أفتر من الكد وهو يجري علي رغيفين بغير إدام
فإن رأيت أن تكلمه حتى يزيدني رغيفا فتؤجر فوعدته بذلك
فلما جلست معه مر بنا الخادم فكرهت إعلامه أنه شكا إلي ذلك فقلت له يا أبا إسحاق كم تجري على هذا الخادم في كل يوم قال رغيفين
فقلت له لا يكفيانه
قال من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير وكل من أعطى نفسه شهوتها هلك وهذا خادم يدخل إلى حرمي وبناتي فإن لم أعوده القناعة والاقتصاد أهلكني وأهلك عيالي ومالي
فمات الخادم بعد ذلك فكفنه في إزار وفراش له خلق
فقلت له سبحان الله خادم قديم الحرمة طويل الخدمة واجب الحق تكفنه في خلق وإنما يكفيك له كفن بدينار فقال إنه يصير إلى البلى والحي أولى بالجديد من الميت
فقلت له يرحمك الله أبا إسحاق فلقد عودته الاقتصاد حيا وميتا
قال محمد بن عيسى هذا وقف عليه ذات يوم سائل من العيارين الظرفاء وجماعة من جيرانه حوله فسأله من بين الجيران فقال صنع الله لك فأعاد السؤال فأعاد عليه ثانية فأعاد عليه ثالثة فرد عليه مثل ذلك فغضب وقال له ألست القائل
( كلُّ حَيٍّ عند مِيتته ... حظُّه مِن ماله الكفنُ )
ثم قال فبالله عليك أتريد أن تعد مالك كله ثمن كفنك قال لا
قال فبالله كم قدرت لكفنك قال خمسة دنانير
قال فهي إذا حظك من مالك كله
قال نعم

قال فتصدق علي من غير حظك بدرهم واحد
قال لو تصدقت عليك لكان حظي
قال فاعمل على أن دينارا من الخمسة الدنانير وضيعة قيراط وادفع إلي قيراطا واحدا وإلا فواحدة أخرى
قال وما هي قال القبور تحفر بثلاثة دراهم فأعطني درهما وأقيم لك كفيلا بأني أحفر لك قبرك به متى مت وتربح درهمين لم يكونا في حسبابك فإن لم أحتفر رددته على ورثتك أو رده كفيلي عليهم
فخجل أبو العتاهية وقال اعزب لعنك الله وغضب عليك فضحك جميع من حضر
ومر السائل يضحك فالتفت إلينا أبو العتاهية فقال من أجل هذا وأمثاله حرمت الصدقة
فقلنا له ومن حرمها ومتى حرمت فما رأينا أحدا ادعى أن الصدقة حرمت قبله ولا بعده
قال محمد بن عيسى هذا وقلت لأبي العتاهية أتزكي مالك فقال والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي
فقلت سبحان الله إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين
فقال لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال
قال سليمان بن أبي شيخ قال إبراهيم بن أبي شيخ قلت لأبي العتاهية أي شعر قلته أحكم قال قولي
( عَلِمْتَ يا مُجاشِعُ بنَ مَسْعَدهْ ... أنّ الشّباب والفَراغَ والجِدَهْ )
( مَفْسَدةٌ للمرء أيُّ مَفْسدهْ ... )
أخبرني عيسى قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو غزية قال
كان مجاشع بن مسعدة أخو عمرو بن مسعدة صديقا لأبي العتاهية فكان يقوم بحوائجه كله ويخلص مودته فمات وعرضت لأبي العتاهية حاجة إلى أخيه

عمرو بن مسعدة فتباطأ فيها فكتب إليه أبو العتاهية
( غَنِيتَ عن العهد القديم غَنِيتَا ... وضَيَّعتَ وُدّاً بيننا ونَسِيتا )
( ومِن عَجَب الأيّام أن مات مَأْلَفي ... ومَن كُنتَ تَغْشاني به وبَقِيتَا )
فقال عمرو استطال أبو إسحاق أعمارنا وتوعدنا ما بعد هذا خير ثم قضى حاجته
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا أبو غزية قال
كان أبو العتاهية إذا قدم من المدينة يجلس إلي فأراد مرة الخروج من المدينة فودعني ثم قال
( إنْ نَعِشْ نجتمعْ وإلاّ فما أَشْغلَ ... مَنْ مات عن جميع الأنام )

