كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( في سبيل الله أودى فَرَسي ... ثم عُلّلتُ بأبيات هَزَجْ )
( كنتُ أرجو من ربيع فرجاً ... فإذا ما عندَه لي من فَرَجْ )

الربيع يجيزه دراهم عوضا عن جارية وعده بها
قال ثم خرج الربيع إلى مكة وقد كان وعد النصيب جارية فلم يعطه وأمر ابنه أن يدفع إليه ألفي درهم ففعل فقال النصيب
( ألا أَبلغا عَنِّي الربيعَ رِسالةً ... ربيعَ بني عبد المَدانِ الأكارِم )
( أَعزَّتْ عليكَ البيضُ لما أَرغتُها ... فرُغتَ إلى إعداد بِيض الدراهم )
( الم تر أني غيرُ مستطرَفِ الغِنى ... حديث وأنِّي من ذُؤابة هاشِم )
( وأنك لم تهبطْ من الأرض تَلعةً ... ولا نجوةً إلا بعهدي وخاتَمِي )
قال ثم قدم الربيع فأهدى إلى دفافة بن عبد العزيز العبسي طبق تمر فقال فيه دفافة
( بعثتَ بتَمرٍ في طُبيقٍ كأَنَّما ... بعثت بياقوتٍ توقَّدَ كالجَمْرِ )
( فلو أن ما تُهدِي سنيًّا قَبِلتُه ... ولَكنما أهديتَ مثَلك في القَدر )
( كأَنَّ الذي أهديتَ من بُعد شُقَّةٍ ... إلينا من المُلقَى على ضفَّة الجِسْر )
فأجابه الربيع فقال
( سل الناسَ إما كنتَ لا بدَّ طالباً ... إليهم بأَلا يحملوك على القَدْرِ )
( فإنك إن تُحْمَلْ على القَدْر لا تنَل ... يَدَ الدهر مِن بَرٍّ فَتيلاً ولا بَحرِ )

( لقد كنتَ منّي في غَدير وروضة ... وفي عَسل جَمٍّ وما شئتَ من خمرِ )
( وما كنتُ منَّاناً ولكنْ كَفرتْني ... وأظهرتَ لي ذمًّا فأظهرتُ من عذري )
( لعَمْري لقد أُعطِيتَ ما لستَ أهلَه ... ولا أهلَ ما يُلْقَى على ضِفَّة الجِسْرِ )
فبلغت أبياتهما نصيبا فشمت بالربيع وقال فيه هذه القصيدة
( رضيتُكما حِرصاً وَمنعاً ولم يكن ... يَهيجُكما إلا الحقيرُ من الأمر )
( متى يجتمعْ يوما حريصٌ ومانع ... فليس إلى حمدٍ سبيلٌ ولا أجرِ )
( أحارِ بن كعبٍ إن عبساً تغَلغلَتْ ... إلى السير من نَجران في طلب التَّمْرِ )
( فكيف ترى عبساً وعبسٌ حريصةٌ ... إذا طمِعَتْ في التَّمر من ذلك العُبْر )
( لقد كُنتما في التَّمر لله أنتُما ... شبيهيْن بالمُلقى على ضِفِّة الجِسرِ )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدثت من غير وجه أن النصيب دخل على الفضل بن يحيى بن خالد مسلما فوجد عنده جماعة من الشعراء قد امتدحوه فهم ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز ولم يكن امتدحه ولا أعد له شيئا
فلما فرغوا وكان يروي قولا في نفسه استأذن في الإنشاد ثم أنشد قصيدته التي أولها قوله

يشبب بمية ثم يمدح الفضل بن يحيى
( طرقتْك ميَّةُ والمزار شَطِيب ... وتُثيبكَ الهجرانَ وهْي قريبُ )
( لله ميةُ خُلَّةً لو أنها ... تجزي الوِداد بوُدِّها وتُثيبُ )

( وكأَن ميَّةَ حين أتلع جيدُها ... رشأ أغنُّ من الظباء ربيبُ )
( نصفان ما تحت المؤَزَّر عاتكٌ ... دِعْصٌ أغرٌ وفوقَ ذاك قضيبُ )
( ما للمنازل لا تكاد تجيبُ ... أنى يُجيبكَ جَندلٌ وجَبُوبُ )
( جادتْك من سَبَل الثريا دِيمةٌ ... ريَّا ومن نَوء السِّماك ذَنوبُ )
( فلقد عهدتُ بك الحِلالَ بِغبطة ... والدهر غضٌّ والجَنابُ خصيبُ )
( إذ للشباب عليَّ من وَرق الصِّبا ... ظِلٌّ وَإذ غُصْن الشبابِ رطِيبُ )
( طرِبَ الفؤادُ ولاتَ حين تطرُّبٍ ... إن الموكِّل بالصّبا لَطروبُ )
( وتقول ميَّةُ ما لِمثلكَ والصِّبا ... واللون أسودُ حالكٌ غِرْبيبُ )
( شَاب الغرابُ وما أَراكَ تَشيبُ ... وطلابُكَ البيضَ الحسانَ عجيبُ )
( أعلاقَةٌ أسبابهُنّ وإنَّمَا ... أفنانُ رأْسكَ فُلفُل وزَبيبُ )
( لا تهزَئي مني فَرُبَّتَ عائبٍ ... مالا يعيبُ الناسَ وهو معيبُ )
( ولقد يصاحِبُني الكرامُ وطالَما ... يسمو إليَّ السيّدُ المحجُوبُ )
( وأجُرُّ من حُلَل الملوكِ طَرائفاً ... منها عليَّ عصائبٌ وسَبيبُ )
( وأُسالبُ الحسناء فضلَ إزارها ... فأصورُها وإزارُها مسلوبُ )

( وأقول منقوح البدِيّ كأنّه ... بردٌ تَنافسه التِّجارُ قَشيبُ )
يقول فيها في مدح الفضل
( والبرمكيُّ إذا تقارب سنُّه ... أو باعدَته السنُّ فهو نجيبُ )
( خرِقُ العطاء إذا استهلَّ عطاؤُه ... لا مُتِبعٌ منَّا ولا مَحسوبُ )
( يا آل برمكَ ما رأينا مثلَكمْ ... ما منكمُ إلا أغرُّ وَهوبُ )
( وإذا بدا الفضلُ بنُ يحيى هِبْتُهُ ... لِجلاله إنَّ الجليلَ مَهيبُ )
( قاد الجيادَ إلى العِدَا وكأَنها ... رَجْلُ الجراد تَسوقهنّ جَنُوبُ )
( قُبَّاً تُبارِي في الأعنَّة شُزَّباً ... تَدَعُ الحُزونَ كأنهنَّ سُهوبُ )
( من كل مضطرِب العِنان كأنه ... ذِئب يبادرُه الفريسةَ ذيبُ )
( تهوِي بكلِّ مغاورٍ عاداتُه ... صِدقُ اللقاء فما لَه تكذيبُ )
( حتى صَبَحن الطالبيَّ بعارضٍ ... فيه المنايا تَغْتَدِي وتَؤُوبُ )
( خاف ابنُ عبد الله ما خوَّفتَه ... فجفاكَ ثم أتاك وهو مُنيبُ )
( ولقد رآك الموتَ إلا أَنَّه ... بالظنّ يُخْطئ مرة ويُصيبُ )
( فرمى إليكَ بنفسه فَنجا بهَا ... أجلٌ إليه ينتهي مكتوبُ )
( فكسوتَه ثوبَ الأمان وإنَّه ... لا حبلُه واهٍ ولا مقضوبُ )
( شِمنا إليك مَخيلةً لا خُلَّباً ... في الشَّيم إِذ بعضُ البروق خَلوبُ )
( إنَّا على ثِقةٍ وظنٍّ صادقٍ ... مِمَّا نؤمّله فليسَ نَخيبُ )

قال فاستحسنها الفضل وأمر له بثلاثين ألف درهم فقبضها ووثب قائما وهو يقول
( إني سأمتدحُ الفضلَ الذي حُنِيَت ... منّا عليه قُلوبُ البِرِّ والضِّلَعُ )
( جاد الربيعُ الذي كنا نؤمِّلُه ... فكلنا بربيع الفضْلِ مرتَبعُ )
( كانت تطولُ بنا في الأرض نجعتُنا ... فاليوم عند أبي العباس نَنْتَجعُ )
( إن ضاق مذهبُنا أو حلّ ساحتَنا ... ضَنكٌ وأزْم فعند الفضلِ متِّسَع )
( ما سلَّم اللُه نفسَ الفضل من تلَفٍ ... فما أُبالي أقام الناسُ أم رَجعُوا )
( إن يمنعوا ما حوتْ منا أكفَّهُم ... فلن يضرَّ أبا الحجناء ما مَنَعُوا )
( أو حَلَّؤونا وذادوا عن حياضِهُم ... يومَ الشروع ففي غُدْرانِكَ الشِّرَعُ )
( يا ممسكاً بِعُرَا الدنيا إذا خُشِيَت ... منها الزلازلُ والأمرُ الذي يقعُ )
( قد ضرَّسَتْك الليالي وهي خالية ... وأحْكَمَتْك النهى والأزلَمُ الجَذَعُ )
( فغادرا منك حَزناً عن مُعاسرةٍ ... سهلَ الجنابِ يسيراً حين يتَّبَعُ )
( لم يفتلِتْك نقيراً عن مُخادعة ... دَهْيُ الرجال وللسؤّالِ تَنخدعُ )
( فأنت مصطلِحٌ بالملك تَحمله ... كما أبوك بثِقل المُلك مُضطلِعُ )

يمدح زبيدة زوج الرشيد في الحج
قال ابن أبي سعد لما حجت أم جعفر زبيدة لقيها النصيب فترجل

عن فرسه وأنشأ يقول
( سيستبشر البيتُ الحرامُ وزمزَمٌ ... بأمِّ وليِّ العهدِ زينِ المواسمِ )
( ويعلم مَنْ وافى المحصَّب أنها ... ستحمل ثِقل الغُرم عن كل غارمِ )
( بنو هاشم زينُ البرية كلِّها ... وأمُّ ولي العهد زينٌ لهاشم )
( سلِيلةُ أملاكٍ تفرَّعت الذّرُى ... كرامٍ لابناءِ الملوك الأكارِم )
( فوالله ما نَدري أفضلُ حديثِها ... عليهم به تَسمو ام المُتقادمِ )
( يظنّ الذي أعطتْه منها رغيبةً ... يقصّ عليه الناسُ أحلامَ نائمِ )
فأمرت له بعشرة آلاف درهم وفرس فأعطيه بلا سرج فتلقاها لما رحلت وقال
( لقد سادتْ زُبيدةُ كلَّ حيٍّ ... وميْتٍ ما خلا الملكَ الهُماما )
( تُقًى وسماحةٌ وخلوصُ مَجد ... إذا الأنسابُ أَخلصتِ الكراما )
( إِذا نزلتْ منازلَها قريشٌ ... نزلتِ الأنفَ منها والسَّناما )
( بلغْتِ من المفاخر كلَّ فخرٍ ... وجاوزْتِ الكلامَ فلا كلاما )
( وأعطيتِ اللُّهى لكنَّ طِرْفي ... يريد السَّرجَ منكم واللِّجاما )
فأمرت له بسرج ولجام

ابنته الحجناء تمدح المهدي وابنته العباسة
قال ابن أبي سعد خرج المهدي يتنزه بعيسى باذ وقدم النصيب ومعه ابنته حجناء فدخل على المهدي وهي معه فأنشدته قولها فيه
( رُبَّ عيش ولذةٍ ونعيم ... وبهاءٍ بمشرِق المَيْدانِ )
( بسط اللُه فيه أبهى بِساط ... من بَهار وزاهر الحَوْاذانِ )
( ثم من ناضرٍ من العُشُب الأخْضَرِ ... يزهو شقائقَ النُّعمانِ )
( مدَّه الله بالتَّحاسين حتى ... قَصَرت دون طوله العَينانِ )
( خُفّفَتْ حافتاه حيثُ تَناهى ... بخيامٍ في العَين كالظِّلْمَانِ )
( زيَّنوا وسطَها بطارمةٍ مِثْلِ ... الثريَّا يَحُفُّها النَّسرانِ )
( ثم حَشْوُ الخيام بيضٌ كأمْثالِ ... المَها في صَرائم الكُثْبانِ )
( يتجاوبْنَ في غِناء شَجِيٍّ ... أَسْعِدَاني يا نخلَتيْ حُلوانِ )
( فبقصر السلام من سَلَّمَ ... اللّهُ وأبقى خليفَة الرحمن )
( ولديه الغِزلانُ بل هنَّ أبهى ... عنده من شَوادِنِ الغِزْلانِ )
( يا لَه منظراً ويومَ سرورٍ ... شهدتْ لذَّتيه كلُّ حَصَانِ )
فأمر لها المهدي بعشرة آلاف درهم وله بمثلها قال ثم دخلت

الحجناء على العباسة بنت المهدي فأنشدتها تقول
( أتيناكِ يا عباسةَ الخير والحيا ... وقد عَجَفَتْ أُدْمُ المهارى وكَلَّتِ )
( وما تركتْ منا السُّنونَ بقيةً ... سوى رِمَّةٍ منا من الجَهد رَمَّتِ )
( فقال لنا من ينصحُ الرأيَ نفسَه ... وقد ولت الأموالُ عنا فقلَّتِ )
( عليكِ ابنةَ المهديّ عُوذي ببابها ... فإن محلَّ الخير في حيث حلَّت )
فأمرت لها بثلاثة آلاف درهم وكسوة وطيب فقالت
( أغنيتنِي يابْنَة المهديِّ أيَّ غِنىً ... بأَعجرين كثيرٌ فيهما الوَرَقُ )
أي اغنيتني على عقب ما أغناني أخوك
بأعجرين بكيسين
( من ضرب تسع وتسعينٍ مُحَكَكَةٍ ... مثلِ المصابيح في الظَّلماء تأتَلِقُ )
( أما الحسودُ فقد أمسى تغيُّظه ... غمَّا وكادَ برَجْع الرِّيق يَخْتَنِقُ )
( وذو الصداقة مسرورٌ بنا فَرِحٌ ... بادي البِشارة ضاحٍ وجهُه شَرِقُ )
وقال ابن أبي سعد

مدحه صديقه إسحاق بن الصباح
كان إسحاق بن الصباح الأشعثي صديقا للنصيب وقدم قدمة من الحجاز فدخل على إسحاق وهو يهب لجماعة وردوا عليه برا وتمرا فيحملونه على إبلهم ويمضون فوهب لنصيب جارية حسناء يقال لها مسرورة فأردفها خلفه ومضى وهو يقول

( إذا احتقبوا بُرّاً فأَنتِ حَقِيبتي ... من البشَريَّاتِ الثقال الحَقائبِ )
( ظفرتُ بها من أشعثيٍّ مهذَّبٍ ... أغرَّ طويلِ الباع جمَّ المواهبِ )
( فدًى لكَ يا أسحاق كلُّ مبخَّل ... ضجورٍ إذا غضَّت شِدادُ النوائبِ )
( إذا ما بخيلُ القوم غيَّب مالَه ... فمالُك عِدٌّ حاضرٌ غيرُ غائب )
( إذا اكتسب القومُ الثّراء فإِنَّما ... ترى الحمدَ غُنماً من كريمِ المكاسِب )
وقال فيه أيضاً
( فتًى من بني الصّبّاح يهتزُّ للنَّدى ... كما اهتزَّ مسنونُ الغِرار عتيقُ )
( فتى لا يذُمّ الضيفُ والجارُ رِفدَه ... ولا ي جتويه صاحبٌ ورَفيق )
( أَغرُّ لابناء السبيل مَوارِدٌ ... إلى بيته تَهديهمُ وطريقُ )
( وإن عُدَّ أنسابُ الملوك وجدتَه ... إلى نَسب يعلوهُمُ ويَفوقُ )
( فما في بني الصَّبَّاح إن بَعُد المَدَى ... على الناس إلا سابقٌ وعَريقُ )
( وإني لِمَنْ شاحَنْتُمُ لمشاحِنٌ ... وإني لِمَنْ صادقُتم لصَديقُ )

زار خزيمة بن خازم ومدحه
قال وكان النصيب إذا قدم على المهدي استهداه القواد منه وسألوه أن يأمره بزيارتهم فكان فيمن استزاره خزيمة بن خازم فوصله وحمله وقال فيه

( وجدتُك يا خُزَيمةُ أَريحِيَّا ... بما تحوي وذا حَسَبٍ صَمِيمِ )
( تميمٌ كانَ خيرَ بني معدٍّ ... وأنت اليومَ خيرُ بني تميمِ )
( سوى رهط النبيِّ وهم أديمٌ ... وأنت قُدِدْتَ من ذاك الأَديمِ )
وقال فيه أيضا
( يا أفضلَ الناسِ عُوداً عند مَعْجَمهِ ... إذا تَفاضلَ يوماً مَعْجَمُ العُودِ )
( أني لواحدُ شعرٍ قد عُرفتُ به ... وذا خزيمة أضحى واحدَ الجودِ )
( إن يعطكَ اليوم معروفاً يعِدك غداً ... فأنت في نائل منه وموعودِ )
( وقد رأينَا تميماً غير مُكْرهَةٍ ... ألقَتْ إليك جميعاً بالمقاليدِ )
( فأَنت أكرمُها نفساً وأفضَلُها ... إنّ الصناديدَ أبناءُ الصناديدِ )
وقال وكان في غزاة سمالو مع المهدي فوقف به فرسه ومر به جعد مولى عبد الله بن هشام بن عمرو وبين يديه فرس يجنب فقال له قد ترى قيام فرسي تحتي فاردد إلى جنيبك حتى يتروح فرسي ساعة فسكت ولم يجبه فقال فيه
( أنادي بأَعلى الصوتِ جَعْداً وقد يَرَى ... مكاني ولكن لا يُجيبُ ويَسْمَعُ )
( ولم يرني أهلاً لحُسْنِ إِجابة ... ولا سُوئِها إني إلى الله أرجِعُ )
( فلو أنَّني جازيتُ جَعْداً بفِعلِه ... لقد لاح لي فيه من الشعر مَوضعُ )
( ولكنِّني جافيتُ عنهُ لِغيره ... بحُسْن الذي يأْتي إليَّ ويَصْنَعُ )

( رأيتك لم تحفظ قرابَةَ بينِنا ... وما زالتِ القُربى لدى الناسِ تَنْفعُ )
قال وسأل عبيد الله بن يحيى بن سليمان مركبا فأعطاه إياه وجعل معه شريكا له فيه فقال
( لقد مدحتُ عبيداً إذ طَمِعتُ بِه ... وقد تملَّقْتُه لو ينفعُ الملَقُ )
( فعاد يسأَل ما أصبحتُ سائلَه ... فكلُّنا سائل في الحِرْص مُتَّفِقُ )
( أحينَ سار مديحي فيكمُ طُرُقاً ... وحيث غنَّتْ به الركبانُ والرُّفَقُ )
( قطعتَ حبلَ رجاءٍ كنتُ آملُه ... فيما لديكَ فأَضحى وهو مُنْحَذِقُ )
( قد كان أورَقَ عودي من أبيك فقد ... لَحيْتَ عُودي فجفَّ العُودُ والوَرَقُ )
( من نازع الكلبَ عَرْقا يرتجي شِبَعاً ... كمصطلٍ بحريقٍ وهو يَحتَرِقُ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال كتب إلي أبو محمد إسحاق بن أبي إبراهيم يقول أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب
( عند الملوكِ مَضرَّةٌ ومنافعُ ... وأرى البرامِكَ لا تضرُّ وتَنْفَعُ )
( إن العُروق إذا استسرَّ بها الثَّرى ... أشِرَ البناتُ بِها وطابَ المَزْرَعُ )
( فإذا نَكِرتَ من امرئ أعراقَه ... وقديمَه فانظر إلى ما يَصْنَعُ )
قال فأعجبه الشعر فقال يا أبا محمد كأني والله لم أسمع هذا القول إلا الساعة وما له عندي عيب إلا أني لم أكافئه عليه
قال قلت وكيف ذلك أصلحك الله وقد وهبت له ثلاثين ألف درهم فقال لا والله ما ثلاثون ألف

دينار بمكافئة له فكيف ثلاثون ألف درهم
أخبرني أحمد بن عبد الله بن عمار قال أخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال
كان أبي يستملح قول نصيب وقد رأى كثرة الشعراء على باب الفضل بن يحيى
فلما دخل الناس إليه قال له
( ما لقينا من جودِ فضلِ بن يحيى ... ترك الناس كلهم شُعراء )
ويقول ما في الدنيا أحسن من هذا المعنى وعلى أنه قد أخذ منهم مالا جليلا ولكن قلما سمعت بطبقته مثله

صوت
( طاف الخيالُ ولات حينَ تطَرُّبِ ... أن زار طيف موهِناً من زَينبِ )
( طرقَتْ فنفَّرتِ الكَرى عن نائمٍ ... كانت وسادَتُه ذِراعَ الأرحبي )
( فبكى الشبابَ وعهدُه وزمانَه ... بعد المشيبِ وما بُكَاءُ الأَشيبِ )
- عروضه من الكامل - الشعر لأبي شراعة القيسي والغناء لدعامة البصري خفيف رمل بالبنصر من كتاب الهشامي

أخبار أبي شراعة ونسبه
هو فيما كتب به إلينا أبنه أبو الفياض سوار بن أبي شراعة من أخباره ونسبه أحمد بن محمد بن شراعة بن ثعلبة بن محمد بن عمير بن أبي نعيم بن خالد بن عبدة بن مالك بن مرة بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل شاعر بصري من شعراء الدولة العباسية جيد الشعر جزله ليس برقيق الطبع ولا سهل اللفظ وهو كالبدوي الشعر في مذهبه وكان فصيحا يتعاطى الرسائل والخطب مع شعره وكانت به لوثة وهوج
وأمه من بني تميم من بني العنبر وابنه أبو الفياض سوار بن أبي شراعة أحد الشعراء الرواة قدم علينا بمدينة السلام بعد سنة ثلثمائة فكتب عنه أصحابنا قطعا من الأخبار واللغة وفاتني فلم ألقه وكتب إلي وإلى أبي رحمه الله بإجازة أخباره على يدي بعض إخواننا فكانت أخبار أبيه من ذلك
كان سمحا يجود بكل ما عنده
فمنها ما حكاه عنه أنه كان جوادا لا يليق شيئا ولا يسأل ما يقدر عليه إلا سمح به وأنه وقف عليه سائل يوما فرمى إليه بنعله وانصرف حافيا فعثر فدميت إصبعه فقال في ذلك

( ألا لا أُبالي في العُلا ما أصابني ... وإن نَقِبت نَعلاي أو حَفِيتْ رِجْلي )
( فلم تَرَ عَيْنِي قَطُّ أحسنَ منظَراً ... من النكب يدمَى في المواساةِ والبذل )
( ولستُ أُبالي مَنْ تأَوَّبَ منزلي ... إذا بقيْت عندي السروايلُ أو نَعْلي )

أخوه يتهمه بالجنون فينشد شعرا
قال وبلغه أن أخاه يقول إن أخي مجنون قد أفقرنا ونفسه فقال
( أَأُنبَزُ مَجنوناً إذا جُدتُ بالذي ... ملكتُ وإن دافعت عنه فعاقِلُ )
( فداموا على الزُّورِ الذي قُرِفوا به ... ودمتُ على الإِعطاء ما جاءَ سائلُ )
( أبيتُ وتأبى لي رجالٌ أشحَّةٌ ... على المجد تنمِيهم تميمٌ ووائلٌ )
قال وقال أيضا في ذلك
( أَئِنْ كنتُ في الفتيان آلوت سيداً ... كثيرَ شحوب اللون مختلِفَ العَصْبِ )
( فما لكَ من مولاك إلا حفاظُهُ ... وما المرءُ إلا باللسان وبالقلبِ )
( هما الأصغران الذائدانِ عن الفتَى ... مكارِهَه والصاحبان على الخَطْبِ )
( فإلاّ أُطِقْ سعيَ الكرام فإنني ... أفكُّ عن العانِي وأَصْبِرُ في الحَرْبِ )
أخبرني عمي قال أخبرني ميمون بن هارون قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال كان عندي أبو شراعة بالبصرة وأنا أتولاها وكان عندي عمير المغني

المدني وكان عمير بن مرة غطفانيا وكان يغني صوتا يجيده واختاره عليه وهو
( أَتحسِبُ ذاتَ الخالِ راجيةً رَباًّ ... وقد صدعتْ قلباً يُجَنُّ بها حُباًّ )
فاقترحه أبو شراعة على عمير فقال أعطني دراهم حتى أقبل اقتراحك فقال له أبو شراعة أخذ المغني من الشاعر يدل على ضعف الشاعر ولكني أعرضك لأبي إسحاق فغناه إياه ثلاث مرات وقد شرب عليه ثلاثة أرطال وقال
( عدوتُ إلى المُريِّ عدوةَ فاتِكٍ ... مِعنّ خليع للعواذل والعُذْرِ )
( فقال لشيء ما أرى قلتُ حاجةٌ ... مُغَلغلة بين المخنَّق والنَّحرِ )
( فلما لواني يَسْتثيب زَجرتُه ... وقلت اغتَرِفْ إنَّا كلانا على بَحْرِ )
( أليس أبو إسحاقَ فيه غِنىً لَنا ... فَيُجْدِي على قَيسٍ وأُجدِي على بكر )
( فغنَّى بذات الخالِ حتى استخفَّني ... وكاد أَديمُ الأرض من تحتنا يَجرِي )

يمدح صديقه ابن المدبر وقد وهبه مالا
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال كان أبو شراعة صديقا لإبن المدبر أيام تقلده البصرة وكان لا يفارقه في

سائر أحواله ولا يمنعه حاجة يسأله إياها ولا يشفع لأحد إلا شفعه فلما عزل إبراهيم بن المدبر شيّعه الناس وشيَّعه أبو شراعة فجعل يرد الناس حتى لم يبق غيره فقال له يا أبا شراعة غاية كل مودع الفراق فانصرف راشدا مكلوءا من غير قلى والله ولا ملل وأمر له بعشرة آلاف درهم فعانقه أبو شراعة وبكى فأطال ثم أنشأ يقول
( يا أبا إسحاقَ سِرْ في دَعةٍ ... وامضِ مصحوباً فما منك خَلَفْ )
( ليتَ شعري أَيُّ أرض اجدبتْ ... فأُغيثَتْ بك من جَهد العَجَفْ )
( نزل الرُّحْم من الله بهِمْ ... وحُرِمناك لِذنبٍ قد سَلَفْ )
( إِنما أنت ربيعٌ باكرٌ ... حيثُما صرَّفه الله انصرَفْ )
قال أبو الفياض سوار بن أبي شراعة دخل أبي علي إبراهيم بن المدبر وعنده منجم فما رآه إبراهيم بن المدبر في رؤية الهلال لشهر رمضان فحكم المنجم بأنه يرى وحلف إبراهيم بعتق غلمانه أنه لا يرى فرئي في تلك الليلة
فأعتق غلمانه فلما أصبح دخل الناس يهنئونه بالشهر فأنشده أبو شراعة يقول
( أيها المكثر التَّجنيِّ على المال ... إذا ما خلا من السُّؤّالِ )
( أَفتنا في الذين أَعتقْتَ بالأمْس ... مواليكَ أَم موالي الهِلالِ )
( لم يكن وَكْدُك الهلالَ ولكنْ ... تتأَلَّى لِصالِح الأعمال )
( إنما لذَّتاك في المال شَتَّى ... صونُك العِرْضَ وابتذَالُ المالِ )
( ما نُبالي إذا بقيتَ سَليماً ... مَن تولَّتْ به صروفُ اللَّيالي )

قال أبوالفياض وكان أبو شراعة صديق السدري فدعا يوما إخوانه وأغفل أبا شراعة فمر به الرياشي
فقال يا أبا شراعة ألست عند السدري معنا فقال لم يدعنا
ومر به جماعة من إخوانه فسألوه عن مثل ذلك ومر به عيسى بن أبي حرب الصفار وكان ممن دعي فجلس وحلف ألا يبرح حتى يأتيه السدري فيعتذر إليه ويدعوه فقال أبو شراعة
( أَيْر حمارٍ في حِرِ أمِّ شِعري ... وخُصيتاه في حِر أمِّ قَدْرِي )
( إن أنا لم أشْفَعْهما بِوَفرِ ... لو كنتُ ذا وفرٍ دعاني السِّدْري )
( أو كان من همّ هشامٍ أمري ... أو راح إبراهيمُ يُطري ذِكري )
( وابن الرياشي الضعيفُ الأمر ... يخاف إِن أردَفَ ألاَّ يَجري )
( وانتَ يا عِيسى سقاكََ المُسْري ... نعمَ صديقُ عُسرةٍ ويُسرِ )
قال أبو الفياض سقطت دارنا بالبصرة فعوتب أبي علي بنائها وقيل له استعن بإخوانك إن عجزت عنه فقال
( تلوم ابنةُ البكريِّ حين أؤوبها ... هَزيلاً وبعض الآئبين سَمينُ )
( وقالتْ لحاكَ الله تستحسنُ العَرا ... عن الدار إنَّ النائباتِ فُنُونُ )
( وحولك إخوانٌ كرامٌ لهمْ غِنًى ... فقلت لإخواني الكرامُ عُيونُ )
( ذَريني أَمُتْ قبل احتلالِ محلَّةٍ ... لها في وُجوه السائلين غُضونُ )
( سأفدَي بمالي ماءَ وجهيَ إِنني ... بما فيه من ماءِ الحياء ضَنِينُ )

قال سوار بن أبي شراعة كان إخوان أبي يجتمعون عند الحسين بن أيوب بن جعفر بن سليمان في ليالي شهر رمضان فيهم الرياشي والجماز فقال أبي في ذلك
( لو كنتُ من شعية الجمَّاز أقعدني ... مقاعداً قُربهُنَّ الريفُ والشَّرفُ )
( لكنَّني كنتُ للعباس متَّبعاً ... وليس في مَركب العباس مرتَدَفُ )
( قد بقيتْ من ليالي الشهر واحدةٌ ... فعاوِدوا مالحَ البقّال وانصرفُوا )

طلق ليلة تزوج نديمة بيان
قال وتزوج نديم لأبي شراعة يقال له بيان امرأة فاتفق عرسه في ليلة طلق فيها أبو شراعة امرأته فعوتب في ذلك وقيل بات بيان عروسا وبت عزبا فقال في ذلك
( رأتْ عُرسَ بَيَّانٍ فهبَّتْ تلومني ... رويدَكِ لوماً فالمطَلَّق أَحوطُ )
( رويدكِ حتى يرجعَ البرُّ أَهله ... ويرحمُ ربُّ العِرْس من حيث يُغبَط )
( إذا قال للطحَّان عند حسابه ... أَعِدْ نظراً إِني أَظنك تغلطُ )
( فما راعه إلا دعاءُ وليدةٍ ... هلُمَّ إلى السّواق إن كنت تَنْشَطُ )
( هنالك يدعو أُمَّه فيسبّها ... ويلتبش الأجرَ العَقوق فيحبَطُ )
( فياذا العُلا إني لفضلك شاكرٌ ... أَبيتُ وحيداً كلما شئت أَضرَطُ )
شمن ببيان لأنه عجز عن امرأته
قال ثم بلغه عن بيان هذا أنه عجز عن امرأته ولم يصل إليها ولقي منها شرا فقال في ذلك

( رمى الدهرُ في صَحبي وفرَّق جُلاَّسي ... وباعدهم عني بظَعنٍ وإعراس )
( فكلُّهمُ يبغي غِلافاً لأيره ... وأقعدَني عن ذاك فَقري وإفلاسي )
( فشكراً لربِّي خان بيَّان أيرُه ... وأّسعى بأيري في الظلام على الناس )
( يمسحه بالكف حتى يقيمه ... وهل ينفع الكفَّان من ثقل الرأس )
وقال أبو الفياض سوار نظر إلي أبي يوما وقد سألت عمي حاجة فردني فبكى ثم قال
( حُبِّي لإِغناء سوَّارٍ يُجَشِّمني ... خَوضَ الدُّجى واعتساف المَهمَهِ البِيدِ )
( كي لا تهونَ على الأعمام حاجَتُه ... ولا يعلَّل عنها بالمواعيدِ )
( ولا يوليهمُ إن جاء يسأَلُها ... أكتافَ مَعرضة في العِيس مردودِ )
( إذا بكى قال منهمْ ذُو الحِفاظ له ... لقد بُليت بخلْقٍ غيرِ محمودِ )
قال وتمارى أبو شراعة ورجل من أهل بغداد في النبيذ فجعل البغدادي يذم نبيذ التمر والدبس فقال أبو شراعة
( إذا انتخبتَ حبَّه ودِبسَهُ ... ثم أجدْت ضَربه ومَرْسَهُ )
( ثم أطلْتَ في الإِناء حَبسهُ ... شربتَ منه البابليَّ نفسَهُ )
قال وأعوز أبا شراعه يومئذ النبيذ فطلب من نديمين كانا له فاعتل أحدهما بحلاوة نبيذه والآخر بحموضته فاشترى من نباذ يقال له أبو مظلومة

دستيجة بدرهمين وكتب إليهما
( سيُغني عن حلاوة دِبْسِ يحيى ... ويُغني عن حُموض أبي أميَّهْ )
( أبو مَظلومةَ الشيخُ المولِّي ... إذا اتَّزنتْ يداه دِرْهَميَّهْ )
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان أبو شراعة قبيح الوجه جدا فنظر يوما في المرآة فأطال ثم قال الحمد لله الذي لا يحمد على الشر غيره

فضل النبيذ على امرأته فطلقها
قال سوار بن أبي شراعة حلف أبي ألا يشرب نبيذا بطلاق امرأة كانت عنده فهجره حولين ثم حنث فشرب وطلق امرأته وأنشأ يقول
( فمن كان لم يسمعْ عجيباً فإنني ... عجيبُ الحديث يا أُميمَ وصادقُه )
( وقد كان لي أُنسانِ يا أُمَّ مالكٍ ... وكلُّ إذا فتَّشتَني أَنا عاشقُه )
( عزيزةُ والكأسُ التي من يُحلّها ... تُخادعه عن عقله فتصادقُه )
( تحارَبَتَا عندي فعطَّلتُ دَنَّهَا ... وأَكوابَهَا والدهر جَمٌّ بوَائقه )
( وحرَّمتُها حولَينِ ثم أَزلَّني ... حديثُ النَّدامى والنشيدُ أُوافقُه )
( فلمَّا شربتُ الكأس بانتْ بأختها ... فبان الغزال المستحبّ خلائقُه )
( فما أطيب الكأس التي أعتضت منكمُ ... ولكنَّها ليست برِيمٍ أُعانقه )
قال أبو الفياض قال أبي قصدت الحسن بن رجاء بالأهواز فصادفت

ببابه دعبل بن علي الخزاعي وجماعة من الشعراء وقد اعتل عليهم بدين لزمه ومصادرة فكتب إليه
( المالُ والعقلُ شيءٌ يُستعانُ به ... على المَقام بأَبواب السلاطينِ )
( وأنت تعلَمُ أَني مِنهما عَطِلٌ ... إذا تأّملْتَني يابنَ الدَّهاقين )
( هل تعلم اليومَ بالأهواز من رَجلٍ ... سواك يصلُح للدُّنيا وللدِّينِ )
قال فوعدنا وعدا قربه ثم تدافع فكتب إليه
( آذنَتْ جُبَّتي بأَمرٍ قبيح ... من فِراقٍ للطيلسَان الفسيح )
( فكأَني بمن يزيد على الجُبَّةِ ... في ظلِّ دار سهلِ بن نوحِ )
( أَنت رُوح الأَهواز يابنَ رجاء ... أَيّ شيء يعيشُ إلاًّ برُوح )
فأذن لي وللجماعة وقضى حوائجنا
قال أبو الفياض وحدثني أبي قال حججتُ فأتيت دار سعيد بن سلم فنحرت فيها ناقة وقلت
( وردت دارَ سعيد وهي خاليةٌ ... وكان أَبيضَ مِطعاماً ذُرى الإِبلِ )
( فارتحتُ فيها أَصيلاً عند ذُكرته ... وصُحْبتي بِمِنًى لاهُونَ في شُغُلِ )

( فابتعت من إبل الجمَّال دهشرَةً ... موسومةً لم تكنْ بالحِقةِ العُطُلِ )
( نحرتُها عن سعيد ثم قلت لهم ... زوروا الحَطِيمَ فإني غير مرتَحِلِ )
قال وبلغت الأبيات وفعلي ولده فأحسنوا المكافأة وأجزلوا الصلة قال فقال له صديق له وأنت أيضا قد استجدت لهم النحيرة فضحك ثم قال أغرك وصفي لها أشهد الله أني ما بلغت بها دار سعيد إلا بين عمودين
وقال أبو الفياض

عير أبا أمامة لأنه عالة على أمه
كان أبو أمامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم وأمه سعدى بنت عمرو بن سعيد بن سلم صديقا لأبي شراعة وكانت أمه سعدى تعوله فكان أبو شراعة لا يزال يعبث به وبلغه أن أبا أمامة يقول إنما معاش أبي شراعة من السلطان ورفده ولولا ذاك لكان فقيرا فقال فيه
( عَيَّرتَني نائلَ السلطان أطلبُه ... يا ضلَّ رأيُك بين الخُرْق والنّزَقِ )
( لولا امتنانٌ من السلطان تَجهلُه ... أصبحتُ بالسَّود في مُقعوْعِسٍ خَلَقِ )
السود موضع تنزله باهلة بالبادية
( رثَّ الرِّدا بين أهدام مرقَّعَةٍ ... يبيتُ فيها بليلِ الجائعِ الفَرِق )
( لا شيء أثبتُ بالإِنسانِ معرفَةً ... من التي حزمت جَنبيه بالخِرَقِ )

( فأين دارُك منها وهي مؤمنة ... بالله معروفةُ الإِسلام والشَّفَقِ )
( وأين رزقُك إلا من يَدَيْ مَرَةٍ ... ما بِتَّ من مالها إلا على سَرَقِ )
( تبيت والهرَّ ممدوداً عيونكما ... إلى تطعُّمها مخضرّة الحَدَقِ )
( ما بين رزقيكما إن قاس ذُو فِطَنٍ ... فرقٌ سوى أنه يأتيكَ في طَبَقِ )
( شارِكْهُ في صيدِه للفأر تأكلُه ... كما تُشاركُه في الوجْه والخُلُقِ )
قال أبو الفياض وزاره أبو أمامة يوما فوجد عنده طفشيلا فأكله كله فقال أبو شراعة يمازحه
( عين جودي لبرمةِ الطَّفْشيل ... واستهِلّي فالصبرُ غيرُ جميلِ )
( فجعتْني بها يد لم تَدَعْ للذّرّ ... في صَحن قِدرها من مَقيلِ )
( كان واللهِ لحمُها من فَصِيل ... راتعٍ يرتعي كَريمَ البُقولِ )
( فخلطنا بلحمه عَدَسَ الشَّام ... إلى حِمَّصٍ لنا مَبلُولِ )
( فأتتْنا كأنها روضةٌ بالحَزْنِ ... تدعو الجيرانَ للتَّطْفيلِ )
( ثم أكفأتُ فوقَها جفنةَ الحيّ ... وعلّقتُ صَحفتي في زَبيلِ )
( فَمَنى اللُه لي بفظٍّ غليظٍ ... ما أراه يُقِرُّ بالتَّنزيلِ )
( فانتحى دائباً يُدَبّلُ منها ... قلتُ إن الثريد للتَّدبيلِ )
( فتغنِّي صوتاً ليوضِحَ عِندي ... حيِّ أُمَّ العلاء قبلَ الرّحيلِ )

