كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

حج أبو نواس وحسين بن الضحاك فجمعهما الموسم فتناشدا قصيدتيهما قول أبي نواس
( دَعْ عنك لومي فإنّ اللّوم إغراءُ ... ودَاوِني بالتي كانت هي الداء ) وقصيدة حسين
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآء ... ) فتنازعها أيهما أشعر في قصيدته فقال أبو نواس هذا ابن مناذر حاضر الموسم وهو بيني وبينك فأنشده قصيدته حتى فرغ منها فقال ابن مناذر ما أحسب أن أحدا يجيء بمثل هذه وهم بتفضيله فقال له الحسين لا تعجل حتى تسمع فقال هات فأنشده قوله
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآءِ ... ومن صَبُوحك دَرَّ الإِبل والشاء ) حتى انتهى إلى قوله
( فُضّتْ خواتمُها في نعت واصفها ... عن مثل رَقْراقةٍ في عين مَرْهاء ) فقال له ابن مناذر حسبك قد استغنيت عن أن تزيد شيئا والله لو لم تقل في دهرك كله غير هذا البيت لفضلتك به على سائر من وصف الخمر قم فأنت أشعر وقصيدتك أفضل فحكم له وقام أبو نواس منكسرا
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال حدثني كثير بن إسماعيل التحتكار قال
( لمّا قدم المعتصم بغداد سأل عن ندماء صالح بن الرشيد وهم أبو

الواسع وقنينة وحسين بن الضحاك وحاتم الريش وأنا فأُدخلنا عليه فلشؤمي وشقائي كتبت بين عيني سيدي هب لي شيئا فلما رآني قال ما هذا على جبينك فقال حمدون بن إسماعيل يا سيدي تطايب بأن كتب على جبينه سيدي هب لي شيئا فلم يستطب لي ذلك ولا استملحه ودعا بأصحابي من غد ولم يدع بي ففزعت إلى حسين بن الضحاك فقال لي إني لم أحلل من أنسه بعد بالمحل الموجب أن أشفع إليه فيك ولكني أقول لك بيتين من شعر وادفعهما إلى حمدون بن إسماعيل يوصلهما فإن ذلك أبلغ فقلت أفعل فقال حسين
( قُلْ لدينا أصبحتْ تلعب بي ... سلَّط الله عليك الآخرهْ )
( إن أكن أبردَ من قِنِّينةٍ ... ومن الرِّيش فأُمّي فاجرهْ ) قال فأخذتهما وعرفت حمدون أنهما لي وسألته إيصالهما ففعل فضحك المعتصم وأمر لي بألفي دينار واستحضرني وألحقني بأصحابي
أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال قال لي أحمد بن حمدون كان محمد بن الحارث بن بسخنر لا يرى الصبوح ولا يؤثر على الغبوق شيئا ويحتج بأن من خدم الخلفاء كان اصطباحه استخفافا بالخدمة لأنه لا يأمن أن يدعى على غفلة والغبوق يؤمنه من ذلك وكان المعتصم يحب الصبوح فكان يلقب ابن بسخنر الغبوقي فإذا حضر مجلس

المعتصم مع المغنين منعه الصبوح وجمع له مثل ما يشرب نظراؤه فإذا كان الغبوق سقاه إياه جملة غيظا عليه فيضج من ذلك ويسأل أن يترك حتى يشرب مع الندماء إذا حضروا فيمنعه ذلك فقال فيه حسين بن الضحاك وفي حاتم الريش الضراط وكان من المضحكين
( حُبّ أبي جعفر للغَبُوق ... كقُبْحِك يا حاتمٌ مُقْبِلاَ )
( فلا ذاك يُعْذَر في فعله ... وحقُّك في الناس أن تُقتلا )
( وأشبه شيء بما اختاره ... ضُراطُك دونَ الخَلاَ في المَلاَ )
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال مزح أبو أحمد بن الرشيد مع حسين بن الضحاك مزاحا أغضبه فجاوبه حسين جوابا غضب منه أبو أحمد أيضا فمضى إليه حسين من غد فاعتذر إليه وتنصل وحلف فأظهر له قبولا لعذره ورأى ثقلا في طرفه وانقباضا عما كان يعهده منه فقال في ذلك
( لا تَعْجِبَنّ لمَلّةٍ صرَفتْ ... وجهَ الأمير فإنه بشرُ )
( وإذا نبا بك في سَريرته ... عَقْدُ الضمير نبا بك البصرُ )

يحكي للنشار صحبته للأمين
حدثني الصولي قال حدثني أبو محمد بن النشار قال كان أبي صديقا للحسين بن الضحاك وكان يعاشره فحملني معه يوما إليه وجعل أبي يحادثه إلى أن قال له يا أبا علي قد تأخرت أرزاقك وانقطعت موادك ونفقتك كثيرة فكيف يمشي أمرك فقال له بلى والله يا أخي ما قوام أمري إلا ببقايا هبات الأمين محمد بن زبيدة وذخائره وهبات جارية له لم يسمها أغنتني للأبد لشيء ظريف جرى على غير تعمد وذلك

أن الأمين دعاني يوما فقال لي يا حسين إن جليس الرجل عشيره وثقته وموضع سره وأمنه وإن جاريتي فلانة أحسن الناس وجها وغناء وهي مني بمحل نفسي وقد كدرت علي صفوها ونغصت علي النعمة فيها بعجبها بنفسها وتجنيها علي وإدلالها بما تعلم من حبي إياها وإني محضرها ومحضر صاحبة لها ليست منها في شيء لتغني معها فإذا غنت وأومأت لك إليها على أن أمرها أبين من أن يخفى عليك فلا تستحسن الغناء ولا تشرب عليه وإذا غنت الأخرى فاشرب واطرب واستحسن واشقق ثيابك وعلي مكان كل ثوب مائة ثوب فقلت السمع والطاعة فجلس في حجرة الخلوة وأحضرني وسقاني وخلع علي وغنت المحسنة وقد أخذ الشراب مني فما تمالكت أن استحسنت وطربت وشربت فأومأ إلي وقطب في وجهي ثم غنت الأخرى فجعلت أتكلف ما أقوله وأفعله
ثم غنت المحسنة ثانية فأتت بما لم أسمع مثله قط حسنا فما ملكت نفسي أن صحت وشربت وطربت وهو ينظر إلي ويعض شفتيه غيظا وقد زال عقلي فما أفكر فيه حتى فعلت ذلك مرارا وكلما ازداد شربي ذهب عقلي وزدت مما يكره فغضب فأمضني وأمر بجر رجلي من بين يديه وصرفي فجررت وصرفت فأمر بأن أحجب وجاءني الناس يتوجعون لي ويسألوني عن قصتي فأقول لهم حمل علي النبيذ فأسأت أدبي فقومني أمير المؤمنين بصرفي وعاقبني بمنعي من الوصول إليه ومضى لما أنا فيه شهر ثم جاءتني البشارة أنه قد رضي عني وأمر بإحضاري فحضرت وأنا خائف
فلما وصلت أعطاني الأمين يده فقبلتها وضحك إلي وقام وقال اتبعني ودخل إلى تلك الحجرة بعينها ولم يحضر غيري
وغنت المحسنة التي نالني من أجلها ما نالني فسكت فقال لي قل ما شئت ولا تخف فشربت واستحسنت ثم قال لي يا حسين لقد خار الله لك بخلافي وجرى القدر بما تحب فيه إن هذه الجارية عادت إلى الحال التي أُريد منها ورضيت كل أفعالها فأذكرتني بك وسألتني الرضا عنك والاختصاص لك وقد فعلت ووصلتك بعشرة آلاف دينار ووصلتك هي

بدون ذلك والله لو كنت فعلت ما قلت لك حتى تعود إلى مثل هذه الحال ثم تحقد ذلك عليك فتسألني ألا تصل إلي لأجبتها فدعوت له وشكرته وحمدت الله على توفيقه وزدت في الاستحسان والسرور إلى أن سكرت وانصرفت وقد حمل معي المال فما كان يمضي أسبوع إلا وصلاتها وألطافها تصل إلي من الجوهر والثياب والمال بغير علم الأمين وما جالسته مجلسا بعد ذلك إلا سألته أن يصلني فكل شيء أنفقته بعده إلى هذه الغاية فمن فضل مالها وما ذخرت من صلاتها قال ابن النشار فقال له أبي ما سمعت بأحسن من هذا الحديث ولا أعجب مما وفقه الله لك فيه
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال دخل حسين بن الضحاك على محمد الأمين بعقب وقعة أوقعها أهل بغداد بأصحاب طاهر فهزموهم وفضحوهم فهنأه بالظفر ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده
( أمينَ الله ثِقْ بالليهِ ... تُعْطَ العزَّ والنُّصْرهْ )
( كلِ الأمرَ إلى الله ... كَلاَكَ الله ذو القُدْرهْ )
( لنا النصرُ بإذن ألله والكَرّةُ لا الفَرّه )
( وللمُرَّاق أعداءك ... يومُ السَّوْء والدَّبْره )

( وكأسٌ تُورِد الموت ... كريهٌ طعمُها مُرّه )
( سَقَوْنا وسَقيناهم ... فكانت بهمُ الحَرّه )
( كذاك الحربُ أحياناً ... علينا ولنا مَرّه ) فأمر له بعشرة آلاف درهم ولم يزل يتبسم وهو ينشده

الأمين يركب ظهره
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال قال لي الحسين بن الضحاك شربنا يوما مع الأمين في بستان فسقانا على الريق وجد بنا في الشرب وتحرز من أن نذوق شيئا فاشتد الأمر علي وقمت لأبول فأعطيت خادما من الخدم ألف درهم على أن يجعل لي تحت شجرة أومأت إليها رقاقة فيها لحم فأخذ الألف وفعل ذلك ووثب محمد فقال من يكون منكم حماري فكل واحد منهم قال له أنا لأنه كان يركب الواحد منا عبثا ثم يصله ثم قال يا حسين أنت أضلع القوم فركبني وجعل يطوف وأنا أعدل به عن الشجرة وهو يمر بي إليها حتى صار تحتها فرأى الرقاقة فتطأطأ فأخذها فأكلها على ظهري وقال هذه جعلت لبعضكم ثم رجع إلى مجلسه وما وصلني بشيء فقلت لأصحابي أنا أشقى الناس ركب ظهري وذهب ألف درهم مني وفاتني ما يمسك رمقي ولم يصلني كعادتي ما أنا إلا كما قال الشاعر
( ومُطْعِم الصيدِ يومَ الصيد مَطْعَمَه ... أنَّى توجَّه والمحروم محروم )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي المبرد قال كان حسين بن الضحاك الأشقر وهو الخليع يهوى جارية لأُم

جعفر وكانت من أجمل الجواري وكان لها صدغان معقربان وكانت تخرج إليه إذا جاء فتقول له ما قلت فينا أنشدنا منه شيئا فيخرج إليها الصحيفة فتقول له اقرأ معي فيقرأ معها حتى تحفظه ثم تدخل وتأخذ الصحيفة فشكا ذلك إلى عاصم الغساني الذي كان يمدحه سلم الخاسر وكان مكينا عند أم جعفر وسأله أن يستوهبها له فاستوهبها فأبت عليه أم جعفر فوجه إلى الخليع بألف دينار وقال خذ هذا الألف فقد جهدت الجهد كله فيها فلم تمكني حيلة فقال الحسين في ذلك
( رَمَتْك غَدَاةَ السبت شمسٌ من الخُلْدِ ... بسهم الهوى عَمْداً وموتُك في العَمْدِ )
( مؤزَّرةُ السِّرْبال مهضومةُ الحَشَا ... غُلاَمِيّةُ التقطيع شاطرة القدّ )
( مُحَنَّأة الأطراف رُؤْدٌ شَبابُها ... مُعَقْرَبةُ الصُّدْغين كاذبة الوعدِ )
( أقول ونفسي بين شَوْقٍ وزَفْرةٍ ... وقد شخَصتْ عيني ودمعي على الخدّ )
( أجيزي على من قد تركتِ فؤادَه ... بلحظته بين التأسُّف والجهد )
( فقالت عذابٌ بالهوى مع قربكم ... وموتٌ إذا أقرحتُ قلبكَ بالبعد )
( لقد فَطَنت للجوْر فطنةَ عاصمٍ ... لصُنْع الأيادي الغُرّ في طلب الحمد )
( سأشكوكِ في الأشعار غيرَ مُقَصِّرٍ ... إلى عاصمٍ ذي المَكْرُمات وذي المجدِ )
( لعلّ فتى غَسّان يَجمع بيننا ... فيأمنَ قلبي منكُم رَوْعةَ الصَّدّ )
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق قال أقطع المعتصم الناس الدور بسر من رأى وأعطاهم النفقات لبنائها ولم يقطع الحسين بن الضحاك شيئاً فدخل عليه فأنشده قوله

( يا أمينَ الله لا خِطَّةَ لي ... ولقد أفردتَ صَحْبي بِخطَطْ )
( أنا في دَهْيَاءَ من مُظْلِمةٍ ... تحمِل الشيخَ على كلّ غلَط )
( صعبة المَسْلَك يرتاع لها ... كلُّ من أَصْعَد فيها وهَبطْ )
( بَوِّني منك كما بَوَّأتَهم ... عَرْصةً تبسُط طَرْفي ما انبسط )
( أبتنِي فيها لنفسي موطِناً ... ولعَقْبِي فَرَطاً بعد فَرَطْ )
( لم يَزل منكَ قريباً مسكني ... فأعِدْ لي عادَة القربِ فقطْ )
( كلُّ من قرّبتَه مُغْتَبِطٌ ... ولمن أبعدتَ خِزْيٌ وسَخَط ) قال فأقطعه دارا وأعطاه ألف دينار لنفقته عليها

مع أبي العتاهية
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي الفضل عن الحسين بن الضحاك قال كنت أمشي مع أبي العتاهية فمررت بمقبرة وفيها باكية تبكي بصوت شج على ابن لها فقال أبو العتاهية
( أَمَا تنفَكّ باكيةً بعين ... غَزِيرٌ دمعُها كَمِدٌ حشاها ) أجز يا حسين فقلت
( تُنادي حفرةً أعْيَتْ جوابا ... فقد وَلِهَتْ وصَمّ بها صَداها )
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني الحسين بن الضحاك قال

كنت عازما على أن أرثي الأمين بلساني كله وأشفي لوعتي فلقيني أبو العتاهية فقال لي يا حسين أنا إليك مائل ولك محب وقد علمت مكانك من الأمين وإنه لحقيق بأن ترثيه إلا أنك قد أطلقت لسانك من التلهف عليه والتوجع له بما صار هجاء لغيره وثلبا له وتحريضا عليه وهذا المأمون منصب إلى العراق قد أقبل عليك فأبق على نفسك يا ويحك أتجسر على أن تقول
( تركوا حريمَ أبيهمُ نَفَلاً ... والمُحْصَناتُ صوارخٌ هُتُفُ )
( هيهاتَ بعدَك أن يدومَ لهم ... عزٌّ وأن يبقى لهم شَرَفُ ) أكفف غرب لسانك واطو ما انتشر عنك وتلاف ما فرط منك فعلمت أنه قد نصحني فجزيته الخير وقطعت القول فنجوت برأيه وما كدت أن أنجو
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال وقف علينا حسين بن الضحاك ومعنا فتى جالس من أولاد الموالي جميل الوجه فحادثنا طويلا وجعل يقبل على الفتى بحديثه والفتى معرض عنه حتى طال ذلك ثم أقبل عليه الحسين فقال
( تَتِيه علينا أن رُزِقْتَ ملاحةً ... فمَهْلاً علينا بعضَ تِيهك يا بدرُ )
( لقد طالما كنّا مِلاَحاً وربما ... صَدَدْنا وتِهْنا ثم غيّرنا الدهر ) وقام فانصرف
أخبرني الحسن بن القاسم الكوفي قال حدثني ابن عجلان قال غنى بعض المغنين في مجلس محمد المخلوع بشعر حسين بن الضحاك وهو

صوت
( ألستَ تَرى دِيمةً تَهْطِلُ ... وهذا صباحُك مُسْتقبَلُ )
( وهذي العُقَار وقد راعنا ... بطلعته الشادنُ الأكحلُ )
( فعادَ به وبنا سكرةٌ ... تُهَوِّن مكروهَ ما نسأل )
( فإني رأيتُ له نظرةً ... تخبِّرنا أنه يفعل )
قال فأمر بإحضار حسين فأُحضر وقد كان محمد شرب أرطالا فلما مثل بين يديه أمر فسقي ثلاثة أرطال فلم يستوفها الحسين حتى غلبه السكر وقذف فأمر بحمله إلى منزله فحمل فلما أفاق كتب إليه
( إذا كنتُ في عُصَبةٍ ... من المَعْشر الأخْيبِ )
( ولم يَكُ لي مُسْعِدٌ ... نديمٌ سوى جُعْدُب )
( فأَشْرَبُ من رَمْلةٍ ... وأسهرُ من قُطْرُب )
( ولمّا حباني الزمان ... من حيث لم أحسبِ )
( ونادمتُ بدرَ السماء ... في فَلَك الكوكبِ )
( أبتْ لي غُضُوضيَّتي ... ولؤمٌ من المَنْصِب )
( فأسكرني مسرعاً ... قويٌّ من المَشْرب )

( كذا النذلُ يَنْبو به ... منادمةُ المُنْجب ) قال فرده إلى منادمته وأحسن جائزته وصلته
أخبرني الكوكبي قال حدثني علي بن محمد بن نصر عن خالد بن حمدون أن الحسين بن الضحاك أنشده وقد عاتبه خادم من خدام أبي أحمد بن الرشيد كان حسين يتعشقه ولامه في أن قال فيه شعرا وغنى فيه عمرو ابن بانة فقال حسين فيه
صوت
( فَدّيتُ من قال لي على خَفَرِهُ ... وغَضَّ جفناً له على حَوَرِهْ )
( سمَّع بي شعرُك المليح فما ... ينفكّ شادٍ به على وَتَرِه )
( فقلتُ يا مستعيرَ سالفةِ الْخِشفِ ... وحسنِ الفتور من نَظَره )
( لا تُنِكرنّ الحنينَ من طرِبٍ ... عاود فيك الصِّبا على كِبَرِه ) وغنى فيه عمرو بن بانة هزجا مطلقا

شعره على قبر أبي نواس
أخبرني الكوكبي قال حدثني أبو سهل بن نوبخت عن عمرو بن بانة قال لما مات أبو نواس كتب حسين بن الضحاك على قبره
( كابَرَنِيكَ الزمانُ يا حسنُ ... فخاب سَهْمي وأفلَح الزمنُ )
( ليتك إذ لم تكن بقيتَ لنا ... لم تَبْقَ روحٌ يَحُوطُها بدنُ )
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال كان في جوار الحسين بن الضحاك طبيب يدواي الجراحات يقال له نصير وكان مخنثا فإذا كانت وليمة دخل مع المخنثين وإذا لم تكن عالج الجراحات فقال فيه الحسين بن الضحاك

( نُصَيرُ ليس المُرْدُ من شأنه ... نصيرُ طَبٌّ بالنَّكارِيش )
( يقول للنِّكْرِيش في خَلوة ... مقالَ ذي لُطْف وتَجْميش )
( هل لك أن نلعبَ في فرشنا ... تقلُّبَ الطيرِ المَرَاعيِش ) يعني المبادلة فكان نصير بعد ذلك يصيح به الصبيان يا نصير نلعب تقلب الطير المراعيش فيشتمهم ويرميهم بالحجارة
حدثني جعفر قال حدثني علي بن يحيى عن حسين بن الضحاك قال أنشدت ابن مناذر قصيدتي التي أقول فيها
( لفقدك ريحانة العسكر ... ) وكانت من أول ما قلته من الشعر فأخذ رداءه ورمى به إلى السقف وتلقاه برجله وجعل يردد هذا البيت فقلنا لحسين أتراه فعل ذلك استحسانا لما قلت فقال لا فقلنا فإنما فعله طنزا بك فشتمه وشتمنا وكنا بعد ذلك نسأله إعادة هذا البيت فيرمي بالحجارة ويجدد شتم ابن مناذر بأقبح ما يقدر عليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال مررت بباب حسين بن الضحاك وإذا أبو يزيد السلولي وأبو حزرة الغنوي وهما ينتظران المحاربي وقد استؤذن لهم على ابن الضحاك فقلت

لهما لم لا تدخلان فقال أبو يزيد ننتظر اللؤم أن يجتمع فليس في الدنيا أعجب مما اجتمع منا الغنوي والسلولي ينتظران المحاربي ليدخلوا على باهلي
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني حسين بن الضحاك قال كان الواثق يميل إلى الفتح بن خاقان ويأنس به وهو يومئذ غلام وكان الفتح ذكيا جيد الطبع والفطنة فقال له المعتصم يوما وقد دخل على أبيه خاقان عرطوج يا فتح أيما أحسن داري أو دار أبيك فقال له وهو غير متوقف وهو صبي له سبع سنين أو نحوها دار أبي إذا كنت فيها فعجب منه وتبناه وكان الواثق له بهذه المنزلة وزاد المتوكل عليهما فاعتل الفتح في أيام الواثق علة صعبة ثم أفاق وعوفي فعزم الواثق على الصبوح فقال لي يا حسين اكتب بأبيات عني إلى الفتح تدعوه إلى الصبوح فكتبت إليه
( لمّا اصطبحتُ وعينُ اللهو ترمُقُني ... قد لاح لي باكراً في ثوب بِذْلَته )
( ناديتُ فتحاً وبَشَّرتُ المدامَ به ... لمّا تخلّص من مكروه عِلَّته )
( ذبُّ الفتى عن حريم الراح مَكْرُمةٌ ... إذا رآه امرؤٌ ضَدًّا لِنحْلتَه )
( فاعْجَلْ إلينا وعَجِّل بالسرور لنا ... وخالِس الدهر في أوقات غَفْلتِه ) فلما قرأها الفتح صار إليه فاصطبح معه

أخبرني عمي قال حدثني يعقوب بن نعيم وعبد الله بن أبي سعد قالا حدثنا محمد بن محمد الأنباري قال حدثني حسين بن الضحاك قال كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع وهو مصطبح وخادم له يسقيه فقال لي يا أبا علي قد استحسنت سقي هذا الخادم فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل فقلت
( أحيَتْ صَبُوحي فكاهةُ اللاهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي )
( فاستَثِر اللهوَ من مكامِنه ... من قبل يوم منغِّص ناهي )
( بابنةِ كَرْم من كفِّ مُنْتَطِقٍ ... مؤتَزِر بالمُجون تيّاه )
( يَسْقِيك من طَرْفه ومن يده ... سَقْيَ لطيفٍ مُجرِّب داهي )
( كأساً فكأساً كأن شاربَها ... حيرانُ بين الذَّكُور والساهي ) قال فاستحسنه عبد الله وغنى فيه لحنا مليحا وشربنا عليه بقية يومنا

أخباره مع يسر
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض عن أبيه قال اتفق حسين بن الضحاك ويسر مرة عند بعض إخوانهما وشربا وذلك في العشر الأواخر من شعبان فقال حسين ليسر يا سيدي قد هجم الصوم علينا فتفضل بمجلس نجتمع فيه قبل هجومه فوعده بذلك فقال له قد سكرت وأخشى أن يبدو لك فحلف له يسر أنه يفي فلما كان من الغد كتب إليه حسين وسأله الوفاء فجحد الوعد وأنكره فكتب إليه يقول
( تجاسرتَ على الغدر ... كعاداتك في الهجر )
( فأخلفتَ وما استخلفتَ ... من إخوانك الزُّهْرِ )
( لئن خِسْتَ لَمَا ذلكَ ... من فعلك بالنُّكْر )

( وما أقنعني فعلُك ... يا مختلِقَ العذر )
( بنفسي أنت إن سُؤْتَ ... فلا بدّ من الصبر )
( وإن جرّعني الغيظَ ... وإن خَشّن بالصدر )
( ولولا فَرَقي منك ... لسمَّيتُك في الشعر )
( وعنّفتُك لا آلُو ... وإن جُزْتُ مدى العُذْر )
( أمّا تخرج من إخلاف ... ميعادك في العَشْر )
( غداً يفطِمنا الصومُ ... عن الرّاح إلى الفِطْر )
قال فسألت الحسين بن الضحاك عما أثر له هذا الشعر وما كان الجواب فقال كان أحسن جواب وأجمل فعل كان اجتماعنا قبل الصوم في بستان لمولاه وتممنا سرورنا وقضينا أوطارنا إلى الليل وقلت في ذلك
( سقى اللهُ بطنَ الدَّيْرِ من مستَوى السَّفْح ... إلى ملتقَى النَّهرين فالأَثْل فالطَّلْحِ )
( مَلاعِبُ قُدْن القلبَ قَسْراً إلى الهوى ... ويَسَّرْنَ ما أمّلتُ من دَرَك النُّجْح )
( أَتنْسَى فلا أنسَى عتابَك بينها ... حبيبَك حتى انقاد عفواً إلى الصلح )
( سمحتُ لمن أَهْوَى بصفو مودّتي ... ولكنّ من أهواه صِيغ على الشُّحّ ) قال علي بن العباس وأنشدني سوادة بن الفيض عن أبيه لحسين بن الضحاك يصف أياما مضت له بالبصرة ويومه بالقفص ومجيء يسر إليه

يسر سأله أن يقول في ذلك شعرا
( تَيَسَّرِي للِّمام من أَمَمِ ... ولا تُرَاعِي حمامةَ الحَرَم )
( قد غاب لا آب من يُراقبنا ... ونام لا قام سامرُ الخَدَم )
( فاستصحبي مُسْعِداً يفاوضُنا ... إذا خَلَوْنا في كلِّ مُكْتَتَم )
( تَبَذّلي بِدْلةً تَقَرُّ بها العينُ ... ولا تَحصَري وتحتشمي )
( ليت نجومَ السماء راكدةٌ ... على دُجَى ليلِنا فلم تَرِمِ )
( ما لسروري بالشكِّ ممتزجاً ... حتى كأنّي أراه في حُلُم )
( فَرِحْتُ حتى أستخفَّني فرحي ... وشُبْتُ عين اليقين بالتُهَمِ )
( أمسحٍ عيني مُسْتَثبِتاً نظري ... أخالُني نائماً ولم أنَم )
( سَقْياً لليلٍ أفنيتُ مدّتَه ... ببارد الرِّيق طيّبِ النّسمَ )
( أبيضَ مُرْتَجَّةٍ روادفُه ... ما عِيب من قَرْنِه إلى القدم )
( إذ قَصَباتُ العريش تجمعنا ... حتى تجلّت أواخرُ الظُّلَم )
( وليلةٍ بتُّها محسَّدَةٍ ... محفوفةٍ بالظنون والتُّهَم )
( أَبَثَّ عَبْراته على غَصَصٍ ... يَرُدّ أنفاسَه إلى الكَظَمِ )
( سَقْياً لقَيْطُونها ومُخدَعِها ... كم من لِمام به ومن لَمَمِ )
( لا أكفُر السَّيْلَحين أزمِنةً ... مطيعةً بالنَّعيم والنِّعم )

( وليلة القُفْص إن سألتَ بها ... كانت شفاءً لعلّة السَّقَم )
( بات أنيسي صريعَ خمرتِه ... وتلك إحدى مصارع الكرم )
( وبتّ عن مَوْعِدٍ سبَقتُ به ... ألثَمِ دُرًّا مُفَلَّجاً بفَمِ )
( وابأبي من بدا بَرْوعةِ لا ... وعاد من بعدها إلى نَعَمِ )
( أباحني نفسَه ووسَّدني ... يُمْنَى يديه وبات مُلْتَزِمي )
( حتى إذا اهتاجت النواقسُ في ... سُحْرِة أَحْوَى أحَمّ كالحُمَم )
( وقلتُ هُبَّا يا صاحبيَّ ونَبَّهتُ ... أبَاناً فهَبَّ كالزَّلمَ )
( فاستنّها كالشّهاب ضاحكةً ... عن بارقٍ في الإِناء مُبْتَسِمِ )
( صفراءَ زيْتيّةً موشَّحةً ... بأُرْجوانٍ مُلَمَّع ضَرِمِ )
( أخذتُ ريحانةً أَرَاحُ لها ... دبَّ سروري بها دبيبَ دَمِي )
( فراجِعِ العذرَ إن بدا لك في العُذر ... وإن عُدْتَ لائماً فَلُمِ )
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض المخزومي قال حدثني المعتمر بن الوليد المخزومي قال قال لي الحسين بن الضحاك وهو على شراب له ويحكم أُحدثكم عن يسر بأعجوبة قلنا هات قال بلغ مولاه أنه جرى له مع أخيه سبب فحجبه كما تحجب النساء وأمر بالحجر عليه وأمره ألا يخرج عن داره إلا ومعه حافظ له موكل به فقلت في ذلك
( ظنّ من لا كان ظنَّا ... بحبيبي فحمَاهُ )
( أرْصَد البابَ رقِيبين ... له فاكتَنَفاهُ )
( فإذا ما اشتاق قربي ... ولقائي مَنَعاه )
( جعل الله رقيبيه ... من السوء فِداه )
( والذي أقرح في الشادن ... قلبي ولَواه )
( كلُّ مشتاق إليه ... فمن السوء فِداه )

( سيما من حالت الأحراس ... من دون مناه )
أخبرني علي بن العبّاس قال حدّثنا أحمد بن العباس الكاتب قال حدثني عبدالله بن زكريّا الضَّرير قال :
قال أبو نواس قال لي حسين بن الضحّاك يوماً يا أبا عليّ أمَا ترى غضبَ يُسْرٍ عليّ فقلت له وما كان سبب ذلك قال حالٌ أردتُها منه فَمَنَعنِيها فغضبتُ فأسألك أن تُصلح بيني وبينه فقلت وما تحبّ أن أُبْلِغه عنك قال تقول له
( بحُرْمه السكر وما كانا ... عزمْتَ ان تقتل إنسانا )
( أخاف أن تهجُرني صاحياً ... بعد سروري بك سكرانا )
( إنّ بقلبي روعةً كلما ... أضمر لي قلبُك هِجرانا )
( يا ليت ظنّي أبداً كاذبٌ ... فإنه يصدُق أحيانا )
قال فقلت له وَيْحَك أتجتنبه وتريد أن تترضّاه وترسل إليه بمثل هذه الرسالة فقال لي أنا أعْرَف به وهو كثير التبذّل فأبلغه ما سألتك فأبلغته فرضي عنه وأصلحتُ بينهما
حدثني جعفر بن قُدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال
جاءني يوماً حسين بن الضحّاك فقلت له أي شيء كان خبرُك أمسِ فقال لي اسمعه شعراً ولا أزيدك على ذلك وهو أحسن فقلت هات يا سيّدي فقال
( زائرةٌ زادت على غفلةٍ ... يا حبّذا الزَّورةُ والزائره )
( فلم أزلْ أخدَعُها ليلتي ... خديعةَ السّاحر للسّاحره )
( حتى إذا ما أذعَنَتْ بالرِّضا ... وأنعَمَتْ دارتْ بها الدائره )

( بتُّ إلى الصبح بها ساهراً ... وباتت الجوزاءُ بي ساهره )
( أفعل ما شئتُ بها ليلتي ... وملءُ عيني نعمةٌ ظاهره )
( فلم ننم إلاّ على تسعة ... من غُلْمة بي وبها ثائره )
( سَقْياً لها لا لأخي شِعْرةٍ ... شِعْرتُه كالشّعرة الوافِره )
( وبين رجليه له حَرْبةٌ ... مشهورةٌ في حَقْوه شاهره )
( وفي غَدٍ يتبعها لحيةٌ ... تُلحقه بالكَرَّة الخاسره ) قال فقلت له زنيت يعلم الله إن كنت صادقا فقال قل أنت ما شئت
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أبو العيناء قال دخل حسين بن الضحاك على الواثق في خلافة المعتصم في يوم طيب فحثه على الصبوح فلم ينشط له فقال اسمع ما قلت قال هات فأنشده
( اِسْتثِر اللهوَ من مكامنه ... من قبل يوم منغِّصٍ ناهِي )
( بابنة كرْم من كفّ مُنْتطِقٍ ... مُؤْتَزِرٍ بالمُجون تيّاه )
( يَسقيك من لحظه ومن يده ... سقيَ لطيفٍ مجرِّب داهِي )
( كأساً فكأساً كأنّ شاربها ... حيرانُ بين الذَّكور والسّاهي ) قال فنشط الواثق وقال إن فرصة العيش لحقيقة أن تنتهز واصطبح ووصل الحسين
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي قال حج الحسين بن الضحاك فمر في منصرفه عل موضع يعرف

بالقريتين فإذا جارية تطلع في ثيابها وتنظر في حرها ثم تضربه بيدها وتقول ما أضيعني وأضيعك فأنشأ يقول
( مررتُ بالقريتين مُنصرِفاً ... من حيث يقضي ذوو النُّهَى النُّسُكا )
( إذا فتاةٌ كأنها قمرٌ ... للِّتمّ لمّا توسَّط الفَلَكا )
( واضعةٌ كفَّها على حِرِها ... تقول يا ضَيْعتي وضَيْعَتكا ) قال فلما سمعت قوله ضحكت وغطت وجهها وقالت وافضيحتاه أوقد سمعت ما قلت
حدثني محمد الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال كان الحسين بن الضحاك صديقا لأبي وكنت ألقاه معه كثيرا وكانت نفسه قد تتبعت شفيعا بعد انصرافه من مجلس المتوكل فأنشدنا لنفسه فيه
( وأبيض في حُمْر الثياب كأنه
إذا ما بدا نِسْريَنةٌ في شقائق )
( سقاني بكفَّيْه رحيقاً وسامَني ... فسُوقاً بعينيه ولستُ بِفاسق )
( وأُقسم لولا خشيةُ الله وحدَه ... ومن لا أُسمِّي كنتُ أوّل عاشِق )
( وإنّي لمعذورٌ على وَجَناته ... وإن وسَمَتْني شيبةٌ في المفَارق )
( ولا عِشْقَ لي أو يُحْدِثَ الدهرُ شِرّةً ... تعود بعادات الشباب المُفارِق )
( ولو كنتُ شكلاً للصِّبا لاتّبعتُه ... ولكن سنّي بالصِّبا غيرُ لائقِ )
حدثني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال

كان للحسين بن الضحاك ابن يسمى محمدا له أرزاق فمات فقطعت أرزاقه فقال يخاطب المتوكل ويسأله أن يجعل أرزاق ابنه المتوفى لزوجته وأولاده
( إنّي أتيتُك شافعاً ... بوليِّ عهد المسلمينا )
( وشبيهِك المعتزّ أوجهِ ... شافع في العالَمينا )
( يابن الخَلائف الأوّلين ... ويا أبا المتأخِّرينا )
( إنّ ابن عبدك مات والأيامُ ... تختَرِم القَرينا )
( ومضى وخلَّف صبيةً ... بِعرَاصِه مُتَلَدِّدينا )
( ومُهَيْرةً عَبْرَى خِلاَفَ ... أقاربٍ مُسْتَعْبِرينا )
( أصبحنَ في رَيب الحوادث ... يُحسنون بك الظُّنونا )
( قطَع الوُلاةُ جِرايةً ... كانوا بها مُسْتَمْسِكينا )
( فامنُنْ بردّ جميع ما ... قطعوه غيرَ مراقِبينا )
( أعطاك أفضل ما تؤمِّل ... أفضلُ المتفضِّلينا ) قال فأمر المتوكل له بما سٍأل فقال يشكره
( يا خيرَ مُسْتَخلَفٍ من آل عبَاسِ ... اِسْلَمْ وليس على الأيّام من باس )
( أحييْتَ من أملي نِضْواً تَعاوَرَه ... تَعاقُبُ اليأس حتى مات بالياس )

مغنية تهرب من هجائه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال كنا في مجلس ومعنا حسين بن الضحاك ونحن على نبيذ فعبث بالمغنية وجمشها فصاحت عليه واستخفت به فأنشأ يقول
( لها في وجهِها عُكَنُ ... وثُلْثَا وجهها ذَقَنُ )

( وأسنانٌ كرِيشِ البَطّ ... بين أصولها عَفَنُ )
قال فضحكا وبكت المغنية حتى قلت قد عميت وما انتفعنا بها بقية يومنا وشاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما وكانت إذا حضرت في موضع أنشدوا البيتين فتجن ثم هربت من سر من رأى فما عرفنا لها بعد ذلك خبرا
قال جعفر وحدثنا أبو العيناء أنه حضر هذا المجلس وحكى مثل ما حكاه محمد
حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال سألت حسين بن الضحاك ونحن في مجلس المتوكل عن سنه فقال لست أحفظ السنة التي ولدت فيها بعينها ولكني أذكر وأنا بالبصرة موت شعبة بن الحجاج سنة ستين ومائة
حدثني الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي يعني أحمد بن حمدون قال أمر المتوكل أن ينادمه حسين بن الضحاك ويلازمه فلم يطق ذلك لكبر سنه فقال للمتوكل بعض من حضر عنده هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير والسكر فيها ويعجز عن خدمتك فبلغه ذلك فدفع إلي أبياتاً قالها وسألني إيصالها فأوصلتها إلى المتوكل وهي
( أمَا في ثمانين وفّيتُها ... عَذِيرٌ وإن أنا لم أعْتَذرْ )
( فكيف وقد جُزتُها صاعداً ... مع الصّاعدين بتِسْع أُخَر )

