كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

وقد أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا النوفلي علي بن محمد ابن سليمان أبو الحسن قال حدثني أبي
قال كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله - وكان يقال إنه يريد خلعك - فوجد بباب هشام يوما رقعة فيها شعر فدخل بها على هشام فقرئت عليه وهي
( تألَّقَ بَرْقٌ عندنا وتقابَلَتْ ... أَثَافٍ لِقدْرِ الحَرْبِ أخْشَى اقْتِبالَها )
( فدونَك قِدْرَ الحرْبِ وهي مُقِرَّةٌ ... لكفَّيك واجعل دُونَ قِدْرٍ جِعالها )
( ولن تنتهي أو يبلغ الأمْرَ حَدَّه ... فنَلْهَا برِسْل قبل ألاَّ تنالَها )
( فتجْشَم منها ما جَشَمْتَ مِنَ التي ... بسُوراء هرَّت نحو حالكَ حالها )
( تلافَ أمورَ الناسِ قبل تفاقُمٍ ... بعَقْدَةِ حَزْم لا تَخافُ انحلاَلَها )
( فما أبرم الأقوامُ يَوْماً لِحيلةٍ ... مِنَ الأمر إلاّ قلَّدُوكِ احتيالها )
( وقد تُخبِرُ الحَرْبُ العَوانُ بسرِّها ... - وإنْ لم تُبحْ - مَنْ لا يُرِيدُ سؤالَها )
فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا فأمر بالأبيات فقرئت عليهم فقال شعر من تشبه هذه الأبيات فأجمعوا جميعا من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي فقال هشام نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله ثم كتب إلى خالد بخبره وكتب إليه بالأبيات وخالد يومئذ بواسط

فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه وقال لأصحابه إنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعره هذا بشيء فأتي بقصيدته اللامية التي أولها
( أَلاَ هَلْ عَمٍ في رَأْيِهِ مُتأمِّلُ ... وهل مُدْبِرٌ بعد الإِساءةِ مُقْبِلُ ! )
فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول هذا شعر الكميت فإن كان قد صدق في هذا فقد صدق في ذاك
فلما قرئت على هشام اغتاظ فلما قال
( فيا ساسةً هاتوا لنا مِنْ جوابكم ... ففيكم لعَمْري ذُو أفانين مِقْوَلُ )
اشتد غيظه فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه ويهدم داره ويصلبه على ترابها
فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت فقال لقد كتب إلي أمير المؤمنين وإني لأكره أن أستفسد عشيرته وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد فأخرج غلاما له مولدا ظريفا فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة وقال إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك ولك علي بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك
فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها فدخل الحبس متنكرا فخبر الكميت بالقصة فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان ففعلت فقال ألبسيني لبسة النساء

ففعلت ثم قالت له أقبل فأقبل وأدبر فأدبر فقالت ما أرى إلا يبسا في منكبيك اذهب في حفظ الله
فخرج فمر بالسجان فظن أنه المرأة فلم يعرض له فنجا وأنشأ يقول
( خرجتُ خروجَ القِدْح قِدْحِ ابن مُقْبِل ... على الرّغْم من تلك النوابِح والمُشْلِي )
( عليَّ ثيابُ الغانيات وتحتَها ... عزيمةُ أمرٍ أشبَهَتْ سَلَّةَ النَّصْلِ )
وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم أنها في البيت وأن الكميت قد خرج فكتب بذلك إلى خالد فأجابه حرة كريمة آست ابن عمها بنفسها وأمر بتخليتها فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام فقال قصديته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول أسودين وأحمرينا
فهاج الكميت ذلك حتى قال
( ألاَ حُيّيتِ عنّا يا مَدِينا ... )
وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حيا من أحياء اليمن إلا هجاهم وتوارى وطلب فمضى إلى الشام فقال شعره الذي يقول فيه
( قِفْ بالدِّيار وقوفَ زائرْ ... )
في مسلمة بن عبد الملك ويقول

( يا مَسْلَمُ ابْنَ أبي الوليد ... ِ لميّتٍ إنْ شئتَ ناشِرْ )
( اليومَ صرتُ إلى أُميةّ ... والأمورُ إلى المصايِرْ )
قال أبو الحسن قال أبي إنما أراد اليوم صرت إلى أمية والأمور إلى مصايرها أي بني هاشم وبذلك احتج ابنه المستهل على أبي العباس حين عيره بقول أبيه هذا الشعر
فأذن له ليلا فسأله أن يجيره على هشام فقال إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد
فقال الكميت بئس الرأي أضيع دمي بين صبي وامرأة فهل غير هذا قال نعم مات معاوية ابن أمير المؤمنين وكان يحبه وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوما - وسمى يوما بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم فامض فاضرب بناءك عند قبره واستجر به فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار
ففعل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه فجاء هشام ومعه مسلمة فنظر إلى البناء فقال لبعض أعوانه انظر ما هذا فرجع فقال الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية ابن أمير المؤمنين فأمر بقتله فكلمه مسلمة وقال يا أمير المؤمنين إن إخفار الأموات عار على الأحياء فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره
فحدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ

قال حدثنا حجر بن عبد الجبار
قال خرجت الجعفرية على خالد بن عبد الله القسري وهو يخطب على المنبر وهو لا يعلم بهم فخرجوا في التبابين ينادون لبيك جعفر لبيك جعفر وعرف خالد خبرهم وهو يخطب على المنبر فدهش فلم يعلم ما يقول فزعا فقال أطعموني ماء ثم خرج الناس إليهم فأخذوا فجعل يجيء بهم إلى المسجد ويؤخذ طن قصب فيطلى بالنفط ويقال للرجل احتضنه ويضرب حتى يفعل ثم يحرق فحرقهم جميعا
فلما قدم يوسف بن عمر دخل عليه الكميت وقد مدحه بعد قتله زيد بن علي فأنشده قوله فيه
( خرجْتَ لهم تَمْشِي البَرَاح ولم تكُنْ ... كمَنْ حِصْنُه فيه الرِّتَاجُ المضبَّبُ )
( وما خالدٌ يستَطْعِمُ الماءَ فاغِراً ... بِعِدْلِكَ والدّاعِي إلى الموت ينعَب )

موت الكميت
قال والجند قيام على رأس يوسف بن عمر وهم يمانية فتعصبوا لخالد فوضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت فوجئوه بها وقالوا أتنشد

الأمير ولم تستأمره فلم يزل ينزفه الدم حتى مات
وأخبرني عمي قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا إبراهيم بن عبداللهً الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل قال
لما دخل الكميت بن زيد على هشام سلم ثم قال يا أمير المؤمنين غائب آب ومذنب تاب محا بالإنابة ذنبه وبالصدق كذبه والتوبة تذهب الحوبة ومثلك حلم عن ذي الجريمة وصفح عن ذي الريبة
فقال له هشام ما الذي نجاك من القسري قال صدق النية في التوبة قال ومن سن لك الغي وأورطك فيه قال الذي أغوى آدم فنسي ولم يجد له عزما فإن رأيت يا أمير المؤمنين فدتك نفسي إن تأذن لي بمحو الباطل بالحق بالاستماع لما قلته فأنشده
( ذَكَر القلبُ إلْفَهُ المذكورا ... وتلافَى مِنَ الشباب أخِيرا )
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي قال حدثني محمد بن أنس قال حدثني محمد بن سهل الأسدي قال
دخل المستهل بن الكميت على عبد الصمد بن علي فقال له من

أنت فأخبره فقال لا حياك الله ولا حيا أباك وهو الذي يقول
( فالآن صرتُ إلى أُميةّ ... َ والأمورُ إلى المصايِرْ )
قال فأطرقت استحياء مما قال وعرفت البيت قال ثم قال لي ارفع رأسك فلئن كان قال هذا فلقد قال
( بخاتمكم كرهاً تجوزُ أُمورُهم ... فلم أرَ غَصْباً مِثْله حين يُغْصَبُ )
قال فسلى بعض ما كان بي وحادثني ساعة ثم قال ما يعجبك من النساء يا مستهل قلت
( غَرّاء تَسْحَبُ مِنْ قيامٍ فَرْعَها ... جَثْلاُ يُزَيِّنه سَوادٌ أسْحَمُ )
( فكأنها فيه نَهارٌ مُشْرِقٌ ... وكأنَّهُ ليلٌ عَلَيْها مُظْلِمُ )
قال يا بني هذه لا تصاب إلا في الفردوس وأمر له بجائزة
أخبرني عمي قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إبراهيم بن عبد الله الخصاف الطلحي عن محمد بن أنس السلامي قال
كان هشام بن عبد الملك مشغوفا بجارية له يقال لها صدوف مدنية اشتريت له بمال جزيل فعتب عليها ذات يوم في شيء وهجرها وحلف ألا يبدأها بكلام فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك فقال مالي أراك مغموما يا أمير المؤمنين لا غمك الله فأخبره هشام بالقصة فأطرق الكميت ساعة ثم أنشأ يقول
( أعتبْت أمْ عَتَبَتْ عَلَيْكَ صَدُوفُ ... وعِتابُ مَثْلك مِثلَها تَشريفُ )
( لا تقعُدَنَّ تَلُومُ نفسَك دَائباً ... فيها وأنتَ بحُبِّها مشغوفُ )

( إنَّ الصريمةَ لا يقومُ بثِقْلها ... إلاَّ القوِيُّ بها وأنْتَ ضَعيفُ )
فقال هشام صدقت والله ونهض من مجلسه فدخل إليها ونهضت إليه فاعتنقته وانصرف الكميت فبعث إليه هشام بألف دينار وبعثت إليه بمثلها
قال الطلحي أخبرني حبيش بن الكميت أخو المستهل بن الكميت بن زيد قال

الكميت ويزيد بن عبد الملك
وفد الكميت بن زيد على يزيد بن عبد الملك فدخل عليه يوما وقد اشتريت له سلامة القس فأدخلها إليه والكميت حاضر فقال له يا أبا المستهل هذه جارية تباع أفترى أن نبتاعها قال إي والله يا أمير المؤمنين وما أرى أن لها مثلا في الدنيا فلا تفوتنك قال فصفها لي في شعر حتى أقبل رأيك فقال الكميت
( هي شمسُ النهار في الحُسْنِ إلاّ ... أنها فُضِّلت بِقَتْلِ الظِّرافِ )
( غَضّةٌ بَضَّةٌ رَخيم لَعُوبٌ ... وَعْثَةٌ المتن شًخْتة الأطراف )

( زانها دَلُّها وثَغْرٌ نَقِيُّ ... وحَدِيثٌ مُرَتّل غَيْر جَافِي )
( خُلِقَتْ فَوْقَ مُنْيَةِ المتمنّي ... فأقْبَلِ النُّصحَ يابْنَ عَبْدِ مَنَافِ )
فضحك يزيد وقال قد قبلنا نصحك يا أبا المستهل وأمر له بجائزة سنية
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال
مر الفرزدق بالكميت وهو ينشد - والكميت يومئذ صبي - فقال له الفرزدق يا غلام أيسرك أني أبوك فقال لا ولكن يسرني أن تكون أمي فحصر الفرزدق فأقبل على جلسائه وقال ما مر بي مثل هذا قط
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني بن عقدة قال أخبرنا علي بن محمد الحسيني قال حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الحمال قال حدثنا مصبح بن الهلقام قال حدثنا محمد بن سهل صاحب الكميت قال
دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فقال له جعلت فداك ألا أنشدك قال إنها أيام عظام قال إنها فيكم قال هات - وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب - فأنشده فكثر البكاء حين أتى على هذا البيت
( يُصيبُ به الرّامون عن قَوْسِ غيرِهم ... فيا آخراً سَدَّى له الغَيَّ أوّلُ )
فرفع أبو عبد الله - عليه السلام - يديه فقال اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن وأعطه حتى يرضى

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن كناسة حدثني صاعد مولى الكميت قال
دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - فأنشده الكميت قصيدته التي أولها
( مَنْ لقَلْبٍ متيَّم مُسْتهامِ ... )
فقال اللهم اغفر للكميت اللهم اغفر للكميت
قال ودخلنا يوما على أبي جعفر محمد بن علي فأعطانا ألف دينار وكسوة فقال له الكميت والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه ولكني أحببتكم للآخرة فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها وأما المال فلا أقبله فرده وقبل الثياب
قال ودخلنا على فاطمة بنت الحسين - عليهما السلام - فقالت هذا شاعرنا أهل البيت وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وسقت الكميت فشربه ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومركب فهملت عيناه وقال لا والله لا أقبلها إني لم أحبكم للدنيا
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي عن عبيد الله بن