شعره في غلام طالبه بدين
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني عبد الرحمن بن إسحاق العذري قال
كان لبعض التجار من أهل باب الطاق على أبي العتاهية ثمان ثياب أخذها منه
فمر به يوما فقال صاحب الدكان لغلام ممن يخدمه حسن الوجه أدرك أبا العتاهية فلا تفارقه حتى تأخذ منه مالنا عنده فأدركه على رأس الجسر فأخذ بعنان حماره ووقفه
فقال له ما حاجتك يا غلام قال أنا رسول فلان بعثني إليك لأخذ ماله عليك
فأمسك عنه أبو العتاهية وكان كل من مر فرأى الغلام متعلقا به وقف ينظر حتى رضي أبو العتاهية جمع الناس وحفلهم ثم أنشأ يقول

( واللهِ ربِّك إنّني ... لأُجِلُّ وجهَك عن فِعالكْ )
( لو كان فِعلُك مثلَ وجهِك ... كنتُ مُكْتفياً بذلكْ )
فخجل الغلام وأرسل عنان الحمار ورجع إلى صاحبه وقال بعثتني إلى شيطان جمع علي الناس وقال في الشعر حتى أخجلني فهربت منه
أخبرني أحمد بن العباس قال حدثنا العنزي قال قال إبراهيم بن إسحاق ابن إبراهيم التيمي حدثني إبراهيم بن حكيم قال
كان أبو العتاهية يختلف إلى عمرو بن مسعدة لود كان بينه وبين أخيه مجاشع
فاستأذن عليه يوما فحجب عنه فلزم منزله فاستبطأه عمرو فكتب إليه إن الكسل يمنعني من لقائك وكتب في أسفل رقعته
( كَسَّلنِي اليأسُ منك عنك فما ... أرفَع طَرْفي إليك من كَسَلِ )
( إنّي إذا لم يكن أخي ثِقة ... قطَّعتُ منه حبائلَ الأملِ )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال
استأذن أبو العتاهية على عمرو بن مسعدة فحجب عنه فكتب إليه
( ما لك قد حُلْتَ عن إخائك ... واستبدلت يا عمرُو شميبةً كَدِرهْ )
( إنّي إذا البابُ تاه حاجبُه ... لم يَكُ عندي في هَجْره نَظِرَهْ )
( لَسْتُمْ تُرَجَّوْنَ للحِساب ولا ... يومَ تكونُ السماءُ مُنفطِرهْ )

( لكنْ لدنيا كالظلّ بهجتُها ... سريعةُ الانقضاءِ مُنْشمِرَهْ )
( قد كان وجهي لديك معرفةً ... فاليومَ أضحى حَرْفاً من النَّكِرهْ )

قصيدته في هجو عبد الله بن معن
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو عكرمة قال
كان الرشيد إذا رأى عبد الله بن معن بن زائدة تمثل قول أبي العتاهية
( أختُ بني شَيْبان مرّت بنا ... مَمْشوطةً كُوراً على بَغْلِ )
وأول هذه الأبيات
( يا صاحِبَيْ رَحْلِيَ لا تُكْثِرا ... فِي شَتْم عبد الله من عَذْلِ )
( سبحانَ من خَصَّ ابنَ معنٍ بما ... أرى به من قِلَّة العَقْل )
( قال ابنُ مَعْنٍ وجَلا نفسَه ... على مَنِ الجَلْوةُ يا أهْلي )
( أنا فتاةُ الحيّ من وَائلٍ ... في الشَّرَف الشّامخ والنُّبْل )
( ما في بَني شَيبانَ أهلِ الحِجَا ... جاريةٌ واحدةٌ مثلي )
( وَيْلِي ويا لَهْفِي على أَمْرَدٍ ... يُلْصِق منّي القُرْط بالحَجْلِ )
( صافحتُه يوماً على خَلْوةٍ ... فقال دَعْ كفي وخُذْ رِجْلي )
( أختُ بني شيبانَ مرَّتْ بنا ... ممشوطةً كُوراً على بَغْلِ )
( تُكْنَى أبا الفضل ويَا مَن رأى ... جاريةً تُكْنَى أبا الفضل )