( وقد رفع الله أقلامَه ... عن ابن ثمانين دون البشر )
( سوى من أصرّ على فتنةٍ ... وألْحَد في دينه أو كفر )
( وإنّي لمن أُسَراء الإِله ... في الأرض نُصْبَ صروفِ القدر )
( فإن يَقْضِ لي عملاً صالحاً ... أثاب وإن يَقضِ شرًّا غَفَر )
( فلا تَلْحَ في كِبَرٍ هدّني ... فلا ذنبَ لي أنْ بَلَغتُ الكِبَرْ )
( هو الشيبُ حلّ بعَقْب الشباب ... فأعقبني خَوَراً من أَشَرْ )
( وقد بسَط اللهُ لي عذرَه ... فمن ذا يلوم إذا عذَر )
( وإنّي لَفِي كَنَفٍ مُغْدِقٍ ... وعزٍّ بنصر أبي المنتَصِرْ )
( يُباري الرياحَ بفضل السماح ... حتى تَبَلَّدَ أو تَنْحسِر )
( له أكّد الوحيُ ميراثَه ... ومن ذا يُخالف وَحْيَ السُّوَر )
( وما للحسود وأشياعِه ... ومَنْ كذَّب الحقَّ إلا الحَجَرْ )
قال ابن حمدون فلما أوصلتها شيعتها بكلامي أعذره وقلت لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها فقال المتوكل صدقت خذ له عشرين ألف درهم واحملها إليه فأخذتها فحملتها إليه

الخلفاء يضربونه
حدثني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي عن حسين بن الضحاك قال ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي ولده ثم ضربني الأمين لممايلة ابنه عبد الله ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد ثم ضربني المعتصم لمودة كانت بيني وبين العباس بن المأمون ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل وكل ذلك يجري مجرى الولع بي والتحذير لي ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعا بالولع بي فتغاضب المتوكل علي فقلت له يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر

ضرب ضربته بسببك فضحك وقال بل أُحسن إليك يا حسين وأصونك وأُكرمك
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني محمد بن محمد بن مروان الأبزاري قال دخلت على حسين بن الضحاك فقلت له كيف أنت جعلني الله فداءك فبكى ثم أنشأ يقول
( أصبحتُ من أُسَراء الله مُحتَسَباً ... في الأرض نحو قضاء الله والقَدَر )
( إنّ الثمانين إذ وفّيْتُ عِدّتها ... لم تُبْقِ باقيةً منّي ولم تَذَرِ )

أخبار أبي زكار الأعمى
قال أبو الفرج أبو زكار هذا رجل من أهل بغداد من قدماء المغنين وكان منقطعا إلى آل برمك وكانوا يؤثرونه ويفضلون عليه إفضالا
فحدثني محمد بن جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال سمعت مسرورا يحدث أبي قال لما أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى دخلت عليه وعنده أبو زكار الأعمى وهو يغنيه بصوت لم أسمع بمثله
( فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يَطرُق أو يُغادي )
( وكلّ ذخيرةٍ لا بدّ يوماً ... وإن بَقِيَتْ تَصير إلى نَفاد )
( ولو يُفْدَى من الحدثان شيءٌ ... فديتُك بالطَّريف وبالتِّلاد ) فقلت له في هذا والله أتيتك فأخذت بيده فأقمته وأمرت بضرب عنقه فقال لي أبو زكار نشدتك الله إلا ألحقتني به فقلت وما رغبتك في ذلك قال إنه أغناني عمن سواه بإحسانه فما أُحب أن أبقى بعده فقلت

أستأمر أمير المؤمنين في ذلك فلما أتيت الرشيد برأس جعفر أخبرته بقصة أبي زكار فقال لي هذا رجل فيه مصطنع فاضممه إليك وانظر ما كان يجريه عليه فأتممه له
حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال غنى علويه يوما بحضرة أبي فقال أبي مه هذا الصوت معرق في العمى الشعر لبشار الأعمى والغناء لأبي زكار الأعمى وأول الصوت عميت أمري

صوت
من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه
( ما جَرَتْ خَطْرةٌ على القلب منّي ... فيكِ إلا استَتَرْتُ عن أصحابي )
( من دموع تجري فإن كنتُ وحدي ... خالياً أسعدتْ دموعي انتحابي )
( إن حبّي إيّاكِ قد سَلّ جسمي ... ورماني بالشيب قبل الشباب )
( لو مَنَحْتِ اللقا شَفى بك صبًّا ... هائمَ القلب قد ثَوى في التراب )
الشعر في الأبيات للسيد الحميري والغناء لمحمد نعجة الكوفي مغن غير مشهور ولا ممن خدم الخلفاء وليس له خبر ولحنه المختار ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وذكر حبش أن لمحمد نعجة فيه أيضا خفيف رمل بالبنصر

أخبار السيد الحميري
السيد لقبه واسمه إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري ويكنى أبا هاشم وأمه امرأة من الأزد ثم من بني الحدان وجده يزيد بن ربيعة شاعر مشهور وهو الذي هجا زيادا وبنيه ونفاهم عن آل حرب وحبسه عبيد الله بن زياد لذلك وعذبه ثم أطلقه معاوية وخبره في هذا طويل يذكر في موضعه مع سائر أخباره إذ كان الغرض ها هنا ذكر أخبار السيد
ووجدت في بعض الكتب عن إسحاق بن محمد النخعي قال

سمعت ابن عائشة والقحذمي يقولان هو يزيد بن مفرغ ومن قال إنه يزيد ابن معاوية فقد أخطأ
ومفرغ لقب ربيعة لأنه راهن أن يشرب عسا من لبن فشربه حتى فرغه فلقب مفرغا وكان شعابا بسيالة ثم صار إلى البصرة
وكان شاعرا متقدما مطبوعا يقال إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ثلاثة بشار وأبو العتاهية والسيد فإنه لا يعلم أن أحدا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع
وإنما مات ذكره وهجر الناس شعره لما كان يفرط فيه من سب أصحاب رسول الله في شعره ويستعمله من قذفهم والطعن عليهم فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره لذلك وهجره الناس تخوفا وتراقبا وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق فيه أو يقاربه ولا يعرف له من الشعر كثير وليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذم غيرهم ممن هو عنده ضد لهم ولولا أن أخباره كلها تجري هذا المجرى ولا تخرج عنه لوجب ألا نذكر منها شيئا ولكنا شرطنا أن نأتي بأخبار من نذكره من الشعراء فلم نجد بدا من ذكر أسلم ما وجدناه له وأخلاها من سيء اختياره على قلة ذلك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد ألنوفلي عن إسماعيل بن الساحر راوية السيد قال ابن عمار وحدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه أن أبوي السيد كانا إباضيين وكان منزلهما بالبصرة في غرفة بني

ضبة وكان السيد يقول طالما سب أمير المؤمنين في هذه الغرفة فإذا سئل عن التشيع من أين وقع له قال غاصت علي الرحمة غوصا
وروي عن السيد أن أبويه لما علما بمذهبه هما بقتله فأتى عقبة بن سلم الهنائي فأخبره بذلك فأجاره وبوأه منزلا وهبه له فكان فيه حتى ماتا فورثهما

على مذهب الكيسانية
وقد أخبرني الحسن بن علي البري عن محمد بن عامر عن القاسم بن الربيع عن أبي داود سليمان بن سفيان المعروف بالحنزق راوية السيد الحميري قال ما مضى والله إلا على مذهب الكيسانية وهذه القصائد التي يقولها الناس مثل
( تجعفرتُ باسم الله واللهُ أكبرُ ... ) و
( تجعفرت باسم الله فيمن تجعفرا ... ) وقوله
( أيا راكباً نحو المدينة جَسْرةً ... عُذَافِرةً تهوِي بها كلَّ سَبْسَبِ )
( إذا ما هداك اللهُ لاقيتَ جعفراً ... فقل يا أمين الله وابنَ المهذَّبِ ) لغلام للسيد يقال له قاسم الخياط قالها ونحلها للسيد وجازت على

كثير من الناس ممن لم يعرف خبرها بمحل قاسم منه وخدمته إياه

بعض أوصافه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبو جعفر الأعرج ابن بنت الفضيل بن بشار قال كان السيد أسمر تام القامة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ جميل الخطاب إذا تحدث في مجلس قوم أعطى كل رجل في المجلس نصيبه من حديثه
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن عباد عن أبي عمرو الشيباني عن لبطة بن الفرزدق قال تذاكرنا الشعراء عند أبي فقال إن ها هنا لرجلين لو أخذا في معنى الناس لما كنا معهما في شيء فسألناه من هما فقال السيد الحميري وعمران بن حطان السدوسي ولكن الله عز و جل قد شغل كل واحد منهما بالقول في مذهبه
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبو جعفر ابن بنت الفضيل بن بشار قال

كان السيد أسمر تام الخلقة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ وكان مع ذلك أنتن الناس إبطين لا يقدر أحد على الجلوس معه لنتن رائحتهما
قال حدثني التوزي قال رأى الأصمعي جزءا فيه من شعر السيد فقال لمن هذا فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه فأقسم علي أن أُخبره فأخبرته فقال أنشدني قصيدة منه فأنشدته قصيدة ثم أخرى وهو يستزيدني ثم قال قبحه الله ما أسلكه لطريق الفحول لولا مذهبه ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحدا من طبقته
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت أبا عبيدة يقول أشعر المحدثين السيد الحميري وبشار
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن أبي شراعة القيسي عن مسعود بن بشر إن جماعة تذاكروا أمر السيد وأنه رجع عن مذهبه في ابن الحنفية وقال بإمامة جعفر بن محمد فقال ابن الساحر راويته والله ما رجع عن ذلك ولا القصائد الجعفريات إلا منحولة له قيلت بعده وآخر عهدي به قبل

موته بثلاث وقد سمع رجلا يروي عن النبي قال لعلي عليه السلام ( إنه سيولد لك بعدي ولد وقد نحلته اسمي وكنيتي ) فقال في ذلك وهي آخر قصيدة قالها
( أشاقَتْك المنازلُ بعد هند ... وتِرْبيها وذات الدَّلّ دَعْدِ )
( منازل أقفرتْ منهنّ مَحّتْ ... معالمُهن من سَبَلٍ ورَعْد )
( وريحٍ حَرْجَفٍ تَسْتَنُّ فيها ... بسافِي التُّرْب تُلْحِم ما تُسَدِّي )
( ألم يَبْلُغك والأنباءُ تَنْمِي ... مقالُ محمدٍ فيما يؤدِّي )
( إلى ذي علمه الهادي عليّ ... وخَوْلةُ خادمٌ في البيت تَرْدِي )
( ألم تر أنّ خولةَ سوف تأتي ... بوارِي الزَّند صافي الخِيم نَجْد )
( يفوز بكنيتي واسمي لأنّي ... نَحَلْتُهُماهُ والمهديّ بعدي )
( يُغَيَّب عنهمُ حتى يقولوا ... تضمَّنه بطَيْبة بطنُ لَحْد )
( سنينَ وأشهراً ويُرى بَرضْوَى ... بشِعْب بين أَنْمار وأُسْد )
( مقيم بين آرامٍ وعِينٍ ... وحَفَّانٍ تروح خِلالَ رُبْد )
( تُراعِيها السِّباع وليس منها ... ملاقيهنّ مفترساً بحَدّ )
( أمِنّ به الرَّدَى فرتَعْن طوراً ... بلا خوف لدى مَرْعىً ووِرْد )
( حلَفْتُ بربّ مكة والمُصَلَّى ... وبيتٍ طاهر الأركان فَرْد )
( يطوف به الحَجيجُ وكلَّ عامٍ ... يَحُلّ لديه وفدٌ بعد وفدِ )
( لقد كان ابن خَوْلة غيرَ شكً ... صَفاءَ ولايتي وخُلُوصَ وُدِّي )
( فما أحدٌ أحبّ إليّ فيما ... أسِرّ وما أبوح به وأُبدي )
( سوى ذي الوحي أحمد أو عليٍّ ... ولا أزكى وأطيب منه عندي )

( ومن ذا يابنَ خولة إذ رمتني ... بأسْهُمها المنيّةُ حين وعدي )
( يُذَيِّبُ عنكُم ويَسُدّ مما ... تَثَلَّم من حصونكم كسَدِّي )
( وما لي أن أَمُرَّ به ولكن ... أؤمِّل أن يؤخِّر يومُ فقدي )
( فأُدرك دولةً لك لستَ فيها ... بجبَّار فتُوصَفَ بالتَّعدّي )
( على قوم بَغَوْا فيكم علينا ... لتُعْدِي منكم يا خير مُعْدِ )
( لِتَعْلُ بنا عليهم حيث كانوا ... بغَوْرٍ من تِهامة أو بنجد )
( إذا ما سِرتَ من بلد حرامٍ ... إلى من بالمدينة من مَعَدّ )
( وماذا غرّهم والخيرُ منهم ... بأشْوَسَ أعْصَلِ الأنيابِ وَرْد )
( وأنت لمن بغى وعَداً وأذكى ... عليك الحربَ واسترداك مُرْدِ )
في البيتين الأولين من هذه القصيدة غناء نسبته

صوت
( أشاقتك المنازلُ بعد هندِ ... وتِرْبَيْها وذاتِ الدَّلّ دعد )
( منازلُ أقفرت منهنّ مَحَّتْ ... معالمُهن من سَبَل ورعد )
عروضه من الوافر الشعر للسيد الحميري والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن يحيى المكي وذكر الهشامي أنه لكردم وذكر عمرو بن بانة أن اللحن لمالك ثقيل أول بالوسطى
وقال إسماعيل بن الساحر راوية السيد كنت عنده يوما في جناح له فأجال بصره فيه ثم قال يا إسماعيل طال والله ما شتم أمير المؤمنين علي

في هذا الجناح قلت ومن كان يفعل قال أبواي وكان يذهب مذهب الكيسانية ويقول بإمامة محمد بن الحنفية وله في ذلك شعر كثير وقد روى بعض من لم تصح روايته أنه رجع عن مذهبه وقال بمذهب الإمامية وله في ذلك
( تجعفرتُ باسم الله واللهُ أكبر ... وأيقنتُ أن الله يعفو ويغفِر ) وما وجدنا ذلك في رواية محصل ولا شعره أيضا من هذا الجنس ولا في هذا المذهب لأن هذا شعر ضعيف يتبين التوليد فيه وشعره في قصائده الكيسانية مباين لهذا جزالة ومتانة وله رونق ومعنى ليسا لما يذكر عنه في غيره

الأصمعي يمدح شعره ويذم مذهبه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الثمالي قال حدثني التوزي قال قال لي الأصمعي أُحب أن تأتيني بشيء من شعر هذا الحميري فعل الله به وفعل فأتيته بشيء منه فقرأه فقال قاتله الله ما أطبعه وأسلكه لسبيل الشعراء والله لولا ما في شعره من سب السلف لما تقدمه من طبقته أحد
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنى يوما وعنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتابا فلما رآني أطبقه فقال له أبو عبيدة إن أبا زيد ليس ممن يحتشم منه فأقرأ فأخذ الكتاب وجعل يقرأه فإذا هو شعر السيد فجعل أبو عبيدة يعجب منه ويستحسنه قال أبو زيد وكان أبو عبيدة يرويه قال وسمعت

محمد بن أبي بكر المقدمي يقول سمعت جعفر بن سليمان الضبعي ينشد شعر السيد
أخبرني ابن دريد قال سئل أبو عبيدة من أشعر المولدين قال السيد وبشار
وقال الموصلي حدثني عمي قال جمعت للسيد في بني هاشم ألفين وثلثمائة قصيدة فخلت أن قد استوعبت شعره حتى جلس إلي يوما رجل ذو أطمار رثة فسمعني أُنشد شيئا من شعره فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي فقلت في نفسي لو كان هذا يعلم ما عندي كله ثم أنشدني بعده ما ليس عندي لكان عجيبا فكيف وهو لا يعلم وإنما أنشد ما حضره وعرفت حينئذ أن شعره ليس مما يدرك ولا يمكن جمعه كله

رأي بشار بالسيد الحميري
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن ابن عائشة قال وقف السيد على بشار وهو ينشد الشعر فأقبل عليه وقال
( أيّها المادحُ العبادَ ليُعْطَى ... إنّ لله ما بأيدي العبادِ )
( فاسأل الله ما طلبتَ إليهم ... وارْجُ نفعَ المُنَزَّل العَوَّاد )
( لا تَقُلْ في الجَواد ما ليس فيه ... وتُسَمِّي البخيلَ باسم الجَواد ) قال بشار من هذا فعرفه فقال لولا أن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم لشغلنا ولو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا وروي في هذا الخبر أن

عمران بن حطان الشاري خاطب الفرزدق بهذه المخاطبة وأجابه بهذا الجواب
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد السكري عن الطوسي قال إذا رأيت في شعر السيد دع ذا فدعه فإنه لا يأتي بعده إلا سب السلف أو بلية من بلاياه
وروى الحسن بن علي بن المعتز الكوفي عن أبيه عن السيد قال رأيت النبي النوم وكأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال وإلى جانبها أرض كأنها الكافور ليس فيها شيء فقال أتدري لمن هذا النخل قلت لا يا رسول الله قال لامرىء القيس بن حجر فاقلعها واغرسها في هذه الأرض ففعلت وأتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه فقال أتقول الشعر قلت لا قال أما إنك ستقول شعرا مثل شعر امرىء القيس إلا أنك تقوله في قوم بررة أطهار قال فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر
قال الحسن وحدثني غانم الوراق قال خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم فأثبتني بعضهم فقال هذا الشيخ والله راوية فجلسوا إلي وأنسوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرمة فعرفوه وبشعر جرير

والفرزدق فعرفوهما ثم أنشدتهم للسيد
( أتعرِف رسماً بالسّويّيْن قد دَثَرْ ... عَفَتْه أهاضِيبُ السحائب والمطر )
( وجرّت به الأذيالَ رِيحانِ خِلْفةً ... صَباً ودَبُورٌ بالعَشِيّاتِ والبُكَر )
( منازلُ قد كانت تكون بجوّها ... هضيمُ الحشاريّا الشَّوَى سِحرُها النظر )
( قَطُوفُ الخُطَا خَمْصانةٌ بَخْتَرِيّةٌ ... كأنّ مُحيّاها سَنَا دارة القمر )
( رمَتْني ببُعْد بعد قرب بها النَّوَى ... فبانت ولمَّا أَقْضِ من عَبْدة الوَطَرْ )
( ولما رأتني خشية البين مُوجَعاً ... أُكَفْكِف منّي أدمُعاً فَيْضُها درر )
( أشارت بأطرافٍ إليّ ودمعُها ... كنَظْم جُمَانٍ خانه السِّلكُ فانتثر )
( وقد كنتُ ممّا أحدث البينُ حاذِراً ... فلم يُغْنِ عنّي منه خوفيَ والحذر )
قال فجعلوا يمرقون لإنشادي ويطربون وقالوا لمن هذا فأعلمتهم فقالوا هو والله أحد المطبوعين لا والله ما بقي في هذا الزمان مثله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال سمعت عمي يقول لو أن قصيدة السيد التي يقول فيها

( إنّ يومَ التطهيرِ يومٌ عظيم ... خُصَّ بالفضل فيه أهلُ الكِساءِ ) قرئت على منبر ما كان فيها بأس ولو أن شعره كله كان مثله لرويناه وما عيبناه
وأخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العباس بن ميمون طائع قال حدثنا نافع عن التوزي بهذه الحكاية بعينها فإنه قالها في
( إنّ يومَ التّطْهيرِ يومٌ عظيم ... ) قال ولم يكن التوزي متشيعا
قال علي بن المغيرة حدثني الحسين بن ثابت قال قدم علينا رجل بدوي وكان أروى الناس لجرير فكان ينشدني الشيء من شعره فأُنشد في معناه للسيد حتى أكثرت فقال لي ويحك من هذا هو والله أشعر من صاحبنا

مع السفاح وجعفر بن محمد
أخبرني أبو الحسن الأَسدي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن ابن عائشة قال لما استقام الأمر لبني العباس قام السيد إلى أبي العباس السفاح حين نزل عن المنبر فقال

( دُونَكُموها يا بني هاشمٍ ... فَجدِّدوا من عهدها الدَّارسا )
( دُونَكمُوها لا علا كعبُ مَنْ ... كان عليكم مُلكَها نافسا )
( دونَكُموها فالْبَسوا تاجَها ... لا تَعْدَموا منكمُ له لابسا )
( لو خُيِّر المنبرُ فُرسانَه ... ما اختار إلاّ منكُم فارسا )
( قد ساسها قبلكُم ساسةٌ ... لم يتركوا رَطباً ولا يابسا )
( ولستُ من أن تَمْلكوها إلى ... مَهْبِط عيسى فيكُم آيسا ) فسر أبو العباس بذلك وقال له أحسنت يا إسماعيل سلني حاجتك قال تولي سليمان بن حبيب الأهواز ففعل وذكر التميمي وهو علي بن إسماعيل عن أبيه قال كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد إذ استأذن آذنه للسيد فأمره بإيصاله وأقعد حرمه خلف ستر ودخل فسلم وجلس فاستنشده فأنشده قوله
( أُمْرُرْ على جَدَث الحسين ... فَقُل لأعْظُمِه الزكيّه )
( آأعْظُماً لا زِلْتِ من ... وَطْفَاءَ ساكبةٍ رَوِيّهْ )
( وإذا مررتَ بقبره ... فأطِلْ به وَقْفَ المطِيّه )
( وابْكِ المُطَهَّرَ للمطهَّر ... والمطهَّرة النّقيّهْ )
( كبُكاء مُعْوِلةٍ أتت ... يوماً لواحدها المنيّه )
قال فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدر على خديه وارتفع الصراخ والبكاء من داره حتى أمره بالإمساك فأمسك قال فحدثت أبي بذلك لما انصرفت فقال لي ويلي على الكيساني الفاعل ابن الفاعل يقول
( فإذا مررتَ بقبره ... فأطِل به وقْفَ المطيَّه )

فقلت يا أبت وماذا يصنع قال أو لا ينحر أو لا يقتل نفسه فثكلته أُمه
حدثني أبو جعفر الأعرج وهو ابن بنت الفضيل بن بشار عن إسماعيل بن الساحر راوية السيد وهو الذي يقول فيه السيد في بعض قصائده
( وإسماعيلُ يَبْرُز من فلانٍ ... ويزعُم أنّه للنَّارِ صالِي )
قال تلاحى رجلان من بني عبد الله بن دارم في المفاضلة بعد رسول الله فرضيا بحكم أول من يطلع فطلع السيد فقاما إليه وهما لا يعرفانه فقال له مفضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهما إني وهذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي طالب فقطع السيد كلامه ثم قال وأي شيء قال هذا الآخر ابن الزانية فضحك من حضر ووجم الرجل ولم يحر جوابا
وقال التميمي وحدثني أبي قال قال لي فضيل الرسان أُنشد جعفر بن محمد قصيدة السيد
( لأُمِّ عمرو باللِّوَى مَرْبَعُ ... دارسةٌ أعلامُه بَلْقَعُ ) فسمعت النحيب من داره فسألني لمن هي فأخبرته أنها للسيد وسألني عنه فعرفته وفاته فقال رحمه الله قلت إني رأيته يشرب النبيذ في

الرستاق قال أتعني الخمر قلت نعم قال وما خطر ذنب عند الله أن يغفره لمحب علي

كان يقول بالرجعة
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال جاء رجل إلى السيد فقال بلغني أنك تقول بالرجعة فقال صدق الذي أخبرك وهذا ديني قال أفتعطيني دينارا بمائة دينار إلى الرجعة قال السيد نعم وأكثر من ذلك إن وثقت لي بأنك ترجع إنسانا قال وأي شيء أرجع قال أخشى أن ترجع كلبا أو خنزيراً فيذهب مالي فأفحمه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال قال جعفر ابن عفان الطائي الشاعر أهدى إليّ سليمان بن علي مهرا أعجبني وعزمت تربيته فلما مضت علي أشهر عزمت على الحج ففكرت في صديق لي أودعه المهر ليقوم عليه فأجمع رأيي على رجل من أهلي يقال له عمر بن حفص فصرت إليه فسألته أن يأمر سائسه بالقيام عليه وخبرته بمكانه من قلبي ودعا بسائسه فتقدم إليه في ذلك ووهبت للسائس دراهم وأوصيته به ومضيت إلى الحج ثم انصرفت وقلبي متعلق فبدأت بمنزل عمر بن حفص قبل منزلي لأعرف حال المهر فإذا هو قد ركب حتى دبر ظهره وعجف من قلة القيام عليه فقلت له يا أبا حفص أهكذا أوصيتك في هذا المهر فقال وما ذنبي لم ينجع فيه العلف فانصرفت به وقلت
( مَنْ عاذري من أبي حفص وثِقْتُ به ... وكان عندي له في نفسه خطرُ )

( فلم يكن عند ظنّي في أمانته ... والظنّ يُخْلَف والإِنسانُ يُخْتَبَر )
( أضاع مهري ولم يُحسن ولايتَه ... حتى تبيّن فيه الجَهْدُ والضّرر )
( عاتبتُه فيه في رفق فقلتُ له ... يا صاحِ هل لك من عذر فتعتذِر )
( فقال داءٌ به قِدْماً أضَرّ به ... وداؤه الجوعُ والإِتعاب والسفر )
( قد كان لي في اسمه عنه وكُنْيتِه ... لو كنتُ مُعْتَبِراً ناهٍ ومُعْتَبَر )
( فكيف ينصحني أو كيف يحفظني ... يوماً إذا غِبتُ عنه واسمه عمر )
( لو كان لي وَلَدٌ شتّى لهم عددٌ ... فيهم سميُّوه إن قلّوا وإن كثُروا )
( لم ينصحوا لي ولم يُبْقُوا عليّ ولو ... ساوى عديدَهمُ الحَصْباءُ والشجرُ )

نصيحته للمهدي
قال وحدثني أبو سليمان الناجي قال جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات لهم وهو ولي عهد فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش فجاء السيد فرفع إلى الربيع رقعة مختومة وقال إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه فأوصلها فإذا فيها
( قُل لابن عَبّاسٍ سَمِيِّ محمدٍ ... لا تُعْطِينّ بني عَدِيّ درهَما )
( اِحْرِمْ بني تَيْم بن مُرّةَ إنهم ... شرُّ البريّة آخراً ومُقَدَّما )
( إن تُعْطِهمْ لا يشكروا لك نعمةً ... ويكافئوك بأن تُذَمّ وتُشْتما )
( وإنِ ائتمنتهمُ أو استعملتَهم ... خانوك واتّخذوا خَراجك مَغْنما )
( ولئن منعتَهمُ لقد بدأوكمُ ... بالمَنْع إذ ملكوا وكانوا أظلما )

( منعوا تُراثَ محمدٍ أعمامَه ... وابنَيْهِ وابنتَه عَدِيلةَ مَرْيما )
( وتأمّروا من غير أن يُسْتَخْلَفوا ... وكفى بما فعلوا هنالك مَأْثَما )
( لم يشكروا لمحمد إنعامَه ... أفيشكرون لغيره إن أنْعما )
( واللهُ منّ عليهمُ بمحمد ... وهداهمُ وَكَسا الجُنوبَ وأطْعما )
( ثم انبَروْا لوصيِّه ووليّه ... بالمُنْكَرات فجرَّعوه العَلْقَما )
وهي قصيدة طويلة حذف باقيها لقبح ما فيه قال فرمى بها إلى أبي عبيد الله ثم قال اقطع العطاء فقطعه وانصرف الناس ودخل السيد إليه فلما رآه ضحك وقال قد قبلنا نصيحتك يا اسماعيل ولم يعطهم شيئا
أخبرني به عمي عن محمد بن داود بن الجراح عن إسحاق النخعي عن أبي سلمان الرياحي مثله

السيد الحميري وشيطان الطاق
أخبرني الحسن بن محمد بن الجمهور القمي قال حدثني أبي قال حدثني أبو داود المسترق راوية السيد أنه حضر يوما وقد ناظره محمد بن علي بن النعمان المعروف بشيطان الطاق في الإمامة فغلبه محمد في دفع ابن الحنفية عن الإمامة فقال السيد

( ألاَ يأيّها الجَدِلُ المعنِّي ... لنا ما نحن وَيْحَك والعَناءُ )
( أتُبْصِر ما تقول وأنت كهلٌ ... تُراك عليك من ورع رِداء )
( ألا إن الأئمةَ من قريشٍ ... ولاةُ الحقّ أربعةٌ سَوَاء )
( عليٌّ والثلاثةُ من بَنِيه ... همُ أسْبَاطُه والأوصياء )
( فأنَّى في وصيّته إليهم ... يكون الشك منّا والمِراء )
( بهم أوصاهمُ ودعا إليه ... جميعَ الخلق لو سُمِع الدّعاء )
( فسِبْطٌ سِبْطُ إيمانٍ وحِلْمٍ ... وسبطٌ غيّبتْه كَرْبَلاء )
( سقَى جَدَثاً تضمّنه مُلِثٌّ ... هَتُوفُ الرّعد مُرْتَجِزٌ رِواء )
( تَظَلُّ مُظِلّةً منها عَزَالٍ ... عليه وتَغْتدي أُخرى مِلاء )
( وسِبْط لا يذوق الموتَ حتى ... يقودَ الخيلَ يَقْدُمها اللواء )
( من البيت المحجَّبِ في سَراةٍ ... شُراةٍ لَفّ بينهمُ الإِخاء )
( عصائبُ ليس دونَ أغرَّ أجلي ... بمكة قائمٍ لهمُ انتهاءُ )

وهذه الأبيات بعينها تروى لكثير ذكر ذلك ابن أبي سعد فقال وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني إبراهيم بن هاشم العبدي البصري قال رأيت النبي في المنام وبين يديه السيد الشاعر وهو ينشد
( أجَدّ بآل فاطمةَ البُكورُ ... فدمعُ العين مُنْهَمِرٌ غزيرُ ) حتى أنشده إياها على آخرها وهو يسمع قال فحدثت هذا الحديث رجلا جمعتني وإياه طوس عند قبر علي بن موسى الرضا فقال لي والله لقد كنت على خلاف فرأيت النبي في المنام وبين يديه رجل ينشد
( أجَدّ بآل فاطمة البُكورُ ... ) إلى آخرها فاستيقظتُ من نومي وقد رسخ في قلبي من حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كنت أعتقده
أخبرني وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثنا أبو سليمان الناجي ومحمد بن حليم الأعرج قالا كان السيد إذا استنشد شيئا من شعره لم يبدأ بشيء إلا بقوله
( أجَدّ بآل فاطمةَ البُكورُ ... فدمعُ العين مُنْهَمِرٌ غزيرُ )

قال إسحاق وسمعت العتبي يقول ليس في عصرنا هذا أحسن مذهبا في شعره ولا أنقى ألفاظا من السيد ثم قال لبعض من حضر أنشدنا قصيدته اللامية التي أنشدتناها اليوم فأنشده قوله
( هل عند من أحببتَ تَنْوِيلُ ... أم لا فإن اللَّومَ تَضْليلُ )
( أم في الحشى منك جوىً باطِن ... ليس تُداويه الأباطيلُ )
( عُلِّقتَ يا مغرورُ خَدّاعةً ... بالوعد منها لك تَخْيِيلُ )
( رَيَّا رَدَاح النوم خَمْصانة ... كأنها أَدْماءُ عُطْبول )
( يَشفيك منها حين تخلو بها ... ضمٌّ إلى النحر وتَقْبيل )
( وَذوْقُ ريقٍ طيّبٍ طعمُه ... كأنه بالمسك مُعْلولُ )
( في نِسوةٍ مثلِ المَهَا خُرَّدٍ ... تَضِيق عنهنّ الخلاخيلُ ) يقول فيها
( أُقسم بالله وآلائِه ... والمرءُ عمّا قال مسؤول )
( إنّ عليّ بن أبي طالب ... على التُّقَى والبِرِّ مَجْبول )
فقال العتبي أحسن والله ما شاء هذا والله الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب
في البيتين الأولين من هذه القصيدة لمخارق رمل بالبنصر عن الهشامي وذكر حبش أنه للغريض وفيه لحن لسليمان من كتب بذل غير مجنس
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني إسحاق

ابن محمد النخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن إسحاق بن ثابت العطار قال كنا كثيرا ما نقول للسيد مالك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تسأل عنه كما يفعل الشعراء قال لأن أقول شعرا قريبا من القلوب يلذه من سمعه خير من أن أقول شيئا متعقدا تضل فيه الأوهام

يسب محارب بن دثار ويترحم على أبي الأسود
أخبرني أحمد بن عمار قال أخبرنا يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم ابن عبد الله الطلحي راوية الشعراء بالكوفة قال حدثنا أبو مسعود عمرو بن عيسى الرباح ومحمد بن سلمة يزيد بعضهم على بعض أن السيد لما قدم الكوفة أتاه محمد بن سهل راوية الكميت فأقبل عليه السيد فقال من الذي يقول
( يَعِيب عليّ أقوامٌ سَفَاهاً ... بأن أُرْجِي أبا حسن عليّا )
( وإرجائي أبا حسن صوابٌ ... عن العُمَرَيْنِ بَرًّا أو شَقِيّا )
( فإن قدّمتُ قوماً قال قومٌ ... أسأتَ وكنتَ كذّاباً رَديّاً )
( إذا أيقنتُ أنّ الله ربّي ... وأَرْسل أحمداً حقًّا نَبيّا )
( وأنّ الرُّسْلَ قد بُعِثوا بحقّ ... وأنّ الله كان لهم وليّا )
( فليس عليّ في الإِرجاء بأسٌ ... ولا لَبْسٌ ولست أخاف شيّا ) فقال محمد بن سهل هذا يقوله محارب بن دثار الذهلي فقال

السيد لا كان الله وليا للعاض بظر أمه من ينشدنا قصيدة أبي الأسود
( أحِبّ محمداً حباً شديداً ... وعبَّاساً وحمزةَ والوصيّا ) فأنشده القصيدة بعض من كان حاضرا فطفق يسب محارب بن دثار ويترحم على أبي الأسود فبلغ الخبر منصورا النمري فقال ما كان على أبي هاشم لو هجاه بقصيدة يعارض بها أبياته ثم قال
( يَوَدُّ محارِبٌّ لو قد رآها ... وأبصرهم حَوَالَيْها جُثِيّا )
( وأنّ لسانَه من نابِ أفعى ... وما أرْجا أبا حسن عليَّا )
( وأنَّ عَجُوزَه مَصَعَتْ بكلبٍ ... وكان دماءُ ساقَيْها جَرِيّا )
( متى تُرْجِىء أبا حسن عليًّا ... فقد أرجَيْتَ يا لُكَعٌ نبيَّا )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي قال دخلت على جعفر بن سليمان الضبعي ومعي أحاديث لأسأله عنها وعنده قوم لم أعرفهم وكان كثيرا ما ينشد شعر السيد فمن أنكره عليه لم يحدثه فسمعته ينشدهم
( ما تعدِلُ الدُّنيا جميعاً كلُّها ... من حوض أحمدَ شَرْبةً من ماءِ ) ثم جاءه خبر فقام فقلت للذين كانوا عنده من يقول هذا الشعر قالوا السيد الحميري

حدثني عمي والكراني قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن عبد الله بن الحسين عن أبي عمرو الشيباني عن الحارث بن صفوان وأخبرني به الحسين ابن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه أن السيد كان بالأهواز فمرت به امرأة من آل الزبير تزف إلى إسماعيل ابن عبد الله بن العباس وسمع الجلبة فسأل عنها فأُخبر بها فقال
( أتتنا تُزَفّ على بغلة ... وفوق رحالتها قُبّهْ )
( زُبَيْريّةٌ من بنات الذي ... أحلّ الحرام من الكعبهْ )
( تُزَفّ إلى ملك ماجد ... فلا اجتمعا وبها الوَجْبهْ )
روى هذا الخبر إسماعيل بن الساحر فقال فيه فدخلت في طريقها إلى خربة للخلاء فنهشتها أفعى فماتت فكان السيد يقول لحقتها دعوتي
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل عن أبي طالب الجعفري وهو محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر قال أخبرني أبي قال خرج أهل البصرة يستسقون وخرج فيهم السيد وعليه ثياب خز وجبة ومطرف وعمامة فجعل يجر مطرفه ويقول
( اِهْبِطْ إلى الأرض فخُذْ جَلْمداً ... ثم ارْمِهم يا مُزْن بالجَلْمَدِ )
( لا تِسْقِهم من سَبِلٍ قطرةً ... فإنهم حَرْبُ بني أحمد )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق البغوي