محمد بن حبيب عن ابن كناسة قال
لما جاءت المسودة سخروا بالمستهل بن الكميت وحملوا عليه حملا ثقيلا وضربوه فمر ببني أسد فقال أترضون أن يفعل بي هذا الفعل قالوا له هؤلاء الذين يقول أبوك فيهم
( والمُصيبون بابَ ما أخطأ النَّاس ... ومُرْسُو قواعِد الإسلام )
قد أصابوا فيك فلا نكذب أباك
قال ودخل المستهل على أبي مسلم فقال له أبوك الذي كفر بعد إسلامه فقال كيف وهو الذي يقول
( بخاتمكم كرْهاً تجوزُ أمُورهم ... فلم أر غَصْباً مِثْلَه حين يُغْصَبُ )
فأطرق أبو مسلم مستحييا منه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا الحسن بن بشر السعدي قال
أخذ العسس المستهل بن الكميت في أيام أبي جعفر وكان الأمر صعبا فحبس فكتب إلى أبي جعفر يشكو حاله وكتب في آخر الرقعة
( لئِنْ نحن خِفْنا في زمانِ عدّوكم ... وخِفْناكُمُ إنَّ البلاء لراكِدُ )
فلما قرأها أبو جعفر قال صدق المستهل وأمر بتخليته
حدثني علي بن محمد بن علي إمام مسجد الكوفة قال أخبرنا إسماعيل ابن علي الخزاعي - ابن أخي دعبل - قال حدثني عمي دعبل بن علي قال
رأيت النبي في النوم فقال فقال لي مالك وللكميت بن زيد فقلت

يا رسول الله ما بيني وبينه إلا كما بين الشعراء فقال لا تفعل أليس هو القائل
( فلا زلتُ فيهم حيثُ يتّهمونَنِي ... ولا زِلْتُ في أشْياعِهم أتقلَّبُ )
فإن الله قد غفر له بهذا البيت قال فانتهيت عن الكميت بعدها
حدثني علي بن محمد قال حدثني إسماعيل بن علي قال حدثني إبراهيم بن سعد الأسدي قال
سمعت أبي يقول رأيت رسول الله في المنام فقال من أي الناس أنت قلت من العرب قال أعلم فمن أي العرب قلت من بني أسد قال من أسد بن خزيمة قلت نعم قال لي أهلالي أنت قلت نعم قال أتعرف الكميت بن زيد قلت يا رسول الله عمي ومن قبيلتي قال أتحفظ من شعره شيئا قلت نعم قال أنشدني
( طرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطرَبُ ... )
قال فأنشدته حتى بلغت إلى قوله
( فما لِيَ إلاَّ آلَ أحمدَ شِيعةً ... وما ليَ إلاَّ مشْعَب الحقِّ مَشْعَبُ )
فقال لي إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام وقل له قد غفر الله لك بهذه القصيدة
وجدت في كتاب بخط المرهبي الكوفي حدثني سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخراز قال
حدثني نصر بن مزاحم المنقري أنه رأى النبي في النوم وبين يديه رجل ينشده
( من لِقلْبِ مُتَيَّمٍ مُسْتَهامِ ... )

قال فسألت عنه فقيل لي هذا الكميت بن زيد الأسدي قال فجعل النبي يقول له جزاك الله خيرا وأثنى عليه
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي قال حدثني محمد بن أنس السلامي قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال

الكميت والفرزدق
جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له إني قد قلت شيئا فاسمعه مني يا أبا فراس قال هاته فأنشده قوله
( طرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشيبِ يَلْعَبُ )
( ولكِنْ إلى أهل الفضائلِ والنُّهَى ... وخَيْر بني حَوَّاء والخَيْرُ يُطْلَبُ )
فقال له قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا إلى ما تركت أنت الطرب إليه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا محمد بن علي النوفلي قال سمعت أبي يقول
لما قال الكميت بن زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي قال له صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك قال نفث على لساني فقلت شعرا فأحببت أن أعرضه عليك فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته وإن كان قبيحاً أمرتني بستره وكنت أولى من ستره علي فقال له الفرزدق أما عقلك فحسن وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك

فأنشدني ما قلت فأنشده
( طربْتُ وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ ... )
قال فقال لي فيم تطرب يابن أخي فقال
( ولا لعِباً مني وذو الشيب يَلْعب ... )
فقال بلى يابن أخي فالعب فإنك في أوان اللعب فقال
( ولم يُلْهِني دَارٌ ولا رسْم منزلٍ ... ولم يَتَطَرَّبْنِي بَنانٌ مخضَّب )
فقال ما يطربك يا بن أخي فقال
( ولا السانحاتُ البارِحاتُ عشيةً ... أمَرَّ سلِيمُ القَرْنِ أمْ مَرَّ أعْضَبُ )
فقال أجل لا تتطير فقال
( ولكِنْ إلى أهل الفضائلِ والنُّهَى ... وخَيْر بني حَوَّاء والخَيْرُ يُطْلَبُ )
فقال ومن هؤلاء ويحك فقال
( إلى النَّفَر البيضِ الَّذينَ بِحُبِّهم ... إلى اللهِ فيما نَابَنِي أتَقَرَّب )
قال أرحني ويحك من هؤلاء قال
( بَنِي هاشمٍ رَهْطِ النبيِّ فإنني ... بهم ولَهُمْ أرضَى مِرَاراً وأغْضَبُ )
( خَفَضْتُ لهم مِنّي جَنَاحَيْ مَوَدّةٍ ... إلى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أهلٌ ومَرْحَبُ )
( وكنتُ لهم مِنْ هؤلاء وهؤُلا ... مُحبّاً على أني أذَمُّ وأقْصَب )
( وأُرْمَى وأرْمِي بالعَدَاوَةْ أهْلَها ... وإني لأُوذَى فِيهمُ وأُؤنّب )
فقال له الفرزدق يا بن أخي أذع ثم أذع فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي
أخبرني الحسن قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني

أحمد بن بكير قال حدثني محمد بن أنس قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت عن الكميت قال
لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت له إني قلت قصيدة عارضت بها قصيدتك
( ما بال عيْنِك منها الماءُ ينسكب ... )
فقال لي وأي شيء قلت قال قلت
( هل أنتَ عن طَلَب الأيْفَاعِ مُنْقَلِبُ ... أم كيف يحسنُ مِنْ ذي الشَّيْبَةِ اللَّعِبُ )
حتى أنشدته إياها فقال لي ويحك إنك لتقول قولا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به ولا تقع بعيدا منه بل تقع قريبا قلت له أو تدري لم ذلك قال لا قلت لأنك تصف شيئا رأيته بعينك وأنا أصف شيئا وصف لي وليست المعاينة كالوصف قال فسكت
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إسماعيل بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل عن حماد الراوية قال
كانت للكميت جدتان أدركتا الجاهلية فكانتا تصفان له البادية وأمورها وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فيخبرانه عنه فمن هناك كان علمه

أخبرني الحسن بن القاسم البجلي الكوفي قال حدثنا علي بن إبراهيم ابن المعلى قال حدثنا محمد بن فضيل - يعني الصيرفي - عن أبي بكر الحضرمي قال
استأذنت للكميت على أبي جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - في أيام التشريق بمنى فأذن له فقال له الكميت جعلت فداك إني قلت فيكم شعرا أحب أن أنشدكه فقال يا كميت اذكر الله في هذه الأيام المعلومات وفي هذه الأيام المعدودات فأعاد عليه الكميت القول فرق له أبو جعفر عليه السلام فقال هات فأنشده قصيدته حتى بلغ
( يُصِيب به الرَّامُون عن قَوْسِ غيرهمْ ... فيا آخراً سَدَّى له الغَيَّ أوَّلُ )
فرفع أبو جعفر يديه إلى السماء وقال اللهم اغفر للكميت
أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزال الكوفي قال حدثني أبي قال حدثنا أرطأة بن حبيب عن فضيل الرسان عن ورد بن زيد أخي الكميت قال
أرسلني الكميت إلى أبي جعفر فقلت له إن الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع فتأذن له أن يمدح بني أمية قال نعم هو في حل فليقل ما شاء
أخبرني محمد بن العباس قال أخبرني عمي عن عبيد الله بن محمد بن حبيب عن ابن كناسة قال
مات ورد أخو الكميت فقيل للكميت ألا ترثي أخاك فقال مرثيته ومرزيته عندي سواء وإني لا أطيق أن أرثيه جزعا عليه

الكميت وروايته للحديث والتفسير
وقد روى الكميت بن زيد الحديث وروي عنه
أخبرني جعفر بن محمد بن عبيد بن عتبة في كتابه إلي قال حدثني الحسين بن محمد بن علي الأزدي قال حدثني الوليد بن صالح قال حدثني محمد بن سعيد بن عمير الصيداوي عن أبيه عن الكميت بن زيد قال
حدثني عكرمة أن عبد الله بن عباس بعثه مع الحسين بن علي - عليهما السلام - فجعل يهل حتى رمى جمرة العقبة أو حين رمى جمرة العقبة فسألته عن ذلك فأخبرني أن أباه فعله فحدثت به ابن عباس فقال لي لا أم لك أتسألني عن شيء أخبرك به الحسين بن علي عن أبيه والله إنها لسنة
أخبرنا أبو الحسن بن سراج الجاحظ قال حدثنا مسروق بن عبد الرحمن أبو صالح عن الحسن بن محمد بن أعين عن حفص بن محمد الأسدي قال حدثنا الكميت بن زيد عن مذكور مولى زينب عن زينب قالت
دخل علي النبي وأنا فضل قالت فقلت بيدي هكذا - واستترت - قالت فقال لي إن الله عز و جل زوجنيك
حدثني أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال حدثني أحمد بن سراج قال حدثني الحسن بن أيوب الخثعمي قال حدثنا فرات ابن حبيب الأسدي قال حدثني أبي حبيب بن أبي سليمان قال
حدثني الكميت بن زيد قال سألت أبا جعفر عن قول الله عز و جل ( إن

الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) قال دخلت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري فسأله أبي عنها فقال معاد آخرته الموت
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني محمد بن عبد الله بن مهران قال حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سبرة عن أبيه قال
دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال له يا كميت أنت القائل
( فالآن صِرُتُ إلى أُمَيةّ ... والأمورُ إلى المصايِرْ )
قال نعم قد قلت ولا والله ما أردت به إلا الدنيا ولقد عرفت فضلكم قال أما أن قلت ذلك فإن التقية لتحل
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا الحسن ابن عبد الرحمن الربعي قال حدثنا أحمد بن بكير الأسدي قال حدثنا محمد بن أنس السلامي الأسدي قال
سئل معاذ الهراء من أشعر الناس قال أمن الجاهليين أم من الإسلاميين قال بل من الجاهليين قال امرؤ القيس وزهير وعبيد بن

الأبرص قالوا فمن الإسلاميين قال الفرزدق وجرير والأخطل والراعي قال فقيل له يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت قال ذاك أشعر الأولين والآخرين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا أبو بكر الهذلي قال
لما خرج زيد بن علي كتب إلى الكميت اخرج معنا يا أعيمش ألست القائل
( ما أُبالي - إذا حُفِظْتَ أبا القاسم ... - فيكم ملامةَ اللوَّامِ )
فكتب إليه الكميت
( تجودُ لكم نفسي بما دُون وَثْبَةٍ ... تظَلُّ لها الغِرْبان حَوْلِي تَحْجِلُ )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عن عبيد الله بن محمد بن حبيب عن محمد بن كناسة قال
لما أنشد هشام بن عبد الملك قول الكميت
( فَبِهِمْ صرتَ للبعيد ابْنَ عَمٍّ ... واتّهمت القريبَ أيَّ اتّهامِ )
( مُبْدياً صفحتي على الموقف المُعلم ... بالله قوَّتي واعتصامي )
قال استقتل المرائي

الكميت يمدح خالد القسري
قال ودخل الكميت على خالد القسري فأنشده قوله فيه
( لو قِيل للجُود مَنْ حَلِيفُكِ ما ... إنْ كان إلاّ إليك ينْتَسِبُ )
( أنتَ أخوه وأنْتَ صًورَتُهُ ... والرأْسُ منه وغيرُك الذَّنَبُ )
( أحرَزْتَ فَضْل النِّضالِ في مَهَلٍ ... فَكُلُّ يوْمٍ بِكفّكَ القَصَبُ )
( لو أنّ كَعْباً وحاتماً نُشِرَا ... كانَا جميعاً مِنْ بَعْضِ ما تَهَبُ )
( لا تخلِفُ الوَعْدَ إنْ وَعدتَ ولا ... أنتَ عن المعُتَفِين تحتجِبُ )
( ما دُونَك اليوم من نَوالٍ ولا ... خَلْفَكَ للراغبين مُنْقَلبُ )
فأمر له بمائة ألف درهم
قال وحضر المستهل بن الكميت باب عيسى بن موسى - وكان يكرمه - فبلغه أنه قد غلب عليه الشراب فاستخف به وكان آخر من يدخل إلى عيسى بن موسى قوم يقال لهم الراشدون يؤذن لهم في القعود فأدخل المستهل معهم فقال
( ألم تر أنّي لما حضرت ... دُعِيتُ فكنتُ مع الرَّاشِدينا )
( ففُزْتُ بأحسنِ أسمائهم ... وأقْبَحِ منزلة الدَّاخلينا )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال

دخل الكميت على مخلد بن يزيد بن المهلب فأنشده
( قاد الجيوشَ لخمسَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... ولِدَاتُه عن ذاكَ في أشْغَالِ )
( قعَدتْ بهم هِمَّاتُهم وسَمْت به ... هِمَمُ الملوكِ وسَوْرَةُ الأبطالِ )
قال وقدام مخلد دراهم يقال لها الرويجة فقال خذ وقرك منها فقال له البغلة بالباب وهي أجلد مني فقال خذ وقرها فأخذ أربعة وعشرين ألف درهم فقيل لأبيه في ذلك فقال لا أرد مكرمة فعلها ابني
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو بكر الأموي قال حدثنا ابن فضيل قال
سمعت ابن شبرمة قال قلت للكميت إنك قلت في بني هاشم فأحسنت وقلت في بني أمية أفضل قال إني إذا قلت أحببت أن أحسن
وأخبرني الحسن بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا الحسن ابن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن معاوية عن ابن كناسة قال
كان الكميت بن زيد طويلا أصم ولم يكن حسن الصوت ولا جيد الإنشاد فكان إذا استنشد أمر ابنه المستهل فأنشد وكان فصيحا حسن الإنشاد

سبب هجائه أهل اليمن
أخبرني عمي وابن عمار قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا

إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل
أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن أن شاعرا من أهل الشام يقال له حكيم ابن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب - عليه السلام - وبني هاشم جميعا وكان منقطعا إلى بني أمية فانتدب له الكميت فهجاه وسبه فأجابه ولج الهجاء بينهما وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي - عليه السلام - لما وقع بينه وبين هشام وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي فهجا أهل اليمن جميعا إلا هذين فإنه قال في آل علقمة
( ولولا آلُ عَلْقَمَة اجتَدَعْنا ... بقايا من أُنوفِ مُصَلَّمينا )
وقال في إسماعيل
( فإنّ لإسماعيل حقّا وإننا ... له شاعِبُو الصَّدْع المُقَارِب للشّعْبِ )
وكانت لآل علقمة عنده يد لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام وأم إسماعيل من بني أسد فكف عنهما لذلك
قال الطلحي قال أبو سلمة حدثني محمد بن سهل قال قال الكلبي
( ما سَرَّني أنّ أُمِّي منْ بني أسدٍ ... وأنّ ربّيَ نَجَّانِي مِنَ النَّارِ )
( وأنهم زوّجوني من بناتهمُ ... وأنّ لي كل يوم ألف دِينار )
فأجابه الكميت
( يا كلب مالك أُمٌّ من بني أسد ... معروفة فاحترق يا كلبُ بالنار )
( لكنَّ أُمَّك مِنْ قوم شُنِئْت بهم ... قد قنَّعوك قناعَ الخِزْيِ والعارِ )

قال فقال له الكلبي
( لن يَبْرَحَ اللُّؤْمُ هذا الحيَّ من أسد ... حتى يُفَرَّقَ بين السَّبْتِ والأحدِ )
قال محمد بن أنس حدثني المستهل بن الكميت قال قلت لأبي يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت
( ألا يا سَلْم يا تِرْبي ... أفي أسماء من تِرْب )
وغمزت عليه فيها ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم فقال يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام فلو ذكرت عليا لترك ذكري وأقبل على هجائه فأكون قد عرضت عليا له ولا أجد له ناصرا من بني أمية ففخرت عليه ببني أمية وقلت إن نقضها علي قتلوه وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غما وغلبته فكان كما قال أمسك الكلبي عن جوابه فغلب عليه وأفحم الكلبي
وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته

صوت
( ألاَ يا سَلْم يا تِرْبِي ... أفي أسماء من تِرْب )
( ألاَ يا سَلم حُيّيِتِ ... سلِي عنِّي وعن صحبي )
( ألاَ يا سلم غَنّينا ... وإنْ هَيَّجْتُما حُبِّي )
( على حادِثة الأيام ... ِ لي نَصْباً من النَّصْبِ )

الغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن إبراهيم بن عبد الله الطلحي قال قال محمد بن سلمة
كان الكميت مداحا لأبان بن الوليد البجلي وكان أبان له محبا وإليه محسنا فمدح الكميت الحكم بن الصلت وهو يومئذ يخلف يوسف بن عمر بقصيدته التي أولها
( طربتَ وهاجكَ الشوقُ الحَثِيثُ ... )
فلما أنشده إياها وفرغ دعا الحكم بخازنه ليعطيه الجائزة ثم دعا بأبان بن الوليد فأدخل إليه وهو مكبل بالحديد فطالبه بالمال فالتفت الكميت فرآه فدمعت عيناه وأقبل على الحكم فقال أصلح الله الأمير اجعل جائزتي لأبان واحتسب بها له من هذا النجم فقال له الحكم قد فعلت ردوه إلى السجن فقال له أبان يا أبا المستهل ما حل له علي شيء بعد فقال الكميت للحكم أبي تسخر أصلح الله الأمير فقال الحكم كذب قد حل عليه المال ولو لم يحل لاحتسبنا له مما يحل فقال له حوشب بن يزيد الشيباني - وكان خليفة الحكم - أصلح الله الأمير أتشفع حمار بني أسد في عبد بجيلة فقال له

الكميت لئن قلت ذاك فوالله ما فررنا عن آبائنا حتى قتلوا ولا نكحنا حلائل آبائنا بعد أن ماتوا - وكان يقال إن حوشبا فر عن أبيه في بعض الحروب فقتل أبوه ونجا هو ويقال إنه وطىء جارية لأبيه بعد وفاته - فسكت حوشب مفحما خجلا فقال له الحكم ما كان تعرضك للسان الكميت
قال وفي حوشب يقول الشاعر
( نَجَّى حُشاشَتَه وأسلم شيْخَه ... لمَّا رأى وَقْعَ الأسِنَّة حَوْشَبُ )
قال الطلحي في هذا الخبر وحدثني إبراهيم بن علي الأسدي قال
التقت ريا بنت الكميت بن زيد وفاطمة بنت أبان بن الوليد بمكة وهما حاجتان فتساءلتا حتى تعارفتا فدفعت بنت أبان إلى بنت الكميت خلخالي ذهب كانا عليها فقالت لها بنت الكميت جزاكم الله خيرا يا آل أبان فما تتركون بركم بنا قديما ولا حديثا فقالت لها بنت أبان بل أنتم فجزاكم الله خيرا فإنا أعطيناكم ما يبيد ويفنى وأعطيتمونا من المجد والشرف ما يبقى أبدا ولا يبيد يتناشده الناس في المحافل فيحيي ميت الذكر ويرفع بقية العقب
أخبرني عمي وابن عمار قالا حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن زيد الخصاف الطلحي قال قال محمد بن سلمة بن أرتبيل

مولد الكميت وموته ووصيته
ولد الكميت أيام مقتل الحسين بن علي سنة ستين ومات في سنة ست وعشرين ومائة في خلافة مروان بن محمد وكان مبلغ شعره حين مات خمسة

آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتا
وقال يعقوب بن إسرائيل في رواية عمي خاصة عنه حدثت عن المستهل ابن الكميت أنه قال حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه ثم أفاق ففتح عينيه ثم قال اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد - ثلاثا ثم قال لي يا بني وددت أني لم أكن هجوت نساء بني كلب بهذا البيت
( مع العُضْروطِ والعُسَفَاء ألْقَوْا ... بَرَادِعَهُنّ غير مُحَصَّنِينا )
فعممتهن قذفا بالفجور والله ما خرجت بليل قط إلا خشيت أن أرمى بنجوم السماء لذلك
ثم قال يا بني إنه بلغني في الروايات أنه يحفر بظهر الكوفة خندق يخرج فيه الموتى من قبورهم وينبشون منها فيحولون إلى قبور غير قبورهم فلا تدفني في الظهر ولكن إذا مت فامض بي إلى موضع يقال له مكران فادفني فيه
فدفن في ذلك الموضع وكان أول من دفن فيه وهي مقبرة بني أسد إلى الساعة
قال المستهل ومات أبي في خلافة مروان بن محمد سنة ست وعشرين ومائة

صوت
( أستعين الذي بكفَّيْهِ نَفْعِي ... ورَجائي على الَّتي قَتَلَتَني )
( ولقد كنتُ قد عرفْتُ وأبصرت ... أُموراً لَوْ أنَّها نفَعَتْني )
( قلت إني أهوَى شِفَا ما أُلاقي ... مِن خطوب تتابعت فَدَحَتْني )
عروضه من السريع يقال إن الشعر لعمر والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن حماد عن أبيه وفيه لحن للهذلي
وقيل بل لحن ابن سريج للهذلي ذكر ذلك حبش وقيل بل هو مما نسب من غناء ابن سريج إلى الهذلي

خبر ابن سريج مع سكينة بنت الحسين عليهما السلام
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري قال حدثني شيخ من المكيين ووجدت هذا الخبر أيضا في بعض الكتب مرويا عن محمد بن سعد كاتب الواقدي عن مصعب عن شيخ من المكيين والرواية عنهما متفقة قال
كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يمينا ألا يغني ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي
ثم خرج وفيه بقية من العلة فأتى قبر النبي وموضع مصلاه فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة فكان أهل الغناء يأتونه مسلمين عليه فلا يأذن لهم في الجلوس والمحادثة فأقام بالمدينة حولا حتى لم يحس من علته بشيء وأراد الشخوص إلى مكة

وبلغ ذلك سكينة بنت الحسين فاغتمت اغتماما شديدا وضاق به ذرعها وكان أشعب يخدمها وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره وقالت لأشعب ويلك إن ابن سريج شاخص وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلا ولا كثيرا ويعز ذلك علي فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا فقال لها أشعب جعلت فداك وأنى لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه فارفعي طمعك والحسي تورك تنفعك حلاوة فمك
فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه وخنقنه حتى كادت نفسه أن تتلف ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا فخرج على أسوأ الحالات واغتم أشعب غما شديدا وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه فقيل من هذا فقال أشعب ففتحوا له فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق ومات الدم فيها فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له ما هذا ويحك فقص عليه القصة

امتناعه من الذهاب إليها وحيلة أشعب لإرغامه
فقال ابن سريج إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي

سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبدا
قال أشعب فديتك هي مولاتي ولا بد لي منها ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني قال ابن سريج كلا والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته
قال أشعب قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد وهي ساخطة علي فالله الله في وأنا أنشدك الله إلا تحملت هذا الإثم في فأبى عليه
فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها ونبه الجيران من رقادهم وأقام الناس من فرشهم ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم
فقال له ابن سريج ويلك ما هذا قال لئن لم تصر معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب ثم لأفتحنه ولأرينهم ما بي ولأعلمنهم أنك أردت تفعل كذا وكذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج اغرب أخزاك الله قال أشعب والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأته طالق ثلاثا وهو نحير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم

تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن

نجاح حيلة أشعب
فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه ويحك أما ترى ما وقعنا فيه وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا فقال لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب اخرج من منزل الرجل فقال رجلي مع رجلك فخرجا
فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب امض عني قال والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها فتغنيها سرا وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل
فوقع ابن سريج فيما حيلة له فيه فقال أمضي لا بارك الله فيك فمضى معه
فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل من هذا فقال أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت يا عبيد ما هذا الجفاء قال قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت أجل فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين دينارا وكسوة ثم قال لها ابن سريج أتأذنين بأبي أنت قالت وأين قال المنزل قالت برئت من جدي إن برحت داري ثلاثا وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهرا وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو

شفعت فيك أحدا

مجلس غناء بوجود عزة الميلاء
فقال عبيد وا سخنة عيناه وا ذهاب دنياه وا فضيحتاه ثم اندفع يغني
( أستعينُ الذي بكفّيْه نفْعِي ... ورَجائي على التي قَتَلَتْنِي )
الصوت المذكور آنفا فقالت له سكينة فهل عندك يا عبيد من صبر ثم أخرجت دملجا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا فرمت به إليه ثم قالت أقسمت عليك لما أدخلته في يدك ففعل ذلك ثم قالت لأشعب اذهب إلى عزة فأقرئها مني السلام وأعلمها أن عبيدا عندنا فلتأتنا متفضلة بالزيارة فأتاها أشعب فأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم ثم أمرت عبيدا وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها
فلما أصبحت هيىء لهم غداؤهم وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريبا منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها فلما فرغوا من الغداء قالت يا عز إن رأيت أن تغنينا فافعلي قالت إي وعيشك فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي
( حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تقادَمَ عَهْدُهُ ... أقوَى وأقفرَ بعد أمِّ الهَيْثَمِ )
( إن كنْتِ أزْمعْتِ الفِراقَ فإنما ... زُمَّت رِكابُكُم بلَيْلٍ مُظْلِم )