كتب أبوه إلى سعيد بن موسى يستهديه نبيذا
أخبري علي بن سليمان الأخفش قال حدثني سوار بن أبي شراعة
قال كتب أبي إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذا فكتب إليه سعيد إذا سألتني جعلني الله فداءك حاجة فاشطط واحتكم فيها حكم الصبي على أهله فإن ذلك يسرني وأسارع إلى إجابتك فيه
وأمر له بما التمس من النبيذ فمزجه صاحب شرابه وبعث به إليه
فكتب إليه أبو شراعة أستنسيء الله أجلك وأستعيذه من الآفات لك وأستعينه على شكر ما وهب من النعمة فيك إنه لذلك ولي وبه مليّ
أتاني غلامك المليح قده السعيد بملكك جده بكتاب قرأته غير مستكره اللفظ ولا مزور عن القصد ينطق بحكمتك ويبين عن فضلك فوالله ما أوضح لي خفيا ولا زادني بك علما وإذا أنت تسأل فيه أن تهب وتحب أن تحمد ولا غرو أن تفعل ذلك ومن كثب أخذته لا عن كلالة وغير كلالة ورثته موسى أبوك وسعيد جدك وعمرو عمك ولك دار الصلة ودار الضيافة وصاحب البغلة الشهباء وحصين بن الحمام وعروة بن الورد ففي أي

غلوات المجد يطمع قرينك أن يستولي على المدى والأمد دونك
وكتابك إلي أن أتحكم عليك تحكم الصبي على أهله فلشد ما جررت إلي معروفك ودللت على الأنس بك وحاشى للمحكوم له والمحكوم عليه في ذلك الحسب العتيق والمنظر الأنيق الذي يسر القلب ويلائم الروح ويطرد الهم
( تدِبّ خلال شؤون الفَتَى ... دبيبَ دَبى النَّملة المنتعشْ )
( إذا فُتِحت فَغَمَتْ ريحُها ... وإن سيلِ خَمّارها قال خُشْ )
خش كلمة فارسية تفسيرها طيب
فإن كنت رعيت لها عهدا وحفظت لها عندك يدا فانظر ربّ الحانوت فامطله دينه واقطع السبب بينك وبينه فقد أساء صحبتها وأفسد بالماء حسها وسلط عليها عدوها واعلم بأن أباك المتمثل بقوله
( يرى درجاتِ المجدِ لا يستطيعُها ... فيقعد وسْطَ القوم لا يتكلمُ )
وقد بسطت قدرتك لسانك وأكثرت لك الحمد فدونك نهزة البديهة منه
( وبادرْ بمعروف إذا كنت قادراً ... زوال افتقار أو غنًى عنك يُعقب )
وقد بعثت إليك بقرابة مع الرسول وأنشأت في أثرها أقول

( إليك أبن موسى الجودِ أعملتُ ناقتي ... مجلَّلةً يضفو عليها جِلالُها )
( كتومُ الوَحي لا تشتكي ألمَ السُّرى ... سواء عليها موتُها واعتلالُها )
( إذا شَرِبَتْ أَبصرتَ ما جوفُ بَطنها ... وإن ظَمِئَت لم يبد منها هُزالُها )
( وإن حَملتْ حِملاً تكلّفتُ حِملها ... وإن حُطَّ عنها لم أقل كيف حالُها )
( بعثنا بها تسمو العيونُ وراءها ... إليك وما يُخشى عليها كَلالُها )
( وغنّى مُغنِّيناً بصوتٍ فشاقني ... متى راجعٌ من أُم عمرو خيالُها )
( أحِبُّ لكم قيسَ بن عيلان كلَّها ... ويعجبني فُرسانها ورجالُها )
( ومالِيَ لا أهوَى بقاء قَبيلة ... أبوكَ لها بدرٌ وأنت هلالُها )
قال فبعث إليه برسوله الذي حمل إليه النبيذ واستملحه في شعره وبصاحب شرابه وكل ما كان في خزانته من الشراب وبثلثمائة دينار

مساجلة حول جارية يقال لها مليحة
أخبرني الأخفش عن المبرد وسوار بن أبي شراعة جميعا أن أبا الفياض سوار بن أبي شراعة كان يهوى قينة بالبصرة يقال لها مليحة فدعيت ذات يوم إلى مجلس لم يكن حاضره وحضر أبو علي البصير ذلك المجلس فجمشها بعض من حضر فلم تلتفت إليه وعرف أبو علي ذلك فكتب إلى أبي الفياض
( لك عندي بِشارة فاستمعها ... وأجبنِي عنها أَبا الفيَّاض )

( كنتُ في مجلسٍ مَليحةُ فيه ... وهي سُقْمُ الصِّحاح برءُ المِراض )
( وقديماً عهدتَني لستَ في حقِّكَ ... والذبِّ عنك ذا إغماضِ )
( فتغفَّلتها تغفُّلَ خَصْمٍ ... وتأملتُها تأمُّل قاض )
( ورَمتْها العيونُ من كلِّ أُفْق ... وتشاكَوْا بالوَحْي والإِيماض )
( من كهولٍ وسادةٍ سُمَحاء ... باللُّها باخلينَ بالأعراض )
( وصفاتُ القيانِ أولها الغدر ... عليهِ في وَصلهنَّ التَّراضي )
( فتشوّفتُ ذاكَ منها وأعددتُ ... نكيري وسَوْرتي وامتِعاضي )
( فحمتْ جانبَ المُزاحِ وعمَّتهم ... جميعاً بالصَّد والإِعراض )
( وكفاني وفاؤها لكَ حتَّى ... آذنَ الليلُ جمعَهم بارفِضاض )
فأجابه أبو الفياض
( ليتَ شعري ماذا دعاك إلى أن ... هجتَ شوقي وزدتَ في إِمراضي )
( ذكرتْني بُشراك داءً قديماً ... من سَقام عليَّ لا شك قاضي )
( إن تكنْ أحسنتْ مليحةُ في وصْلي ... وعاصَت رِياضة الرُّوَّاض )
( وأَقامتْ على الوفاء ولم تَرْعَ ... لوحيٍ منهم ولا إيماض )
( فعلى صحَّةِ الوفاءِ تعاقدْنا ... وصونِ النُّفوس والأعراض )
( وعلينا من العفافِ ثِيابٌ ... هنَّ أبهى من حالياتِ الرياض )
( ليس حظِّي منها سوى النظر الخَتْل ... وإني به لجذلانُ راض )

( لحظاتٌ يقعنَ في ساحة القلب ... وُقوع السهامِ في الأَغراض )
( وابتسامٌ كالبرق أو هو أخفَى ... بين سِتْري تحرُّزٍ وانقباض )
( لا أخافُ انتقاضَها آخرَ الدهر ... بِغَدرِ ولا تخافُ انتقاضي )
( فأَبِنْ لي ألستَ تحَمد ذا ... الودَّ وقاكَ الردى أبو الفياض )
قال أبو الفياض اتصل بأبي شراعة أن أبا ناظرة السدوسي يغتابه وكان مع آل أبي سفيان بن ثور فقال يهجوهم
( لعن الإِله بني سدوسٍ كلَّهمْ ... ورمَى بمنجوفٍ وَريّة قاف )
( قد سَبَّنِي عُضر وطهم فسببتُهم ... ذنبُ الدَّنِيء يُناط بالأشراف )
قال أبو الفياض وكان بين بعض بني عمنا وبين أبي شراعة وحشة ثم صالحوه ودعوه إلى طعامهم فأبى وقال أمثلي يخرج من صوم إلى طعم ومن شتيمة إلى وليمة ومالي ولكم مثل إلا قول المتلمس
( فإن تُقبلوا بالودّ نُقبلْ بمِثلِه ... وإلا فإنا نحن آبَى وأشمَسُ )
وقال فيهم
( بني سَوَّارَ إن رثَّتْ ثيابي ... وكَلَّ عن العشيرة فضلُ مُالي )
( فمطَّرَحٌ ومتروك كلامي ... وتجفُوني الأقاربُ والموالي )
( ألم أكُ من سَراة بني نُعَيم ... أَحلُّ البيتَ ذا العَمَد الطِّوال )
( وحولي كلُّ أصيدَ تَغْلَبيِّ ... أبيُّ الضيْم مشتركُ النوال )

( إذا حضر الغَداءُ فغيرُ مغنٍ ... ويُغني حين تَشتجرُ العوالي )
( وأبقوْني فلستْ بمستكين ... لصاحب ثَروة أُخرى الليالي )
( ولا بممسِّح المُثرين كيْما ... أمسِّحُ من طعامهمُ سِبَالي )
( أنا ابنُ العنبرية أزَّرتني ... إزار المكرمات إِزار خالي )
( فإن يكن الغِنَى مجداً فإني ... سأدعُو الله بالرزق الحَلالِ )

صوت
( إذا أَبصرتْكَ العينُ من بُعد غاية ... وأوْقعتُ شكّاً فيك أثبَتك القلبُ )
( ولو أن رَكْباً يمَّموك لقادَهم ... نسيمُك حتى يستدلَّ بكَ الركبُ )
الشعر لعبد الله بن محمد بن البواب والغناء لأحمد بن صدقة الطنبوري رمل مطلق في مجرى البنصر رواية الهشامي

أخبار ابن البواب
هو عبد الله بن محمد بن عتاب بن إسحاق من أهل بخارى
وجه بجدة وجماعة معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف فنزلوا عنده بواسط فأقطعهم سكة بها فاختطوها ونزلوها طول أيام بني أمية ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع فخدموه
وكان عبد الله بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء وكان أبوه محمد بن عتاب يخلف الربيع في أيام أبي جعفر وكان معه فرآه أبو جعفر مع أبيه فسأله عنه فأخبره فكساه قباء خز وكساه تحته قباء كتان مرقوع القب وقال له هذا يخفى تحت ذاك
ذكر لي أحمد بن القاسم بن يوسف عن محمد بن عبد الله بن محمد البواب عن أبيه
وكان عبد الله صالح الشعر قليله وراوية لأخبار الخلفاء عالماً بأمورهم روى عنه أبو زيد عمر بن شبة ونظراؤه وقد مضت في هذا الكتاب وتأتي أخبار من روايته

أعطاه الأمين فمدحه
قال أحمد بن القاسم اليوسفي حدثني محمد بن عبد الله البواب قال حدثني أبي قال حجبت موسى وهارون خليفة للفضل بن الربيع
وخدم محمدا الأمين فأغناه وأعطاه ومدحه ونال من المأمون وعرض به فأخبرني إسماعيل بن يوسف قال حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال حدثني الحسين بن الضحاك قال
لما أتي المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه
صوت
( أَيبخَل فردُ الحسن فردُ صفاته ... عليَّ وقد أفردته بهَوًى فردِ )
( رأى الله عبدَ الله خيرَ عباده ... فملَّكه والله أعلم بالعَبْدِ )
( ألا إنما المأمونُ للناس عِصمةٌ ... مُمَيَّزةٌ بين الضَّلالة والرُّشدِ )
لعلويه في هذه الأبيات رمل بالوسطى
قال فقال المأمون أليس هو القائل
( أعينيَّ جودا وابكيا لي محمَّدا ... ولا تدْخَرا دَمعاً عليه وأَسْعِدا )
( فلا فرِحَ المأَمون بالمُلْك بعدَه ... ولا زالَ في الدُّنيا طريداً مشرَّدا )
هيهات وواحدة بواحدة ولم يصله بشيء

هكذا روي عن الحسين بن الضحاك
وقد روي أن هذين الشعرين جميعا للحسين وأن قول المأمون هذا بعينه فيه
نسب إلى إسحاق شعراً ذميماً رديئاً )
وقال أحمد بن القاسم حدثني جزء بن قطن
وأخبرني بهذا الخبر الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قالا جميعا وقع بين إسحاق وبين ابن البواب شر فقال ابن البواب شعرا ذميما رديئا ونسبه إلى إسحاق وأشاعه ليعيره به وهو
( إنما أنتِ يا عنانُ سراج ... زيتُه الظَّرف والفَتيلةُ عقلُ )
( قاده للشقاء مني فُؤادي ... رِجْل حُبٍّ لكم وللحبِّ رِجلُ )
( هَضَم اليوم حبُّكم كلَّ حُبٍّ ... في فؤادي فصار حُبُّك فُجْلُ )
( أنت ريحانةٌ وراحٌ ولكن ... كلُّ أنثى سواكِ خَلٌّ وبَقلُ )
وقال حماد في خبره وبلغ ذلك أبي فقال له
( الشعر قد أعيا عليك فخلّه ... وخذ العَصا واقعدْ عَلى الأبواب )
فجاء ابن البواب إلى إبراهيم جدي فشكا أبي إليه فقال له مالك وله يا بني فقال له أبي تعرض لي فأجبته وإن كف لم أرجع إلى مساءته
فتتاركا

خبره مع جارية يهواها اسمها عبادة
قال أحمد بن القاسم أخبرني محمد بن الحسن بن الفضل قال أخبرني إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحيم قال

كان بالكرخ نخاس يكنى أبا عمير وكان له جوار قيان لهن ظرف وأدب وكان عبد الله بن محمد البواب يألف جارية منهن يقال لها عبادة ويكثر غشيان منزل أبي عمير من أجلها فضاق ضيقة شديدة فانقطع عن ذلك وكره أن يقصر عما كان يستعمله من برهم فتعلم بضيقته ثم نازعته نفسه إلى لقائها وزيارتها وصعب عليه الصبر عنها فأتاه فأصاب في منزله جماعة ممن كان يألف جواريه فرحب به أبو عمير والجارية والقوم جميعا واستبطأوا زيارته وعاتبوه على تأخره عنهم فجعل يجمجم في عدره ولا يصرح فأقام عندهم فلما أخذ فيه النبيذ أنشأ يقول
( لو تشكَّى أبو عُمير قليلاً ... لأتيناه من طَريق العِيادَهْ )
( فقضيْنَا من العيادة حقَّاً ... ونظرنا في مُقْلَتَيْ عبَّادَهْ )
فقال له أبو عمير مالي ولك يا أخي أنظر في مقلتي عبادة متى شئت غير ممنوع ودعني أنا في عافية لا تتمن لي المرض لتمودني
وقال أحمد بن القاسم
كان عبد الله بن إسماعيل بن علي بن ريطة يألف ابن البواب ويعاشره فشرب عنده يوما حتى سكر ونام فلما أفاق في السحر أراد الإنصراف فحلف عليه واحتبسه وكان عبد الله يهوى جارية له من جواري عمرو بن بانة فبعث إلى عمرو بن بانة فدعاه وسأله إحضار الجارية فأحضرها وانتبه عبد الله بن إسماعيل من نومه وهو يتململ خمارا
فلما رآها نشط وجلس فشرب وتمموا يومهم فقال عبد الله بن محمد بن البواب في ذلك
( وكريمِ المجدِ محضٍ أبوه ... فهو الصفو اللَّبابُ النُّضارُ )

( هاشميُّ لقُروم إذا ما ... أظلمتْ أوجهُ قومٍ أناروا )
( رمت القهوةُ بالنوم وهْناً ... عينَه فالجَفنُ فيه انكسارُ )
( فهو من طَرفٍ يُفدِّيك طَوْراً ... ويُعاطيكَ اللواتي أَداروا )
( ساعةً ثم انثنى حين دبًّتْ ... ومشتْ فيه السُّلاف العُقَارُ )
( وأبتْ عَيني اغتماضاً فلمَّا ... حان من أُخرى النجومِ انحدَارُ )
( قلت عبدَ الله حاذرتَ أمراً ... ليس يُغني خائفيه الحِذَارُ )
( فاستوى كالهُنْدَِاونيِّ لمَّا ... أن رأى أنْ ليس يُغني الفِرارُ )
( قلت خذْها مثلَ مصباحِ ليل ... طُيِّرتْ في حافَتيه الشِّرارُ )
( أقبلتْ قَطْرا نِطافا ولما ... يُتعب العاصرَ منها اعتصارُ )
( هي كالياقوت حمراءُ شِيبتْ ... وعَلا الحُمرةَ منها اصفرارُ )
( كالدنانيرِ جرى في ذُراها ... فِضةٌ فالحسنُ منها قُصار )
( تُنطِقُ الخُرس وبالصمتِ تَرمي ... مَعشراً نُطْقاً إذا ما أَحاروا )
قال أحمد وحدثني يعقوب بن العباس الهاشمي أبو إسماعيل النقيب قال
لما طال سخط المأمون على ابن البواب قال قصيدة يمدحه بها ودس من غناه في بعضها لما وجد منه نشاطا
فسأل من قائلها فأخبر به فرضي عنه ورده إلى رسمه من الخدمة وأنشدني أبو إسماعيل القصيدة وهي قوله

قصيدته في مدح المأمون
( هل للمحبِّ مُعينُ ... إذ شطَّ عنه القرينُ )

( فليس يَبكي لشَجو ... الحزينِ إلا الحزينُ )
( يا ظاعناً غاب عنَّا ... غَداةَ بانَ القطينُ )
( أبكى العيونَ وكانتْ ... به تَقَرُّ العيونُ )
( يا أيها المأمون ... المبارَك الميمونُ )
( لقد صفتْ بك دُنيا ... للمسلمين ودينُ )
( عليكَ نُور جلالٍ ... ونُور مُلك مبينُ )
( القول منكَ فِعَالٌ ... والظنُّ منك يقينُ )
( مامِن يديك شِمال ... كلتَا يديك يَمينُ )
( كأنما أنتَ في الجُود ... والتُّقى هارونُ )
( مَنْ نالَ من كل فضلٍ ... ما ناله المأمونُ )
( تألَّف الناسَ منه ... فضلٌ وجودٌ ولينُ )
( كالبدر يبدو عليه ... سكينَةٌ وسكُونُ )
( فالرزقُ من راحتيه ... مقسَّمٌ مَضْمونُ )
( وكل خَصلةِ فضل ... كانتْ فَمنه تكونُ )
والأبيات التي فيها الغناء المذكور آنفا أربعة أبيات أنشدنيها الأخفش وهي قوله
( أَفِقْ أيها القلب المعذَّبُ كم تَصبو ... فلا النأيُ عن سلماك يُسلِي ولا القرْبُ )
( أقولُ غداة استخبَرت مِمَّ علتي ... من الحبِّ كربُ ليس يشبهُه كَربُ )
( إِذا أبصرتك العين من بعد غايةٍ ... فأدخلتُ شكا فيك أثبتَك القلبُ )
( ولو أن رَكباً يمموك لقادَهم ... نَسيمُك حتى يَستدلَّ بكَ الركبُ )
فقال الأخفش مثل هذا البيت الأخير قول الشاعر

( واستَودَعَتْ نشرَها الديارُ فما ... تَزدادُ طيباً إلا على القِدَم )
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال
رأيت محمد بن عبد الله البواب وقد جاء إلى أبي مسلما فاحتبسه ورأيته وهو شيخ كبير وكان ضخما طويلا عظيم الساقين كأنهما دنان وكان يشد في ساقيه خرزا أسود لئلا تصيبهما العين

مدح أبا دلف بعد أن أملق فوهبه مالا
وقال محمد بن القاسم أملق عبد الله بن محمد البواب حين جفاه الخليفة وعلت سنه عن الخدمة فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى ومدحه بقصيدة مهوب له ثلاثين ألف درهم وعاد بها إلى بغداد فما نفدت حتى مات وهي قوله
( طرقتْك صائدةُ القلوبِ رَبابُ ... ونأَتْ فليس لها إليك مآبُ )
( وتصرَّمتْ منها العهودُ وغُلِّقتْ ... من دون نيلِ طِلابِها الأبوابُ )
( فَلأَصِدفنَّ عن الهوى وطِلابِه ... فالحبُّ فيه بَلِيَّةٌ وعذَابُ )
( وأخصُّ بالمدح المهذَّب سيِّداً ... نفحاتُه للمُجْتدين رغابُ )
( وإلى أبي دلف رحلْتُ مطِّيتي ... قد شفَّها الإِرقالُ والإِتعابُ )

( تعلو بنا قُلَلَ الجبال ودونَها ... مما هوتْ أهويَّة وشِعابُ )
( فإِذا حللتَ لدي الأمير بأرضه ... نلتَ المُنى وتقضَّت الآراب )
( مَلِكُ تأثَّل عن أبيه وجدِّه ... مَجْداً يُقصِّر دونه الطُّلابُ )
( وإذا وزِنتَ قديم ذي حسبٍ به ... خضعتْ لفضلِ قديمه الأحسابُ )
( قومٌ علَوْا أملاَك كلِّ قبيلة ... فالناس كلّهُم لهم أذْنابُ )
( ضرَبَتْ عليه المكرماتُ قِبابَها ... فعلا العمودُ وطالَتِ الأَطنابُ )
( عَقِم النساءُ بمثله وتعطَّلتْ ... من أنْ تُضَمَّن مثلَه الأصلابُ )

صوت
( صغيرُ هواكَ عذَّبني ... فكيف به إذا احْتُنِكَا )
( وأنت جمعت من قلبي ... هَوًى قد كان مشترَكا )
( وحبسُ هواك يقتُلُني ... وقتلي لا يَحلُّ لكا )
( أما تَرْثي لمكْتَئِبٍ ... إذا ضحك الخليُّ بَكى )
الشعر لمحمد بن عبد الملك الزيات والغناء لأبي حشيشة رمل بالوسطى عن الهشامي

أخبار محمد بن عبد الملك الزيات ونسبه
هو محمد بن عبد الملك الزيات بن أبان بن أبي حمزة الزيات وأصله من جَبُّل ويكنى أبا جعفر
وكان أبوه تاجرا من تجار الكرخ المياسير فكان يحثه على التجارة وملازمتها فيأبى إلا الكتابة وطلبها وقصد المعالي حتى بلغ منها أن وزر ثلاث دفعات وهو أول من تولى ذلك وتم له
أخبرني الأخفش علي بن سليمان قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال
كان جدي موسراً من تجار الكرخ وكان يريد من أبي أن يتعلق بالتجارة ويتشاغل بها فيمتنع من ذلك ويلزم الأدب وطلبه ويخالط الكتاب ويلازم الدواوين فقال له ذات يوم والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك وليضرنك لأنك تَدَعُ عاجل المنفعة وما أنت فيه مكفيّ ولك ولأبيك فيه مال وجاه وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه
فقال والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه أأنا أم أنت ثم شخص إلى الحسن بن سهل بفم الصلح فامتدحه بقصيدته التي أولها

( كأنها حينَ تناءَى خطوها ... أخْنَسُ مَوْشيُّ الشَّوَى يرعى القُبَلْ )
فأعطاه عشرة آلاف درهم فعاد بها إلى أبيه فقال له أبوه لا ألومك بعدها على ما أنت فيه
أخبرني جحظة والصولي قالا حدثنا ميمون بن هارون قال لما مدح محمد بن عبد الملك الحسن بن سهل ووصله بعشرة آلاف درهم مثل بين يديه وقال له
( لم أمتدحْك رجاء المالِ أطلُبه ... لكنْ لتُلبِسَني التَّحجيلَ والغُررَا )
( وليس ذلك إلا أَنَّني رجلٌ ... لا أَطلب الوِرْدَ حتى أعرِفَ الصَّدَرَا )
وكان محمد بن عبد الملك شاعرا مجيدا لا يقاس به أحد من الكتاب وإن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك فإن إبراهيم مقل وصاحب قصار ومقطعات وكان محمد شاعرا يطيل فيجيد ويأتي بالقصار فيجيد وكان بليغا حسن اللفظ إذا تكلم وإذا كتب

خبر عن عدله وإنصافه الناس
فحدثني عمي رحمه الله قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال
جلس أبي يوما للمظالم فلما انقضى المجلس رأى رجلا جالسا فقال

له ألك حاجة قال نعم تدنيني إليك فإني مظلوم فأدناه فقال أني مظلوم وقد أعوزني الإنصاف قال ومن ظلمك قال أنت ولست أصل إليك فأذكر حاجتي قال ومن يحجبك عني وقد ترى مجلسي مبذولا قال يحجبني عنك هيبتي لك وطول لسانك وفصاحتك واطراد حجتك قال ففيم ظلمتك قال ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن فإذا وجب عليها خراج أديته بإسمي لئلا يثبت لك اسم بملكها فيبطل ملكي فوكيلك يأخذ غلتها وأنا أؤدي خراجها وهذا مما لم يسمع في الظلم مثله فقال محمد هذا قول تحتاج عليه إلى بينة وشهود وأشياء فقال له الرجل أيؤمنني الوزير من غضبه حتى أجيب قال قد أمنتك قال البينة هم الشهود وإذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شيء فما معنى قولك بينة وشهود وأشياء أيش هذه الأشياء إلا العي والحصر والتغطرس فضحك وقال صدقت والبلاء موكل بالمنطق وإني لأرى فيك مصطنعا ثم وقع له برد ضيعته وبأن يطلق له كُرٌّ حنطة وكر شعير ومائة دينار يستعين بها على عمارة ضيعته وصيره من أصحابه واصطنعه
أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن محمد الطالقاني قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك قال

هدد إبراهيم بن المهدي بقصيدة يخاطب فيها المأمون
لما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة اقترض من مياسير التجار

مالا فأخذ من جدي عبد الملك عشرة آلاف درهم وقال له أنا أردها إذا جاءني مال ولم يتم أمره فاستخفى ثم ظهر ورضي عنه المأمون فطالبه الناس بأموالهم فقال إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من فيئهم والأمر الآن إلى غيري فعمل أبي محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون ومضى بها إلى إبراهيم بن المهدي فأقرأه أياها وقال والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلن هذه القصيدة إلى المأمون فخاف أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله فيوقع به فقال له خذ مني بعض المال ونجم علي بعضه ففعل أبي ذلك بعد أن حلفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون فوفى له أبي بذلك ووفى إبراهيم بأداء المال كله
والقصيدة قوله
( أَلم ترَ أَن الشيءَ للشيء علَّةٌ ... تكونُ له كالنار تُقدَح بالزَّندِ )
( كذلك جرّبْتُ الأمورَ وإنما ... يدُلُّك ما قد كان قبلُ على البَعْد )
( وظنِّي بإبراهيم أَنّ مكانَه ) ... سيُبعث يوماً مثلَ أَيامه النُّكْدِ )
( رأيت حُسَيْناً حين صار محمد ... بغير أمان في يديه ولا عَقدِ )
( فلو كان أمضى السيفَ فيه بضربةٍ ... فصيَّره بالقاع مُنْعفِر الخَدِّ )
( إذا لم تكنْ للجند فيه بقيةٌ ... فقد كان ما خُّبِّرتُ من خبرِ الجُندِ )
( هُمُ قَتلوه بعد أن قَتلوا له ... ثلاثين أَلفاً من كهول ومن مُرْدِ )

( وما نصروه عن يَدٍ سلفَتْ له ... ولا قتلوه يوم ذلكَ عن حِقدِ )
( ولكنه الغدرُ الصُّراح وخِفة ُ ... الحُلوم وبعدُ الرأيِ عن سَنَنِ القَصدِ )
( فذلك يوم كان للناس عبرةً ... سيبقى بقاءَ الوَحْي في الحَجر الصَّلد )
( وما يوم إبراهيم إن طال عمرهُ ... بأبعد في المكروه من يومه عَنْدي )
( تذكَّر أميرَ المؤمنين مقامَه ... وأيمانه في الهزلِ منه وفي الجَدّ )
( أما والذي أمسيتَ عبداً خليفةً ... له شرُّ أيمان الخليفَة والعبدِ )
( إذا هزّ أعوادَ المنابر باستِه ... تغنّى بليلَى أو بميَّةَ أو هِنْدِ )
( فوالله ما من تَوبةٍ نزعتْ به ... إليك ولا مَيلٍ إليك ولا وُدِّ )
( ولكنَّ إخلاصَ الضمير مقرِّبٌ ... إلى الله زُلْفى لا تَخيبُ ولا تُكدِي )
( أتاكَ بها طوعاً إليكَ بأنفه ... على رغمه واستأثَر اللُه بالحَمْدِ )
( فلا تترُكن للناسِ موضعَ شًبهة ... فإنك مَجْزِيّ بحسْب الذي تُسدِي )
( فقد غَلِطوا للناس في نَصْب مثلِه ... ومن ليسَ للمنصور بابنٍ ولا المهدي )
( فكيف بمن قد بايع الناسَ والتقتْ ... ببيعته الركبانُ غَوْراً إلى نَجدِ )
( ومن سكَّ تسليمُ الخلافة سَمْعَهُ ... ينادَى به بين السَّماطينِ من بُعْدِ )
( وأي امرئٍ سمَّى بها قطُّ نفسَه ... ففارقها حتى يُغيَّبَ في اللَّحدِ )
( وتزعُم هذي النابتيّة أنَّه ... إمامٌ لها فيما تُسِرُّ وما تُبدِي )
( يقولون سُنِّيٌّ وأيّةُ سُنَّة ... تقومُ بجَوْن اللون صَعْل القفا جَعْدِ )

( وقد جعلوا رُخْصَ الطعام بعَهده ... زعيماً له باليُمنِ والكوكَب السَّعدِ )
( إذا ما رأوا يوماً غلاءً رأيتَهم ... يَحِنّون تَحناناً إلى ذلك العَهدِ )
( وإقباله في العيد يوجَف حولَه ... وجيف الجياد واصطفاق القنا الجُرْدِ )
( ورجّالةٍ يمشون بالبيضِ قبله ... وقد تَبعوه بالقضيبِ وبالبُردِ )
( فإن قلتَ قد رام الخلافةَ غيرُهُ ... فلم يؤتَ فيما كان حاول من جَدِّ )
( فَلمْ أجزه إذ خيَّبَ اللهُ سعيّه ... على خطإٍ إذ كان منه ولا عمَدِ )
( ولم أرضَ بعد العفو حتَّى رفعته ... ولَلْعَمُّ أولى بالتَّعَهُّد والرِّفْدِ )
( فليس سواءً خارجيٌّ رَمى به ... إليكَ سفاهُ الرأي والرأيُ قد يُرْدي )
( تعاوتْ له من كل أَوْبٍ عِصابةٌ ... متى يُورِدُوا لا يُصدروه عن الوِرْدِ )
( ومَن هو في بيتِ الخلافة تَلْتقى ... به وبك الآباء في ذِروة المجدِ )
( فمولاكَ مولاه وجندُك جندُه ... وهل يجمع القينُ الحُسّامين في غمْدِ )
( وقد رابني من أهل بيتك أَنَّني ... رأيتُ لهم وجداً به أيَّما وَجدِ )
( يقولون لا تبعد من ابن مُلِمَّةٍ ... صبورٍ عليها النفسَ ذِي مِرَّة جَلْدِ )
( فّدانا وهانتْ نفسُه دونَ مُلكنا ... عليه لذي الحال التي قلَّ من يفدي )
( على حين أعطى الناس صَفْقَ أكفِّهم ... عليُّ بنُ موسى بالولاية والعَهدِ )
( فما كان فينا من أَبَى الضَّيْم غيرُه ... كريمٌ كفى ما في القبول وفي الرَّدِّ )
( وجرَّد إبراهيمُ للموتِ نفسَه ... وأبدى سلاحاً فوق ذي مَيعةٍ نَهْدِ )

( وأبلى ومَن يبلغْ من الأمر جُهدَه ... فليس بمذمومٍ وإن كان لم يُجْدِ )
( فهذي أمورٌ قد يخافُ ذَوُو النُّهى ... مَغَبَّتَها واللهُ يهديكَ للرشْدِ )

رأيه في يحيى بن خاقان
أخبرني الصولي قال حدثني عبد الله بن الحسين القطربلي عن جعفر بن محمد بن خلف قال
قال لي المعلى بن أيوب كيف كان محل يحيى بن خاقان عند محمد بن عبد الملك ومقداره فقلت له سمعت محمدا يذكره فقال هو مهزول الألفاظ عليل المعاني سخيف العقل ضعيف العقدة واهي العزم مأفون الرأي
قال عبد الله
ولما تولى محمد بن عبد الملك الوزارة اشترط ألا يلبس القباء وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها سيفا بحمائل فأجيب إلى ذلك
أخبرني الصولي قال حدثني أبو ذكوان قال حدثني طماس قال ميمون بن هارون
كان محمد بن عبد الملك يقول الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة ما رحمت شيئا قط
فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول فلما وضع في الثقل والحديد قال ارحموني فقالوا له وهل رحمت شيئا قط

فترحم هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها
أخبرني الصولي قال حدثني أبو ذكوان قال حدثني طماس قال
جاء أبو دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم ليحضر فدخل ليلبس ثيابه ورأى ابن دنقش الحاجب غلمانا لهم روقة فقال وهو يظن أنه لا يسمع
( وعلى اللواط فلا تلومَنْ كاتِباً ... إن اللّواط سَجِيَّة الكُتّابِ )
فقال محمد له
( وكما اللواطُ سجيةُ الكُتَّابِ ... فكذا الحُلاقُ سَجِيَّة الحُجَّابِ )
فاستحيا ابن دنقش واعتذر إليه فقال له إنما يقع العذر لو لم يقع الإقتصاص فأما وقد كافأتك فلا
رثاؤه أمَّ أبنه عمر
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتا يرثي بها سكرانة أم ابنه عمر وجعل الحسن يتعجب من جودتها ويقول
( يقول ليَ الخِلاَّنُ لو زرتَ قبرها ... فقلتُ وهل غيرُ الفؤاد لها قبرُ )
( على حينَ لم أحدُثْ فأجهلَ قدرُها ... ولم أبلغ السنَّ التي معها الصبرُ )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الرحمن بن سعيد الأزرقي قال استبطأ عبد الله بن طاهر محمد بن عبد الملك في بعض

أموره واتهمه بعدوله عن شيء أراده إلى سواه فكتب إليه محمد بن عبد الملك يعتذر من ذلك وكتب في آخر كتابه يقول
( أتزعُم أنني أهوَى خليلاً ... سواكَ على التداني والبِعادِ )
( جحدتُ إذاً مُوالاتي عليَّا ... وقلت بأنني مولى زيادِ )
قرأت في بعض الكتب
كان عبد الله بن الحسن الأصبهاني يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل فكتب إلى خالد بن يزيد بن مزيد إن المعتصم جعل أمير المؤمنين ينفخ منك في غير فحم ويخاطب أمرأ غير ذي فهم فقال محمد بن عبد الملك هذا كلام ساقط سخيف جعل أمير المؤمنين ينفخ بالزق كأنه حداد وأبطل الكتاب ثم كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح والأرجح فالأرجح لا تسعى بنقصان ولا تميل برجحان فقال عبد الله الأصبهاني الحمد لله قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال
فضحك المعتصم وقال ما أسرع ما انتصف الأصبهاني من محمد
وحقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه
أخبرني الأخفش عن المبرد قال
نظر رجل كان يعادى يونس النحوي إليه وهو يهادى بين اثنين من الكبر فقال له يا أبا عبد الرحمن أبلغت ما أرى فعلم يونس أنه قال له

ذلك شامتا فقال هذا الذي كنت أرجو فلا بلغته فأخذه محمد بن عبد الملك الزيات فجعله في شعر فقال
( وعائبٍ عابني بِشيْبٍ ... لم يعْدُ لمَّا ألمَّ وقتَهْ )
( فقلتُ إِذ عابني بشيْبي ... يا عائبَ الشيبِ لا بلغْتَهْ )

سرق منديله فأنشد شعرا
وذكر أبو مروان الخزاعي أن أبا دهمان المغني سرق من محمد بن عبد الملك منديلا دبقيا فجعله تحت عمامته وبلغ محمدا فقال فيه
( ونديمٍ سارقٍ خاتلَني ... وهو عندي غيرُ مذموم الخُلُقْ )
( ضاعفَ الكَوْرَ على هامته ... وطوى منديلَنا طيَّ الخِرَقْ )
( يا أبا دُهمانَ لو جاملْتَنَا ... لكفيناكَ مَؤُوناتِ السَّرَقْ )
أخبرنا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني قال
كنت عند أبي الحسين بن أبي البغل لما انصرف عن بغداد بعد إشخاصه إليها للوزارة وبطلان ما نذره من ذلك ورجوعه فجعل يحدثنا بخبره ثم قال لله در محمد بن عبد الملك الزيات حيث يقول
( ما أعجبَ الشيءَ ترجوه فتُحْرَمُه ... قد كنتُ أحسبُ أني قد ملأتُ يدي )
( مالي إذا غبتُ لم أُذكَرْ بصالحةٍ ... وإن مَرِضتُ فطال السُّقمُ لم أُعَدِ )
تبادل المدح مع عبد الله بن العباس
أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني

عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
وصفني محمد بن عبد الملك للمعتصم وقال ما له نظير في ملاحة الشعر والغناء والعلم بأمور الملوك فلقيته فشكرته وقلت جعلت فداءك أتصف شعري وأنت أشعر الناس ألست القائل
( ألم تعجب لمكتئِبٍ حزينٍ ... خَدين صَبابة وحليفِ صَبرِ )
( يقولُ إذا سألتَ به بخَيْرٍ ... وكيف يكون مهجورٌ بخَيْرِ )
قال وأين هذا من قولك
( بقولُ لي كيفَ أصبحتَ ... كيفَ يُصبح مِثلي )
ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسَّعدان
أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال لقي الكنجي محمد بن عبد الملك فسلم عليه فلم يجبه فقال الكنجي
( هذا وأنت ابنُ زياتٍ تُصغِّرنا ... فكيف لو كنتَ يا هذا ابن عطَّار )
فبلغ ذلك محمدا فقال كيف ينتصف من ساقط أحمق وضعه رفعه وعقابه ثوابه
أخبرني الصولي قال أخبرني عبد الله بن محمد الأزدي قال حدثني يعقوب بن التمار قال
قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه ما أخرك عنا قال موت أخي قال بأي علة قال عضت أصبعه فأرة فضربته الحمرة فقال

محمد ما يرد القيامة شهيد أخس سببا ولا أنذل قاتلا ولا أضيع ميتة ولا أظرف قتله من أخيك

أحمد بن أبي داود يحرض الشعراء على هجائه
أخبرني عمي عن ابي العيناء قال كان محمد بن عبد الملك يعادي أحمد بن أبي داود ويهجوه فكان أحمد يجمع الشعراء ويحرضهم على هجائه ويصلهم ثم قال فيه أحمد بيتين كانا أجود ما هجي به وهما
( أحسن من خَمسين بيتاً سُدىً ... جمعُك إيَّاهُنَّ في بيت )
( ما أحوجَ الناسَ إلى مَطْرة ... تُذهبُ عنهم وَضَرَ الزيت )
وكان ابن أبي داود يقول ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر طبعا ركب فيهم قل قوله أو كثر
قصيدة أبي تمام في مدحه
أخبرنا الصولي قال حدثنا محمد بن موسى عن الحسن بن وهب قال
أنشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدته التي يقول فيها
( لهان علينا أن نقولَ وتفعلا ... )
فأثابه عليها ووقع عليه
( رأيتك سهل البيع سمحاً وإنما ... يُغالَى إذا ما ضنَّ بالشيء بائعُهْ )