قال حدثنا الحرمازي قال حدثني رجل قال كنت أختلف إلى ابني قيس وكانا يرويان عن الحسن فلقيني السيد يوما وأنا منصرف من عندهما فقال أرني ألواحك أكتب فيها شيئا وإلا أخذتها فمحوت ما فيها فأعطيته ألواحي فكتب فيها
( لَشَرْبَةٌ من سَوِيقٍ عند مَسْغَبةٍ ... وأكْلَةٌ من ثَريدٍ لحمُه وارِي )
( أشَدُّ ممّا روى حُبًّا إليّ بنو ... قيس وممّا رَوى صَلْتُ بن دينارِ )
( ممّا رواه فلانٌ عن فلانِهمُ ... ذاك الذي كان يدعوهم إلى النار )
أخبرني أحمد بن علي الخفاف قال حدثني أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا قال سمعت زيد بن موسى بن جعفر يقول رأيت رسول الله في النوم وقدامه رجل جالس عليه ثياب بيض فنظرت إليه فلم أعرفه إذ التفت إليه رسول الله يا سيد أنشدني قولك
( لأَمِّ عمرو في اللِّوى مَرْبَعُ ... ) فأنشده إياها كلها ما غادر منها بيتا واحدا فحفظتها عنه كلها في النوم
قال أبو إسماعيل وكان زيد بن موسى لحانة رديء الإنشاد فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتتعتع فيها ولم يلحن
وقال محمد بن داود بن الجراح في روايته عن إسحاق النخعي حدثني

عبد الرحمن بن محمد الكوفي عن علي بن إسماعيل الهيثمي عن فضيل الرسان قال دخلت على جعفر بن محمد أعزيه عن عمه زيد ثم قلت له ألا أُنشدك شعر السيد فقال أنشد فأنشدته قصيدة يقول فيها
( فالناس يوم البعْث راياتُهُم ... خمسٌ فمنها هالكٌ أرْبَعُ )
( قائدُها العجل وفِرْعَونهم ... وسامِريّ الأُمّةِ المُفْظع )
( ومارِقٌ من دينه مُخْرَج ... أسودُ عبدٌ لُكَعٌ أوْكع )
( ورايةٌ قائدها وجهُه ... كأنه الشمس إذا تطلُع ) فسمعت مجيبا من وراء الستور فقال من قائل هذا الشعر فقلت السيد فقال رحمه الله فقلت جعلت فداك إني رأيته يشرب الخمر فقال رحمه الله فما ذنب على الله أن يغفره لآل علي إن محب علي لا تزل له قدم إلا تثبت له أُخرى
حدثني الأخفش عن أبي العيناء عن علي بن الحسن بن علي بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه ذكر السيد فترحم عليه وقال إن زلت له قدم فقد ثبتت الأخرى
نسخت من كتاب الشاهيني حدثني محمد بن سهل الحميري عن أبيه قال انحدر السيد الحميري في سفينة إلى الأهواز فماراه رجل في تفضيل علي وباهله على ذلك فلما كان الليل قام الرجل ليبول على حرف

السفينة فدفعه السيد فغرفه فصاح الملاحون غرق والله الرجل فقال السيد دعوه فإنه باهلي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال حدثني التوزي قال جلس السيد يوما إلى قوم فجعل ينشدهم وهم يلغطون فقال
( قد ضيّع اللهُ ما جمّعتُ من أَدب ... بين الحَمير وبين الشَّاءِ والبقرِ )
( لا يَسمعون إلى قول أجِيءُ به ... وكيف تَستَمِع الأنعامُ للبَشَر )
( أقول ما سكتوا إنْسٌ فإن نطقوا ... قلتُ الضفادعُ بين الماء والشجر )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي عن محمد بن الربيع عن سويد بن حمدان ابن الحصين قال كان السيد يختلف إلينا ويغشانا فقام من عندنا ذات يوم فخلفه رجل وقال لكم شرف وقدر عند السلطان فلا تجالسوا هذا فإنه مشهور بشرب الخمر وشتم السلف فبلغ ذلك السيد فكتب إليه
( وصَفْتُ لك الحوضَ يابنَ الحُصَيْن ... على صفَةِ الحارث الأَعْورِ )
( فإن تُسْقَ منه غداً شَرْبَةً ... تَفُزْ من نصيبك بالأوفر )
( فما ليَ ذنبٌ سوى أنّني ... ذكرتُ الذي فرّ عن خيبر )

( ذكرتُ امْرأً فرّ عن مِرْحَبٍ ... فِرارَ الحمار من القَسْوَرِ )
( فأنكر ذاك جليسٌ لكم ... زَنيمٌ أخو خُلُقٍ أعورِ )
( لَحَاني بحبِّ إمام الهدى ... وفاروقِ أُمَّتنا الأكبرِ )
( سأحلِق لحيتَه إنها ... شهودٌ على الزّور والمُنْكر ) قال فهجر والله مشايخنا جميعا ذلك الرجل ولزموا محبة السيد ومجالسته

هجاؤه سوار القاضي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق
أن السيد تقدم إلى سوار القاضي ليشهد عنده وقد كان دافع المشهود له بذلك وقال أعفني من الشهادة عند سوار وبذل له مالا فلم يعفه فلما تقدم إلى سوار فشهد قال ألست المعروف بالسيد قال بلى قال استغفر الله من ذنب تجرأت به على الشهادة عندي قم لا أرضى بك

فقام مغضبا من مجلسه وكتب إلى سوار رقعة فيها يقول
( إن سوّار بن عبد اللَّه ... من شرِّ القضاة ) فلما قرأها سوار وثب عن مجلسه وقصد أبا جعفر المنصور وهو يومئذ نازل بالجسر فسبقه السيد إليه فأنشده
( قل للإِمام الذي يُنْجَى بطاعته ... يوم القيامة من بُجْبُوحة النار )
( لا تَستعِينَنْ جزاك الله صالحةً ... يا خير من دَبّ في حكمٍ بَسوّار )
( لا تَسْتَعِنْ بخبيث الرأي ذي صَلَفٍ ... جَمّ العيوب عظيم الكِبْر جبّار )
( تُضْحِي الخصومُ لديه من تجبّره ... لا يَرفعون إليه لحظ أبصار )
( تِيهاً وكبْراً ولولا ما رفعتَ له ... من ضَبْعه كان عينَ الجائِع العاري ) ودخل سوار فلما رآه المنصور تبسم وقال أما بلغك خبر إياس بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود فما أحوجك للتعريض للسيد ولسانه ثم أمر السيد بمصالحته
وقال إسحاق بن محمد النخعي حدثني عبد الله بن محمد الجعفري قال حدثني محمد بن عبد الله الحميري قال دخل السيد على المهدي لما بايع لابنيه موسى وهارون فأنشأ يقول
( ما بالُ مَجْرَى دمْعِكَ الساجِمِ ... أمِنْ قَذًى بات بها لازِمِ )

( أمْ من هوىً أتت له ساهر ... صبابةً من قلبك الهائِم )
( آليتُ لا أمدح ذا نائلٍ ... من مَعْشر غيرَ بني هاشم )
( أوْلَتْهُمُ عندي يدُ المصطفى ... ذي الفضل والمَنّ أبي القاسِم )
( فإنها بيضاءُ محمودةٌ ... جزاؤها الشّكرُ على العالَم )
( جزاؤها حفظُ أبي جعفر ... خليفةِ الرحمن والقائِم )
( وطاعةُ المهديّ ثم ابنِه ... موسى على ذي الإِرْبةِ الحازمِ )
( وللرشيد الرّابع المُرْتَضَى ... مُفْتَرَضٌ من حقّه اللاّزِم )
( ملكُهمُ خمسون معدودةً ... برغَمْ أنف الحاسد الرّاغم )
( ليس علينا ما بَقُوا غيرَهم ... في هذه الأُمّة من حاكم )
( حتى يُردّوها إلى هابط ... عليه عيسى منهمُ ناجمِ )

حبه لعلي بن أبي طالب
وقال علي بن المغيرة حدثني علي بن عبد الله السدوسي عن المدائني قال كان السيد يأتي الأعمش فيكتب عنه فضائل علي رضي الله عنه ويخرج من عنده ويقول في تلك المعاني شعرا فخرج ذات يوم من عند بعض أمراء الكوفة وقد حمله على فرس وخلع عليه فوقف بالكناسة ثم

قال يا معشر الكوفيين من جاءني منكم بفضيلة لعلي بن أبي طالب لم أقل فيها شعرا أعطيته فرسي هذا وما علي فجعلوا يحدثونه وينشدهم حتى أتاه رجل منهم وقال إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه عزم على الركوب فلبس ثيابه وأراد لبس الخف فلبس أحد خفيه ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه فانقض عقاب من السماء فحلق به ثم ألقاه فسقط منه أسود وانساب فدخل حجرا فلبس علي رضي الله عنه الخف قال ولم يكن قال في ذلك شيئا ففكر هنيهة ثم قال
( ألاَ يا قومِ للعَجَبِ العُجَاب ... لخُفّ أبي الحسين وللحُبَابِ )
( أتى خُفًّا له وانساب فيه ... لِيَنْهَش رِجلَه منه بناب )
( فخَرّ من السماء له عُقابٌ ... من العِقْبان أو شِبْهُ العُقابِ )
( فطار به فحلّق ثم أَهْوَى ... به للأرض من دون السّحاب )
( إلى حُجْرٍ له فانساب فيه ... بعيدِ القَعْرِ لم يُرْتَجْ بباب )
( كريهُ الوجه أسودُ ذو بَصِيصٍ ... حديدُ النّاب أَزْرقُ ذو لُعابِ )
( ودُوفِع عن أبي حسن عليٍّ ... نَقيعُ سِمامه بعد انسياب ) ثم حرك فرسه ومضى وجعل تشبيبها بعد ذلك
( صبوتُ إلى سُلَيْمى والرَّبَابِ ... وما لأخي المشَيِب وللتَّصابي )
أخبرني أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدثني عبد الله بن أحمد بن مستورد قال

وقف السيد يوما بالكوفة فقال من أتاني بفضيلة لعلي بن أبي طالب ما قلت فيها شعرا فله دينار وذكر باقي الحديث فأما العقاب الذي انقض على خف علي بن أبي طالب رضى الله عنه فحدثني بخبره أحمد بن محمد ابن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثني جعفر بن علي بن نجيح قال حدثنا أبو عبد الرحمن المسعودي عن أبي داود الطهوي عن أبي الزعل المرادي قال قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتطهر للصلاة ثم نزع خفه فانساب فيه أفعى فلما عاد ليلبسه انقضت عقاب فأخذته فحلقت به ثم ألقته فخرج الأفعى منه وقد روي مثل هذا لرسول الله
حدثني به أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدثني محمد بن عبيد بن عقبة قال حدثنا محمد بن الصلت قال حدثنا حيان بن علي عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال كان النبي إذا أراد حاجة تباعد حتى لا يراه أحد فنزع خفه فإذا عقاب قد تدلى فرفعه فسقط منه أسود سالخ فكان النبي يقول ( اللهم إني أعوذ بك من شر ما يمشي على بطنه ومن شر ما يمشي على رجليه ومن شر ما يمشي على أربع ومن شر الجن والإنس )
قال أبو سعيد وحدثنا محمد بن إسماعيل الراشدي قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا حيان بن علي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس مثله
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حاتم بن قبيصة قال سمع السيد محدثا يحدث أن النبي كان ساجدا فركب الحسن والحسين على ظهره فقال عمر رضي الله عنه نعم المطي مطيكما فقال

النبي الراكبان هما فانصرف السيد من فوره فقال في ذلك
( أتى حسناً والحسينَ النبيُّ ... وقد جلسا حَجْرةً يلعبانِ )
( ففَدّاهما ثم حَيّاهما ... وكانا لديه بذاك المكانِ )
( فرَاحَا وتحتَهما عاتِقاه ... فنعم المَطِيَّةُ والراكبانِ )
( وليدان أمُّهما بَرّةٌ ... حَصَانٌ مُطَهَّرةٌ للحَصَان )
( وشيخُهما ابن أبي طالب ... فنِعْمَ الوَليدانِ والوالدان )
( خليليّ لا تُرْجِيا واعلما ... بأّن الهُدَى غيرُ ما تزعُمَان )
( وأنّ عَمَى الشكّ بعد اليقين ... وضَعْفَ البَصيرة بعد العِيان )
( ضلالٌ فلا تَلْجَجَا فيهما ... فبئستْ لعَمْرُكما الخَصْلتان )
( أيُرْجَى عليٌّ إمامُ الهدى ... وعثمانُ ما أعند المُرْجِيان )
( ويُرْجى ابنُ حَرْبٍ وأشياعُه ... وهُوجُ الخَوارج بالنَّهْروان )
( يكون إمامَهمُ في المَعَاد ... خبيثُ الهوى مومن الشَّيْصَبانِ )

مدح المنصور
وذكر إسماعيل بن الساحر قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد عن أبيه قال حدثني أبي وعمي عن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن يعقوب بن سعيد بن عمرو قال حدثنا الحارث بن عبد المطلب قال

كنت جالسا في مجلس أبي جعفر المنصور وهو بالجسر وهو قاعد مع جماعة على دجلة بالبصرة وسوار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة جالس عنده والسيد بن محمد بين يديه ينشد قوله
( إن الاله الذي لا شيءَ يُشْبهه ... أعطاكم الملكَ للدّنيا وللدِّين )
( أعطاكم اللهُ مُلكاً لا زوالَ له ... حتى يُقادَ اليكم صاحبُ الصِّينِ )
( وصاحبُ الهند مأخوذاً برُمَّته ... وصاحبُ التُّرْك محبوساً على هُون ) والمنصور يضحك سرورا بما ينشده فحانت منه التفاتة فرأى وجه سوار يتربد غيظا ويسود حنقا ويدلك إحدى يديه بالأُخرى ويتحرق فقال له المنصور مالك أرابك شيء قال نعم هذا الرجل يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه والله يا أمير المؤمنين ما صدقك ما في نفسه وإن الذين يواليهم لغيركم فقال المنصور مهلا هذا شاعرنا وولينا وما عرفت منه إلا صدق محبة وإخلاص نية فقال له السيد يا أمير المؤمنين والله ما تحملت غضكم لأحد وما وجدت أبوي عليه فافتتنت بهما وما زلت مشهورا بموالاتكم في أيام عدوكم فقال له صدقت قال ولكن هذا وأَهلوه أعداء الله ورسوله قديما والذين نادوا رسول الله وراء الحجرات فنزلت فيهم آية من القرآن ( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) وجرى بينهما خطاب طويل فقال السيد قصيدته التي أولها
( قِفْ بنا يا صَاحِ واْرْبَعْ ... بالمَغَاني المُوحِشَاتِ )

أنشدها أحمد بن عبيد الله بن عمار عن النوفلي وأخبرنا محمد بخبره مع سوار بالقصة من ها هنا إلى آخرها وقال فيها
( يا أمينَ اللهِ يا منصورُ ... يا خيرَ الوُلاةِ )
( إنّ سوّار بن عبد الله ... من شرّ القُضاة )
( نعثليٌّ جَمَليٌّ ... لكُم غيرُ مُوَاتِ )
( جَدُّه سارقُ عَنْزٍ ... فَجْرَةً من فَجَرات )
( لرسولِ الله والقاذِفه ... بالمُنْكرَات )
( وابنُ من كان ينادي ... من وراء الحُجُراتِ )
( يا هَناةُ أخرُج إلينا ... إننا أهلُ هَنات )
( مَدْحُنا المدحُ ومَنْ نَرْمِ ... يُصَبْ بالزّفَراتِ )
( فاكْفِنِيه لا كفاه الله ... شَرَّ الطارقاتِ ) فشكاه سوار إلى أبي جعفر فأمره بأن يصير إليه معتذرا ففعل فلم يعذره فقال
( أتيتُ دعِيَّ بني العَنْبر ... أروم اعتذاراً فلم أُعْذَرِ )
( فقلتُ لنفسي وعاتبتُها ... على اللؤم في فعلها أَقْصِري )
( أيَعْتذر الحرُّ مما أتى ... إلى رجل من بَني العَنْبر )

( أبوك ابنُ سارق عَنْز النبي ... وأُمُّك بنت أبي جَحْدَر )
( ونحن على رَغْمِك الرَّافِضون ... لأهل الضَّلالة والمُنْكَر )
قال وبلغ السيد أن سوارا قد أعد جماعة يشهدون عليه بسرقة ليقطعه فشكاه إلى أبي جعفر فدعا بسوار وقال له قد عزلتك عن الحكم للسيد أو عليه فما تعرض له بسوء حتى مات
وروى عبد الله بن أبي بكر العتكي أن أبا الخلال العتكي دخل على عقبة بن سلم والسيد عنده وقد أمر له بجائزة وكان أبو الخلال شيخ العشيرة وكبيرها فقال له أيها الأمير أتعطي هذه العطايا رجلا ما يفتر عن سب أبي بكر وعمر فقال له عقبة ما علمت ذاك ولا أعطيته إلا على العشرة والمودة القديمة وما يوجبه حقه وجواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقهم ورعايتهم فقال له أبو الخلال فمره إن كان صادقا أن يمدح أبا بكر وعمر حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرفض فقال قد سمعك فإن شاء فعل فقال السيد
( إذا أنا لم أحفَظ وَصَاةَ محمدٍ ... ولا عهدَه يومَ الغدِيرِ المؤكدا )

( فإنّي كمن يَشْري الضَّلالةَ بالهُدى ... تنصّر من بعد التّقى وتَهَوّدا )
( وما لي وتَيْمَ أو عَدِيَّ وإنما ... أُولو نعمتي في الله من آل أحمدا )
( تَتِمّ صلاتي بالصلاة عليهمُ ... وليستْ صلاتي بعد أن أتشهّدا )
( بكاملةٍ إن لم أُصَلِّ عليهمُ ... وأدْعُ لهم ربًّا كريماً ممجَّدا )
( بذلتُ لهم وُدّي ونُصحي ونُصرتي ... مدى الدهر ما سُمِّيتُ يا صاح سيّدا )
( وإنّ امرأً يَلْحَى على صدق وُدّهم ... أحقُّ وأَولَى فيهمُ أن يُفَنَّدا )
( فإن شئتَ فاخْتَرْ عاجلَ الغَمّ ضِلّةً ... وإلاّ فأمْسِك كي تُصانَ وتُحْمدا ) ثم نهض مغضبا فقام أبو الخلال إلى عقبة فقال أعذني من شره أعاذك الله من السوء أيها الأمير قال قد فعلت على ألا تعرض له بعدها

خبر زواجه من امرأة تميمية
ومما يحكى عنه أنه اجتمع في طريقه بامرأة تميمية إباضية فأعجبها وقالت أريد أن أتزوج بك ونحن على ظهر الطريق قال يكون كنكاح أم خارجة قبل حضور ولي وشهود فاستضحكت وقالت ننظر في هذا وعلى ذلك فمن أنت فقال
( إن تَسأليني بقومي تسألي رجلاً ... في ذِرْوة العزّ من أحياء ذي يمنِ )
( حَوْليِ بها ذو كَلاعٍ في منازلها ... وذو رُعَيْنٍ وهَمْدانٌ وذو يَزَن )

( والأَزْدُ أَزْدُ عُمَانَ الأكْرَمون إذا ... عُدَّت مآثِرُهم في سالف الزمنِ )
( بانت كريمتُهم عنّي فدارهُمُ ... داري وفي الرّحْب من أوطانهم وطني )
( لي منزلان بلَحْجٍ منزلٌ وَسَطٌ ... منها ولي منزلٌ للعزّ في عدن )
( ثمَّ الوَلاء الذي أرجو النجاة به ... من كَبَّة النار للهادي أبي حسن )

فقالت قد عرفناك ولا شيء أعجب من هذا يمان وتميمية ورافضي وإباضية فكيف يجتمعان فقال بحسن رأيك في تسخو نفسك ولا يذكر أحدنا سلفا ولا مذهبا قالت أفليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور وظهرت خفيات الأمور قال فأنا أعرض عليك أخرى قالت ما هي قال المتعة التي لا يعلم بها أحد قالت تلك أخت الزنا قال أعيذك بالله أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان قالت فكيف قال قال الله تعال ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة ) فقالت أستخير الله وأُقلدك إن كنت صاحب قياس ففعلت فانصرفت معه وبات معرسا بها وبلغ أهلها من الخوارج أمرها فتوعدوها بالقتل وقالوا تزوجت بكافر فجحدت ذلك ولم يعلموا بالمتعة فكانت مدة تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة وتواصله حتى افترقا

ابن سليمان بن علي يعارضه في مذهبه
وقال الحسن بن علي بن المغيرة حدثني أبي قال كنت مع السيد على باب عقبة بن سلم ومعنا ابن لسليمان بن علي ننتظره وقد أسرج له ليركب إذ قال ابن سليمان بن علي يعرض بالسيد أشعر الناس والله الذي يقول
( محمد خيرُ من يمشي على قَدمٍ ... وصاحِباه وعثمانُ بن عفَّانَا )

فوثب السيد وقال أشعر والله منه الذي يقول
( سائِلْ قريشاً إذا ما كنتَ ذا عَمَهٍ ... مَنْ كان أثبتَها في الدِّين أوتادَا )
( من كان أعلَمها عِلماً وأحلَمها ... حلماً وأصدقَها قَولاً وميعادا )
( إن يَصْدُقُوك فلن يَعْدُوا أبا حسنٍ ... إن أنتَ لم تَلْق للأبرار حُسّادا ) ثم أقبل على الهاشمي فقال يا فتى نعم الخلف أنت لشرف سلفك أراك تهدم شرفك وتثلب سلفك وتسعى بالعداوة على أهلك وتفضل من ليس أصلك من أصله على من فضلك من فضله وسأخبر أمير المؤمنين عنك بذا حتى يضعك فوثب الفتى خجلا ولم ينتظر عقبة بن سلم وكتب إليه صاحب خبره بما جرى عند الركوبة حتى خرجت الجائزة للسيد
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا ابن القاسم البزي عن إسحاق بن محمد النخعي عن عقبة بن مالك الديلي عن الحسن بن علي بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال كنا جلوساً عند أبي عمرو بن العلاء فتذاكرنا السيد فجاء فجلس وخضنا في ذكر الزرع والنخل ساعة فنهض فقلنا يا أبا هاشم مم القيام فقال
( إني لأكره أن أُطيل بمجلس ... لا ذكرَ فيه لفضل آل محمد )
( لا ذكر فيه لأحمد ووصيّه ... وبَنِيه ذلك مجلسٌ نَطِفٌ ردِي )
( إن الذي ينساهُمُ في مجلس ... حتّى يفارقَه لغيرُ مسَدَّد )

العسس يحبس السيد الحميري
وروى أبو سليمان الناجي أن السيد قدم الأهواز وأبو بجير بن سماك

الأسدي يتولاها وكان له صديقا وكان لأبي بجير مولى يقال له يزيد بن مذعور يحفظ شعر السيد ينشده أبا بجير وكان أبو بجير يتشيع فذهب السيد إلى قوم من إخوانه بالأهواز فنزل بهم وشرب عندهم فلما أمسى انصرف فأخذه العسس فحبس فكتب من غده بهذه الأبيات وبعث بها إلى يزيد بن مذعور
فدخل على أبي بجير وقال قد جنى عليك صاحب عسسك ما لا قوام لك به قال وما ذلك قال اسمع هذه الأبيات كتبها السيد من الحبس فأنشده يقول
( قِفْ بالدَّيار وحيِّها يا مَرْبَعُ ... واسأل وكيف يُجيب من لا يَسمعُ )
( إنّ الدِّيارَ خَلَتْ وليس بجوِّها ... إلاّ الضَّوابحُ والحَمامُ الوُقَّع )
( ولقد تكون بها أوانسُ كالدُّمَى ... جُمْلٌ وعَزَّةُ والرَّبابُ وبَوْزَع )
( حورٌ نواعمُ لا تُرى في مثلها ... أمثالهُن من الصيانة أرْبَع )
( فَعَرِينَ بعد تألُّفٍ وتَجمُّع ... والدَّهرُ صاحِ مُشَتِّتٌ ما تَجمع )
( فاسلمَ فإنّك قد نزلتَ بمنزل ... عند الأمير تَضُرُّ فيه وتَنْفَع )
( تُؤْتَى هواك إذا نطقتَ بحاجةٍ ... فيه وتَشْفَع عنده فيُشَفِّع )
( قلْ للأمير إذا ظفِرتَ بخَلْوة ... منه ولم يك عنده من يَسمع )
( هَبْ لي الذي أحببته في أحمد ... وبَنِيه إنك حاصدٌ ما تَزْرَع )
( يَخْتصّ آلَ محمد بمحبّة ... في الصدر قد طُوِيَتْ عليها الأضْلُع ) في هذا الغناء لسعيد
وحكى ابن الساحر أن السيد دعي لشهادة عند سوار القاضي فقال لصاحب الدعوى أعفني من الشهادة عند سوار فلم يعفه صاحبها منها

وطالبه بإقامتها عند سوار فلما حضر عنده وشهد قال له ألم أعرفك وتعرفني وكيف مع معرفتك بي تقدم على الشهادة عندي فقال له إني تخوفت إكراهه ولقد افتديت شهادتي عندك بمال فلم يقبل مني فأقمتها فلا يقبل الله لك صرفا ولا عدلا إن قبلتها وقام من عنده ولم يقدر سوار له على شيء لما تقدم به المنصور إليه في أمره واغتاظ غيظا شديدا وانصرف من مجلسه فلم يقض يومئذ بين اثنين ثم إن سوارا اعتل علته التي مات فيها فلم يقدر السيد على هجائه في حياته لنهي المنصور إياه عن ذلك ومات سوار فأخرج عشيا وحفر له فوقع الحفر في موضع كنيف وكان بين الأزد وبين تميم عداوة فمات عقب موته عباد بن حبيب بن المهلب فهجا السيد سوارا في قصيدة رثى بها عبادا ودفعها إلى نوائح الأزد لما بينهم وبين تميم من العداوة ولقربهم من دار سوار ينحن بها وأولها
( يا مَنْ غدا حاملاً جُثمانَ سوّارِ ... من داره ظاعناً منها إلى النارِ )
( لا قدّس اللهُ رُوحاً كان هيكلَها ... فقد مضتْ بعظيم الخِزْي والعار )
( حتى هَوَتْ قَعْرَ بُرْهُوتٍ مُعَذَّبةً ... وجسمُه في كنيف بين أقذار )
( لقد رأيتُ من الرحمن مُعْجِبةً ... فيه وأحكامُه تجري بمقدار )
( فاذهَبْ عليك من الرحمن بَهْلَتُه ... يا شرَّ حيٍّ براه الخالقُ الباري )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد البقال قال حدثنا شيبان بن محمد الحراني وكان يلقب بعوضة وصار من سادات الأزد قال

كان السيد جاري وكان أدلم وكان ينادم فتيانا من فتيان الحي فيهم فتى مثله أدلم غليظ الأنف والشفتين مزنج الخلقة وكان السيد من أنتن الناس إبطين وكانا يتمازحان فيقول له السيد أنت زنجي الأنف والشفتين ويقول الفتى للسيد أنت زنجي اللون والإبطين فقال السيد
( أَعاركَ يومَ بِعْناه رَبَاحٌ ... مشافرَه وأنفَك ذا القبيحَا )
( وكانت حِصّتي إبطَيَّ منه ... ولوناً حالكاً أمسى فَضُوحا )
( فهل لك في مُبَادَلَتِيكَ إبْطِي ... بأنفك تَحمدُ البيعَ الرَّبيحا )
( فإنّك أقبحُ الفتيان أنْفاً ... وإبْطِي أنتنُ الآباط رِيحا )

بعض من هجائه ومدحه وغزله
أخبرني أحمد قال حدثني شيبان قال مات منا رجل موسر وخلف ابنا له فورث ماله وأتلفه بالإِسراف وأقبل على الفساد واللهو وقد تزوج امرأة تسمى ليلى واجتمع على السيد وكان من أظرف الناس وكان الفتى لا يصبر عنه وأنفق عليه مالا كثيرا وكانت ليلى تعذله على إسرافه وتقول له كأني بك قد افتقرت فلم يغن عنك شيئا فهجاها السيد وكان مما قال فيها
( أقول يا ليتَ ليلى في يَدَيْ حَنِقٍ ... من العداوة منْ أعدى أعاديها )
( يعلو بها فوق رَعْنٍ ثم يَحْدِرها ... في هُوّة فَتَدهْدى يومَها فيها )
( أوليتَها في غِمار البحر قد عصفت ... فيه الرِّياح فهاجت من أوَاذِيها )
( أوليتَها قُرِنَت يوماً إلى فرسِي ... قد شُدَّ منها إلى هاديه هادِيها )

( حتى يُرَى لحمُها من حُضْرِه زِيَماً ... وقد أتى القومَ بعد الموت ناعيها )
( فمَنْ بكاها فلا جفَّتْ مدامعُه ... لا أَسْخن اللهُ إلاّ عينَ باكيها )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي وعبد الحميد بن عقبة قالا حدثنا الحسن بن علي بن المغيرة الكسلان عن محمد بن كناسة قال أهدى بعض ولاة الكوفة إلى السيد رداء عدنيا فكتب إليه السيد فقال
( وقد أتانا رداءٌ من هَدِيّتكم ... فلا عَدِمتُك طولَ الدهرِ مِنْ والِ )
( هو الجمالُ جزاك الله صالحةً ... لو أنّه كان موصولاً بِسرْبال ) فبعث إليه بخلعة تامة وفرس جواد وقال يقطع عتاب أبي هاشم واستزادته إيانا
حدثني عمي قال حدثنا الكراني عن بعض البصريين عن سليمان بن أرقم قال كنت مع السيد فمر بقاص على باب أبي سفيان بن العلاء وهو يقول يوزن رسول الله القيامة في كفة بأمته أجمع فيرجع بهم ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح فأقبل على أبي سفيان فقال لعمري إن رسول اللهليرجح على أمته في الفضل والحديث حق وإنما رجح الآخران الناس في سيئاتهم لأن من سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها قال فما أجابه أحد فمضى فلم يبق أحد من القوم إلا سبه

وقال أبو جعفر الأعرج حدثني إسماعيل بن الساحر قال خرجت من منزل نصر بن مسعود أنا وكاتب عقبة بن سلم والسيد ونحن سكارى فلما كنا بزهران لقيتنا بنت الفجاءة بن عمرو بن قطري بن الفجاءة وكانت امرأة برزة حسناء فصيحة فواقفها السيد وتخاطب عليها وأنشدها من شعره بتجميش فأعجب كل واحد منهما صاحبه فقال السيد
( من ناكِثين وقاسطين الأرْوعُ ... )
( حول الأمين وقال هاتِ ليَسمعوا ... )
( قم يابن مَذْعورٍ فأنْشِد نكّسوا ... خُضُعَ الرّقاب بأعين لا تُرْفع )
( لولا حِذارُ أبي بجير أظهروا ... شنآنهم وتفرّقوا وتصدّعوا )
( لا تجزَعوا فلقد صبَرْنا فاصبروا ... سبعين عاماً والأنوفُ تُجَدّع )
( إذ لا يزال يقوم كلَّ عَرُوبةٍ ... منكم بصاحبنا خطيبٌ مِصْقع )
( مُسحَنْفِرٌ في غيّه مُتَتايعٌ ... في الشَّتم مثّلَه بخيل يسجع )
( ليَسُرَّ مخلوقاً ويُسْخِط خالقاً ... إن الشقيّ بكلّ شرًّ مُولَعُ )

فلما سمعها أبو بجير دعا صاحب عسسه فشتمه وقال جنيت علي ما لا يد لي به اذهب صاغرا إلى الحبس وقل أيكم أبو هاشم فإذا أجابك فأخرجه واحمله على دابتك وامش معه صاغرا حتى تأتيني به ففعل فأبى السيد ولم يجبه إلى الخروج إلا بعد أن يطلق له كل من أخذ معه فرجع إلى أبي بجير فأخبره فقال الحمد لله الذي لم يقل أخرجهم وأعط كل واحد منهم مالا فما كنا نقدر على خلافه افعل ما أحب برغم أنفك الآن
فمضى فخلى سبيله وسبيل كل من كان معه ممن أخذ في تلك الليلة وأُتي به إلى أبي بجير فتناوله بلسانه وقال قدمت علينا فلم تأتنا وأتيت بعض أصحابك الفساق وشربت ما حرم عليك حتى جرى ما جرى فاعتذر من ذلك إليه فأمر له أبو بجير بجائزة سنية وحمله وأقام عنده مدة
قال النوفلي وحدثني أبي أن جماعة من أهل الثغور قدموا على أبي بجير بتسبيب بهم فأطلقهم ثم جاؤوه فعاتبوه على التشيع وسألوه الرجوع فغضب من ذلك ودعا بمولاه يزيد بن مذعور فقال أنشدني ويلك لأبي هاشم فأنشده قوله
( يا صاحبيّ لدِمْنَتَيْن عفاهما ... مَرُّ الرّياح عليهما فمحاهما ) حتى فرغ ثم قال هات النونية فأنشده
( يا صاحبيّ تَروَّحَا وذَراني ... ليس الخليُّ كمُسْعَر الأحزانِ ) فلما فرغ قال أنشدني الدماغة الرائية فأنشده إياها فلما فرغ أقبل عليه الثغريون فقالوا له ما أعتبتنا فيما عاتبناك عليه فقال يا حمير هل في الجواب أكثر مما سمعتم والله لولا أني لا أعلم كيف يقع فعلي من أمير المؤمنين لضربت أعناقكم قوموا إلى غير حفظ الله فقاموا وبلغ السيد الخبر فقال
( إذا قال الأمير أبو بجيرٍ ... أخو أسدٍ لمنشده يَزيدَا )

( طَرِبتُ إلى الكرام فهاتِ فيهم ... مديحاً من مديحك أو نشيدا )
( رأيتَ لمن بحضرته وجُوهاً ... من الشُكَّاك والمُرْجِين سُودا )
( كأنّ يزيد يُنْشِد بامتداح ... أبا حسنٍ نَصارى أو يهودا )
وروى أبو داود المسترق أن السيد والعبدي اجتمعا فأنشد السيد
( إني أدِين بما دان الوَصِيّ به ... يوم الخُرَيْبةِ من قتل المُحِلِّينا )
( وبالذي دان يومَ النهروان به ... وشاركت كفَّه كفّي بِصفِّينا ) فقال له العبدي أخطأت لو شاركت كفك كفه كنت مثله ولكن قل تابعت كفي كفه لتكون تابعا لا شريكا فكان السيد بعد ذلك يقول أنا أشعر الناس إلا العبدي

أبو بجير يهين السيد الحميري
وقال إسحاق النخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن أبي جعفر الأعرج عن إسماعيل بن الساحر قال كنت مع السيد وقد اكترينا سفينة إلى الأهواز فجلس فيها معنا قومٌ شراة فجعلوا ينالون من عثمان فأخرج السيد رأسه إليهم وقال
( شَفَيْتَ من نَعْثلٍ في نَحْت أَثْلته ... فاعْمِد هُدِيتَ إلى نَحْتِ الغَويَّيْنِ )
( اِعمِد هُدِيتَ إلى نحت اللّذيْن هما ... كانَا عن الشرّ لو شاءا غنيَّيْن )
قال إسماعيل فلما قدمنا الأهواز قدم السيد وقد سكر فأُتي به أبا بجير ابن سماك الأسدي وكان ابن النجاشي عند ابن سماك بعد العشاء الآخرة وكان يعرفه باسمه ولم يعرفه فقال له يا شيخ السوء تخرج سكران في هذا

الوقت لأُحسنن أدبك فقال له والله لا فعلت ولتكرمني ولتخلعن علي وتحملني وتجيزني قال أو تهزأ أيضا قال لا والله ثم اندفع ينشده فقال
( من كان معتذِراً من شَتْمه عمراً ... فابنُ النَّجاشيّ منه غيرُ مُعْتذِرِ )
( وابنُ النجاشِي بَرَاءٌ غيرَ محتشم ... في دينه من أبي بكر ومن عمرِ ) ثم أنشده قوله
( إحداهما نّمَّتْ عليه حديثَه ... وبَغَتْ عليه نفسه إحداهما )
( فهما اللتان سمِعتُ ربَّ محمد ... في الذكر قصَّ على العباد نَباهما ) فقال أبو هاشم فقال نعم قال ارتفع فحمله وأجازه وقال والله لأُصدقن قولك في جميع ما حلفت عليه
قال إسماعيل رأى أبو بجير السيد متغير اللون فسأله عن حاله فقال فقدت الشراب الذي ألفته لكراهة الأمير إياه قال فاشربه فإننا نحتمله لك قال ليس عندي قال لكاتبه اكتب له بمائتي دورق ميبختج فقال له السيد ليس هذا من البلاغة قال وما هي قال البلاغة أن تأتي من الكلام بما يحتاج إليه وتدع ما يستغنى عنه قال وكيف