فقال ابن سريج أحسنت والله يا عزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته إلى عزة وقالت صيري هذا في يدك ففعلت ثم قالت لعبيد هات غننا فقال حسبك ما سمعت البارحة فقالت لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنا فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنى
( قالت مَنْ أنْتَ على ذُكْرٍ - فقلت لها ... أنا الذي ساقَهُ للحَيْن مقْدَارُ )
( قد حانَ منكِ - فلا تَبْعُدْ بك الدار - ... بَيْنٌ وفي البَيْنِ للمَتْبُولِ إضْرَارُ )
ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحارث بن خالد - ولابن محرز فيه لحن - ولحن عزة أحسنهما
( وقرَّتْ بها عَيْنِي وقد كنتُ قبْلَها ... كثيرَ البكاءِ مُشْفِقاً مِنْ صُدُودِها )
( وَبِشْرَة خَوْدٌ مِثْل تمثالِ بيعَةٍ ... تظلُّ النصارَى حوله يَوْمَ عِيدها )
قال ابن سريج والله ما سمعت مثل هذا قط حسنا ولا طيبا
ثم قالت لابن سريج هات فاندفع يغني
( أرقتُ فلم أنَمْ طَرَبا ... وبِتّ مُسَهَّداً نَصِبا )
( لِطَيْفِ أحبِّ خَلْقِ الله ... إنساناً وإنْ غَضِبا )
( فلم أرددْ مقالَتَها ... ولم أكُ عاتِباً عَتَبا )
( ولكنْ صرَّمَتْ حَبْلِي ... فأمسّى الحَبْلُ مُنْقَضِيا )

فقالت سكينة قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته
ثم قالت لعزة إذا شئت ودعت لها بحلة ولابن سريج بمثلها فانصرفت عزة وأقام ابن سريج حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعا

نسبة الأصوات التي في هذا الخبر
منها
صوت
( حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تقادم عَهْدُه ... أقوَى وأقفر بعد أمِّ الهَيْثَمِ )
الشعر لعنترة بن شداد العبسي والغناء لعزة الميلاء وقد كتب ذلك في أول هذه القصيدة وسائر ما يغنى فيها
ومنها
صوت
( أرقتُ فلم أنَمْ طَرَبا ... وبِتّ مُسَهَّداً نَصِبا )
( لِطَيْفِ أحبِّ خَلْقِ الله ... إنساناً وإنْ غَضِبا )
( إلى نَفْسي وأوْجَهِهم ... وإن أمْسَى قَدِ احتجبا )
( وصرَّمَ حَبْلنا ظُلْماً ... لبلْغَةِ كاشحٍ كذَبا )
عروضه من الوافر الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر
ومنها قوله

صوت
( قد حانَ منكِ - فلا تَبْعُدْ بك الدار ... بَيْنٌ وفي البَيْنِ للمَتْبُولِ إضْرَارُ )
( قالت مَنْ أنْتَ على ذُكْرٍ - فقلت لها ... أنا الذي ساقَنيُ للحَيْن مقْدَارُ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى
ومنها الصوت الذي أوله
( وقَرَّتْ بها عَيْني وقد كنتُ قبلها ... )
أول قوله
صوت
( لبَشْرَةَ أسْرَى الطّيْفُ والخَبْتُ دونَها ... وما بَيْنَنا من حَزْنِ أرْضٍ وبِيدِها )
( وقرَّتْ بها عَيْنِي وقد كنتُ قبْلها ... كثيراً بُكائي مُشفقاً من صُدودِها )
( وبِشْرَةُ خَوْدٌ مِثْلُ تمثالِ بِيعَةٍ ... تظلُّ النصارى حَوْلَها يوم عِيدها )
الشعر للحارث بن خالد المخزومي والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى
وذكر إسحاق هذه الطريقة في هذا الصوت ولم ينسبها إلى أحد ولابن

! محرز في هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى وفيها لعزة الميلاء خفيف رمل
وبشرة هذه - التي ذكرها الحارث بن خالد - أمة كانت لعائشة بنت طلحة وكان الحارث يكنى عن ذكر عائشة بها وله فيها أشعار كثيرة
منها مما يغني فيه قوله

صوت
( يا رَبْعَ بِشْرَةَ بالجَنابِ تَكَلَّمِ ... وأبِنْ لنا خَبَراً ولا تَسْتَعْجِم )
( ما لِي رأيتُك بعد أهْلِكَ مُوحِشاً ... خَلَقاً كحوض الباقرِ المتهدِّم )
( تسقِي الضجيعَ إذا النجومُ تغَوَّرَتْ ... طوعُ الضجيع وغاية المتوسِّمِ )
( قُبُّ البطون أوانِسٌ شِبْهُ الدُّمَى ... يَخْلِطْنَ ذاكَ بعِفَّةٍ وتكرُّمِ )
عروضه من الكامل والشعر للحارث بن خالد والغناء لمعبد ولحنه

من خفيف الرمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه أيضا ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق في رواية عمرو ومنها
صوت
( يا رَبْعَ بشْرة إنْ أضَرَّ بكَ البلى ... فلقد عهدتُك آهِلاً مَعْمُورا )
( عقَب الرّذاذُ خلافَه فكأنما ... بَسطَ الشَّواطِبُ بينهنّ حَصِيرَا )
غناه ابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لحن لمالك وقيل بل هو لابن محرز وعروضه من الكامل
وقوله عقب الرذاذ خلافه يقول جاء الرذاذ بعده ومنه يقال عقب لفلان غنى بعد فقر وعقب الرجل أباه إذا قام بعده مقامه وعواقب الأمور مأخوذة منه واحدتها عاقبة والرذاذ صغار المطر وقوله خلافه أي بعده قال متمم بن نويرة
( وفَقْدِي بَني أُمّ تَدَاعَوْا فلم أكُنْ ... خِلاَفَهُمُ أنْ أستَكِينَ وأضْرَعَا )
أي بعدهم والشواطب النساء اللواتي يشطبن لحاء السعف يعملن منه

الحصر ومنه السيف المشطب والشطيبة الشعبة من الشيء ويقال بعثنا إلى فلان شطيبة من خيلنا أي قطعة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال كانت مغنية تختلف إلى صديق لها فأتته يوما فوجدته مريضا لا حراك به فدعت بالعود وغنت
( يا رَبْعَ بشْرة إنْ أضَرَّ بكَ البلى ... فلقد عهدتُك آهِلاً مَعْمُورا )
ومما يغنى به فيه من هذه الأبيات الرائية

صوت
( أعرفتَ أطلاَل الرُّسومِ تنكَّرَتْ ... بَعْدِي وغُيِّر اَيُهُنَّ دُثُورا )
( وتبدَّلَتْ بَعْدَ الأنيس بأهلها ... عُفْرَ البواقر يَرْتَعِينَ وعُورَا )
( مِنْ كل مُصْبِيَةِ الحديثِ تَرَى لها ... كَفَلاً كرابيةِ الكثيبِ وَثِيرا )
الأطلال ما شخص من آثار الديار الرسوم البقايا من الديار وهي دون الأطلال وأخفى منها وتنكرت تغيرت والداثر الدارس والعفر الظباء واحدها أعفر والوعور المواضع التي لا أنيس فيها والرابية الأرض المشرفة وهي دون الجبل والكثيب القطعة العالية المرتفعة من الرمل جمعها كثب والوثير التام المرتفع يقال فراش وثير إذا كان مرتفعا عن الأرض
لإسحاق الموصلي في البيتين الأولين ثاني ثقيل بالبنصر ولإبراهيم فيهما

خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى ولطويس فيهما خفيف ثقيل وقيل إنه ليس له ولابن سريج في الثالث ثم الأول خفيف رمل وقيل بل هو لخليدة المكية وفي البيت الأول والثاني لمالك رمل بالوسطى وقيل الرمل لطويس وخفيف الثقيل لمالك ولمعبد في هذا الصوت لحنان أحدهما ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى والآخر خفيف ثقيل أول
ومنها
صوت
( يا دَارُ حَسَّرها البِلَى تَحْسِيرا ... وسفَتْ عليها الريحُ بعدك مُورَا )
( دُقَّ الترابُ بخَيْلِها فمخيِّمٌ ... بِعراصِها ومُسيَّرٌ تَسْيِيرا )
غنى في هذين البيتين ابن مسجح خفيف ثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى
وللغريض في ( أعرفت أطلال الرسوم ... ) وما بعده ثقيل أول

بالبنصر وللغريض أيضا ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى
حسرها أذهب معالمها ومنه حسر الرجل عن ذراعه وعن رأسه إذا كشفهما وحسر الصلع شعر الرأس إذا حصه والمور التراب والمخيم المقيم
ومنها

صوت
أوله
( مِنْ كل مُصْبِيَةِ الحديثِ تَرَى لها ... كَفَلاً كرابيةِ الكثيبِ وَثِيرا )
( يفْتِنّ - لا يألون - كُلَّ مغَفَّلٍ ... يملأْنَهُ بحديثهنّ سُرُورَا )
ومنها
صوت
( دَعْ ذا ولكنْ هل رأيت ظعائناً ... قَرَّبن أجمالاً لهُنَّ قُحُورا )
( قرَّبْنَ كلَّ مُخَيَّسٍ مُتحمّلٍ ... بُزْلاً تشبِّه هَامُهنَّ قبورا )
القحور واحدها قحر وهو المسن والمخيس المحبوس للرحلة والمتحمل معتاد الحمل
وفي هذه الأربعة الأبيات الأربعة للغريض اللحن الذي ذكرناه ولابن جامع في

( دَعْ ذا ولكن هل رأيت ظعائنا ... )
والذي بعده ثاني ثقيل بالوسطى
ومنها
صوت
( إنْ يُمْسِ حَبْلُكِ بعد طُول تواصُلٍ ... خَلَقاً ويصبح بَيْتُكُم مَهْجورا )
( فلقد أراني - والجديدُ إلى بِلىً - ... زمَناً بِوَصْلِكِ راضياً مَسْرُورا )
( جَذِلاً بمالِي عندكم لا أبتغي ... للنفس بعدكِ خُلَّةً وعشِيرا )
( كنتِ الهَوى وأعزَّ من وطِيءَ الحَصَا ... عندي وكنتُ بذاكَ منكِ جديرا )
لإبراهيم الموصلي ويحيى المكي في هذه الأبيات لحنان كلاهما من الثقيل الثاني فلحن إبراهيم بالوسطى ولحن يحيى بالبنصر ولإسحاق فيهما رمل وقيل إن لابن سريج فيهما أيضا لحنا آخر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
حدثني رجل من أهل البصرة قال اشتريت جارية مغنية فأقامت عندي زمنا وهويتني وكرهت أن يراها أهلي فعرضتها للبيع فجزعت وقالت لقد اشتريتني وأنا لك كارهة وإنك لتبيعني وأنا لذلك كارهة فقال أخ لي أرنيها

فقلت هي عند فلانة فانظر إليها فأتاها فنظر إليها وأنا حاضر فلما اعترضها وفرغ من ذلك غنت
( إنْ يُمْسِ حَبْلُكِ بعد طُول تواصُلٍ ... خَلَقاً ويصبح بَيْتُكُم مَهْجورا )
( فلقد أراني - والجديدُ إلى بِلىً - ... زمَناً بِوَصْلِكِ راضياً مَسْرُورا )
ثم بكت وضربت بالعود الأرض فكسرته فخيرتها بين أن أعتقها أو أبيعها ممن شاءت فاختارت البيع وطلبت موضعا ترضاه حتى أصابته فصيرتها إليه
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المدائني قال حدثني إبراهيم بن علي بن هشام قال
حدثتني جارية يقال لها طباع - جارية محمد بن سهل بن فرخند - قالت غنيت إسحاق في لحنه
( أعرفت أطلالَ الرسوم تنكرت ... بعدي . . . . )
فأنكر علي في مقاطعة شيئا وقال ممن أخذته فقلت من مخارق فقال لي تعثر الجواد بل هو كما أقول لك ورده علي فهو يقال كما يقول مخارق وكما غيره إسحاق

صوت
( أخْشَى على أربدَ الحتُوفَ ولا ... أرهبُ نَوْء السِّماكِ والأسَدِ )

( فجَّعني الرَّعْدُ والصَّواعِقُ بالْفارس ... ِ يَوْمَ الكرِيهةِ النَّجُدِ )
( يا عَيْنُ هلاَّ بكَيْتِ أرْبَد إذْ ... قُمنا وقام الخصُومُ في كَبَدِ )
( إن يَشْغَبُوا لا يُبالِ شَغْبُهُم ... أو يَقًصِدُوا في الخِصام يقْتَصِد )
عروضه من المنسرح
النجد البطل ذو النجدة وقال الأصمعي في النجد مثل ذلك وقال النجد - بكسر الجيم - الذي قد عرق جدا والكبد الثبات والقيام
الشعر للبيد بن ربيعة والغناء للأبجر رمل بالبنصر عن عمرو بن بانه ولإبراهيم فيها رمل آخر بالوسطى في مجراها عن إسحاق أوله الثالث والرابع ثم الأول والثاني وذكرت بذل أن في الثالث والرابع لحنا لحنين بن محرز