( فأما الذي هانتْ بضائعُ بيعِه ... فيُوشك أن تَبقى عليه بضائعُهْ )
( هو الماءُ إن أحمَمْتَه طاب وِردُه ... ويُفسدُ منه أن تباحَ شرائعُهْ )
فأجابه أبو تمام وقال
( أبا جعفر إن كنْتُ أصبحتُ شاعراً ... أُسامِحُ في بيعي له من أبايعُهْ )
( فقد كنتَ قبلي شاعراً تاجراً به ... تُساهل من عادتْ عليك منافعُهْ )
( فصرتَ وزيراً والوزارة مَكْرَعٌ ... يغَصّ به بعدَ اللذاذة كارعُه )
( وكمْ من وزير قد رأينا مُسلَّطاً ... فعاد وقد سُدَّتْ عليه مطالعُه )
( ولله قوسٌ لاَ تطيش سهامُها ... ولله سيفٌ لا تُفَلُّ مقاطعُه )
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن يحيى بن عباد قال حدثني أبي قال حج محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون فلما قدم كتب إليه راشد الكاتب قوله
( لا تنسَ عهدي ولا مودَّتِيَهْ ... واشتَقْ إلى طَلعتي ورُؤيتيهْ )
( إن غبتَ عنا فلم تغب كثرة ... الذكر فلا تَغْفُلَن هديتَيهْ )
( التَّمر والنقل والمساويك والقسب ... وخير النعال حسن شِيَهْ )
( فإن تجاوزتَ ما أقول إلى العَصْبِ ... فذاك المأمولُ منك لِيَهْ )

رده على راشد الكاتب
فأجابه محمد بن عبد الملك

( إنك مِنّي بحيثُ يطَّردُ الناظرُ ... من تحت ماء دَمْعَتِيهْ )
( ولا ومَن زادني توَدُّدُه ... على صِحابي بفضل غَيْبَتيَهْ )
( ما أحسن التركَ والخلافَ لما ... تريدُ مني وما تقولُ لِيُهْ )
( يا بأبي أنتَ ما نسيتُك في ... يوم دُعائي ولا هَدِيَّتِيَهْ )
( ناجيتُ بالذكر والدُّعاء لك اللِّهُ ... لدى البيت رافعاً يَدِيَه )
( حتى إذا ما ظننتُ بالملكِ القادر ... أن قد أجاب دَعْوَتِيَه )
( قمتُ إلى موضع النعالِ وقدْ ... أقمت عشرينَ صاحباً مَعِيَهْ )
( وقلتُ لي صاحبٌ أريد له ... نَعْلا ولو مِن جلود راحَتِيَهْ )
( فانقطع القولُ عند واحدةٍ ... قال الذي اختار يا بِشَارَتِيَهْ )
( فقلتُ عندي لك البشارةُ والشُّكرُ ... وقَلاَّ في جَنب حاجَتِيَه )
( ثم تخيّرتُ بعد ذاك من الْعَصْب ... اليَماني بفضل خِبْرَتِيَهْ )
( موشيَّةً لم أزلْ بِبائعها ... أُرغِبُ حتى زها عليَّ بِيَهْ )
( يرفعُ في سومِه وأُرغِبُه ... حتى التقَى زهدُه ورَغْبَتِيَه )
( وقد أتاكَ الذي أمرتَ به ... فاعذِرْ بكثر الإِنعام قِلَّتِيَهْ )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال

رثى برذونه بعد أن أخذه المعتصم منه
كان لمحمد بن عبد الملك برذون أشهب لم ير مثله فراهة وحسنا فسعى به محمد بن خالد حيلويه إلى المعتصم ووصف له فراهته

فبعث المعتصم إليه فأخذه منه فقال محمد بن عبد الملك يرثيه
( كيف العَزاء وقد مضى لسبيلهِ ... عنا فودَّعنا الأصمُّ الأشهبُ )
( دبَّ الوشاةُ فأبعدوك ورُبَّما ... بَعُدَ الفتى وهو الأحبُّ الأقربْ )
( لله يومَ نأيتَ عنِّي ظاعناً ... وسُلبتُ قربَك أيَّ عِلْق أُسلَبُ )
( نفسٌ مفرَّقةٌ أقام فريقُها ... ومضى لِطِيَّته فريقٌ يُجنَبُ )
( فالآن إذ كُملت أداتُك كلُّها ... ودعا العيونَ إليك لونٌ معجبُ )
( واختيرَ من سرّ الحدائد خيرُها ... لك خالصاً ومن الحُلِيِّ الأغرَبُ )
( وغدَوتَ طَنّان اللجام كأنما ... في كل عُضو منك صَنْجٌ يُضرَبُ )
( وكأنّ سرجَك إذ علاك غمامةٌ ... وكأنما تحتَ الغمامةِ كَوكَبُ )
( ورأى عليَّ بك الصديقُ جلالةً ... وغدا العدوُّ وصدرهُ يتلهّبُ )
( أنساكَ لا زالت إذاً منسيَّةً ... نفسِي ولا زالت يَميني تُنكبُ )
( أضمرتُ منك اليأسَ حين رأيتُني ... وقُوَى حبالي من قُواك تقضَّبُ )
( ورجعتُ حين رجعتُ منكَ بحسرة ... لله ما فعل الأصمُّ الأشيبُ )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان رضوان الله عليه قال حدثني محمد بن ناصح رحمة الله عليه قال
لحقت غلات أهل البَتّ آفة في أيام محمد بن عبد الملك من جراد وعطش فتظلم إليه جماعة منهم فوجه ببعض أصحابه ناظرا في أمرهم وكان في بصره ضعف فكتب إليه محمد بن علي البتي

( أتيتَ أمراً يا أبا جعفرٍ ... لم يأته بَرٌّ ولا فاجرُ )
( أغثتَ أهل البتِّ إِذ أُهلِكوا ... بناظرٍ ليس له ناظرُ )
فبلغه فضحك ورد الناظر ووقع لهم بما سألوا بغير نظر

مساجلة بينه وبين علي بن جبلة
أخبرني الصولي رضي الله عنه قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد عن أبيه رضي الله عنهما قال
قال علي بن جبلة يهجو محمد بن عبد الملك الزيات وكان قد قصد أبا دلف القاسم بن عيسى في بعض أمره
( يا بائعَ الزيتِ عرِّج غيرَ مرموقِ ... لتُشغلَنَّ عن الأرطال والسوق )
( من رام شتمكَ لم ينزِع إلى كَذبٍ ... في منتماك وأبداه بتَحقيق )
( أبوك عبدٌ وللأمِّ التي فلقت ... عن أُمِّ رأْسك هَنٌّ غيرُ محلوقِ )
( إن أنتَ عدَّدت أصلاً لا تُسَبُّ به ... يوماً فأمُّك مِني ذَاتُ تَطليقِ )
( ولن تطيقَ بحولٍ أن تُزيل شَجاً ... أَثبتُّه منك في مستنزَلِ الرِّيقِ )
( الله أَنشاك من نَوْكٍ ومن كَذِب ... لا تعطفنَّ إِلى لؤمٍ لمخلوقِ )
( ماذا يقول امرؤ غشَّاك مِدحتَه ... إلا ابنُ زانية أو فرخُ زِنديقِ )
فأجابه محمد
( اشمخْ بأنفك ياذا السَّيَّء الأدبِ ... ما شئتَ واضرب قذال الأرض بالذنَبِ )

( وارفع بصوتك تدعو مَن بذي عَدَنٍ ... ومَن بِقالِي قَلا بالويل والْحَرَبِ )
( ما أنتَ إلا امرؤٌ أعطى بلاغَتَه ... فَضْلَ العِذار ولم يربعْ عَلَى أدب )
( فاجمَحْ لعلّك يوماً أن تعضَّ على ... لُجُمٍ دِلاصِيَّةٍ تَثنيكَ من كَثبِ )
( إِنِّي اعتذرت فما أحسنتَ تسمعُ مِن ... عُذري ومن قبلُ ما أحسنتَ في الطَّلَبِ )
( صَبْراً أَبا دُلَفٍ في كل قافية ... كالقِدْر وَقْفاً على الجارات بالعُقَبِ )
( يا ربّ إن كان ما أنشأتَ من عرَبٍ ... شَرْوى أَبي دُلَفٍ فاسخَطْ على العربِ )
( إنّ التعصُّبَ أبدى منك داهيَةً ... كانَتْ تُحَجَّبُ دونَ الوهم بالْحُجُبِ )
فأجابه علي بن جبلة
( نبَّهتَ عن سِنَةٍ عينيكَ فاصطبرِ ... واسحبْ بذيلك هل تَقْفُو عَلَى أثرِ )
( إن يَرحَضِ اللُه عني عارَ مُطَّلَبي ... إليك رِفداً ألا فانجِد به وغُرِ )
( إِني ودعواكَ أن تأتي بمكرُمةٍ ... كمُنبضِ القوْسِ عن سَهمٍ بلا وتَرِ )
( فاردد جفُونَك حَسْرَى عن أبي دُلَفٍ ... ولا ملامَةَ أَن تعْشَى عن القَمرِ )
( لا يسخطنَّ امرؤ إِن ذل من حَسبٍ ... فالله أنزلَه في محكَم السُّورِ )
( لم آتِ سَوْءاً ولم أسخَط عَلَى أَحدٍ ... إلاّ عَلَى طَلَبي في مُجْتدىً عَسرِ )
( أَقصِرْ أَبا جعفرٍ عن سَطْوَةٍ جمحَت ... إن لم تُقصِّر بها مالتْ إلى القِصَرِ )
فأجابه محمد بن عبد الملك

( يا أيُّها العائبي ولم يرَ لي ... عيباً أما تنتهي فتزدجِرُ )
( هل لكَ وترٌ لديَّ تطلبُه ... فأنت صَلدٌ ما فيك معتَصَرُ )
( فالحمدُ والمجدُ والثناءلنا ... وللحسودِ التُرابُ والحَجَرُ )
وهي طويلة يقول فيها
( تعيشُ فينا ولا تلائِمُنا ... كما تعيشُ الحَميرُ والبقَرُ )
( تُغلي علينا الأشعار منكَ وما ... عندكَ نَفْعٌ يُرجّى ولا ضَرَرُ )
أخبرني عمي رحمه الله قال حدثني عمر بن نصر الكاتب قال حدثني عمي علي بن الحسن بن عبد الأعلى قال محمد
اجتاز بديع غلام عمير المأموني بمحمد بن عبد الملك الزيات وكان أحسن خلق الله وجها وكان محمد يحبه ويجن به جنونا فقال
( راح علينا راكباً طِرفَهُ ... أَغْيَدُ مثلُ الرشأِ الآنسِ )
( قد لبِس القُرطُقَ واستمسَكت ... كفّاه من ذي بُرَقٍ يابِسِ )
( وقُلِّد السيفَ على غُنْجِه ... كأنهُ في وقعة الدّاحِسِ )
( أَقول لمَّا أَن بدا مُقْبِلاً ... يا ليتني فارسُ ذا الفارسِ )
أخبرني الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال
دامت الأمطار بسر من رأى فتأخر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات وهو يومئذ وزير والحسن يكتب له فاستبطأه محمد بن عبد الملك فكتب إليه الحسن يقول

( أَوجبَ العذرَ في تراخي اللقاء ... ما توالَى من هذه الأنواءِ )
( لست أدري ماذا أَقولُ وأَشكو ... من سماءٍ تعوقُني عن سماءٍ )
( غير أَني أَدعو على تلكَ بالثُّكْلِ ... وأَدعو لهذِه بالبقاء )
( فسلام الإِله أُهدِيه غضًّا ... لك منِي يا سيِّد الوُزَراءِ )

مساجلة بينه وبين الحسن بن وهب
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال
أعتل الحسن بن وهب فتأخر عن محمد بن عبد الملك أياما كثيرة فلم يأته رسوله ولا تعرف خبره فكتب إليه الحسن قوله
( أَيُّهذا الوزيرُ أّيَّدك اللهُ ... وأَبقاك ليَ بقاءً طويلا )
( أجميلاً تراه يا أكرمَ الناس ... لكيما أَراه أيضاً جميلا )
( إنني قد أقمتُ عَشراً عليلا ... ما ترى مرسِلاً إليَّ رسولا )
( إن يكن موجب التعمّد في الصِّحّة ... مَنّاً عليَّ منكَ طويلا )
( فهو أولى يا سيدَ الناس بِرّاً ... وافتقاداً لمَن يكون عليلا )
( فلماذا تركتَني عُرضة الظّنّ ... من الحاسدينَ جِيلاً فجِيلا )
( أَلِذَنْبٍ فما علمتُ سوى الشكر ... قريناً لنيَّتي ودَخِيلا )
( أم ملالٍ فما علمتك للصاحبِ ... مثلي على الزمانِ مَلولا )
( قد أتى اللهُ بالشفاء فما ... أعْرفُ مما أنكرتَ إلا قليلا )
( وأكلتُ الدُّرّاج وهو غِذَاءٌ ... أَفَلَتْ علَّتي عليهِ أُفولا )
( بعد ما كنتُ قد حملتُ من العلَّةِ ... عِبْئاً على الطِّباع ثَقِيلا )
( ولعلِّي قَدِمتُ قبلَك آتيكَ ... غَداً إن وجدتُ فيه سَبيلا )

فأجابه محمد بن عبد الملك
( دفع اللهُ عنكَ نائبةَ الدَّهر ... وحاشاكَ أن تكونَ عَليلا )
( أُشهِدُ اللهَ ما علمتُ وماذاكَ ... من العُذرِ جائزاً مقبولا )
( ولعَمري أن لَو علمتُ فلازمتُك ... حولاً لكان عِندِي قَليلا )
( إنني أَرتَجي وإن لم يكنْ ما ... كان مما نَقَمتُ إلا جليلا )
( أَن أَكونَ الذي إذا أَضمر الإِخلاصَ ... لم يلتمِسْ عليه كَفيلا )
( ثم لا يبذُلُ المودَّة حتى ... يجعلَ الجهدَ دُونها مَبذولا )
( فإذا قال كانَ ما قال إذْ كانَ ... بعيداً من طَبعه أن يَقولا )
( فاجعلَنْ لي إلى التعلُّق بالعُذْرِ ... سَبيلاً إن لم أَجدْ لي سَبيلا )
( فقديماً ما جادَ بالصفح والعفْوِ ... وما سامحَ الخَليلُ الخَليلاَ )
قال وكتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب وقد تأخر عنه
( قالوا جفاكَ فلا عهدٌ ولا خبَرٌ ... ماذا تراه دَهاه قلت أَيْلولُ )
( شهر تُجَذُّ حبالُ الوصل فيه فما ... عَقْدٌ من الوصل إلا وهْو محلول )
قال وكان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهم فأجابه الحسن فقال
( إِني بحولِ امرِيءٍ أَعليتَ رُتبتَه ... فحظُّه منكَ تعظيم وتبجيلُ )
( وأَنت عُدّته في نَيل هِمّته ... وأَنت في كلِّ ما يهواه مأمولُ )
( ما غالني عنك أَيلولٌ بلذَّتِه ... وطيبه ولنعمَ الشهرُ أَيلولُ )
( الليلُ لا قِصَرٌ فيه ولا طولٌ ... والجو صافٍ وظهر الكأس مَرحولُ )
( والعود مستنطِقٌ عن كلِّ معجِبةٍ ... يُضْحي بها كلُّ قلب وهو مَتْبولُ )

( لكن توقُّعُ وشْك البين عن بلدٍ ... تحلُّه فوِكاءُ العين محلولُ )
( مالي إذا شمَّرتْ بي عنك مبتَكِراً ... دُهمْ البِغال أَو الهوجُ المراسيلُ )
( إلا رعاياتُك اللاتي يعودُ بها ... حدُّ الحوادثِ عنِّي وهو مفلولُ )
قال وكان الحسن بن وهب يساير محمدا على مسناة فعدل عن المسناة لئلا يضيق لمحمد الطريق فظن محمد أنه أشفق على نفسه من المسناه فعدل عنها ولم يساعده على طريقه وظن بنفسه أن يصيبها ما يصيبه فقال له محمد
( قد رأيناكَ إذ تركتَ المُسنّاةَ ... وحاذَيْتَنِي يَسارَ الطريقِ )
( ولعمري ما ذاكَ منكَ وقد جدَّ ... بك الجِدُّ من فِعال الشَّفيقِ )
فقال له الحسن
( إن يكنْ خوفي الحُتُوفَ أَراني ... أَن تراني مشبَّهاً بالعَقُوقِ )
( فلقد جارتِ الظنونُ على المُشفقِ ... والظَّنُّ مولعٌ بالشفيقِ )
( غرَّر السيدُ الأجلُّ وقد سار ... على الحَرْفِ من يَمين الطريقِ )
( فأَخذتُ الشِّمال بُقيا عَلَى السيد ... إذ هالني سُلوكُ المَضيقِ )
( إنّ عندي مودَّةً لك حازتْ ... ما حوى عاشقٌ من المَعشوقِ )
( طودُ عزّ خصصتُ منه ببِرٍّ ... صار قَدْرِي به مع العَيُّوقِ )
( وبنفسي وإِخوتي وأَبي البرّ ... وعَمّي وأُسرتي وصَديقي )

( من إِذا ما رُوِّعْتُ أَمَّن رَوْعي ... وإِذا ما شَرِقْتُ سوَّغَ رِيقي )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش والصولي قالا حدثنا المبرد قال
استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذا ببلد الروم وهو مع المعتصم فسقاه وكتب إليه
( لم تلقَ مِثلي صاحباً ... أندى يداً وأعمَّ جودَا )
( يسقى النديمَ بقَفرةٍ ... لم يَسقِِ فيها الماءُ عُودَا )
( صفراء صافيةً كأنّ ... بكأسها دُرًّا نَضيدَا )
( وأجودُ حين أجودُ لا ... حَصِراً بذاكَ ولا بليدَا )
( وإذا استقلّ بشكرها ... أوجبتُ بالشُّكْر المزيدَا )
( خُذها إليكَ كأّنَّما ... كُسِيتْ زُجاجَتُها عُقودَا )
( واجعل عليكَ بأَن تقومَ ... بشكرها أبداً عهودًا )

شعر للحسن بن وهب في يوم لهوا به
أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن محمد الأنصاري قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال
دعا محمد بن عبد الملك قبل وزارته الحسن بن وهب في آخر أيام المأمون فجاءه ودخلا حماما له وأقاما على لهوهما ثم طلب الحسن بن وهب لعمل احتيج فيه إليه فمضى وبطل يومهم فكتب الحسن إليه
( سقياً لنَضِرِ الوجهِ بَسَّامِهِ ... مُهذِّبِ الأخلاق قَمقامِهِ )
( تكسبه شُكراً على أنها ... مُطبقةُ السِّنّ للوّامِهِ )

( زُرْناه في يوم علا قدرُه ... من سائِر الأيام في عامِهِ )
( أسعده الله وأحظى به ... وجاده الغَيثُ بإِرهامِهِ )
( فكان مسروراً بنا باذلاً ... لرحْلهِ الرحبِ وحمَّامِهِ )
( نَخدمه وهو لنا خَادم ... بفضلهِ من دونِ خُدَّامِه )
( ثم سقانا قَهوةً لم يدَعْ ... أطيبَ منها بقُرى شامهِ )
( صهباء دَلَّتْ على دَنِّها ... وحدَّثَتْ عن ضعف إِسلامِه )
فأجابه محمد بن عبد الملك رحمه الله تعالى
( وزائرٍ لذَّ لنا يومُهُ ... لو ساعد الدهرُ بإِتمامِه )
( ماذا لقينا من دواوينه ... وخطّه فيها بأَقلامِه )
( أسرّ ما كنّا فمن مازحٍ ... أو شارب قد عَبَّ في جامهِ )
( فارقنا فالنَّفس مطروفة ... بواكف الدَّمع وسجَّامهِ )
( وعاد بالمدح لنا منعِماً ... به إلى سالف إِنعامهِ )
( ليت وأنَّى لي بها مُنْيةً ... لو كنت فيه بعضَ قُوَّامِهِ )
( يَشْكر ما نال على أنه ... لا يُشكرُ الحرُّ لحمَّامِهِ )
( أمسحه فيه وأدنو له ... من خلفه طوراً وقدَّمِهِ )
( جعلت نفس جُنَّة للصِّبا ... وبِعت إِسلامي بإِسلامِهِ )
( فصار ما يشرب حلاَّ له ... وصرت مأخوذاً )

قوله لما قيد بالحديد
أخبرني الحسن بن القاسم الكاتب قال سمعت القاسم بن

يحدث عن أبيه قال قال أحمد الأحول لما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات تلطفت في الوصول إليه فأريته في حديد ثقيل فقلت له أعزز علي ما أرى فقال
( سَلْ ديارَ الحي ما غيَّرَهَا ... ومحاها ومحا منظرها )
( وهي اللاتي إذا ما انقلبت ... صَيَّرت مَعروفَها مُنكرَها )
( إِنما الدنيا كظِلٍّ زائلٍ ... نحمد الله كذا قدَّرها )
في هذه الأبيات رمل طنبوري لا أدري لمن هو ومما يغنى فيه من شعر محمد بن عبد الملك الزيات

صوت
( ظالمي ما علمتُهْ ... مُعتدٍ لا عدمتُهْ )
( مُطْمِعي بالوصال ... ممتنعٌ حين رُمتُهْ )
( مُرْصِدٌ بالخلاف ... والمَنْعِ من حيثُ سمتُه )
( هاجرٌ إن وصلتُهُ ... صابر إن صَرَمتُهْ )
( كم وكم قد طويتُ ما ... بي وكم قد كَتمتُهْ )
( رُبَّ همٍّ طويت فيك ... وغيظٍ كظمتهْ )
( وحياةٍ سئمتها ... والهوا ما سئمتهْ )
( رُمتُ شيْئاً هَوِيتُه ... ليس لي ما حُرِمتهْ )
( قال إذ صرَّح البكاءُ ... بما قد سترتُه )
( لو بكى طول دهرِه ... بدمٍ ما رَحِمْته ) الغناء لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر

صوت
( إذا أحببتُ لم أسْلُ ... وإِن واصلتُ لم أقطَعْ )
( وإِن عاتبني الناسُ ... تصاممْتُ فلم أسْمَعْ )
( وقد جربّت ما ضرّ ... وقد جربّت ما ينفعْ )
( فما مثل الهوى أنهَكُ ... للجسم ولا أضرَعْ )
( ولا كالهجر في القربِ ... إلى الموت ولا أسْرعْ )
( وإن أوجعني العَذْل ... فنِيرانُ الهوى أوجعْ )
( وهذا عَدَمُ العقلِ ... فما أسْطِيع أن أصنَعْ )
( ولا والله ما عندي ... لما قد حلَّ بي مَدْفعْ )
( ولا فيّ لهجرانك ... لولا ظلمكمْ موضعْ )
الغناء لعريب لحنان خفيف ثقيل بالبنصر وهزج بالوسطى

امتداحه الحسن بن سهل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني الحسن بن رجاء قال
قدم محمد بن عبد الملك على الحسن بن سهل إلى فم الصلح وامتدحه بقصيدته التي أولها
( كأنها حين تناءَى خَطْوُهُ ... أخْنس مَوْشِيُّ الشَّوى يرعى القُلَلْ )

وقال فيها
( إلى الأمير الحسن استنجدْتها ... أيّ مرادٍ ومَنَاخٍ ومَحلّ )
( سيف أمير المؤمنين المنتضَى ... وحصن ذي الرياستين المُقْتَبِلْ )
( آباؤُك الغرّ الألى جدُّهمُ ... كِسرى أنو شروان والناس هَمَلْ )
( من كلِّ ذي تاجٍ إذا قال مضى ... كلُّ الذي قال وإن همّ فَعل )
( فأيْنَ لا أيْنَ وأنَّى مِثلُكمْ ... أنتم الأملاك والناس خَوَلْ )
فأمر له بعشرة آلاف درهم
قال ومرض الواثق فدخل إليه الحسن بن سهل عائدا ومحمد بن عبد الملك يومئذ وزيره والحسن بن سهل متعطل فجعل الحسن بن سهل يتكلم في العلة وعلاجها وما يصلح للواثق من الدواء والعلاج والغذاء أحسن كلام قال فحسده محمد بن عبد الملك وقال له من أين لك هذا العلم يا أبا محمد قال إني كنت أستصحب من أهل كل صنعة رؤساء أهلها وأتعلم منهم ثم لا أرضى إلا ببلوغ الغاية فقال له محمد وكان حسودا ومتى كان ذلك قال في زمان قلت فيَّ
( فأين لا أين وأنَّى مثلكم ... أنتم الأملاك والناس خوَل )
فخجل محمد بن عبد الملك وأطرق وعدل عن الجواب
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق قال حدثني ميمون بن هارون بن خلف قال
كنت أسير بالقرب من محمد بن عبد الملك الزيات وهو يريد يومئذ منزله حتى مر بدار إبراهيم بن رباح فرأى فيها قبة مشيدة فقال
( أما القبابُ فقد أراها شُيِّدَتْ ... وعسى أُمورٌ بعد ذاك تكون )

( عبدٌ عرَتْ منه خلائقُ جهلهِ ... إذ راح وهو من الثَّراء سمينُ )
فما كان إلا أيام حتى أوقع به

ابن أبي دواد يتحامل عليه ويكيد له
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن علي بن عبد الأعلى عن أبيه قال
كان الواثق قد أصلح بين محمد بن عبد الملك الزيات وبين أحمد بن أبي دواد فكف محمد عن ذكره وجعل ابن أبي دواد يخلو بالواثق ويغريه به حتى قبض عليه وكان فيما بلغه عنه أنه قد عزم على الفتك به والتدبير عليه
فقبض الواثق عليه ثم أطلقه بعد مدة ثم وزر للمتوكل وكان محمد بن عبد الملك أشار بابن الواثق وأشار ابن أبي دواد بالمتوكل وقام وقعد في أمره حتى ولي وعممه بيده وألبسه البردة وقبل بين عينيه وكان المتوكل قبل ذلك يدخل على محمد بن عبد الملك في حياة الواثق يشكو إليه جفاءه له فيتجهمه محمد ويغلظ له الرد إلى أن قال يوما بحضرته ألا تعجبون إلى هذا العاصي يعادي أمير المؤمنين ثم يسألني أن أصلح له قلبه اذهب ويلك فأصلح نفسك له حتى يصلح لك قلبه
فكان موقع ذلك يحسن عند الواثق فدخل إليه يوما وقد كان قال للواثق إن جعفرا يدخل إلي وله شعر قفا وطرة مثل النساء فقد فضحك فأمره بأن يحلقهما ويضرب بشعرهما وجهه فلما دخل إليه المتوكل فعل ذلك به وتجهمه بالقبيح فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلا أن يستتر أسبابه فتفوته بغيته فيه فاستوزره وخلع عليه وجعل ابن أبي دواد يغريه به ويجد عنده لذلك موقعا واستماعا حتى قبض عليه وقتله فلم

يجد له من أملاكه كلها من عين وورق وأثاث وضيعة إلا ما كانت قيمته مائة ألف دينار فندم على ذلك ولم يجد منه عوضا وكان أمره مما يعتد على أحمد بن أبي دواد ويقول أطمعتني في باطل وحملتني على أمر لم أجد منه عوضا
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال زعم محمد بن عيسى الفساطيطي أن محمد بن عبد الملك اجتاز بدندن الكاتب وعليه خلع الوزارة للمتوكل لما وزر له فقال دندن
( راح الشقيّ بخلعة النُّكْرِ ... مثل الهدِيِّ لليلة النَّحْرِ )
( لاتمَّ شهر بعد خِلْعَته ... حتى تراه طافيَ الجَمْرِ )
( ويُرى يُطاين من إساءته ... يَهْوِي لَهُ بِقَواصم الظهْرِ )
فكان الامر كما قال

خبر قتله
قال علي بن الحسين بن عبد الأعلى
فلما قبض عليه المتوكل استعمل له تنور حديد وجعل فيه مسامير لا يقدر معها أن يتحرك إلا دخلت في جسده ثم أحماه له وجعله فيه فكان يصيح ارحموني فيقال له اسكت أنت كنت تقول ما رحمت أحدا قط والرحمة ضعف في الطبيعة وخور في المنة فاصبر على حكمك وخرج عليه عبادة فقال أردت أن تشويني فشووك

أخبرني طاهر بن عبد الله بن طاهر الهاشمي قال قال العباس بن طومار أمر المتوكل عبادة أن يدخل إلى محمد بن عبد الملك الزيات وقد أحمى تنور حديد وجعله فيه فيكايده فدخل إليه فوقف بإزائه ثم قال اسمع يا محمد كان في جيراننا حفار يحفر القبور فمرضت مخنثة من جيراني وكانت صاحبة لي فبادر فحفر لها قبرا من الطمع في الدراهم فبرأت هي ومرض هو بعد أيام فدخلت إليه صاحبتي وهو بالنزع فقالت وي يا فلان حفرت لي قبرا وأنا في عافية أو ما علمت أنه من حفر بئر سوء وقع فيها وحياتك يا محمد لقد دفناه في ذلك القبر والعقبى لك
قال فوالله ما برح من إزاء محمد بن عبد الملك يؤذيه ويكايده إلى أن مات
قال الصولي

رثاه الحسن بن وهب
وقال الحسن بن وهب يرثي محمد بن عبد الملك وكان في حياته ينتفي منها ويجحدها ثم شاعت بعد ذلك ووجدت بخطه
( يكاد القلب من جزعٍ يطيرُ ... إذا ما قيل قد قُتِل الوزيرُ )
( أميرَ المؤمنين هَدَمْتَ ركناً ... عليه رَحاكمُ كانت تدورُ )
( سيُبلى الملك من جزعٍ عليه ... ويخرب حين تَضْطرب الأمورُ )
( فمهلاً يا بني العباس مهلاً ... فقد كُوِيَتْ بفعلكُم الصدورُ )
( إلى كم تَنْكُبُون الناس ظلماً ... لكم في كل ملحمة عقيرٌ )
( جزيتم ناصراً لكُم المنايا ... وليس كذلِكُمْ يُجْزَى النَّصيرُ )

( فكنتم سائقاً أرسا إليكم ... وذلك من فعالكُم شهيرٌ )
( وكأَنَّ صلاحه لو شئتموه ... قريباً لا يحاوله البصيرُ )
( كأَنَّ الله صيَّركم ملوكاً ... لئلاَّ تعدلوا ولأنْ تجوروا )

أخبار أبي حشيشة
أبو حشيشة لقب غلب عليه وهو محمد بن أمية بن أبي أمية يكنى أبا جعفر وكان أهله جميعا متصلين بإبراهيم بن المهدي وكان هو من بينهم معنيا بالطنبور يغني أحسن غناء وخدم جماعة من الخلفاء أولهم المأمون ومن بعده إلى المعتمد
وله يقول أبو صالح بن يزداد وكتب بها في استتاره
( جُعِلْتُ فِداك يا بنَ أبي أُميّهْ ... أرى الأَيامَ قد حكمتْ عليّهْ )
( وملّنِيَ الصديقُ وخانَ عهدي ... فما أَقْرا لَكمْ كتُباً إليّهْ )
( فإِن كان الضميرُ كما بدالي ... فهذا والإِلهِ هو البَلِيّهْ )
وكان أكثر انقطاعه إلى أبي أحمد بن الرشيد أيام حياته وكان أبوه وجده وأخواله كتابا
وقرأت على أحمد بن جعفر جحظة ما ذكره عن أبي حشيشة في كتابه الذي ألفه في أخبار مراتب الطنبوريين والطنبوريات وكان من ذلك أنه قال

شاهدت أبا حشيشة مدة وكان يتغنى في أشعار خالد الكاتب وبني أمية وكانت معه فقر من الأحاديث يضعها مواضعها وكانت له صنعة تقدم فيها كل طنبوري لا أحاشي من قولي ذلك فمنها
( كأنَّ همومَ الناس في الأرض كُلِّها ... عليَّ وقلبي بينهم قلبُ واحدِ )
( ولي شاهدَا عدلٍ سُهادٌ وعَبرةٌ ... وكم مُدَّعٍ للحُبّ من غيرِ شاهدِ )
وهو خفيف رمل مطلق
قال جحظة ورأيته في القدمة التي قدمها مع ابن المدبر بين يدي المعتمد وقد غناه من شعر علي بن محمد بن نصر

صوت
( حُرمتُ بذلَ نوالك ... واسوأتا من فِعالك )
( لما مَلَلْتَ وصالي ... آيسْتِني من وِصالك )
فوهب له مائتي دينار
واللحن رمل مطلق
عريب تفضله على الشيخين
أخبرني حجظة فيما قرأته عليه قال حدثني ابن نوبخت يعني علي بن العباس قال
رأيته وقد حضرت عريب عند ابن المدبر وهو يغني فقالت له عريب أحسنت يا أبا جعفر ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا تعني علويه ومخارقا

حدثني أبو حشيشة قال هجم علي خادم أسود فقال لي البس ثيابك فعلمت أن هذا لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير فلم أراجعه حتى لبست ثيابي فمضيت معه فعبر بي الجسر وأدخلني إلى دار لا أعرفها ثم اجتاز بي في رواق فيه حجر تفوح منهن رائحة الطعام والشراب فأدخلت منهن إلى حجرة مفروشة وجاءني بمائدة كأنها جزعة يمانية قد نشرت في عراصها الحبرة فأكلت وسقاني رطلين وجاءني بصندوق ففتحه فإذا فيه طنابير فقال لي اختر فاخترت واحدا وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار فيها سماعة وفيها رجلان على أحدهما قباء غليظ وعلى الآخر ثياب ملحم وخز فقال لي صاحب الخز اجلس فجلست فقال أكلت وشربت فقلت نعم قال عندنا قلت نعم قال تغني ما نقول لك فقلت له قل فقال تغني بصنعتك
( يا كثيرَ الإِقبالِ والإنصرافِ ... ومَلولاً ولو أشأ قلت خَافِ )
وهو رمل مطلق فغنيته إياه وجعل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي فأغنيه ويستعيده ويشرب هو والرجل وأسقى بالأنصاف المختوتة إلى أن صلوا العشاء الآخرة وهم لا يشربون إلا على الصوت الأول لا يريدون غيره ثم أومأ إلي الخادم قم فقمت فقال لي صاحب القباء منهما أتعرفني قلت لا والله قال أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهري وهذا محمد بن راشد الخناق والله لئن بلغني أنك تقول إنك رأيتني لأضربنك مائتي سوط انصرف
فخرجت ودفع إلى الخادم ثلاثمائة دينار فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل البر فما فعل

حدثني جحظة قال حدثني أبو حشيشة قال
وجه إليَّ إسحاق بن إبراهيم الطاهري فصرت إليه وهو في داره التي على طرف الخندق فدعا بجونة فأكل وأكلت من ناحية ودعا بستارة وقال تغن بصنعتك
( عاد الهوَى بالكأسِ بردا ... فأَطِعْ إِمارة من تبدَّى )
وهو خفيف رمل مطلق
فغنيته مرارا ثم ضرب الستارة وقال قولوه فقالته جارية فأحسنت غاية الإحسان فضحك ثم قال كيف تراه فقلت قد والله بغضوه إلي فازداد في الضحك وأنا أرمق جبة خز خضراء كانت عليه فقال كم ترمق هذه الجبة يا غلام كانت عشرة أثواب خز فقطعت منها هذه الجبة فهات التسعة فجيء بها فدفعها إلي فكنت أبيع رذالها بستين دينار
حدثني جحظة قال
حدثني أبو حشيشة أن بني الجنيد الإسكافيين كانوا أول من اصطنعه وأنهم كانوا يسمونه الظريف وأن أول منزل ابتاعه من أموالهم إلى أن شاع خبره وتفاقم أمره
قال وكانوا آكل الناس رأيت رجلا منهم وقد أكل هو وابن عم له اثنين وعشرين رأسا كبارا وشربا فسكرا وناما ثم انتبها في وقت الظهر فدعوا بالطعام فعادا إلى الأكل ما أُنكر منهما شيئا

أمر له المأمون بخمسين ألف درهم
ونسخت من كتاب ألفه أبو حشيشة وجمع فيه أخباره مع من عاشره وخدم من الخلفاء وهو كتاب مشهور قال
أول من سمعني من الخلفاء المأمون وهو بدمشق وصفني له مخارق فأمر بأشخاصي إليه وأمر لي بخمسين ألف درهم أتجهز بها فلما وصلت إليه أدناني وأعجب بي وقال للمعتصم هذا ابن من خدمك وخدم آباءك وأجدادك يا أبا إسحاق جد هذا أمية كاتب جدك المهدي على كتابه السر وبيت المال والخاتم وحج المهدي أربع حجج كان جد هذا زميله فيها
واشتهى المأمون من غنائي
صوت
( كان يُنْهَى فَنَهَى حينَ انتهى ... وانجلتْ عنه غياباتُ الصِّبا )
( خلع اللهوَ وأضحى مُسْبِلا ... للنُّهى فَضلَ قميصٍ ورِدا )
( كيف يرجو البيضُ مَنْ أوَّلُه ... في عيون البيض شَيْبٌ وجلا )
( كان كحلاً لمآقيها فقدْ ... صار بالشيب لعينيها قَذَى )
الشعر لدعبل والغناء لمحمد بن حسين بن محرز رمل بالوسطى
قال أبو حشيشة وكان مخارق قد نهاني أن أغني ما فيه ذكر الشيب من هذا الشعر وأن اقتصر على البيتين الأولين لأن المأمون كان يشتد عليه ذكر الشيب ويكرهه جدا من المغنين وأمر ألا يغنيه أحد بشعر قيل في الشيب أو فيه ذكر له فسكرت يوما فمررت في الشعر كله فقال يا مخارق ألا تحسن أدب هذا الفتى فنقفني مخارق نقفة صلبة فما عدت بعدها لذكر

شيء فيه الشيب

الصوت الذي كان المعتصم يشتهيه
وذكر أبو حشيشة في كتابه هذا مما كان يشتهيه عليه المأمون وغيره من الخلفاء أصواتا كثيرة ولا فائدة في ذكرها ها هنا لأنها طويلة فذكرت مما كان يختاره عليه كل خليفة صوتا
قال أبو حشيشة كان المعتصم يشتهي علي
صوت
( أسرفت في سوء الصنيع ... وفتكتَ بي فتكَ الخليعِ )
( وولِعتَ بي مُتمرداً ... والعذر في طرف الوَلُوعِ )
( صيّرتُ حبَّك شافعاً ... فأُتِيتُ من قِبَل الشَّفيعِ )
الشعر لأصرم بن حميد والغناء لأبي حشيشة
قال وكان الواثق يختار من غنائي
( يا تاركي متلَدِّد العُوَّاد ... جَذلانَ العُداةِ )
( انظُر إليّ بعين راضٍ ... نظرةً قبل المماتِ )
( خلَّيتَني بين الوعيد ... وبين أَلسِنَةِ الوُشَاةِ )
( ماذا يُرَجِّى بالحياةِ ... مُنَغَّصٌ روحَ الحياةِ )
الشعر لمحمد بن سعيد الأسدي والغناء لأبي حشيشة خفيف رمل
قال وكان المتوكل يحبني ويستخفني وكانت أغانيه التي يشتهيها علي كثيرة منها