ذلك قال اكتب بمائتي دورق مي ولا تكتب بختج فإنك تستغني عنه فضحك ثم أمر فكتب له بذلك قال والمي النبيذ
قال إسماعيل وبلغ السيد وهو بالأهواز أن أبا بجير قد أشرف على الموت فأظهرت المرجئة الشماتة به فخرج السيد متحرقا حتى اكترى سفينة وخرج إليها وأنشأ يقول
( تَبَاشَر أهلُ تَدْمُرَ إذا أتاهم ... بأمر أميرنا لهمُ بَشيرُ )
( ولا لأميرِنا ذنبٌ إليهم ... صغيرٌ في الحياة ولا كبير )
( سوى حبِّ النبيّ وأَقْرَبِيه ... ومولاهم بحبِّهمُ جدير )
( وقالوا لي لكَيما يُحزِنوني ... ولكن قولهم إفْكٌ وزور )
( لقد أمسى أخوك أبو بجير ... بمنزلة يُزار ولا يَزور )
( وظلّت شيعةُ الهادي عليٍّ ... كأنّ الأرض تحتهمُ تَمور )
( فبِتُّ كأنَّني مما رَمَوْني ... به في قِدّ ذي حَلَقٍ أسيرُ )
( كأنّ مدامعي وجفونَ عيني ... تُوَخَّز بالقَتاد فهنّ عُور )
( أقول عَليَّ للرحمن نّذْرٌ ... صحيحٌ حيث تُحْتَبس النّذور )
( بمكة إن لقيتُ أبا بُجَيْرٍ ... صحيحاً والّلواءُ له يسير ) وهي قصيدة طويلة
وروى محمد بن عاصم عن أبي داود المسترق عن السيد أنه رأى النبي النوم فاستنشده فأنشده قوله
( لأُمّ عمرو بالّلوى مَرْبَعُ ... طامِسةٌ أعلامُه بَلْقَعُ ) حتى انتهى إلى قوله
( قالوا له لو شئتَ أَعْلَمْتنا ... إلى مَنِ الغايَةُ والمَفْزعُ )

فقال حسبك ثم نفض يده وقال قد والله أعلمتهم

مرضه ووفاته
وروى أبو داود وإسماعيل بن الساحر أنهما حضرا السيد عند وفاته بواسط وقد أصابه شرى وكرب فجلس ثم قال اللهم أهكذا جزائي في حب آل محمد قال فكأنها كانت نارا فطفئت عنه
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي بإسناد له لم يحضرني وأنا أُخرجه إن شاء الله تعالى قال حدثني من حضر السيد وقد احتضر فقال
( بَرئتُ إلى الإِله من ابن أرْوَى ... ومن دِين الخوارج أجمعينا )
( ومن فُعَلٍ بَرِئتُ ومن فُعَيْل ... غداةَ دُعِي أميرَ المؤمنينا ) ثم كأن نفسه كانت حصاة فسقطت
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي الهذيل العلاف عن أبي جعفر المنصور قال بلغني أن السيد مات بواسط فلم يدفنوه والله لئن تحقق عندي لأحرقنها
ووجدت في بعض الكتب حدثني محمد بن يحيى اللؤلئي قال حدثني محمد بن عباد بن صهيب عن أبيه قال

كنت عند جعفر بن محمد فأتاه نعي السيد فدعا له وترحم عليه فقال رجل يا بن رسول الله تدعو له وهو يشرب الخمر ويؤمن بالرجعة فقال حدثني أبي عن جدي أن محبي آل محمد لا يموتون إلا تائبين وقد تاب ورفع مصلى كانت تحته فأخرج كتابا من السيد يعرفه فيه أنه قد تاب ويسأله الدعاء له
وذكر محمد بن إدريس العتبي أن معاذ بن يزيد الحميري حدثه أن السيد عاش إلى خلافة هارون الرشيد وفي أيامه مات وأنه مدحه بقصيدتين فأمر له ببدرتين ففرقهما فبلغ ذلك الرشيد فقال أحسب أبا هاشم تورع عن قبول جوائزنا
أخبرني ابن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي قال حدثني إسحاق بن محمد بن بشير بن عمار الصيرفي عن جده بشير بن عمار قال حضرت وفاة السيد في الرميلة ببغداد فوجه رسولا إلى صف الجزارين الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته فغلط الرسول فذهب إلى صف السموسين فشتموه ولعنوه فعلم أنه قد غلط فعاد إلى الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته فوافاه سبعون كفنا قال وحضرناه جميعا وإنه ليتحسر تحسرا شديدا وإن وجهه لأسود كالقار وما يتكلم إلى أن أفاق إفاقة وفتح عينيه فنظر إلى ناحية القبلة ثم قال يا أمير المؤمنين أتفعل هذا بوليك قالها ثلاث مرات مرة بعد أخرى
قال فتجلى والله في جبينه عرق بياض فما زال يتسع ويلبس وجهه حتى صار كله كالبدر وتوفي فأخذنا في جهازه ودفناه في الجنينة ببغداد وذلك في خلافة الرشيد

أخبار عبد الله بن علقمة وحبيشة
صوت
من المائة المختارة
( فلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليلِ الأصادقِ )
( ولا ذَنبَ لي إذ قلتُ إذ نحن جِيرةٌ ... أَثِيبي بوُدٍّ قبل إحدى البوائق )
عروضه من الطويل
قوله فلا زلن حسرى دعاء على الإبل التي ظعنت بها وأبعدتها عنه وحسرى قد حسرن أي بلغ منهن الجهد فلم يبق فيهم بقية يقال حسر ناقته فهو يحسرها وهي حسرى والذكر حسير قال الله عز و جل ( يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) وفي الحديث فإن أتعبتها حسرتها والظلع في كل شيء أن تألم رجله فلا يقدر أن يمشي عليها فيغمز في مشيه كالأعرج إذا مشى ويقال ظلع فهو ظالع والنائي البعيد والنية الناحية التي تنوي إليها والنوى البعد والتنائي التباعد والبوائق الحوادث التي تأتي بما يحذر بغتة وهي مثل المصائب والنوائب
البيت الأول من الشعر لكثير ويقال إنه لأبي جندب الهذلي والبيت

الثاني لرجل من كنانة ثم من بني جذيمة وزعم ابن دأب أنه عبد الله بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة وقيل أيضا إنه يقال له عمرو الذي قتله خالد بن الوليد في بعض مغازيه التي وجهه رسول الله
الغناء في اللحن المختار لمتيم مولاة علي بن هشام وأم أولاده ولحنها رمل بالبنصر من رواية إسحاق وعمرو وهو من الأرمال النادرة المختارة وفيه خفيف ثقيل يقال إنه لحسين بن محرز ويقال إنه قديم من غناء أهل مكة

عبد الله بن علقمة وحبيشة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا ابن دأب قال كان من حديث عبد الله بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة أنه خرج مع أمه وهو مع ذلك غلام يفعة دون المحتلم لتزور جارة لها وكان لها بنت يقال لها حبيشة بنت حبيش أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة فلما رآها عبد الله بن علقمة أعجبته ووقعت في نفسه وانصرف وترك أمه عند جارتها فلبثت عندها يومين
ثم أتاها عبد الله بن علقمة ليرجعها إلى منزلها فوجد حبيشة قد زينت لأمر كان في الحي فازداد بها عجبا وانصرف بأمه في غداة تمطر فمشى معها شيئا ثم أنشأ يقول

( وما أدري بَلَى إنّي لأدري ... أصَوْبُ القَطْر أحسنُ أم حُبَيْشُ )
( حُبَيْشَةُ والذي خلق الهَدَايا ... وما عن بُعْدها للصَّبّ عيشُ ) فسمعت ذلك أمه فتغافلت عنه وكرهت قوله ثم مشيا مليا فإذا هو بظبي على ربوة من الأرض فقال
( يا أُمَّتاً أَخْبريني غيرَ كاذبةٍ ... وما يُريد مَسُولُ الحقِّ بالكذب )
( أتلك أحسنُ أم ظبيٌ برابيةٍ ... لا بل حُبَيْشةُ في عيني وفي أَرَبي ) فزجرته أُمه وقالت له ما أنت وهذا نزوجك بنت عمك فهي أجمل من تلك وأتت امرأة عمه فأخبرتها خبره وقالت زيني ابنتك له ففعلت وأدخلتها عليه فلما رآها أطرق فقالت له أمه أيهما الآن أحسن فقال
( إذا غُيِّبتْ عنِّي حُبيشةُ مرّةً ... من الدّهر لم أمْلِك عزاءً ولا صبرا )
( كأنّ الحشى حَرُّ السَّعير يَحُشّه ... وَقود الغَضَى والقلبُ مستعِرا ) وجعل يراسل الجاريه وتراسله حتى علقته كما علقها وكثر قوله للشعر فيها فمن ذلك قال
( حُبَيشةُ هل جَدّي وجَدُّك جامعٌ ... بشَمْلِكُمُ شَمْلي وأهلِكُمُ أهلي )
( وهل أنا ملتفٌّ بثوبِك مَرّةً ... بصَحْراء بين الأَلْيَتَيْن إلى النخل )
( وهل أَشْتفِي من رِيِق ثغرِكِ مَرّةً ... كراحٍ ومسكٍ خالطا ضَرَبَ النَّحْل )

فلما بلغ أهلها خبرهما حجبوها عنه مدة وهو يزيد غراما بها ويكثر قول الشعر فيها فأتوها فقالوا لها عديه السرحة فإذا أتاك فقولي له نشدتك الله إن كنت أحببتني فوالله ما على الأرض شيء أبغض إلي منك ونحن قريب نستمع ما تقولين
فوعدته وجلسوا قريبا يستمعون وجلست عند السرحة وأقبل عبد الله لوعدها فلما دنا منها دمعت عينها والتفتت إلى حيث أهلها جلوس فعرف أنهم قريب فرجع وبلغه ما قالوا لها أن تقوله فأنشأ يقول
( لو قلتِ ما قالوا لَزِدتُ جَوًى بكم ... على أنه لم يَبْقِ ستر ولا صبرُ )
( ولم يك حبّي عن نوالٍ بذلتِه ... فيُسْلِيَني عنه التجهُّمُ والهجرُ )
( وما أنسَ مِ الأشياء لا أنسَ دمعَها ... ونظرتَها حتى يُغَيّبني القبرُ )

سرية خالد بن الوليد إلى بني عامر
( وبعث النبي أثر ذلك خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة ابن كنانة وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أجابوه وإلا قاتلهم فصبحهم خالد بن الوليد بالغميصاء وقد سمعوا به فخافوه فظعنوا وكانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد وعمه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية وكانوا من أشد حي في كنانة بأسا يسمون لعقة الدم فلما صبحهم خالد ومعه بنو

سليم وكانت بنو سليم طلبتهم بمالك بن خالد بن صخر بن الشريد وإخوته كرز وعمرو والحارث وكانوا قتلوهم في موطن واحد فلما صبحهم خالد في ذلك اليوم ورأوا معه بني سليم زادهم ذلك نفورا فقال لهم خالد أسلموا تسلموا قالوا نحن قوم مسلمون قال فألقوا سلاحكم وانزلوا قالوا لا والله فقال جذيمة بن الحارث أحد بني أقرم يا قوم لا تضعوا سلاحكم والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل قالوا لا والله لا نلقي سلاحنا ولا ننزل ما نحن منك ولا لمن معك بآمنين قال خالد فلا أمان لكم إن لم تنزلوا فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرق بقية القوم فرقتين فأصعدت فرقة وسفلت فرقة أخرى
قال ابن دأب فأخبرني من لا أتهم عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال كنت يومئذ في جند خالد فبعثنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية فقال أدركوا أولئك قال فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم وقد مضوا ووقف لنا غلام شاب على الطريق
فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا وهو يقول
( بَيِّنَّ أطرافَ الذُّيول وارْبَعْنْ ... مَشْيَ حَيِيِّاتٍ كأن لم يَفْزَعْنْ )
( إن يُمْنَعِ اليومَ نساءٌ تُمْنَعْنْ ... ) فقاتلنا طويلا فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول
( أُقسم ما إن خَادِرٌ ذو لِبْدَه ... يزأر بين أيْكةٍ ووَهْدَهْ )

( يفرِس شُبّانَ الرجال وحْدَه ... بأصدق الغداةَ منّي نَجْدَهْ ) فقاتلنا حتى قتلناه وأدركنا الظعن فأخذناهن فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله فقال لنا هل لكم في خير قلنا وما هو قال تدركون بي الظعن أسفل الوادي ثم تقتلونني قلنا نفعل فخرجنا حتى نعارض الظعن أسفل الوادي فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته اسلمي حبيش عند نفاد العيش فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء فقالت وأنت فاسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء فقال سلام عليكم دهرا وإن بقيت عصرا قالت وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى وثلاثا وترا فقال
( إن يَقْتلوني يا حبيشُ فلم يَدَعْ ... هواك لهم منّي سوى غُلّة الصدر )
( وأنتِ التي أخليتِ لحميَ من دمي ... وعظمي وأسبلتِ الدموعَ على نحري ) فقالت له
( ونحن بكينا من فراقك مرّةً ... وأُخرى وآسيْناك في العسر واليسر )
( وأنت فلا تَبْعَدْ فنعم فتى الهوى ... جميلُ العفاف في المودّة والسّتر ) فقال لها
( أرَيْتَكِ إن طالبتُكم فوجدتُم ... بحَليةَ أو أدركتُكم بالخَوانِق )
( ألم يك حقًّا أن يُنَوَّل عاشقٌ ... تكلَّف إدلاجَ السُّرى والودائقِ ) فقالت بلى والله فقال

( فلا ذنبَ لي إذ قلتُ إذ نحن جيرةٌ ... أثِيبي بودٍّ قبل إِحدى البوائقِ )
( أثيبي بودّ قبل أن تَشْحَط النّوى ... ويَنْأى خليطٌ بالحبيب المفارق )
قال ابن أبي حدرد فضربنا عنقه فتقحمت الجارية من خدرها حتى أتت نحوه فالتقمت فاه فنزعنا منها رأسه وإنها لتكسع بنفسها حتى ماتت مكانها وأفلت من القوم غلام من بني أقرم يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله بما صنع خالد وشكاه

علي يدي أهل قتلى خالد
قال ابن دأب فأخبرني صالح بن كيسان أن رسول الله هل أنكر عليه أحد ما صنع فقال نعم رجل أصفر ربعة ورجل أحمر طويل فقال عمر أنا والله يا رسول الله أعرفهما أما الأول فهو ابني وصفته وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة
وكان خالد قد أمر كل من أسر أسيرا أن يضرب عنقه فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما
فبعث رسول الله رضي الله عنه بعد فراغه من حنين وبعث معه بإبل وورق وأمره أن يديهم فوداهم ثم رجع إلى رسول الله فسأله فقال علي قدمت عليهم فقلت لهم هل لكم أن تقبلوا هذا الجمل بما أصيب منكم من القتلى والجرحى وتحللوا رسول الله نعم فقلت لهم فهل لكم أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الروع والفزع قالوا نعم فقلت لهم فهل لكم أن تقبلوا الثالث وتحللوا رسول الله مما علم ومما لم يعلم قالوا نعم قال فدفعته إليهم وجعلت أديهم حتى إني لأدي ميلغة الكلب وفضلت فضلة فدفعتها إليهم فقال رسول الله

أفقبلوها قال نعم قال فوالذي أنا عبده لهي أحب إلي من حمر النعم
وقالت سلمى بنت عميس
( وكم غادروا يومَ الغُمَيْصاء من فتىً ... أُصِيب فلم يَجْرَح وقد كان جارحا )
( ومن سيّدٍ كهل عليه مَهابةٌ ... أُصيب ولمّا يَعْلُه الشيبُ واضحا )
( أحاطت بخُطّابِ الأَيامى وطلَّقت ... غَداتَئِذٍ من كان منهنّ ناكحا )
( ولولا مقالُ القوم للقوم أسلِموا ... للاقَتْ سُلَيمٌ يوم ذلك ناطحا )

قريش وبنو عامر
قال ابن دأب وأما سبب قتلهم القرشيين فإنه كان نفر من قريش بضعة عشر أقبلوا من اليمن حتى نزلوا على ماء من مياه بني عامر بن عبد مناة ابن كنانة وكان يقال لهم لعقة الدم وكانوا ذوي بأس شديد فجاءت إليهم بنو عامر فقالوا للقرشيين إياكم أن يكون معكم رجل من فهم لأنه كان له عندهم ذحل قالوا لا والله ما هو معنا وهو معهم فلما راحوا أدركهم العامريون ففتشوهم فوجدوا الفهمي معهم في رحالهم فقتلوه وقتلوهم وأخذوا أموالهم فقال راجزهم
( إنّ قريشاً غَدَرتْ وعادَهْ ... نحن قتلنا منهمُ بِغَادَهْ )
( عشرين كهلاً ما لهم زيادَهْ ... ) وكان فيمن قتل يومئذ عفان بن أبي العاصي أبو عثمان بن عفان وعوف ابن عوف أبو عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة والفاكه بن الوليد بن

المغيرة فأرادت قريش قتالهم حتى خذلتهم بنو الحارث بن عبد مناة فلم يفعلوا شيئا وكان خالد بن عبيد الله أحد بني الحارث بن عبد مناة فيمن حضر الوقعة هو وضرار فأشار إلى ذلك ضرار بن الخطاب بقوله
( دعوتُ إلى خُطَّةٍ خالداً ... من المجد ضيَّعها خالدُ )
( فوالله أدري أضَاهيَ بها ... بَنِي العَمَ أم صدرهُ باردُ )
( ولو خالدٌ عاد في مثلها ... لتابَعه عُنُقٌ وارِد ) وقال ضرار أيضا
( أرى ابْنَيْ لُؤَيٍّ أسرَعا أن تَسالما ... وقد سلكت أبناؤها كلَّ مَسْلَك )
( فإن أنتُم لم تَثْأَروا برجالكم ... فَدُوكوا الذي أنتم عليه بِمدْوَك )
( فإنّ أداةَ الحرب ما قد جمعتُم ... ومن يَتَّقِ الأقوامَ بالشرّ يُتْركِ )

سرايا النبي ص إلى قبائل كنانة
فلما كان يومُ فتح مكة بعث رسول الله بالجيوش إلى قبائل بني كنانة حوله فبعث إلى بني ضمرة نميلة بن عبد الله الليثي وإلى بني الدئل عمرو ابن أمية الضمري وبعث إلى بني مدلج عياش بن أبي ربيعة المخزومي

وبعث إلى بني بغيض ومحارب بن فهر عبد الله بن نهيك أحد بني مالك بن حسل وبعث إلى بني عامر بن عبد مناة خالدا
فوافاهم خالد بماء يقال له الغميصاء وقد كان خبره سقط إليهم فمضى منهم سلف قتله بقوم منهم يقال لهم بنو قيس بن عامر وبنو قعين بن عامر وهم خير القوم وأشرفهم فأصيب من أصيب فلما أقبل خالد ودخل المدينة قال له النبي خالد ما دعاك إلى هذا قال يا رسول الله آيات سمعتهن أنزلت عليك قال وما هي قال قول الله عز ذكره ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) وجاءني ابن أصرم فقال لي إن رسول الله أن تقاتل فحينئذ بعث رسول الله
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سعيد بن أبي نصر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله سرية وأمرنا ألا نقتل أحدا إن رأينا مسجدا أو سمعنا أذانا قال وكيع وأخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل عن ابن عاصم هذا عن أبيه بهذا الحديث قال فبينا نحن نسير إذا بفتى يسوق ظعائن فعرضنا عليه الإسلام فإذا هو لا يعرفه فقال ما أنتم صانعون بي إن لم أسلم قلنا نحن قاتلوك قال فدعوني ألحق هذه الظعائن فتركناه فأتى هودجا منها وأدخل رأسه فيه وقال اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت وأنت فاسلم تسعا وترا وثمانيا تترى وعشرا أخرى

فقال لها
( فلا ذنبَ لي قد قلتُ إذ نحن جيرةٌ ... أثِيبي بوُدٍّ قبل إحدى البوائقِ )
( أثيبي بودّ قبل أن تَشْحَط النَّوَى ... ويَنْأى أميرٌ بالحبيب المُفارق ) قال ثم جاء فضربنا عنقه فخرجت من ذلك الهودج جارية جميلة فجنأت عليه فما زالت تبكي حتى ماتت

غزوة خالد لبني جذيمة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وعمرو بن عبد الله العتكي قالا حدثنا عمر بن شبة قال يروى أن خالد بن الوليد كان جالسا عند النبي عن غزوته بني جذيمة فقال إن أذن رسول الله فقال تحدث فقال لقيناهم بالغميصاء عند وجه الصبح فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب فمنحنا الله أكتافهم فتبعناهم نطلبهم فإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب في أخريات القوم فبوأت له الرمح فوضعته بين كتفيه فقال لا إله فقبضت عنه الرمح فقال إلا اللات أحسنت أو أساءت فهمسته همسة أذريته وقيذا ثم أخذته أسيرا فشددته وثاقا ثم كلمته فلم يكلمني واستخبرته فلم يخبرني فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهن المسلمون فقال أيا خالد قلت ما تشاء قال هل أنت واقفي

على هؤلاء النسوة فأتيت على أصحابي ففعلت وفيهن جارية تدعى حبيشة فقال لها ناوليني يدك فناولته يدها في ثوبها فقال اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت حييت عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترى فقال
( أرَيْتَكِ إن طالبتُكم فوجدتكم ... بِحَلْيَةَ أو أدركتُكم بالخوَانِق )
( ألم يَكُ حقًّا أن يُنَوَّل عاشقٌ ... تكلَّف إدلاج السُّرَى والودائقِ )
( وقد قلتُ إذ أهلي لأهلكِ جيرةٌ ... أثِيبي بودّ قبل إحدى الصّعائق )
( أثيبي بوُدٍّ قبل أن تَشْحَط النَّوى ... وينأى أميرٌ بالحبيب المفارق )
( فإنّيَ لا ضيّعتُ سرَّ أمانتي ... ولا راقَ عيني بعد عينك رائقُ ) سوى أنّ ما نال العشيرةَ شاغلٌ ... عن الوُدّ إلا أن يكون التَّوامُقُ ) فلما جاء على حاله تلك قدّمته فضربت عنقه فأقبلت الجارية ووضعت رأسه في حجرها وجعلت ترشفه وتقول
( لا تَبْعَدنْ يا عمرو حيًّا وهالكاً ... فحقّ بحسن المدح مثلُك من مثلي )
( لا تَبْعَدن يا عمرو حيًّا وهالكاً ... فقد عشتَ محمودَ الثّنا ماجدَ الفعل )
( فمَنْ لِطِرَاد الخيل تُشْجَر بالقَنَا ... وللفخر يوماً عند قَرْقَرة البُزْل ) وجعلت تبكي وتردد هذه الأبيات حتى ماتت وإن رأسه لفي حجرها فقال رسول الله رفعت لي يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضونك على قتل عمرو حتى قتلته
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال

حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام قالت كان أبو السائب المخزومي رجلا صالحا زاهدا متقللا يصوم الدهر وكان أرق خلق الله وأشدهم غزلا
فوجه ابنه يوما يأتيه بما يفطر عليه فأبطأ الغلام إلى العتمة فلما جاء قال له يا عدو نفسه ما أخرك إلى هذا الوقت قال جزت بباب بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته فقال هات يا بني فوالله لئن كنت أحسنت لأحبونك ولئن كنت أسأت لأضربنك فاندفع يغني بشعر كثير
( ولما عَلَوْا شَغْباً تبيّنتُ أنه ... تقطَّع من أهل الحجاز علائِقي )
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليلِ الأصادِق ) فلم يزل يغنيه إلى نصف الليل فقالت له زوجته يا هذا قد انتصف الليل وما أفطرنا قال لها أنت طالق إن كان فطورنا غيره فلم يزل يغنيه إلى السحر فلما كان السحر قالت له زوجته هذا السحر وما أفطرنا فقال أنت طالق إن كان سحورنا غيره فلما أصبح قال لابنه خذ جبتي هذه وأعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما فقال له يا أبت أنت شيخ وأنا شاب وأنا أقوى على البرد منك قال يا بني ما ترك صوتك هذا للبرد علي سبيلا ما حييت
أخبرني وكيع قال أنشدنا أحمد بن يزيد الشيباني عن مصعب الزبيري لسليمان بن أبي دباكل قال

( فهلاَ نظرتَ الصبحَ يا بَعْلَ زينبٍ ... فتَقْضَى لُبَاناتُ الحبيب المفارِق )
( يَروح إذا يُمسي حنيناً وَيغْتدي ... وتهجيرُه عند احتدام الودائِق )
( فَطِرْ جاهداً أو كن حليفاً لصخرةٍ ... مُمَنَّعةٍ في رأس أَرْعَنَ شاهِق )
( فما زال هذا الدهرُ من شؤم صَرْفِهِ ... يُفرِّق بين العاشقين الأوامق )
( فَيُبْعِدنا ممّن نُريد اقترابَه ... ويُدْني إلينا من نُحبّ نُفَارق )
( ولما عَلَوْا شَغْباً تبيّنتُ أنه ... تقطّع من أهل الحجاز علائِقي )
( فلا زِلْن حَسْرى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليل الأصادق )

ذكر متيم الهشامية وبعض أخبارها
ُ
كانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة وبها نشأت وتأدبت وغنت وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله وعن طبقتهما من المغنين وكانت من تخريج بذل وتعليمها
وعلى ما أخذت عنها كانت تعتمد فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنين وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت على جواريه جمع عنده وهي أم ولده كلهم
وقال عبد الله بن المعتز فيما أخبرني عنه محمد بن إبراهيم قريش قال أخبرني الحسن بن أحمد المعروف بأبي عبد الله الهشامي قال كانت متيم للبانة بنت عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب فاشتراها علي بن هشام منها بعشرين ألف درهم وهي إذ ذاك جويرية فولدت له صفية وتكنى أم العباس ثم ولدت محمدا ويعرف بأبي عبد الله ثم ولدت بعده ابنا يقال له هارون ويعرف بأبي جعفر سماه المأمون وكناه لما ولد بهذا

الإسم والكنية قال ولما توفي علي بن هشام عتقت وكان المأمون يبعث إليها فتجيئه فتغنيه
فلما خرج المعتصم إلى سر من رأى أرسل إليها فأشخصها وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمى الدمشقي وأقطعها غيرها وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد إلى ولدها فتزورهم وترجع ثم ضمها لما خرجت قلم
وقلم جارية كانت لعلي بن هشام وكانت متيم صفراء حلوة الوجه
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن الحسين بن يحيى بن أكثم حدثه عن الحسن بن إبراهيم بن رياح قال سألت عبد الله بن العباس الربيعي من أحسن من أدركت صنعة قال إسحاق قلت ثم من قال علويه قلت ثم من قال متيم قلت ثم من قال ثم أنا فعجبت من تقديمه متيم على نفسه فقال الحق أحق أن يتبع
أخبرني محمد بن الحسن قال حدثنا عمر بن شبة قال سئل عبد الله بن العباس الربيعي عن أحسن الناس غناء فذكر مثل هذه الحكاية وزاد فيها أن قال له ما أحسن أن أصنع كما صنعت متيم في قوله
( فلا زِلْن حَسْرى ظُلّعا لِمْ حَمَلْنَها ... ) ولا كما صنع علويه في قول الصمة

( فواحَسْرتي لم أَقْضِ منكِ لُبانةً ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبالقُرْب ) قال فأين عمرو بن بانة قال عمرو لا يضع نفسه في الصنعة هذا الموضع ولكنه صنع لحنا في هذا الغناء

نسبة صوت علويه
صوت
( فواحَسْرتي لم أَقْضِ منكِ لُبانةً ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبالقُرْب )
( يقولون هذا آخرُ العهد منهم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلبي )
( ألا يا حمامَ الشِّعْب شِعْب مراهق ... سقتك الغوادي من حمامٍ ومن شِعْب )
الشعر للصمة بن عبد الله القشيري والغناء فيه لعلويه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وفيه لمخارق خفيف رمل بالوسطى أوله ألا يا حمام الشعب ثم الثاني ثم الأول وذكر حبش أن فيه لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر
وقال ابن المعتز أخبرني الهشامي قال كانت متيم ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر فغنت متيم في الثقيل الأول
( لزينب طيفٌ تَعْتريني طوارقُهْ ... هُدُوًّا إذا ما النّجمُ لاحتْ لواحقُهْ ) فأشار إليها إبراهيم أن تعيده فقالت متيم للمعتصم يا سيدي إبراهيم يستعيدني الصوت وكأنه يريد أن يأخذه فقال لها لا تعيديه فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا مجلس المعتصم ومتيم غائبة فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها وهي في منظرة

لها مشرفة على الطريق وهي تغني هذا الصوت وتطرحه على جواري علي بن هشام فتقدم إلى المنظرة وهو على دابته فتطاول حتى أخذ الصوت ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته وقال قد أخذناه بلا حمدك
وقال ابن المعتز وحدثت أن المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له وكان بغنائها معجبا فدفعه بذلك ولم يكن له منها ولد فلما ألح المأمون في طلبها حرص علي على أن تعلق منه حتى حبلت ويئس المأمون منها فيقال إن ذلك كان سببا لغضبه عليه حتى قتله
وحدثني سليمان الطبال أنه رأى متيم في بعض مجالس المعتصم يمازحها ويجبذ بردائها
وحكى علي بن محمد الهشامي قال أهدي إلى علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي وكان في النهاية من الحسن والفراهة وكان علي به معجبا وكان إسحاق يشتهيه شهوة شديدة وعرض لعلي بطلبه مرارا فلم يرض أن يعطيه له فسار إسحاق إلى علي يوما بعقب صنعة متيم فلا زلن حسرى فاحتبسه علي وبعث إلى متيم أن تجعل صوتها هذا في صدر غنائها ففعلت فأطرب إسحاق إطرابا شديدا وجعل يسترده فترده وتستوفيه ليزيد في إطرابه إسحاق وهو يصغي إليها ويتفهمه حتى صح له ثم قال لعلي ما فعل البرذون الأشهب قال على ما عهدت من حسنه وفراهته قال فاختر الآن مني خلة من اثنتين إما أن طبت لي نفسا به وحملتني عليه وإما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته أفتراك تقول إنه لمتيم وأقول إنه لي ويؤخذ قولك ويترك قولي قال لا والله ما

أظن هذا ولا أراه يا غلام قد البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه ولجامه لا بارك الله له فيه
قال علي بن محمد وحدثني أحمد بن حمدون أن إسحاق قال لمتيم لما سمع هذا الصوت منها أنت أنا فأنا من يريد أنها قد حلت محله وساوته
قال علي بن محمد وقال جدي أبو جعفر كانت متيم تقول

صوت
( فلا زِلْن حسرى ظُلّعا لم حملنها ... ) الرمل كله
وحدثني الهشامي قال مد علي بن هشام يده إلى بذل جاريته في عتاب يعاتبها ثم ندم على فعله ذلك ثم أنشأ يقول
( فليتَ يدي بانت غَداةَ مدَدْتُها ... إليكِ ولم تَرْجِع بكفٍّ وساعد ) وغنت متيم جاريته فيه في الثقيل الأول فكان يقال لبذل جارية علي بذل الصغيرة
وحدثني الهشامي قال
موت بذل
كان سبب موت بذل هذه أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنته وكان حاضرا في ذلك المجلس موسوس يكنى بأبي الكركدن من أهل طبرستان يضحك منه المأمون فعبثوا به فوثب عليهم وهرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون وبقيت بذل جالسة والعود في حجرها

فأخذ العود من يدها وضرب به رأسها فشجها في شابورتها اليمنى فانصرفت وحمت وكان سبب موتها
وحدثني الهشامي قال لما مات علي بن هشام ومات المأمون أخذ المعتصم جواري علي بن هشام كلهن فأدخلهن القصر فتزوج ببذل المغنية وبقيت عنده إلى أن مات فخرجت بذل الكبيرة والباقون إلا بذل الصغيرة لأنها كانت حرمته فلم يخرجوها
ويقال إنه لم يكن في المغنين أحسن صنعة من علويه وعبد الله بن العباس ومتيم وفي أولادها يقول علي بن الجهم
( بَنِي مُتيَّمَ هل تَدْرون ما الخبرُ ... وكيف يُسْتَرُ أمرٌ ليس يَسْتَتِرُ )
( حاجيْتُكم مَنْ أبوكم يا بَنِي عُصَبٍ ... شتَّى ولكنّما للعاهر الحَجَرُ ) قال وحدثني جدي قال كلم علي بن هشام متيم فأجابته جوابا لم يرضه فدفع يده في صدرها فغضبت ونهضت فتثاقلت عن الخروج إليه فكتب إليها

صوت
( فليتَ يدي بانتْ غداةَ مَدَدْتُها ... إليك ولم تَرْجع بكفٍّ وساعد )
( فإن يَرْجِعِ الرحمنُ ما كان بيننا ... فلستُ إلى يوم التَّنادي بعائد ) غنته متيم خفيف رمل بالبنصر
قال وعتبت عليه مرة فتمادى عتبها وترضاها فلم ترض فكتب إليها الإدلال يدعو إلى الإملال ورب هجر دعا إلى صبر وإنما سمي القلب قلبا لتقلبه ولقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول

( ما أُرانِي اِلاَ سأهجرُ من ليس ... يَراني أَقْوَى على الهِجْرانِ )
( قد حَدَا بي إلى الجفاء وفائي ... ما أضرَّ الوفاءَ بالإِنسان ) قال فخرجت إليه من وقتها ورضيت
وحدثني الهشامي قال كانت متيم تحبني حبا شديدا يتجاوز محبة الأخت لأخيها وكانت تعلم أني أحب النبق فكانت لا تزال تبعث إلي منه فإني لأذكر في ليلة من الليالي في وقت السحر إذا أنا ببابي يدق فقيل من هذا فقالوا خادم متيم يريد أن يدخل إلى أبي عبد الله فقلت يدخل فدخل ومعه إلي صينية فيها نبق فقال لي تقرئك السلام وتقول لك كنت عند أمير المؤمنين المعتصم بالله فجاؤوه بنبق من أحسن ما يكون فقلت له يا سيدي أطلب من أمير المؤمنين شيئا فقال لي تطلبين ما شئت قالت يطعمني أمير المؤمنين من هذا النبق فقال لسمانة اجعل من هذا النبق في صينية واجعلوها قدام متيم فأخذته وذللته لك وقد بعثت به إليك معي ثم دفعت إلي دراهم وقالت هب للحراس هذه الدراهم لكي يفتحوا الدروب لك حتى تصير به اليه
ثم حدثنا الهشامي قال بعث علي بن هشام إلى إسحاق فجاء فأخرج متيم جاريته إليه فغنت بين يديه
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلد ناءٍ قليل الأصادق ) فاستعاده إسحاق واستحسنه ثم قال له بكم تشتري مني هذا الصوت فقال له علي بن هشام جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك قال قد

أخذته الساعة وأدعيه فقول من يصدق قولي أو قولك فافتداه منه ببرذون اختاره له
وحدثني الهشامي قال سمع علي بن هشام قدام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتا عجيبا فرشا لمن أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار حتى صار إلى داره وطرح الصوت على جواريه ولو علمت بذلك زبيدة لاشتد عليها لو سألها أن توجه به ما فعلت
وحدثني يحيى بن علي بن يحيى المنجم عن أبيه قال لما صنعت متيم اللحن في قوله
( فلا زلن حَسْرى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... ) أُعجب به علي بن هشام وأسمعه إسحاق فاستحسنه وقال من أين لك هذا فقال من بعض الجواري فقال إنه لعريب ولم يزل يستعيده حتى قال إنه لمتيم فأطرق
وكان متحاملا على المغنين شديد النفاسة عليهم كثير الظلم لهم مسرفا في حط درجاتهم وما رأيته في غنائه ذكر لعلويه ولا مخارق ولا عمرو بن بانة ولا عبد الله بن عباس ولا محمد بن الحارث صوتا واحدا ترفعا عن ذكرهم منتصبا لهم وذكر في آخر الكتاب قوله
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلد ناءٍ قليل الأصادق ) ووقع تحته لمتيم
وذكر آخر كل صوت في الكتاب ونسب إلى كل مغن صوته غير مخارق وعلويه وعمرو بن بانة وعبد الله بن عباس فما ذكرهم بشيء

أخبرنا أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال قال لي علي بن هشام لما قدمت علي شاهك جدتي من خراسان قالت أعرض جواريك علي فعرضتهن عليها ثم جلسنا على الشراب وغنتنا متيم وأطالت جدتي الجلوس فلم أنبسط إلى جواري كما كنت أفعل فقلت هذين البيتين

صوت
( أَنَبْقَى على هذا وأنتِ قريبةٌ ... وقد مَنَع الزُّوّارُ بعضَ التَّكلُّمِ )
( سلامٌ عليكم لا سلامَ مُودِّعٍ ... ولكن سلامٌ من حبيب متيَّم ) وكتبتهما في رقعة ورميت بها إلى متيم فأخذتها ونهضت إلى الصلاة ثم عادت وقد صنعت فيه اللحن الذي يغنى فيه اليوم فغنت فقالت شاهك ما أرانا إلا قد ثقلنا عليكم اليوم وأمرت الجواري فحملن محفتها وأمرت بجوائز للجواري وساوت بينهن وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم
وأخبرني قال أول من عقد من النساء في طرف الإزار زنارا وخيط إبريسم ثم تجعله في رأسها فيثبت الإزار ولا يتحرك ولا يزول متيم
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال مرت متيم في نسوة وهي مستخفية بقصر علي بن هشام بعد أن قتل فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس عليه وقد علاه التراب والغبرة وطرحت في أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثلت
صوت
( يا منزلاً لم تَبْلَ أطلالُهُ ... حاشا لأطلالِكَ أن تَبْلَى )