( قد نَقَّطتْ في وجهها نُقطةً ... مَخافةَ العين من الكُحْلِ )
( إن زُرتموها قال حُجَّابُها ... نحن عن الزُّوَّار في شُغْل )
( مولاتُنا مشغولةٌ عندها ... بَعْل ولا إذنَ على البَعْلِ )
( يا بنتَ مَعْنِ الخيرِ لا تجهَلِي ... وأين إقصارٌ عنِ الجهلِ )
( أتَجْلِدُ الناسَ وأنتَ امرؤٌ ... تُجْلَد في الدُّبْر وفي القُبْلِ )
( ما ينبغي للنّاس أن يَنسُبُوا ... مَنْ كان ذا جُودٍ إلى البُخلِ )
( يَبْذُلُ ما يمنع أهلُ الندى ... هذا لعَمْري مُنتهى البَذْلِ )
( ما قلتُ هذا فيك إلاّ وقد ... جَفّتْ به الأقلامُ من قَبْلي )
قال فبعث إليه عبد الله بن معن فأتي به فدعا بغلمان له ثم أمرهم أن يرتكبوا منه الفاحشة ففعلوا ذلك ثم أجلسه وقال له قد جزيتك على قولك في فهل لك في الصلح ومعه مركب وعشرة آلاف درهم أو تقيم على الحرب قال بل الصلح
قال فأسمعني ما تقوله في الصلح فقال
( ما لعُذّالي ومالي ... أمروني بالضّلال )
( عذَلوني في اغتِفاري ... لابن مَعْنٍ واحتمالي )
( إن يكن ما كان منه ... فبِجُرمي وفِعالي )
( أنا منه كنتُ أسوأ ... عِشْرةً في كلّ حال )
( قل لِمن يَعْجَب من حُسنِ ... رُجوعي ومَقالي )
( رُبَّ وُدٍّ بعد صَدٍّ ... وهوى بعد تَقَالي )
( قد رأينا ذا كثيراً ... جارياً بين الرّجال )
( إنما كانتْ يميني ... لَطَمَتْ منّي شِمَالي )

خبره مع سعدى مولاه ابن معن
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن موسى اليزيدي قال حدثنا أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية ومحمد بن سعد قالا
كان أبو العتاهية يهوى في حداثته امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن وجمال يقال لها سعدى وكان عبد الله بن معن بن زائدة المكني بأبي الفضل يهواها أيضا وكانت مولاة لهم ثم أتهمها أبو العتاهية بالنساء فقال فيها
( ألاَ يا ذَواتِ السَّحْق في الغربِ والشّرقِ ... أَفِقْن فإِنّ النَّيْك أَشْفَى من السَّحْقِ )
( أفِقن فإن الخبز بالأُدم يُشتَهى ... وليس يَسُوغُ الخبزُ بالخُبز في الحَلْق )
( أراكُنَّ تَرْقَعن الخُروقَ بمَثلها ... وأيّ لبيب يرقَع الخَرْقَ بالخَرق )
( وهل يصلُح المِهراسُ إلا بعُوده ... إذا احْتِيج منه ذاتَ يوم إلى الدَّقّ )
حدثني الصولي قال حدثني الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال
تهدد عبد الله بن معن أبا العتاهية وخوفه ونهاه أن يعرض لمولاته سعدى فقال أبو العتاهية
( ألاَ قُلْ لابن معنٍ ذا الذي ... في الوُدّ قد حالا )
( لقد بُلِّغتُ ما قال ... فما باليتُ ما قالا )
( ولو كان من الأُسْدِ ... لَمَا صَال ولا هالا )
( فصُغْ ما كنتَ حلَّيتَ ... به سَيْفَك خَلْخَالا )
( وما تصنع بالسيف ... إذا لم تَكُ قَتّالا )
( ولو مَدّ إلى أُذْنيه ... كَفَّيه لما نَالا )

( قَصيرُ الطُّولِ والطِّيلةِ ... لا شَبّ ولا طَالا )
( أرى قومَك أبطالا ... وقد أصبحتَ بطّالا )