صوت
( أَطعت الهوى وخلعتَ العِذارا ... وباكرتَ بعد القَراح العُقارا )
( ونازعكَ الكأسَ من هاشم ... كريمٌ يحبُّ عليها الوقَارا )
( فتى فرّق الحمدُ أموالَه ... يَجُرّ القميصَ ويُرخِي الإِزارا )
( رأى اللهُ جعفرَ خيرَ الأنام ... فملَّكه ووقَاهُ الحِذَارا )
الشعر والغناء لأبي حشيشة
قال وكان الفتح بن خاقان يشتهي علي
صوت
( قالوا عشقتَ فقلتُ أحسنَ من مَشى ... والعشقُ ليس على الكريمِ بعارِ )
( يامن شكوتُ إليه طول صبابتي ... فَأَجابني بتجَهُّمِ الإِنكارِ )
قال وكان المستعين يشتهي علي
صوت
( وما أنسَ لا أنسَ منها الخشوعَ ... وفيضَ الدموع وغَمزَ اليدِ )
( وخَدّي مُضافاً إلى خَدِّها ... قياماً إلى الصُّبح لم نرقُدِ )
الشعر لمحمد بن أبي أمية والغناء لأبي حشيشة
قال وأخبرني محمد بن علي بن عصمة وكان إليه الزهد في الدنيا كلها قال حضرت المعتز وقد ورد عليه جواب كتابه إلى محمد بن عبد الله بن

طاهر وكان كتب إليه يطلبني منه فكتب إليه محمد إني عليل لا فضل في للخدمة قال أبو عصمة فقال لي المعتز يا أبا محمد صديقك أبو حشيشة يؤثر علينا آل طاهر فقلت له يا سيدي أنا أعلم الناس بخبره هو والله عليل ما فيه موضع لخدمة أمير المؤمين قال ثم ذكرني المعتمد
وحرضه علي ابن حمدون فكتب إلي أبي أيوب سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو يومئذ أمير بغداد في إشخاصي فشخصني إليه من ساعتي فأكرمني وأدنى في مجلسي وأمر لي بجائزة واشتهى علي
( قلبي يُحبُّكِ يا مُنى ... قلبي ويُبغضُ من يحِبُّكْ )
( لأكونَ فرداً في هواكِ ... فليتَ شِعري كيفَ قَلبُك )
الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب والصنعة لأبي حشيشة رمل

خبره مع إبراهيم بن المهدي
قال أبو حشيشة سمع إبراهيم بن المهدي أصواتا من غناء محمد بن الحارث بن بسخنر وعمرو بن بانة فاستحسنها وأخذها جواريه وقال الطنبور كله باطل فإن كان فيه شيء حق فهذا
واشتهى أن يسمعني
فهبته هيبة شديدة وقلت إن رضيني لم يزد ذلك في قدري وإن لم يرضني بقيت وصمة آخر الدهر وكان يطلبني من محمد بن الحارث بن بسخنر خاصة ومن إسحاق بن عمرو بن بزيع فكنت أفر منهما حتى صرت بسر من رأى وأنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد ونحن في مضارب لم نكن سكنا

المنازل بعد فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي فأبلغه السلام وقال يقول لك عمك قد أعيتني الحيل في هذا الخبيث وأنا أحب أن أسمعه وهو يهرب مني فأحب أن تبعث به إلي ويكون زيرب معه تؤنسه
فقال لي أبو أحمد لا بد أن تمضي إلى عمي فجهدت كل الجهد أن يعفيني فأبى فلما رأيت أنه لا بد لي منه لبست ثيابي ومضيت إليه وهو نازل في دسكرة فرحب بي وقرب وبسطني كل البسط ومعي زيرب ودعا بالنبيذ وأمر خدما له كبارا فجلسوا معي وشربوا وسقوني
وعرض لي بكل حيلة أن أغني فهبته هيبة شديدة وحصرت وشرب ودعا بثلاث جوار فخرجن وجلسن وقال لهن قلن

صوت
( كيفَ احتيالي وأنتَ لا تصلُ ... عَيل اصطباري وقلَّتِ الحيلُ )
( إِن كان جِسمي هواكَ يُنحِله ... فإِن قلبي عليك يتَّكِلْ )
الشعر لخالد الكاتب والغناء لأبي حشيشة رمل
وكان يسميه الرهباني عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يرددونه فغناه عليه
فقالته إحداهن فذهب عقلي وسمعت شيئا لم أسمع مثله قط فقال يا خليلي أهذا لك فقلت نعم أصلح الله الأمير وأخذتني رعدة ثم قال لهن إيه قلن
صوت
( رَبِّ مالي وللهوى ... ما لهذا الهوَى دَوَا )

( حاز طَرْفِي الذي هوى ... الحُسْنُ قَلبي وَما حوى )
الشعر لخالد والغناء لأبي حشيشة رمل
فغنته فسمعت ما هو أعجب من الأول فقال يا خليلي هذا لك قلت نعم يا سيدي قال هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث ثم شرب رطلا آخر فقلت يا نفس دعاكِ الرجل يسمعك أو يسمعك وقويت عزمي وتغنيته بشعر خالد الكاتب وهو هذا

صوت
( لئنْ لجَّ قلبُك في ذكره ... ولجَّ حبيبُكَ في هَجرِهْ )
( لقد أورث العينَ طولَ البُكا ... وعزّ الفؤادُ على صَبرِه )
( فإن أذهبَ القلبَ وجدٌ بهِ ... فجسمُكَ لا شكَّ في إثْرِه )
( وأيُّ مُحبٍّ تجافى الهَوَى ... بطُولِ التفكُّرِ لم يُبْرِه )
فجعل يردد البيت الأول والبيت الأخير وقال لي لا تخرجن يا خليلي من هذا إلى غيره فلم أزل أردده عليه حتى شرب ثلاثا واسترحت ساعة وشربت وطابت نفسي ثم استعادني فغنيته فأعجب به خلاف الأول فنظر إلي وضحك ولم يقل شيئا وشرب رطلا رابعا وجاءت المغرب فقال لي يا خليلي ما أشك في أنك قد أوحشت ابني منك فامض في حفظ الله تعالى
فخرجت أطير فرحا بانصرافي سالما فلما وافيت أبا أحمد وبصر بي من بعيد قال حنطة أو شعير فقلت بل سمسم وشهد انج على رغم أنف من رغم فقال ويحك أتراني لا أعرف فضلك ولكن أحببت أن أستعين برأيه

على رأيي فيك وقصصت عليه القصة فسره ذلك ولم يرض حتى دس إليه محمد بن راشد الخناق فسأله عني فقال ما ظننت أن يكون في صناعته مثله
قال أبو حشيشة وسمع إسحاق بن إبراهيم الموصلي غنائي فاستحسنه فسئل عني فقال غناء الطنبور كله ضعيف وما سمعت فيه قط أقوى ولا أصح من هذا

موته
حدثني جحظة قال كان سبب موت أبي حشيشة بسر من رأى أن قلما غلام الفضل بن كاووس صار إليه في يوم بارد فدعاه إلى الصبوح فقال له أنا لا آكل إلا طعاما حارا وليس عندك إلا فضيلة من مجلية قال تساعدني وتأكل معي فأكل منها فجمدت دم قلبه فمات فحمله إبراهيم بن المدبر إلى بناته وما كسبه بسر من رأى معه فاقتسمنه بينهن
صوت
( سَقياً لقاطولَ لا أرى بلَداً ... أوْطَنَهُ الموطِنون يُشْبهها )
( أمناً وخفضاً ولا كَبهْجَتِها ... أَرغدُ أَرضٍ عيشاً وأَرفهُها )
البيت الأول من البيتين لعنان جارية الناطفي والثاني يقال إنه لعمرو الوراق ويقال أنه لأبي نواس ويقال بل هو لها
والغناء لعريب خفيف رمل
وكان الشعر سقيا لبغداد فغيرته عريب وجعلت مكانه سقيا لقاطول

أخبار عنان
كانت عنان مولدة من مولدات اليمامة وبها نشأت وتأدبت واشتراها الناطفي ورباها وكانت صفراء جميلة الوجه شكلة مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة
وكان فحول الشعراء يساجلونها ويقارضونها فتنتصف منهم
مساجلة بينها وبين أبي نواس
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني صهر المبرد النحوي وعلي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا أبو هفان عن الجماز قال دخل أبو نواس يوما على عنان جارية الناطفي فتحدثا ساعة ثم قال لها قد قلت شعرا فقالت هات فقال
( إن لي أَيْراً خبيثاً ... لونُه يَحكي الكُميتا )
( لو رأى في الجوِّ صَدْعاً ... لنزَا حتّى يموتَا )
( أو رآه فوق سقفٍ ... لتحوَّل عنكَبُوتا )
( أو رآه جوفَ بحرٍ ... خِلتَه في البحرِ حُوتا )

قال فما لبثت أن قالت
( زوّجوا هذا بأَلْفٍ ... وأظُنَّ الألف قُوتا )
( إنني أَخشى عليهِ ... إِن تَمادى أَن يمُوتا )
( بادروا ما حلَّ بالمسكين ... خوفاً أن يَفُوتا )
( قبل أن يَنْتكس الداءُ ... فلا يَأتِي ويُوتى )
قال ودخل إليها يوما فقال
( ماذا ترينَ لِصَبٍّ ... يريدُ منكَ قُطَيرَهْ )
فأجابته
( إيايَ تَعنِي بهذا ... عليك فاجْلدْ عُمَيرَهْ )
فقال لها
( أُريدُ هذا وأَخشَى ... على يدي منكِ غَيْرَهْ )
قال فخجلت وقالت تعست وتعس من يغار عليك
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو أحمد بن معاوية قال سمعت أبا حنش يقول قال لي الناطفي لو جئت إلى عنان فطارحتها فعزمت على الغدو فبت ليلتين أحوك بيتين ثم غدوت عليها فقلت
( أَحَبَّ المِلاحَ البيضَ قلبي ورُبّما ... أَحَبَّ المِلاحَ الصُّفْر من وَلَد الحَبَشْ )
( بكيتُ على صفراء منهنّ مرّةً ... بكاءً أصاب العينَ مِنِّيَ بالعَمَشْ ) فقالت

( بكيتُ عليها أنَّ قلبي يحبُّها ... وأن فُؤادي كالجَناحينِ ذُو رَعَشْ )
( تَغَنَّيتَنا بالشِّعْرِ لما أَتِيْتَنا ... فدونَك خذْه محكماً يا أبا حنَشْ )
أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال سمعت مروان بن أبي حفصة يقول لقيني الناطفي فدعاني إلى عنان فانطلقت معه فدخل إليها قبلي فقال لها قد جئتك بأشعر الناس مروان بن أبي حفصة فوجدها عليلة فقالت له إني عن مروان لفي شغل فأهوى إليها بسوط فضربها به وقال لي ادخل فدخلت وهي تبكي فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت
( بكتْ عنانٌ فجرى دمْعُها ... كالدُّرِّ إذ يسبقُ من خَيطِهْ )
فقالت وهي تبكي
( فليت من يَضربُها ظالماً ... تَيْبَس يُمناهُ على سَوطِهْ )
فقلت أعتق مروان ما يملك إن كان في الجن والإنس أشعر منها
أخبرني الجوهري قال حدثنا أبو زيد عن أحمد بن معاوية قال
قال لي رجل تصفحت كتبا فوجدت فيها بيتا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه فلم أجد فقال لي صديق عليك بعنان جارية الناطفي فجئتها فأنشدتها

صوت
( وما زالَ يشكُو الحبّ حتى رأَيتُهُ ... تنفّسَ في أَحشائه وتكلَّما )
فما لبثت أن قالت
( ويَبكي فأبكي رحمةً لبُكائه ... إِذا ما بكى دمْعاً بكيتُ له دَما )
في هذين البيتين لحن من الرمل أظنه لجحظة أو لبعض طبقته
مولاها يطلب منها أن تعايي أحد الشعراء
قرأت في بعض الكتب
دخل بعض الشعراء على عنان جارية الناطفي فقال لها مولاها عاييه فقالت
( سَقياً لبغداد لا أرى بلداً ... يسكنه الساكنون يُشبهها )
فقال
( كأنها فِضَّةٌ مُمَوّهةٌ ... أخْلَصَ تمويهَها مُمَوِّهُهُا )
فقالت
( أمنٌ وخفض ولا كبَهجَتِها ... أرغدُ أرضٍ عيشاً وأرفَهُهَا )
فانقطع
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن أبي سعيد قال

حدثني مسعود بن عيسى قال أخبرني موسى بن عبد الله التميمي قال
دخل أبو نواس على الناطفي وعنان جالسة تبكي وخدها على رزة من مصراع الباب وقد كان الناطفي ضربها فأومأ إلى أبي نواس أن يحركها بشيء فقال أبو نواس
( عنان لو جُدْتِ لي فإنيَ من ... عمريَ في آمَنَ الرسول بما )
فردت عليه عنان
( فإن تمادى ولا تماديْتَ في ... قطعك حَبلي أكُنْ كمن خَتَما )
فرد عليها أبو نواس فقال
( علقتُ من لو أتى على أنفُسِ ... الماضِينَ والغابرينَ ما نَدِما )
فردت عليه
( لو نظرتْ عينُها إلى حَجَرٍ ... ولّد فيه فُتُورهما سَقَما )

اصرارها على إعادة خاتمها من أبي نواس
أخبرني أبن عمار قال
حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن أبي مروان الكاتب قال أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفي خاتما فصه أحمد فأخذه أحمد بن خالد حيلويه من أبي نواس فطلبته منه عنان فبعث إليها مكانه خاتماً فصة أخضر فاتهمته في ذلك فكتب أبو نواس إلى أحمد بن خالد فقال
( فدتْكَ نفسي يا أبا جعفرِ ... جاريةٌ كالقمر الأزهرِ )

( تعلقتْني وتعلَّقْتُها ... طِفلينِ في المهد إلى المكْبرِ )
( كنتُ وكانت نتهادَى الهوى ... بخاتمينا غيرَ مستنكرِ )
( حنَّت إلى الخاتم مني وقد ... سلَبتْني إياه مذ أشهُرِ )
( فأرسلتْ فيه فغالطْتُها ... بخاتَمٍ في قّدّه أخضرِ )
( قالت لقد كان لنا خاتَمٌ ... أحمرُ أهداه إِلينا سرِي )
( لكنه عُلَّق غَيري فقدْ ... أَهدى له الخاتمَ لا أَمتَرِي )
( كفرتُ بالله وآياتِه ... إن أنا لم أَهجرْه فليصبرِ )
( أَو فَأتِ بالمخرجِ من تُهمَتي ... إياه في خاتَمِنا الأحمر )
( فاردُدْه تَرْدد وصلَها إنَّها ... قُرّةُ عَيني يا أَبا جَعْفَرِ )
( فإنني متَّهَمٌ عندها ... وأَنت قد تعلَم أَني برِي )
قال فرد إليه الخاتم وبعث إليه معه بألفي درهم
أخبرني ابن عمار وعلي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد عن المازني عن الأصمعي وقال ابن عمار في خبره عن بعض أصحابه أظنه المازني عن الأصمعي قال ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط إلا مرة واحدة فإني دخلت إليه أنا وأبو حفص الشطرنجي فرأيت التخثر في وجهه فقال لنا استبقا إلى بيت بل إلى أبيات فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم قال فأشفقت ومنعتني هيبته قال فقال أبو حفص
( كلَّما دراتِ الزُجَاجةُ زادته ... اشتياقاً وحُرقةً فبكاكِ )
فقال أحسنت فلك عشرة آلاف درهم

قال فزالت الهيبة عني فقلت
( لم ينلْكِ الرجاءُ أن تحضُريني ... وتجافتْ أمنيَّتي عن سواكِ )
فقال لله درك لك عشرون ألف درهم قال فأطرق مليا ثم رفع رأسه إلي فقال أنا والله أشعر منكما ثم قال
( فتمنَّيتُ أن يَغشِّيَني اللهُ ... نُعاساً لعَلَّ عَيْني تَراكِ )

الأصمعي يصرف الرشيد عنها بعد أن طلبت زبيدة منه ذلك
أخبرني ابن عمار والأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد عن المازني قال
قال الأصمعي بعثت إلي أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان فإن صرفته عنها فلك حكمك
قال فكنت أريغ لأن أجد للقول فيها موضعا فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له إذ دخلت يوما فرأيت في وجهه أثر الغضب فانخزلت فقال مالك يا أصمعي قلت رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب فلعن الله من أغضبه فقال هذا الناطفي والله لولا أني لم أجر في حكم قط متعمدا لجعلت على كل جبل منه قطعة وما لي في جاريته أرب غير الشعر فذكرت رسالة أم جعفر فقلت له أجل والله ما فيها غير الشعر أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق فضحك حتى استلقى واتصل قولي بأم جعفر فأجزلت لي الجائزة
أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن هارون عن يعقوب بن إبراهيم

أن الرشيد طلب من الناطفي جاريته فأبى أن يبيعها بأقل من مائة ألف دينار فقال أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ بالدينار سبعة دراهم فامتنع عليه وأمر أن تحمل إليه فذكروا أنها دخلت مجلسه فجلست في هيئتها تنتظره فدخل عليها فقال لها ويلك إن هذا قد اعتاص علي في أمرك قالت وما يمنعك أن توفيه وترضيه فقال ليس يقنع بما أعطيه وأمرها بالإنصراف
فبلغني أن الناطفي تصدق بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه فلم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها فلما مات بعث مسرورا الخادم فأخرجها إلى باب الكرخ فأقامها على سرير وعليها رداء رشيدي قد جللها فنودي عليها من يزيد بعد أن شاور الفقهاء فيها وقال هذه كبد رطبة وعلى الرجل دين فأشاروا ببيعها قال فبلغني أنها كانت تقول وهي في المصطبة أهان الله من أهانني وأذل من أذلني فلكزها مسرور بيده وبلغ بها مسرور مائتي ألف درهم فجاء رجل فقال علي زيادة خمسة وعشرين ألف درهم فلكزه مسرور وقال أتزيد على أمير المؤمنين
ثم بلغ بها مائتين وخمسين ألفا وأخذها له قال ولم يكن فيها شيء يعاب وطلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين فأوقعوا بخنصر رجلها شيئا
وأولدها ابنين قال أظنهما ماتا صغيرين ثم خرج بها إلى خراسان فمات هناك وماتت عنان بعده
قال وأنشدنا لأبي نواس في قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد ويذكر عنان في تشبيبها
( عِنان يا من تُشبه العِينَا ... أنتِ على الحُبِّ تلومينا )
( حُسنك حُسْنٌ لا أَرى مثلَه ... قد ترك الناس مَجانينَا )

مطارحة شعرية بينها وبين العباس بن الأحنف
أخبرني عمي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن القاسم العجلي قال حدثني أبو القاسم النخعي قال
كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي فجاءني يوما فقال امض بنا إلى عنان جارية الناطفي فصرنا إليها فرأيتها كالمهاجرة له فجلسنا قليلا ثم ابتدأ العباس فقال
( قال عباس وقَد أُجْهِد ... من وجدٍ شديدِ )
( ليس لي صبرٌ على الهَجْر ... ولا لذْعِ الصُّدُودِ )
( لا ولا يصبر للهجْرِ ... فؤادٌ من حَديدِ )
فقالت عنان
( من تراهُ كان أغنَى ... منكَ عن هذا الصدودِ )
( بعد وصلٍ لكَ منّي ... فيه إرغامُ الحَسودِ )
( فاتّخذ للهَجْر إن شئتَ ... فؤاداً من حديدِ )
( ما رأيناكَ على ما ... كنت تَجني بجَليد )
فقال العباس
( لو تجودينَ لصَبًّ ... راح ذَا وجدٍ شديدِ )
( وأخي جهلٍ بما قدْ ... كان يَجْني بالصدودِ )
( ليس مَن أحدثَ هَجْراً ... لصديقٍ بسَديدِ )
( ليسَ منه الموتُ إن لمْ ... تَصليه بِبَعيدِ )

قال فقلت للعباس ويحك ما هذا الأمر قال أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها فلم أبرح حتى ترضيتها له
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن يحيى بن حمد بن أبي مية قال حدثني يحيى بن محمد
أن الرشيد كان يساوم بعنان جارية النطاف فبلغ ذلك أم جعفر فشق عليها فدست إلى أبي نواس أن يحتال في أمرها فقال يهجوها
( إِن عِنانَ للنَّطَّافِ جاريةٌ ... أصبح حِرْها للنَّيْك مَيدانا )
( ما يشتريها إلا ابنُ زانية ... أو قَلْطَبَانٌ يكون مَن كانا )
فبلغ ذلك الرشيد فكان يقول لعن الله أبا نواس وقبحه فلقد أفسد علي لذتي في عنان بما قال فيها ومنعني من شرائها

صوت
( مالي وللخمرِ وقد أَرعشَتْ ... مِنِّي يّميني هاتِ باليُسرى )
( حتى تَراني مائلاً مُسنَدا ... لا أستطيعُ الكأسَ بالأخرى )
الشعر للحسن بن وهب والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي خفيف ثقيل بالوسطى وفيه أيضا له خفيف رمل بالبنصر

أخبار الحسن بن وهب
هو الحسن بن وهب بن سعيد كاتب شاعر مترسل فصيح أديب وأخوه سليمان بن وهب فحل من الكتاب ويكنى أبا علي وهو عريق في الكتابة ولأولاده نجابة مشهورة تستغني عن وصف ذلك وكانوا يقولون إنهم من بني الحارث بن كعب وأصلهم نصارى وفي بني الحارث نصارى كثير
البحتري يجتاز بمنزله ويرثيه
وفي الحسن بن وهب يقول البحتري
( يا أخَا الحارثِ بنِ كعب بن عمرو ... أشُهوراً تَصومُ أم أياَّما )
وكان البحتري مداحا لهم وله في الحسن وقد اجتاز بمنزله بعد وفاته
( أناةً أيُّها الفَلكُ المُدارُ ... أنهبٌ ما تطرَّق أم جُبارُ )
( نزلنا منزلَ الحسنِ بن وهبٍ ... وقد دَرَستْ مغانِيه القِفار )
يقول فيها يصف صبوحا كانوا قد اصطبحوه

( أقمنا أكْلُنا أكلُ استلابٍ ... هُناكَ وشرْبنا شُربٌ يُدارُ )
( تنازعْنا المدامةَ وهي صِرْفٌ ... وأعجلْنا الطبائخَ وهْي نارُ )
( ولم يكُ ذاكَ سُخْفاً غيرَ أنِّي ... رأيت الشَّرْب سُخْفُهمُ الوَقارُ )
أخبرني الصولي وذكر ذلك عن جماعة من الكتاب أن الحسن بن وهب كان أشد تمسكا بالنسب إلى بني الحارث بن كعب من أخيه سليمان وكان سليمان ينكر ذلك ويعاتب عليه أخاه الحسن وابنه أحمد بن سليمان
وأصلهم من قرية من سواد واسط في جسر سابور يقال لها سارقيقا

كانوا يتسابقون لحفظ شعره
أخبرني عمي قال حدثني عمر بن نصر الكاتب وكان من مشايخ الكتاب بسر من رأى قال
كنا نتهادى ونحن في الديوان أشعار الحسن بن وهب ونتباهى بحفظها قال وأنشدني له وكتب بها إلى أخيه سليمان بن وهب من مدينة السلام وهو محبوس في أيام الواثق
( خطبٌ أبا أيوبَ جلَّ محلُّه ... فإذا جزعتَ من الخطوب فمن لَها )
( إن الذي عَقَد الذي انعقَدتْ به ... عُقَدُ المكاره فيكَ يُحْسِن حلَّها )
( فاصبرْ لعلَّ الصبرَ يفتِق ما ترى ... وعسى بها أن يَنْجَلي ولعلَّها )
قال وكتب إليه أيضا وهو في الحبس بسر من رأى

( خليلَيَّ من عبدِ المَدان تروحَّا ... ونُصَّا صدورَ العيس حَسْرى وطلَّحا )
( فإنَّ سليمان بن وهب ببلدةٍ ... أصابَ صميمَ القلب منّي فأقْرَحا )
( أُسائلُ عنه الحارسينَ لحَبْسه ... إذا ما أتوني كيف أَمسَى وأصبحا )
( فلا يُهنئ الأعداءَ أسْرُ ابن حُرّةٍ ... يَرَاه العِدا أندى يميناً وأَسمحا )
( وأنهضَ للأَمر الجليلِ بعَزْمَةٍ ... وأَقرعَ للباب الأصمِّ وأفتحا )
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال
وجه الحسن بن وهب إلى أبي تمام وهو بالموصل خلعا فيها خز وشيٌ فامتدحه بقصيدة أولها
( أبو عَليّ وسْمِيُّ منتجعهْ ... فاحْلُلْ بأعلى واديه أو جَرَعِهْ )
ثم وصف الخلعة فقال
( وقد أتاني الرسولُ بالملبس الفَخْم ... لصَيف امريءٍ ومُرتَبعْه )
( لو أنها جُلِّلتْ أُوَيْساً لقد ... أسرعتِ الكِبرياء في ورَعِهْ )
( رائقُ خَزٍّ أُجيدَ سابِرُه ... سَكْبٌ تدين الصِّبا لمدَّرعِهْ )
( وسرُّ وشْيٍ كأنَّ شِعريَ أحْياناً ... نسيبُ العيونِ من بِدَعِهْ )
( تركتْني ساهر الجفونِ على ... أزْلمِ دهرٍ بحُسنها جذَعِهْ )
يعني الدهر والدهرُ يقال له الأزلم الجذع والأزلم الطويل

الجذع الجديد يقول هو قديم سالف ويومه جديد قال لقيط الإيادي
( يا قوم بيضتُكم لا تفضحنّ بها ... إني أخاف عليها الأزلَم الجذَعا )

قوله بعد أن حبسه محمد بن عبد الملك
أخبري الصولي قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال
لما حبس محمد بن عبد الملك الزيات سليمان بن وهب وطالبه بالأموال وقت نكبته قال الحسن بن وهب
( خليليّ من عبد المدان تروَّحا ... ونُصّا صدورَ العِيسِ حَسْرى وطُلَّحا )
( فإِنَّ سليمان بن وهبٍ بمنزِلٍ ... أصاب صميم القلب منّي فافرحا )
( أُسائل عنه الحارسِين لحبسه ... اذا ما أتوني كيفَ أمسَى وأًصبَحا )
( فلا يُهنىء الأعداءَ حبسُ ابنِ حرّة ... يراه العِدا أندى يميناً وأسمحا )
( وقُولا لهمْ صَبراً قليلاً وأَصبِحوا ... فما أقرب الليلَ البهيمَ من الضُّحا )
قال وقيل له وسليمان محبوس كيف أصبحت قال أصبحت والله

قليل النشاط كال القريحة صدىء الذهن ميت الخاطر من سوء فعل الزمان وتوارد الأحزان وتغير الإخوان قال وآلى ألا يذوق طعاما طيبا ولا يشرب ماء باردا ما دام أخوه محبوسا فوفى بذلك
أخبرني الصولي قال أخبرني أبو الأسود قال كان للحسن بن وهب جار هاشمي يلقب بالطير فحج سنة من السنين ورجع آخر الناس فقال فيه الحسن
( أينقصُ أم يزيدُ من الرقاعهْ ... أخو حُمْقٍ له الدُّنيا مُشاعهْ )
( يحجّ على الجِمالِ ولو تجلَّى ... لمكة جاءها في بعْضِ ساعهْ )
أخبرني الصولي قال حدثنا الطالقاني قال حدثنا أحمد بن سليمان بن وهب
قال رآني عمي الحسن وأنا أبكي لفراق بعض أُلاّفي فقال
( ابكِ فما أَنْفَع ما في البكا ... لأنَّه للوجْد تَسهيلُ )
( وهو إذا أَنتَ تأمَّلتَه ... حزن على الخَدّينِ مَحْلولُ )

يتمثل ببيت لحسان بن ثابت
أخبرني الصولي قال حدثنا علي بن الصباح قال بلغ الحسن بن رجاء أن الحسن بن وهب عابه بحب الغلمان وكان الحسن بن وهب أشد حبا لهم منه فقال مثلي ومثله كما قال حسان بن ثابت

( وإني لأغني الناسَ عن فضل صاحبٍ ... يرى الناس ضُلاّلاً وليس بمهْتَدِ )
أخبرنا محمد قال حدثنا الحزنبل قال
كتب رجل إلى الحسن بن وهب يستميحه فوقع في رقعته
( الجودُ طَبعي ولكن ليس لي مالُ ... فكيف يحتالُ مَنْ بالرَّهْن يحتالُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال

كان شديد الشغف بجارية اسمها بنات
كنت أكتب في حداثتي بين يدي الحسن بن وهب وكان شديد الشغف ببنات جارية محمد بن حماد كاتب راشد فكنا يوما عنده وهي تغني وبين أيدينا كانون فحم فتأذت به فأمرت أن يباعد فقال الحسن
( بأبي كرهتِ النارَ حتى أُبعِدتْ ... فعلمتُ ما معناكِ في إبعادِها )
( هي ضرةٌ لك بالتماع ضِيائِها ... وبحسن صُورتها لدى إيقَادِها )
( وأرى صنيعَكِ في القلوبِ صَنيعَها ... في شَوكها وسَيَالِها وقَتادِها )
( شَرِكتْكِ في كلِّ الجهاتِ بحسْنِها ... وضِيائها وصلاحها وفَسادِها )
أخبرني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال
كنا عند الحسن بن وهب فقال لو ساعدنا الدهر لجاءتنا بنات فما تكلم بشيء حتى دخلت فقال إني وإياك لكما قال علي بن أمية
( وفاجأتني والقلب نحوَكِ شاخِص ... وذكرُكِ ما بين اللسانِ إلى القَلب )

( فيا فرحةً جاءت على إِثْر تَرْحةٍ ... ويا غفلتَا عنها وقد نزلَتْ قُربي )
قرأت في بعض الكتب دخلت يوما بنات على الحسن بن وهب وهو مخمور فسلمت عليه وقبلت يده فأراد تقبيل يدها فمنعته فرعش فقال
( أقولُ وقد حاولت تقبيلَ كَفِّها ... وبي رِعدةٌ أهتزُّ منها وأسكُنُ )
( فديتُك إني أشجعُ الناس كلِّهِم ... لدى الحربِ إلا أنَّني عنكِ أجبُنُ )

شرب على وجه بنات وكتب إلى مولاها
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال جاءت بنات تسأل الحسن بن وهب من علة نالته فحين رآها دعا برطل فشربه على وجهها وقال قد عوفيت فأقيمي اليوم عندي فأبت وقالت عند مولاي دعوة فأمر بإحضار مائتي دينار فأحضرت فقال هذه مائة لمولاك فابعثي بها إليه ومائة لك فقالت أما هو فأبعث بمائة إليه وأما أنا فوالله لا أخذت المائة الأخرى ولأتصدقن بمثلها لعافيتك ولكن أكتب إليه رقعة تقوم بعذري فأخذ الدواة وكتب إلى مولاها
( ضرَّةَ الشمس والقمرْ ... متِّعيني من النَّظر )
( مَتِّعيني بجلْسةٍ ... منك يا أحسن البَشَرْ )
( أشتريها إن بعتنيها ... بسمْعِي وبالبَصر )
( أذهبَ السقمَ سُقمُ طرفِكِ ... ذي الغُنْج والحَوَرْ )
( فأديمي السرورَ لا ... تَمْزِجي الصفوَ بالكَدَرْ )
( ليس يُبقي عليَّ حُبُّكِ ... هذَا ولا يذرْ )

( وأنا منه فأنعَمي ... بمُقامٍ على خَطْر )
( وتَغَنَّيْ فداك كلُّ ... مُغنٍّ لكي أُسَرّ )
( ربع سَلمى بذي بقر ... عرضة الريح والمَطرْ )

لومه على حبه بنات
حدثني أبو إسحاق بن الضحاك عن أحمد بن سليمان والحكايتان متفقتان متقاربتان أخبرني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني أحمد بن سليمان بن وهب قال قال لي أبي قد عزمت على معاتبة عمك في حبه لبنات فقد شهر بها وافتضج فكن معي وأعني عليه وكان هواي مع عمي فمضيت معه فقال لي أبي وقد أطال عتابه يا أخي جعلت فداك الهوى ألذ وأمتع والرأي أصوب وأنفع فقال عمي متمثلا
( إذا أمرتْك العاذلاتُ بهَجرِها ... أبتْ كبدٌ عما يقلنَ صَديعُ )
( وكيف أطيع العاذلاتِ وحبُّها ... يُؤرّقُني والعاذلاتُ هُجوعٌ )
فالتفت إلي أبي ينظر ما عندي فتمثلت
( وإني ليلحاني على فرط حُبِّها ... رجالٌ أطاعتْهم قلوب صَحائح )
فنهض أبي مغضبا وضمني عمي إليه وقبلني وانصرفت إلى بنات فحدثتها بما جرى وعمي يسمع فأخذت العود فغنت
( يلومُك في مودّتها أُناسٌ ... لوَ أنَّهُمُ برأيكَ لم يلوموا )
فيه ثقيل أول

قال أحمد بن سليمان وعذلته عجوز لنا يقال لنا منى فقال لها قومي فانظري إليها واسمعي غناءها ثم لوميني فقامت معه فرأتها وسمعت غناءها فقالت له لست أعاود لومك فيها بعد هذا فأنشأ يقول
( ويومٍ سها عنه الزمانُ فأصبحتْ ... نواظرُه قد حار عنها بَصيرُها )
( خلوتُ بمن أهوَى به فَتكاملتْ ... سُعودٌ أدارَ النحسَ عنَّا مُديرُها )
( أما تعذريني يا منى في صَبَابتي ... بمن وجْهُها كالشمس يلمَع نُورُها )
قال أحمد بن سليمان كان لعمي كاتب يعرف بإبراهيم
نصراني يأنس به فسأل بنات مسألتها عمي أن يجعل رزقه ألف درهم في الشهر فلما شرب أقداحاً وطرب وثبت قائمة وقالت يا سيدي لي حاجة فوثب عمي فقام لقيامها فقالت تجعل رزق إبراهيم ألف درهم في الشهر فقال سمعا وطاعة فجلست فأنشأ يقول
( قامت فقمتُ ولم أكن لو لم تقم ... لأُِجلّ خلقاً غيرَها فأقوما )
( شفعت لإِبراهيمَ في أرزاقه ... فوددتُ أني كنتُ إِبراهيما )
( فأجبتُها إنِّي مطيعٌ أمْرَها ... وأراه فرضاً واجباً محتُوما )
( ما كان أطيبَ يومَنا وأسَرَّه ... لو لم يكن بِفراقها مَخْتوما )
قال ثم إن عمي صار إلى أبي فأخبره الخبر فأمر أن يجعل لإبراهيم من ماله ألف درهم أخرى لشفاعتها

تأخرت بنات عن عيادته فكتب إليها
أخبرني الصولي قال حدثني إسماعيل بن الخطيب قال اعتل الحسن بن وهب فلم تعلم بنات بذلك وتأخرت عن عيادته فكتب إليها
( عليلٌ أنتِ أعْلَلْتِهْ ... فلَو أنّك علّلِتهْ )
( بوعْدٍ أن تِزورِيه ... إذا ما مُمكنٌ نلتِهْ )

( قريباً لنفيت الدَّاءَ ... عنه حينَ واعدتِهْ )
( وما ضرّكِ لو جاء ... رسولٌ منك أرسلتهْ )
( فيحكي لَكِ ما قال ... كما يحكي الذي قُلتِهْ )
( أما والله لو أن ... الذي يُحمَل حُمِّلِتهْ )
( لما احتاج إِلى التعليم ... فيما قد تجاهَلْتِهْ )
أخبرني الصولي قال أحمد بن إسماعيل قال حدثني أحمد بن عبيد الله بن جميل قال
أهدى الحسن بن وهب إلى بنات في علة اعتلتها هدايا حسنة وأهدى معها قفص شفانين وكتب إليها
( شفاءُ أَنينٍ بالشفانين أمّلتْ ... لكم نفسُ من أَهدي الشفانين عامدا )
( كُلُوها يَكِلُّ الداءُ عنكم فإنني ... أَزوركمُ للشوق لازرتُ عائداً )

بنات تعتذر عن موافاته فيستحثها من جديد
أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال
كتب الحسن بن وهب إلى بنات يوم جمعة يستدعيها فكتبت إليه أن عند مولاها أصدقاء له وقد منعها من المسير إليه فكتب إليها ثانيا يقول
( يومنا يوم جُمعة بأَبِي أَنتِ ... وعندَ الوضيع لا كانَ قوْمُ )
( سَفَلٌ مثله يسومونَه الْخَسْفَ ... ويَرضاه وهو للوعْدِ سَوْمُ )
( فامنعيهمْ منكِ البشاشةَ حتى ... يتغَشَّاهمُ من البَرْد نَومُ )
( وليكنْ منك طول يومكِ لِلّه ... صلاةٌ إلى المساء وصومُ )

( وارفعي عنهم الغِناء وإن نالك ... عذلٌ من الوضيع ولَوْمُ )
( واذكري مُغرماً بحبّك أمسى ... هَمُّه أن يُدِيلَه منكِ يوم )
أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال
كان الحسن بن وهب يشرب عند محمد بن عبد الله بن طاهر فعرضت سحابة فبرقت ورعدت وقطرت فقال الحسن
( هطلتنا السماءُ هَطْلاً دِراكا ... عارض المرزمانِ فيها السِّماكا )
( قلت للبرق إذ تألّق فيها ... يا زِنادَ السماء من أَوراكا )
( أحَبيباً نأيْتَه فَبكاكا ... فهو العارضُ الّذي اسْتبكاكا )
( أَم تشبهتَ بالأمير أبي العَبّاسِ ... في جُوده فلسْتَ كذاكا )

بينه وبين ابن الزيات
أخبرني عمي قال حدثنا أبو العيناء قال
طلب محمد بن عبد الملك الزيات الحسن بن وهب وكان قد اصطبح مع بنات فكتب إليه يا سيدي أنا في مجلس بهي وطعام هني وشراب شهي وغناء رضي أفأتحول عنه إلى كد الشقي ووثبت بنات لتقوم فردها وكتب
( ما بانَ عنكَ الذي بِنتَ ... عنه لا عاشَ بَعْدَكْ )