( لم أَبْكِ أطلالَك لكنّني ... بكيتُ عيشي فيك إذ وَلّى )
( قد كان بي فيك هوىً مرّةً ... غيّبه التربُ وما مُلاّ )
( فصرتُ أَبْكِي جاهداً فقدَه ... عند ادّكاري حيثما حلاّ )
( فالعيشُ أولَى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يَسْلَى ) فيه رمل بالوسطى لابن جامع قال ثم بكت حتى سقطت من قامتها وجعل النسوة يناشدنها ويقلن الله الله في نفسك فإنك تؤخذين الآن فبعد لأي ما حُملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني محمد بن الحسن عن عبد الله بن العباس الربيعي قال قالت لي متيم بعث إلي المعتصم بعد قدومه بغداد فذهبت إليه فأمرني بالغناء فغنيت
( هل مُسعدٌ لبكاء ... بعَبْرة أو دماء ) فقال أعد لي عن هذا البيت إلى غيره فغنيته غيره من معناه فدمعت عيناه وقال غني غير هذا فغنيت في لحني
( أولئك قومي بعد عزٍّ ومَنْعَةٍ ... تفانَوْا وإلاّ تَذْرِف العينُ أَكْمَدِ ) فبكى وقال ويحك لا تغنيني في هذا المعنى شيئا البتة فغنيت في لحني
( لا تأمَن الموتَ في حِلٍّ وفي حَرَمٍ ... إنّ المنايا تَغَشّى كلَّ إنسانِ )
( واسلُك طريقَك هوناً غيرَ مكترِثٍ ... فسوف يأتيك ما يَمْنِي لك الماني ) فقال والله لولا أني أعلم أنك إنما غنيت بما في قلبك لصاحبك وأنك

لم تريديني لمثلت بك ولكن خذوا بيدها فأخرجوها فأخذوا بيدي فأخرجت

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( هل مُسعِدٌ لبكاءِ ... بعَبْرة أو دماء )
( وذا لفقد خليلٍ ... لسادةٍ نُجَباء ) الشعر لمراد شاعرة علي بن هشام ترثيه لما قتله المأمون والغناء لمتيم ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى منها
( ذهبتُ من الدّنيا وقد ذهبتْ منّي ... ) وقد أخرج في أخبار إبراهيم بن المهدي لأنه من غنائه وشعره وشرحت أخباره فيه ولحنه رمل بالوسطى ومنها
صوت
( أولئك قومي بعد عزّ ومَنْعة ... تفانَوْا وإلاّ تَذْرِفِ العينُ أَكْمَدِ ) وقد أخرج في أخبار أبي سعيد مولى فائد والعبلي وغنيا فيه من مراثيهما في بني أمية ولحن متيم هذا الذي غنت فيه المعتصم ثاني ثقيل بالوسطى ومنها
صوت
( لا تأمَنِ الموتَ في حلّ وفي حرم ... )
ذكر الهشامي انه مما وجده من غناء متيم غير أن لها لحنا فيه يذكر في

موضع غير هذا على شرح إن شاء الله تعالى وإنما ألفت صوتا تولعت به وغنته فنسبه إليها
وأخبرني قال كنا في مجلسنا نياما فلما كان مع الفجر إذا متيم قد دخلت علينا وقالت أطعموني شيئا فأخرجوا إليها شيئا تأكله فأكلت ودعت بنبيذ وابتدأت الشرب ودعت بعود فاندفعت تغني لنفسها وتشرب وكان مما غنت
( كيف الثّواءُ بأرض لا أَراك بها ... يا أكثرَ الناس عندي مِنّةً ويدا ) خفيف رمل وقال ما رأيت أحدا من المغنين والمغنيات إذا غنوا لأنفسهم يكادون يغنون إلا خفيف رمل

نوح متيم على سيدها
وأخبرني قال حدثني بعض أهلها قال لما أصبنا بعلي بن هشام جاء النوائح فطرح بعض من حضر من مغناته عليهن نوحا من نوح متيم وكان حسنا جيدا فأبطأ نوح النوائح اللاتي جئن لحسنه وجودته وكانت زين حاضرة فاستحسنه جدا وقالت رضي الله عنك يا متيم كنت علما في السرور وأنت علم في المصائب
وأخبرني قال إني لأذكر من بعض نوحها
( لعليٍّ وأحمد وحسينٍ ... ثم نصر وقبلهَ للخليل ) هزج
قال ابن المعتز وأخبرني الهشامي قال وجهت مؤنسة جارية المأمون إلى متيم جارية علي بن هشام في يوم احتجمت فيه مخنقة في وسطها حبة

لها قيمة جليلة كبيرة وعن يمين الحبة ويسارها أربع يواقيت وأربع زمردات وما بينها من شذور الذهب وباقي المخنقة قد طيب بغالية
وأخبرني قال كانت متيم يعجبها البنفسج جدا وكان عندها آثر من كل ريحان وطيب حتى إنها من شدة إعجابها به لا يكاد يخلو من كمها الريحان ولا نراه إلا كما قطف من البستان
وقد أخبرني رحمه الله قال حدثنا أبو جعفر بن الدهقانة إن جارية للمعتصم قالت له لما ماتت متيم وإبراهيم بن المهدي وبذل يا سيدي أظن أن في الجنة عرسا فطلبوا هؤلاء إليه فنهاها المعتصم عن هذا القول وأنكره
فلما كان بعد أيام وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كل ما تملكه وسمع المعتصم الجلبة فقال ما هذا فأخبر عنه فدعا بها فقال ما قصتك فبكت وقالت يا سيدي احترق كل ما أملكه فقال لا تجزعي فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس
وقد ذكرت في متقدم أخبار متيم أنها كانت تقول الشعر ولم أذكر شيئا فمن ذلك ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي طالب الدِّيناريّ قال حدثني الفضل بن العبّاس بن يعقوب قال حدّثني أبي قال قال المأمون لمتيم جارية علي بن هشام أجيزي لي هذين البيتين
( تعالَيْ تكون الكُتْبُ بيني وبينكم ... ملاحَظَةً نُومِي بها ونُشيرُ )
( ورُسْلي بحاجاتي وهنّ كثيرةٌ ... إليك إشاراتٌ بها وزَفير )

صوت
من المائة المختارة
( إنّ العيون التي في طَرْفها مرضَ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )

( يَصْرَعْن ذا اللُّبِّ حتى لا حَراك له ... وهنّ أضعفُ خلق الله أرْكانا )
عروضه - من البسيط - والشعر لجرير والغناء لابن محرز ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل وفي هذه القصيدة أبيات أخر تغنى فيها ألحان سوى هذا اللحن منها قوله

صوت
من المائة المختارة
( أتْبَعْتُهم مقلةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما تَرى تاركٌ للعين إنسانا )
( إنّ العيون التي في طَرْفها مرضَ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
الغناء في هذين البيتين ثقيل أول مطلق بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ومنها أيضا
صوت
( بان الأخِلاّ وما ودّعتُ مَنْ بانا ... وقطّعوا من حبال الوصل أركانا )
( أصبحتُ لا أبتغِي من بعدهم بَدَلاً ... بالدار داراً ولا الجِيران جيرانا )
( وصرتُ مذ ودَّع الأظعانُ ذا طَرَبٍ ... مروَّعاً من حِذار البينِ مِحْزانا )
في الأول والثاني والثالث من الأبيات خفيف رمل بالبنصر وفيها للغريض ثاني ثقيل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة والهشامي وذكر حبش أن فيه لمالك خفيف رمل بالوسطى وابن سرجس في الأول والثاني وبعدهمها
( أتبعتُهم مقلةً إنسانُهَا غَرِقٌ ... )

رمل بالوسطى
وذكر الهشامي أن لابن محرز في الأول والثاني بعدهما أتبعتهم مقلة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر وذكر المكي أنه لمعبد . . انتهى بحمد الله

بسم الله الرحمن الرحيم
نسب جرير وأخباره
جرير بن عطية بن الخَطَفي والخَطَفي لقب واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ويكنى أبا حزرة ولقب الخطفي لقوله
( يَرْفَعْنَ للَيَّل إذا ما أسْدَفَا ... أعناقَ جِنّانٍ وهاماً رُجَّفا )
( وعَنَقاً بعد الكَلال خَيْطَفَا ... )
ويروى خَطَفَى

وهو الفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعا ومختلف في أيهم المتقدم ولم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح وسقط وبقوا يتصاولون على أن الأخطل إنما دخل بين جرير والفرزدق في آخر أمرهما وقد أسن ونفد أكثر عمره وهو وإن كان له فضله وتقدمه فليس نجره من نجار هذين في شيء وله أخبار مفردة عنهما ستذكر بعد هذا مع ما يغنى من شعره
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وأبي غسان دماذ وإبراهيم بن سعدان عن أبيه جميعا عن أبي عبيدة معمر بن المثنى بنسب جرير على ما ذكرته وسائر ما أذكره في الكتاب من أخباره فأحكيه عن أبي عبيدة أو عن محمد بن سلام قالوا جميعا
وأم جرير أم قيس بنت معيد بن عمير بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب بن يربوع وأم عطية النوار بنت يزيد بن عبد العزى بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب

قال أبو عبيدة ومحمد بن سلام ووافقهما الأصمعي فيما أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عنه
اتفقت العرب على أن أشعر أهل الإسلام ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل واختلفوا في تقديم بعضهم على بعض قال محمد بن سلام والراعي معهم في طبقتهم ولكنه آخرهم والمخالف في ذلك قليل وقد سمعت يونس يقول ما شهدت مشهدا قط قد ذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما وكان يونس فرزدقيا (

الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة
)
قال ابن سلام وقال ابن دأب الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة وقال أبو عبيدة كان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى والفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة قال أبو عبيدة يحتج من قدم جريرا بأنه كان أكثرهم فنون شعر وأسهلهم ألفاظا وأقلهم تكلفا وأرقهم نسيبا وكان دينا عفيفا وقال عامر بن عبد الملك جرير كان أشبههما وأنسبهما

ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال خالد بن كلثوم ما رأيت أشعر من جرير والفرزدق قال الفرزدق بيتا مدح فيه قبيلتين وهجا قبيلتين قال
( عجبتُ لعِجْلٍ إذ تُهَاجِي عبيدَها ... كما آلُ يَرْبُوعٍ هَجَوْا آلَ دارِمِ )
يعني بعبيدها بني حنيفة وقال جرير بيتا هجا فيه أربعة
( إن الفرزدق والبَعيث وأمَّه ... وأبا البَعيث لشَرُّ ما إسْتارِ )
قال وقال جرير لقد هجوت التيم في ثلاث كلمات ما هجا فيهن شاعر شاعرا قبلي قلت
( من الأصلاب يَنْزِل لؤمُ تَيْمٍ ... وفي الأرحام يُخلق والمَشيمِ )
وقال محمد بن سلام قال العلاء بن جرير العنبري وكان شيخا قد جالس الناس إذا لم يجىء الأخطل سابقا فهو سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا قال محمد بن سلام ورأيت أعرابيا من بني أسد أعجبني ظرفه وروايته فقلت له أيهما عندكم أشعر قال بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء ونسيب وفي كلها غلب جرير قال في الفخر
( إذا غضِبتْ عليكَ بنو تَميمٍ ... حسِبتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابا )

والمديح
( ألَستُم خيرَ من ركب المطايا ... وأنْدَى العالَمين بطونَ راحِ )
والهجاء
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلابا )
والنسيب
( إنّ العيون التي في طَرْفها حَوَرٌ ... قتلْننا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
قال أبو عبد الله محمد بن سلام وبيت النسيب عندي
( فلما التقى الحيَّانِ أُلْقيتِ العصا ... ومات الهوى لما أُصيبتْ مَقَاتِلُهْ )
قال كيسان أما والله لقد أوجعكم يعني في الهجاء فقال يا أحمق أوذاك يمنعه أن يكون شاعرا

عبيدة بن هلال يفضل جريرا على الفرزدق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة وأخبرنا أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبان بن عثمان البلخي قال
تنازع في جرير والفرزدق رجلان في عسكر المهلب فارتفعا إليه وسألاه فقال لا أقول بينهما شيئا ولكني أدلكما على من يهون عليه سخطهما

عبيدة بن هلال اليشكري وكان بإزائه مع قطري وبينهما نهر وقال عمر بن شبة في هؤلاء الخوارج من تهون عليه سبال كل واحد منهما فأما أنا فما كنت لأعرض نفسي لهما فخرج أحد الرجلين وقد تراضيا بحكم الخوارج فبدر من الصف ثم دعا بعبيدة بن هلال للمبارزة فخرج إليه فقال إني أسألك عن شيء تحاكمنا إليك فيه فقال وما هو عليكما لعنة الله قال فأي الرجلين عندك أشعر أجرير أم الفرزدق فقال لعنكما الله ولعن جريرا والفرزدق أمثلي يسأل عن هذين الكلبين قالا لابد من حكمك قال فإني سائلكم قبل ذلك عن ثلاث قالوا سل قال ما تقولون في إمامكم إذا فجر قالوا نطيعه وإن عصى الله عز و جل قال قبحكم الله فما تقولون في كتاب الله وأحكامه قالوا ننبذه وراء ظهورنا ونعطل أحكامه قال لعنكم الله إذا فما تقولون في اليتيم قالوا نأكل ماله وننيك أمه قال أخزاكم الله إذا والله لقد زدتموني فيكم بصيرة ثم ذهب لينصرف فقالوا له إن الوفاء يلزمك وقد سألتنا فأخبرناك ولم تخبرنا فرجع فقال من الذي يقول
( إنَّا لنَذْعَر يا قُفَيْرُ عدوَّنا ... بالخيل لاحقةَ الأَياطِلِ قُودَا )
( وتَحُوطُ حَوْزَتَنا وتَحْمِي سَرْحَنا ... جُرْدٌ تَرَى لمُغَارِها أُخْدُودا )

( أَجْرَى قلائدَها وقدَّد لحمَها ... ألاّ يَذُقْنَ مع الشَّكائم عُودَا )
( وطَوَى القِيادُ مع الطِّرَاد مُتونَها ... طَيَّ التِّجَار بحَضْرَمَوْتَ بُرودا )
قالا جرير قال فهو ذاك فانصرفا
أخبرني عم أبي عبد العزيز بن أحمد قال حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي وذكر جريرا فقال
كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدا واحدا ومنهم من كان ينفحه فيرمي به وثبت له الفرزدق والأخطل وقال جرير والله ما يهجوني الأخطل وحده وإنه ليهجوني معه خمسون شاعرا كلهم عزيز ليس بدون الأخطل وذلك أنه كان إذا أراد هجائي جمعهم على شراب فيقول هذا بيتا وهذا بيتا وينتحل هو القصيدة بعد أن يتمموها
قال ابن سلاَّم وحدثني أبو البيداء الرياحي قال قال الفرزدق إني وإياه لنغترف من بحر واحد وتضطرب دلاؤه عند طول النهر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني زيرك بن هبيرة المناني قال
كان جرير ميدان الشعر من لم يجر فيه لم يرو شيئا وكان من هاجى جريرا فغلبه جرير أرجح عندهم ممن هاجى شاعرا آخر غير جرير فغلب
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال تذاكروا جريرا والفرزدق في حلقة يونس بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر ومسمع وعامر

ابنا عبد الملك المسمعيان فسمعت عامرا وهو شيخ بكر بن وائل يقول كان جرير والله أنسبهما وأسبهما وأشبههما (

الراعي يقر بأسبقيته
)
قال ابن سلام وحدثني أبو البيداء قال مر راكب بالراعي وهو يغني بيتين لجرير وهما
( وعاو عَوَى من غير شيء رميتُه ... بقارعةٍ أَنْفاذُها تَقْطُرُ الدَّمَا )
( خَرُوجٍ بأفواه الرُّواةِ كأنَّها ... قَرَا هِنْدُوَانِيٍّ إذا هُزَّ صَمَّمَا )
فأتبعه الراعي رسولا يسأله لمن البيتان قال لجرير قال لو اجتمع على هذا جميع الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئا ثم قال لمن حضر ويحكم أألام على أن يغلبني مثل هذا
رأي بشار فيه
قال ابن سلام وسألت بشارا المرعث أي الثلاثة أشعر فقال لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه قلت فهذان قال كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير فقلت لبشار وأي شيء لجرير من المراثي إلا

التي رثى بها امرأته فأنشدني لجرير يرثي ابنه سوادة ومات بالشام
( قالوا نَصِيبَك من أجرٍ فقلتُ لهم ... كيف العَزاءُ وقد فارقتُ أشبالي )
( فارقتني حين كَفَّ الدهرُ من بصرِي ... وحين صِرْتُ كعظم الرِّمَّة البالي )
( أَمْسَى سَوَادةُ يَجْلُو مُقْلَتَيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوق المَرْبأ العالي )
( قد كنتُ أعرفه منِّي إذا غَلِقتْ ... رُهْنُ الجِياد ومَدّ الغَايَة الغَالي )
( إنّ الثَّوِيّ بِذي الزَّيْتُون فاحتسبي ... قد أَسرعَ اليوم في عقلي وفي حالي )
( إلاّ تَكُنْ لكَ بالدَّيْرَيْن مُعْوِلَةٌ ... فرُبَّ باكيةٍ بالرَّمْلِ مِعْوَالِ )
( كأمّ بَوٍّ عَجُولٍ عند مَعْهَدِه ... حَنَّتْ إلى جَلَدٍ منه وأَوْصَال )
( حتى إذا عرَفتْ أن لا حياةَ به ... رَدَّتْ هَمَاهمَ حَرَّى الجوفِ مِثْكالِ )
( زادت على وَجْدِها وَجْداً وإن رجَعتْ ... في الصدر منها خُطوبٌ ذاتُ بَلْبَالِ )
أخبرني عبد الواحد بن عبيد عن قعنب بن المحرز الباهلي عن المغيرة بن حجناء وعمارة بن عقيل قالا
خرج جرير إلى دمشق يؤم الوليد فمرض ابن له يقال له سوادة وكان به معجبا فمات بالشام فجزع عليه ورثاه جرير فقال
( أَوْدَى سَوَادةُ يَجْلُو مُقْلَتيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوق المَرْبأ العالي )

(

رأي الفرزدق فيه
)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثني رجل من أصحاب الحديث يقال له الحسن قال حدثني أبو نصر اليشكري عن مولى لبني هاشم قال
امترى أهل المجلس في جرير والفرزدق أيهما أشعر فدخلت على الفرزدق فما سألني عن شيء حتى قال يا نوار أدركت برنيتك قالت قد فعلت أو كادت قال فابعثي بدرهم فاشتري لحما ففعلت وجعلت تشرحه وتلقيه على النار ويأكل ثم قال هاتي برنيتك فشرب قدحا ثم ناولني وشرب آخر ثم ناولني ثم قال هات حاجتك يابن أخي فأخبرته قال أعن ابن الخطفي تسألني ثم تنفس حتى قلت انشقت حيازيمه ثم قال قاتله الله فما أخشن ناحيته وأشرد قافيته والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها والشابة على أحبابها ولكنهم هروه فوجدوه عند الهراش نابحا وعند الجراء قارحا وقد قال بيتا لأن أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه الشمس
( إذا غضِبتْ عليكَ بنو تَميم ... حسِبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قالا

نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال الأحوص ما تشتهي قال شواء وطلاء وغثاء قال ذلك لك ومضى به إلى قينة بالمدينة فغنته

صوت
( أَلاَ حَيِّ الديارَ بسُعْدَ إنِّي ... أُحِبُّ لحبِّ فاطمةَ الدّيارَا )
( إذا ما حَلَّ أهلُكِ يا سُلَيْمَى ... بدارةِ صُلْصُلٍ شحَطوا مَزَارَا )
( أراد الظاعنون ليَحْزُنُونِي ... فهاجُوا صَدْعَ قلبي فاستطارَا )
غناه ابن محرزخفيف ثقيل أول بالبنصر فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها قال أوما تدري لمن هذا الشعر قال لا والله قال فهو والله لجرير يهجوك به فقال ويل ابن المراغة ما كان

أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره (

تغنى أشعب بشعره فأجازه
)
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه قال قال إسحاق بن يحيى بن طلحة
قدم علينا جرير المدينة فحشدنا له فبينا نحن عنده ذات يوم إذ قام لحاجته وجاء الأحوص فقال أين هذا فقلنا قام آنفا ما تريد منه قال أخزيه والله إن الفرزدق لأشعر منه وأشرف فأقبل جرير علينا وقال من الرجل قلنا الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح قال هذا الخبيث ابن الطيب ثم أقبل عليه فقال قد قلت
( يَقَرُّ بعَيْني ما يَقَرُّ بعينها ... وأحسنُ شيءٍ ما به العينُ قرَّتِ )
فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر أفيقر ذلك بعينك قال وكان الأحوص يرمى بالأبنة فانصرف وأرسل إليه بتمر وفاكهة وأقبلنا نسأل جريرا وهو في مؤخر البيت وأشعب عند الباب فأقبل أشعب يسأله فقال له جرير والله إنك لأقبحهم وجها ولكني أراك أطولهم حسبا وقد أبرمتني

فقال أنا والله أنفعهم لك فانتبه جرير فقال كيف قال إني لأملح شعرك واندفع يغنيه قوله

صوت
( يا أختَ ناجِيةَ السلامُ عليكُم ... قبلَ الفراق وقبل لَوْم العُذَّلِ )
( لو كنتُ أعلم أن آخرَ عهدكم ... يوم الفراق فعلتُ ما لم أفعلِ )
قال فأدناه جرير منه حتى ألصق ركبته بركبته وجعله قريبا منه ثم قال أجل والله إنك لأنفعهم لي وأحسنهم تزيينا لشعري أعد فأعاده عليه وجرير يبكي حتى أخضلت لحيته ثم وهب لأشعب دراهم كانت معه وكساه حلة من حلل الملوك وكان يرسل إليه طول مقامه بالمدينة فيغنيه أشعب ويعطيه جرير شعره فيغني فيه قال وكان أشعب من أحسن الناس صوتا قال حماد والغناء الذي غناه فيه أشعب لابن سريج
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكر المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه عن جده يحيى بن أعين وذكر ذلك هشام بن الكلبي قال حدثني النهشلي من بني مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل قال حدثني مسحل بن كسيب بن عمران بن عطاء بن الخطفي وأمه الربداء بنت جرير وهذا الخبر وإن كان فيه طول محتو على سائر أخبار من ناقض جريرا أو اعتن بينه وبين

الفرزدق وغيره فذكرته هنا لاشتماله على ذلك في بلاغ واختصار (

شعره في مدح الحكم بن أيوب
)
أن جريرا قدم على الحكم بن أيوب بن يحيى بن الحكم بن أبي عقيل وهو خليفة للحجاج يومئذ فمدحه جرير فقال
( أقبلتُ من ثَهْلانَ أو جَنْبَيْ خِيَمْ ... على قلاَصٍ مثلِ خيطَانِ السَّلَمْ )
ثهلان جبل كان لباهلة ثم غلبت عليه نمير وخيم جبل يناوحه من طرفه الأقصى فيما بين ركنه الأقصى وبين مطلع الشمس به ماء ونخل
( قد طُوِيتْ بطونُها طيَّ الأدَمْ ... يَبْحَثْنَ بحثاً كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ )
( إذا قَطَعْنَ عَلَماً بَدا علَمْ ... حتى تناهَيْنَ إلى باب الحَكَمْ )
( خليفةِ الحَجَّاجِ غيرِ المُتَّهَمْ ... في مَعْقِد العِزّ وبُؤْبُوء الكَرَمْ )
( بعد انْفِضَاجِ البُدْنِ واللحمُ زيَمْ ... )
فلما قدم عليه استنطقه فأعجبه ظرفه وشعره فكتب إلى الحجاج إنه قدم علي أعرابي شيطان من الشياطين فكتب إليه أن ابعث به إلي ففعل فقدم عليه فأكرمه الحجاج وكساه جبة صبرية وأنزله فمكث أياما ثم أرسل

إليه بعد نومه فقالوا أجب الأمير فقال ألبس ثيابي فقالوا لا والله لقد أمرنا أن نأتيه بك على الحال التي نجدك عليها ففزع جرير وعليه قميص غليظ وملاءة صفراء فلما رأى ما به رجل من الرسل دنا منه وقال لا بأس عليك إنما دعاك للحديث (

هجوه للشعراء
)
قال جرير فلما دخلت عليه قال إيه يا عدو الله علام تشتم الناس وتظلمهم فقلت جعلني الله فداء الأمير والله إني ما أظلمهم ولكنهم يظلمونني فأنتصر ما لي ولابن أم غسان وما لي وللبعيث وما لي وللفرزدق وما لي وللأخطل وما لي وللتيمي حتى عددهم واحدا واحدا فقال الحجاج ما أدري ما لك ولهم قال أخبر الأمير أعزه الله أما غسان بن ذهيل فإنه رجل من قومي هجاني وهجا عشيرتي وكان شاعرا قال فقال لك ماذا قال قال لي
( لعَمْرِي لئن كانت بَجِيلةُ زانَها ... جَريرٌ لقد أَخْزَى كُلَيْباً جَرِيرُها )
( رميتَ نِضَالاً عن كُلَيبٍ فقَصَّرتْ ... مَرَامِيكَ حتى عاد صِفْراً جَفِيرُها )
( ولا يَذْبَحون الشاةَ إلا بمَيْسِرٍ ... طويلٌ تَنَاجِيها صِغارٌ قُدُورُها )
قال فما قلتَ له قال قلتُ

( ألاَ ليت شِعْري عن سليطٍ ألم تَجِدْ ... سَلِيطٌ سِوَى غَسَّانَ جاراً يُجِيرُها )
( فقد ضمَّنوا الأحسابَ صاحبَ سَوْءة ... يُناجِي بها نفساً خبيثاً ضميرُها )
( كأنَّ سَلِيطاً في حَواَشِنِها الخُصَى ... إذا حَلّ بين اْلأَمْلَحَيْن وَقِيرُها )
( أَضِجُّوا الرَّوَايَا بالمَزَادِ فإنَّكم ... ستُكْفَوْنَ رَكْضَ الخيلِ تَدْمَى نحورُها )
( كأن السَّليطِيَّاتِ مَجْنَاةُ كَمْأَةٍ ... لأَوَّلِ جانٍ بالعَصا يَسْتثيرها )
( غَضَارِيطُ يَشْوُون الفَرَاسِنَ بالضُّحَى ... إذا ما السَّرَايا حَثَّ رَكْضاً مُغِيرها )
( فما في سَلِيطٍ فارسٌ ذو حَفيظةٍ ... ومَعْقِلُها يومَ الهِياجِ جُعُورها )
( عجِبتُ من الدَّاعِي جُحَيشاً وصائداً ... وعَيْساءُ يسعَى بالعِلاَب نَفِيرُها )
قال ثم من قال البعيث قال ما لك وله قال اعترض دون ابن أم غسان يفضله علي ويعينه قال فما قال لك قال قال لي

( كُلَيبٌ لئامُ الناسِ قد تَعْلمونه ... وأنتَ إذا عُدَّتْ كُلَيْبٌ لئيمُها )
( أترجوا كُلَيبٌ أن يجيء حديثُها ... بخيرٍ وقد أعيا كُلَيباً قديمُها )
قال فما قلت له قال قلت
( ألم تر أنِّي قد رميتُ ابنَ فَرْتنَى ... بصَمَّاءَ لا يرجو الحياةَ اميمها )
( له أُمّ سَوْءٍ بئس ما قَدَّمتْ له ... إذا فَرَطُ الأحسابِ عُدَّ قديمُها )
قال ثم من قلت الفرزدق قال وما لك وله قلت أعان البعيث علي قال فما قلت له قال قلت
( تمنَّى رجالٌ من تَمِيم ليَ الرَّدَى ... وما ذَاد عن أحسابِهم ذائدٌ مِثْلي )
( كأنَّهم لا يعلمون مَوِاطني ... وقد جرَّبوا أني أنا السابقُ المُبْلي )
( فلو شاء قومي كان حِلْمِيَ فيهمُ ... وكان على جُهّالِ أعدائهم جَهْلي )
( وقد زَعموا أنَّ الفرزدقَ حَيَّةٌ ... وما قَتَل الحيَّاتِ من أحدٍ قَبْلِي )
قال ثم من قلت الأخطل قال ما لك وله قلت رشاه محمد بن عمير بن عطارد زقا من خمر وكساه حلة على أن يفضل علي الفرزدق ويهجوني
قال فما قال لك قال قال
( إِخسَأْ إليكَ كُلَيبُ إنَّ مُجَاشِعاً ... وأبا الفَوَارِس نَهْشَلاً أخَوانِ )

( وإذا وَرَدْتَ الماءَ كان لدارِمٍ ... جُمَّاتُه وسُهُولةُ اْلأَعْطان )
( وإذا قذَفْتَ أباك في ميزانِهمْ ... رجَحُوا وشالَ أبوك في الميزانِ )
قال فما قلت له قال قلت
( يا ذا العَبَاءةِ إنَّ بِشْراً قد قَضَى ... ألاَّ تَجُوزَ حكومةُ النَّشْوان )
( فدَعُوا الحكومةَ لَسْتُمُ من أهلِها ... إنَّ الحكومةَ في بني شَيْبانِ )
( قَتلوا كُلَيبَكُمُ بلِقُحةِ جارِهم ... يا خُزْرَ تَغْلِبَ لستُمُ بِهجَانِ )
قال ثم من قلت عمر بن لجأ التيمي قال ما لك وله قال قلت بيتا من شعر فقبحه وقاله على غير ما قلته قلت
( لَقَوْمِيَ أَحْمَى للحقيقةِ منكمُ ... وأَضْرَبُ للجَبَّار والنَّقْعُ ساطِعُ )
( وأوثقُ عند المُرْهَفاتِ عشيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جرَّد السيفَ لامعُ )
فزعم أني قلت
( وأَوْثَقُ عند المُرْدَفات عشيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جرَّد السيفَ لامعُ )

فقال لحقتهن عند العشي وقد أخذن غدوة والله ما يمسين حتى يفضحن قال فما قلت له قال قلت
( يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيّ لا أبا لكُم ... لا يُوقِعنَّكُمُ في سَوءة عُمَرُ )
( خَلِّ الطريقَ لمن يَبنِي المنارَ به ... وَابرُزْ ببَرْزَةَ حيثُ اضطرَّك القَدَرُ )
حتى أتى على الشعر قال ثم من قلت سراقة بن مرداس البارقي قال ما لك وله قال قلت لا شيء حمله بشر من مروان وأكرهه على هجائي ثم بعث إلي رسولا وأمرني أن أجيبه قال فما قال لك قال قال
( إنَّ الفَرَزْدَقَ بَرَّزتْ أعراقُه ... عَفْواً وغُودِر في الغُبار جريرُ )
( ما كنتَ أوَّلَ مِحْمَرٍ قعدتْ به ... مسْعاتُه إنَّ اللئيم عَثُور )
( هذا قضاءُ البارِقيّ وإنه ... بالمَيْل في ميزانكم لَبَصِيرُ )
قال فما قلت له قال قلت
( يا بِشْرُ حَقَّ لوجهك التبشيرُ ... هَلاَّ غضِبتَ لنا وأنت أميرُ )
( بِشْرٌ أبو مَرْوانَ إن عاسَرْتَه ... عَسِرٌ وعند يَساره مَيْسورُ )
( إنَّ الكريمةَ ينصُر الكرمَ ابنُها ... وابنُ اللئيمةِ للِّئامِ نَصُور )
( قد كان حقُّك أن تقول لبارقٍ ... يا آلَ بارقَ فِيمَ سُبَّ جَرِير )
( وكسَحْتَ بآستِك للفَخَار وبارِقٌ ... شَيْخانِ أَعْمَى مُقْعدٌ وكَسِير )
قال ثم من قلت البلتع وهو المستنير بن سبرة العنبري قال ما لك

وله قلت أعان علي آبن لجأ قال فما قال لك قلت قال
( إنَّ التي رَبَّتْكَ لما طُلِّقتْ ... قعَدتْ على جَحْشِ المَرَاغةِ تَمْرَغُ )
( أتَعِيبُ مَنْ رضيتْ قريشٌ صِهْرَه ... وأبوك عبدٌ بالخَوَرْنَقِ ) أَذْلَغُ )
قال فما قلت له قال قلت
( فما مستنيرُ الخُبْثِ إلا فَرَاشةٌ ... هَوَتْ بين مُؤْتَجّ الحَرِيقَيْن ساطِعِ )
( نهيتُ بناتِ المستنيرِ عن الرُّقَى ... وعن مشيهنّ الليلَ بين المَزَارع )
ويروى
( . . بين مؤتجٍّ من النار ساطِع ... )
قال ثم من قلت راعي الإبل قال ما لك وله قلت قدمت البصرة وكان بلغني أنه قال لي
( يا صاحبيَّ دنا الرَّواحُ فسِيراَ ... غَلَب الفَرَزْدَقُ في الهجاء جَريرَا )
وقال أيضا
( رأيتُ الجَحْش جحشَ بني كُليبٍ ... تَيَمَّم حوضَ دِجْلةَ ثم هابا )
فقلت يا أبا جندل إنك شيخ مضر وشاعرها وقد بلغني أنك تفضل علي الفرزدق وأنت يسمع قولك وهو ابن عمي دونك فإن كان لا بد من تفضيل فأنا أحق به لمدحي قومك وذكري إياهم قال وابنه جندل على فرس

له فأقبل يسير بفرسه حتى ضرب عجز دابتي وأنا قائم فكاد يقطع أصبع رجلي وقال لا أراك واقفا على هذا الكلب من بني كليب فمضى وناديته أنا ابن يربوع إن أهلك بعثوك مائرا من هبود وبئس المائر وإنما بعثني أهلي لأقعد على قارعة هذا المربد فلا يسبهم أحد إلا سببته وإن علي نذرا إن جعلت في عيني غمضا حتى أخزيك قال فما أصبحت حتى هجوته فقلت
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كِلاَبَا )
قال فغدوت عليه من الغد فأخذت بعنانه فما فارقته حتى أنشدته إياها فلما مررت على قولي
( أجَنْدَلُ ما تقول بنو نُمَيرٍ ... إذا ما الأَيْرُ في اسْتِ أبيك غابَا )
قال فأرسل يدي وقال يقولون والله شرا
قال ثم من قلت العباس بن يزيد الكندي قال ما لك وله قال لما قلت
( إذا غَضِبتْ عليكَ بنو تَميم ... حسِبتَ الناسَ كلَّهُم غِضابَا )
قال
( أّلا رَغِمَتْ أُنوفُ بني تَميمٍ ... فُسَاةِ التمرِ إن كانوا غضابَا )
( لقد غضِبتْ عليك بنو تميمٍ ... فما نَكَأَتْ بغَضْبتها ذُبَابَا )
( لو اطَّلع الغرابُ على تَمِيمٍ ... وما فيها من السَّوْءات شابا )
قال فتركته خمس سنين لا أهجوه ثم قدمت الكوفة فأتيت مجلس

كندة فطلبت إليهم أن يكفوه عني فقالوا ما نكفه وإنه لشاعر وأوعدوني فقلت
( أَلاَ أَبْلِغْ بني حُجْرِ بن وَهْبٍ ... بأنَّ التمرَ حُلْوٌ في الشتاءِ )
( فَعُودوا للنَّخِيل فأبِّرُوها ... وعِيثُوا بالمُشَقَّر فالصَّفَاءِ )
قال فمكثت قليلا ثم بعثوا إلي راكبا فأخبروني بمثالبه وجواره في طيىء حيث جاور عتابا وحبل أخته هضيبة حيث حبلت قال فقلت ماذا قال قلت
( إذا جهِل الشَّقِيُّ ولم يُقَدِّرْ ... لبعضِ الأمرِ أَوْشكَ أن يُصَابَا )
( أَعَبْداً حَلَّ في شُعَبَى غريباً ... أَلؤماً لا أَبالكَ واغترابَا )
( فما خَفِيتْ هُضَيبة حينَ جُرَّتْ ... ولا إطعامُ سَخْلَتِها الكِلابَا )
( تُخَرِّقُ بالمَشَاقِصِ حالِبَيْها ... وقد بَلَّتْ مَشِيمَتُها الترابَا )
( فقد حَملتْ ثمانيةً وأَوْفَتْ ... بتاسعِها وتَحْسَبُهَا كَعَابَا )
قال ثم من قلت جفنة الهزاني بن جعفر بن عباية بن شكس من عنزة قال وما لك وله قال أقبل سائلا حتى أتاني وأنا أمدر حوضا لي فقال يا جرير قم إلي ها هنا قلت نعم ثم أتيته فقلت ما حاجتك قال مدحتك فاستمع مني قلت أنشدني فأنشد فقلت قد والله أحسنت