هجاؤه معن وأخاه يزيد
حدثنا الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثني سليمان المدائني قال
احتال عبد الله بن معن على أبي العتاهية حتى أخذ في مكان فضربه مائة سوط ضربا ليس بالمبرح غيظا عليه وإنما لم يعنف في ضربه خوفا من كثرة من يعنى به فقال أبو العتاهية يهجوه
( جَلَدَتْني بكَفّها ... بنتُ معنِ بن زائدهْ )
( جَلدتني فأَوْجعتْ ... بأبي تِلك جَالدهْ )
( وتَراها مع الخَصِيّ ... على الباب قاعدهْ )
( تَتَكَنّى كُنَى الرجالِ ... بِعَمْدٍ مًكَايدهْ )
( جلدَتْني وبالغتْ ... مائةً غيرَ واحدهْ )
( إجْلديني واجْلِدي ... إنّما أنتِ والدهْ )
وقال أيضا
( ضربَتْني بكَفِّها بنتُ مَعْن ... أوْجَعتْ كفَّها وما أوجَعتنِي )
( ولَعَمْرِي لولا أذى كفِّها إذ ... ضَرَبَتْنِي بالسَّوط ما تَرَكَتْني )
قال الصولي حدثنا عون بن محمد ومحمد بن موسى قالا
لما اتصل هجاء أبي العتاهية بعبد الله بن معن وكثر غضب أخوه يزيد بن

معن من ذلك وتوعد أبا العتاهية فقال فيه قصيدته التي أولها
( بَنَى مَعْنٌ ويَهدِمُه يزيدُ ... كذاك اللهُ يفعل ما يُريدُ )
( فمَعْنٌ كان للحُسّاد غَمّا ... وهذا قد يُسرّ به الحسود )
( يزيدُ يزيدُ في مَنْعٍ وبخلٍ ... ويَنقُص في العطاء ولا يزيد )
حدثني الصولي قال حدثني جبلة بن محمد قال حدثني أبي قال
مضى بنو معن إلى مندل وحيان ابني علي العنزيين الفقيهين وهما من بني عمرو بن عامر بطن من يقدم بن عنزة وكان من سادات أهل الكوفة فقالوا لهما نحن بيت واحد وأهل ولا فرق بيننا وقد أتانا من مولاكم هذا ما لو أتانا من بعيد الولاء لوجب أن تردعاه
فأحضر أبا العتاهية ولم يكن يمكنه الخلاف عليهما فأصلح بينه وبين عبد الله ويزيد ابني معن وضمنا عنه خلوص النية وعنهما أن ألا يتبعاه بسوء وكان ممن لا يمكن خلافهما فرجحت الحال إلى المودة والصفاء
فجعل الناس يعذلون أبا العتاهية على ما فرط منه ولامه آخرون في صلحه لهما فقال
( ما لعُذّالي ومالي ... أَمَروني بالضَّلال )
وقد كتبت متقدمة
حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال
كان زائدة بن معن صديقا لأبي العتاهية ولم يعن إخوته عليه فمات فقال أبو العتاهية يرثيه
( حَزِنتُ لموت زائدةَ بن مَعْنٍ ... حقيقٌ أن يطولَ عليه حُزني )
( فَتَى الفتيانِ زائدةُ المُصَفَّى ... أبو العباس كان أخي وخِدْني )

( فتى قومٍ وأيُّ فتىً توارتْ ... به الأكفان تحتُ ثَرىً ولبْن )
( ألا يا قبر زائدةَ بن مَعْنٍ ... دعوتُك كي تُجيبَ فلم تُجبني )
( سَلِ الأيّامَ عن أركانِ قومي ... أصبن بهنّ رُكناً بعد ركن )
أخبرني الصولي قال حدثنا الحسن بن علي الرازي القارئ قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال
كنا عند ابن الأعرابي فذكروا قول ابن نوفل في عبد الملك بن عمير
( إذا ذاتُ دَلٍّ كلَّمتْه لحاجةٍ ... فَهَمَّ بأن يَقْضي تَنَحْنَحَ أو سَعَلْ )
وأن عبد الملك قال تركني والله وإن السعلة لتعرض لي في الخلاء فأذكر قوله فأهاب أن أسعل
قال فقلت لابن الأعرابي فهذا أبو العتاهية قال في عبد الله بن معن بن زائدة
( فصُغْ ما كنت حَلَّيتَ ... به سيفَك خَلْخَالاَ )
( وما تصنع بالسَّيفِ ... إذا لم تك قتَّالا )
فقال عبد الله بن معن ما لبست سيفي قط فرأيت إنسانا يلمحني إلا ظننت أنه يحفظ قول أبي العتاهية في فلذلك يتأملني فأخجل فقال ابن الأعرابي اعجبوا لعبد يهجو مولاه
قال وكان ابن الأعرابي مولى بني شيبان