خبر لبيد في مرثية أخيه
وقد تقدم من خبر لبيد ونسبه ما فيه كفاية يرثي أخاه لأمه أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وكانت أصابته صاعقة فأحرقته
أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن عاصم عن عمرو بن قتادة قال
وفد بني عامر بن صعصعة
قدم على رسول الله وفد بني عامر بن صعصعة فيهم عامر بن

الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب وكان هؤلاء الثلاثة رؤوس القوم وشياطينهم فهم عامر بن الطفيل بالغدر برسول الله وقد قال له قومه يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم فقال والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي فأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش ثم قال لأربد إذا أقبلنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله أنت بالسيف
فلما قدموا على رسول الله قال له عامر يا محمد خالني قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده قال يا محمد خالني وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره فجعل أربد لا يحير شيئا فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال يا محمد خالني قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا تشرك به فلما أبى عليه رسول الله قال أما والله لأملأنها عليك خيلا حمرا ورجالا سمرا
فلما ولى قال رسول الله اللهم اكفني عامر بن الطفيل فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد ويلك يا أربد أين ما كنت أوصيتك به والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك وآيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا قال لا تعجل علي لا أبا لك والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف فقال عامر
( بُعِثَ الرسولُ بما تَرَى فكأنما ... عَمْداً أشُدُّ على المَقانِبِ غارَا )
( ولقد وَرَدْنَ بنا المدينة شُزَّباً ... ولقد قتَلْنَ بجوِّها الأنْصارَا )

موت عامر
وخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر الطاعون في عنقه فقتله الله وإنه لفي بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول يا بني عامر أغدة كغدة البكر وموت في بيت امرأة من بني سلول فمات
ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا ما وراءك يا أربد فقال لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما
وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه
نسخت من كتاب يحيى بن حازم قال حدثنا علي بن صالح صاحب المصلى قال حدثنا ابن دأب قال
وفود لبيد إلى الرسول
كان أبو براء عامر بن مالك قد أصابته دبيلة فبعث لبيد بن ربيعة إلى

رسول الله وأهدى له رواحل فقدم بها لبيد وأمره أن يستشفيه من وجعه فقال له رسول الله لو قبلت من مشرك لقبلت منه وتناول من الأرض مدرة فتفل عليها ثم أعطاها لبيدا وقال دفها له بماء ثم إسقه إياه
وأقام عندهم لبيد يقرأ القرآن وكتب منهم ( الرحمن علم القرآن ) فخرج بها ولقيه أخوه أربد على ليلة من الحي فقال له انزل فنزل فقال يا أخي أخبرني عن هذا الرجل فإنه لم يأته رجل أوثق عندي فيه قولا منك فقال يا أخي ما رأيت مثله وجعل يذكر صدقه وبره وحسن حديثه فقال له هل معك من قوله شيء قال نعم فأخرجها له فقرأها عليه فلما فرغ منها قال له أربد لوددت أني ألقى الرحمن بتلك البرقة فإن لم أضربه بسيفي فعلي وعلي
قال ونشأت سحابة وقد خليا عن بعيريهما فخرج أربد يريد البعيرين حتى إذا كان عند تلك البرقة غشيته صاعقة فمات
وقدم لبيد على أبي براء فأخبره خبر رسول الله وأمره قال فما فعل فيما استشفيته قال تالله ما رأيت منه شيئا كان أضعف عندي من ذلك وأخبره بالخبر قال فأين هي قال ها هي ذه معي قال هاتها فأخرجها له فدافها ثم شربها فبرأ
قال ابن دأب فحدثني حنظلة بن قطرب بن إياد أحد بني أبي بكر بن كلاب قال
لما أصاب عامر بن الطفيل ما أصابه بعث بنو عامر لبيدا وقالوا له

اقدم لنا على هذا الرجل فاعلم لنا علمه فقدم عليه فأسلم وأصابه وجع هناك شديد من حمى فرجع إلى قومه بفضل تلك الحمى وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار فقال سراقة بن عوف بن الأحوص
( لعَمْرُ لبيدٍ إنه لابْنُ أُمِّه ... ولكِنْ أبوه مَسَّهُ قِدَمُ العَهْدِ )
( دَفَعْنَاك في أرضِ الحجازِ كأنما ... دفعناك فَحْلاً فوقه قَزَعُ اللّبَدِ )
( فعالجْتَ حُمَّاه وداء ضُلوعِه ... وتَرْنِيقَ عَيْشٍ مَسَّهُ طَرفُ الجَهْدِ )
( وجئتَ بدِين الصابئين تَشُوبُه ... بألواحِ نَجْدٍ بُعْدَ عَهْدِكَ مِنْ عَهْد )
( وإنَّ لنا داراً - زعمتَ - ومَرجعاً ... وثمَّ إيابُ القارِظَيْنِ وذِي البُرْدِ )
قال فكان عمر يقول وايم الله إياب القارظين وذي البرد
أخبرني عبد العزيز بن أحمد عم أبي وحبيب بن نصر المهلبي وغيرهما قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة قالت

وفود عامر بن الطفيل على الرسول
حدثني أبي عن جدي مولة بن كثيف أن عامر بن الطفيل أتى رسول

الله فوسده وسادة ثم قال أسلم يا عامر
قال على أن لي الوبر ولك المدر فأبى رسول الله فقام عامر مغضبا فولى وقال لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ولأربطن بكل نخلة فرسا فسألته عائشة من هذا فقال هذا عامر بن الطفيل والذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر معه لزاحموا قريشا على منابرهم قال ثم دعا رسول الله وقال يا فوم إذا دعوت فأمنوا فقال اللهم اهد بني عامر واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت وكيف شئت وأنى شئت فخرج فأخذته غدة مثل غدة البكر فجعل يثب وينزو في السماء ويقول يا موت ابرز لي ويقول غدة مثل غدة البكر وموت في بيت سلولية ومات
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال أخبرني أسعد بن عمرو الجعفي قال أخبرني خالد بن قطن الحارثي قال
لما مات عامر بن الطفيل خرجت امرأة من بني سلول كأنها نخلة حاسرا وهي تقول
( أنْعَى عامرَ بن الطفيل وأبقى ... وهل يموتُ عامرٌ من حقا )
( وما أرى عامراً ماتَ حقّاً ! ... )
قال فما رئي يوم أكثر باكيا وباكية وخمش وجوه وشق جيوب من ذلك اليوم
وقال أبو عبيدة عن الحرمازي قال
لما مات عامر بن الطفيل بعد منصرفه عن النبي نصبت عليه بنو عامر أنصابا ميلا في ميل حمى على قبره لا تنشر فيه ماشية ولا يرعى ولا يسلكه

راكب ولا ماش وكان جبار بن سلمى بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب غائبا فلما قدم قال ما هذه الأنصاب قالوا نصبناها حمى لقبر عامر بن الطفيل فقال ضيقتم علي أبي علي إن أبا علي بان من الناس بثلاث كان لا يعطش حتى يعطش الجمل وكان لا يضل حتى يضل النجم وكان لا يجبن حتى يجبن السيل
قال أبو عبيدة وقدم عامر على النبي وهو ابن بضع وثمانين سنة

لبيد يرثي أخاه
ومما رثى به لبيد أخاه أربد قوله
( ألاَ ذهب المُحافِظُ والمُحامِي ... ودَافِعُ ضَيْمِنا يَوْمَ الخِصامِ )
( وأيقَنْتُ التَّفَرُّقَ يومَ قالوا ... تَقَسَّم مالُ أربدَ بالسِّهامِ )
( وأرْبَدُ فارِسُ الهَيْجا إذَا ما ... تقعَّرت المشاجِرُ بالفِئام )
وهي طويلة يقول فيها
( فودِّعْ بالسلامِ أبا حُزَيزٍ ... وَقلَّ ودَاعُ أرْبَدَ بالسَّلاَمِ )
قال وكانت كنية أربد أبا حزاز فصغره ضرورة
وقال فيه أيضا
( ما إن تَعدّى المنونُ مِنْ أحدِ ... لا والدٍ مُشْفِقٍ ولا ولَدِ )
( أخْشَى على أرْبَدَ الحتوفَ ولا ... أرهَبُ نَوْء السِّماكِ والأسَدِ )
( فجَّعني الرَّعْدُ والصَّواعِقُ بالْفارِسِ ... يَوْمَ الكريهةِ النَّجُدِ )

( الحارب الجابرِ الحَرِيب إذا ... جاء نَكيباً وإن يَعُدْ يَعُدِ )
( يَعْفُو على الجَهْدِ والسُّؤال كما ... أُنْزِل صَوْبُ الربيع ذي الرَّصَدِ )
( لم تبلغ العَيْنُ كلَّ نَهْمَتِها ... ليلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِدَدِ )
( كلُّ بني حُرَّةٍ مَصِيرهمُ ... قُلٌّ وإن أكثرَتْ من العَدَدِ )
( إنْ يُغْبطُوا يُهْبَطوا وإن أُمِرُوا ... يوماً يَصيرُوا للهُلْكِ والنَّفَدِ )
( يا عَيْنُ هلاّ بكيتِ أرْبَد إذ ... قُمْنا وقام الخصومُ في كَبَدِ )
( يا عَيْنُ هَلاَّ بكيتِ أرْبَد إذ ... ألْوَتْ رياحُ الشتاء بالعَضَدِ )
( وأصبحَتْ لاقحاً مُصَرَّمةً ... حين تقضَّتْ غَوابرُ المُدَدِ )
( إنْ يشغَبُوا لا يُبال شَغْبَهُم ... أو يقْصِدُوا في الخصام يَقْتَصِدِ )
( حُلْوٌ كريمٌ وفي حلاوَتِه ... مُرٌّ لطيفُ الأحشاءِ والكِبدِ )
نسخت من كتاب ابن النطاح عن المدائني عن علي بن مجاهد قال
أنشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه قول لبيد في أخيه أربد
( لَعمْرِي لَئِنْ كان المخبِّرُ صادقاً ... لقد رُزِئَتْ في حادث الدَّهْر جَعْفَرُ )
( أخٌ لي أمّا كلّ شيء سألْته ... فيُعْطِي وأما كلُّ ذَنْبٍ فيغفِرُ )

فقال أبو بكر رضوان الله عليه ذلك رسول الله لا أربد بن قيس
وقد رثاه بعد ذلك بقصائد يطول الخبر بذكرها
ومما رثاه به وفيه غناء قوله

صوت
( بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطَّوَالِعُ ... وتَبْقَى الجِبالُ بعدنا والمَصانِعُ )
( وقد كنتُ في أكنافِ دارِ مَضِنَّةٍ ... ففارقني جارٌ بأرْبَدَ نافِعُ )
( فلا جَزِعٌ إنْ فرّقَ الدَّهرُ بيننا ... فكلُّ فتىْ يوماً به الدَّهْرُ فاجِعُ )
( وما المرءُ إلاَّ كالشِّهاب وضَوْئِه ... يَحُورُ رمَاداً بعد إذْ هو ساطِعُ )
( أليسَ وَرائي إنْ تراخَتْ منيَّتي ... لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابِعُ )
( أُخَبِّر أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ ... أدِبُّ كأنّي كُلَّما قمتُ راكِعُ )
( فأصبحْتُ مِثْلَ السيفِ أخْلَق جَفْنَه ... تقادمُ عِهْدِ القَيْن والنّصلُ قاطِعُ )
( فلا تَبْعَدنْ إنّ المنيةَ موعدٌ ... علينا فَدانٍ للطُّلوعِ وطالِعُ )
( أعاذِل ما يُدْرَيكَ إلاَّ تظَنِّياً ... إذا رحل السُّفَّار مَنْ هو راجعُ )
( أتَجْزَعُ مما أحدث الدهرُ لِلْفَتى ... وأيُّ كرِيم لم تُصِبُه القَوارعُ ! )
غنى في الأول والخامس والسادس والسابع حنين الحيري خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وحماد وفيها ثقيل أول بالوسطى يقال إنه لحنين أيضا ويقال إنه لأحمد النصبي ويقال إنه منحول
ومما رثاه به قوله وهي من مختار مراثيه

( طرِبَ الفؤادُ ولَيْته لم يَطْرَبِ ... وعَنَاه ذِكْرَى خُلّة لم تَصْقَبِ )
( سَفهاً ولو أني أطَعْتُ عَواذِلي ... فيما يُشِرْنَ به بسَفْح المِذْنَبِ )
( لزَجَرْتُ قَلْباً لا يَريعُ لِزاجِرٍ ... إنَّ الغَوِيَّ إذا نُهِي لم يُعْتِبِ )
( فتعزَّ عن هذا وقُلْ في غَيْرِهِ ... واذكُرْ شَمَائلَ من أخيك المُنُجِبِ )
( يا أرْبَدَ الخَيْرِ الكريم جدودُه ... أفردتني أمشِي بقَرْنٍ أعضب )
( إنَّ الرزيَّة لا رَزِيَّة مثلها ... فِقْدانُ كلِّ أخٍ كضَوْء الكوكبِ )
( ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجربِ )
( يتأكَّلُونَ مغالةً وخِيَانَةً ... ويُعابُ قائلُهم وإنْ لم يَشْغَبِ )
( ولقد أراني تارةً مِنْ جَعْفَرٍ ... في مثل غَيْثِ الوابلِ المتحَلِّبِ )
( مِنْ كل كَهْلٍ كالسِّنان وسَيِّدٍ ... صَعْبِ المقادَةِ كالفَنيق المُصْعَبِ )
( مِنْ مَعْشَرٍ سنَّتْ لهم آباؤهم ... والعزُّ قد يأتي بغير تَطَلُّبِ )
( فبرَى عِظامي بعد لحمي فَقْدَهُم ... والدَّهْرُ إنْ عاتبتَ ليس بمُعْتِبِ )
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا أبو السائب سالم بن جنادة قال حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تنشد بيت لبيد

( ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجربِ )
ثم تقول رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال عروة رحم الله عائشة فكيف بها لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم
قال هشام رحم الله أبي فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
وقال وكيع رحم الله هشاما فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال أبو السائب رحم الله وكيعا فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال أبو جعفر رحم الله أبا السائب فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم
قال أبو الفرج الأصبهاني ونحن نقول الله المستعان فالقصة أعظم من أن توصف
صوت
( فإن كان حَقّاً ما زعمتِ أتيْتُه ... إليكِ فقامَ النائحاتُ على قَبْري )
( وإن كان ما بُلِّغْتِه كان باطلاً ... فلا متِّ حتى تَسْهَرِي الليلَ مِنْ ذكري )
عروضه من الطويل والشعر للعباس بن الأحنف يقوله في فوز وخبرهما يأتي هاهنا والغناء لبذل خفيف رمل بالبنصر وفيه لبنان بن عمرو ثاني ثقيل بالبنصر وفيه لحن لابن جامع من كتاب إبراهيم وزعم أبو العباس أن لمعبد اليقطيني فيه خفيف رمل وذكر حبش أن لإبراهيم خفيف الرمل بالوسطى

وذكر علي بن يحيى المنجم أنه لعلية وقيل إن خفيف الرمل بالبنصر للقاسم بن زنقطة والصحيح أنه لبذل

ذكر خبر العباس وفوز
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن إسحاق الخراساني قال حدثنا محمد بن النضر قال
كانت فوز جارية لمحمد بن منصور وكان يلقب فتى العسكر ثم اشتراها بعض شباب البرامكة فدبرها وحج بها فلما قدمت قال العباس
( ألاَ قد قَدِمَتْ فَوْزُ ... فقرَّت عَيْنُ عَبَّاسِ )
( لِمَنْ بَشَّرنِي البشرى ... على العينين والرّاس )
( أيا ديباجة الحُسْنِ ... وَيَا رامُشْنَةَ الآس )
( يلوموني على الحبّ ... وما بالحبِّ مِنْ باس )
أخبرني محمد قال حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر الأنباري - وهو أبو عاصم بن محمد الكاتب - قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال
كانت فوز لرجل جليل من أسباب السلطان وكان العباس يتشبه في أشعاره وذكر فوز بما قاله أبو العتاهية في عتبة فحج بها مولاها فقال العباس
( يا رّبِّ رُدَّ عَلَيْنَا ... مَنْ كان أُنساً وزَيْنا )

( مَنْ لا نُسَرُّ بعَيْشٍ ... حتى يكون لدَيْنا )
( يا مَنْ أتاح لِقَلْبي ... هَوَاهُ شُؤْماً وحَيْنا )
( ما زِلْتُ مُذْ غِبْتِ عنِّي ... مِنْ أسْخَنِ الناسِ عَيْنا )
( ما كان حَجُّكِ عندي ... إلاَّ بلاءً عَلَيْنا )
فلما قدمت قال
( ألاَ قد قدمَتْ فوزُ ... فقرَّت عَيْنُ عَبَّاسِ )
وذكر الأبيات المتقدمة
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال
حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه أنه دخل على الفضل بن الربيع يوما والعباس بن الأحنف بين يديه فقال العباس للفضل دعني أعابث الأصمعي قال لا تفعل فليس المزاح من شأنه قال إن رأى الأمير أن يفعل قال ذاك إليك قال فلما دخلت قال لي العباس يا أبا سعيد من الذي يقول
( إذا أحْبَبْتَ أن تصنع ... شيئاً يعجِب النَّاسا )
( فصَوِّر هاهنا فَوْزاً ... وصَور ثَمَّ عبَّاسا )
( فإنْ لم يَدْنوَا حتى ... ترى رَأسيهما رَاسا )
( فكِّذبها بما قاسَتْ ... وكذِّبه بما قاسى )

فقال لي ابن أبي السعلاء الشاعر إنه أراد العبث بك وهو نبطي فأجبه على هذا قال فقلت له لا أعرف هذا ولكني أعرف الذي يقول
( إذا أحببت أنْ تبصر ... شيئاً يعجبُ الخَلْقَا )
( فصوِّر هاهنا زْوراً ... وصوِّر ههنا فَلْقا )
( فإنْ لم يَدْنُوَا حتى ... ترى خَلْقَيهما خَلقَا )
( فكذِّبْها بما لاقَتْ ... وكذِّبه بما يَلْقى )
فعرض بالعباس أنه نبطي فضحك الفضل فوجم العباس فقال له الفضل قد كنت نهيتك عنه فلم تقبل
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن الفضل الهاشمي قال حدثني أبو توبة الحنفي قال

العباس بن الأحنف والجارية فوز
وجه العباس بن الأحنف رسولا إلى فوز فعاد فأخبره أنها تجد صداعا وأنه رآها معصوبة الرأس فقال العباس
( عصبَتْ رأسَها فليتَ صُدَاعاً ... قد شَكَتْه إليّ كان بِراسِي )
( ثم لا تشتكِي وكان لها الأجْر ... ُ وكنتُ السَّقَامَ عنها أُقاسِي )
( ذاكَ حتى يقولَ لِي مَنْ رآني ... هكذا يفعلُ المحِبُّ المُواسِي )
قال فبرئت ثم نكست فقال
( إنَّ التي هامت بها النَّفْسُ ... عاودَها مِنْ عارضٍ نُكْسُ )
( كانت إذا ما جاءها المُبْتَلَى ... أبرأهُ مِنْ كفِّها اللَّمْسُ )
( وَابأبي الوجْهُ المليحُ الّذي ... قد عشِقَتْهُ الجنُّ والإِنْسُ )
( إنْ تكنِ الحمَّى أضرَّتْ به ... فربما تَنْكَسِفُ الشمسُ )

أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني أبو العباس الخلنجي قال حدثني أبو عبد كان الكاتب قال حدثني أبو توبة الحنفي قال
لما قال العباس بن الأحنف
( أمَا والذي أَبْلَى المحبَّ وزادَني ... بلاءً لقد أسرفْتِ في الظلم والهَجْرِ )
( فإنْ كان حقّاً ما زعمتِ أتيتُه ... إليك فقام النائحاتُ على قبري )
( وإن كان عُدْواناً عليَّ وباطلاً ... فلا مِتُّ حتى تسهَرِي الليلَ مِنْ ذكري )
بعثت إليه فوز أظننا ظلمناك يا أبا الفضل فاستجيب لك فينا ما زلت البارحة ساهرة ذاكرة لك
أخبرني جحظة البرمكي قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون عن أحمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن سلام قال
كان في خلق العباس بن الأحنف شدة فضرب غلاما له وحلف أنه يبيعه فمضى الغلامُ إلى فوز فاستشفع بها عليه فكتبت إليه فيه فقال
( يا مَنْ أتانا بالشفاعاتِ ... مِنْ عِنْد مَنْ فيه لَجاجاتي )
( إنْ كنتُ مولاكَ فإنَّ التي ... قد شفعَتْ فيكَ لمَوْلاتي )
( إرسالها فيكَ إلينا لنا ... كرامةٌ فوق الكرامات )
ورضي عنه ووصله وأعتقه
أخبرني جحظة قال حدثنا أبو عبد الله بن حمدون عن أبيه حمدون بن إسماعيل عن أخيه إبراهيم بن إسماعيل قال

جاءنا العباس بن الأحنف يوما وهو كئيب فنشطناه فأبى أن ينشط فقلنا ما دهاك فقال لقيتني فوز اليوم فقالت لي يا شيخ وما قالت ذلك إلا من حادث ملال فقلنا له هون عليك فإنها امرأة لا تثبت على حال وما أرادت إلا العبث بك والمزاح معك فقال إني والله قد قلت أقبح مما قالت ثم أنشدنا
( هزِئَتْ إذ رأت كئيباً مُعَنَّى ... أقصدَتْهُ الخطوبُ فهو حزينُ )
( هزِئَتْ بي ونِلْتُ ما شئتُ منها ... يا لقَوْمي فأيُّنا المغبون )
فقلت له لقد انتصفت وزدت
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا علي بن الصباح قال حدثنا أبو ذكوان قال
كانت لفوز جارية يقال لها يمن وكانت تجيء إلى العباس برسالتها فمضت إلى فوز وقد طلبت من العباس شيئا فمنعها إياه وزعمت أنه أرادها ودعاها إلى نفسه فغضبت فوز من ذلك فكتب إليها
( لقد زَعَمَتْ يُمْنٌ بأني أرَدْتُها ... على نفسها تَبّاً لذلكَ مِنْ فِعْلِ )
( سَلُوا عن قميصي مثلَ شاهِد يُوسفٍ ... فإنّ قميصي لم يكن قُدَّ مِنْ قُبْلِ )
أخبرني محمد قال حدثنا أحمد بن إسماعيل قال حدثني سعيد بن حميد قال

كانت فوز قد مالت إلى بعض أولاد الجند وبلغ ذلك العباس فتركها ولم ترض هي البديل بعد ذلك فعادت إلى العباس وكتبت إليه تعاتبه في جفائه فكتب إليها
( كتَبتْ تلومُ وتَستريبُ زيارتي ... وتقولُ لستَ لنا كعَهْدِ العاهِدِ )
( فأجبتُها ودموعُ عيني جمَّةٌ ... تَجْرِي على الخدَّيْنِ غَيْرَ جَوَامِدِ )
( يا فَوْز لم أهجركُمُ لملاَلَةٍ ... منِّي ولا لمَقَالِ واشٍ حاسدِ )
( لكنَّني جرَّبتكمْ فوجدتُكمْ ... لاَ تصبرونَ على طعامٍ واحدِ )
وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات وقال سرقها من أبي نواس حيث يقول

صوت
( ومُظْهِرة لخَلْقِ الله وُدّاً ... وتلْقى بالتحيَّةِ والسلامِ )
( أتيتُ فؤادَها أشكو إليه ... فلم أْخلُصْ إليه من الزَّحامِ )
( فيا مَنْ ليس يَكْفِيهِ مُحِبٌّ ... ولا ألْفا مُحِبٍّ كلَّ عامِ )
( أظنُّكِ مِنْ بقية قوم مُوسى ... فهُمْ لا يصبرون على طَعَامِ )
غنت فيه عريب لحنا ذكره ابن المعتز ولم يذكر طريقته

ومما يغنى فيه من شعر العباس في فوز قوله

صوت
( يا فَوْزُ ما ضَرَّ مَنْ يُمْسِي وأنْتِ له ... ألاَّ يفوزَ بدُنْيَا آلِ عَبّاسِ )
( أبصرتُ شيباً بمولاها فواعَجباً ... منه يراها ويَبْدُو الشَّيْبُ في الرَّاسِ )
غناه سليم رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود قال
قرأت على أحمد بن أبي فنن شعر العباس بن الأحنف وكان مشغوفا به فسمعته يقول وددت أن أبياته التي يقول فيها
( يا فَوْز ما ضَرَّ من يُمْسِي وأنتِ له ... )
لي بكل شعري
وفي بذل يقول عبد الله بن العباس الربيعي يخاطب عمرا في بذل بقوله
صوت
( تسمَّعْ بحقِّ الله يا عَمْرُو مِنْ بَذْلِ ... فقد أحسنَتْ واللهِ واعتمدت قَتْلي )
( كأني أرَى حُبّيك يرجحُ كلّما ... تغنَّتْ لإعجابي وأفْقِد مِنْ عقْلِي )
غناه عبد الله بن العباس الربيعي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وغنى فيه عمرو بن بانة خفيف رمل بالبنصر عن حبش

ذكر بذل وأخبارها
كانت بذل صفراء مولدة من مولدات المدينة وربيت بالبصرة وهي إحدى المحسنات المتقدمات الموصوفات بكثرة الرواية يقال إنها كانت تغني ثلاثين ألف صوت ولها كتاب في الأغاني منسوب الأصوات غير مجنس يشتمل على اثني عشر ألف صوت يقال إنها عملته لعلي بن هشام وكانت حلوة الوجه ظريفة ضاربة متقدمة وابتاعها جعفر بن موسى الهادي فأخذها منه محمد الأمين وأعطاه مالا جزيلا فولدهما جميعا يدعون ولاءها فأخذت بذل عن أبي سعيد مولى فائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم وطبقتهم
وقرأت على جحظة عن أبي حشيشة في كتابه الذي جمعه من أخباره وما شاهده قال
كانت بذل من أحسن الناس غناء في دهرها وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة وكانت صفراء مدنية وكانت أروى خلق الله تعالى للغناء ولم يكن لها معرفة