وأجملت فما حاجتك قال تكسوني الحلة التي كساكها الوليد بن عبد الملك العام فقلت إني لم أقف فيها بالموسم ولا بد من أن أقف فيها العام ولكني أكسوك حلة خيرا منها كان كسانيها الوليد عاما أول فقال ما أقبل غيرها بعينها فقلت بلى فأقبل وأزيدك معها دنانير نفقة فقال ما أفعل ومضى فأتى المرار بن منقذ أحد بني العدوية فحمله على ناقة له يقال لها القصواء فقال جفنة
( لَعَمْرُك لَلْمَرَّارُ يومَ لَقِيتُهُ ... على الشَّحْطِ خيرٌ من جريرٍ وأكرمُ )
قال فما قلت له قال قلت
( لقد بَعثتْ هِزَّانُ جَفْنَةَ مائراً ... فآب وأَحْذَى قومَه شَرَّ مَغْنَم )
( فيا راكبَ القَصْواءِ ما أنت قائلٌ ... لِهزَّانَ إذ أَسْلَمْتَها شَرَّ مُسْلَمِ )
( أظنُّ عِجَانَ التَّيْس هِزَّانَ طالباً ... عُلاَلةَ سَبَّاقِ الأَضَامِيمِ مِرْجَم )
( كأنَّ بني هِزَّانَ حينَ رَدَيتُهم ... وِبَارٌ تَضَاغَتْ تحتَ غَارِ مهدَّمِ )
( بَنِي عَبْدِ عمروٍ قد فَرَغْتُ إليكُم ... وقد طال زَجْرِي لو نَهَاكُمْ تقدُّمِي )
( ورَصْعَاءَ هِزَّانِيَّةٍ قد تَحَفَّشَتْ ... على مِثْلِ حِرْباءِ الفَلاَة المعمَّمِ )
قال ثم من قلت المرار بن منقذ قال ما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت

( بَني مُنْقِذٍ لا صُلْحَ حتى تَضُمَّكُمْ ... من الحربِ صَمَّاءُ القَنَاةِ زَبُونُ )
( وحتى تَذُوقوا كأسَ مَنْ كان قبلَكم ... ويَسْلَحَ منكم في الحبِال قَرِينُ )
( فإن كنتُم كَلْبَى فعِندي شفاؤكم ... وللجنِّ إن كان اعتراكَ جنونُ )
قال ثم من قلت حكيم بن معية من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال وما لك وله قلت بلغني أنه اعان علي غسان السليطي قال فما قلت له قال قلت
( إذا طلعَ الرُّكْبَانُ نَجْداً وغَوَّرُوا ... بها فارْجُزَا يا بْنَيْ مُعَيَّةَ أو دَعَا )
( أَتَسْمَنُ أَسْتَاهُ المَجَرِّ وقد رأوْا ... مَجَرّاً بوَعْسَاوَيْ رُمَاحَ مصرَّعَا ) ألا إنَّما كانت غَضُوبُ مُحَامِياً ... غَدَاةَ اللَّوَى لم تَدْفَع الضَّيْمَ مَدْفَعَا )
قال ثم من قلت ثور بن الأشهب بن رميلة النهشلي قال وما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( سيَخْزَى إذا ضَنَّتْ حَلاَئبُ مالكٍ ... ثُوَيرٌ ويَخْزَى عاصِمٌ وجَمِيعُ )
( وقَبْلكَ ما أَعْيَا الرُّمَاةَ إذا رَمَوْا ... صَفاً ليس في قاراتهنّ صُدُوعُ )

قال ثم من قلت الدلهمس أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة قال ما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( لقد نَفَخَتْ منكَ الوَرِيدَيْنِ عِلْجَةٌ ... خَبِيثةُ ريح المَنْكِبَيْنِ قَبوعُ )
( ولو أَنْجَبَتْ أُمُ الدَّلَهْمَسِ لمّ يَعِبْ ... فَوَارِسَنا لا عاش وهو جميعُ )
( أليس ابنَ حَمْراءِ العِجَانِ كأنَّما ... ثلاثةُ غِرْبانٍ عليه وُقوعُ )
( فلا تُدْنِيَا رَحْلَ الدَّلَهْمَسِ إنه ... بصيرٌ بما يأتي اللئامُ سَمِيعُ )
( هو النَّخْبَةُ الخَوَّارُ ما دون قلبِه ... حِجَابٌ ولا حولَ الحجابِ ضُلوعُ )
قال ثم مررت على مجلس لهم فاعتذرت إليهم فلم يقبلوا عذري وأنشدوني شعرا لم يخبروني من قاله
( غضِبتَ علينا أن عَلاَكَ ابنُ غالبٍ ... فَهَلاَّ على جَدَّيْكَ في ذاكَ تغضَبُ )
( هُمَا إذْ عَلا بالمرءِ مَسعاةُ قومِه ... أَنَاخَا فشَدَّاك العِقَالُ المؤرَّبُ )
قال فعلمت أنه شعر قبضة الكلب قال فجمعتهم في شعري فقلت
( وأكثرُ ما كانت رَبِيعةُ أنها ... خِبَاءانِ شَتَّى لا أنِيسٌ ولا قَفْرُ )
( مُحَالِفُهم فَقْرٌ شديدٌ وذِلَّةٌ ... وبئس الحَلِيفان المَذَلَّةُ والفَقْرُ )
( فصَبْراً على ذُلٍّ ربِيعَ بنَ مالكٍ ... وكلُّ ذليلٍ خيرُ عادتِه الصبرُ )
قال ثم من قلت هبيرة بن الصلت الربعي من ربيعة بن مالك أيضا كان يروي شعر الفرزدق قال فما قلت له قال قلت

( يَمْشِي هُبَيرَةُ بعد مَقْتَل شَيْخِه ... مَشْيَ المُرَاسِل أُوذِنَتْ بطَلاقِ )
( ماذا أردتَ إليَّ حينَ تَحَرَّقَتْ ... نارِي وشُمِّر مِئْزَرِي عن سَاقيِ )
( إنَّ القِرَافَ بِمَنْخَرَيْكَ لَبيِّنٌ ... وسواد وجهِك يآبن أمَّ عِفاقِ )
( سِيرُوا فرُبَّ مُسَبِّحينَ وقائلٍ ... هذا شَقاً لبَنِي رَبيعةَ بَاقِي )
( أَبَنِي رَبيعةَ قد أَخَسَّ بحَظِّكُمْ ... لؤمُ الجُدودِ ودِقَّة الأخلاقِ )
قال ثم من قلت علقة والسرندى من بني الرباب كانا يعينان ابن لجأ
قال فما قلت لهما قال قلت
( عَضَّ السَّرَنْدَى على تَثْليم ناجِذه ... من أمِّ عِلْقَةَ بَظْراً غَمَّه الشَّعرُ )
( وعَضَّ عِلْقَةُ لا يأْلُوا بعُرْعُرَةٍ ... من بَظْرِ أُمِّ السَّرَنْدَى وهو منتصِرُ )
قال ثم من قلت الطهوي كان يروي شعر الفرزدق قال ما قلت له قال قلت
( أَتَنْسَوْنَ وَهْباً يا بَنِي زَبَدِ اسْتِها ... وقد كنتمُ جِيرانَ وَهْب بنِ أَبْجَرا )
( فما تَتَّقُون الشرَّ حتَّى يُصِيبَكم ... ولا تَعْرِفون الأمر إلا تدبُّرا )
( ألا رُبّ أَعْشَى ظالمٍ متخمِّطٍ ... جعلتُ لعينيه جِلاءً فأَبْصَرَا )
قال ثم من قلت عقبة بن السنيع الطهوي وكان نذر دمي قال

فما قلت له قال قلت
( يا عُقْب يابنَ سُنَيْع ليس عندكمُ ... مأْوَى الرِّفَاقِ ولا ذو الرايةِ الغَادِي )
( يا عُقْب يابنَ سُنَيْع بعضَ قولِكُم ... إن الوِثَابَ لكم عندي بمِرْصَادِ )
( ما ظنُّكم بِبَنِي مَيْثَاءَ إن فَزِعُوا ... ليلاً وشَدَّ عليهم حَيَّةُ الوادي )
( يَغْدوا عليَّ أبو لَيْلَى ليقتلَني ... جَهْلاً عليَّ ولم يَثْأر بشَدَّاد )
( إرْوُوا عليَّ وأرْضُوا بي صديقَكُم ... واستسْمِعُوا يا بَنِي مَيْثاء إنشادِي ) ميثاء هي بنت زهير بن شداد الطهوي وهي أم عوف بن أبي سود بن مالك بن حنظلة
وقال أيضا لبني ميثاء
( نُبِّئتُ عُقْبةَ خَصَّافاً تَوَعَّدَنِي ... يا رُبَّ آدَرَ من مَيْثَاءَ مَأْفُونِ )
( لَوْ في طُهَيَّةَ أحلامٌ لما اعترضوا ... دونَ الذي كنتُ أَرْمِيه ويَرْمِيني ) قال ثم من قلت سحمة الأعور النبهاني كانت له امرأة من طيىء ولدت في بني سليط فأعطوه وحملوه علي فسألني فآشتط ولم يكن عندي فحرمته فقال
( أقول لأصحابي النَّجَاءَ فإنه ... كَفَى الذَّم أن يأتي الضيوفَ جَريرُ )
( جَرِيرُ ابن ذاتِ البَظْرِ هل أنت زائلٌ ... لقِدْرِك دون النازلين سُتورُ )
( وهل يُكْرِم الأضيافَ كلبٌ لكلبةٍ ... لها عند أَطْنابِ البيوت هَرِيرُ )

( فلو عندَ غَسَّانَ السَّلِيطِي عَرَّسَتْ ... رَغَا قَرَنٌ منها وكَسَ عَقِيرُ )
( فَتىً هو خيرٌ منكَ نفساً ووالداً ... عليكَ إذا كان الجِوار يُجِيرُ )
فقال جرير
( وَجَدْنا بَنِي نَبْهانَ أذنابَ طيّىء ... وللناسِ أذنابٌ تُرَى وصُدورُ )
( تغنَّى ابنُ نَبْهانِيَّةٍ طال بَظْرُها ... وباعُ ابنِها عند الهِياج قَصيرُ )
( وأَعْورَ من نَبْهانَ أمَّا نَهَارُه ... فأَعْمَى وأمَّا ليلُه فَبَصِيرُ )
( ستأتي بَنِي نَبْهانَ منَّي قصائدٌ ... تطلعُ من سَلْمَى وهنّ وُعُورُ )
( تَرَى قَزَمَ المِعْزَى مُهُورَ نسائهم ... وفي قَزَمِ المِعْزَى لهنّ مُهُورُ )
قال وطلع الصبح فنهض ونهضت قال فأخبرني من كان قاعدا معه أنه قال قاتله الله أعرابيا إنه لجرو هراش

خبره مع راعي الإبل وابنه جندل
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكر المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه قال
كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير ويفضله وكان راعي الإبل قد ضخم أمره وكان من شعراء الناس فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال هلا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم قال جرير فضربت رأيي فيه ثم خرج جرير ذات يوم

يمشي ولم يركب دابته وقال والله ما يسرني أن يعلم أحد وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها قال فخرجت أتعرض له لألقاه من حيال حيث كنت أراه يمر إذا انصرف من مجلسه وما يسرني أن يعلم أحد حتى إذا هو قد مر على بغلة له وابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه يسأله عن بعض السبب فلما استقبلته قلت مرحبا بك يا أبا جندل وضربت بشمالي على معرفة بغلته ثم قلت يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل الفرزدق علي تفضيلا قبيحا وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم وهو ابن عمي ويكفيك من ذاك هين إذا ذكرنا أن تقول كلاهما شاعر كريم ولا تحتمل مني ولا منه لائمة قال فبينا أنا وهو كذاك واقفا علي وما رد علي بذلك شيئا حتى لحق ابنه جندل فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا وضرب البغلة ضربة فرمحتني رمحة وقعت منها قلنسوتي فوالله لو يعرِّج علي الراعي لقلت سفيه غوى يعني جندلا ابنه ولكن لا والله ما عاج علي فأخذت قلنسوتي فمسحتها ثم أعدتها على راسي ثم قلت
( أَجَنْدلُ ما تقول بنو نُمَيْرٍ ... إذا ما الأْير في استِ أبيك غابَا )
فسمعت الراعي قال لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة
قال جرير ولا والله ما القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له قال ارفعوا إلي

باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ قال فجعل يهمهم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا في بني نمير فلما ختمها بقوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ وَلا كِلاَبَا )
كبر ثم قال أخزيتُه ورب الكعبة ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن وكف رأسه وكان حسن الشعر ثم قال يا غلام أسرج لي فأسرج له حصانا ثم قصد مجلسهم حتى إذا كان بموضع السلام قال يا غلام ولم يسلم قل لعبيد ابعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق أما والذي نفس جرير بيده لترجعن إليهن بمير يسوءهن ولا يسرهن ثم اندفع فيها فأنشدها قال فنكس الفرزدق وراعي الإبل وأرم القوم حتى إذا فرغ منها سار وثبت راعي الإبل ساعة ثم ركب بغلته بشر وعر وخلى المجلس حتى ترقى إلى منزله الذي ينزله قال لأصحابه ركابكم فليس لكم ها هنا مقام فضحكم والله جرير فقال له بعض القوم ذاك شؤمك وشؤم ابنك قال فما كان إلا ترحلهم قال فسرنا إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد وهم بالشريف

وهو أعلى دار بني نمير فيحلق بالله راعي الإبل إنا وجدنا في أهلنا
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيرٍ ... )
وأقسم بالله ما بلغه إنسي قط وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير وسبوه وابنه فهم يتشاءمون به إلى الآن

قصيدته في هجو الراعي
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال حدثني مولى لبني كليب بن يربوع كان يبيع الرطب بالبصرة أنسيت اسمه قال
كنت أجمع شعر جرير وأشتهي أن أحفظه وأرويه فجاءني ليلة فقال إن راعي الإبل النميري قد هجاني وإني آتيك الليلة فأعد لي شواء رشراشا ونبيذا مخفسا فأعددت له ذلك فلما أعتم جاءني فقال هلم عشاءك فأتيته به فأكل ثم قال هلم نبيذك فأتيته به فشرب أقداحا ثم قال هات دواة وكتفا فأتيته بهما فجعل يملي علي قوله
( أَقِلِّي اللومَ عَاذِلَ والعتابَا ... وقُولِي إن أَصَبْتُِ لقد أصابَا )
حتى بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيرٍ ... )
فجعل يردده ولا يزيد عليه حتى حملتني عيني فضربت بذقني صدري نائما فإذا به قد وثب حتى أصاب السقف رأسه وكبر ثم صاح أخزيته والله اكتب

( فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبَا ... )
غضضته وقدمت إخوته عليه والله لا يفلح بعدها أبدا فكان والله كما قال ما افلح هو ولا نميري بعدها
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
اقبل راكب من اليمامة فمر بالفرزدق وهو جالس في المربد فقال له من اين أقبلت قال من اليمامة فقال هل رأيت ابن المراغة قال نعم قال فأي شيء أحدث بعدي فأنشده
( هاجَ الهوى لفؤادك المُهْتاجِ ... )
فقال الفرزدق
( فانظُر بتُوضِحَ باكِرَ الأَحْداجِ ... )
فأنشده الرجل
( هذا هَوىً شغَف الفؤادَ مبرِّحٌ ... )
فقال الفرزدق
( ونَوىً تَقَاذَفُ غيرُ ذاتِ خِلاَج ... ) ِ
فأنشده الرجل
( إن الغراب بما كرِهتَ لمُولَعُ ... )

فقال الفرزدق
( بِنَوَى الأحبَّةِ دائمُ التَّشْحَاجِ ... )
فقال الرجل هكذا والله قال أفسمعتها من غيري قال لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال أوما علمت أن شيطاننا واحد ثم قال أمدح بها الحجاج قال نعم قال إياه أراد
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني أبو عبيدة قال
التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير
( فإنك لاقٍ بالمنازل من مِنىً ... فَخَاراً فخبِّرْنِي بمن أنت فاخرُ )
فقال له جرير بلبيك اللهم لبيك قال إسحاق فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون منه
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام وأخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل عن ابن سلام قال حدثنا أبو الخطاب عن أبيه عن حجناء بن جرير قال
قلت لأبي يا ابت ما هجوت قوما قط إلا أفسدتهم سوى التيم فقال

إني لم أجد حسبا أضعه ولا بناء أهدمه
قال ابن سلام أخبرني أبو قيس عن عكرمة بن جرير قال قلت لأبي يا أبت من أشعر الناس فقال ألجاهلية تريد أم الإسلام قلت أخبرني عن الجاهلية قال شاعر الجاهلية زهير قلت فالإسلام قال نبعة الشعر الفرزدق قلت فالأخطل قال يجيد صفة الملوك ويصيب نعت الخمر قلت فما تركت لنفسك قال دعني فإني نحرت الشعر نحرا (

الفرزدق توقع سلفا ما هجاه به جرير
)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي عن عمارة بن عقيل عن جده قال
وقف الفرزدق على أبي بمربد البصرة وهو ينشد قصيدته التي هجا بها الراعي فلما بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرْف إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغت ولا كِلابا )
أقبل الفرزدق على روايته فقال غضه والله فلا يجيبه أبدا ولا يفلح بعدها فلما بلغ إلى قوله
( بها بَرَصٌ بجانبِ إسْكَتَيْها ... )
وضع الفرزدق يده على فيه وغطى عنفقته فقال أبي
( كَعَنْفَقَةِ الفرزدقِ حين شابَا ... )

فانصرف الفرزدق وهو يقول اللهم أخزه والله لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا ولكن طمعت ألا يأبه فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا قال العنزي حدثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال قال يونس ما أرى جريرا قال هذا المصراع إلا حين غطى الفرزدق عنفقته فإنه نبهه عليه بتغطيته إياها

الفرزدق يعترف بمجاراة جرير له
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
قال رجل من بني دارم للفرزدق وهو بالبصرة يا ابا فراس هل تعلم اليوم أحدا يرمي معك فقال لا والله ما أعرف نابحا إلا وقد استكان ولا ناهشا إلا وقد انجحر إلا القائل
( فإنْ لم أَجِدْ في القُرْبِ والبعدِ حاجتي ... تَشَأَّمتُ أو حوَّلتُ وجهي يمانيَا )
( فرُدِّي جِمَالَ الحيِّ ثم تَحَمَّلي ... فما لكِ فيهم من مُقَامٍ ولا لِيَا )
( فإنِّي لمغرورٌ أُعلَّل بالمُنَى ... لياليَ أرجو أنّ ما لَكَ ما ليا )
( وقائلةٍ والدمعُ يَحْدِر كُحْلَها ... ابعدَ جرير تُكرِمون المَوَاليِا )
( بأيِّ نِجَادٍ تحمِل السيفَ بعدما ... قطعتَ القُوَى من مِحْمَلٍ كان باقيا )
( بأيِّ سنانٍ تطعُنُ القَرْمَ بعدما ... نزَعْتَ سِناناً من قَنَاتِك ماضيا )
( لساني وسيفي صارمانِ كلاهما ... ولَلسَّيْفُ أَشْوَى وَقْعةً من لسانيا )

قال وهذا الشعر لجرير
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال
قال جرير وفدت إلى يزيد بن معاوية وأنا شاب يومئذ فاستؤذن لي عليه في جملة الشعراء فخرج الحاجب إلي وقال يقول لك أمير المؤمنين إنه لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولا نسمع بشيء من شعره وما سمعنا لك بشيء فنأذن لك على بصيرة فقلت له تقول لأمير المؤمنين أنا القائل
( وإنِّي لَعَفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغِنَى ... سريعٌ إذا لم أرضَ داري انتقاليا )
( جريءُ الجَنَانِ لا أَهاب مِنَ الرَّدَى ... إذا ما جعلتُ السيفَ قَبْضَ بَنَانيا )
( وليس لسيفي في العظامِ بَقِيَّةٌ ... ولَلسَّيْفُ أَشْوَى وقعةً من لسانيا ) فدخل الحاجب عليه فأنشده الأبيات ثم خرج إلي وأذن لي فدخلت وأنشدته وأخذت الجائزة مع الشعراء فكانت أول جائزة أخذتها من خليفة وقال لي لقد فارق أبي الدنيا وما يظن أبياتك التي توسلت بها إلي إلا لي (

حماد الرواية يوازن بينه وبين الفرزدق
)
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال
أتيت الفرزدق فأنشدني ثم قال لي هل أتيت الكلب جريرا قلت نعم قال فأنا أشعر أو هو فقلت أنت في بعض الأمر وهو في بعض فقال لم تناصحني فقلت هو أشعر إذا أرخى من خناقه وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت فقال وهل الشعر إلا في الخوف والرجاء وعند الخير والشر

أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن يحيى بن عنبسة القرشي وعوانة بن الحكم
أن جريرا والفرزدق اجتمعا عند بشر بن مروان فقال لهما بشر إنكما قد تقارضتما الأشعار وتطالبتما الآثار وتقاولتما الفخر وتهاجيتما فأما الهجاء فليست بي إليه حاجة فجددا بين يدي فخرا ودعاني مما مضى فقال الفرزدق
( نحن السَّنَامُ والمَنَاسِمُ غيرُنا ... فمَنْ ذا يُساوِي بالسَّنَامِ المناسمَا )
فقال جرير
( على موضع الأَسْتاهِ أنتم زعمتُمُ ... وكلُّ سَنَامٍ تابعٌ للغَلاَصِمِ )
فقال الفرزدق
( على مَحْرَثٍ للفَرْث أنتم زعمتُمُ ... ألاَ إنَّ فوق الغَلْصَمات الجَمَاجِمَا )
فقال جرير
( وأنبأتُمونا أنكم هامُ قومِكم ... ولا هامَ إلا تابعٌ للخَرَاطم )
فقال الفرزدق
( فنحن الزِّمامُ القائدُ المقتدَى به ... من الناس ما زِلنا ولسنا لَهَازِمَا )
فقال جرير
( فنحن بَنِي زيد قطعنا زِمامِها ... فتاهت كسارٍ طائِش الرأسِ عارِمِ )

فقال بشر غلبته يا جرير بقطعك الزمام وذهابك بالناقة وأحسن الجائزة لهما وفضل جريرا
قال المدائني وحدثني عوانة بن الحكم قال
جاء جرير إلى باب سكينة بنت الحسين عليه السلام يستأذن عليها فلم تاذن له وخرجت إليه جارية لها فقالت تقول لك سيدتي أنت القائل
( طَرَقَتْكَ صائدةُ القلوب وليس ذا ... حينَ الزيارةِ فارْجِعِي بسلامِ )
قال نعم قالت فألا أخذت بيدها فرحبت بها وأدنيت مجلسها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف فخذ هذين الألفي الدرهم فالحق بأهلك

سكينة بنت الحسين فضلته على الفرزدق
قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو يعقوب الثقفي عن الشعبي أن الفرزدق خرج حاجا فلما قضى حجه عدل إلى المدينة فدخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فسلم فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسِي مَنْ تَجَنُّبُه عزيزٌ ... عليّ ومَنْ زيارتُه لِمَامُ )
( ومَنْ أمسِي وأُصبِح لا أَراه ... ويَطْرُقُنِي إذا هَجَع النِّيام )
فقال والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه قالت أقيموه فأخرج

ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول
( لولا الحياءُ لعادني استعبارُ ... ولَزُرْتُ قبرك والحبيبُ يُزَارُ )
( كانت إذا هَجَر الضَّجِيعُ فِراشَها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفَّت الأسرارُ )
( لا يَلْبَثُ القُرَنَاءُ أنْ يتفرَّقوا ... ليلٌ يكُرّ عليهمُ ونهارُ )
فقال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه فأمرت به فأخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات لها كأنهن التماثيل فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها فقالت له سكينة يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول
( إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قتلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلانا )
( يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به ... وهنّ أضعفُ خَلْقِ اللَّه اركانا )
( أَتْبعتُهم مُقْلةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما تَرَى تاركٌ للعين إنسانا )
فقال والله لئن تركتني لأسمعنك أحسن منه فأمرت بإخراجه فالتفت إليها وقال يا بنت رسول الله إن لي عليك حقا عظيما قالت وما هو قال ضربت إليك آباط الإبل من مكة إرادة التسليم عليك فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي وتفضيل جرير علي ومنعك إياي أن أنشدك شيئا من شعري وبي ما قد عيل منه صبري وهذه

المنايا تغدوا وتروح ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت فإذا أنا مت فمري بي أن أدرج في كفني وأدفن في حر هذه يعني الجارية التي أعجبته فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية فخرج بها آخذا بريطتها وأمرت الجواري فدفعن في أقفيتهما ونادته يا فرزدق احتفظ بها وأحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي
قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو عمران بن عبدالملك بن عمير عن أبيه وحدثنيه عوانة أيضا قالا
صنع عبدالملك بن مروان طعاما فأكثر وأطاب ودعا إليه الناس فأكلوا فقال بعضهم ما أطيب هذا الطعام ما نرى أن أحدا رأى أكثر منه ولا أكل أطيب منه فقال أعرابي من ناحية القوم أما أكثر فلا وأما أطيب فقد والله أكلت أطيب منه فطفقوا يضحكون من قوله فأشار إليه عبدالملك فأدني منه فقال ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك فقال نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا بهجر في برث أحمر في أقصى حجر إذ توفي أبي وترك كلا وعيالا وكان له نخل فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها كأن تمرها أخفاف الرباع لم ير تمر قط أغلظ ولا أصلب ولا أصغر نوى ولا أحلى حلاوة منه وكانت تطرقها أتان وحشية قد ألفتها تأوي الليل تحتها

فكانت تثبت رجليها في أصلها وترفع يديها وتعطو بفيها فلا تترك فيها إلا النبيذ والمتفرق فأعظمني ذلك ووقع مني كل موقع فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي فمكثت يوما وليلة لا اراها حتى إذا كان السحر أقبلت فتهيأت لها فرشقتها فأصبتها وأجهزت عليها ثم عمدت إلى سرتها فاقتددتها ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رضف وعمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيه وأدركني نوم الشباب فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى وسواد ورماد ثم قلبت منها مثل الملاءة البيضاء فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة والمنصفة فسمعت لها أطيطا كتداعي عامر وغطفان ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي فبما أحلف إني ما أكلت طعاما مثله قط فقال له عبد الملك لقد أكلت طعاما طيبا فمن أنت قال أنا رجل جانبتني عنعنة تميم وأسد وكشكشة ربيعة وحوشي أهل اليمن وإن كنت منهم فقال من ايهم أنت قال من أخوالك من عذرة قال أولئك فصحاء الناس فهل لك علم بالشعر قال سلني عما بدا لك يا أمير المؤمنين قال أي بيت قالته العرب أمدح قال قول جرير

( ألستم خيرَ مَنْ ركِبَ المَطايا ... وأَنْدَى العالمين بطونَ راحِ )
قال وكان جرير في القوم فرفع رأسه وتطاول لها ثم قال فأي بيت قالته العرب أفخر قال قول جرير
( إذا غضبتْ عليك بنو تَميم ... حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا )
قال فتحرك لها جرير ثم قال له فأي بيت أهجى قال قول جرير
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبا )
قال فاستشرف لها جرير قال فأي بيت أغزل قال قول جرير
( إن العيون التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قَتَلْنَنا ثم لم يُحيِين قَتْلانا ) قال فاهتز جرير وطرب ثم قال له فأي بيت قالته العرب أحسن تشبيها قال قول جرير
( سَرَى نحوَهم ليلٌ كأنّ نجومَه ... قَنَادِيلُ فيهنّ الذُّبَال المفتَّلُ )
فقال جرير جائزتي للعذري يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك وله مثلها من بيت المال ولك جائزتك يا جرير لا تنتقص منها شيئا وكانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة فخرج العذري وفي يده اليمنى ثمانية آلاف درهم وفي اليسرى رزمة ثياب
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عياش الهمداني قال
بينا المهلب ذات يوم ( أو ليلة ) بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة وصياحا فقال ما هذا قالوا جماعة من العرب تحاكموا إليك

في شيء فأذن لهم فقالوا إنا اختلفنا في جرير والفرزدق فكل فريق منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر وقد رضينا بحكم الأمير فقال كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقا جلدتي لا أحكم بينهما ولكني ادلكم على من يهون عليه سبال جرير وسبال الفرزدق عليكم بالأزارقة فإنهم قوم عرب يبصرون بالشعر ويقولون فيه بالحق فلما كان الغد خرج عبيدة بن هلال اليشكري ودعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقا فقال له يا عبيدة سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه قال سل قال أوتخبرني قال نعم إن كنت أعلمه قال أجرير أشعر أم الفرزدق قال قبحك الله أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر قال إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك فقال من الذي يقول
( وَطوَى الطِّرَادُ مع القِيَادِ بطونَها ... طَيَّ التِّجَارِ بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا )
فقال جرير قال هذا أشعر الرجلين (

لم ينسب ولم يرجز
)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي عن العتيبي قال
قال جرير ما عشقت قط ولو عشقت لنسبت نسيبا تسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها وإني لأرى من الرجز أمثال آثار الخيل في الثرى ولولا أني أخاف أن يستفزعني لأكثرت منه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي قالا حدثنا ابن الأعرابي

قال حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن بيهس بن صهيب الجرمي عن عامر بن شبل الجرمي قال
قدم جرير على عبدالعزيز بن الوليد بن عبد الملك وهو نازل بدير مران فكنا نغدوا إليه بكرا فيخرج إلينا ويجلس في برنس خز له لا يكلمنا كلمة حتى يجيء طباخ عبد العزيز إليه بقدح من طلاء مسخن يفور وبكتلة من سمن كأنها هامة رجل فيخوضها فيه ثم يدفعه إليه فيأتي عليه ويقبل علينا ويحدثنا في كل فن وينشدنا لنفسه ولغيره حتى يحضر غداء عبد العزيز فنقوم إليه جميعا وكان يختم مجلسه بالتسبيح فيطيل فقال له رجل ما يغني عنك هذا التسبيح مع قذفك للمحصنات فتبسم وقال يابن أخي ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ) إنهم والله يابن أخي يبدأوني ثم لا أحلم
أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعيد بن جعفر بن يوسف بن محمد بن موسى قال حدثني الأخفش عن أبي محذورة الوراق عن أبي مالك الراوية قال سمعت الفرزدق يقول وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الطائفي قال حدثني محمد بن مسعدة الأخفش عن أبي محذورة الوراق عن أبي مالك الراوية قال

سمعت الفرزدق يقول أبق غلامان لرجل منا يقال له الخضر فحدثني قال خرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أريد اليمامة فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران ارتفعت سحابة فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرى فأجابوا فدخلت داراً لهم وأنخت الناقة وجلست تحت ظلة لهم من جريد النخل وفي الدار جويرية لهم سوداء إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة وكأن عينيها كوكبان دريان فسألت الجارية لمن هذه العيساء تعني ناقتي فقالت لضيفكم هذا فعدلت إلي فقالت السلام عليكم فرددت عليها السلام فقالت لي ممن الرجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيهم فقلت من بني نهشل فتبسمت وقالت أنت إذا ممن عناه الفرزدق بقوله
( إن الذي سمَك السماءَ بنَى لنا ... بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطولُ )
( بيتاً بناه لنا المليكُ وما بَنَى ... مَلِكُ السماءِ فإنه لا يُنْقَلُ )
( بيتاً زُرَارةُ مُحْتَبٍ بفِنائه ... ومُجَاشِعٌ وأبو الفَوَارِس نَهْشَلُ )
قال فقلت نعم جعلت فداك وأعجبني ما سمعت منها فضحكت وقالت فإن ابن الخطفي قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول
( أَخْزَى الذي رفَع السماء مُجَاشِعاً ... وبَنى بِناءكَ بالحَضيض الأسفل )
( بيتاً يُحَمِّمُ قَيْنُكم بفِنائه ... دَنِساً مَقَاعِدُه خبيثَ المَدْخَلِ )

قال فوجمت فلما رأت ذلك في وجهي قالت لا عليك فإن الناس يقال فيهم ويقولون ثم قالت اين تؤم قلت اليمامة فتنفست الصعداء ثم قالت ها هي تلك أمامك ثم أنشأت تقول
( تُذكِّرُني بلاداً خيرُ أهلِي ... بها أهلُ المروءة والكَرامه )
( أَلا فَسَقَى الإلهُ أَجَشَّ صَوْباً ... يَسُحُّ بدرِّه بلدَ اليمامه )
( وحَيّا بالسلام أبا نُجَيدٍ ... فأهلٌ للتحيَّة والسلامهْ )
( قال فأنست بها وقلت لها أذات خدن أم ذات بعل فأنشأت تقول
( إذا رَقد النِّيَامُ فإن عمراً ... تؤرِّقه الهمومُ إلى الصباحِ )
( تُقطِّع قلبَه الذِّكْرى وقلبي ... فلا هو بالخَليّ ولا بِصَاحِ )
( سقَى اللَّهُ اليمامة دار قوم ... بها عمرو يَحِنُّ إلى الرَّواحِ )
فقلت لها من عمرو هذا فأنشأت تقول
( سألتَ ولو علمتَ كَفَفْتَ عنه ... ومن لكَ بالجوابِ سِوَى الخبير )
( فإن تَكُ ذا قَبولٍ إن عَمْراً ... هو القَمَرُ المُضيءُ المستنيرُ )
( وما لي بالتبعُّلِ مُسْتَراحٌ ... ولو ردَّ التبعُّلُ لي أَسِيري )
قال ثم سكتت سكتة كأنها تتسمع إلى كلام ثم تهافتت وأنشأت تقول
( يخيَّل لي هَيَا عمرُو بنَ كَعْبٍ ... كأنك قد حُمِلْتَ على سريرِ )
( يَسير بك الهُوَيْنَى القومُ لما ... رَماك الحبُّ بالعَلق العَسِيرِ )

( فإن تَكُ هكذا يا عَمْرُو إنِّي ... مُبكِّرةٌ عليك إلى القبورِ )
ثم شهقت شهقة فخرت ميتة فقلت لهم من هذه فقالوا هذه عقيلة بنت الضحاك بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء فقلت لهم فمن عمرو هذا قالوا ابن عمها عمرو بن كعب بن محرق بن النعمان بن المنذر فارتحلت من عندهم فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت

خبره مع عمر بن عبد العزيز
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو الهيثم بدر بن سعيد العطار قال حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال
لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه الشعراء فجعلوا لا يصلون إليه فجاء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعليه عمامة قد أرخى طرفيها فدخل فصاح به جرير
( يأيُّها القارىءُ المُرْخي عِمامَته ... هذا زمانُك إنِّي قد مَضَى زَمَنِي )
( أبلِغ خليفتَنا إن كنتَ لاقيَه ... أنِّي لَدَى البابِ كالمَصْفودِ في قَرَنِ )
قال فدخل على عمر فاستأذن له فأدخله عليه وقد كان هيأ له شعرا فلما دخل عليه غيره وقال
( إنا لنرجو إذا ما الغيثُ أَخْلَفَنا ... من الخليفةِ ما نرجوا من المطرِ )
( نال الخلافةَ إذ كانت له قَدَراً ... كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَر )

( أأذكر الجَهْدَ والبَلْوَى التي نزلتْ ... أم تَكْتفي بالذي بُلَّغْتَ من خَبَرِي )
( ما زِلْتُ بعدَك في دارٍ تَعَرَّقُنِي ... قد طال بعدك إصعادي ومُنحدَرِي )
( لا ينفَع الحاضرُ المجهودُ بادِيَنا ... ولا يجود لنا بادٍ على حَضَرِ )
( كم بالمواسِم من شَعْثاءَ أَرْمَلةٍ ... ومن يَتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والبصرِ )
( يدعوك دعوةَ ملهوفٍ كأنّ به ... خَبْلاً من الجِنّ أو مَسّاً من النُّشَرِ )
( ممّن يَعُدُّك نَكْفِي فَقْدَ والدِه ... كالفَرْخ في العُشِّ لم يَنْهَضْ ولم يَطِرِ )
قال فبكى عمر ثم قال يابن الخطفي أمن أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقهم أم من ابناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم أم من فقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومك فيصلك بمثل ما يصل به قومك فقال يا أمير المؤمنين ما أنا بواحد من هؤلاء وإني لمن أكثر قومي مالا وأحسنهم حالا ولكني اسألك ما عودتنيه الخلفاء أربعة آلاف درهم وما يتبعها من كسوة وحملان فقال له عمر كل امرىء يلقى فعله وأما أنا فما أرى لك في مال الله حقا ولكن انتظر يخرج فانظر ما يكفي عيالي سنة منه فأدخره لهم ثم إن فضل فضل صرفناه إليك فقال جرير لا بل يوفر أمير المؤمنين ويحمد وأخرج راضيا قال فذلك أحب إلي فخرج فلما ولى قال عمر إن شر هذا ليتقى ردوه إلي فردوه فقال إن عندي أربعين دينارا وخلعتين إذا غسلت إحداهما لبست الأخرى وأنا مقاسمك ذلك على أن الله جل وعز يعلم أن عمر أحوج إلى ذلك منك فقال له قد وفرك الله يا أمير المؤمنين وأنا والله راض قال أما وقد حلفت فإن ما وفرته علي ولم تضيق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح فامض مصاحبا فخرج فقال له أصحابه وفيهم الفرزدق

ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة قال خرجت من عند رجل يقرب الفقراء ويباعد الشعراء وأنا مع ذلك عنه راض ثم وضع رجله في غرز راحلته وأتى قومه فقالوا له ما صنع بك أمير المؤمنين أبا حزرة فقال
( تركتُ لكم بالشام حَبْلَ جماعةٍ ... أَمِينَ القُوَى مُسْتَحْصِدَ العَقْدِ باقيَا )
( وجدتُ رُقَى الشيطانِ لا تستفِزُّه ... وقد كان شيطاني من الجِنّ راقيَا )
هذه رواية عمر بن شبة وأما اليزيدي فإنه قال في خبره فقال له جرير يا أمير المؤمنين فإني ابن سبيل قال لك ما لأبناء السبيل زادك ونفقة تبلغك وتبدل راحلتك إن لم تحملك فألح عليه فقالت له بنو أمية يا أبا حزرة مهلا عن أمير المؤمنين ونحن نرضيك من أموالنا عنه فخرج وجمعت له بنو أمية مالا عظيما فما خرج من عند خليفة بأكثر مما خرج من عند عمر
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال
رأت أم جرير وهي حامل به كأنها ولدت حبلا من شعر أسود فلما سقط منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه حتى فعل ذلك برجال كثير فانتبهت فزعة فأولت الرؤيا فقيل لها تلدين غلاما شاعرا ذا شر وشدة شكيمة وبلاء على الناس فلما ولدته سمته جريراً باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها قال والجرير الحبل
قال إسحاق وقال الأصمعي حدثني بلال بن جرير أو حدثت عنه
أن رجلا قال لجرير من أشعر الناس قال له قم حتى أعرفك الجواب فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها

فصاح به اخرج يا أبت فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته فقال ألا ترى هذا قال نعم قال أوتعرفه قال لا قال هذا أبي أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز قلت لا قال مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن ثم قال أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم به فغلبهم جميعا
حدثني عمي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني عبدالله بن محمد بن موسى مولى بني هاشم قال حدثني عمارة بن عقيل عن المغيرة بن حجناء عن أبيه قال
ولد جرير لسبعة اشهر فكان الفرزدق يعيره ذلك وفيه يقول
( وأنت أبنُ صُغْرَى لم تَتمَّ شهورُها ... )
قال وولد عطية جريرا وأمه أم قيس بنت معيد من بني كليب وعمرا وأبا الورد فأما ابو الورد فكان يحسد جريرا فذهبت لجرير إبل فشمت به أبو الورد فقال له جرير
( أبا الورْدِ أَبْقَى اللَّهُ منها بَقِيّةً ... كَفَتْ كلَّ لَوَّامٍ خَذُولٍ وحاسِد )
وأما عمرو فكان أكبر من جرير وكان يقارضه الشعر فقال له جرير
( وعمرو قد كرِهتُ عتابَ عمروٍ ... وقد كثُر المَعَاتِبُ والذُّنوبُ )
( وقد صَدَّعتُ صخرةَ مَنْ رماكم ... وقد يُرْمى بيَ الحجرُ الصَّلِيبُ )
( وقد قطعَ الحديدَ فلا تُمَارُوا ... فِرِنْدٌ لا يُفَلّ ولا يَذُوبُ )

يزيد بن معاوية يعاتب أباه بشعر جرير وينسبه إلى نفسه
قال وأول شعر قاله جرير في زمن معاوية قاله لابنه

( فرُدِّي جِمالَ البَيْنِ ثم تَحَمَّلِي ... فَما لكِ فيهم من مُقَامٍ ولا لِيَا )
( لقد قادَنِي الجِيران يوماً وقُدْتُهم ... وفارقتُ حتَّى ما تصُبُّ جِمَالِيَا )
( وإنَّي لمغرورٌ أُعلَّلُ بالمُنَى ... لياليَ أرجو أن مالكَ مالِيَا )
( بأيّ سِنَانٍ تَطْعُنُ القَرْمَ بعدما ... نَزَعْتَ سِنَاناً من قَنَاتِك ماضيَا )
( بأيّ نِجَادٍ تحمِل السَّيفَ بعدما ... قطعتَ القُوَى من مِحْمَلٍ كان باقِيَا )
قال وكان يزيد بن معاوية عاتب أباه بهذه الأبيات ونسبها إلى نفسه لأن جريرا لم يكن شعره شهر حينئذ فقدم جرير على يزيد في خلافته فاستؤذن له مع الشعراء فأمر يزيد ألا يدخل عليه شاعر إلا من عرف شعره فقال جرير قولوا له أنا القائل
( فرُدِّي جِمالَ الحيِّ ثم تَحَمَّلِي ... فما لكِ فيهم من مُقامٍ ولا لِيَا )
فأمر بإدخاله فلما أنشده قال يزيد لقد فارق أبي الدنيا وما يحسب إلا أني قائلها وأمر له بجائزة وكسوة
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال قال ابو عبيدة قال أبو عمرو
استعار جرير من أبيه فحلا يطرقه في إبله فلما استغنى عنه جاءه أبوه في بت خلق يسترده فدفعه إليه وقال يا ابت هذا تُرَدّ إلى عطيَّةَ تُعْتَلُ يعرِّض بقول الفرزدق فيه
( ليس الكرامُ بناحِلِيكَ اباهُم ... حتى تُرَدَّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ )

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي وعمر بن شبة قالا حدثنا الأصمعي قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال
جلس جرير يملي على رجل قوله
( وَدِّعْ أُمامةِ حانَ منكَ رحيلُ ... إنَّ الوَدَاعَ لمن تحبّ قليلُ )
فمروا عليه بجنازة فقطع الإنشاد وجعل يبكي ثم قال شيبتني هذه الجنازة قال أبو عمرو فقلت له فعلام تقذف المحصنات منذ كذا وكذا فقال إنهم يبدأونني ثم لا أعفو
أخبرني عمي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا عبد الله بن المعذل قال
كان أبي وجماعة من علمائنا يقولون إنما فضل جرير لمقاومته الفرزدق وأفضل شعر قاله جرير
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذات المَوَاعِيس ... )
أخبرني ابو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا ابو الغراف قال
أتى الفرزدق مجلس بني الهجيم في مسجدهم فأنشدهم وبلغ ذلك جريرا فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق فقال له شيخ منهم يا هذا اتق الله فإن هذا المسجد إنما بني لذكر الله والصلاة فقال جرير أقررتم للفرزدق ومنعتموني وخرج مغضبا وهو يقول

( إنّ الهُجَيْمَ قبيلةٌ ملعونةٌ ... حُصُّ اللِّحَى متشابهو الألوانِ )
( هم يتركون بَنِيهمُ وبناتهم ... صُعْرَ الأنوفِ لريح كلِّ دُخَانِ )
( لو يَسمعون بأكلةٍ أو شَرْبةٍ ... بعُمَانَ أصبح جَمْعُهم بعُمَانِ )
قال وخفة اللحى في بني هجيم ظاهرة وقيل لرجل منهم ما بالكم يا بني الهجيم حص اللحى قال إن الفحل واحد
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال سمعت عمارة بن عقيل يحدث عن أبيه عن جده قال
قال عبد الملك أو الوليد ابنه لجرير من اشعر الناس قال فقال ابن العشرين قال فما رأيك في ابني أبي سلمى قال كان شعرهما نيرا يا أمير المؤمنين قال فما تقول في امرىء القيس قال اتخذ الخبيث الشعر نعلين وأقسم بالله لو أدركته لرفعت ذلاذله قال فما تقول في ذي الرمة قال قدر من ظريف الشعر وغريبه وحسنه على ما لم يقدر عليه أحد قال فما تقول في الأخطل قال ما أخرج لسان ابن النصرانية

ما في صدره من الشعر حتى مات قال فما تقول في الفرزدق قال في يده والله يا أمير المؤمنين نبعة من الشعر قد قبض عليها قال فما أراك أبقيت لنفسك شيئا قال بلى والله يا أمير المؤمنين إني لمدينة الشعر التي منها يخرج وإليها يعود نسبت فأطربت وهجوت فأرديت ومدحت فسنيت وأرملت فأغزرت ورجزت فأبحرت فأنا قلت ضروب الشعر كلها وكل واحد منهم قال نوعا منها قال صدقت

شعره في جارية له طلبت منه أن يبيعها
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
كانت لجرير أمة وكان بها معجبا فاستخفت المطعم والملبس والغشيان واستقلت ما عنده وكانت قبله عند قوم يقال لهم بنو زيد أهل خصب ونعمة فسامته أن يبيعها وألحت في ذلك فقال فيها
( تكلِّفُني معيشةَ آلِ زيدٍ ... ومَنْ لي بالمُرَقَّقِ والصِّنَابِ )
( تقول أَلاَ تَضُمّ كَضَمِّ زيدٍ ... وما ضَمِّي وليس معي شَبابي )
فقال الفرزدق يعيره ذلك
( فإن تُفْقِرْك عِلْجَةُ آل زيدٍ ... ويُعْجِزْك المرقَّقُ والصِّنَابُ )
( فقِدْماً كان عيشُ أبيك مُرّاً ... يَعيشُ بما تعيش به الكلابُ )

خبره مع ذي الرمة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة عن أيوب بن كسيب قال
دخل جرير على المهاجر بن عبد الله وهو والي اليمامة وعنده ذو الرمة ينشده فقال المهاجر بن عبد الله لجرير كيف ترى قال لقد قال وما أنعم فغضب ذو الرمة ونهض وهو يقول
( أنا أبو الحارثِ واسْمِي غَيْلانْ ... )
فنهض جرير وقال
( إنِّي امرؤٌ خُلِقتُ شَكْساً أَشْوَسا ... إن تَضْرِسَاني تَضْرِسا مُضَرَّسا )
( قد لبِس الدهرَ وأَبْقَى مَلْبَسَا ... من شاء من نارِ الجَحيم اقتَبَسا )
قال فجلس ذو الرمة وحاد عنه فلم يجبه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا ابن النطاح عن أبي عبيدة قال كان ذو الرمة ممن أعان على جرير ولم يصحر له فقال جرير فيه
( أقول نَصَاحةً لبَني عَدِيٍّ ... ثيابَكُمُ ونَضْحَ دمِ القَتِيلِ )
وهي قصيدة قال وكانوا يتعاونون عليه ولا يصحرون له
أخبرنا ابو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو الغراف قال
قال الفرزدق لذي الرمة ألهاك البكاء في الديار وهذا العبد يرجز بك

( يعني هشاما المرئي ) بمقبرة بني حصن قال وكان السبب في الهجاء بين ذي الرمة وهشام أن ذا الرمة نزل بقرية لبني امرىء القيس يقال لها مرأة فلم يقروه ولم يعلفوا له فارتحل وهو يقول
( نزلنا وقد طال النهارُ وأَوْقدتْ ... علينا حًصَى المِعْزَاءِ شمسٌ تَنَالُها )
( أَنَخْنَا فظلَّلْنَا بأَبْرادِ يُمْنَةٍ ... رِقاقٍ وأسيافٍ قديمٍ صِقالُها )
( فلمَّا رآنا أهلُ مَرْأةَ أَغْلَقُوا ... مَخَادِع لم تُرْفَع لخيرٍ ظِلاَلُها )
( وقد سُمِّيتْ باسم امرىء القَيْس قَرْيةٌ ... كِرَامٌ َصوَادِيها لئامٌ رجالُها )
( يظَلُّ الكِرامُ المُرْمِلُونَ بجَوّها ... سواءٌ عليهم حَمْلُها وحِيَالُها )
( ولو وُضِعَتْ أكوارها عند بَيْهَسٍ ... على ذاتِ غِسْلٍ لم تُشَمِّسْ رِحَالُها )
فقال جرير لهشام وكان يتهم ذا الرمة بهجائه التيم وهم إخوة عدي عليك العبد يعني ذا لرمة قال فما أصنع يا أبا حزرة وهو يقول القصيد وأنا أقول الرجز والرجز لا يقوم للقصيد فلو رفدتني قال قل له
( عجِبتَ لِرَحْلٍ من عَدِيٍّ مُشَمَّسٍ ... وفي أيّ يومٍ لم تُشَمًّسْ رحالُها )
( وفِيمَ عَدِيٌّ عند تَيْم من العُلاَ ... وأيَّامِنا اللاَّتي يٌعَدّ فَعالُها )
( مَدَدْتَ بكفٍّ من عديٍّ قصيرةٍ ... لِتُدْرِكَ من زيد يداً لا تنالُها )

( وضَبَّةُ عَمِّي يابنَ جَلٍّ فلا تَرُمْ ... مساعيَ قومٍ ليس منك سِجالُها )
( يُمَاشي عَدِيّاً لؤمُها ما تُجِنُّه ... من الناس ماشتْ عَدِيّاً ظِلاَلُها )
( فقل لعَدِيٍّ تَستعِنْ بنسائها ... عليَّ فقد أَعْيَا عَدِيّاً رجالُها )
( أذَا الرُّمِّ قد قَلَّدتُ قومَك رُمَّةً ... بطيئاً بأيدي المُطلقِين انحلالُها )
( تَرَى اللُّؤم ما عاشتْ عديٌّ مخلَّداً ... سَرابيلُها منه ومنه نِعالُها )
قال فلج الهجاء بين ذي الرمة وهشام فلما أنشد المرئي هذه الأبيات وسمعها ذو الرمة قال كذب العبد السوء ليس هذا الكلام له هذا كلام نجدي حنظلي هذا كلام آبن الأتان قال ولم يزل ذو الرمة مستعليا على هشام حتى لقيه جرير فرفده هذه الأبيات
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عدنان قال حدثني أبو صخر من ولد حجناء بن نوح بن جرير قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال
أتى هشام بن قيس المرئي أبي يعني جريرا فاسترفده على ذي الرمة وقد كانا تهاجيا دهرا وكان سبب ذلك أن ذا الرمة نزل على أهل قرية لبني آمرىء القيس فلم يدخلوا رحله فذمهم في القرى ومدح بيهسا صاحب ذات غسل وهو مرئي وذات غسل قرية له فقال ذو الرمة
( ولمَّا وردْنا مَرْأةَ اللُّؤمِ أُغلِقتْ ... دَسَاكِرُ لم تُفْتَحْ لخيرٍ ظِلالُها )
( ولو عُرِّيتْ أصلابُها عند بَيْهَسٍ ... على ذات غِسْلٍ لم تُشَمَّس رِحالُها )

( إذا ما امرؤ القيس ابنُ لؤمٍ تَطَعَّمتْ ... بكأس الندامَى خَبَّثتْها سِبَالُها )
فقال جرير للمرئي قل له
( غَضِبتَ لرَحْلٍ من عديٍّ مُشَمَّسٍ ... وفي أيِّ يومٍ لم تُشمَّس رحالُها )
وذكر الأبيات الماضية المذكورة في رواية أبي خليفة قال فلقي ذو الرمة جريرا فقال له تعصبت للمرئي وأنا خالك قال حين قلت ماذا قال حين قلت له أن يقول لي
( عجبتَ لرَحْلٍ من عَدِيٍّ مشمَّسٍ ... )
فقال له جرير لا بل ألهاك البكاء في دار مية حتى أبيحت محارمك قال وكان قد بلغ جريرا ميل ذي الرمة عليه فجعل يعتذر إليه ويحلف له فقال له جرير اذهب الآن فقل للمرئي
( يَعُدّ الناسبون إلى تَميم ... بيوتَ المجدِ أربعةً كِبارا )
( يَعُدُّون الرِّباب وآلَ سَعْدٍ ... وعَمْراً ثم حَنْظلةَ الخِيارا )
( ويَهْلِكُ بينها المَرَئيُّ لَغْواً ... كما ألغيتَ في الدِّية الحُوَارا )
فقال ذو الرمة قصيدته التي أولها
( نَبَتْ عيناكَ عن طَلَلٍ بحُزْوَى ... عَفَتْه الرِّيحُ وامتُنِحَ القِطارَا )
وألحق فيها هذه الأبيات فلما أنشدها وسمعها المرئي جعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بويله وحربه ويقول ما لي ولجرير فقيل له وأين جرير منك هذا رجل يهاجيك وتهاجيه فقال هيهات لا والله ما يحسن ذو الرمة أن يقول

( ويذهَب بينها المَرَئِيّ لَغْواً ... كما ألغيتَ في الدِّيَة الحُوارَا )
هذا والله كلام جرير ما تعداه قط قال ومر الفرزدق بذي الرمة وهو ينشد هذه القصيدة فلما أنشد الأبيات الثلاثة فيها قال له الفرزدق أعد يا غيلان فأعاد فقال له أأنت تقول هذا قال نعم يا أبا فراس قال كذب فوك والله لقد نحلكها أشد لحيين منك هذا شعر ابن الأتان قال وجاء المرئيون إلى جرير فقالوا يا أبا حزرة قد آستعلى علينا ذو الرمة فأعنا على عادتك الجميلة فقال هيهات قد والله ظلمت خالي لكم مرة وجاءني فاعتذر وحلف وما كنت لأعينكم عليه بعدها قال ومات ذو الرمة في تلك الأيام

نصيب يقر بأسبقيته عليه وعلى جميل
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن لقيط قال حدثني أبو بكر بن نوفل قال حدثني من سأل النصيب قال قلت له يا أبا محجن بيت قلته نازعك فيه جرير وجميل فأحب أن تخبرني أيكم فيه أشعر قال وما هو قلت قولك
( أَضَرَّ بها التَهجيرُ حتى كأنها ... أَكَبّ عليها جازِرٌ مُتَعَرِّقُ )
وقال جميل
( أَضَرَّ بها التهجيرُ حتى كأنها ... بقايَا سُلاَلٍ لم يَدَعْها سُلاَلُها )
وقال جرير
( إذا بلغوا المنازلَ لم تُقَيَّدْ ... وفي طُول الكَلاَلِ لها قيودُ )

فقال نصيب قاتل الله آبن الخطفي ما أشعره قال فقال له الرجل أما أنت فقد فضلته فقال هو ما أقول لك
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الرحمن بن القاسم العجلي قال حدثني الحسن بن علي المنقري قال قال مسعود بن بشر
قلت لابن مناذر بمكة من أشعر الناس قال من إذا شئت لعب وإذا شئت جد فإذا لعب أطمعك لعبه فيه وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له أيأسك من نفسه قلت مثل من قال مثل جرير حين يقول إذا لعب
( إنَّ الَّذين غَدَوْا بلُبِّك غادروا ... وَشَلاً بعينك ما يزال مَعينَا )
ثم قال حين جد
( إنّ الذي حَرَم المكارِم تَغْلباً ... جعل الخلافةَ والنبوَّةَ فينا )
( مُضَرٌ أبي وأبو الملوكِ فهل لكم ... يا آل تَغْلِبَ من أبٍ كأبينا )
( هذا ابن عمِّي في دِمَشْقَ خليفةً ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قطينا )
اخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال
لما بلغ عبد الملك قول جرير
( هذا ابن عمِّي في دِمَشْق خليفةً ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قَطينا )

قال ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطيا أما إنه لو قال
( لو شاء ساقكم إليّ قطينا ... )
لسقتهم إليه كما قال

بشار يفضله على الفرزدق والأخطل
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال
سألت بشارا العقيلي عن الثلاثة فقال لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه قلت فجرير والفرزدق قال كان جرير يحسن ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق وفضل جريرا عليه
وقال ابن سلام قال العلاء بن جرير وكان قد أدرك الناس وسمع كان يقال الأخطل إذا لم يجىء سابقا فهو سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا فهو بمنزلة المصلي أبدا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا قال ابن سلام وتأول قوله إن للأخطل خمسا أو ستا أو سبعا طوالا روائع غررا جيادا هو بهن سابق وسائر شعره دون اشعارهما فهو فيما بقي بمنزلة السكيت والسكيت آخر الخيل في الرهان والفرزدق دونه في هذه الروائع وفوقه في بقية شعره فهو كالمصلي أبدا وهو الذي يجيء بعد السابق وقبل السكيت وجرير له روائع هو بهن سابق وأوساط هو بهن مصل وسفسافات هو بهن سكيت
مناقضة بينه وبين الفرزدق
أخبرنا أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني حاجب بن زيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة قال

قال جرير بالكوفة
( لقد قادَنِي من حُبِّ ماوِيَّةَ الهَوَى ... وما كنتُ تَلْقَانِي الجَنِيبةُ أَقْوَدَا )
( أُحِبُّ ثَرَى نَجْدٍ وبالغَوْرِ حاجةُ ... فغارَ الهَوَى يا عبدَ قَيْسٍ وأَنْجَدَا )
( أقول له يا عبدَ قَيْسٍ صَبابةً ... بأيٍّ تَرَى مستوقِد النارِ أَوْقدا )
( فقال أرَى ناراً يُشَبُّ وُقُودها ... بحيثُ استفاض الجِزْع شِيحاً وغَرْقَدَا )
فأعجبت الناس وتناشدوها قال فحدثني جابر بن جندل قال فقال لنا جرير أعجبتكم هذه الأبيات قالوا نعم قال كأنكم بابن القين وقد قال
( أَعِدْ نظراً يا عبدَ قَيْسٍ لعلَّما ... أضاءت لك النارُ الحِمَارَ المقيَّدا )
قال فلم يلبثوا أن جاءهم قول الفرزدق هذا البيت وبعده
( حمارٌ بمَرُّوتِ السُّحَامَةِ قاربتْ ... وَظِيفيْه حَوْلَ البيتِ حتى تَردَّدا )
( كُلَيْبِيَّة لم يجعل اللَّهُ وجهَها ... كريماً ولم يَسْنَحْ بها الطيرُ أَسْعُدَا )
قال فتناشدها الناسُ فقال الفرزدق كأنكم بابنِ المَرَاغةِ قد قال
( وما عِبْتَ من نارٍ أضاء وُقُودُها ... فِراساً وبِسْطَامَ بنَ قَيْسٍ مقيَّدا )

قال فإذا بالبيت قد جاء لجرير ومعه
( وأَوْقدتَ بالسِّيرَانِ ناراً ذَلِيلةً ... وأشْهِدْتَ من سَوْءاتِ جِعْثِنَ مَشْهَدَا )

رآه الأخطل عند عبد الملك فعرفه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان والأخطل داخل عنده وقد كانا تهاجيا ولم ير أحد منهما صاحبه فلما استأذنوا عليه لجرير أذن له فدخل فسلم ثم جلس وقد عرفه الأخطل فطمح طرف جرير إلى الأخطل وقد رآه ينظر إليه نظرا شديدا فقال له من أنت فقال أنا الذي منعت نومك وتهضمت قومك فقال له جرير ذلك أشقى لك كائنا من كنت ثم أقبل على عبد الملك بن مروان فقال من هذا يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك فضحك ثم قال هذا الأخطل يا أبا حزرة فرد عليه بصره ثم قال فلا حياك الله يابن النصرانية أما منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك وأما تهضمك قومي فكيف تهضمهم وأنت ممن ضربت عليه الذلة وباء بغضب من الله وأدى الجزية عن يد وهو صاغر وكيف تتهضم لا أم لك قوما فيهم النبوة والخلافة وأنت لهم عبد مأمور ومحكوم عليه لا حاكم ثم أقبل على عبد الملك فقال ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانية فقال لا يجوز أن يكون ذلك بحضرتي
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال

نازع جرير بني حمان في ركية لهم فصاروا إلى إبراهيم بن عدي باليمامة يتحاكمون إليه فقال جرير
( أَعُوذ بالأمير غيرِ الجَبَّارْ ... من ظُلْمِ حِمَّان وتحويلِ الدارْ )
( ما كان قبلَ حَفْرِنا من مِحْفَارْ ... وضَرْبِيَ المِنْقَار بعد المِنْقَارْ )
( في جَبَلٍ أصمَّ غيرِ خَوَّارْ ... يَصِيحُ بالجُبِّ صِياحَ الصَّرَّارْ )
( له صَهِيلٌ كصَهِيل الأَمْهارْ ... فاسأل بني صَحْبٍ ورَهْطَ الجَرَّارْ )
( والسَّلَمِيّينَ العِظَامَ الأَخْطَارْ ... والجارُ قد يُخْبِر عن دار الجارْ )
فقال الحماني
( ما لِكُلَيْبٍ من حِمًى ولا دارْ ... غيرُ مُقامِ أُتُنٍ وأَعْيارْ )
( قُعْسِ الظهورِ دامياتِ الأَثْفارْ ... )
قال فقال جرير فعن مقامهن جعلت فداك أجادل فقال ابن عدي للحماني قد أقررت لخصمك وحكم بها لجرير
قال ابن سلام وأخبرني أبو يحيى الضبي قال
بينا جرير يسير على راحلته إذ هجم على أبيات من مازن وهلال وهما بطنان من ضبة فخافهم لسوء أثره في ضبة فقال

( فلا خوفٌ عليكِ ولن تُراعِي ... بعَقْوةِ مازِنٍ وبني هِلاَلِ )
( هما الحَيَّانِ إن فَزِعا يَطِيرا ... إلى جُرْدٍ كامثال السَّعَالِي )
( أمازِنُ يابنَ كعبٍ إنَّ قلبي ... لكم طولَ الحياة لَغيرُ قالي )
( غَطَارِيفٌ يَبِيتُ الجارُ فيهم ... قريرَ العينِ في أهلٍ ومال )
قال أجل يا أبا حزرة فلا خوف عليك

تجمع الناس حوله في المسجد دون الفرزدق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال شعيب بن صخر حدثني هارون بن إبراهيم قال
رأيت جريرا والفرزدق في مسجد دمشق وقد قدماها على الوليد بن عبد الملك والناس عنق واحد على جرير قيس وموالي بني أمية يسلمون عليه ويسألونه كيف كنت يا أبا حزرة في مسيرك وكيف أهلك وأسبابك وما يطيف بالفرزدق إلا نفر من خندف جلوس معه قال شعيب فقلت لهارون ولم ذلك قال لمدحه قيسا وقوله في العجم
( فيجمعُنا والغُرَّ أولادَ سَارَةٍ ... أبٌ لا نُبالِي بعدَه من تعذَّرا )
قال شعيب بلغني أنه أهديت له يومئذ مائة حلة أهداها إليه الموالي سوى غيرهم وأخبرني بهذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلام عن شعيب بن صخر فذكر نحوا من حكاية أبي زيد إلا أنها أتم من حكاية ابن سلام وقال

أبو خليفة في خبره سمعت عمارة بن عقيل بن بلال يقول وافته في يومه ذلك مائة حلة من بني الأحرار
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال
بينا جرير بقباء إذ طلع الأحوص وجرير ينشد قوله
( لولا الحياءُ لعادنِي استعبارُ ... ولزُرْتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ )
فلما نظر إلى الأحوص قطع الشعر ورفع صوته يقول
( عَوَى الشعراءُ بعضُهمُ لبعضٍ ... عليّ فقد أصابهمُ انتقامُ )
( إذا أرسلتُ قافيةً شَرُوداً ... رأوْا أخرى تحرِّق فاستداموا )
( فمُصْطَلَمُ المسامِع أو خَصِيٌّ ... وآخرُ عظمُ هامتِه حُطَامُ )
ثم عاد من حيث قطع فلما فرغ قيل له ولم قلت هذا قال قد نهيت الأحوص أن يعين علي الفرزدق فأنا والله يا بني عمرو بن عوف ما تعوذت من شاعر قط ولولا حقكم ما تعوذت منه

محمد بن الحجاج يلح على عبد الملك بالإذن لجرير بالدخول عليه لإنشاده
أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السكري قال قال عمارة بن عقيل حدثني أبي عن أبيه
أن الحجاج أوفد ابنه محمد بن الحجاج إلى عبد الملك وأوفد إليه

جريرا معه ووصاه به وأمره بمسألة عبد الملك في الاستماع منه ومعاونته عليه فلما وردوا استأذن له محمد على عبد الملك فلم يأذن له وكان لا يسمع من شعراء مضر ولا يأذن لهم لأنهم كانوا زبيرية فلما استأذن له محمد على عبد الملك ولم يأذن له أعلمه أن أباه الحجاج يسأله في أمره ويقول إنه لم يكن ممن والى ابن الزبير ولا نصره بيده ولا لسانه وقال له محمد يا أمير المؤمنين إن العرب تتحدث أن عبدك وسيفك الحجاج شفع في شاعر قد لاذ به وجعله وسيلته ثم رددته فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد فقال له وما عساك أن تقول فينا بعد قولك في الحجاج ألست القائل
( من سَدَّ مُطَّلَعَ النِّفَاقِ عليكُم ... أم من يَصُول كصوْلة الحجاج )
إن الله لم ينصرني بالحجاج وإنما نصر دينه وخليفته أولست القائل
( أم مَنْ يَغَارُ على النساء حَفِيظةً ... إذ لا يَثِقْنَ بغَيْرةِ الأزواجِ )
يا عاض كذا وكذا من أمه والله لهممت أن أطير بك طيرة بطيئا سقوطها أخرج عني فأخرج بشر فلما كان بعد ثلاث شفع إليه محمد لجرير وقال له يا أمير المؤمنين إني أديت رسالة عبدك الحجاج وشفاعته في جرير فلما أذنت له خاطبته بما أطار لبه منه وأشمت به عدوه ولو لم تأذن له لكان خيرا له مما سمع فإن رأيت أن تهب كل ذنب له لعبدك الحجاج وَلِي فافعلْ فأذن له فاستأذنه في الإنشاد فقال لا تُنْشِدني إلاَّ في الحجَّاج فإنما أنت للحجاج خاصة فسأله أن ينشده مديحه فيه فأبى وأقسم ألا ينشده إلا من قوله في الحجاج فأنشده وخرج بغير جائزة فلما أزف الرحيل قال جرير لمحمد إن رحلت عن أمير المؤمنين ولم يسمع مني ولم آخذ له جائزة سقطت آخر الدهر ولست بارحا بابه أو يأذن لي في الإنشاد وأمسك عبد الملك عن الإذن له فقال جرير ارحل أنت وأقيم أنا فدخل

محمد على عبد الملك فأخبره بقول جرير واستأذنه له وسأله أن يسمع منه وقبل يده ورجله فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد فأمسك عبد الملك فقال له محمد أنشد ويحك فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( ألستُم خيرَ من ركب المطايا ... وأَنْدَى العالَمين بطون راحِ )
فتبسم عبد الملك وقال كذلك نحن وما زلنا كذلك ثم اعتمد على ابن الزبير فقال
( دعوتَ المُلْحِدِينَ أبا خُبَيْب ... جِماحاً هل شُفِيتَ من الجِماحِ )
( وقد وجدوا الخليفةَ هِبْرِزِيّاً ... أَلَفَّ العِيصِ ليس من النَّواحي )
( وما شجراتُ عِيصكَ في قريش ... بعَشَّاتِ الفُروع ولا ضَواحي )
قال ثم أنشده إياها حتى أتى على ذكر زوجته فيها فقال
( تَعَزَّتْ أمُّّ حَزْرة ثم قالت ... رأيتُ المُوِرِدِين ذوي لِقَاحِ )
( تُعَلِّل وهي ساغبةٌ بَنِيها ... بأنفاسٍ من الشَّبِم القَرَاحِ )

فقال عبد الملك هل ترويها مائة لقحة فقال إن لم يروها ذلك فلا أرواها الله فهل إليها جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين من سبيل فأمر له بمائة لقحة وثمانية من الرعاء وكانت بين يديه جامات من ذهب فقال له جرير يا أمير المؤمنين تأمر لي بواحدة منهن تكون محلبا فضحك وندس إليه واحدة منهن بالقضيب وقال خذها لا نفعتك فأخذها وقال بلى والله يا أمير المؤمنين لينفعني كل ما منحتنيه وخرج من عنده قال وقد ذكر ذلك جرير في شعره فقال يمدح يزيد بن عبد الملك
( أعطَوْا هُنَيْدةَ يَحْدُوها ثمانيةٌ ... ما في عطائهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ )

هجا سراقة لأنه أعان الفرزدق عليه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة قال
بذل محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة أربعة آلاف درهم وفرسا لمن فضل من الشعراء الفرزدق على جرير فلم يقدم عليه أحد منهم إلا سراقة البارقي فإنه قال يفضل الفرزدق
( أَبْلِغ تَمِيماً غثَّها وسَمِينَها ... والحكم يَقْصِد مرَّةً ويَجُورُ )
( أنّ الفرزدقَ بَرَّزَتْ أعراقُه ... سَبْقاً وخُلِّف في الغُبار جَريرُ )
( ذهب الفرزدقُ بالفضائل والعُلاَ ... وابن المَرَاغةِ مُخْلَفٌ محسورُ )
( هذا قضاءُ البارِقيّ وإنني ... بالمَيْل في ميزانهم لبَصِيرُ )
قال أبو عبيدة فحدثني أيوب بن كسيب قال حدثني أبي قال كنت مع

جرير فأتاه رسول بشر بن مروان فدفع إليه كتابه وقال له إنه قد أمرني أن أوصله إليك ولا أبرح حتى تجيب عن الشعر في يومك إن لقيتك نهارا أو ليلتك إن لقيتك ليلا وأخرج إليه كتاب بشر وقد نسخ له القصيدة وأمره بأن يجيب عنها فأخذها ومكث ليلته يجتهد أن يقول شيئا فلا يمكنه فهتف به صاحبه من الجن من زاوية البيت فقال له أزعمت أنك تقول الشعر ما هو إلا أن غبت عنك ليلة حتى لم تحسن أن تقول شيئا فهلا قلت
( يا بِشْرُ حَقّ لوجهِك التبشيرُ ... هلاَّ قضيتَ لنا وأنت أميرُ )
فقال له جرير حسبك كفيتك قال وسمع قائلا يقول لآخر قد أنار الصبح فقال جرير
( يا صاحبيَّ هل الصباحُ مُنِيرُ ... أم هل للومِ عواذلي تَفْتِيرُ )
إلى أن فرغ منها وفيها يقول
( قد كان حَقُّكَ أن تقول لبارقٍ ... يا آلَ بارِقَ فِيمَ سُبَّ جرِيرُ )
( يُعْطَى النساءُ مهورَهنّ كَرامةً ... ونساءُ بارقَ ما لهنّ مُهورُ )
فأخذها الرسول ومضى بها إلى بشر فقرئت بالعراق وأفحم سراقة فلم ينطق بعدها بشيء من مناقضته

مناقضة بينه وبين عمر بن لجأ
أخبرني أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال

كان الذي هاج الهجاء بين جرير وعمر بن لجأ أن عمر كان ينشد أرجوزة له يصف فيها إبله وجرير حاضر فقال فيها
( قد وَردتْ قبل إنَا ضَحَائِها ... تُفَرِّسُ الحَيَّاتِ في خِرْشَائِها )
( جَرّ العَجُوزِ الثِّنْيَ من رِدَائِها ... )
فقال له جرير أخفقت فقال كيف اقول قال تقول
( جَرّ العَرُوسِ الثِّنْيَ من رِدائِها ... ) فقال له التيمي أنت أسوأ قولا مني حيث تقول
( وأَوْثقُ عند المُرْدَفاتِ عَشِيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جَرّد السيفَ لامِعُ )
فجعلتهن مردفات غدوة ثم تداركتهن عشية فقال كيف أقول قال تقول
( وأَوْثَقُ عند المُرْهَفاتِ عَشِيَّةً ... )
فقال جرير والله لهذا البيت أحب إلي من بكري حزرة ولكنك مجلب للفرزدق
وقال فيه جرير
( هَلاّ سِوَانا ادَّرَأْتم يا بَنِي لَجَأ ... شيئاً يُقَارَبُ أو وَحْشاً لها غِرَرُ )
( أحينَ كنتُ سِمَاماً يا بَنِي لَجَأٍ ... وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ )
( خَلِّ الطريقَ لمن يَبْنِي المَنارَ به ... وابرُزْ ببَرْزَةَ حيث اضطرَّك القَدَرُ )

( أنت ابنُ بَرْزةَ منسوباً إلى لجأٍ ... عند العُصَارةِ والعيدانُ تُعْتَصرُ )
ويروى
( ألستَ نَزْوةَ خَوَّارٍ على أَمَةٍ ... عند العُصَارةِ والعِيدانُ تُعْتَصَرُ )
فقال ابن لجأ يرد عليه
( لقد كَذَبْتَ وشَرُّ القولِ أَكذَبُه ... ما خاطرتْ بكَ عن أحسابها مُضَرُ )
( بل أنت نَزْوةُ خَوَّارٍ على أمَةٍ ... لا يَسبِقُ الحَلَباتِ اللؤمُ والخَوَرُ )
( ما قلتَ مِن هذه إلا سأنقُضُها ... يابنَ الأَتَانِ بمثلي تُنْقَضُ المِرَرُ )
وقال عمر بن لجأ
( عجبتُ لما لاقتْ رِيَاحٌ من اْلأَذَى ... وما اقتَبَسُوا منِّي وللشرِّ قابِسُ )
( غِضَاباً لكلبٍ من كُلَيْبٍ فَرَسْتُه ... هَوَى ولشَدَّاتِ الأُسُودِ فَرَائِسُ )
( إذا ما ابنُ يَرْبُوعٍ أتاكَ لمأكَلٍ ... على مجلسٍ إن اْلأَكِيلَ مُجالِسُ )
( فقل لابنِ يَرْبُوعٍ ألستَ براحضٍ ... سِبَالَكَ عنَّا إنهنَّ نَجائِسُ )
( تُمَسِّحُ يَرْبوعٍ سِبَالاً لئيمةً ... بها من مَنِيِّ العبدِ رَطْبٌ ويابِسُ )
قال ثم اجتمع جرير وابن لجأ بالمدينة وقد وردها الوليد بن عبد الملك وكان يتأله في نفسه فقال أتقذفان المحصنات وتغضبانهن ثم أمر ابا بكر محمد بن حزم الأنصاري وكان واليا له بالمدينة بضربهما فضربهما وأقامهما على البلس مقرونين والتيمي يومئذ أشب من جرير فجعل يشول بجرير وجرير يقول وهو المشول به