ناظر مسلم بن الوليد في قول الشعر
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال

حدثني الحسين بن أبي السري قال
اجتمع أبو العتاهية ومسلم بن الوليد الأنصاري في بعض المجالس فجرى بينهما كلام فقال له مسلم والله لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك
( الحمدُ والنعمةُ لك ... والملكُ لا شريكَ لكْ )
( لبيك إنّ المُلْك لكْ ... )
لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت ولكني أقول
( مُوف على مهجٍ في يوم ذي رهجٍ ... كأنّه أجل يسعَى إلى أملِ )
( ينال بالرّفق ما يعْيا الرجالُ به ... كالموتِ مُستعجِلاً يأتي على مَهَل )
( يكسو السيوف نفوسَ الناكثين به ... ويجعلُ الهامَ تيجانَ القنا الذُّبُل )
( للهِ من هاشمٍ في أرضه جبل ... وأنت وابنُك رُكْنا ذلك الجبَلِ )
فقال له أبو العتاهية قل مثل قولي
( الحمدُ والنِّعمة لكْ ... )
أقل مثل قولك

( كأنّه أجلٌ يَسعى إلى أملِ ... )
بشار يستحسن اعتذاره
حدثني الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال
قال بشار لأبي العتاهية أنا والله أستحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول
( كم من صَديقٍ لي أُسارِقُه ... البُكاءَ من الحيَاء )
( فإذا تأمَّلَ لامني ... فأقول ما بي مِنْ بُكاء )
( لكن ذهبتُ لأرتدي ... فطَرفتُ عيني بالرِّداء )
فقال له أبو العتاهية لا والله يا أبا معاذ ما لذت إلا بمعناك ولا اجتنيت إلا من غرسك حيث تقول

صوت
( شكوتُ إلى الغواني ما أُلاقي ... وقلتُ لهنّ ما يَومي بِعيدُ )
( فقُلْنَ بكيتَ قلتُ لهنّ كلاّ ... وقد يَبْكي من الشَّوق الجَليدُ )
( ولكنّي أصابَ سَوادَ عيني ... عُوَيْدُ قَذىً له طَرَفٌ حديدُ )
( فقُلْنَ فما لدَمْعِهما سواءً ... أكِلْتا مُقْلَتَيْك أصابَ عُودُ )
لإبراهيم لموصلي في هذه الأبيات لحن من الثقيل الأول بالوسطى مطلق
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن هارون الأزرقي مولى بني هاشم عن ابن عائشة عن ابن لمحمد بن الفضل الهاشمي قال
جاء أبو العتاهية إلى أبي فتحدثا ساعة وجعل أبي يشكو إليه تخلف الصنعة وجفاء السلطان
فقال لي أبو العتاهية اكتب

( كلٌّ على الدّنيا له حِرْصُ ... والحادثاتُ أَنَاتُها غَفْصُ )
( وكأنّ من وَارَوْه في جَدَثٍ ... لم يبدُ منه لناظر شَخصُ )
( تَبْغِي من الدنيا زِيادتَها ... وزيادةُ الدنيا هي النَّقْصُ )
( لِيَدِ المنيةَ في تَلَطُّفها ... عن ذُخْر كلِّ شفيقةٍ فَحْصُ )

عفو الرشيد عنه بعد حبسه
حدثني عمرو قال حدثني علي بن محمد الهشامي عن جده ابن حمدون قال أخبرني مخارق قال
لما تنسك أبو العتاهية ولبس الصوف أمره الرشيد أن يقول شعرا في الغزل فامتنع فضربه الرشيد ستين عصا وحلف ألا يخرج من حبسه حتى يقول شعرا في الغزل
فلما رفعت المقارع عنه قال أبو العتاهية كل مملوك له حر وامرأته طالق إن تكلم سنة إلا بالقرآن أو بلا إله إلا الله محمد رسول الله فكأن الرشيد تحزن مما فعله فأمر أن يحبس في دار ويوسع عليه ولا يمنع من دخول من يريد إليه
قال مخارق وكانت الحال بينه وبين إبراهيم الموصلي لطيفة فكان يبعثني إليه في الأيام أتعرف خبره فإذا دخلت وجدت بين يديه ظهرا ودواة فيكتب إلي ما يريد وأكلمه فمكث هكذا سنة واتفق أن إبراهيم الموصلي صنع صوته
صوت
( أَعرَفْتَ دارَ الحيّ بالحِجْرِ ... فشدوريان فقُنّة الغَمْرِ )
( وهجرتَنا وألِفتَ رسْمَ بِلىً ... والرسمُ كان أحقَّ بالهَجْرِ )