وكانت لجعفر بن موسى الهادي فوصفت لمحمد بن زبيدة فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إياها فأبى فزاره محمد إلى منزله فسمع شيئا لم يسمع مثله فقال لجعفر يا أخي بعني هذه الجارية فقال يا سيدي مثلي لا يبيع جارية قال فهبها لي قال هي مدبرة فاحتال عليه محمد حتى أسكره وأمر ببذل فحملت معه إلى الحراقة وانصرف بها
فلما انتبه سأل عنها فأخبر بخبرها فسكت فبعث إليه محمد من الغد فجاءه وبذل جالسة فلم يقل شيئا فلما أراد جعفر أن ينصرف قال أوقروا حراقة ابن عمي دراهم فأوقرت
قال فحدثني عبد الله بن الحنيني - وكان أبوه على بيت مال جعفر بن موسى - أن مبلغ ذلك المال كان عشرين ألف ألف درهم
قال وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل ثم خرجت فكان ولد جعفر وولد محمد يدعون ولاءها فلما ماتت ورثها ولد عبد الله بن محمد بن زبيدة
وقد روى محمد بن الحسن الكاتب هذا الخبر عن ابن المكي عن أبيه وقال فيه إن محمدا وهب لها من الجوهر شيئا لم يملك أحد مثله فسلم لها فكانت تخرج منه الشيء بعد الشيء فتبيعه بالمال العظيم فكان ذلك معتمدها مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة
قال ورغب إليها وجوه القواد والكتاب والهاشميين في التزويج فأبت وأقامت على حالها حتى ماتت

بذل وعلي بن هشام
قال أبو حشيشة في خبره وكنت عند بذل يوما وأنا غلام وذلك في أيام

المأمون ببغداد وهي في طارمة لها تمتشط ثم خرجت إلى الباب فرأيت الموكب فظننت أن الخليفة يمر في ذلك الموضع فرجعت إليها فقلت يا ستي الخليفة يمر على بابك فقالت انظروا أي شيء هذا إذ دخل بوابها فقال علي بن هشام بالباب فقالت وما أصنع به فقامت إليها وشيكة جاريتها - وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره في حوائجها - فأكبت على رجلها وقالت الله الله أتحجبين علي بن هشام فدعت بمنديل فطرحته على رأسها ولم تقم إليه فقال إني جئتك بأمر سيدي أمير المؤمنين وذلك أنه سألني عنك فقلت لم أرها منذ أيام فقال هي عليك غضبى فبحياتي لا تدخل منزلك حتى تذهب إليها فتسترضيها
فقالت إن كنت جئت بأمر الخليفة فأنا أقوم فقامت فقبلت رأسه ويديه وقعد ساعة وانصرف فساعة خرج قالت يا وشيكة هاتي دواة وقرطاسا فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثني عشر ألف صوت - وفي بعض النسخ رؤوس سبعة آلاف صوت - ثم كتبت إليه يا علي بن هشام تقول قد استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها وقد كتبت هذا وأنا ضجرة فكيف لو فرغت لك قلبي كله وختمت الكتاب وقالت لها امضي به إليه
فما كان أسرع من أن جاء رسوله خادم أسود يقال له مخارق - بالجواب يقول فيه يا ستي لا والله ما قلت الذي بلغك ولقد كذب علي عندك إنما قلت لا ينبغي أن يكون في الدنيا غناء أكثر من أربعة آلاف صوت وقد بعثت إلي بديوان لا أؤدي شكرك عليه أبدا وبعث إليها عشرة آلاف درهم وتخوتا فيها خز ووشي وملح وتختا مطبقا فيه ألوان الطيب

أنشدني علي بن سليمان الأخفش لعلي بن هشام يعاتب بذلا في جفوة نالته منها
( تغَيَّرْتِ بَعْدِي والزمانُ مُغَيِّرٌ ... وخِسْتِ بعَهْدِي والملوكُ تَخِيسُ )
( وأظهرتِ لي هَجْراً وأخفَيْتِ بِغَضةً ... وقرَّبْتِ وَعْداً واللسانُ عَبُوسُ )
( وممَّا شجاني أنني يوْمَ زُرْتُكمْ ... حُجِبْت وأعدائي لدَيْكَ جُلوسُ )
( وفِي دُون ذا ما يَسْتَدِلُّ به الفَتَى ... على الغَدْرِ مِنْ أحْبابه ويَقِيسُ )
( كفرتُ بديْنِ الحُبِّ إنْ طُرتُ بابَكم ... وتلك يَمينٌ - ما علمت - غَمُوسُ )
( فإنْ ذَهَبَتْ نفسي عليكم تَشوُّقاً ... فقد ذهبتْ للعاشقين نُفوسُ )
( ولو كان نَجْمِي في السُّعودِ وَصَلْتُمُ ... ولكنْ نجومُ العاشقينَ نُحُوسُ )
وأخبرني أبو العباس الهشامي المشك عن أهله أن علي بن هشام كان يهوى بذلا ويكتم ذلك وأنها هجرته مدة فكتب إليها بهذه الأبيات
وذكر محمد بن الحسن أن أبا حارثة حدثه عن أخيه أن معاوية قال قالت لي بذل كنت أروي ثلاثين ألف صوت فلما تركت الدرس أنسيت نصفها فذكرت قولها لزرزر الكبير فقال كذبت الزانية

إجادتها صنعة الغناء
قال وحدثني أحمد بن محمد بن الفيزران عن بعض أصحابه - أن

إبراهيم بن المهدي كان يعظمها ويتوافى لها ثم تغير بعد ذلك استغناء عند نفسه عنها فصارت إليه فدعا بعود فغنت - في طريقة واحدة وإيقاع واحد وإصبع واحدة - مائة صوت لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا ووضعت العود وانصرفت فلم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه
وقال محمد بن الحسن وذكر أحمد بن سعيد المالكي أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلا في نسبة صوت غنته بحضرة المأمون فأمسكت عنه ساعة ثم غنت ثلاثة أصوات في الثقيل الثاني واحدا بعد واحد وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه فقالت للمأمون يا أمير المؤمنين هي والله لأبيه أخذتها من فيه فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره فاشتد ذلك على إسحاق حتى رئي ذلك فيه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني حماد بن إسحاق قال غنت بذل يوما بين يدي أبي
( إنْ تَرَيْني ناحِلَ البَدَنِ ... فلِطول الْهَمِّ والحَزَنِ )

( كان ما أخشى بواحِدتي ... ليتَه واللهِ لَمْ يَكُنِ )
فطرب أبي والله طربا شديدا وشرب رطلا وقال لها أحسنت يا بنتي والله لا تغنين صوتا إلا شربت عليه رطلا
قال أبو الفرج والغناء في هذا الشعر لبذل خفيف رمل بالوسطى
وذكر أحمد بن أبي طاهر أن محمد بن علي بن طاهر بن الحسين حدثه أن المأمون كان يوما قاعدا يشرب وبيده قدح إذ غنت بذل
( ألاَ لا أرى شيئاً ألذَّ من الوَعْدِ ... )
فجعلته
( ألاَ لا أرى شيئاً ألذّ من السَّحْقِ ... )
فوضع المأمون القدح من يده والتفت إليها وقال بلى يا بذل النيك ألذ من السحق فتشورت وخافت غضبه فأخذ قدحه ثم قال أتمي صوتك وزيدي فيه
( ومِنْ غَفْلة الْوَاشي إذا ما أَتْيتُها ... ومِنْ زَوْرَتِي أبياتَها خالياً وَحْدِي )
( ومِنْ صيحةْ في المُلْتَقَى ثم سَكْتَةٍ ... وكلتاهُما عِنْدِي ألذُّ مِنَ الخُلْدِ )

نسبة هذا الصوت
( ألاَ لا أرَى شيئاً ألَذَّ من الوَعْد ... ومن أمَلِي فيه وإنْ كان لا يُجْدِي )
الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر في رواية عمرو بن بانة
صوت
( بانَتْ سُعَادُ فقلبي اليوم مَتْبُولُ ... متيَّمٌ عندها لم يُجْزَ مَكْبُولُ )

( وما سعادُ غداةَ البَيْنِ إذ رحلوا ... إلاّ أغنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مكحولُ )
الشعر لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة والهشامي

أخبار كعب بن زهير
كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني وقد تقدم خبر أبيه ونسبه وأم كعب امرأة من بني عبد الله بن غطفان يقال لها كبشة بنت عمار بن عدي بن سحيم وهي أم سائر أولاد زهير
وهو من المخضرمين ومن فحول الشعراء
وسأله الحطيئة أن يقول شعرا يقدم فيه نفسه ثم يثني به بعده ففعل
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قالا
أتى الحطيئة كعب بن زهير - وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير - فقال له يا كعب قد علمت روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم وقد ذهب الفحول غيري وغيرك فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا بعدك وقال أبو عبيدة في خبره تبدأ بنفسك فيه وتثني بي فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع فقال كعب

( فَمَنْ للقوافي شانَها مَنْ يَحُوكها ... إذا ما ثَوَى كَعْبٌ وفَوَّزَ جَرْوَلُ )
( يقول فلا تعْيَا بشيء يَقولُه ... ومِنْ قائليها مَنْ يُسِيء ويَعْمَلُ )
( كفيتُكَ لا تلْقَى مِن الناسِ واحداً ... تنخَّلَ مِنها مِثْل ما يُتنخَّلُ )
( يُثقِّفُها حتى تَلِينَ مُتُونُها ... فيَقْصُرُ عنها كلُّ ما يُتمثَّلُ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا علي بن الصباح عن هشام عن إسحاق بن الجصاص قال
قال زهير بيتا ونصفا ثم أكدى فمر به النابغة فقال له أبا أمامة أجز فقال وما قلت قال قلت
( تَزيد الأرضُ إمَّا متَّ خفّاً ... وتَحْيَا إنْ حَيِيتَ بها ثَقِيلا )
( نزلت بمستقر العرض منها ... )
أجز قال فأكدى والله النابغة وأقبل كعب بن زهير وإنه لغلام فقال أبوه أجز يا بني فقال وما أجيز فأنشده فأجاز النصف بيت فقال
( وتمنع جَانِبيهَا أنْ يَزُولا ... )
فضمه زهير إليه وقال أشهد أنك ابني

زهير ينهاه عن الشعر ثم يأذن له
وقال ابن الأعرابي قال حماد الراوية

تحرك كعب بن زهير وهو يتكلم بالشعر فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم شعره فيروى له ما لا خير فيه فكان يضربه في ذلك فكلما ضربه يزيد فيه فغلبه فطال عليه ذلك فأخذه فحبسه فقال والذي أحلف به لا تتكلم ببيت شعر إلا ضربتك ضربا ينكلك عن ذلك فمكث محبوسا عدة أيام ثم أخبر أنه يتكلم به فدعاه فضربه ضربا شديدا ثم أطلقه وسرحه في بهمة وهو غليم صغير فانطلق فرعى ثم راح عشية وهو يرتجز
( كأنما أحْدُو ببَهمي عِيرَا ... من القُرَى مُوقرةً شعيراً )
فخرج إليه زهير وهو غضبان فدعا بناقته فكفلها بكسائه ثم قعد عليها حتى انتهى إلى ابنه كعب فأخذ بيده فأردفه خلفه ثم خرج فضرب ناقته وهو يريد أن يبعث ابنه كعبا ويعلم ما عنده من الشعر فقال زهير حين برز إلى الحي
( إني لتُعْدِيني على الحيّ جَسْرَةٌ ... تَخُبُّ بِوَصَّالٍ صَرُومٍ وتُعْنِقُ )
ثم ضرب كعبا وقال له أجز يا لكع فقال كعب
( كبُنْيانةِ القَرْئيّ موضعُ رحلها ... وآثارُ نِسْعَيْها من الدَّفِّ أبْلَقُ )
فقال زهير

( على لاحِبٍ مثل المجَرَّةِ خِلْتَهُ ... إذا ما عَلاَ نَشْزاً من الأرض مُهْرَقُ )
أجزيا لكع فقال كعب
( مُنِيرٌ هَداهُ ليلُه كنَهارِه ... جميعٌ إذا يَعْلُو الحُزُونةَ أفْرُقُ )
قال فتبدى زهير في نعت النعام وترك الإبل يتعسفه عمدا ليعلم ما عنده قال
( وظَلَّ بوَعْساءِ الكَثِيبِ كأنَّه ... خِباءٌ على صَقْبَيْ بِوَانٍ مُرَوَّقِ )
صقبي عمودي بوان عمود من أعمدة البيت فقال كعب
( تَراخى به حُبُّ الضَّحاء وقد رأى ... سَماوَةَ قِشْراءِ الوَظِيفين عوْهَقِ )
فقال زهير
( تَحنُّ إلى مِثْلِ الحَبابِيرِ جُثَّمٍ ... لدَى منتِج مِنْ قَيْضِها المُتَفَلَّقِ )
الحبابير جمع حبارى وتجمع أيضا حباريات فقال كعب
( تحطَّمَ عَنْها قَيْضُهَا عن خَراطِمِ ... وعَنْ حَدَقٍ كالنَّبْخِ لم يَتَفَتَّقِ )
الخراطم هاهنا المناقير والنبخ الجدري شبه أعين ولد النعامة به