( إن لم يكن عنده الصبرُ ... والسُّلوُّ فعندَكْ )
( وما وجدتَه إلا ... عبدَ الرجاء وعبدَكْ )
فاستلبها الرسول ومضى بها إلى محمد فوقع فيها
( أبا عليٍّ أراك الإِله ... في الأمرِ رُشدَكْ )
( إن لم تكن عنديَ اليومَ ... كنتُ بالشوق عندَكْ )
( فاهدم مَحلَّك عندِي ... واجهَدْ لذلك جَهدَك )
( فلستُ أزدادُ إلا ... رعايةً لك وُدَّكْ )
( وانعَمْ بمن قُلتَ فِيها ... عبدَ الرجاءِ وعبدَكْ )
( أُزيلَ نحسُك فيها ... وأَطلَعَ الله سَعدكْ )
ورد الرقعة إلى الحسن فلما قرأها خجل وحلف ألا يشرب النبيذ شهرا ولا يفارق مجلس الوزير

ولدت بنات من مولاها فأبغضها الحسن
أخبرني عمي عن إبراهيم بن المدبر قال
ولدت بنات من مولاها ولدا وسمته بإبراهيم فأبغضها الحسن بن وهب وكتب إليها
( نُتِج المُهرةَ الهجانُ هجيناً ... ثم سَمّى الهجينَ إبراهيما )
( بخليلِ الرحمنِ سَمَّيتَ عَبدا ... أم قريعَ الفِتيان ذاك الكريما )
وبعث بالبيتين إليها وكان آخر عهده بها
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال

كان الحسن بن وهب يعشق غلاما روميا لأبي تمام وكان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن فرأى أبو تمام يوما الحسن يعبث بغلامه فقال له والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر فقال له الحسن لو شئت لحكمتنا واحتكمت فقال له أبو تمام ما أشبهك إلا بداود ولا أشبه نفسي إلا بخصميه فقال له لو كان هذا منظوما حفظته فأما المنثور فهو عارض لا حقيقة له فقال أبو تمام
( أَبا عليٍّ لصرْف الدهر والغِيَرِ ... وللحوادث والأيامِ والعِبَرِ )
( أعندك الشمسُ لم يحظ المغيب بها ... وأنت مضطربُ الأحشاء للقمر )
( أَذكرتَني أمر داود وكنت فتى ... مُصرَّف القلب في الأهواء والذِّكَر )
( إن أنت لم تترك السيرَ الحثيث إلى ... جآذر الرّوم أَعْنقْنا إلى الخزَر )
( إِن الغزال له منّي محلُّ هوًى ... يحلّ مني محلَّ السمع والبصر )
( ورُبَّ أمنَع منه جانباً وحِمًى ... أمسى ولكنَّه مني على خَطَرِ )
( جرَّدتُ منه جنودَ العزم فانكشفتْ ... منه غابَتُها عن تِكّة هَدَر )
( سبحانَ من سبّحتْه كلُّ جارحةٍ ... ما فيك من طَمحانِ الأيْر والنظرِ )
( أنت المقيم فما تعدو رواحلُه ... وأيرُه أبداً منه على سَفَرِ )
قال الصولي فحدثني أحمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن إسحاق قال قلت لأبي تمام غلامك أطوع للحسن بن وهب من غلام الحسن لك قال أجل والله لأن غلامي يجد عنده ما لا يجده غلامه عندي

وأنا أعطي غلامه قيلا وقالا وهو يعطي غلامي ثيابا ومالا

ابن الزيات يتجسس عليه
أخبرني الصولي قال حدثني أبو الحسن الأنصاري قال حدثني أبي
وحدثني الفضل الكاتب المعروف بفتجاخ
أن الحسن بن وهب كان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات وهو وزير الواثق وكان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهب وبين أبي تمام في غلاميهما فتقدم إلى بعض ولده وكانوا يجلسون عند الحسن بن وهب بأن يعلموه بخبرهما وما يكون بينهما
قال وعزم غلام أبي تمام على الحجامة فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك ويسأله التوجيه إليه بنبيذ مطبوخ فوجه إليه بمائة دن ومائة دينار وبخلعة حسنة وبخور كثير وكتب إليه
( ليتَ شعري يا أملحَ الناسِ عندي ... هل تداويتَ بالحِجامة بَعدي )
( دفعَ الله عنك لي كُلَّ سَوء ... باكرٍ رائحٍ وإن خنتَ عهدي )
( قد كتمتُ الهوى بمبلغِ جُهدي ... فبدا منه غيرُ ما كنتُ أبدي )
( وخلعتَ العِذارَ فليعلم الناس ... بأني إياك أُصفي بوُدِّي )
( وليقولوا بما أَحبُّوا إذا كنتَ ... وَصولاً ولم ترُعني بصدِّ )
( مَنْ عذيري من مُقلتيكَ ومن إشراق ... وجهٍ من دون حُمرة خَدِّ )
قال ووضع الرقعة تحت مصلاه وبلغ محمد بن عبد الملك خبر الرقعة فوجه إلى الحسن فشغله بشيء من أمره وأمر من أخذ الرقعة من تحت مصلاه وجاءه بها فقرأها وكتب في ظهرها
( ليت شِعري عن ليت شِعركَ هذا ... أبِهزلٍ تقوله أم بِجدِّ )

( فلئن كنتَ في المقال مُحِقًّا ... يابنَ وهبٍ لقد تَغَيَّرتَ بعدي )
( وتشبَّهْتَ بي وكنتُ أرى أني ... أنا العاشِقُ المتيَّم وحْدي )
( أتركُ القصدَ في الأمور ولولا ... غمراتُ الهَوى لأبصرت رُشدي )
( وأحب الأخ المشارك في الحب ... وإن لم يكن به مثلُ وجدي )
( كنديميْ أبي عليّ وحاشا ... لنديمي مثل شِقوة وَجْدي )

صوت
( إنّ مولايَ عبد غيري ولولا ... شُؤم جَدي لكان مولايَ عَبْدي )
( سيِّدي سيدي ومولايَ من ... أوْرَثَني ذِلَّةً وأضرَعَ خَدِّي )
في هذين البيتين الأخيرين لحن من الرمل أظنه لجحظة أو غيره من طبقته
قال ثم وضع الرقعة في مكانها فلما قرأها الحسن قال إنا لله افتضحنا عند الوزير وحدث أبا تمام بما كان ووجه إليه بالرقعة فلقيا محمد بن عبد الملك وقالا له إنما جعلنا هذين سببا للمكاتبة بالأشعار لا للريبة فتضاحك وقال ومن يظن بكما غير هذا فكان قوله أشد عليهما من الخبر
قرأت في بعض الكتب كان الحسن بن وهب يعاشر أبا تمام عشرة متصلة فندب الحسن بن وهب للنظر في أمر بعض النواحي فتشاغل عن عشرة أبي تمام فكتب إليه أبو تمام

( قالوا جفاكَ فلا عهدٌ ولا خَبرٌ ... ماذا تراه دهاه قلتُ أَيلولُ )
( شهرٌ كأنّ حِبالَ الهَجر منهُ فلا ... عَقْدٌ من الوصل إلاَّ وهْو مَحلولُ )
فأجابه الحسن
( ما عاقَني عنكَ أَيلولٌ بلذَّته ... وطِيبهِ ولنعمَ الشهرُ أيلولُ )
( لكن توقّعَ وَشْك البينِ عن بَلدٍ ... تحتلُّه ووِكاء العينِ مَحلولُ )

هجوه ابن أبي دواد والهيثم الغنوي
وقرأت فيه كان بين الحسن بن وهب وبين الهيثم الغنوي وأحمد بن أبي دواد تباعد فقال يهجوهما
( سألت أبي وكان أبي خبيراً ... بسُكّان الجزيرة والسّواد )
( فقلت له أهيثمُ من غَنِيٍّ ... فقال كأحمدَ بن أبي دُواد )
( فإن يك هيثمٌ من جَذْم قَيس ... فأحمدُ غير شَكّ من إياد )
أخبرني عمي قال حدثني عمر بن نصر الكاتب قال
كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن معروف الواسطي يسأله أن يصير إليه فكتب إليه محمد
( وقيتُكَ كلَّ مكروهٍ بنفسي ... وبالأدنينَ من أهلي وجِنسي )
( أتأذن في التأخُّرِ عنك يومي ... على أن ليس غيرُكَ لي بأُنسِ )
فأجابه الحسن بن وهب فقال
( أقِم لا زلت تُصبحُ في سرورٍ ... وفي نِعَمٍ مواصلة وتُمسي )
( فما لي راحةٌ في حبس مَن لا ... أراهُ يكونُ مَحبوساً بحَبسي )

وكان الحسن يومئذ معتقلا في مطالبة يطالب بها

كتب إلى الحسن بن إبراهيم في أمر بنات
وجدت في بعض الكتب بغير إسناد
كان الحسن بن وهب يعشق بنات جارية محمد بن حماد الكاتب وكان له معها أخبار كثيرة وكان لا يصبر عنها فقدم الحسن بن إبراهيم بن رباح من البصرة وأتصل بها خبرها ووصفها له الحسن بن وهب وصار به إليها فأتم ليلته معها ومرت بينهما أعاجيب ثم خالفه الحسن بن إبراهيم بن رباح وخاتله في أمرها فكتب إليه الحسن بن وهب
( لا جميل ولا حَسَنْ ... خُنتَ عهدي ولم أخُنْ )
( كملت إذ فعلتَ ... هذا أعاجيب الزّمنْ )
( فإلى اللهِ أشتَكِي ... ما بقلبي من الحَزنْ )
( رُبَّ شكوى من الصديقِ ... إلى غير ذي شَجَنْ )
( بأبي أنتَ يا حسنْ ... يا أخا الطوْل والمِنَنْ )
( أيُّ رأيٍ أراك خَتْليَ ... في الشادِنِ الأغَنّْ )
( يتخطّى إليه دُونيَ ... في حالِكِ الدُّجُنْ )
( فترى منه سُنَّةً ... تَتعالى عن السُّنَنْ )
( مَع كشفي لك الحديثَ ... الذي عَنكَ لم يُصَنْ )
( واعتمادِي زعمتُ مِنكَ ... على أ حصَنِ الجُنَنْ )

( وعلى خيرِ صاحبٍ ... وعلى خير ما سكَنْ )
( خَجلِي منْ إساءةٍ ... فَضحَتْ حُسنَ كلِّ ظَنّ )
( ثم مِمّن جرّتْ إلى ... مَن وفيمَن وعند مَنْ )
( إن تكنْ تِلك هفوة ... فهي كالشيء لم يكُنْ )
( أو تكن بِعتَ خُلّتِي ... بموافٍ من الثَّمنْ )
( دُرّة البحرِ من عدَنْ ... ذُخْر سيفِ بن ذِي يَزَنْ )
( لم يكن قطُّ مثلُها ... في معدٍّ ولا عَدَنْ )

كتب إلى بنات
فتغافل عن جوابه وأقام على مواصلتها وسماعها وحظر عليها فلم يكن الحسن بن وهب يلقاها فغلظ ذلك عليه وكتب إليها بهذه الأبيات
( أنكرتِ معرفتي جُعلتُ لك الفدا ... إنكارَ سيّدةٍ تُلاعِبُ سَيِّدا )
( أنا ذو منعْتِ جفونَه أن ترقُدا ... وتركتِه ليلَ التمام مُسهَّدا )
( وبريتِ لحمَ عِظامه فتجرَّدا ... وأزَرْتِ مضجَعه النساءَ العُوَّدا )
( انا ذو فإن لم تعرِفيني بعدَ ذا ... فأنا ابنُ وهبٍ ذو السماحة والنَّدى )
( أشكُو إلى الله الفؤاد المُقْصَدَا ... وجوًى ثَوى تحتَ الحَشَا مُتلدِّدا )
( وغريرة ما كنتُ من إشفاقها ... يوماً وإِن بَعُد التلاقي مُسْعِدَا )
( يا ظبيةً في روضةٍ مَوْليَّةٍ ... جَادَ الربيعُ تُرابَها فتلبَّدا )

( هل تجزينَّ الوُدَّ منِّي مثلَه ... أو تَصدُقين من المواعِدِ موعدَا )
( إني وإنْ جَعلَ القريضُ يجولُ بي ... حتَّى يغُورَ بما أقولُ ويُنجِدا )
( لعَلَى يقينٍ أنّ قلبَكِ مُوجَعٌ ... عندي المثالُ أنا الحمى ولَكِ الفِدا )
( وكما علمتِ إذا لبستِ المُجْسَدا ... وثَنَيْت خَلف الأذْنِ حاشيةَ الرِّدا )
( وحَبَوتِ جيدكِ من حُلُيِّكِ عَسْجداً ... ونظمتِ ياقوتاً به وزَبرْجَدا )
( وشكوتِ وجدكِ في الغِناء شِكايةً ... يُنسِي حُنيْناً والغَريضَ ومَعْبَدا )
( سِيَما إِذا غَنّيتني بتعمُّدٍ ... بأبي وأمِّي ذاك منكِ تَعمُّدا )
( أثْوى فأقصرَ ليلةً ليزوّدا ... ومضى وأخلفَ من قُتيْلةَ موْعِدا )

ابن رباح يكتب إليه
فوقعت الأبيات في يد ابن رباح فقرأها وعلم أنه قد بلغ منه
فكتب إليه
( فِدًى لكَ آبائي وحقَّ بأن تُفدّى ... فِدًى لك قَصداً من ملامكَ لي قَصْدا )
( ولا تَلْحَنِي في عَثرة إن عَثرتُها ... فلا والذي أمسيتُ أُدعى له عَبدَا )
( وعهدُك يا نفسي يَقيك من الرّدى ... فأعظمْ به عندي وأكرِمْ به عَهْدا )
( يمينَ امريءٍ بَرٍّ صَدوقٍ مُبرَّأٍ ... من الإِثمِ ما حاولتُ هَزْلاً ولا جِدًّا )
( سِوى ما به أزدادُ عندكَ زُلفةً ... ويُكسبني منك المودَّة والحَمْدا )
( أرى الغيّ إن أومأت للغيّ طاعةً ... لأمركَ فضلاً عن سِوى الغيّ لي رُشدا )

( وأسعَى لما تسعى وأتبعُ ما ترى ... وفي كلِّ ما يُرضيك أَستغرِق الجُهدا )
( إذا أنا لم أَمْنَحك صفوَ مودّتي ... فمن ذا الذي أُصفِي له غيرَك الوُدَّا )
( ومن ذا الذي أرعَى وأشكُرُ والذي ... يُؤمِّل خيراً بعدُ منّي أو رِفدا )
( وأنت ثِمالي والمعوّل والذي ... أشدّ به أَزري فيعصِمُني شَدَّا )
( وآثرُ خلقِ الله عندي ومن له ... أيادٍ ووُدٌّ لستُ أحصيهما عدَّا )
( فلا تحسبنِّي مائلاً عن خَليقتي ... لك الدهرَ حتى أسكنَ القبرَ واللَّحْدا )
( معاذ إلهي ان أُرى لك خاذِلاً ... ولكنَّ عذري واضح أنّ بي وَجْدا )
( بأحسنِ من أبصرتُ شخصاً وصُورةً ... وأملحِ خلقِ الله كلِّهمُ قَدّا )
( بمالكةٍ امري وإن كنتُ مالكاً ... لهَا ففؤادي ليس من حُبّها يَهْدا )
( إِذا سألتْني أن أُقيم عَشيَّةً ... لأونِسَها لا أستطيعُ لها رَدَّا )
( تُراشِفُني صفوَ المودّة تارةً ... وأجني إذا ما شئتُ من خدّها وَردا )
( قبعتُ بها لمَّا وثِقتُ بحبّها ... فلا زينباً أبْغي سواها ولا هِنْدا )
( ولو بُذِلَتْ لي جنّةُ الخُلد منزِلاً ... وقلتَ اجتنبْها لاجتنبتُ لها الخُلْدا )
فلما قرأها الحسن بن وهب علم أنه قد ندم فكتب إليه
( حسنٌ يشكو إلى حسنِ ... فقْدَ طَعم النوم والوَسَنِ )
( وهَوًى أمستْ مَطالِبُه ... قُرِنَتْ باليأس في قَرَنِ )
( وحبيبٌ في محلَّته ... معه في الدار لمْ يَبِنِ )

( فإذا ما رَام زَورته ... فهو كالغادين في الظُّعُنِ )
( عجباً للشمس لم تَرَها ... مُقلَتي حَولاً ولم ترنِي )
( أتراها بعدَنا صَرَمتْ ... حبَّنا هذا من اليَمنِ )
( فقديماً كان مطلعُها ... بيدي سَيف بن ذي يزَنِ )
فكتب إليه ابن رباح
( حسنٌ يَفدي بمُهجته ... حسناً من حادث الزّمنِ )
( ويَقِيه ما تضمَّنه ... من دَخيل الهمِّ والحزَنِ )
( هاكَ عيني فابكِ واقيةً ... عينك العَبْرَى على الشَّجَنِ )
( وفؤادي فامْلَهُ حَزَناً ... من صُروف الهمّ والفتنِ )
( إن تكن شمسُ الضُّحى حُجِبت ... عن سليل المجد من يَمنِ )
( فهْي حَيرى عن مَطالعها ... في سوى قوام ابن ذِي يَزَنِ )
ثم اعتذر إليه ورجع إلى معاشرته وكان لا يحضر دار محمد بن حماد ولا يسمع غناء بنات جاريته إلا مع الحسن بن وهب لا يستأثر بها عليه
وقال محمد بن داود الجراح حدثني بعض أصحابنا أن الحسن بن وهب أتى أبا إسحاق إبراهيم بن العباس مستعديا على أبي محمد الحسن بن مخلد في أمر بنات جارية محمد بن حماد وكان الحسن بن وهب يتعشقها فأفسدها عليه الحسن بن مخلد ولم يذكر محمد بن داود من خبرهما غير هذا وإنما ذكرت هذه القصة على قلة الفائدة فيها ليتضح خبره مع بنات إذ كان ما مضى ذكره من خبرها لم يقع إلي بروايته

أبو تمام يستسقيه نبيذا
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الرحمن بن أحمد قال

وجدت بخط محمد بن يزيد كتب أبو تمام إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذا
( جعلتُ فِداك عبد الله عندي ... بعقْبِ الهَجر منه والبعاد )
( لهُ لُمَةٌ من الكتّاب بيضٌ ... قَضوا حقَّ الزيارة والوِداد )
( وأحسِبُ يومَهم إن لم تجدهم ... مُصادِفُ دَعوةٍ منهم جَمادِ )
( فكم يومٍ من الصهباء سارٍ ... وآخَرَ منكَ بالمعروف غادِ )
( فهذا يستهلُّ على غَليلي ... وهذا يَستهلُّ على تِلادي )
( فيسقِي ذا مَذانبَ كُلِّ عِرْق ... ويَنزع ذا قرارةَ كُلِّ واد )
( دعوتُهُم عليكَ وكنتَ مِمَّنْ ... نُعيِّنُه على العُقَدِ الجيادِ )
قال فوجه إليه بمائة دينار ومائة دن نبيذا
قال محمد بن داود بن الجراح زار الحسن بن وهب وأبو تمام أبا نهشل بن حميد فبدأ أبو تمام فقال
( أَغصَّك اللهُ أبا نَهشلِ ... )
ثم قال للحسن أجز فقال
( بخدِّ ريم شادِنٍ أكحلِ ... )
ثم قال أجزيا أبا نهشل فقال
( نَطمعُ في الوصلِ فإن رمتَه ... صار معَ العيّوق في منزِل )
أخبرني جعفر بن محمد بن قدامة بن زياد الكاتب قال

كتب الحسن بن وهب إلى أبي تمام وقد قدم من سفر جعلت فداءك ووقاءك وأسعدني الله بما أوفى علي من مقدمك وبلغ الوطر كل الوطر بإنضمام اليد عليك وإحاطة الملك بك وأهلا وسهلا فقرّب الله دارا قربتك وأحيا ركابا أدتك وسقى بلادا يلتقي ليلها ونهارها عليك وجعلك الله في أحصن معاقله وأيقظ محارسه وأبعدها على الحوادث مراما برحمته

رد تهمة السرقة عن أبي تمام
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال
قال رجل للحسن بن وهب إن أبا تمام سرق من رجل يقال له مكنف من ولد زهير بن أبي سلمى وهو رجل من أهل الجزيرة قصيدته التي يقول فيها
( كأنّ بني القعقاع يومَ وفاته ... نُجومُ سماء خرَّ من بينها البدْرُ )
( تُوفِّيت الآمالُ بعدَ محمدٍ ... وأصبحَ في شُغْلٍ عن السَّفَر السفْرُ )
فقال الحسن هذا دعبل حكاه وأشاعه في الناس وقد كذب وشعر مكنف عندي ثم أخرجه وأخرج هذه القصيدة بعينها فقرأها الرجل فلم يجد فيها شيئا مما قاله أبو تمام في قصيدته ثم دخل دعبل على الحسن بن وهب فقال له يا أبا علي بلغني أنك قلت في أبي تمام كيت وكيت فهبه سرق هذه القصيدة كلها وقبلنا قولك فيه أسرق شعره كله وأتحسن أنت أن تقول كما قال
( شهدتُ لقد أقوتْ مغانيكُم بَعدي ... ومَحّتْ كما مُحَّتْ وشائعُ من بُردِ )
( وأنْجَدتُم من بَعد إتهام دَارِكمْ ... فيا دمعُ أنجِدْني على ساكِنِي نجْدِ )

فانخزل دعبل واستحيا فقال له الحسن الندم توبة وهذا الرجل قد توفي ولعلك كنت تعاديه في الدنيا حسدا على حظه منها وقد مات الآن فحسبك من ذكره فقال له أصدقك يا أبا علي ما كان بيني وبينه شيء قط إلا أني سألته أن ينزل لي عن شي استحسنته من شعره فبخل علي به وأما الآن فأمسك عن ذكره فجعل الحسن يضحك من قوله واعترافه بما اعترف به
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال
كتب إبراهيم بن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى محمد بن حماد الكاتب يهجوه ويعيره بعشق الحسن بن إبراهيم بن رباح والحسن بن وهب جاريته وتغايرهما عليها
( لي خليطَان مُحكمان يُجيدان ... لِمَا يعمَلانِه حاذقانِ )
( واحد يعملُ القِسيَّ فيأتيكَ ... بها في استقامةِ المِيزانِ )
( وفتًى يعمَل السكاكينَ في القَرْن ... مقرٌّ بحذقه الثَّقَلانِ )
( وهما يطلبان قَرْناً على رأسكَ ... فانظر في بعضِ ما يسأَلانِ )
( قلت هلْ يُؤلم الفتى قطعُ ما ... فيه تريدان أيها الفَتيان )
( فأجابا بلُطفِ قولٍ وفَهْمٍ ... قم فإنّا إِذاً لنَوْكى مَدان )
( فاقطع الآن ما برأسكَ مِنها ... إن فيما ترى لمحضُ بيانِ )
( ذاك خيرٌ من أن يُسمّى اسمَ سوء ... فيقالُ انظُروا إلى القَرْنانِ )

صوت
( قد كان عتبُك مرَّةً مكتوما ... فاليوم أصبحَ ظاهراً معلوما )

( نال الأعادي سُؤْلَهم لاهُنِّئوا ... لمَّا رأونا ظاعناً ومُقيما )
( والله لو أبصرتَني لأدَيْتَ لي ... والدمع يَجري كالجُمانِ سُجُوما )
( هبنِي أسأتُ فعادةٌ لك أن تُرى ... مُتجاوِزاً مُتطاوِلاً مَظْلوما )
الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب والغناء لعبيد بن الحسن الناطفي اللطفي ثاني ثقيل بالوسط وفيه خفيف رمل يقال إنه لرذاذ وفيه ثقيل أول مجهول

أخبار أحمد بن يوسف
هو أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب وأصله من الكوفة وكان مذهبه الرسائل والإنشاء وله رسائل معروفة وكان يتولى ديوان الرسائل للمأمون ويكنى أبا جعفر وكان موسى بن عبد الملك غلامه وخريجه فذكر محمد بن داود بن الجراح أن أحمد بن سعيد حدثه عن موسى بن عبد الملك قال وهب لي أحمد بن يوسف ألفي ألف درهم تفاريق عن ظهر يد
وأخوه القاسم بن يوسف أبو محمد شاعر مليح الشعر وكان ينتمي إلى بني عجل ولم يكن أخوه أحمد يدعي ذلك
وكان القاسم قد جعل وكده في مدح البهائم ومراثيها فاستغرق أكثر شعره في ذلك منها قوله يرثي شاة
( عينُ بكِّي لعنزنا السودَاء ... كالعروس الأدماء يوم الجِلاء )
وقوله في الشاهمرك

( أقفرت منك أبا سَعْدٍ ... عِراص وديارُ )
وقوله في السنور
( ألا قل لمُجَّةَ أو ماردة ... تبكِّي على الهِرَّة الصائدة )
وقوله في القمري
( هل لامرىء من أمانِ ... من طارق الحَدَثانِ )

تبنى جارية اسمها مؤنسة
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني رجل من ولد عبد الملك بن صالح أن الهشامي قال كان
أحمد بن يوسف قد تبنى جارية للمأمون اسمها مؤنسة فأراد المأمون أن يسافر ويحملها فكتب إليه أحمد بن يوسف بهذا الشعر على لسانها وأمر بعض المغنين فغناه به فلما سمعه وقرأ الكتاب أمر بإخراجها إليه وهو
( قد كان عَتْبُك مرة مكتوما ... )
وقال محمد بن داود حدثني أحمد بن أبي خيثمة الأطروش قال عتب أحمد بن يوسف على جارية له فقال
( وعاملٍ بالفُجور يأمرُ بالبِرّ ... كهادٍ يخُوض في الظُّلَمِ )
( أو كطبيبٍ قد شفَّه سَقَمٌ ... وهْو يُداوِي من ذلكَ السَّقَمِ )
( يا واعظَ الناسِ غير متَّعظ ... نفسَك طهِّر أوْلا فلا تلُمِ )
ووجدت في بعض الكتب بلا إسناد عتب المأمون على مؤنسة فخرج

إلى الشماسية متنزها وخلفها عند أحمد بن يوسف الكاتب فرجت أن يذكرها إذا صار في متنزهه فيرسل في حملها فلم يفعل وتمادى في عتبه فسألت أحمد بن يوسف أن يقول على لسانها شعرا ترفعه فقال
( يا سيداً فقده أغرى بيَ الحَزَنا ... لا ذقتُ بعدكَ لا نوماً ولا وسَنَا )
( لا زلتُ بعدك مَطوياًّ على حُرَقٍ ... أشنا المُقامَ وأشنا الأهلَ والوطَنا )
( ولا التذذتُ بكأس في مُنادمةٍ ... مذ قيل لي إن عبد الله قد ظَعَنا )
( ولا أَرى حَسناً تبدوا محاسنُه ... إلاّ تذكرتُ شوقاً وجهَك الحَسَنا )
وبعثت به إلى إسحاق الموصلي فغناه به وقيل بل بعثت به إلى سندس فغنته به فاستحسن ذلك وقال لمن هذا الشعر فقال أحمد بن يوسف لمؤنسة يا سيدي تترضاك وتشكو البعد منك فركب من ساعته حتى ترضاها ورضي عنها

تحلى قينة فكتب إلى مولاها
ووجدت في هذا الكتاب قال
كنا مع أحمد بن يوسف الكاتب في مجلس وعندنا قينة فتحلاها أحمد بن يوسف فكتب إلى صاحب المنزل

( أنا رهنٌ للمنايا ... بين إبرامٍ ونَقْضِ )
( من هَوى ظبي غريرٍ ... مونق المنظرِ غَضِّ )
( ليتها جادتْ بتقبيلٍ ... لخدَّيها وعَضِّ )
( إن عجزتم عن شِراها ... لي بفَرْضٍ أَو بقَرْضِ )
( فتمنَّوا لي جميعاً ... أنها قَبرٌ لبعْضِي )
أخبرني عمي قال حدثنا الحسن بن عليل قال ذكر مسعود بن أبي بشر أن أحمد بن يوسف دخل يوما على الفضل بن سهل أو أخيه في يوم دجن فأطال مخاطبته وكان أحمد بن يوسف آنسا به ففتح دواته وكتب إليه

صوت
( أَرى غَيْماً تؤلِّفهُ جَنُوبٌ ... وأحسِبُه سيأتينا بهَطْل )
( فوجْهُ الرأي أن تدعو برَطلٍ ... فتشربه وتدعُو لي برَطلِ )
ودفعها إليه فقرأهما وضحك وقال إن كان هذا عين الرأي قبلناه ولم نرده ثم دعا بالطعام والشراب فأتموا يومهم
الغناء في هذين البيتين للقاسم بن زرزور ثاني ثقيل بالوسطى
ومما يغنى فيه من شعره
صوت
( صدَّ عني محمدُ بنُ سعيدِ ... أحسنَ العالمين ثانِيَ جِيدِ )
( ليس من جفوةٍ يصدُّ ولكِنْ ... يتجنّى لحُسنْه في الصُّدودِ )

الغناء فيه لزرزور خفيف رمل ذكر ذلك إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه ومحمد بن سعيد هذا كان من أولاد الكتاب بسر من رأى وكان أحمد يتعشقه
ومن شعره الذي يغنى فيه

صوت
( كم ليلةٍ فيكَ لا صباحَ لها ... أحببتُها قابضاً على كبِدي )
( قد غَصَّت العينُ بالدموع وقدْ ... وضعتُ خدِّي علىبَنانِ يَدي )
( كأنّ قلبي إذا ذكرْنُكم ... فريسةٌ بين ساعِدَيْ أسد )
الغناء لشارية من رواية طباع وفيه خفيف رمل ذكر حبش أنه لأحمد النصيبي وهو خطأ يشبه أن يكون لأحمد بن صدقة أو بعض طبقته
صوت
( الراحُ والنّدْمان أحسنُ منظراً ... في كل ملتفِّ الحدائق رائِق )
( فإذا جمعتَ صفاءه وصفاءها ... فارْجُمْ بكل مُلمة من حَالِقِ )
الشعر للعطوي والغناء لبنان ثقيل أول بالوسطى وفيه لذكاء وجه الرزة خفيف ثقيل

أخبار العطوي
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي عطية مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ويكنى أبا عبد الرحمن بصري المولد والمنشأ
وكان شاعرا كاتبا من شعراء الدولة العباسية واتصل بأحمد بن أبي دواد وتقرب إليه بمذهبه وتقدمه فيه بقوة جداله عليه فلما توفي أحمد نقصت حاله
وله فيه مدائح يسيرة ومراث كثيرة
منها ما أنشدنيه الأخفش عن كوثرة أخي العطوي
( حَنَّطْتَه يا نصرُ بالكافورِ ... وزففتَه للمنزلِ المهجورِ )
( هلاّ ببعض خِصاله حَنّطَته ... فيضوعُ أفقُ منازلٍ وقُبورِ )
( تالله لو من نشرِ أخلاقٍ له ... يُعزَى إلى التقديسِ والتطهيرِ )
( حنّطتَ من سَكَن الثّرى وعلا الرُّبا ... لِتُزوِّدُوه عُدّةً لنُشورِ )
( فاذهبْ كما ذهبَ الوفاءُ فإنه ... ذهبتْ به ريحاً صباً ودَبُورِ )
( واذهبْ كما ذهب الشبابُ فإِنه ... قد كان خير مُصاحِب وعَشير )
( والله ما أبَّنتُه لأزيدَه ... شَرفاً ولكن نفثهُ المَصدورِ )

وأنشدني الأخفش للعطوي أيضا يرثي أحمد بن أبي دواد قال
( وليس صريرُ النمش ما تسمعونَه ... ولكنه أصلابُ قومٍ تقَصَّفُ )
( وليسَ نسيمُ المسك ريّا حَنُوطِه ... ولكنّه ذاكَ الثناءُ المُخَلَّفُ )

فاق جميع نظرائه
وذكر محمد بن داود في كتاب الشعراء فقال كان له فن من الشعر لم يسبق إليه ذهب فيه إلى مذهب أصحاب الكلام ففاق جميع نظرائه وخف شعره على كل لسان وروي واستعمله الكتاب واحتذوا معانيه وجعلوه إماما
قال ابن داود وحدثني المبرد قال كان العطوي وهو عندنا بالبصرة لا ينطق بالشعر ثم ورد علينا شعره لما صار إلى سر من رأى وكنا نتهاداه وكان مقترا عليه رزقه دفرا وسخا منهوما بالنبيذ وله فيه في وصف الصبوح وذكر الندامى والمجالس أحسن قول وليس له قول يسقط فمن ذلك قوله
( فِيئي إلى أهدى السُّبلْ ... قولاً وعلماً وعَمَلْ )
( قاتلها اللُه لقدْ ... سامتكُما إحدى العُضَل )
( تقول هلا رِحلَة ... تنقُلُنا خيرَ نُقَل )
( أخشى على جائلةِ الآمالِ ... جوّالَ الأجَلْ )
يأخذ قولا لعمر بن الخطاب ويحوله إلى شعر
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال سمع العطوي رجلا يحدث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب إن فلانا قد

جمع مالا فقال عمر بن الخطاب فهل جمع له أياما فأخذ العطوي هذا المعنى فقال
( أرفِهْ بعيش فتىً يغدو على ثِقَةٍ ... إنّ الذي قسم الأرزاقَ يرزُقهُ )
( فالعِرْضُ منه مَصونٌ لا يُدنِّسه ... والوجه منه جَديد ليس يخلُقه )
( جمعتَ مالاً ففكّرْ هل جمعتَ له ... يا جامعَ المال أَياماً تُفَرِّقه )
( المال عندكَ مخزونٌ لوارثه ... ما المالُ مالُك إلا حين تُنفِقه )
ومن قوله في الندمان والنبيذ مما يغني فيه ما أنشدنيه الأخفش وغيره من شيوخنا

صوت
( فكم قالوا تمنَّ فقلتُ كاسٌ ... يطوفُ بها قضيبٌ في كثيبِ )
( وَنُدْمانٌ تُساقطُني حديثاً ... كلحظ الحِبِّ أو غضِّ الرقيبِ )
الغناء في هذين البيتين لذكاء وجه الرزة خفيف رمل
يكتب لعلوي يستقيه نبيذا
أخبرني عمي قال حدثني كوثرة أخو العطوي قال
كان أخي أبو عبد الرحمن يشرب مع أصدقاء له من الكتاب ومعهم قينة يقال لها مصباح من أحسن الناس وجها وأطيبهم غناء فما زالوا في قصف وعزف إلى أن انقطع نبيذهم فبقوا حيارى وكانوا قريباً من منزل أبي العباس أحمد بن الحسين بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي وكان صديقا لأبي عبد الرحمن فكتب إليه

( يابنَ مَن طاب في المواليد مذ ... آدم جَرًّا إلى الحُسين أبيه )
( أنا بالقرب منكَ عندَ كريم ... قد ألحّتْ عليه شُهبُ سِنيه )
( عندَه قينةٌ إذا ما تغنّتْ ... عاد مِنّا الفقيهُ غيرَ فَقيه )
( تزدَهيني وأينَ مثليَ في الفهم ... تُغنِّيه ثم لا تَزْدهيه )
( مجلسٌ كالرياض حُسناً ولكنْ ... ليس قطبُ السرور واللهو فيه )
( فأقمه بما به يمتري دن عجوز خمارة ممتريه ... )
( وبأشياخِك الكرامِ إلى السُّؤْدَد ... موسى بن جعفرٍ وأبيه )
( إن تَحشَّمْتَني وإِن كان إلاَ ... مثلَ ما يأنس الفَتى بأخيه )
قال فلما وصلت الرقعة إلى أبي العباس أرسل إليهم براوية شراب فلم يزالوا يشربون مجتمعين حتى نفدت في أخفض عيش
حدثني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب الكاتب قال
جاءني يوما أبو عبد الرحمن العطوي بعد وفاة عمي أحمد بن الخصيب بسنتين وكان صديقه وصنيعته فجلس عندي يحادثني حديثه ويبكي ساعة طويلة ثم تغيمت السماء وهطلت فسألته أن يقيم عندي فحلف ألا يفعل إلا بعد أن أحضره من وقتي ما راج من الطعام ولا أتكلف له شيئا ففعلت وجئته بما حضر فقال لي ما فعلت عقد قلت باقية وهي في يومنا هذا مقيمة عندي والساعة تسمع غناءها فقال لي عجل إذن فإن النهار قصير ثم أنشأ يقول
( أدرِ الكأسَ قد تعالى النّهارُ ... ما يُميتُ الهمومَ إلا العُقارُ )

( صاحِ هذا الشتاء فاغدُ عليها ... إنّ أيامه لِذاذٌ قِصار )
( أيّ شيء ألذ من يوم دَجْنٍ ... فيه كأس على النّدامى تُدَارُ )
( وقيانٌ كأنهنَّ ظِباءٌ ... فإذا قُلْنَ قالتِ الأوتارُ )

وصف مجلس في يوم رذاذ
حدثني عمي قال حدثني كوثرة قال
كان لأبي عبد الرحمن صديق من الأدباء وكان يتعشق جارية من جواري القيان يقال لها عثعث وكان لا يقدر عليها إلا على لقاء عسير واجتماع يسير فأرسل إليها يوما فأحضرها وأصلح جميع ما يحتاج إليه واتفق أن كان ذلك في يوم رذاذ به من الطيب والحسن ما الله به عليم فكتب إلى صديقه يعرفه الخبر ويسأله المصير إليه ووصف له القصة بشعر فقال
( يوم مطيرٌ وعيش نضيرُ ... وكأسٌ تدورُ وقِدرٌ تفورُ )
( وعثْعثُ تأتي إِذا جئتَنا ... فتسمع منها غِناء يَصُورُ )
( وعندي وعندك ما تشتَهيه ... شعرٌ يمرُّ وعِلمٌ يدورُ )
( وإذا كان هذا كما قد وصفتُ ... فإِن التفرقٌّ خطبٌ كبيرٌ )
( فقم نصطبِحْ قبل فوتِ الزَّمانِ ... فإنّ زمانَ التلهِّي قصيرُ )
قال فسار إليه صاحبه فمر لهما أحسن يوم وأطيبه
وهذا الشعر أخذه العطوي من كلام إسحاق أخبرني به وسواسة بن الموصلي عن حماد عن أبيه قال كان يألفني بعض الأعراب وكان طيبا فجاءني يوما فقلت له لم أرك أمس فقال دعاني صديق لي فقلت صف لي ما كنتم فيه فقال لي كنا في مجلس نظامه سرور بين قدور تفور وكأس

تدور وغناء يصور وحديث لا يجور وندامى كأنهم البدور
قال إسحاق وقلت لأعرابي كان يألفني أين كنت بالأمس قال كنت عند بعض ملوك سر من رأى فأدخلني إلى قبة كإيوان كسرى وأطعمني في قصاع تترى وغنتني جارية سكرى تلعب بالمضراب كأنه مدرى فيا ليتني لقيتها مرة أخرى
قال إسحاق وقلت لبعض الأعراب طلبتك أمس فلم أجدك فأين كنت قال كنت عند صديق لي فأطعمني بنات التنانير وأطعمني أمهات الأبازير وحلواء الطناجير وسقاني زعاف القوارير وأسمعني غناء الشادن الغرير على العيدان والطنابير قد ملكت بأوقار الدراهم والدنانير