لحن إبراهيم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى
وفيه لإسحاق رمل بالوسطى قال مخارق فقال لي إبراهيم اذهب إلى أبي العتاهية حتى تغنيه هذا الصوت
فأتيته في اليوم الذي انقضت فيه يمينه فغنيته إياه
فكتب إلي بعد أن غنيته هذا اليوم تنقضي فيه يميني فأحب أن تقيم عندي إلى الليل فأقمت عنده نهاري كله حتى إذا أذن الناس المغرب كلمني فقال يا مخارق قلت لبيك
قال قل لصاحبك يابن الزانية أما والله لقد أبقيت للناس فتنة إلى يوم القيامة فانظر أين أنت من الله غدا قال مخارق فكنت أول من أفطر على كلامه فقلت دعني من هذا هل قلت شيئا للتخلص من هذا الموضع فقال نعم قد قلت في امرأتي شعرا قلت هاته فأنشدني
صوت
( مَنْ لِقلبٍ مُتَيَّمٍ مُشتاقِ ... شَفّه شوقُه وطولُ الفراقِ )
( طالَ شوقي إلى قعيدةِ بيتي ... ليت شعري فهل لنا من تَلاقِي )
( هي حظّي قَدِ اقتصرتُ عليها ... من ذوات العُقود والأطواقِ )
( جَمَع اللَّهُ عاجلاً بِك شملي ... عن قريبٍ وفكَّني من وثَاقي )
قال فكتبتها وصرت بها إلى إبراهيم فصنع فيها لحنا ودخل بها على الرشيد فكان أول صوت غناه إياه في ذلك المجلس وسأله لمن الشعر والغناء فقال إبراهيم أما الغناء فلي وأما الشعر فلأسيرك أبي العتاهية
فقال أو قد فعل قال نعم قد كان ذلك
فدعا به ثم قال لمسرور الخادم كم ضربنا أبا العتاهية قال ستين عصا فأمر بستين ألف درهم وخلع عليه وأطلقه

نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثنا الحسين بن أبي السري قال

الفضل بن العباس يترضى يالرشيد له
قال لي الفضل بن العباس وجد الرشيد وهو بالرقة على أبي العتاهية وهو بمدينة السلام فكان أبو العتاهية يرجو أن يتكلم الفضل بن الربيع في أمره فأبطأ عليه بذلك فكتب إليه أبو العتاهية
( أَجَفَوْتَني فيمن جفاني ... وجعلتَ شأنَك غير شَاني )
( ولطالما أَمَّنْتني ... ممّا أَرى كلَّ الأَمان )
( حتّى إذا انقلب الزّمانُ ... عليَّ صرت مع الزمان )
فكلم الفضل فيه الرشيد فرضي عنه
وأرسل إليه الفضل يأمره بالشخوص
ويذكر له أن أمير المؤمنين قد رضي عنه فشخص إليه
فلما دخل إلى الفضل أنشده قوله فيه
( قد دعوناه نائياً فوجدناه ... على نَأْيه قريباً سميعَا )
فأدخله إلى الرشيد فرجع إلى حالته الأولى
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال
كان يزيد بن منصور خال المهدي يتعصب لأبي العتاهية لأنه كان يمدح اليمانية أخوال المهدي في شعره فمن ذلك قوله