( فلستُ مُفارِقاً قَرَنَيَّ حتى ... يَطُولَ تصعُّدي بكَ وانحداري )
فقال أبن لجأ
( ولمَّا أن قُرِنتُ إلى جريرٍ ... أَبَى ذو بَطْنِه إلاَّ انحدارا )
فقال له قدامة بن إبراهيم الجمحي وبئسما قلت جعلت نفسك المقرون إليه قال فكيف أقول قال تقول
( ولمَّا لُزَّ في قَرَنِي جريرٌ ... )
فقال جزيت خيرا لا أقوله والله ابدا إلا هكذا
حدثني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي قال حدثني عمارة بن عقيل عن أبيه قال
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان والأخطل داخل عنده وقد كانا تهاجيا ولم يلق أحدهما صاحبه فلما أستأذنوا لجرير أذن له فسلم وجلس وقد عرفه الأخطل فطمح بصر جرير إليه فقال له من أنت فقال أنا الذي منعت نومك وهضمت قومك فقال له جرير ذاك أشقى لك كائنا من كنت ثم اقبل على عبد الملك فقال من هذا يا أمير المؤمنين فضحك وقال هذا الأخطل يا ابا حزرة فرد بصره إليه وقال فلا حياك الله يابن النصرانية أما منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك واما تهضمك قومي فكيف تهضمهم وأنت ممن ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانية فقال لا يكون ذلك بين يدي فوثب جرير مغضبا فقال عبد الملك قم يا أخطل واتبع صاحبك فإنما قام غضبا علينا فيك فنهض الأخطل فقال عبد الملك لخادم له انظر ما يصنعان إذا برز له الأخطل فخرج جرير فدعا بغلام له فقدم إليه حصانا له أدهم فركبه وهدر

والفرس يهتز من تحته وخرج الأخطل فلاذ بالباب وتوارى خلفه ولم يزل واقفا حتى مضى جرير فدخل الخادم إلى عبد الملك فأخبره فضحك وقال قاتل الله جريرا ما أفحله أما والله لو كان النصراني برز إليه لأكله
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال
سئل جرير أي الثلاثة أشعر فقال أما الفرزدق فيتكلف مني ما لا يطيقه وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للغرض وأما أنا فمدينة الشعر وقد حدثني بهذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبة عن الأصمعي فذكر نحو ما ذكره الرياشي وقال في خبره وأما الأخطل فأنعتنا للخمر وأمدحنا للملوك

ابو مهدي الباهلي فضله على جميع الشعراء
أخبرنا عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب قال
قلت لأبي مهدي الباهلي وكان من علماء العرب أيما أشعر أجرير أم الفرزدق فغضب ثم قال جرير أشعر العرب كلها ثم قال لا يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجيء جرير فيحكم بينهم
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني العباس بن ميمون قال سمعت أبا عثمان المازني يقول
قال جرير هجوت بني طهية أنواع الهجاء فلم يحفلوا بقولي حتى قلت

في قصيدة الراعي
( كأنّ بني طُهَيَّةَ رهطَ سَلْمَى ... حجارةُ خارىءٍ يَرمِي كلابَا )
فجزعوا حينئذ ولاذوا بي
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال
كان جرير من أعق الناس بأبيه وكان بلال ابنه أعق الناس به فراجع جرير بلالا الكلام يوما فقال له بلال الكاذب مني ومنك ناك أمه فأقبلت أمه عليه وقالت له يا عدو الله أتقول هذا لأبيك فقال جرير دعيه فوالله لكأنه سمعها مني وأنا أقولها لأبي

هجا عمر بن يزيد لأنه أعان الفرزدق عليه
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط قال
كان عمر بن يزيد بن عمير الأسدي يتعصب للفرزدق على جرير فتزوج امرأة من بني عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم فقال جرير
( نكحتَ إلى بني عُدُسِ بن زيدٍ ... فقد هَجَّنْتَ خيلَهمُ العِرَابَا )
( أَتنْسَى يومَ مَسْكِنَ إذ تُنَادِي ... وقد أخطأْتَ بالقَدَمِ الرِّكابا )
وهي قصيدة فأجتمعوا على عمر بن يزيد ولم يزالوا به حتى خلعوا المرأة منه
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن الهيثم قال حدثني عمي

أبو فراس قال حدثني ودقة بن معروف قال
نزل جرير على عنبسة بن سعيد بواسط ولم يكن أحد يدخلها إلا بإذن الحجاج فلما دخل على عنبسة قال له ويحك لقد غررت بنفسك فما حملك على ما فعلت قال شعر قلته اعتلج في صدري وجاشت به نفسي وأحببت أن يسمعه الأمير قال فعنفه وأدخله بيتا في جانب داره وقال لا تطلعن رأسك حتى ننظر كيف تكون الحيلة لك قال فأتاه رسول الحجاج من ساعته يدعوه في يوم قائظ وهو قاعد في الخضراء وقد صب فيها ماء استنقع في أسفلها وهو قاعد على سرير وكرسي موضوع ناحية قال عنبسة فقعدت على الكرسي وأقبل علي الحجاج يحدثني فلما رأيت تطلقه وطيب نفسه قلت اصلح الله الأمير رجل من شعراء العرب قال فيك شعرا اجاد فيه فاستخفه عجبه به حتى دعاه إلى أن رحل إليك ودخل مدينتك من غير أن يستأذن له قال ومن هو قلت ابن الخطفي قال وأين هو قلت في المنزل قال يا غلام فأقبل الغلمان يتسارعون قال صف لهم موضعه من دارك فوصفت لهم البيت الذي هو فيه فانطلقوا حتى جاؤوا به فأدخل عليه وهو مأخوذ بضبعيه حتى رمي به في الخضراء فوقع على وجهه في الماء ثم قام يتنفش كما يتنفش الفرخ فقال له هيه ما اقدمك علينا بغير إذننا لا أم لك قال أصلح الله الأمير قلت في الأمير شعرا لم يقل مثله أحد فجاش به صدري وأحببت أن يسمعه مني الأمير فأقبلت به إليه قال فتطلق الحجاج وسكن واستنشده فأنشده ثم قال يا غلام فجاؤوا يسعون فقال علي

بالجارية التي بعث بها إلينا عامل اليمامة فأتي بجارية بيضاء مديدة القامة فقال إن أصبت صفتها فهي لك فقال ما أسمها قال أمامة فأنشأ يقول
( وَدِّعْ أُمَامَةَ حانَ منك رحيلُ ... إن الوَدَاعَ لمن تُحِبّ قليلُ )
( مثلُ الكَثِيبِ تهيَّلتْ أعطافُه ... فالريحُ تَجْبرُ مَتْنَه وتَهيِلُ )
( تلك القلوبُ صوادياً تيَّمْتِها ... وأَرَى الشفاءَ وما إليه سبيلُ )
فقال خذ بيدها فبكت الجارية وانتحبت فقال ادفعوها إليه بمتاعها وبغلها ورحالها
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو الغراف قال
قال الحجاج لجرير والفرزدق وهو في قصره بحزيز البصرة ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية فلبس الفرزدق الديباج والخز وقعد في قبة وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا له ما لباس آبائنا إلا الحديد فلبس جرير درعا وتقلد سيفا وأخذ رمحا وركب فرسا لعباد بن الحصين يقال له المنحاز وأقبل في أربعين فارسا من بني يربوع وجاء الفرزدق في هيئته فقال جرير
( لبِستُ سلاحي والفرزدقُ لُعْبةٌ ... عليه وِشَاحا كُرَّجٍ وجَلاَجِلُهْ )
( أَعِدُّوا مع الحَلْيِ المَلاَبَ فإنما ... جريرٌ لكم بَعْلٌ وأنتم حَلاَئِلُهْ )
ثم رجعا فوقف جرير في مقبرة بني حصن ووقف الفرزدق في المربد قال فأخبرني أبي عن محمد بن زياد قال كنت أختلف إلى جرير والفرزدق وكان جرير يومئذ كأنه أصغرهما في عيني

هجاؤه للفرزدق
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا ابو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال
قدم الفرزدق اليمامة وعليها المهاجر بن عبد الله الكلابي فقال لودخلت على هذا فأصبت منه شيئا ولم يعلم بي جرير فلم تستقر به الدار حتى قال جرير
( رأيتُك إذ لم يُغْنِكَ اللهُ بالغِنَى ... رجعتَ إلى قيسٍ وخَدُّك ضارعُ )
( وما ذاك إن أَعْطَى الفرزدقُ باسْتِه ... بأوَّل ثَغْرٍ ضيَّعَتْه مُجَاشِعُ )
فلما بلغ ذلك الفرزدق قال لا جرم والله لا أدخل عليه ولا أرزؤه شيئا ولا أقيم باليمامة ثم رحل
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال قال أبو البيداء
لقي الفرزدق عمر بن عطية أخا جرير وهو حينئذ يهاجي ابن لجأ فقال له ويلك قل لأخيك ثكلتك أمك ائت التيمي من عل كما أصنع أنا بك وكان الفرزدق قد أنف لجرير وحمي من أن يتعلق به التيمي قال ابن سلام فأنشدني له خلف الأحمر يقوله للتيمي
( وما أنت إن قَرْمَا تَميمٍ تَسَامَيَا ... أخا التَّيْم إلا كالوَشِيظةِ في العَظْم )
( فلو كنتَ مَوْلَى العِزّ أو في ظلالِه ... ظُلِمْتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظلم )
فقال له التيمي

( كذَبْتَ أنا القَرْمُ الذي دَقّ مالكاً ... وأَفْناءَ يَرْبُوعٍ وما أنت بالقَرْمِ )
قال أبن سلام فحدثني ابو الغراف أن رجال تميم مشت بين جرير والتيمي وقالوا والله ما شعراؤنا إلا بلاء علينا ينشرون مساوينا ويهجون أحياءنا وموتانا فلم يزالوا بهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة الا يعودا في هجاء فكف التيمي وكان جرير لا يزال يسل الواحدة بعد الواحدة فيه فيقول التيمي والله ما نقضت هذه ولا سمعتها فيقول جرير هذه كانت قبل الصلح
قال ابن سلام فحدثني عثمان بن عثمان عن عبد الرحمن بن حرملة قال لما ورد علينا هجاء جرير والتيمي قال لي سعيد بن المسيب ترو شيئا مما قالا فأتيته وقد أستقبل القبلة يريد أن يكبر فقال لي ارويت قلت نعم فأقبل علي بوجهه فأنشدته للتيمي وهو يقول هيه هيه ثم أنشدته لجرير فقال أكله اكله
قال أبن سلام وحدثني الرازي عن حجناء بن جرير قال قلت لأبي يا ابت ما هجوت قوما قط إلا فضحتهم إلا التيم فقال يا بني لم أجد بناء أهدمه ولا شرفا أضعه وكانت تيم رعاء غنم يغدون في غنمهم ثم يروحون وقد جاء كل رجل منهم بأبيات فينتحلها ابن لجأ فقيل لجرير ما صنعت في التيم شيئا فقال إنهم شعراء لئام
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح قال حدثني أبو اليقظان قال
قال جرير لرجل من بني طهية ايما اشعر أنا أم الفرزدق فقال له أنت

عند العامة والفرزدق عند العلماء فصاح جرير أنا ابو حزرة غلبته ورب الكعبة والله ما في كل مائة رجل عالم واحد

طلب من الوليد بن عبد الملك أن يأذن له في ابن الرقاع
حدثنا أحمد بن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبن النطاح قال وحدثني أبو الأخضر لمخارق بن الأخضر القيسي قال إني كنت والله الذي لا إله إلا هو أخص الناس بجرير وكان ينزل إذا قدم على الوليد بن عبد الملك عند سعيد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان عدي بن الرقاع خاصا بالوليد مداحا له فكان جرير يجيء إلى باب الوليد فلا يجالس أحدا من النزارية ولا يجلس إلا إلى رجل من اليمن بحيث يقرب من مجلس ابن الرقاع إلى أن يأذن الوليد للناس فيدخل فقلت له يا ابا حزرة اختصصت عدوك بمجلسك فقال إني والله ما أجلس إليه إلا لأنشده اشعارا تخزيه وتخزي قومه قال ولم يكن ينشده شيئا من شعره وإنما كان ينشده شعر غيره ليذله ويخوفه نفسه فأذن الوليد للناس ذات عشية فدخلوا ودخلنا فأخذ الناس مجالسهم وتخلف جرير فلم يدخل حتى دخل الناس وأخذوا مجالسهم واطمأنوا فيها فبينما هم كذلك إذا بجرير قد مثل بين السماطين يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ابن الرقاع المتفرقة أؤلف بعضها إلى بعض قال وأنا جالس أسمع فقال الوليد والله لهممت أن أخرجه على ظهرك إلى الناس فقال جرير وهو قائم كما هو

( فإن تَنْهَنِي عنه فسمعاً وطاعةً ... وإلا فإنِّي عُرْضَةٌ للمَرَاجِمِ )
قال فقال له الوليد لا كثر الله في الناس أمثالك فقال له جرير يا أمير المؤمنين إنما أنا واحد قد سعرت الأمة فلو كثر أمثالي لأكلوا الناس أكلا قال فنظرت والله إلى الوليد تبسم حتى بدت ثناياه تعجبا من جرير وجلده قال ثم أمره فجلس
أخبرني ابن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا أبن النطاح عن أبي عبيدة قال
كان جرير عند الوليد وعدي بن الرقاع ينشده فقال الوليد لجرير كيف تسمع قال ومن هو يا أمير المؤمنين قال عدي بن الرقاع قال فإن شر الثياب الرقاع ثم قال جرير ( عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) فغضب الوليد وقال يابن اللخناء ما بقي لك إلا أن تتناول كتاب الله والله ليركبنك يا غلام أوكِفْه حتى يركبه فغمز عمر بن الوليد الغلام الذي أمره الوليد فأبطأ بالإكاف فلما سكن غضب الوليد قام إليه عمر فكلمه وطلب إليه وقال هذا شاعر مضر ولسانها فإن رأى أمير المؤمنين ألا يغض منه ولم يزل به حتى أعفاه وقال له والله لئن هجوته أو عرضت به لأفعلن بك ولأفعلن فقال فيه تلك القصيدة التي يقول فيها
( أقْصِرْ فإن نزاراً لن يفاخرها ... فرعٌ لئيمٌ وأصلٌ غيرُ مغروسِ )
وذكر وقائع نزار في اليمن فعلمنا أنه عناه ولم يجبه الآخر بشيء

حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال
قال هشام بن عبد الملك لشبة بن عقال وعنده جرير والفرزدق والأخطل وهو يومئذ أمير ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم وهتكوا أستارهم وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا بر ولا نفع أيهم أشعر فقال شبة أما جرير فيغرف من بحر وأما الفرزدق فينحت من صخر وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر فقال هشام ما فسرت لنا شيئا نحصله فقال ما عندي غير ما قلت فقال لخالد بن صفوان صفهم لنا يأبن الأهتم فقال أما أعظمهم فخرا وابعدهم ذكرا وأحسنهم عذرا وأسيرهم مثلا وأقلهم غزلا وأحلاهم عللا الطامي إذا زخر والحامي إذا زأر والسامي إذا خطر الذي إن هدر قال وإن خطر صال الفصيح اللسان الطويل العنان فالفرزدق وأما أحسنهم نعتا وامدحهم بيتا وأقلهم فوتا الذي إن هجا وضع وإن مدح رفع فالأخطل وأما أغزرهم بحرا وارقهم شعرا وأهتكهم لعدوه سترا الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق وإن طلب لم يلحق فجرير وكلهم ذكي الفؤاد رفيع العماد واري الزناد فقال له مسلمة بن عبد الملك ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين ولا رأينا في الآخرين وأشهد أنك أحسنهم وصفا وألينهم عطفا وأعفهم مقالا وأكرمهم فعالا فقال خالد أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربة وفرج بكم الكربة وأنت والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس عالم بالناس جواد في المحل بسام عند البذل حليم عند الطيش في ذروة قريش ولباب عبد شمس ويومك خير من أمس فضحك هشام وقال ما رأيت كتخلصك يابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم

قرنهما عمر بن عبد العزيز لأنهما تقاذفا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني مصعب الزبيري قال حدثني إبراهيم بن عبد الله مولى بني زهرة قال
حضرت عمر بن لجأ وجرير بن الخطفي موقوفين للناس بسوق المدينة لما تهاجيا وتقاذفا وقد أمر بهما عمر بن عبد العزيز فقرنا وأقيما قال وعمر بن لجأ شاب كأنه حصان وجرير شيخ قد أسن وضعف قال فيقول ابن لجأ
( رأوْا قَمَراً بساحتهم مُنِيراً ... وكيف يُقَارِنُ القمرُ الحِمَارَا )
قال ثم ينزو به وهما مقرونان في حبل فيسقطان إلى الأرض فأما ابن لجأ فيقع قائما وأما جرير فيخر لركبتيه ووجهه فإذا قام نفض الغبار عنه ثم قال بغنته قولا يخرج الكلام به من أنفه وكان كلامه كأن فيه نونا
( فلستُ مفارِقاً قَرَنَيّ حتَّى ... يَطُولَ تصعُّدي بكَ وانحداري )
قال فقال رجل من جلساء عمر له حين حضر غداؤه لو دعا الأمير بأسيريه فغداهما معه ففعل ذلك عمر وإنما فعله بهما لأنهما تقاذفا وكان جرير قال له
( تقول والعبدُ مِسْكِينٌ يُجَرِّرُها ... أرْفُقْ فَدَيْتُك أنت الناكحُ الذَّكَرُ )
قال وهذه قصيدته التي يقول فيها
( يا تَيْمُ تيْمَ عَدِيّ لا أَبَا لكمُ ... لا يُوقِعنَّكُمُ في سوْءةٍ عمرُ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال

كنت باليمامة وأنا واليها فكان ابن لجرير يكثر عندي الدخول وكنت أوثره فلم اقل له قط أنشدني أجود شعر لأبيك إلا أنشدني الدالية
( أَهَوىً أَرَاكَ بَرامَتَيْنِ وُقُودا ... أم بالجُنَيْنَةِ من مَدَافِع أُودَا )
فأقول له ويحك لا تزيدني على هذه فيقول سألتني عن أجود شعر أبي وهذه أجود شعره وقد كان يقدمها على جميعه
حدثني ابن عمار قال حدثني النوفلي قال حدثني علي بن عبد الملك الكعبي من ولد كعب مولى الحجاج قال حدثني فلان العلامة التميمي يرويه عن جرير قال
ما ندمت على هجائي بني نمير قط إلا مرة واحدة فإني خرجت إلى الشام فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم وقد نظرت إليه من بين القصور مشيدا حسنا وسألت عن صاحبه فقيل لي هو رجل من بني نمير فقلت هذا شآم وأنا بدوي لا يعرفني فجئت فاستضفت فلما أذن لي ودخلت عليه عرفني فقراني أحسن القرى ليلتين فلما أصبحت جلست ودعا بنية له فضمها إليه وترشفها فإذا هي أحسن الناس وجها ولها نشر لم اشم أطيب منه فنظرت إلى عينيها فقلت تالله ما رأيت أحسن من عيني هذه الصبية ولا من حورها قط وعوذتها فقال لي يا ابا حزرة أسوداء المحاجر هي فذهبت أصف طيب رائحتها فقال أصن وبر هي فقلت يرحمك

الله إن الشاعر ليقول ووالله لقد ساءني ما قلته ولكن صاحبكم بدأني فانتصرت وذهبت أعتذر فقال دع ذا عنك أبا حزرة فوالله ما لك عندي إلا ما تحب قال وأحسن والله إلي وزودني وكساني فانصرفت وأنا أندم الناس على ما سلف مني إلى قومه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال حدثني ابن أبي علقمة الثقفي قال
كان المفضل يقدم الفرزدق فأنشدته قول جرير
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذاتِ المَوَاعِيسِ ... فالحِنْوُ أَصْبَح قَفْراً غيرَ مأنوسِ )
وقلت أنشدني لغيره مثلها فسكت قال وكان الفرزدق إذا أنشدها يقول مثلها فليقل ابن اللخناء
أخبرنا ابو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي عن المحرر بن أبي هريرة قال
إني لفي عسكر سليمان بن عبد الملك وفيه جرير والفرزدق في غزاة إذا أتانا الفرزدق في غداة ثم قال اشهدوا أن محمد ابن أخي ثم أنشأ يقول
( فبِتُّ بدَيْرَيْ أَرْيَحَاءَ بلَيْلةٍ ... خُدَارِيَّةٍ يزدادُ طُولاً تَمامُها )

( أكابِدُ فيها نفسَ أَقْربِ مَنْ مَشَى ... أبوه بأمٍّ غاب عنها نِيامُها )
( وكنَّا نَرَى من غالبٍ في محمد ... شمائلَ تَعْلُو الفاعلين كِرامُها )
( وكان إذا ما حلَّ أرضاً تزيَّنَتْ ... بزينتِها صحراؤها وإكامُها )
( سَقَى أَرْيَحَاءَ الغيثُ وهي بَغِيضةٌ ... إلينا ولكن بي لتُسْقَاه هامُها )
قال ثم انصرف وجاء جرير فقال قد رأيت هذا وسمعت ما قال في ابن أخيه وما ابن أخيه فعل الله به وفعل قال ومضى جرير فوالله ما لبثنا إلا جمعا حتى جاءنا جرير فقام مقامه ونعى ابنه سواده فقال

رثاؤه ابنه
( أَوْدَى سَوادةُ يَجْلُو مُقلتيْ لَحِم ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوقَ المَرْبأ العالي )
( فارقتني حين كَفَّ الدهرُ من بَصَرِي ... وحينَ صِرْتُ كعَظْم الرِّمَّة البالي )
( إلاَّ تَكُنْ لكَ بالدَّيْرَيْن باكيةٌ ... فرُبَّ باكيةٍ بالرَّمْل مِعْوالِ )
( قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم ... كيف العَزَاءُ وقد فارقتُ أَشْبالِي )
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني حاجب بن زيد وأبو الغراف قالا
تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس على حكم أبيها فاحتكم مائة من الإبل فدخل على الحجاج يسأله ذلك فعذله وقال له أتتزوج امرأة على حكمها فقال عنبسة بن سعيد وأراد نفعه إنما هي من حواشي إبل الصدقة فأمر له الحجاج بها فوثب جرير فقال
( يا زِيقُ قد كنتَ من شَيْبانَ في حَسَبٍ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ مَنْ أَنْكحتَ يا زِيقُ )

( أَنْكحتَ وَيْحَكَ قَيْناً باستِه حَمَمٌ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ هل بارتْ بك السُّوقُ )
( غاب المُثَنَّى فلم يَشْهَدْ نَجِيَّكُما ... والحَوْفَزانُ ولم يَشْهَدْك مَفْروقُ )
( يا رُب قائلةٍ بعد البِناء بها ... لا الصِّهْرُ راضٍ ولا ابنُ القَيْنِ معشوقُ )
( أين الأُلَى استنزَلُوا النُّعْمانَ ضاحيةً ... أم أين ابناءُ شَيْبانَ الغَرَانِيقُ )
قال فلم يجبه الفرزدق عنها فقال جرير ايضا
( فلا أنا مُعْطِي الحكمِ عن شِفِّ مَنْصِبٍ ... ولا عن بَناتِ الحَنْظَليِّينَ راغبُ )
( وهُنّ كماءِ المُزْنِ يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاَحاً غيرَهنّ المَشَارِبُ )
( فلو كنتَ حُرّاً كان عَشْراً سِياقُكم ... إلى آل زِيقٍ والوَصيفُ المُقَارِب )
فقال الفرزدق
( فنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم لُمْهُمُ ... على دارِميٍّ بين لَيْلَى وغالِبِ )
( هُمُ زوَّجوا قبلي لَقِيطاً وأَنْكَحُوا ... ضِراراً وهم أكفاؤنا في المَنَاسِبِ )
( ولو قبِلوا منِّي عَطِيِّةَ سُقْتُه ... إلى مال زِيقٍ من وَصِيفٍ مُقَارِبِ )
( ولو تُنْكِحُ الشمسُ النجومَ بَنَاتها ... إذاً لنكحناهنّ قبل الكواكبِ )
قال ابن سلام فحدثني الرازي عن أبيه قال ما كانت امرأة من بني حنظلة

إلا ترفع لجرير اللوية في عظمها لتطرفه بها لقوله
( وهُنّ كماءِ المُزْنِ يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاَحاً غيرَهنَّ المَشَارِبُ )
فقلت للرازي ما اللوية قال الشريحة من اللحم أو الفدرة من التمر أو الكبة من الشحم أو الحفنة من الأقط فإذا ذهب الألبان وضاقت المعيشة كانت طرفة عندهم
قال وقال جرير أيضا في شأن حدراء
( أثائرةٌ حَدْراءُ مَنْ جُرَّ بالنَّقَا ... وهل لأبي حَدْراءَ في الوِتْرِ طالبُ )
( أَتَثْأَرُ بِسْطاماً إذا ابتلَّتِ استُها ... وقد بَوَّلتْ في مِسْمَعَيْه الثعالبُ )
قال ابن سلام والنقا الذي عناه جرير هو الموضع الذي قتلت فيه بنو ضبة بسطاما وهو بسطام بن قيس قال فكرهت بنو شيبان أن يهتك جرير أعراضهم فلما أراد الفرزدق نقل حدراء اعتلوا عليه وقالوا له إنها ماتت فقال جرير
( فأُقْسِمُ ما ماتتْ ولكنَّما الْتَوَى ... بحَدْراءَ قومٌ لم يروك لها أهْلا )
( رأوْا أنّ صهر القَيْنِ عارٌ عليهم ... وأنّ لبِسْطامٍ على غالبٍ فضْلاَ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا محمد بن إدريس اليمامي قال حدثنا علي بن عبد الله بن محمد بن مهاجر عن أبيه عن جده قال
دخلنا على جرير في نفر من قريش نعوده في علته التي مات فيها فالتفت إلينا فقال

( أهلاً وسهلاً بقوم زيَّنوا حَسَبي ... وإن مَرِضْتُ فهم أهلي وعُوَّادِي )
( إن تَجْرِ طَيْرٌ بأمر فيه عافيةٌ ... أو بالفراق فقد أحسنتُم زادِي ) لو أن ليثاً أبا شِبْلَيْن أَوْعَدَنِي ... لم يُسْلِمُونِي لليثِ الغابة العادِي )

رثاؤه الفرزدق
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو جناح أحد بني كعب بن عمرو بن تميم قال
نُعي الفرزدق إلى المهاجر بن عبد الله وجرير عنده فقال
( مات الفرزدقُ بعد ما جدَّعتُه ... ليت الفرزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس لعمر الله ما قلت في ابن عمك أتهجو ميتا أما والله لو رثيته لكنت أكرم العرب وأشعرها فقال إن رأى الأمير أن يكتمها علي فإنها سوءة ثم قال من وقته
( فلا وَضَعَتْ بعد الفرزدقِ حامل ... ولا ذات بَعْلٍ من نِفَاسٍ تَعَلَّتِ )
( هو الوافدُ الميمونُ والراتِقُ الثأى ... إذا النعل يوماً بالعَشيرة زَلَّتِ )
قال ثم بكى ثم قال أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده ولقد كان نجمنا واحدا وكل واحد منا مشغول بصاحبه وقلما مات ضد أو صديق إلا

تبعه صاحبه فكان كذلك مات بعد سنة وقد زاد الناس في بيتي جرير هذين أبياتا أخر ولم يقل غيرهما وإنما أضيف إلى ما قاله

صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( رحَل الخَلِيطُ جِمالَهم بسَوَادِ ... وحَدَا على إثْرِ البَخيلة حَادِي )
( ما إن شَعَرْتُ ولا علِمتُ ببَيْنهم ... حتى سمعتُ به الغرابَ يُنَادي )
الشعر لجميل والغناء لإبراهيم ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

نسب جميل وأخباره
هو جميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن ظبيان وقيل ابن معمر بن حن بن ظبيان بن قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد وهو هذيم وسمي بذلك إضافة لاسمه إلى عبد لأبيه يقال له هذيم كان يحضنه فغلب عليه ابن زيد بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة والنسابون مختلفون في قضاعة فمنهم من يزعم أن قضاعة بن معد وهو أخو نزار بن معد لأبيه وأمه وهي معانة بنت جوسم بن جلهمة بن عامر بن عوف بن عدي بن دب بن جرهم ومنهم من يزعم أنهم من حمير وقد ذكر جميل ذلك في شعره فانتسب معديا فقال
( أنا جميلٌ في السَّنَامِ من مَعَدّ ... في الأُسْرَةِ الحَصْداءِ والعِيص الأَشَدّ )
وقال راجز من قضاعة ينسبهم إلى حمير
( قُضَاعَةُ الأَثْرَوْنَ خيرُ مَعْشَرِ ... قضاعةُ بنُ مالكِ بنِ حِمْيَرِ )
ولهم في هذا أراجيز كثيرة إلا أن قضاعة اليوم تنسب كلها في حمير فتزعم أن قضاعة بن مالك بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن

يشجب بن يعرب بن قحطان وقال القحذمي اسم سبأ عامر وإنما قيل له سبأ لأنه أول من سبى النساء وكان يقال له عب الشمس أي عديل الشمس سمي بذلك لحسنه ومن زعم من هؤلاء أن قضاعة ليس ابن معد ذكر أن أمه عكبرة امرأة من سبأ كانت تحت مالك بن عمر فمات عنها وهي حامل فخلفه عليها معد بن عدنان فولدت قضاعة على فراشه وقال مؤرج بن عمرو هذا قول أحدثوه بعد وصنعوا شعراً ألصقوه به ليصححوا هذا القول وهو
( يا أيُّها الدَّاعِي ادْعُنا وأبشِرِ ... وكُنْ قُضَاعِيّاً ولا تَنَزَّرِ )
( قضاعةُ الأَثْرَوْنَ خيرُ مَعْشَرِ ... قضاعةُ بنُ مالك بنِ حمير )
( النسبُ المعروفُ غير المُنْكَر ... )
قال مؤرج وهذا شيء قيل في آخر أيام بني أمية وشعراء قضاعة في الجاهلية والإسلام كلها تنتمي إلى معد قال جميل
( وأيّ مَعَدٍّ كان فَيْءُ رِمَاحِهمْ ... كما قد أَفَأْنا والمُفَاخِرُ مُنْصِفُ )
وقال زيادة بن زيد يهجو بني عمه بني عامر رهط هدبة بن خشرم
( وإذا مَعَدٌّ أَوْقدتْ نِيرانَها ... للمجدِ أغْضَتْ عامرٌ وتضعضعوا )

روى له كثير
وجميل شاعر فصيح مقدم جامع للشعر والرواية كان راوية هدبة بن

خشرم وكان هدبة شاعرا راوية للحطيئة وكان الحطيئة شاعرا راوية لزهير وابنه وقال أبو محلم آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثير وكان راوية جميل وجميل راوية هدبة وهدبة راوية الحطيئة والحطيئة راوية زهير
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال كان جميل يهوى بثينة بنت حبأ بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة تلتقي هي وجميل في حن من ربيعة في النسب
حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي وهاشم بن محمد أو دلف الخزاعي قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال
كان كثير راوية جميل وكان يقدمه على نفسه ويتخذه إماما وإذا سئل عنه قال وهل علم الله عز و جل ما تسمعون إلا منه
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن صباح بن خاقان عن عبد الله بن معاوية الزبيري قال
كان كثير إذا ذكر له جميل قال وهل علم الله ما تسمعون إلا منه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن المسور بن عبد الملك عن نصيب مولى عبد العزيز بن مروان قال

قدمت المدينة فسألت عن اعلم أهلها بالشعر فقيل لي الوليد بن سعيد بن أبي سنان الأسلمي فوجدته بشعب سلع مع عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أزهر فإنا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين طوال يقود راحلة عليها بزة حسنة فقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن أزهر يا أبا جبير هذا جميل فأدعه لعله أن ينشدنا فصاح به عبد الرحمن هيا جميل هيا جميل فالتفت فقال من هذا فقال أنا عبد الرحمن بن أزهر فقال قد علمت أنه لا يجترىء علي إلا مثلك فأتاه فقال له أنشدنا فأنشدهم
( نحنُ مَنَعْنا يومَ أَوْلٍ نساءَنا ... ويومَ أُفَيٍّ والأسِنَّةُ تَرْعُفُ )
( ويومَ رَكَايا ذِي الجَذَاةِ ووقعةٍ ... ببَنْيَانَ كانت بعضَ ما قد تَسَلَّفُوا )
( يُحِبّ الغَوَانِي البِيضُ ظِلَّ لِوائنا ... إذا ما أتانا الصارخُ المُتَلَهِّفُ )
( نَسيرُ أمامَ الناس والناسُ خَلْفَنا ... فإن نحن أوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
( فأيُّ مَعَدٍّ كان فَيْءُ رِمَاحِهِ ... كما قد أفأنا والمُفَاخِرُ يُنْصِفُ )
( وكنَّا إذا ما مَعْشَرٌ نَصَبُوا لنا ... ومرَّتْ جَوَارِي طَيْرِهم وتَعَيَّفوا )
( وضَعْنا لهم صاعَ القِصَاصِ رهينةً ... بما سوف نُوفِيها إذا الناسُ طَفَّفُوا )
( إذا استبق الأقوامُ مجداً وجدتَنا ... لنا مِغْرَفَا مَجْدٍ وللناسِ مِغْرَفُ )
قال ثم قال له أنشدنا هزجا قال وما الهزج لعله هذا القصير قال

نعم فأنشده قال الزبير لم يذكر في هذا الخبر من هذه القصيدة الهزج سوى بيتين وأنشدنا باقيها بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي

صوت
( رَسْمِ دَارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدتُ أقضِي الغَداةَ من جَلَلِهْ )
( مُوحِشاً ما تَرَى به أحداً تَنْتَسِجُ ... الريحُ تُرْبَ مُعْتَدِلِهْ )
( وصَرِيعاً من الثُّمَامِ تَرَى ... عارِمَاتِ المَدَبِّ في أَسَلِهْ )
( بين عَلْيَاءِ وابشٍ فبُلَيٍّ ... فالغَميمِ الذي إلى جَبَلِهْ )
( واقفاً في ديار أُمِّ جُسَيرٍ ... من ضُحَى يَومِه إلى أُصُلِهْ )
( يا خليلَيَّ إن أُمَّ جُسَيرٍ ... حين يدنو الضجيجُ من غَلَلهْ )
( روضةٌ ذاتُ حَنْوَةٍ وخُزَامَى ... جاد فيها الربيعُ من سَبَلِهْ )
( بينما هنّ بالأرَاكِ معاً ... إذ بدا راكبٌ على جَمَلِهْ )
( فتأطَّرْنَ ثم قلن لها ... أَكْرِميهِ حُيِّيتِ في نُزُلِهْ )
( فظَلِلْنَا بنَعْمةٍ واتَّكأنا ... وشَرِبنا الحلالَ من قُلَلِهْ )

( قد أَصُون الحديثَ دونَ خليلٍ ... لا أخاف الأَذَاة من قِبَلِهْ )
( غيرَ ما بِغْضَةٍ ولا لاجتنابٍ ... غير أنِّي أَلَحْتُ من وَجَلِهْ )
( وخليلٍ صاقَبْتُ مُرْتضِياً ... وخليلٍ فارقتُ من مَلَلِه )
قال فأنشده إياها حتى فرغ منها ثم اقتاد راحلته موليا فقال ابن الأزهر هذا أشعر أهل الإسلام فقال ابن حسان نعم والله وأشعر أهل الجاهلية والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه فقال عبد الرحمن بن الأزهر صدقت قال نصيب وأنشدت الوليد فقال لي أنت أشعر أهل جلدتك والله ما زاد عليها فقلت يا أبا محجن أرضيت منه بأن تكون أشعر السودان قال وددت والله يا أبن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا ولكنه لم يفعل ولست بكاذبك
كان مقدماً في النسيب على غيره
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
كان لكثير في النسب حظ وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب في النسيب وكان كثير راوية جميل وكان جميل صادق الصبابة والعشق ولم يكن كثير بعاشق ولكنه كان يتقول وكان الناس يستحسنون بيت كثير في النسيب
( أُريد لأَنسَى ذكرَها فكأنَّما ... تمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيل )
قال ورأيت من يفضل عليه بيت جميل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45