صديق يهدي إليه جواري ونبيذا
قرأت في بعض الكتب بغير إسناد أن العطوي كان يوما جالسا في منزله وطرقه صديق له ممن كان يغني بسر من رأى فقال له قد أهديت إليك جواري اليوم ونبيذا يكفيك وحسبك بالكفاية
وأقام عنده فدخل عليه غلام أمرد أحسن من القمر فاحتبسوه وكتب العطوي إلى صديق له من أهل الأدب
( يومنا طيّب به حسن القَصْف ... وحثُّ الأرطال والكاساتِ )

( ما ترى البرقَ كيف يلمعُ فيه ... ورشاشاً يبُلُّ في الساعات )
( ولديْنا ظبيٌ غريرٌ ظَريفٌ ... قد غَنِينا به عَنِ القَيْنَاتِ )
( إن تخلّفتَ بعد ما تصلُ الرّقعةُ ... عَنّا فأنتَ في الأموات )
فأجابه الرجل فقال
( أنا في إثر رُقعتي فاعلمَنْ ذَاكَ ... على أنَّني من البُيّات )
( فافهم الشّرطَ بينَنا لا تقل لي ... قد تثاقَلْت فانصرفْ بحياتي )
( لا لسَوء لكن لأمتعَ نَفسي ... بحديثِ الظبيِ الغريرِ المواتِي )

صوت
( أيا بيتَ ليلَى إنَّ ليلى مريضةٌ ... بِراذان لا خالٌ لديْها ولا ابنُ عمّ )
( ويا بيتَ ليلى لو شَهِدتك أعولَتْ ... عليكَ رجالٌ من فَصيح ومن عَجَمْ )
( ويا بيت ليلَى لا يَبِسْتَ ولا تزَل ... بلادُك سُقياها من الواكِفِ الدِّيَم )
الشعر لمرّة بن عبد الله النهدي والغناء لأحمد النصيبي ثقيل أول بالوسطى يقال إنه لحنين

أخبار مرة ونسبه
هو مرة بن عبد الله بن هليل بن يسار أحد بني هلال بن عصم بن نصر بن مازن بن خزيمة بن نهد وليلى هذه من رهطه يقال لها ليلى بنت زهير بن يزيد بن خالد بن عمرو بن سلمة
هجا رجلا من بني نهشل لأنه خطب ليلى عشيقته
نسخت خبرها من كتاب ابن أبي السري قال حدثني ابن الكلبي عن أبيه قال
كانت امرأة من بني نهد يقال لها ليلى بنت زهير بن يزيد وكان لها ابن عم يقال له مرة بن عبد الله بن هليل يهواها واشتد شغفه بها فخطبها وأبوا أن يزوجوه وكان لا يخطبها غيره إلا هجاه فخطبها رجل من بني نهشل يقال له إران فقال مرة يهجوه
( وما كنتُ أخشَى أن تصيرَ بمَرَّةٍ ... من الدّهر ليلى زوجةً لإِران )
( لمن ليس ذا لُبٍّ ولا ذا حفيظةٍ ... لعِرس ولا ذا منطِق وبَيانِ )
( لقد بُلِيتْ ليلى بشرِّ بليَّةٍ ... وقد أُنزلتْ ليلى بدار هَوانِ )

قال فتزوجها المنجاب بن عبد الله بن مسروق بن سلمة بن سعد من بني زوي بن مالك بن نهد فخرج إلى البعث براذان وهي إذا ذاك مسلحة لأهل الكوفة فخرج بها معه فماتت براذان ودفنت هناك
فقدم رجلان من بجيلة من مكتبهما براذان من بني نهد وكانت بجيلة جيران بني نهد بالكوفة فمرا على مجلسهم فسألوهما عمن براذان من بني نهد فأخبراهم بسلامتهم ونعيا إليهم ليلى ومرة في القوم فأنشأ يقول
( أيا ناعِيَيْ ليلَى أما كان واحدٌ ... من الناس ينعاها إليّ سواكما )
( ويا ناعييْ ليلى ألم نك جيرَة ... عليكم لها حقٌّ فأَلاّ نَهاكما )
( ويا ناعييْ ليلى لقد هجتُما لنا ... تجاوبَ نَوْحٍ في الديار كلاكُما )
( ويا ناعيي ليلى لجلَّتْ مُصيبةٌ ... بنا فقدُ ليلى لا أُمِرَّت قواكما )
( ولا عشتما إلا حليفَيْ بَليِّةٍ ... ولا مِتُّ حتى يُشترى كَفنَاكما )
( فأشْمَتَ والأيام فيها بوائِقٌ ... بموتِكما إني أُحِبُّ رَدَاكما )
وقال فيها أيضا
( كأنك لم تُفجَع بشَيْءٍ تعدُّه ... ولم تصطبرْ للنائبات من الدهرِ )
( ولم تر بؤساً بعد طول غضارةٍ ... ولم ترمِكَ الأيامُ من حيثُ لا تدري )
( سقى جانبْي راذَان والساحةَ التي ... بها دَفَنوا ليلى مُلِثٌّ من القَطر )
( ولا زال خِصْبٌ حيث حلَّتْ عظامها ... براذَانَ يُسقَى الغيث منَ هَطِلٍ غَمْر )
( وإن لم تكلمنا عظام وهامَةٌ ... هناك وأصداء بَقينَ مع الصخر )
وقال فيها

( يا قبر ليلى لا يَبِسْتَ ولا تَزَلْ ... بلادُكِ تَسقيها من الواكفِ الدِّيمْ )
( ويا قبر لَيلى غُيِّبَتْ عنك أُمها ... وخالَتُها والناصحون ذَوو الذّمم )
( ويا قبر ليلى كم جمالٍ تُكِنُّه ... وكم ضُمّ فيكَ من عَفافٍ ومن كرم )
وساق باقي الأبيات التي فيها الغناء
وحكى الهيثم بن عدي عن شيخ من بني نهد
أن مرة كان تزوجها وكان مكتبه براذان وأخرجها معه ثم ضرب عليه البعث إلى خراسان فخلفها عند شيخ من أهل منزله هناك وأفرد لها الشيخ دارا كانت فيها ومضى لبعثه ثم قدم بعد حول فلقي فتى من أهل راذان قبل وصوله إلى دارها فسأله عنها فقال أترى القبر الذي بفناء الدار قال نعم قال هو والله قبرها فجاء فأكب عليه يبكي ويندبها وترك مكتبه ولزم قبرها يغدو ويروح إليه حتى لحق بها

صوت
( بأبي أنتَ يابن مَن ... لا أُسمِّي لبعضِ ما )
( يا شبيهَ الهلالِ مثلُك ... في الأُفق أنجُما )
( راقبِ اللَه في ... أسيرك إِن كنت مُسْلِما )
الشعر لعلي بن أمية والغناء لعمر الميداني رمل مطلق

أخبار علي بن أمية
علي بن أمية بن أبي أمية وكان أبوه يكتب للمهدي على ديوان بيت المال وديواني الرسائل والخاتم وكان منقطعا إلى إبراهيم بن المهدي وإلى الفضل بن الربيع وقد تقدم خبر أخيه محمد في مواضع من هذا الكتاب
يخاطب الأطلال
فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن علي بن أمية قال لما قدم علي بن أمية وقال
صوت
( يا ريحُ ما تصنعينَ بالدِّمَنِ ... كم لك من محوِ منظَرٍ حَسَنِ )
( محوتِ آثارنا وأحدثتِ ... آثاراً بربْع الحبيب لم تكنِ )

( إن تك يا ربعُ قد بَليتَ من ... الرَّيحِ فإني بالٍ من الحَزَنِ )
( قد كان يا ربعُ فيك لي سَكنٌ ... فصرت إذ بانَ بعدَه سَكَنِي )
( شبّهتُ ما أبلتِ الرياحُ مِن ... آثار حبيبي الثَّأَى بلا بَدَنِ )
( يا ريحُ لا تطمِسي الرموسَ ولا ... تمحِي رسومَ الديار والدمّنِ )
( حاشاك يا ريح أن تكونَ على ... العاشق عوناً لحادث الزَّمنِ )

أبو موسى الأعمى يندم على شعر قاله
كثر الناس فيه وغناه عمرو الغزال فقال أبو موسى الأعمى
( يا ربّ خُذني وخذ عَلِيَّا وخُذْ ... يا ريح ما تصنعين بالدِّمَنِ )
( عَجِّل إلى النار بالثلاثة والرابع ... عمرِو الغَزَال في قَرَنِ )
ثم ندم وقال هؤلاء أهل بيت وهم إخوتي ولا أحب أن أنشب بيني وبينهم عداوة وشرا فأتى أمية فقال إني قد أذنبت فيما بيني وبينكم ذنبا وقد جئتك مستجيرا بك من فتيانك فدعا بعلي بن أمية فقال يا هذا عمك أبو موسى قد أتاك معتذرا من الشعر الذي قاله قال وما هو فأنشده فقال قد ضجرنا نحن والله منه كما ضجرت أنت وأكثر وأنت آمن من أن يكون منا جواب وأتى محمد بن أمية فقال له مثل ذلك ومضى أبو موسى فأخذ علي بن أمية رقعة فكتب فيها
( كم شاعرٍ عند نفسه فَطِن ... ليس لدينا بالشاعر الفَطِنِ )
( قد أَخْرَجَتْ نفسَه بغُصّتها ... يا ريحُ ما تصنَعين بالدِّمنِ )
ودفع الرقعة إلى غلام له وقال ادفعها إلى غلام أبي موسى وقل له يقول لك مولاك اذكرني بهذا إذا انصرفت إلى المنزل فلما انصرف إلى المنزل أتاه غلامه بالرقعة فقال ما هذه فقال التي بعثت بها إلي فقال

والله ما بعثت إليك رقعة وأظن الفاسق قد فعلها ثم دعا ابنه فقرأها عليه فلما سمع ما فيها قال يا غلام لا تنزع عن البغلة
فرجع إلى علي بن أمية فقال نشدتك الله أن تزيد على ما كان فقال له أنت آمن
لحن عمرو الغزال في أبيات علي بن أمية رمل بالوسطى
وقال يوسف بن إبراهيم حدثني إبراهيم بن المهدي قال حدثني محمد بن أيوب المكي
أنه كان في خدمة عبيد الله بن جعفر بن المنصور وكان مستخفا لعمرو الغزال محبا له وكان عمرو يستحق ذلك بكل شيء إلا ما يدعيه ويتحقق به من صناعة الغناء وكان ظريفا أديبا نظيف الوجه واللباس معه كل ما يحتاج إليه من آلة الفتوة وكان صالح الغناء ما وقف بحيث يستحق ولم يدع ما يستحقه وأنه كان عند نفسه نظير ابن جامع وإبراهيم وطبقتهما لا يرى لهم عليه فضلا ولا يشك في أن صنعتهم مثل صنعته وكان عبيد الله قليل الفهم بالصناعة فكان يظن أنه قد ظفر منه بكنز من الكنوز فكان أحظى الناس عنده من استحسن غناء عمرو الغزال وصنعته ولم يكن في ندمائه من يفهم هذا ثم استزار عبيد الله بن جعفر أخاه عيسى وكان أفهم منه فقلت له استعن برأي أخيك في عمرو الغزال إنه أفهم منك وكانت أم جعفر كثيرا ما تسأل الرشيد تحويل أخيها عبيد الله وتقديمه والتنويه به فكان عيسى أخوه يعرف الرشيد أنه ضعيف عاجز لا يستحق ذلك فلما زاره عيسى أسمعه غناء عمرو

فسمع منه سخنة عين فأظهر من السرور والطرب أمرا عظيما ليزيد بذلك عبيد الله بصيرة فيه ويجعله عيسى سببا قويا يشهد عند الرشيد بضعف عقله وعلمت ما أراد وعرفت أن عمرا الغزال أول داخل على الرشيد فلما كان وقت العصر من اليوم الثاني لم نشعر إلا برسول الرشيد قد جاء يطلب عمرا الغزال فوجه إليه وأقبل يلومني ويقول ما أظنك إلا قد فرقت بيني وبين عمرو وكنت غنيا عن الجمع بينه وبين عيسى واتفق أن غنى عمرو الرشيد في هذا الشعر صنعته
( يا ريح ما تصنعين بالدِّمنِ ... كم لك من محوِ منظرٍ حسنِ )
وكان صوتا خفيفا مليحا فأطربه ووصله بألف دينار وصار في عداد مغني الرشيد إلا أنه كان يلازم عبيد الله إذا لم يكن له نوبة فأقبلت أتعجب من ذلك واتصلت خدمته إياه ثلاث سنين ثم انصرفا يوما من الشماسية مع عبيد الله بن جعفر فلقيه الخضر بن جبريل وكان في الناس في العسكر فعاتبه عبيد الله على تركه وانقطاعه عنه فقال والله ما أفعل ذلك جهلا بحقك ولا إخلالا بواجبك ولكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الإجتماع
قال وما هما ويحك قال أنت على نهاية السرف في محبة عمرو الغزال وأنا على نهاية السرف في بغضه وأنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به وأنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة مت وتقطعت نفسي غيظا وكمدا وما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبدا فقال له عبيد الله إذا كان هذا هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني فصر إلي آمنا ولم يجلس عبيد الله حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم أحدا ولا تستأذن علي لجلوسه ودخلنا فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه وأقبل عمرو الغزال خلفه فرآه من أقصى

الصحن فقال له عبيد الله ثكلتك أمك ألم أقل لك لا تدخل علي أحدا من خلق الله فقال له الحاجب امرأته طالق ثلاثا إن كان عنده أن عمرا عندك في هذا المجرى ولو جاء جبريل وميكائيل وكل من خلق الله لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو فإنك أمرتني أن آذن له خاصة وأن يدخل متى شاء وعلى كل حال
قال ولم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو فجلس على المائدة وتغير وجه الخضر وبانت الكراهة فيه فما أكل أكلا فيه خبز وتبين عبيد الله ذلك ورفعت المائدة وقدم النبيذ فجعل الخضر يشرب شرابا كثيرا لم أكن أعهده يشرب مثله فظننت أنه يريد بذلك أن يستتر من عمرو الغزال وعمرو يتغنى فلا يقتصر وكلما تغنى قال له عبيد الله لمن هذا الصوت يا حبيبي فيقول لي وعندنا يومئذ جوار مطربات محسنات وهو يقطع غناءهن بغنائه وتبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت هذا لي فوثب الخضر وكشف استه وخري في وسط المجلس على بساط خز لم أر لأحد مثله ثم قال إن كان هذا الغناء لك فهذا الخراء لي فغضب عبيد الله وقال له يا خضر أكنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا قال أي والله أيها الأمير ثم وضع رجليه على سلحه ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلا ومدبرا حتى خرج وقد لوثه وهو يقول هذا كله لي وتفرقنا عن المجلس على أقبح حال وأسوئها وشاع الخبر حتى بلغ الرشيد فضحك حتى غلب عليه ودعا الخضر وجعله من ندمائه منذ يومئذ وقال هذا أطيب خلق الله وانكشف عنده عوار عمرو الغزال واسترحنا منه وأمر أن يحجب عنه فسقط يومئذ وقد كان الجواري والغلمان أخذوه ولهجوا به وكان الرشيد يكايد به إبراهيم الموصلي وابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضا منذ يومئذ فما ذكر منه حرف

بعد ذلك اليوم إلا صنعته في
( يا ريحُ ما تصنعين بالدَّمنِ ... )
ولولا إعجاب الرشيد به لسقط أيضا

وصف مجلس لهو
حدثني الحسن بن علي عن محمد بن القاسم عن أبي هفان قال كنا في مجلس وعندنا قينة تغنينا وصاحب البيت يهواها فجعلت تكايده وتومىء إلى غيره بالمزح والتجميش وتغيظه بجهدها وهو يكاد يموت قلقا وهما وتنغص عليه يومه ولجت في أمرها ثم سقط المضراب عن يدها فأكبت على الأرض لتأخذه فضرطت ضرطة سمعها جميع من حضر وخجلت فلم تدر ما تقول فأقبلت على عشيقها فقال أيش تشتهي أن أغني لك فقال غني
( يا ريحُ ما تصنعين بالدّمَنِ ... )
فخجلت وضحك القوم وصاحب الدار حتى أفرطوا فبكت وقامت من المجلس وقالت أنتم والله قوم سفل ولعنة الله على من يعاشركم وغضبت وخرجت وكان علم الله سبب القطيعة بينهما وسلو ذلك الرجل عنها
أخبرني ابن عمار وعمي والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا الحسين بن الضحاك قال كنت في مجلس قد دعينا إليه ومعنا علي بن أمية فعلقت نفسه بقينة دعيت لنا يومئذ فأقبل عليها فقال لها أتغنين قوله

( خبريني مَن الرسولُ إليكِ ... واجعليه مَن لا ينمُّ عليكِ )
( وأشيري إليَّ من هو باللحظ ... ليَخفَى على الذين لَديكِ )
فقالت نعم وغنته لوقتها وزادت فيه هذا البيت فقال
( وأقلِّي المُزاحَ في المجلس اليومَ ... فإن المُزاح بين يديكِ )
ففطن لما أرادت وسر بذلك ثم أقبلت على خادم واقف فقالت له يا مسرور اسقني فسقاها وفطن ابن أمية أنها أرادت أن تعلمه أن مسرورا هو الرسول فخاطبه فوجده كما يريد وما زال ذلك الخادم يتردد في الرسائل بينهما

أخبار عمر الميداني
هو رجل من أهل بغداد كان ينزل الميدان فعرف به وكان لا يفارق محمدا وعليا ابني أمية وأبا حشيشة ينادمهم ويغني في أشعارهم وكان منزله قريبا منهم وهو أحد المحسنين المتقدمين في الصنعة والأداء
حدثني جحظة قال
سمعت ابن دقاق في منزل أبي العبيس بن حمدون يقول سمعت أبا حشيشة والمسدود ومن قبلهما من الطنبوريين فما سمعت منهم أصح غناء ولا أكثر تصرفا من عمر الميداني
إسحاق بن إبراهيم يطلب منه أن يغني بصوته
حدثني جحظة قال حدثني علي بن أمية قال
دخلت يوما على عمر الميداني وكان له بقال على باب داره ينادمه ولا يفارقه ويقارضه إذا أعسر ويتصرف في حوائجه فإذا حصلت له دراهم دفعها إليه يقبض منها ما رأى لا يسأله عن شيء فوجدت عنده يومئذ هذا البقال فقال لنا عمر معي أربعة دراهم تعطوني منها لعلف حماري درهما والثلاثة لكم فكلوا بها ما أحببتم
وعندي نبيذ وأنا أغنيكم والبقال يحضرنا

من الأبقال اليابسة ما في حانوته
فوجهنا بالبقال
فاشترى لنا بدرهم لحما
وبدرهم خبزا
وبدرهم فاكهة وريحانا
وجاءنا من حانوته بحوائج السكباج ونقل
فبينا نحن نتوقع الفراغ من القدر إذا بفرانق يدق الباب
فأدخله عمر فقال له أجب الأمير إسحاق بن إبراهيم
فحلف علينا عمر بالطلاق ألا نبرح ومضى هو وأكلنا السكباج وشربنا وانصرف عشاء
وبكر إلي رسوله في السحر أن صر إلي فصرت إليه فقلت أعطني خبرك من النعل إلى النعل
قال دخلت فوضعت بين يدي مائدة كأنها جزعة يمانية قد فرشت في عراصها الحبر فأكلت وسقيت رطلين ودفع إلي طنبور
فدخلت إلى إسحاق فوجدته في الصدر جالسا وخلفه ستارة
عن يمينه مخارق وعن يساره علويه
فقال لي أنت عمر الميداني فقلت نعم فقال أأكلت فقلت نعم قال ها هنا أو في منزلك فقلت بل ها هنا قال أحسنت فغن بصوتك الذي صنعته في
( يا شبيه الهلال كُلِّل في الأفْق أنجُما ... )
وهو رمل مطلق فغنيته فضرب الستارة
وقال قولوه أنتم فقالوه فقال لمخارق وعلويه كيف تسمعان فقالا هذا والله ذا
وذا ذاك فرددته مرارا
وشرب عليه
وقال لي أنا اليوم على خلوة ولك علي دعوات فانصرف اليوم بسلام
فخرجت ودفع إلي الغلام خمسة آلاف درهم
فهي هذه والله لا

استأثرت عليكم منها بدرهم
فلم نزل عنده نقصف حتى نفدت

صوت
( أمينَ الخالق البارِي ... وراعي كلِّ مخلوقِ )
( أدِرْ راحَك في المعشوق ... من راحة معشوقِ )
الشعر لأبي أيوب سليمان بن وهب
والغناء للقاسم بن زرزور ثقيل أول بالبنصر من جامع غنائه المأخوذ عن أبيه أبي القاسم عبيد الله بن القاسم

أخبار سليمان بن وهب وجمل من أحاديث
تصلح لهذا الكتاب
قد تقدم نسبه في أخبار الحسن بن وهب أخيه وانتماؤه في بني الحارث بن كعب
وأن أصلهم من قرية يقال لها سار قرمقا من طسوج خسر وسابور من سواد واسط وكان سليمان بن وهب ينكر الإنتساب إلى الحارث بن كعب على أخيه الحسن وعلى أبنه أبي الفضل أحمد بن سليمان بن وهب لشدة تعلقهما به أخبرني بذلك محمد بن يحيى وغيره من شيوخنا ومن مشيخة الكتاب
أخبرني الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى وعون بن محمد الكندي أن جعفر بن محمد كان وزير المهتدي في أول أمره فبلغه عنه تشيع فكرهه وقال هذا رافضي لا حاجة لي فيه واستوزر جعفر بن محمد بن عمار فلم يزل على وزارته حتى مضت سنة من خلافة المهتدي ثم قدم موسى بن بغا من الجبل وكاتبه سليمان بن وهب وابنه عبيد الله فاستوزر المهتدي سليمان بن وهب ولقب الوزير حقا لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة ولا مستقل بها
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى بن الجماز قال

لما استوزر سليمان بن وهب جلس للناس فدخل عليه شاعر يقال له هارون بن محمد البالسي فذكر مظلمة له ببلده ثم أنشده
( زِيدَ في قدرك العليِّ علوٌّ ... يابن وهبٍ من كاتبٍ ووزير )
( أسفَر الشرق منك والغرب عن ضوء ... من العدل فاق ضوءَ البدورِ )
( أنشر الناسَ غيثُكمْ بعدما كانوا ... رُفاتاً من قبلِ يومِ النّشورِ )
( شرَّد الجورَ عدلُكم فسرحْنا ... بينكم بين رَوْضة وسرورِ )
( أَنت عَيْن الإِمام والقِرْم موسى ... بك تفترّ عابسات الأمور )
فوقع في ظلماته بما أراد ووصله بمائتي دينار

يزيد المهلبي يمدحه فيقضي له حوائجه
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن الخصيب قال لعهدي بيزيد بن محمد المهلبي عند سليمان بن وهب بعد ما استوزره المهتدي وقد أجلسه إلى جانبه وهو ينشده قوله
( وهبتم لنا يا آلَ وهب مودّة ... فأبقت لنا جاهاً ومجداً يؤثَّلُ )
( فَمن كان للآثام والذلِّ أَرضُه ... فأرضُكُم للأجْر والعِزِّ منزِلُ )
( رأى الناسَ فوقَ المجد مقدارَ مجدِكم ... فقد سألوكم فوقَ ما كانَ يُسْأَلُ )
( يقصِّر عن مسعاكمُ كلُّ آخرٍ ... وما فاتكم ممّن تقدَّمَ أولُ )
( بلغتُ الذي قد كنتُ أمّلتُه لكم ... وإن كنتُ لم أبلغ بكم ما أُؤمِّل )
فقطع عليه سليمان الإنشاد وقال له يا أبا خالد فأنت والله عندي كما

قال عمارة بن عقيل لإبنه
( أُقهقهُ مسروراً إذا أُبتَ سالماً ... وأبكي من الإِشْفاق حين تغيبُ )
فقال له يزيد فيسمع مني الوزير آخر الشعر لا أوله وتمم فقال
( ومالِيَ حق واجبٌ غيرَ أنّني ... بجودكُم في حاجتي أتوسَّلُ )
( وأنّكُم أفضلتُم وبَررْتمُ ... وقد يستَتِمُّ النّعمةَ المتفَضِّلُ )
( وأوليتُم فِعلاً جميلاً مقدَّماً ... فعودوا فإن العَوْدَ بالحرّ أجملُ )
( وكم مُحلفٍ قد نال ما رام منكمُ ... ويمنعنا من مثلِ ذاكَ التجمُّلُ )
( وعوّدتمونا قبلَ أن نسألَ الغِنى ... ولا بذلَ للمعروف والوجهُ يُبذَلُ )
فقال له سليمان لا تبرح والله إلا بقضاء حوائجك كائنة ما كانت ولو لم أستفد من كتبة أمير المؤمنين إلا شكرك لرأيت جنابي بذلك ممرعا وغرسي مثمرا ثم وقع له في رقاع كثيرة كانت بين يديه
أخبرني محمد قال حدثنا الحزنبل قال لما ولى المهتدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرفته فقال أنا أعز الله الوزير خادمك المؤمل دولتك السعيد بأيامك المطوي القلب على ودك المنشور اللسان بمدحك المرتهن بشكر نعمتك وقد قال الشاعر
( وفَّيْتُ كلَّ أديب ودَّني ثَمناً ... إلا المؤمِّلَ دَولاتي وأيَّامي )
( فإنني ضامنٌ ألاَّ أكافئه ... إلا بتسويغه فَضْلي وإنعامي )

وإني لكما قال القيسي ما زلت أمتطي النهار إليك وأستدل بفضلك عليك حتى إذا جنني الليل فقبض البصر ومحا الأثر أقام بدني وسافر أملي والإجتهاد عذر وإذا بلغتك فهو مرادي فقط
فقال له سليمان لا عليك فإني عارف بوسيلتك محتاج إلى كفايتك ولست أؤخر عن أمري النظر في أمرك وتوليتك ما يحسن أثره عليك
وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال ما رأيت أظرف من سليمان بن وهب ولا أحسن أدبا خرجنا نتلقاه عند قدومه من الجبل مع موسى بن بغا فقال لي هات الآن يا أبا الحسن حدثني بعجائبكم بعدي وما أظنك تحدثني بأعجب من خبر ضرطة أبي وهب بحضرة القاضي وما سير من خبرها وما قيل فيها حتى قيل
( ومن العجائب أنها بشهادة ... الْقاضي فليس يُزيلُها الإِنكارُ )
وجعل يضحك

اعترافه بفضل ابن ثوابة
قال علي بن الحسين الأصبهاني حضرت أبا عبد الله الباقطاني وهو يتقلد ديوان المشرق وقد تقلد ابن أبي السلاسل ماسبذان ومهرجان قذف وجاءه يأخذ كتبه فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين العمال فقال ابن أبي السلاسل كأنك استكثرت لي هذا العمل أنت أيضا قد كنت تكتب لأبي العباس بن ثوابة ثم صرت صاحب ديوان فقال له الباقطاني يا جاهل يا مجنون لولا أنه قبيح علي مكافأة مثلك

لراجعت الوزير أيده الله في أمرك حتى أزيل يدك ومن لي أن أجد مثل ابن ثوابة في هذا الوقت فأكتب له ولا أريد الرياسة ثم أقبل علينا يحدثنا فقال دخلت مع أبي العباس بن ثوابة إلى المهتدي وكان سليمان بن وهب وزيره وكان يدخل إليه الوزير وأصحاب الدواوين والعمال والكتاب فيعملون بحضرته فيوقع إليهم في الأعمال فأمر سليمان أن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال فأخذ سليمان بيد أبي العباس بن ثوابة ثم قال له أنت اليوم أحد ذهنا مني فهلم نتعاون فدخلا بيتا ودخلت معهما وأخذ سليمان خمسة أنصاف وأبو العباس خمسة أنصاف أخر فكتبا الكتب التي أمر بها سليمان ما احتاج أحدهما إلى نسخه وقد أكمل كل واحد منهما ما كتب به صاحبه فاستحسنه وقرظه ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهتدي فقال له وقد قرأها أحسنت يا سليمان ونعم الرجل أنت لولا المعجل والمؤجل وكان سليمان إذا ولي عاملا أخذ منه مالا معجلا وأجل له مالا إلى أن يتسلم عمله فقال له يا أمير المؤمنين هذا قول لا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله وإن كان حقا وقد علمت أن الأصول محفوظة فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من بر من غير تحيف للرعية ولا نقص للأموال فقال إذا كان هكذا فلا بأس ثم قال له اكتب إلى فلان العامل يقبض ضيعة فلان المصروف المعتقل في يده بباقي ما عليه من المصادرة فقال له أبو العباس بن ثوابة كلنا يا أمير المؤمنين خدمك وأولياؤك وكلنا حاطب في حبلك وساع فيما أرضاك وأيد ملكك أفنمضي ما تأمر به على ما خيلت أم نقول بالحق قال بل قل الحق يا أحمد فقال يا أمير المؤمنين الملك يقين والمصادرة شك أفترى أن أزيل

اليقين بالشك قال لا قال فقد شهدت للرجل بالملك وصادرته عن شك فيما بينك وبينه وهل خانك أم لا فتجعل المصادرة صلحا فإذا قبضت ضيعته بهذا فقد أزلت اليقين بالشك فقال له صدقت ولكن كيف الوصول إلى المال فقال له أنت لا بد لك من عمال على أعمالك وكلهم يرتزق ويرتفق فيحوز رفقه ورزقه إلى منزله فاجعله أحد عمالك ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه ويسعفه معاملوه فيتخلص بنفسه وضيعته ويعود إليك مالك فأمر سليمان بن وهب بأن يفعل ذلك فلما خرجا من حضرة المهتدي قال له سليمان عهدي بهذا الرجل عدوك وكل واحد منكما يسعى على صاحبه فكيف زال ذلك حتى نبت عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها وتخلصت نفسه ونعمته فقال إنما كنت أعاديه وأسعى عليه وهو يقدر على الإنتصاف مني فأما وهو فقير إلي فلا
فهذا مما يحظره الدين والصناعة والمروءة
فقال له سليمان جزاك الله خيرا أما والله لأشكرن هذه النية لك ولأعتقدنك من أجلها أخا وصديقا ولأجعلن هذا الرجل لك عبدا ما بقي ثم قال الباقطاني أفمن كان هذا وزنه وفعله يعاب من كان يكتب له
أخبرني محمد بن يحيى الباقطاني قال حدثنا الحسين بن يحيى الباقطاني قال كنت آلف سليمان بن وهب كثيرا وأخدمه وأحادثه وكان يخصني ويأنس بي فأنشدني لنفسه يذكر نكبته في أيام الواثق

صوت
( نوائبُ الدهر أدَّبتْني ... وإِنما يُوعظُ الأريبُ )
( قد ذقتُ حُلواً وذقتُ مُراًّ ... كذاك عيشُ الفتى ضُروبُ )
( ما مَرّ بؤسٌ ولا نَعيمٌ ... إِلا وَلِي فيهما نصيبُ )
فيه رمل محدث لا أعرف صانعه
وذكر يحيى بن علي بن يحيى أن جفوة نالت أباه من سليمان بن وهب فكتب إليه
( جفاني أبو أيوب نَفسِي فداؤه ... فعاتبتُه كيما يَريعَ ويُعتِبَا )
( فوالله لولا الضنُّ مني بوُدّه ... لكان سُهيلٌ من عِتابِيه أقربَا )
فكتب إليه سليمان
( ذكرتَ جفَائي وهْو من غير شِيمتي ... وإنّي لدانٍ من بعيد تَقرَّبا )
( فكيف بخلٍّ لي أُضِنّ بوُدّه ... وأُصفيه وُدًّا ظاهراً ومُغَيَّبا )
( عليّ بن يحيى لا عدمتُ إخاءه ... فما زال في كلّ الخصال مهذَّبا )
( ولكنّ أَشْغالاً غَدت وتواتَرتْ ... فلما رأَيت الشغلَ عاق وأتعبَا )
( وَكنتُ إلى عذر الأخلاّء إنّهم ... كِرامٌ وإِن كان التواصلُ أَوجبَا )
( فإن يطّلبْ منّي عتابُك أوبةً ... ببرٍّ تجدْني بالأمانة مُعتِبا )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه قال

كان سليمان بن وهب وهو حدث يتعشق إبراهيم بن سوار بن شداد بن ميمون وكان من أحسن الناس وجها وأملحهم أدبا وظرفا وكان إبراهيم هذا يتعشق جاريةً مُغنّية يقال لها رُخاص فاجتمعوا يوماً فسكر إبراهيم ونام فرأت رخاص سليمان يقبله فلما انتبه لامته وقالت كيف أصفو لك وقد رأيت سليمان يقبلك فهجره إبراهيم فكتب إليه سليمان
( قل للذي ليس لي مِن ... جوَى هواه خَلاصُ )
( أَئِنْ لثمتُك سرَّاً ... وأبصرتْني رُخاصُ )
( وقال لي ذاكَ قوم ... على اغتيابي حِراصُ )
( هجَرتَني وأَتَتنْي ... شَتيمةٌ وانتقاصُ )
( وَسرَّ ذَاك أُناساً ... لهم علينا اختِرَاصُ )
( فهاكَ فاقتصَّ منّي ... إنّ الجُروحَ قِصاصُ )
وأهدي سليمان إلى رخاص هدايا كثيرة فكانوا بعد ذلك يتناوبون يوما عند سليمان ويوما عند إبراهيم ويوما عند رخاص

مساجلة بينه وبين أحد أصحابه
أخبرني الصولي عن أحمد بن الخصيب قال حضرت سليمان بن وهب وقد جاءته رقعة من بعض من وعده أن يصرّفه من أصحابه وفيها
( هَبني رضيتُ منكَ بالقليل ... أكانَ في التأويل والتنزيلِ )
( أو خبرٍ جاء عن الرّسول ... أو حُجةٍ في فِطَر العقولِ )
( مستحسَنٌ من رجل جليلِ ... عالٍ له حظُّ من الجميلِ )
( ينقصُ ما أشاع بالتطويل ... والقول دونَ الفعل بالتحصيل )

( ليس كذا وصف الفتى النّبيل ... )
قال فكتب له بولاية ناحية وأنفذ إليه مائتي دينار وكتب في رقعة
( ليس إلى الباطل من سبيلِ ... إلا لمن يَعدِل عن تعديلِ )
( وقد وَفيْنَا لكَ بالتحصيل ... فاطْو الذي كان عن الخليلِ )
( فضلاً عن الخليط والنزيل ... وَعُدْ من القول إلى الجميلِ )
( وعفَّ في الكثير والقليلِ ... تَحظَ من الرتبة بالجزيلِ )
أخبرني محمد بن يحيى عن عبد الله بن الحسين بن سعد عن بعض أهله أنه كتب إلى سليمان بن وهب وهو يتولى شيئا من أعمال الضياع
( أطال اللهُ إسعادَك ... في الآجل والعاجلْ )
( أما ترعى لمن أَمّل ... فضلاً حُرمة الآملْ )
( وعندي عاجل من رُشوةٍ ... يتبعها آجلْ )
( وأنت العالم الشاهدُ ... أني كاتب عاملْ )
( فولِّ الكافلَ الباذلَ ... دون العاجز الباخلْ )
( فما أُفشِي لك السرَّ ... فِعال الأخرقِ الجاهلْ )
قال فضحك وأجلسه وكتب في رقعته
( أَبِن لي ما الذي تخطبُ ... شرحاً أيها الباذِلْ )
( وما تُعطي إذا وُلِّيتَ ... تعجيلاً وما الآجِلْ )
( أفي الإِسلافِ تَنقيض ... أم الوزنُ له كاملْ )
( وفي الموقوفِ تضمينٌ ... أم الوعدُ به حاصِلْ )
( وهل ميقاته الغَلَّةُ ... في العام أو القابْل )
( أَبِنْ لي ذاك وارددْ رُقْعتي ... يا كاتباً عاملْ )

فلما قرأها الرجل قطع ما بينه وبينه ورد الرقعة عليه وولاه سليمان ما التمس
أخبرني محمد بن يحيى عن موسى البربري قال أهدى سليمان بن وهب إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر سلال رطب من ضيعته وكتب إليه يقول
( أذِن الأميرُ بفضله ... وبجوده وبنَيْلهِ )
( لوليِّه في بِرِّه ... بجَناه سُكَّرَ نَخلِهِ )
( فبعثْتُ منه بسَلّةٍ ... تحكِي حلاوةَ عَدلِه )
أخبرني محمد الباقطاني قال كتب سليمان بن وهب بقلم صلب فاعتمد عليه اعتمادا شديدا فصر القلم في يده فقا ل
( إذا ما حَددْنا وانتضيْنا قواطعاً ... أصمّ الذكيَّ السمع منها صريرُها )
( تظلّ المنايا والعطايا شوارعاً ... تدورُ بما شِئنا وتمضي أمُورُها )
( تَساقَطُ في القرطاس منها بدائعٌ ... كمثل اللآلي نَظمُها ونَثيرُها )
( تَقُودُ أبِيّاتِ البيان بفطنةٍ ... تَكَشَّفَ عن وجه البلاغة نورُها )
( إذا ما خطوبُ الدهر أرخت ستورها ... تجلت بنا عما تُسِرّ ستورُها )

رثاؤه أخاه الحسن
قال وأنشدني له يرثي أخاه الحسن
( مضى مذ مضى عِزُّ المعالي وأصبحت ... لآلي الحجا والقول ليس لها نظمُ )

( وأضحى نجيُّ الفِكر بعدَ فراقه ... إذا همَّ بالإِفصاح مَنْطقِه كَظْمُ )
وذكر ابن المسيب أن جماعة تذاكروا لما قبض الموفق على سليمان بن وهب وابنه عبد الله أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على ذخائر موسى بن بغا وودائعه فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة مالهما فقال ابن الرومي وكان حاضرا
( ألم ترَ أن المالَ يُتلِف ربَّه ... إذا جمَّ آتِيه وسُدَّ طريقُه )
( ومَن جاور الماء الغزير مَجمُّه ... وسُدّ مفيضُ الماء فهو غَريقُه )
ومات سليمان بن وهب في محبسه وهو مطالب فرثاه جماعة من الشعراء فممن جود في مرثيته البحتري حيث يقول
( هذا سليمان بنُ وهبٍ بعدما ... طالتْ مساعيه النجومَ سمُوكَا )
( وتنصَّف الدنيا يُدبِّر أمرَها ... سبعين حولاً قد تَمَمْن دكيكا )
( أغْرت به الأقدارُ بَغْتَ مُلِمَّةٌ ... ما كان رسُّ حديثِها مأفوكا )
( أبلغ عُبَيدَ الله بارعَ مَذْحِجٍ ... شرفاً ومُعطى فَضْلَها تَمليكا )
( ومتى وجدتَ الناس إلا تاركاً ... لحميمه في التُّرب أو مَتروكا )

( بلغَ الإِرادة إذ فداك بنفسه ... وتودُّ لو تفديه لا يفديكا )
( إن الرزيَّةَ في الفقيد فَإن هَفَا ... جَزعٌ بلُبِّك فالرزيَّةُ فِيكا )
( لو يَنجلي لكَ ذخرُها من نَكبةٍ ... جَلَلٍ لأضحككَ الذي يَبكيكا )