صوت
( سقِيتَ الغيثَ يا قصرَ السّلامِ ... فنِعْم مَحَلّةُ الملكِ الهُمامِ )
( لقد نشرَ الإِلهُ عليك نُوراً ... وحفَّك بالملائكة الكِرام )
( سأشكُر نعمةَ المهديّ حتّى ... تدورَ عليّ دائرةُ الحِمام )
( له بيتانِ بيتٌ تُبَّعِيٌّ ... وبيتٌ حَلَّ بالبلد الحرام )
قال وكان أبو العتاهية طول حياة يزيد بن منصور يدعي أنه مولى لليمن وينتفي من عنزة فلما مات يزيد رجع إلى ولائه الأول
فحدثني الفضل بن العباس قال قلت له ألم تكن تزعم أن ولاءك لليمن قال ذلك شيء احتجنا إليه في ذلك الزمن وما في واحد ممن انتميت إليه خير ولكن الحق أحق أن يتبع
وكان ادعى ولاء اللخميين
قال وكان يزيد بن منصور من أكرم الناس وأحفظهم لحرمة وأرعاهم لعهد
وكان بارا بأبي العتاهية كثيرا فضله عليه وكان أبو العتاهية منه في منعة وحصن حصين مع كثرة ما يدفعه إليه ويمنعه من المكاره
فلما مات قال أبو العتاهية يرثيه
( أَنْعَى يزيدَ بن منصورٍ إلى البَشَرِ ... أَنْعَى يزيدَ لأهلِ البَدْوِ والحَضَرِ )
( يا ساكِنَ الحُفرة المهجورِ ساكنُها ... بعد المَقَاصر والأبواب والحُجَر )
( وجدتُ فَقْدَك في مالي وفي نَشَبي ... وجدتُ فقدك في شَعْري وفي بَشَري )
( فلستُ أَدْرِي جزاك اللَّه صالحةً ... أَمنظَري اليومَ أَسْوَا فيك أم خَبَري )
اجتماعه مع بشار عند المهدي
حدثنا ابن عمار قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن خلف قال حدثني أبي قال

حدثت أن المهدي جلس للشعراء يوما فأذن لهم وفيهم بشار وأشجع وكان أشجع يأخذ عن بشار ويعظمه وغير هذين وكان في القوم أبو العتاهية
قال أشجع فلما سمع بشار كلامه قال يا أخا سليم أهذا ذلك الكوفي الملقب قلت نعم
قال لا جزى الله خيرا من جمعنا معه
ثم قال له المهدي أنشد فقال ويحك أو يبدأ فيستنشد أيضا قبلنا فقلت قد ترى
فأنشد
( ألاَ ما لِسيّدتي ما لها ... أَدَلاًّ فأَحمِلَ إِدْلالَهَا )
( وإِلاّ ففِيم تَجنَّتْ وما ... جَنيتُ سَقَى اللَّهُ أطلالهَا )
( ألاَ إنّ جاريةً لِلإِمامِ ... قد أُسْكِن الحبُّ سِرْبالَها )
( مَشْتْ بين حُورٍ قصارِ الخُطَا ... تُجاذِب في المَشْي أكفالَها )
( وقد أَتعب اللهُ نفسي بها ... وأَتعب باللَّوْم عُذَّالَها )
قال أشجع فقال لي بشار ويحك يا أخا سليم ما أدري من أي أمريه أعجب أمن ضعف شعره أم من تشبيبه بجارية الخليفة يسمع ذلك بأذنه حتى أتى على قوله
( أتتْه الخلافةُ مُنقادةً ... إليه تُجَرِّرُ أذيالَها )
( ولم تك تصلُح إلاّ له ... ولم يك يصلُح إلاّ لها )
( ولو رامها أحدٌ غيرُه ... لَزُلزِلت الأرضُ زِلْزالَها )

( ولو لم تُطِعْه بناتُ القلوبِ ... لمَا قَبِل اللَّهُ أعمالَها )
( وإنّ الخليفةَ من بُغض لا ... إليه لَيُبغِضَ مَن قالَها )
قال أشجع فقال لي بشار وقد اهتز طربا ويحك يا أخا سليم أترى الخليفة لم يطر عن فرشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي

رمي بالزندقة
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني العباس بن ميمون قال حدثني رجاء بن سلمة قال
سمعت أبا العتاهية يقول قرأت البارحة ( عم يتساءلون ) ثم قلت قصيدة أحسن منها
قال وقد قيل إن منصور بن عمار شنع عليه بهذا
قال يحيى بن علي حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو عمر القرشي قال
لما قص منصور بن عمار على الناس مجلس البعوضة قال أبو العتاهية إنما سرق منصور هذا الكلام من رجل كوفي
فبلغ قوله منصورا فقال أبو العتاهية زنديق أما ترونه لا يذكر في شعره الجنة ولا النار وإنما يذكر الموت فقط فبلغ ذلك أبا العتاهية فقال فيه
( يا واعظَ الناس قد أصبحتَ مُتَّهَماً ... إذ عِبتَ منهم أُموراً أنت تأتيها )
( كالمُلْبِس الثوبِ من عُرْيٍ وعورتُه ... للناس باديةٌ ما إنْ يُواريها )
( فأعظمُ الإِثْمِ بعد الشِّرك نَعلَمُه ... في كُلّ نفسٍ عَماها عن مَساويها )
( عِرفانُها بعيوب الناس تُبصرها ... منهم ولا تُبصِر العيبَ الذي فيها )

فلم تمض إلا أيام يسيرة حتى مات منصور بن عمار فوقف أبو العتاهية على قبره وقال يغفر الله لك أبا السري ما كنت رميتني به
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن موسى قال أخبرني النسائي عن محمد بن أبي العتاهية قال
كانت لأبي العتاهية جارة تشرف عليه فرأته ليلة يقنت فروت عنه أنه يكلم القمر واتصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة فصار إلى منزلها وبات وأشرف على أبي العتاهية ورآه يصلي ولم يزل يرقبه حتى قنت وانصرف إلى مضجعه وانصرف حمدويه خاسئا

شعره الذي يدل على توحيده
حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن الرياشي قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال
جاءنا أبو العتاهية إلى منزلنا فقال زعم الناس أني زنديق والله ما ديني إلا التوحيد
فقلنا له فقل شيئا نتحدث به عنك فقال
( ألاَ إنّنا كلَّنا بائدُ ... وأيّ بني آدمٍ خالدُ )
( وبَدْؤُهُم كان من ربّهم ... وكلٌّ إلى ربّه عائدُ )
( فيا عجبا كيف يُعْصَى الإِلهُ ... أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ )
( وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلّ على أنه واحدُ )
أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال

تذاكروا يوما شعر أبي العتاهية بحضرة الجاحظ إلى أن جرى ذكر أرجوزته المزدوجة التي سماها ذات الأمثال فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله
( يا للشَّبابِ المَرِح التَّصابي ... روائحُ الجنَّة في الشَّبابِ )
فقال الجاحظ للمنشد قف ثم قال انظروا إلى قوله
( روائحُ الجنّة في الشَّباب ... )
فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل وإدامة التفكير
وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه
وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية ويقال إن له فيها أربعة آلاف مثل
منها قوله
( حَسْبُك ممّا تَبْتَغيه القوتُ ... ما أكثرَ القُوتَ لمن يموتُ )
( الفقرُ فيما جاوز الكفَافا ... مِن اتّقَى اللَّهَ رَجَا وخافا )
( هيَ المقاديرُ فلُمْنِي أو فَذَرْ ... إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القَدَرْ )
( لِكلِّ ما يُؤذِي وإن قَلَّ أَلَمْ ... ما أطولَ اللَّيلَ على من لم ينَم )
( ما انتفع المرءُ بمثلِ عَقْلِه ... وخيرُ ذُخْرِ المرءِ حُسْنُ فِعْلِهِ )
( إنّ الفساد ضِدَّهُ الصَّلاحُ ... ورُبّ جِدٍّ جَرّه المُزَاحُ )
( مَن جَعل النَّمَّامَ عَيناً هلَكا ... مُبْلِغُك الشرَّ كَباغيه لكَا )
( إنّ الشَّبابَ والفَراغ والجِدَة ... مَفْسَدةٌ للمرء أيُّ مَفْسَدةْ )
( يُغْنيك عن كلّ قبيحٍ تَرْكُهُ ... تَرتَهِن الرأيَ الأصيلَ شَكُّهُ )
( ما عَيشُ مَنْ آفتُه بقاؤُهُ ... نَغَّص عيشاً كلَّه فَناؤهُ )
( يا رُبَّ مَنْ أسخطنا بجَهْدِهِ ... قد سَرّنا اللَّهُ بغَير حَمْده )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45