صوت
( لقد برّزَ الفضلُ بن يحيى ولم يزلْ ... يُسامي من الغاياتِ ما كان أَرفعَا )
( يراه أميرُ المؤمنين لملكه ... كفيلاً لِما أعطى من العهد مَقْنعَا )
( قضى بالتي شدّتْ لهارونَ مُلكه ... وأحيت ليحيى نفسَه فتمتّعا )
( فأمست بنو العباس بعد اختلافها ... وآل عليّ مثل زَنْديْ يدٍ معا )
( لئن كان من أسدى القريض أجاده ... لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا )
الشعر لأبان بن عبد الحميد اللاحقي يقوله في الفضل بن يحيى لما قدم يحيى بن عبد الله بن الحسين على أمان الرشيد وعهده
والغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي وكان الرشيد أمره أن يغني في هذا الشعر وإياه عني أبان بقوله
( لقد صاغ إبراهيمُ فيه فأَوقعا ... )

أخبار أبان بن عبد الحميد ونسبه
أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير مولى بني رقاش قال أبو عبيدة بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم واسمها رقاش وهم مالك وزيد مناة وعامر بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
أخبرني عمي قال حدثنا الحسين بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن مهران مولى البرامكة قال شكا مروان بن أبي حفصة إلى بعض إخوانه تغير الرشيد عليه وإمساك يده عنه فقال له ويحك أتشكو الرشيد بعد ما أعطاك قال أو تعجب من ذلك هذا أبان اللاحقي قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كله سوى ما أخذه منهم ومن أشباههم بعدها وكان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة ودمنة فجعله شعرا ليسهل حفظه عليهم وهو معروف أوله
( هذا كتابُ أدبٍ ومحنهْ ... وهو الذي يُدعَى كليلة ودمنهْ )
( فيه احتيالاتٌ وفية رُشدُ ... وهو كتابٌ وضعتْه الهِندُ )

فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار ولم يعطه جعفر شيئا وقال ألا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك وعمل أيضا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق وسماها ذات الحلل ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية والصحيح أنها لأبان

أبو نواس يهجوه وأبان يجيبه
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا أبو هفان قال حدثني الجماز قال كان يحيى بن خالد البرمكي قد جعل امتحان الشعراء وترتيبهم في الجوائز إلى أبان بن عبد الحميد فلم يرض أبو نواس المرتبة التي جعله فيها أبان فقال يهجوه بذلك

( جالستُ يوماً أَبانا ... لا درَّ درُّ أبانِ )
( حتى إذا ما صلاةُ ... الأولى دَنتْ لأوان )
( فقام ثَمّ بها ذو ... فَصاحة وبَيانِ )
( فكلَّما قال قُلنا ... إلى انقضاء الأذَان )
( فقال كيف شَهِدتم ... بذا بِغير عِيَان )
( لا أشهدُ الدّهرَ حتى ... تعاينَ العينانِ )
( فقلت سبحانَ رَبِّي ... فقال سبحانَ ماني )
فقال أبان يجيبه
( إن يكن هذا النُّواسيّ ... بلا ذنبٍ هَجانا )
( فلقد نِكناهُ حيناً ... وصفعنَاهُ زمانا )
( هانئ الجَرْبَى أبوه ... زادَه الله هَوانا )
( سائل العباسَ واسمعْ ... فيه من أمِّك شانا )
( عجنوا من جُلنَّارٍ ... ليَكيدُوك عِجَانا )
جلنار أم أبي نواس وتزوجها العباس بعد أبيه

كان وصديقه المعذل يتعابثان بالهجاء
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد قال كان أبان اللاحقي صديقا للمعذل بن غيلان وكانا مع صداقتهما

يتعابثان بالهجاء فيهجوه المعذل بالكفر وينسبه إلى الشؤم ويهجوه أبان وينسبه إلى الفساء الذي تهجى به عبد القيس وبالقصر وكان المعذل قصيرا فسعى في الإصلاح بينهما أبو عيينة المهلبي فقال له أخوه عبد الله وهو أسن منه يا أخي إن في هذين شرا كثيرا ولا بد من أن يخرجاه فدعهما ليكون شرهما بينهما وإلا فرقاه على الناس فقال أبان يهجو المعذل
( أحاجيكُمُ ما قوس لحم سِهامُها ... من الريح لم توصَلْ بِقدٍّ ولا عَقَب )
( وليست بشِريانٍ وليست بشَوْحَطٍ ... وليستْ بنبْعٍ لا وليستْ من الغَرَب )
( ألا تلك قوسُ الدّحدْحِيّ معذَّلٍ ... بها صار عبديّاً وتمَّ له النسَب )
( تصكُّ خياشيمَ الأنوفِ تعمُّداً ... وإن كان راميها يريد بها العُقَب )
( فإن تفتخر يوماً تميمٌ بحاجبٍ ... وبالقوس مضموناً لكسرى بها العرب )
( فحَيُّ ابن عمروٍ فاخرون بقَوْسه ... وأسهمه حتى يغلّب مَن غلبْ )
قال أبو قلابة فقال المعذل في جواب ذلك
( رأيتُ أباناً يوم فِطْرٍ مصلِّياً ... فقُسِّمَ فكري واستفزني الطرَبْ )

( وكيف يصلّي مظلمُ القلب دِينُه ... على دين ماني إِنّ ذاك من العجبْ )

هجوه لإبن النضير
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال كان لأبي النضير حوار يغنين ويخرجن إلى جلة أهل البصرة وكان أبان بن عبد الحميد يهجوه بذلك فمن ذلك قوله
( غضِب الأحمقُ إذ مازحتُه ... كيف لو كنا ذكرنا المَمْرغَة )
( أو ذكرنَا أنهُ لا عبَها ... لعبة الجِدّ بِمزح الدغدغهْ )
( سوَّد الله بخمسٍ وجهَه ... دُغنٍ أمثالِ طين الردَغَة )
( خُنفُساوان وبنتا جُعِلٍ ... والتي تفترُّ عنها وزغه )
( يكسر الشِّعرَ وإن عاتبتَه ... في مجالٍ قال هذا في اللغة )
وأنشدني عمي قال أنشدني الكراني قال أنشدني أبو إسماعيل اللاحقي لجده أبان في هجاء أبي النضير وأخبرني الصولي أنه وجدها بخط الكراني
( إذا قامت بواكيكَ ... وقد هَتِّكْنَ أستاركْ )
( أيُثنينَ على قبرك ... أم يلعنَّ أحجارَك )
( وما تترك في الدنيا ... إذا زرتَ غداً نارَك )

( ترى في سَقَرَ المثْوى ... وإبليس غداً جارَك )
( لمَنْ تَترك زِقَّيْك ... ودِنَّيْك وأوتارك )
( وخمساً من بنات الليل ... قد أُلبِسْنَ أطمارَكْ )
( تعالى اللُه ما أقبحَ ... إذ وَلَّيتَ أدبارَكْ )
وقال فيه أيضا
( قيانُ أبي النضير مثلَّجاتٌ ... غناءً مثل شعر أبي النضير )
( فلا هَمَدَانَ حين نصيف نبغِي ... ولا الماهَيْنِ أيام الحَرور )
( ولا نبغي بقرمِيسينَ رَوحا ... ولا نُبلى البغالَ من المسير )
( فإن رمت الغناء لديه فاصبر ... إذا ما جئته للزَّمهرير )

هجوه المعذل
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو خليفة وأبو ذكوان والحسن بن علي النهدي قالوا كان المعذل بن غيلان المهري يجالس عيسى بن جعفر بن المنصور وهو يلي حينئذ إمارة البصرة من قبل الرشيد فوهب للمعذل بن غيلان له بيضة عنبر وزنها أربعة أرطال فقال أبان بن عبد الحميد
( أَصلحك الله وقد أَصلحا ... إنّيَ لا آلوك أن أنصَحا )

( علام تُعطي منوَيْ عَنبرٍ ... وأحسِبُ الخازن قد أرجحا )
( من ليس من قِرد ولا كَلبة ... أَبهى ولا أَحْلى ولا أَملحا )
( رسول يأجوج أتى عنهم ... يخبر أن الروم قد أقبحا )
( ما بين رجليه إلى رأسه ... شِبْرٌ فلا شبَّ ولا أفلحا )
أخبرني الصولي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثني الحرمازي قال خرج أبان بن عبد الحميد من البصرة طالبا للإتصال بالبرامكة وكان الفضل بن يحيى غائبا فقصده فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه فتوسل إلى من وصّل له شعرا إليه وقيل إنه توسل إلى بعض بني هاشم ممن شخص مع الفضل وقاله له
( يا غزير الندى ويا جوهرَ الجوهر ... من آل هاشمٍ بالبطاح )
( إنّ ظَنِّي وليس يُخلِفُ ظَنِّي ... بك في حاجَتي سبيلُ النجاح )
( إن مِن دونها لمصُمَتُ بابٍ ... أنت من دون قفْله مِفتاحي )
( تاقت النفسُ يا خليلَ السَّماح ... نحو بحرِ الندى مُجارِي الرياح )
( ثم فكّرتُ كيف لي واستخرتُ الله ... عند الإِمساء والإِصباح )
( وامتدحتُ الأميرَ أصلحَه الله ... بشعرٍ مشهَّر الأوضاحِ )
فقال هات مديحك فأعطاه شعرا في الفضل في هذا الوزن وقافيته
( أنا مَن بُغيةُ الأميرِ وكنزٌ ... من كُنوزِ الأمير ذُو أرباح )
( كاتبٌ حاسبٌ خطيبٌ أديبٌ ... ناصحٌ زائدٌ على النُّصَّاح )
( شاعرٌ مُفلِقٌ أخفُّ من الرّيشة ... مِمّا يكون تَحت الجَنَاحِ )
وهي طويلة جدا يقول فيها
( إن دعاني الأميرُ عاين مِنِّي ... شَمَّرِيا كالبُلبُل الصَّيَّاح )

قال فدعا به ووصله ثم خص بالفضل وقدم معه فقرب من قلب يحيى بن خالد وصار صاحب الجماعة وزمام أمرهم

تقرب إلى الرشيد بهجاء آل أبي طالب
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي أن أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مديحه إليه فقالوا له وما تريد من ذلك فقال أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة فقالوا له إن لمروان مذهبا في هجاء آل أبي طالب وذمهم به يحظى وعليه يعطى فاسلكه حتى نفعل قال لا أستحل ذلك قالوا فما تصنع لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل فقال أبان
( نشَدتُ بحقّ الله مَن كان مسلما ... أَعُمُّ بما قد قلتُه العُجمَ والعرَبْ )
( أعَمُّ رسولِ الله أقربُ زلفةً ... لديه أم ابنُ العمّ في رتبة النسبْ )
( وأيُّهما أولى به وبعهده ... ومَن ذا له حقُّ التُّراث بما وجَبْ )
( فإن كان عبّاسٌ أحقّ بتلكمُ ... وكان عليٌّ بعد ذاكَ على سَببْ )
( فأبناء عباسٍ هُمُ يرثونه ... كما العمُّ لإبن العمِّ في الإِرث قد حَجَبْ )
وهي طويلة قد تركت ذكرها لما فيه فقال له الفضل ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب إليه من أبياتك فركب فأنشدها الرشيد فأمر لأبان بعشرين ألف درهم ثم أتصلت بعد ذلك خدمته الرشيد وخص به
أخبرنا أبو العباس بن عمار عن أبي العيناء عن أبي العباس بن رستم قال دخلت مع أبان بن عبد الحميد على عنان جارية الناطفي وهي في

خيش فقال لها أبان
( العيشُ في الصيف خَيشُ ... )
فقالت مسرعة
( إذ لا قتالٌ وجيشُ ... )
فأنشدتها أنا لجرير قوله
( ظللتُ أُواري صاحبيَّ صَبَابتي ... وهل عَلِقتني من هواك علوق )
فقالت مسرعة
( إِذا عقل الخوفُ اللسانَ تكلمتْ ... بأسراره عينٌ عليه نَطوقٌ )
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد بن عثمان بن لاحق قال أولم محمد بن خالد فدعا أبان بن عبد الحميد والعتبي وعبيد الله بن عمرو وسهل بن عبد الحميد والحكم بن قنبر فاحتبس عنهم الغداء فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال ألكم أعزكم الله حاجة يمازحهم بذلك فقال أبان
( حاجَتُنا فاعْجل علينَا بها ... من الحَشَاوى كلَّ طُردِين )
فقال ابن قنبر بعد ذلك
( ومن خبيصٍ قد حكَت عاشقاً ... صُفرته زِينَ بتلوين )

فقال عبيد الله بن عمرو
( وأتبِعوا ذاك بأبِّيَّةٍ ... فإنكم آيينُ آبينِ )
فقال سهل
( دعنا من الشعر وأوصافِه ... واعجَلْ علينَا بالأخاوينِ )
فأحضر الغداء وخلع عليهم ووصلهم

تشبيبه بغلام تركي
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن زياد قال حدثني أبان بن سعيد الحميدي بن أبان بن عبد الحميد قال اشترى جار لجدي أبان غلاما تركيا بألف دينار وكان أبان يهواه ويخفي ذلك عن مولاه فقال فيه
( ليتني والجاهلُ المغرورُ ... مَن غُرَّ بلَيْتِ )
( نلتُ مِمّن لا أسَمِّي ... وهو جاري بَيْتَ بَيْتِ )
( قُبلةً تُنعِش ميْتاً ... إنّني حَيٌّ كَمَيْتِ )
( نتساقى الريقَ بعد الشرب ... من راحٍ كُمَيتِ )
( لا أُسَمِّيه ولكنْ ... هو في كَيْتَ وكَيْتِ )
وكان اسمه يتك
وقال أبو الفيَّاض سوَّار بن أبي شُراعة

كان في جوار أبان بن عبد الحميد رجل من ثقيف يقال له محمد بن خالد وكان عدوا لأبان فتزوج بعمارة بنت عبد الوهاب الثقفي وهي أخت عبد المجيد الذي كان ابن مناذر يهواه ورثاه وهي مولاة جنان التي يشبب بها أبو نواس ويقول فيها
( خرجتْ تشهدُ الزفافَ جِنانٌ ... فاستمالت بحُسنها النَّظَّارهْ )
( قال أهلُ العَروس لما رأوْها ... ما دهانا بها سِوى عمَّارهْ )
قال وكانت موسرة فقال أبان بن عبد الحميد يهجوه ويحذرها منه
( لمّا رأَيت البَزَّ والشارهْ ... والفرشَ قد ضاقتْ به الحارهْ )
( واللوزَ والسكّرَ يُرمَى به ... من فوق ذي الدار وذي الدارهْ )
( وأحضروا المُلهِين لم يتركوا ... طبلاً ولا صاحبَ زَمّارهْ )
( قلت لماذا قيل أعجوبةٌ ... محمد زُوِّج عَمَّارهْ )
( لا عمَّرَ اللُه بها بيتَه ... ولا رأته مُدرِكاً ثارَهْ )
( ماذا رأتْ فيه وماذا رجَتْ ... وهي من النِّسوان مُخْتارهْ )
( أسودَ كالسّفُّود يُنسَى لدى التَّنُّور ... بل محراكُ قّيَّارهْ )
( يُجرِي على أولاده خمسةً ... أرغفةً كالريش طيَّارهْ )
( وأهله في الأرض من خَوفه ... إن أفرطوا في الأكل سيَّارهْ )
( ويحكِ فِرِّي وأعصي ذاكَ بي ... فهذه أختُك فرَّارهْ )

( إذا غَفا بالليل فاستيقظي ... ثم اطْفِري إنك طفَّارهْ )
( فصعّدت نائلةً سُلَّماً ... تخافُ أَن تصعدَه الفاره )
( سُرورُ غَرَّتْها فلا أفلحتْ ... فإنها اللّخناء غَرَّارهْ )
( لو نلتَ ما أبعدْتَ من ريقها ... إن لها نَفثةَ سحَّارهْ )
قال فلما بلغت قصيدته هذه عمارة هربت فحرم الثقفي من جهتها مالا عظيما قال والثلاثة الأبيات التي أولها
( فصعّدت نائلةً سلما ... )
زادها في القصيدة بعد أن هربت

ابن مناذر يهجوه
أخبرني الأخفش عن المبرد عن أبي وائلة قال كان أبان اللاحقي يولع بابن مناذر ويقول له إنما أنت شاعر في المراثي فإذا مت فلا ترثني فكثر ذلك من أبان عليه حتى أغضبه فقال فيه ابن مناذر
( غُنجُ أبانٍ ولينُ منطقه ... يخبر الناس أنه حَلَقي )
( داء به تُعَرفونَ كلُّكُم ... يا آل عبدِ الحميد في الأفُقِ )
( حتّى إذا ما المساء جلّلهُ ... كان أطِبَّاؤُه على الطُّرٌقِ )
( ففرِّجوا عنه بعضَ كربته ... بمسبطِرٍّ مطَّوق العُنٌق )

قال وهجاه بمثل هذه القصيدة ولم يجبه أبان خوفا منه وسعي بينهما فأمسك عنه
أخبرني الصولي عن محمد بن سعيد عن عيسى بن إسماعيل قال جلس أبان بن عبد الحميد ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال يقدح في الأنساب ولا نسب له
فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه لقد أغفل السلطان كل شيء حتى أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي وهو وأهله يهود وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف وأوضح الدلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوراة ولا يحفظ من القرآن ما يصلي به فبلغ ذلك أبانا فقال
( لا تَنِمَّنَّ عنْ صديقٍ حديثاً ... واستعِذْ من تسرُّر النمَّامِ )
( واخفضِ الصّوتَ إن نطقتَ بليلٍ ... والتفِتْ بالنهار قبلَ الكَلامِ )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري فذكروا أبان بن عبد الحميد فقالوا كان كافرا فغضب أبو زيد وقال كان جاري فما فقدت قرآنه في ليلة قط

يتنبأ لجاره بالموت المحتم
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ قال كان لأبان جار وكان يعاديه فاعتل علة طويلة وأرجف أبان بموته ثم صح من علته وخرج فجلس على بابه فكانت علته من السل وكان يكنى أبا الأطول فقال له أبان

( أَبا الأطولِ طوّلْتَ ... وما يُنجيك تطويلُ )
( بك السُّلُّ ولا والِله ... ما يبرأُ مسلولُ )
( فلا يغررْكَ من ... طِبِّك أَقوالٌ أَباطيلُ )
( أَرى فيكَ علاماتٍ ... وللأسباب تأويلُ )
( هُزالاً قد بَرى جسمَك ... والمسلولُ مهزولُ )
( وذِبَّاناً حوالَيْكَ ... فموقوذٌ ومقتولُ )
( وحُمَّى منكَ في الظّهر ... فأنت الدهرَ مَمْلولُ )
( وأعْلاماً سِوى ذاك ... تُواريها السّراويلُ )
( ولو بالفيلِ ممّا ... بك عُشرٌ ما نجا الفيلُ )
( فما هذا على فيكَ ... قُلاعٌ أم دَماميلُ )
( وما زال مُناجيك ... يُولَّي وهْو مَبْلُولُ )
( لئن كان من الجَوْف ... لقد سالَ بِك النيلُ )
( وذا داء يُزجَّيك ... فلا قالٌ ولا قِيلُ )
فلما أنشده هذا الشعر أرعد واضطرب ودخل منزله فما خرج منه بعد ذلك حتى مات

صوت
( ما تزال الدّيارُ في بُرقةِ النَّجد ... لسُعدى بقرْقرى تُبكِيني )

( قد تحيّلتُ كي أرى وجهَ سُعدى ... فإذا كل حيلة تعييني )
( قلتُ لما وقفتُ في سُدَّة الباب ... لسُعدى مَقالةَ المِسكين )
( افعلِي بي ياربَّةَ الخِدرِ خَيراً ... ومن الماءِ شَربةً فاسقيني )
( قالتِ الماءُ في الرَّكِيِّ كثيرٌ ... قلتُ ماءُ الركِّي لا يُرويني )
( طرحتْ دونيَ الستورَ وقالتْ ... كلَّ يوم بعلّةٍ تأتِيني )
الشعر لتويت اليمامي والغناء لأبي زكار الأعمى رمل بالوسطى ابتداؤه نشيد من رواية الهشامي

أخبار تويت ونسبه
تويت لقب واسمه عبد الملك بن عبد العزيز السلولي من أهل اليمامة لم يقع لي غير هذا وجدته بخط أبي العباس بن ثوابة عن عبد الله بن شبيب من أخبار رواها عنه
وتويت أحد الشعراء اليماميين من طبقة يحيى بن طالب وبني أبي حفصة وذويهم ولم يفد إلى خليفة ولا وجدت له مديحا في الأكابر والرؤساء فأخمل ذلك ذكره وكان شاعرا فصيحا نشأ باليمامة وتوفي بها
خبره مع سعدى وصديقاتها
قال عبد الله بن شبيب كان تويت يهوى أمرأة من أهل اليمامة يقال لها سعدى بنت أزهر وكان يقول فيها الشعر فبلغها شعره من وراء وراء ولم تره فمر بها يوما وهي مع أتراب لها فقلن هذا صاحبك وكان دميما فقامت إليه وقمن معها فضربنه وخرقن ثيابه فاستعدى عليهن فلم يعده الوالي فأنشأ يقول
( إنّ الغواني جرَحْنَ في جسدي ... من بعدِ ما قد فَرَغْنَ من كَبِدي )
( وقد شقَقْن الرَّداء ثُمَّتَ لم ... يُعدِ عليهِن صاحِبُ البلدِ )

( لم يُعدِني الأحولُ المشومُ وقد ... أبصرَ ما قد صَنَعن في جَسدي )
قال فلما جرى هذا بينه وبينها عقد له في قلبها رقة وكانت تتعرض له إذا مر بها واجتاز يوما بفنائها فلم تتوار عنه وأرته أنها لم تره فلما وقف مليا سترت وجهها بخمارها فقال تويت
( ألا أيها الثارُ الذي ليسَ نائماً ... على تِرةٍ إن مُتَّ من حُبِّها غَدا )
( خُذُوا بدمي سُعدى فسعدى مَنِيتُها ... غداةَ النَّقا صادتْ فُؤاداً مُقصَّدا )
( بآيةٍ ما ردَّت غداةَ لقِيتُها ... على طَرفِ عَيْنَيها الرداءَ المورَّدا )
قال ابن شبيب ولقيها راحلة نحو مكة حاجة فأخذ بخطام بعيرها وقال
( قل للتي بكرتْ تريد رَحيلا ... للحجّ إذ وجدتْ إليهِ سبيلا )
( ما تصنعين بحَجَّةٍ أو عُمْرةٍ ... لا تُقْبَلانِ وقد قَتلتِ قَتيلا )
( أَحيِي قتيلَكِ ثم حُجّي وانسكي ... فيكون حجُّكِ طاهراً مَقبولا )
فقالت له أرسل الخطام خيبك الله وقبحك فأرسله وسارت

هجا زوج سعدى يحيى بن أبي حفصة
قال عبد الله بن شبيب ثم تزوجها أبو الجنوب يحيى بن أبي حفصة فحجبها وانقطع ما كان بينها وبين تويت فطفق يهجو يحيى فقال
( عَناءٌ سِيقَ للقلب الطروبِ ... فقد حُجِبتْ معذِّبةُ القُلوبِ )
( أقول وقد عرفتُ لها محَلاًّ ... ففاضت عبرةُ العينِ السَّكوبِ )

( ألا يا دارَ سُعدَى كَلِّمِينا ... وما في دار سُعدَى من مُجيبِ )
( ولما ضمَّها وحوَى عليها ... تركتُ لها بعاقبةٍ نَصيبي )
( وقلت زِحامُ مثلكِ مثلَ يَحيى ... لعمركِ ليس بالرأي المُصيب )
( فما لك مثلُ لمَّتهِ تُدرَّى ... ومالك مثلُ بُخل أبي الجنوب )
( إذا فقد الرغيفَ بكى عليه ... وأتبع ذاك تَشقيقَ الجُيوب )
( يعذّب أهلَه في القَرْصِ حتى ... يظلوا منهُ في يومٍ عصيب )
وقال أيضا
( ألا في سبيل اللهِ نفسٌ تقسَّمتْ ... شَعاعاً وقلبٌ للحسانِ صديقُ )
( أفاقت قلوبٌ كُنّ عُذِّبْن بالهوَى ... زماناً وقلبي ما أَراهُ يُفِيقُ )
( سَرَقْتِ فؤادي ثم لا ترجعينَه ... وبعضُ الغواني للقولب سَروقُ )
( عَروفُ الهوى بالوعد حتى إذا جرتْ ... ببَيْنِك غِربانٌ لهن نَعينقُ )
( ورُدَّت جِمالُ الحي وانشقَّتِ العَصا ... وآذنَ بالبين المُشِتِّ صَدوقُ )
( ندمتِ على ألا تكوني جَزْيتنِي ... زَعمتِ وكلُّ الغانيات مَذُوق )
( لعلك أن ننأى جميعاً بغُلّة ... تذوقِين من حَرِّ الهوَى وأذوقُ )
( عصيتُ بكِ الناهين حتى لوَ أنَّني ... أموتُ لما ارعَى عليّ شَفيقُ )

من مختار قوله في سعدى
ومن مختار قول تويت في سعدى هذه ما أخذته من رواية عبد الله بن شبيب من قصيدة أولها

( سنرضِي في سُعيدى عاذِليْنَا ... بعاقبة وإن كُرمتْ علَيْنا )
يقول فيها
( لقيتُ سُعَيدَ تمشِي في جَوارٍ ... بجرعاءِ النَّقا فلقيتُ حَيْنَا )
( سلبنَ القلبَ ثم مضينَ عنَّي ... وقد ناديتُهنَّ فما لَوَيْنا )
( فقلتُ وقد بَقِيتُ بغير قَلب ... بقلبي يا سُعَيدى أين أيْنا )
( فما تجزينَ يا سُعدى مُحِبَّا ... يهيم بكم ولا تَقضينَ دَيْنا )
( فقالوا إذ شكوتَ المطلَ منها ... لعمركَ من سمعتَ له قَضَيْنا )
( ومَن هذا الذي إن جاء يشكُو ... إلينا الحبَّ من سَقَمٍ شفَيْنا )
( فهنَّ فواعلٌ بي غيرَ شكٍّ ... كما قبلي فَعلْنَ بصاحِبَيْنَا )
( بعروةَ والذي بسهامِ هِندٍ ... أُصِيب فما أقدْنَ ولا وَدَيْنَا )
ومن مختار قوله فيها
( سلِ الأطلالَ إن نفع السُّؤَالُ ... وإن لم يربَع الركبُ العِجال )
( عن الخَوْدِ التي قتلتكَ ظلماً ... وليس بها إذا بَطَشت قِتالُ )
( أصابك مُقلتانِ لها وجيدٌ ... وأشنبُ باردٌ عذبٌ زُلالُ )
( أعارَكِ ما تبَلْتِ به فُؤادي ... من العينَين والجيدِ الغَزالُ )

( ايا ثاراتِ مَن قتلتْه سُعدَى ... دَمِي لا تطلبُوه لها حَلالُ )
( أرِقُّ لها وأُشفِق بعد قَتلي ... على سُعدى وإن قلَّ النَّوالُ )
( وما جادتْ لنا يوماً ببذلٍ ... يمينٌ من سُعادَ ولا شِمالٌ )
ومن قوله فيها أيضا
( يا بنت أزهرَ إنّ ثأري طالبٌ ... بدمي غداً والثأرُ أجهدُ طالبِ )
( فإذا سمعتِ براكبٍ مُتعصِّبٍ ... ينعي قتيلَك فافْزَعِي للراكبِ )
( فلأَنتِ من بين الأنام رميتِني ... عن قَوس مَتْلَفَةٍ بسهمٍ صائبِ )
( لا تأمني شُمَّ الأنوفِ وتَرْتهِم ... وتركتِ صاحِبَهم كأمسِ الذاهبِ )
( من كان أصبحَ غالباً لهوى التي ... يهوَى فإن هواكِ أصبحَ غالِبي )
( قالت وأسبلتِ الدموع لتِربها ... لما اغتررتُ وأومأتْ بالحاجبِ )
( قولي له بالله يُطلِقُ رحلَه ... حتى يُزَوَّدَ أو يَروحَ بصاحبِ )
وقال فيها أيضا
( أرَّق العينَ من الشوق السَّهَرْ ... وصبا القلبُ إلى أمِّ عُمَرْ )
( واعتَرتْني فكرةٌ من حُبِّها ... ويح هذا القلب من طُول الفِكَرْ )
( قَدَرٌ سِيقَ فمن يَملكه ... أين مَن يملكُ أسبابَ القَدَرْ )
( كلُّ شيء نالني من حُبّها ... إن نَجتْ نفسي من الموتِ هَدَرْ )
وقال أيضا

( لا لَلرِّجال لِقَلبكِ المتطرِّفِ ... والعينُ إن تَرَ برْقَ نجْدٍ تَذْرِفِ )
( ولحاجةٍ يومَ العبير تعرَّضَتْ ... كبرتْ فرُدّ رسولُها لم يُسعفِ )
( يا بنت أزهر ما أراكِ مُثِيبَتِي ... خيراً على وُدِّي لكم وتلطُّفِي )
( إني وإن خُبِّرتِ أنّ حياتَنا ... في طرف عينك هكذا لم تطرِف )
( ويظلُّ قَلبِي من مخافة بِيْنِكمْ ... مثلَ الجناح معلَّقا في نَفْنَفِ )
( وليَظلّ في هَجر الأحبَّة طالِباً ... لرضاكِ مما جار إن لم تُسعفِ )
( كأخي الصَلاة يَغُرُّه من مائِها ... قِطعُ السرابِ جَرَى بقاعٍ صَفْصَفِ )
( أَهراقَ نُطفتَه فلما جاءها ... وجدَ الْمَنِيَّةَ عندَها لم تُخلِفِ )

صوت
( أمِنتَ بإِذن الله من كلِّ حادثٍ ... بقربِكَ من خير الورى يابنَ حارث )
( إمامٌ حوى إرثَ النبي محمدٍ ... فأكرِمْ به من إبنِ عّمٍّ وَوارث )
الشعر والغناء لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل بالبنصر مطلق من جامع أغانيه وعن الهشامي

أخبار محمد بن الحارث
مولى المنصور وأصله من الري من أولاد المرازبه وكان الحارث بن بسخنر أبوه رفيع القدر عند السلطان ومن وجوه قواده وولاه الهادي ويقال الرشيد الحرب والخراج بكور الأهواز كلها
فأخبرني حبيب المهلبي قال حدثني النوفلي عن محمد بن الحارث بن بسخنر قال كنت بالدير وكان رجل من أهلها يعرض علي الحوائج ويخدمني فيكرمني ويذكر قديمنا ويترحم على أبي فقال لي رجل من أهل تلك الناحية أتعرف سبب شكر هذا لأبيك قلت لا قال فإن أباه حدثني وكان يعرف بابن بانة بأن أباك الحارث بن بسخنّر اجتاز بهم يريد الأهواز فتلقاه بدجلة العوراء وأهدى له صقورا وبواشق صائدة فقال له الحق بي بالأهواز فقال له يوما إني نظرت في أمور الأعمال بالأهواز فلم أجد شيئا منها يرتفق منه بما قدرت أن أبرك به وقد ساومني التجار بالأهواز بالأرز وقد جعلته لك بالسعر الذي بذلوه وسيأتونني فأعلمهم بذلك فقلت نعم فجاؤوا وخلصوه منه بأربعين ألف دينار فصرت إلى الحارث فأعلمته فقال لي أرضيت بذلك فقلت نعم قال فانصرف

ولما قفل الحارث من الأهواز مر بالمدائن فلقيه الحسين بن محرز المدائني المغني فغناه
( قد علِم اللُه علا عرشُه ... أَنَّى إلى الحارث مُشتاقُ )
فقال له دعني من شوقك إلي وسلني حاجة فإني مبادر فقال له علي دين مائة ألف درهم فقال هي علي وأمر له بها وأصعد

سار على منهاج إبراهيم بن المهدي
وكان محمد بن الحارث من أصحاب إبراهيم بن المهدي والمتعصبين له على إسحاق وعن إبراهيم بن المهدي أخذ الغناء ومن بحره استقى وعلى منهاجه جرى
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن محمد بن هارون الهاشمي عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال كان المأمون قد ألزم أبي رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظ جدا وهزلا شعرا وغناء ثم لم يثق به فألزمه مكانه محمد بن الحارث بن بسخنر فقال له أيها الأمير قل ما شئت واصنع ما أحببت فوالله لا بلغت عنك أبدا إلا ما تحب وطالت صحبته له حتى أمنه وأنس به وكان محمد يغني بالمعزفة فنقله أبي إلى العود وواظب عليه حتى حذقه ثم قال له محمد بن الحارث يوما أنا عبدك وخريجك وصنيعتك فاخصصني بأن أروي عنك صنعتك ففعل وألقى عليه غناءه أجمع فأخذه عنه فما ذهب عليه شيء منه ولا شذ
وقال العتابي حدثني محمد بن أحمد بن المكي قال حدثني أبي قال

كان محمد بن الحارث قليل الصنعة وسمعته يغني الواثق في صنعته في شعر له مدحه به وهو
( أَمِنتَ بإِذنِ الله من كلِّ حادثٍ ... بقربك من خير الورى يابنَ حارثِ )
فأمر له بألفي دينار
وذكر علي بن محمد الهشامي عن حمدون بن إسماعيل قال كان محمد بن الحارث قد صنع هزجا في هذا الشعر

صوت
( أصبحتُ عبداً مُستَرقاً ... أبكِي الأُلى سكنُوا دِمَشْقا )
( أعطيتُهم قلبي فَمَنْ ... يَبْقى بلا قلبٍ فأَبقَى )
وطرحه على المسدود فغناه فاسحتسنه محمد بن الحارث منه لطيب مسموع المسدود ثم قال يا مسدود أتحب أن أهبه لك قال نعم قال قد فعلت فكان يغنيه ويدعيه وهو لمحمد بن الحارث
من ألحانه العشرة
وقال العتابي حدثني شروين المغني المدادي أن صنعة محمد بن الحارث بلغت عشرة أصوات وأنه أخذها كلها عنه وأن منها في طريقه الرمل قال هو أحسن ما صنعه
صوت
( أَيا من دَعاني فلَبّيتُه ... ببذْل الهوى وهو لا يَبذُلُ )
( يُدِلُّ عليَّ بِحُبِّي له ... فمن ذاك يفعَلُ ما يفعَلُ )
لحن محمد بن الحارث في هذا الصوت رمل مطلق وفيه ليزيد حوراء

ثقيل أول وفيه لسليم لحن وجدته في جميع أغانيه غير مجنس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد عن عمرو بن بانة قال كنت عند محمد بن الحارث بن بسخنر في منزله ونحن مصطبحون في يوم غيم فبينا نحن كذلك إذ جاءتنا رقعة عبد الله بن العباس الربيعي وقد اجتاز بنا مصعدا إلى سر من رأى وهو في سفينة ففضها محمد وقرأها وإذا فيها
( محمدُ قد جادتْ علينا بوَدْقِها ... سَحائبُ مُزنٍ برقُها يتهلَّلُ )
( ونحنُ من القاطول في شبه مَرْبع ... له مسرحٌ سَهلُ المحلَّة مُبْقِلُ )
( فَمُرْ فائزاً تَفديك نفسي يُغَنِّنِي ... أَعَنْ ظُعُنِ الحيّ الالَى كنتَ تسألُ )
( ولا تسقِني إلا حلالاً فإنّني ... أعافُ من الأشياء مالا يُحَلَّلُ )
فقام محمد بن الحارث مستعجلا حافيا حتى نزل إليه فتلقاه وحلف عليه حتى خرج معه وسار به إلى منزله فاصطبحا يومئذ وغناه فائز غلامه هذا الصوت وكان صوته عليه وغناه محمد بن الحارث وجواريه وكل من حضر يومئذ وغنانا عبد الله بن العباس الربيعي أيضا أصواتا وصنع يومئذ هذا الهزج فقال

( يا طيبَ يَوْمِي بالمَطيرة مُعمِلاً ... للكأس عندَ محمدِ بنِ الحارث )
( في فِتيةٍ لا يسمعونَ لعاذلٍ ... قولاً ولا لمسوِّفٍ أو رائِثِ )
حدثني وسواسه قال حدثني حماد بن إسحاق قال كان أبي يستحسن غناء جواري الحارث بن بسخنر ويعتمد على تعليمهن لجواريه وكان إذا اضطرب على واحدة منهن أو على غيرهن صوت أو وقع فيه اختلاف اعتمد على الرجوع فيه إليهن
ولقد غنى مخارق يوما بين يديه صوتا فتزايد فيه الزوائد التي كان يستعملها حتى اضطرب
فضحك أبي وقال يا أبا المهنأ قد ساء بعدي أدبك في غنائك فالزم عجائز الحارث بن بسخنر يقومن أوَدَك
صوت
( بنانُ يدٍ تُشير إلى بَنانِ ... تَجاوبتَا وما يتكلمّانِ )
( جرى الإِيماءُ بينَهما رَسولاً ... فأحكم وحْيَهُ المتناجيانِ )
( فلو أبصرتَه لغضضْتَ طَرْفاً ... عن المُتناجِيَيْن بلا لسانِ )
الشعر لماني الموسوس والغناء لعمر الميداني هزج وفيه لعريب لحن من الهزج أيضا

أخبار ماني الموسوس
هو رجل من أهل مصر يكنى أبا الحسن وأسمه محمد بن القاسم شاعر لين الشعر رقيقه لم يقل شيئا إلا في الغزل وماني لقب غلب عليه وكان قدم مدينة السلام ولقيه جماعة من شيوخنا منهم أبو العباس محمد بن عمار وأبو الحسن الأسدي وغيرهما فحدثني أبو العباس بن عمار قال
أنشد للعريان البصري
كان ماني يألفني وكان مليح الإنشاد حلوه رقيق الشعر غزله فكان ينشدني الشيء ثم يخالط فيقطعه وكان يوما جالسا إلى جنبي فأنشدني للعريان البصري
( ما أنصفْتك العُيونُ لم تَكِفِ ... وقد رأيتَ الحبيبَ لم يَقفِ )
( فابكِ دياراً حَلَّ الحبيبُ بها ... فَبَاعَ منْها الجفَاءَ باللَّطَفِ )
( ثم استعارتْ مسامعاً كَسد اللومُ ... عليها من عاشِقٍ كَلِفِ )
( كأنها إذْ تقنَّعَتْ بِبِلًى ... شَمطاءُ ما تستقلُّ من خَرَفِ )
( يا عينُ إِمّا أَريْتنِي سَكَناً ... غضبانَ يَزوِي بوجهِ مُنْصرِفِ )
( فمثِّلِيه للقلبِ مُبتسماً ... في شَخص راضٍ عليَّ مُنعطِفِ )

( إِن تَصفيه للقلب مُنقَبضاً ... فأنتِ أَشقَى منه به فَصِفِي )
( يُقال بالصّبرِ قتلُ ذي كلَفٍ ... كيف وصبري يموت من كَلَفي )
( إِذا دعا الشوقُ عَبرةً لِهوًى ... فأيّ جَفْنٍ يقول لا تَكِفِي )
( ومُسترادٍ لِلَّهْوِ تنفسح ... الْمُقْلَةُ في حافتيه مؤتَلفِ )
( قَصَرْتُ أَيامَه على نَفَرٍ ... لا مُنُنٍ بالنَّدى ولا أَسُفِ )
( بحيث إِن شئتَ أن ترى قمراً ... يسعى عليهم بالكأسِ ذا نُطَفِ )

معارضته للعريان
قال فسألته أن يمليها علي ففعل ثم قال اكتب فعارضه أبو الحسن المصري يعني ماني نفسه فقال
( أقفرَ مَغْنى الديار بالنَّجَفِ ... وحُلْت عما عهدتُ من لَطَفِ )
( طويتُ عنها الرضا مذمّمةً ... لمّا انطوى غضُّ عيشِها الأُنُفِ )
( حَللتُ عن سَكرة الصَّبابة من ... خوفِ إلهي بمعزِلٍ قُذُفِ )
( سَئِمتُ وِرْدَ الصِّبا فقد يَئستْ ... مني بناتُ الخدور والخَزَفِ )
( سلوتُ عن نُهَّدٍ نُسِبْن إلى ... حسنِ قَوامٍ واللحظ في وَطَفِ )
( يمددنَ حَبل الصِّبا لمن أَلِفَتْ ... رجلاه قِدِّ المُحول والدَّنَفِ )
( ومُدنَفٍ عادَ في النحول من الوَجد ... إلى مثلِ رقَّة الألِفِ )

( يشاركُ الطيرَ في النّحيب ولا ... يَشركَنه في النُّحول والْقَضَفِ )
( ومُسمِعاتٍ نَهكْنَ أعظُمَهُ ... فهو من الضيم غيرُ منتَصِفِ )
( مفتخراتٍ بالجَوْر عُجْباً كما ... يفخر أهلُ السّفاه بالجَنَفِ )
( وقهوةٍ من نِتاج قُطْرَبُّلٍ ... تخطَف عقلَ الفتى بلا عُنُفِ )
( ترجِعُ شَرخَ الشباب للخَرِفِ ... الفَاني وتُدنى الفتى من الشغف )
قال فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنا بإزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد ونظر إليه وكان شيخا ضعيف الجسم والصوت فأذن أذانا ضعيفاً بصوت مرتعش فصعد إليه ماني مسرعا حتى صار معه في رأس الصومعة ثم أخذ بلحيته فصفعه في صلعته صفعة ظننت أنه قد قلع رأسه وجاء لها صوت منكر شديد ثم قال له إذا صعدت المنارة لتؤذن فعطعط ولا تمطمط ثم نزل ومضى يعدو على وجهه
ولقيت عنتا من عتب الشيخ وشكواه إياي إلى أبي ومشايخ الجيران يقول لهم هذا ابن عمار يجيء بالمجانين فيكتب هذيانهم ويسلطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذنوا حتى صرت إلى منزله فاعتذرت وحلفت أني إنما أكتب شيئا من شعره وما عرفت ما عمله ولا أحيط به علما

منوسة الجارية تغني وهو يضيف
ونسخت من كتاب لإبن البراء حدثني أبي قال عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الصبوح وعنده الحسن بن محمد بن طالوت فقال له محمد كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به ونلذ في مجاورته فمن ترى أن يكون فقال ابن طالوت لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل قد خلا من إبرام المجالسين وبرئ من ثقل المؤانسين خفيف الوطأة إذا أدنيته سريع الوثبة إذا أمرته قال من هو قال ماني الموسوس قال ما أسأت الإختيار ثم تقدم إلى صاحب الشرطة بطلبه وإحضاره فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة بربع الكرخ فوافى به باب محمد بن عبد الله فأدخل ونظف وأخذ من شعره وألبس ثيابا نظافا وأدخل على محمد بن عبد الله فلما مثل بين يديه سلم فرد عليه وقال له أما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك فقال له ماني أعز الله الأمير الشوق شديد والود عتيد والحجاب صعب والبواب فظ ولو تسهل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة فقال له محمد لقد لطفت في الإستئذان وأمره بالجلوس
فجلس وقد كان أطعم قبل أن يدخل فأتى محمد بن عبد الله بجارية لأحدى بنات المهدي يقال لها منوسة وكان يحب السماع منها وكانت تكثر أن تكون عنده فكان أول ما غنته
( ولستُ بناسٍ إذ غدوا فتحمَّلوا ... دُموعي على الخدَّينِ من شدّة الوجْدِ )
( وقولي وقد زالتْ بعيني حُمولُهمْ ... بواكرُ تُحدَى لا يكنْ آخرَ العهدِ )
فقال ماني أيأذن لي الأمير قال في ماذا قال في أستحسان ما

أسمع قال نعم قال أحسنت والله فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين
( وقمتُ أدراي الدمعَ والقلبُ حائرٌ ... بمقلةِ موقوفٍ على الضَّرِّ والجَهْدِ )
( ولم يُعِدني هذا الأميرُ بعدْله ... على ظالمٍ قد لجَّ في الهَجر والصَّدِّ )
فقال له محمد ومن أي شيء استعديت يا ماني فاستحيا وقال لا من ظلم أيها الأمير ولكن الطرب حرك شوقا كان كامنا فظهر ثم غنت
( حَجبوها عن الرياح لأَني ... قلت يا ريحُ بلِّغيها السّلامَا )
( لو رضُوا بالحجاب هان ولكنْ ... منعوها يوم الرياحِ الكَلامَا )
قال فطرب محمد ودعا برطل فشربه فقال ماني ما كان على قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين البيتين
( فتنفَّست ثم قلتُ لطَيفي ... ويكَ إن زُرتَ طيفَها إِلماما )
( حَيِّها بالسلام سرًّا وإلاّ ... منعوها لشِقْوَتي أن تَناما )
فقال محمد أحسنت يا ماني ثم غنت
( يا خليليَّ ساعةً لا تَرِيما ... وعَلى ذي صبابةٍ فأَقيما )
( ما مررْنا بقصرِ زينَبَ إلا ... فضح الدمعُ سِرَّكَ المكتُوما )
قال ماني لولا رهبة الأمير لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما فقال محمد الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن كل رهبة فهات ما عندك فقال
( ظَبيةٌ كالهلال لو تلحظ الصخْرَ ... بطَرفٍ لغادَرتْه هَشيما )
( وإذا ما تبسّمتْ خِلتَ ما يبدوُ ... من الثَّغر لؤلؤاً مَنظوما )

فقال محمد إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسوا لحنا حسنا تغني به منوسة وأشباهها فإن كسيت شعرك من الألحان مثل ما غنت قبله طاب فقال ذلك إليها
فقال له ابن طالوت يا أبا الحسين كيف هي عندك في حسنها وجمالها وغنائها وأدبها قال هي غاية ينتهي إليها الوصف ثم يقف قال قل في ذلك شعرا فقال
( وكيفَ صبرُ النفس عن غادةٍ ... تَظلمُها إن قلتَ طاووسَهْ )
( وجُرتَ إن شبّهتَها بانةً ... في جنَّةِ الفردوس مَغروسَهْ )
( وغيرُ عدْلٍ إن عَدَلْنا بها ... لؤلؤةً في البحْر مَنْفُوسهْ )
( جلَّتْ عن الوصفِ فما فِكرةٌ ... تلحَقُها بالنعتِ مَحسوسَهْ )
فقال له ابن طالوت وجب شكرك يا ماني فساعدك دهرك وعطف عليك إلفك ونلت سرورك وفارقت محذورك والله يديم لنا ولك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا وطاب يومنا
فقال ماني
( مُدْمِنُ التخفيف مَوصولُ ... ومُطِيل اللَّبثُ مَمْلولُ )
فأنا أستودعكم الله ثم قام فانصرف فأمر له محمد بن عبد الله بصلة ثم كان كثيرا ما يبعث يطلبه إذا شرب فيبره ويصله ويقيم عنده

تشبيبه بغلام
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني المبرد قال

حدثني بعض الكتاب ممن كان ماني يلزمه ويكثر عنده قال لقيني يوما ماني بعد انقطاع طويل عني فقال ما قطعني عنك إلا أني هائم قلت بمن قال بمن إن شئت أن تراه الساعة رأيته فعذرتني قلت فأنا معك فمضى حتى وافى باب الطاق فأراني غلاما جميل الوجه بين يدي بزاز في حانوته فلما رآه الغلام عدا فدخل الحانوت ووقف ماني طويلا ينتظره فلم يخرج فأنشأ يقول
( ذَنبي إليه خضوعي حين أُبْصِرُه ... وطولُ شوقي إليه حينَ أذكُرُه )
( وما جرحْتُ بطرف العَين مُهجَتَه ... إِلا ومن كَبدي يقتصُّ مَحجرُه )
( نفسِي على بُخله تَفديه من قَمرٍ ... وإن رماني بذنبٍ ليسَ يغفِرُه )
( وعاذلٍ باصطبارِ القلبِ يأمرُني ... فقلتُ من أينَ لي قلبٌ أُصَبِّرُه )
ومضى يعدو ويصيح الموت مخبوء في الكتب

صوت
( وشادنٍ قلبي به مَعمودُ ... شيمتُه الهِجرانُ والصُّدودُ )
( لا أسأمُ الحِرص ولا يجودُ ... والصبرُ عن رُؤيته مفقودُ )
( زُنّارُه في خَصرِه مَعقودُ ... كأنه من كَبِدي مَقدودُ )
عروضه من - الرجز - والشعر لبكر بن خارجة والغناء للقاسم بن زرزور خفيف رمل بالوسطى

أخبار بكر بن خارجة
حرفته
كان بكر بن خارجة رجلا من أهل الكوفة مولى لبني أسد وكان وراقا ضيق العيش مقتصرا على التكسب من الوراقة وصرف أكثر ما يكسبه إلى النبيذ وكان معاقرا للشرب في منازل الخمارين وحاناتهم وكان طيب الشعر مليجاً مطبوعا طبعا ماجنا
فذكر أبو العنبس الصيمري أن محمد بن الحجاج حدثه قال رأيت بكر بن خارجة يبكر في كل يوم بقنينتين من شراب إلى خراب من خرابات الحيرة فلا يزال يشربه فيه على صوت هدهد كان يأوي إلى ذلك الخراب إلى أن يسكر ثم ينصرف قال وكان يتعشق ذلك الهدهد
وحدثني عمي عن ابن مهرويه عن علي بن عبد الله بن سعد قال كان بكر بن خارجة يتعشق غلاما نصرانيا يقال له عيسى بن البراء العبادي الصيرفي وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم ويسمي دياراتهم ويفضلهم

قال وحدثني من شهد دعبلا وقد أنشدني قوله في عيسى بن البراء النصراني العبادي
( زُنّارُه في خَصره معقودُ ... كأنه من كبدِي مقدودُ )
فقال دعبل ما يعلم الله أني حسدت أحدا قط كما حسدت بكرا على هذين البيتين

يبكي ويتحسر على الخمر المصبوبة في الطرق
وحدثني عمي عن الكراني قال حرم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة وركب فكسر نبيذهم فجاء بكر يشرب عندهم على عادته فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق فبكى طويلا وقال
( يا لقَومي لِما جنَى السلطانُ ... لا يكوننْ لما أهانَ الهوانُ )
( قهوةٌ في التراب من حَلَب الكَرْمِ ... عُقَاراً كأنَّها الزعفرانُ )
( قهوة من مكان سَوء لقد صادف ... سعدَ السعود ذاكَ المكانُ )
( من كُميتٍ يُبدي المِزاجُ لها ... لؤلؤَ نظمٍ والفصلُ منها جُمَانُ )
( فإذا ما اصطبحتُها صغُرت في ... القَدْر تختالُها هي الجرذانُ )
( كيفَ صبري عن بعضِ نفسي وهل يصْبرُ ... عن بعض نفسِه الإِنسانُ )

قال فأنشدتها الجاحظ فقال إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائما وما أقدر على ذلك إلا أن تعمدني وقد كان تقوس فعمدته فقام فكتبها قائما
وقال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الشعراء قال لي محمد بن الحجاج كانت الخمر قد أفسدت عقل بكر بن خارجة في آخر عمره وكان يمدح ويهجو بدرهم وبدرهمين ونحو هذا فاطرح وما رأيت قط أحفظ منه لكل شيء حسن ولا أروى منه للشعر
قال وأنشدني بعض أصحابنا له في حال فساد عقله
( هبْ لي فديتُك دِرهماً ... أو دِرهمَينِ إِلى الثّلاثَهْ )
( إني أحبُّ بني الطفيل ... ولا أحبُّ بَنِي عُلاثَهْ )
قال ابن الجراح حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني بعض أصحابنا الكوفيين قال حضرنا دعوة ليحيى بن أبي يوسف القاضي وبتنا عنده فنمت فما أنبهني إلا صياح بكر يستغيث من العطش فقلت له مالك فاشرب فالدار مليئة ماء قال أخاف قلت من أي شيء قال

في الدار كلب كبير فأخاف أن يظنني غزالا فيثب علي ويقطعني ويأكلني فقلت له ويحك يا بكر فالحمير أشبه منك بالغزال قم فاشرب إن كنت عطشان وأنت آمن وكان عقله قد فسد من كثرة الشراب
قال وأنشدني له وقد رأى صديقا له قرأ رقعة من صديق له آخر ثم حرقها
( لم يقو عندي على تحريق قرطاسي ... إِلا امرؤ قلبه من صخرة قاسي )
( إن القراطيس من قلبي بمنزلة ... تحويه كالسمع والعينين في الرأس )
ومما يغنى فيه من شعر بكر بن خارجة

صوت
( قلبي إلى ما ضرَّني داعي ... يُكْثِر أَحزاني وأوجاعي )
( لقَلّ ما أبقَى على ما أرى ... يوشك أن ينعَانِيَ الناعي )
( كيفَ احتراسي من عدوِّي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي )
( أسلمني الحبُّ وأشياعي ... لمَّا سعى بي عندها الساعي )
( لمَّا دعاني حبُّها دعوةً ... قلت له لبَّيْك من دَاعِ )
الغناء لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول وفيه لعبد الله بن العباس هزج جميعا عن الهشامي وقيل إن فيه لحنا لإبن جامع
وقد ذكر الصولي في أخبار العباس بن الأحنف وشعره أن هذه الأبيات

للعباس بن الأحنف وذكر محمد بن داود بن الجراح عن أبي هفان أنها لبكر بن خارجة
صوت
( وَيلي على ساكن شَطَّ الصَّراهْ ... من وجنتيه شِمتُ برْقَ الحياه )
( ما ينقضي من عجب فِكْرتي ... في خَصلة فرّط فيها الوُلاهْ )
( تركُ المحبينَ بلا حاكمٍ ... لم يُقعدوا للعاشقين القُضاهْ )
الشعر لإسماعيل القراطيسي والغناء لعباس بن مقام خفيف رمل بالوسطى

أخبار إسماعيل القراطيسي
بيته ملتقى العابثين
هو إسماعيل بن معمر الكوفي مولى الأشاعثة وكان مألفا للشعراء فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله
ويجتمعون عنده ويقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان ويساعدهم
وإياه يعني أبو العتاهية بقوله
( لقد أمسَى القراطِيسي ... رئيساً في الكَشاخين )
وفي هذه الأبيات التي فيها الغناء يقول القراطيسي
( وقد أتاني خبرٌ ساءني ... مقالها في السر واسَوْأتاهْ )
( أمثلَ هذا يبتغِي وصلَنا ... أما يَرى ذا وجهَه في المِراهْ )
أخبرني ابن عمار عن ابن مهرويه عن علي بن عمران قال قال

القراطيسي قلت للعباس بن الأحنف هل قلت في معنى قولي
( وقد أتاني خبرٌ ساءَني ... مقالها في السرّ واستوأتاه )
قال نعم وأنشدني
( جارية أعجبَها حسنُها ... فمثلُها في الناس لم يُخْلَقِ )
( خبَّرتُها أَنّي مُحِبٌّ لَها ... فأقبلتْ تضحكُ من منطقي )
( والتفتتْ نحو فتاةٍ لها ... كالرشأ الوَسنانِ في قُرطُقِِ )
( قالتْ لها قُولِي لهذا الفَتَى ... انظرْ إلى وجهكَ ثم أعشَقِ )
أخبرني الحسن بن مهرويه قال
حدثني أحمد بن بشر المرثدي قال مدح إسماعيل القراطيسي الفضل بن الربيع فحرمه فقال
( ألا قلْ للّذي لم يَهده ... اللَّهُ إلى نفعِ )
( لئن أخطأتُ في مدحيكَ ... ما أخْطأتَ في منعي )
( لقد أَحلَلْتُ حاجاتي ... بوادٍ غير ذي زَرْع )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد عن أبي هفان عن الجماز قال اجتمع يوما أبو نواس وحسين الخليع وأبو العتاهية في الحمام وهم مخمورون فقالوا أين نجتمع فقال القراطيسي
( ألاَ قوموا بأَجمعكم ... إِلى بيتِ القَراطيسي )
( لقد هيَّا لنا النزْلَ ... غلامٌ فارهٌ طُوسي )

( وقد هيّا الزُّجاجاتِ ... لنا من أرضِ بِلْقيس )
( وألواناً من الطيْرِ ... وألواناً منَ العِيس )
( وقيناتٍ من الحُور ... كأمثالِ الطواويس )
( فنيكوهُنَّ في ذاكم ... وفي طاعة إبليس )

صوت
( أبكي إذا غضبتْ حتى إذا رضيَتْ ... بكيتُ عند الرضا خوفاً من الغَضَبِ )
( فالويلُ إن رضِيتْ والعوْلُ إِن غَضِبَتْ ... إن لم يتمَّ الرضا فالقلب في تَعَب )
الشعر لأبي العبر الهاشمي أنشدنيه الأخفش وغيره من أصحابنا وذكره له محمد بن داود بن الجراح والغناء لعلية بنت المهدي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي

أخبار أبي العبر ونسبه
هو أبو العباس محمد بن أحمد ويلقب حمدونا الحامض بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان صالح الشعر مطبوعا يقول الشعر المستوي في أول عمره منذ أيام الأمين وهو غلام إلى أن ولي المتوكل الخلافة فترك الجد وعاد إلى الحمق والشهرة به وقد نيف على الخمسين ورأى أن شعره مع توسطه لا ينفق مع مشاهدته أبا تمام الطائي والبحتري وأبا السمط بن أبي حفصة ونظراءهم
كسب بالحمق أضعاف ما كسبه شعراء الجد
حدثني عم أبي عبد العزيز بن أحمد قال سمعت حمدون الحامض يذكر أن ابنه أبا العبر ولد بعد خمس سنين خلت من خلافة الرشيد قال وعمر إلى خلافة المتوكل وكسب بالحمق أضعاف ما كسبه كل شاعر كان في عصره بالجد ونفق نفاقا عظيما وكسب في أيام المتوكل مالا جليلا وله فيه أشعار حميدة يمدحه بها ويصف قصره وبرج الحمام والبركة كثيرة المحال مفرطة السقوط لا معنى لذكرها سيما وقد شهرت في الناس
فحدثني محمد بن أبي الأزهر قال حدثني الزبير بن بكار قال

قال لي عمي ويحك ألا يأنف الخليفة لإبن عمه هذا الجاهل مما قد شهر به نفسه وفضح عشيرته والله إنه لعر بني آدم جميعا فضلا عن أهله والأدنين أفلا يردعه ويمنعه من سوء اختياره
فقلت إنه ليس بجاهل كما تعتقد وإنما يتجاهل وإن له لأدبا صالحا وشعرا طيبا ثم أنشدته
( لا أقول اللهُ يَظلِمني ... كيف أشكو غيرَ مُتَّهمِ )
( وإذا ما الدّهرُ ضَعْضعني ... لم تجِدْني كافرَ النِّعم )
( قنعتْ نفسي بما رُزِقَتْ ... وتناهَتْ في العلا هِمَمي )
( لَيس لي مالٌ سوى كرمي ... وبه أَمْنِي من العَدَمِ )
فقال لي ويحك فلم لا يلزم هذا وشبهه فقلت له والله يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات لعذرته فإن ما استملحت له لم ينفق به فقال عمي وقد غضب أنا لا أعذره في هذا ولو حاز به الدنيا بأسرها لا عذرني الله إن عذرته إذن
وحدثني مدرك بن محمد الشيباني قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال قلت لأبي العبر ونحن في دار المتوكل ويحك أيش يحملك على هذا السخف الذي قد ملأت به الأرض خطبا وشعرا وأنت أديب ظريف مليح الشعر فقال لي يا كشخان أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت أنت أيضا شاعر فهم متكلم فلم تركت العلم وصنعت في الرقاعة نيفا وثلاثين كتابا أحب أن تخبرني لو نفق العقل أكنت تقدم علي البحتري وقد قال في الخليفة بالأمس

( عن أي ثَغرٍ تبْتسم ... وبأيّ طَرف تَحْتكم )
فلما خرجت أنت عليه وقلت
( في أي سَلْح تَرتطِمْ ... وبأي كف تلتطم )
( أدخلتَ رأسَكَ في الرَّحِم ... وعلمتَ أنك تَنْهزِم )
فأعطيت الجائزة وحرم وقربت وأبعد في حر أمك وحر أم كل عاقل معك فتركته وانصرفت
قال مدرك ثم قال لي أبو العنبس قد بلغني أنك تقول الشعر فإن قدرت أن تقوله جيدا جيدا وإلا فليكن بارداً بارداً مثل شعر أبي العبر وإياك والفاتر فإنه صفع كله

له مذهبان متناقضان
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال أنشدت أبا العبر
( ما الحبُّ إِلا قُبلَة ... أو غمزُ كفٍّ وعَضُدْ )
( أو كتُبٌ فيها رُقًى ... أَنفذُ من نَفْث العُقَدْ )
( مَن لم يكن ذا حُبَّه ... فإِنما يبغِي الولَدْ )
( ما الحبُّ إِلا هكذا ... إِن نُكِح الحبُّ فسَدْ )
فقال لي كذب المأبون وأكل من خراي رطلين وربعا بالميزان فقد أخطأ وأساء ألا قال كما قلت

( باضَ الحبُّ في قلْبي ... فواويلي إذا فَرَّخْ )
( وما ينفعُني حُبّي ... إِذا لم أَكنس البرْبَخْ )
( وإِن لم يطرح الأصلَعُ ... خُرجيه عَلَى المَطْبخْ )
ثم قال كيف ترى قلت عجبا من العجب قال ظننت أنك تقول لا فأبل يدي وأرفعها
ثم سكت فبادرت وانصرفت خوفا من شره
حدثني عبد العزيز بن أحمد عم أبي قال كان أبو العبر يجلس بسر من رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجان يكتبون عنه فكان يجلس على سلم وبين يديه بلاعة فيها ماء وحمأة وقد سد مجراها وبين يديه قصبة طويلة وعلى رأسه خف وفي رجليه قلنسيتان ومستمليه في جوف بئر وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى تكثر الجلبة ويقل السماع ويصيح مستمليه من جوف البئر من يكتب عذبك الله ثم يملي عليهم فإن ضحك أحد ممن حضر قاموا فصبوا على رأسه من ماء البلاعة إن كان وضيعا وإن كان ذا مروءة رشش عليه بالقصبة من مائها ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفض المجلس ولا يخرج منه حتى يغرم درهمين
قال وكانت كنيته أبا العباس فصيرها أبا العبر ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفا حتى مات وهي أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك
حدثني جحظة قال رأيت أبا العبر بسر من رأى وكان أبوه شيخا صالحا وكان لا يكلمه
فقال له بعض إخوانه لم هجرت إبنك قال

فضحني كما تعلمون بما يفعله بنفسه ثم لا يرضى بذلك حتى يهجنني ويؤذيني ويضحك الناس مني فقالوا له وأي شيء من ذاك وبماذا هجنك قال اجتاز علي منذ أيام ومعه سلم فقلت له ولأي شيء هذا معك فقال لا أقول لك فأخجلني وأضحك بي كل من كان عندي فلما أن كان بعد أيام اجتاز بي ومعه سمكة فقلت له أيش تعمل بهذه فقال أنيكها فحلفت لا أكلمه أبدا

مذهبه في الكتابة وفي الصيد
أخبرني عم أبي عبد العزيز قال سمعت رجلا سأل أبا العبر عن هذه المحالات التي لا يتكلم بها أي شيء أصلها قال أبكر فأجلس على الجسر ومعي دواة ودرج فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاحين والمكارين حتى أملأ الدرج من الوجهين ثم أقطعه عرضا وطولا وألصقه مخالفا فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه
أخبرني عمي قال رأيت أبا العبر واقفاً على بعض آجام سر من رأى وبيده اليسرى قوس جلاهق وعلى يده اليمنى باشق وعلى رأسه قطعة رثة في حبل مشدود بأنشوطة وهو عريان في أيره شعر مفتول مشدود فيه شص قد ألقاه في الماء للسمك وعلى شفته دوشاب ملطخ فقلت له خرب بيتك أيش هذا العمل فقال أصطاد ياكشخان

يا أحمق بجميع جوارحي إذا مر بي طائر رميته عن القوس وإن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق والرئة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق والدوشاب أصطاد به الذباب وأجعله في الشص فيطلبه السمك ويقع فيه والشص في أيري فإذا مرت به السمكة أحسست بها فأخرجتها
قال وكان المتوكل يرمي به في المنجنيق إلى الماء وعليه قميص حرير فإذا علا في الهواء صاح الطريق الطريق ثم يقع في الماء فتخرجه السباح قال وكان المتوكل يجلسه على الزلاقة فينحدر فيها حتى يقع في البركة ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك ففي ذلك يقول في بعض حماقاته
( ويأمر بي المَلِكْ ... فيطرحُني في البِرَكْ )
( ويصطادُني بالشّبكْ ... كأني من السّمكْ )
( ويضحك كك كك ككك ... ككك كك ككك كك ككك )

عبثه مع إسحاق بن إبراهيم
وحدثني جعفر بن قدامة قال قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين وجلس للناس فبعث إسحاق بن إبراهيم فأخذه وحبسه فصاح في الحبس لي نصيحة فأخرج ودعا به إسحاق فقال هات نصيحتك قال على أن تؤمنني قال نعم قال الكشكية أصلحك الله لا تطيب إلا بالكشك فضحك إسحاق وقال هو فيما أرى مجنون فقال لا هو امتخط حوت

قال أيش هو امتخط حوت ففهم ما قاله وتبسم ثم قال أظن أني فيك مأثوم قال لا ولكنك في ماء بصل فقال أخرجوه عني إلى لعنة الله ولا يقيم ببغداد فأرده إلى الحبس فعاد إلى سر من رأى

شعره في غلام أمرد
وله أشعار ملاح في الجد منها ما أنشدنيه الأخفش له يخاطب غلاما أمرد
( أيها الأمردُ المولع بالهجر ... أفِق ما كذا سبيلُ الرشادِ )
( فكأنّي بحُسن وجهكَ قد ألبس ... في عارضيْك ثوبَ حِداد )
( وكأني بعاشِقيك وقد بُدِّلت ... فيهم من خلطة بِبِعادِ )
( حين تنبو العيونُ عنكَ كما ينقبض ... السَّمعُ عن حديثٍ مُعادِ )
( فاغتنم قبل أن تصيرَ إلى كان ... وتُضحِي في جُملة الأضدادِ )
وأنشدني محمد بن داود بن الجراح له وفيه رمل طنبوري محدث أظنه لجحظة
صوت
( داء دفينٌ وهوًى بادي ... أظْلِم فَجازيك بمرِصَاد )
( يا واحدَ الأمة في حُسنه ... أَشمتَ بي صدُّك حُسَّادي )
( قد كدتُ مما نال منَّي الهوى ... أخْفَى على أعين عُوَّادي )
( عبدُكَ يُحْيي موتَه قُبلةٌ ... تجعلها خاتمةَ الزَّاد )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن علي الأنباري قال

كنا يوما في مجلس يزيد بن محمد المهلبي بسر من رأى فجرى ذكر أبي العبر فجعلوا يذكرون حماقاته وسقوطه فقلت ليزيد كيف كان عندك فقد رأيته فقال ما كان إلا أديبا فاضلا ولكنه رأى الحماقة أنفق وأنفع له فتحامق
فقلت له أنشدك أبياتا له أنشدنيها فانظر لو أراد دعبل فإنه أهجى أهل زماننا أن يقول في معناها ما قدر على أن يزيد على ما قال قال أنشدنيها فأنشدته قوله

هجوه قاضيين أعورين
( رأَيتُ من العجائبِ قاضيَيْن ... هما أُحدوثةٌ في الخافِقَين )
( هما اقتسما العمى نصفين فَذًّا ... كما اقتسما قضاءَ الجانِبَيْن )
( هما فألُ الزمان بِهُلك يَحيى ... إِذا أفتُتِح القضاء بأعورَين )
( وتحسب منهما من هزَّ رأْساً ... لينظر في مواريثٍ وديْن )
( كأنك قد جعلتَ عليه دَنَّا ... فتحت بِزالَه من فَردِ عَيْن )
فجعل يضحك من قوله ويعجب منه ثم كتب الأبيات
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن مهرويه قال حدثني ابن أبي أحمد قال قال لي أبو العبر إذا حدثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك حتى يكون هو في عمل وأنت في عمل
وقال محمد بن داود حدثني أبو عبد الله الدوادي قال

كان أبو العبر شديد البغض لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه وله في العلويين هجاء قبيح وكان سبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي صلوات الله عليه قولا قبيحا استحل به دمه فقتله في بعض الآجام وغرقه فيها

صوت
( لقد طال عهدي بالإِمام محمدٍ ... وما كنت أخشى أن يَطولَ به عهدي )
( فأصبحتُ ذا بُعْدٍ وداري قريبةٌ ... فواعجبا من قُرب داري ومن بُعدي )
( فياليت أنّ العِيدَ لي عادَ مرّةً ... فإني رأيت العِيدَ وجهك لي يُبْدِي )
( رأيتُك في بُرْدِ النبيّ محمد ... كبدر الدُّجَى بين العِمامة والبُرد )
الشعر لمروان بن أبي حفصة الأصغر والغناء لبنان خفيف رمل بالبنصر

أخبار مروان بن أبي حفصة الأصغر
تقرب إلى المتوكل بهجاء آل أبي طالب
هو مروان بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة
قد تقدم خبره ونسبه ويكنى مروان الأصغر أبا السمط وكان يتشبه بجده في شعره ويمدح المتوكل ويتقرب إليه بهجاء آل أبي طالب فتمكن منه وقرب إليه وكسب معه مالا كثيرا فلما أفضت الخلافة إلى المنتصر تجنب مذهب أبيه في كل أمر فطرده وحلف ألا يدخل إليه أبدا لما كان يسمعه منه في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
فأخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال دخل مروان بن أبي الجنوب على المتوكل فأنشده قوله
( سلام على جُمْلٍ وهيهات من جُملِ ... ويا حّبَّذا جُملٌ وإن صرمت حَبْلي )
وهي من مشهور شعره وفيها يقول
( أبوكم عليٌّ كان أفضلَ منكُم ... أباه ذوُو الشورى وكانوا ذَوِي عَدْلِ )

( وساءَ رسولَ الله إذ ساءَ بنتَه ... بخِطبته بنتَ اللعينِ أبي جهل )
( أراد عَلَى بنت النبّي تزوُّجاً ... ببنت عدو الله يا لك من فِعْل )
( فذمّ رسولُ الله صِهرَ أبيكُم ... على منبر الإِسلام بالمنطق الفَصلِ )
( وحكّم فيها حاكمَيْنِ أبوكُم ... هما خلعاه خلعَ ذي النَّعل للنّعل )
( وقد باعها من بعده الحسنُ ابنُه ... فقد أبطلا دعواكما الرَّثَّةَ الحبلِ )
( وخلَّيتُموها وهْيَ في غير أهلها ... وطالبتُمُوها حيث صارَتْ إِلى الأهل )
فوهب له المتوكل مائة ألف درهم
وقال محمد بن داود بن الجراح حدثني محمد بن القاسم قال حدثني أبو هاشم الجبائي قال دخل أبو السمط على المتوكل فأنشده قوله
( الصّهرُ ليس بوارثٍ ... والبنت لا ترِثُ الإِمامهْ )
( لو كان حقكُم لهمْ ... قامت على الناس القيامهْ )
( أَصبحت بين مُحبّكمْ ... والمبغِضين لكم عَلامهْ )
فحشا المتوكل فمه بجوهر لا يدرى ما قيمته
وحدثني أحمد بن جعفر جحظة قال أنشد أبو السمط المتوكل قوله
( إِني نَزلتُ بساحة المتوكلِ ... ونزلتُ في أَقصى دِيارِ الموْصِل )
فقال الفتح بن خاقان فإذا كانا متباعدين هكذا فمن كان الرسول فقال أبو العنبس الصيمري كانت له طيور هدى تحمل إليها كتبه فضحك المتوكل حتى ضرب برجله الأرض وأجزل صلة الصيمري ولم يعط

أبا السمط شيئا فماتا متهاجرين
أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا حماد بن أحمد البني قال أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب قال لما صرت إلى المتوكل على الله ومدحته ومدحت ولاة العهود الثلاثة وأنشدته ذلك في قولي
( سقَى الله نجداً والسَّلامُ على نجدِ ... ويا حبذا نجدٌ على النَّاي والبعدِ )
( نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونها ... لعلي أرى نجداً وهيهاتَ من نجدِ )
( بلادٌ بها قوم هَواهُمْ زِيارتي ... ولا شيء أشهى من زيارتهم عندي )
فلما استتممتها أمر لي بمائة ألف درهم وخمسين ثوبا من خاص ثيابه

عمر الطنبوري يغني بين يدي المتوكل
أخبرني علي بن أبي العباس بن أبي طلحة قال حدثني إبراهيم بن محمد أبو إسحاق قال حدثني خالد بن يزيد الكاتب قال دعاني المتوكل ليلة وقد غنى بين يديه عمر الطنبوري في قولي
( يا مقلتيّ قتلتماني ... فبقيتُ رحمةَ مَنْ يراني )
( مَنْ ذا ألوم وأنتما ... بِيَدِ الهوى أَسلمتُماني )
قال ولم يغنه البيت الثالث وهو
( لعبت بنا أَيدي الخطوب ... وغالنا رَيبُ الزمان )
كراهة أن يتطير منه فجعل ينظر إلي وأنا واقف ثم قال لي ويلك

يا خالد تهرب منا ونحن نطلبك وأنت في غيابات صبواتك وغزلك
يا غلام اسقه ثلاثة أقداح في القدح المبرم وهو الذي لا قرار له فإذا أخذه الإنسان لم يقدر أن يضعه من يده فقلت
( سيدي لا تَسْقني ... أكثر من رِطْل نبيذِ )
( إنَّ شُرْبي للذَّي ... يؤلمني غير لذيذِ )
فقال يا غلام إن لم يشرب فاصفعه فقلت
( سيدي حوصَلتِي ضَيْيِّقَهٌ ... عن شرب رطل )
( فمتى زدتُ عليه ... خفت أن يذهب عقلي )
فقال الفتح هو كما قال يا سيدي لا يطيق الشرب
وحضر ابن أبي حفصة فقال لنا المتوكل قولا على البديهة فقلت له هو يا سيدي شيخ الشعراء ومادحك وآباؤه مداح أبائك فأنشأ يقول
( يا ليت لي ألفَ عينٍ ... عيناي لا تكفِيان )
فقلت له سخنت عينك أنا لي عين واحدة أدعو الله عليها بالعمى منذ ستين سنة أقول
( يا عين أنت بليتني ... فأراحني الرحمن منك )
وأنت تتمنى ألف عين
ثم قال لي المتوكل اهجه فقلت إن الرجل لم يعرض لي فأقبل هو علي وقال قل ما شئت وما عسى أن تقول فقلت

( زاد البَردُ يومين ... فقال الناس ما القصَّهْ )
( فقلنا أَنشدونا شعر ... مروان بن أبي حفصه )
( فتى من شهوة النَّيْكِ ... بحلقوم استِه غصَّه )
( ولو يُرْمى ببَطِّيخٍ ... لوافى دُبْرَهُ رَصَّهْ )
قال فضحك المتوكل حتى صفق برجليه الأرض وأفحم مروان ثم أمر لي بجائزة فأخذتها وانصرفت

مدح المتوكل فأثابه
قال ابن أبي طاهر حدثني مروان بن أبي الجنوب قال لما استخلف المتوكل بعثت إلى ابن أبي دواد بقصيدة مدحته فيها وذكرت فيها ابن الزيات ببيتين هما
( وقيل ليَ الزياتُ لاقى حِمامَه ... فقلت أَتاني الله بالفَتْح وَالنصْرِ )
( لقد حفر الزياتُ بالبغي حُفرة ... فألقاه فيها الله بالكفر والغَدْرِ )
قال فذكرني ابن أبي دواد للمتوكل فأمر بإحضاري فقيل له نفاه الواثق إلى اليمامة وذلك لميله إليك
فقال يحمل فقال له ابن أبي دواد عليه ستة آلاف دينار دين فقال يكتب له بها إلى عامل اليمامة فكتب لي بها وبالحملان والمعونة فقدمت عليه وأنشدته قولي
صوت
( رحَل الشبابُ وليتَه لم يَرْحَلِ ... والشيبُ حَلَّ وليتَه لم يَحْلُلِ )

فلما بلغت إلى هذا البيت
( كانت خلافةُ جعفر كنبوّةٍ ... جاءت بلا طَلَبٍ ولا بتمَحُّلِ )
( وهبَ الإِلهُ لك الخلافة مثلَ ما ... ورهب النبوّة للنبيِّ المُرسَلِ )
فأمر لي بخمسين ألف درهم
وفي أول هذه القصيدة لعريب ثاني ثقيل بالوسطى
والصوت المذكور في أول هذه الأخبار من قصيدة قالها أبو السمط في المنتصر لما ولي الخلافة

المنتصر يرفض أن يأذن له بالدخول
أخبرني بخبره فيها جماعة من أصحابنا منهم محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن موسى قال حدثني القاسم بن محمد الكاتب قال حدثني المرزبان بن الفروران حاجب المنتصر قال إن مروان بن أبي حفصة الأصغر المكنى أبا السمط استأذن على المنتصر لما ولي الخلافة فقال والله لا أذنت للكافر ابن الزانية أليس هو القائل
( وحكَّم فيها حاكمين أبوكمُ ... هما خَلَعاه خلْع ذي النَّعْلِ للنّعْل )
قولوا له والله لا وصلت إلي أبدا فلما بلغه هذا القول عمل هذا الشعر
( لقد طال عهدي بالإِمام محمد ... وما كنتُ أَخْشَى أن يطول به عَهْدِي )
وذكر الأبيات كلها
قال وسأل بنان بن عمرو فصنع فيه لحنا وغنى به المنتصر فلما سمعه سأل عن قائلها فأخبرته فقال أما الوصول إلي فلا سبيل إليه ولكن أعطوه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45