قال فأخذ زهير بيد ابنه كعب ثم قال له قد أذنت لك في الشعر يا بني
فلما نزل كعب وانتهى إلى أهله - وهو صغير يومئذ - قال
( أبِيتُ فلا أهجو الصديقَ ومَنْ يبعْ ... بعِرْضِ أبيه في المعاشر يُنْفقِ )
قال وهي أول قصيدة قالها
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن مضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى عن أبيه عن جده قال
خرج كعب وبجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله حتى بلغا أبرق العزاف فقال كعب لبجير الحق الرجل وأنا مقيم هاهنا فانظر ما يقول لك فقدم بجير على رسول الله فسمع منه وأسلم وبلغ ذلك كعبا فقال
( ألا أبْلِغَا عنّي بُجَيْراً رِسالةً ... على أيِّ شيء - وَيْب غَيْرِك - دَلَّكَا )
( على خُلق لم تُلْفِ أُمّا ولا أباً ... عَلَيْه ولم تُدْرِك عليه أخاً لَكَا )
( سقاكَ أبو بكر بكأسٍ رَوِيّةٍ ... فأنهلَك المأمونُ مِنْها وعَلَّكَا )

الرسول يهدر دمه
ويروى المأمور قال فبلغت أبياته هذه رسول الله فأهدر دمه وقال من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله
فكتب إليه أخوه بجير يخبره وقال له انجه وما أراك بمفلت وكتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم ويقبل إلى رسول الله ويقول له إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله قبل منه وأسقط ما كان قبل ذلك فأسلم كعب وقال القصيدة التي اعتذر فيها إلى رسول الله
( بانَتْ سُعادُ فَقَلْبِي اليومَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ عِنْدَها لم يجْزَ مَكْبُولُ )
قال ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله وكان مجلسه من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقة ثم حلقة ثم حلقة وهو وسطهم فيقبل على هؤلاء يحدثهم ثم على هؤلاء ثم على هؤلاء فأقبل كعب حتى دخل المسجد فتخطى حتى جلس إلى رسول الله فقال يا رسول الله الأمان قال ومن أنت قال كعب بن زهير قال أنت الذي يقول . . كيف قال يا أبا بكر فأنشده حتى بلغ إلى قوله
( سقاكَ أبو بَكْرٍ بكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... وأنْهَلَكَ المأمونَ منها وعَلَّكا )
فقال رسول الله مأمون والله ثم أنشده - يعني كعبا -
( بانت سعاد فقلبي اليوم مَتْبُولُ ... )
قال عمر بن شبة فحدثني الحزامي قال حدثني محمد بن فليح عن موسى بن عقبة وأخبرني بمثل ذلك أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة قال أنشدها رسول الله في مسجده فلما بلغ إلى قوله

( إنّ الرَّسولَ لسَيْفٌ يُستضاءُ به ... مهنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ الله مَسْلُولُ )
( في فِتْيَةٍ مِنْ قريش قال قائلُهم ... بِبَطْنِ مكة لَّما أسلموا زُولوا )
( زَالُوا فما زال أنكاسٌ ولا كُشُفٌ ... عند اللقاء ولا خُورٌ مَعازِيل )
أشار رسول الله إلى الحلق أن يسمعوا شعر كعب بن زهير
قال الحزامي قال علي بن المديني لم أسمع قط في خبر كعب بن زهير حديثا قط أتم ولا أحسن من هذا ولا أبالي ألا أسمع من خبره غير هذا

إسلام بجير وكعب
قال أبو زيد عمر بن شبة ومما يروى من خبره أن زهيرا كان نظارا متوقيا وأنه رأى في منامه آتيا أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده ثم تركه فهوى إلى الأرض فلما احتضر قص رؤياه على ولده وقال إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي شيء فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه
فلما بعث النبي خرج إليه بجير بن زهير فأسلم ثم رجع إلى بلاد قومه فلما هاجر رسول الله أتاه بجير بالمدينة - وكان من خيار المسلمين وشهد يوم الفتح مع رسول الله ويوم خيبر ويوم حنين وقال في ذلك
( صَبَحْناهُم بألْفٍ من سُلَيْمٍ ... وألْف من بني عثمانَ وافِ )
( فرُحْنا والجيادُ تجول فيهم ... بأرْماحٍ مُثَقَّفَةٍ خِفافِ )
( وفي أكتافهم طعْنٌ وضَرْبٌ ... ورَشْقٌ بالمُرَيَّشةِ اللِّطافِ )
ثم ذكر خبره وخبر أخيه كعب مثل ما ذكر الحزامي وزاد في الأبيات التي كتب بها كعب إليه

( فخالفتَ أسبابَ الهُدَى وتبعتَهُ ... فهل لك فيما قُلْت بالخَيْفِ هَلْ لكا )
ثم قال في خبره أيضا إن كعبا نزل برجل من جهينة فلما أصبح أتى النبي عليه السلام فقال يا رسول الله أرأيت إن أتيتك بكعب بن زهير مسلما أتؤمنه قال نعم قال فأنا كعب بن زهير فتواثبت الأنصار تقول يا رسول الله ائذن لنا فيه فقال وكيف وقد أتاني مسلما وكف عنه المهاجرون ولم يقولوا شيئا فأنشد رسولَ الله قصيدته
( بانت سعادُ فقَلْبي اليوم متبول ... )
حتى انتهى إلى قوله
( لا يَقَعُ الطَّعْنُ إلاَّ في نُحورهمُ ... وما بِهِم عن حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ )
هكذا في رواية عمر بن شبة ورواية غيره تعليل
فعند ذلك أومأ رسول الله إلى الحلق حوله أن تسمع منه قال وعرض بالأنصار في قصيدته في عدة مواضع منها قوله
( كانت مواعيد عُرْقُوبٍ لها مَثَلاً ... وما موَاعيدُها إلاَّ الأباطِيلُ )

وعرقوب رجل من الأوس فلما سمع المهاجرون بذلك قالوا
ما مدحنا من هجا الأنصار فأنكروا قوله وعوتب على ذلك فقال
( مَنْ سرَّه كَرَمُ الحياةِ فلا يَزَلْ ... في مِقْنَب مِن صَالحي الأنصارِ )
( الباذِلينَ نفوسَهمْ لِنَبِيِّهم ... عند الهِياج وسَطْوَةِ الجبَّارِ )
( والناظِرين بأعْيُنٍ محمَرَّة ... كالجَمْرِ غَيْرِ كَليلةِ الإِبْصارِ )
( والضَّاربِين الناسَ عن أديانهم ... بالمَشْرَفيّ وبالقَنا الخَطَّارِ )
( يتطهَّرُونَ يَروْنَهُ نسكاً لهم ... بدماء مَنْ علِقُوا مِنَ الكفَّارِ )
( صَدَمُوا الكتيبةَ يوم بَدْرٍ صَدْمَةً ... ذَلَّتْ لوَقْعَتِها رِقَابُ نِزارِ )
قال أبو زيد الذي عناه كعب رجل من الأوس كان وعد رجلا ثمر نخلة فلما أطلعت أتاه فقال دعها حتى تلقح فلما لقحت قال دعها حتى تزهي فلما أزهت أتاه فقال دعها حتى ترطب ثم أتاه فقال دعها حتى تتمر فلما أتمرت عدا عليها ليلا فجدها فضرب به في الخلف المثل وذلك قول الشماخ
( وَوَاعَدَنِي ما لاَ أُحاوِل نَفْعَه ... مواعيدَ عُرْقُوبٍ أخاه بِيَتْرِبِ )

وقال المتلمس لعمرو بن هند
( مَنْ كان خُلْفَ الوعدِ شيمتَه ... والغَدْرُ عرقوبٌ لَهُ مَثَلُ )
وما قالته الشعراء في ذكر عرقوب يكثر
قال إبراهيم بن المنذر حدثني معن بن عيسى قال حدثني الأوقص محمد بن عبد الرحمن المخزومي قال
حدثني علي بن زيد أن كعب بن زهير أنشد رسول الله هذه القصيدة في المسجد الحرام لا في مسجد المدينة
قال إبراهيم حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال
عنى كعب بن زهير بقوله
( في فِتْيَةٍ من قريش قال قائلهم ... )
عمر بن الخطاب رضي الله عنه

صوت
( أبِيني أفي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِني ... فأفرحَ أمْ صيَّرتِني في شِمالِكِ )

( أبِيتُ كأنّي بين شِقَّيْنِ مِنْ عَصاً ... حذَارَ الرَّدَى أو خِيفةً من زِيالِكِ )
( تَعَالَلْتِ كي أشجَى وما بِكِ عِلَّة ... تُريدينَ قَتْلِي قد ظَفِرْتِ بذلكِ )
عروضه من الطويل الشعر لابن الدمينة بعضه وبعضه ألحقه المغنون به وهو لغيره والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر

أخبار ابن الدمينة ونسبه
الدمينة أمه وهي الدمينة بنت حذيفة السلولية واسم ابن الدمينة عبد الله بن عبيد الله أحد بني عامر بن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك
وقيل إن أكلب هو ابن ربيعة بن نزار ليس ابن ربيعة بن عفرس وإنهم حالفوا خثعم ونزلوا فيهم فنسبوا إليهم
ويكنى ابن الدمينة أبا السري
وكان بلغه أن رجلا من أخواله من سلول يأتي امرأته ليلا فرصده حتى أتاها فقتله ثم قتلها بعده ثم اغتالته سلول بعد ذلك فقتلته
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي وأضفت إلى ذلك ما رواه الزبير بن بكار عن أصحابه وما اتفقت الروايتان فيه فإذا اختلفتا نسبت كل خبر إلى راويه

مزاحم بن عمرو يرمى بامرأته ويشهر به
قال الزبير حدثني موهوب بن رشيد الكلابي وإبراهيم بن سعد السلمي وعمر بن إبراهيم السعدي عن ميناس بن عبد الصمد عن مصعب بن عمرو السلولي أخي مزاحم بن عمرو قالوا جميعا
إن رجلا من سلول يقال له مزاحم بن عمرو كان يرمى بامرأة ابن الدمينة وكان اسمها حماء قال السكري كان اسمها حمادة فكان يأتيها ويتحدث إليها حتى اشتهر ذلك فمنعه ابن الدمينة من إتيانها واشتد عليها فقال مزاحم يذكر ذلك - وهذا من رواية ابن حبيب وهي أتم وأصح -
( يا بْنَ الدُّمينةِ والأخبارُ يرفَعُها ... وخْدُ النّجائِب والمحقُورُ يُخْفيها )
( يا بْنَ الدُّمَيْنة إنْ تغضَبْ لَما فَعَلتْ ... فطال خِزْيُكَ أو تغضَبْ مَوالِيها )
( أو تُبغضوني فكم مِنْ طعنةٍ نَفَذٍ ... يَغْذُو خِلاَلَ اختلاج الجَوْفِ غَاذِيها )
( جاهَدْتُ فيها لكُمْ إني لكُمْ أبداً ... أبْغِي معايبكم عَمْداً فآتِيها )
( فذاكَ عندي لكم حتّى تُغَيِّبَنِي ... غَبْراءُ مُظْلِمةٌ هارٍ نَواحِيها )
( أغْشَى نساء بني تَيْم إذا هجعَتْ ... عنّي العُيُونَ ولا أبغِي مَقارِيها )
( كم كاعبٍ مِنْ بني تَيْم قعدْتُ لها ... وعانِسٍ حين ذاقَ النومَ حَامِيها )

( كقِعْدة الأعْسر العُلْفوف مُنْتَحِياً ... مَتِينةً من متون النَّبْلِ يُنْحِيها )
( وشَهْقَةٍ عند حسِّ الماء تشهَقُها ... وقولُ رُكْبَتِها قِضْ حين تثنيها )
( علامَة كيِّة ما بَيْنَ عانَتِها ... وبين سَبَّتِها لا شلَّ كاويها )
( وتَعْدِلُ الأَيْرَ إنْ زاغتْ فتبعثه ... حتى يقيمَ برفقٍ صَدْرَهُ فيها )
( بَيْنَ الصَّفُوقَيْنِ في مستهدفِ ومِدٍ ... ذِي حَرَّة ذاق طعْمَ الموتِ صالِيها )
( ماذا تَرى ابن عُبَيْد الله في امرأةٍ ... ليست بمُحْصنةٍ عَذْراءُ حاويها )
( أيَّام أنْتَ طرِيدٌ لا تقاربُها ... وصادفَ القَوْسَ في الغِرَّاتِ بارِيها )
( تَرَى عجُوزَ بني تيم ملفّعةً ... شُمْطا عوارِضُها رُبْداً دَوَاهِيها )
( إذ تجعلُ الدِّفْنِسُ الوَرْهاء عُذْرَتها ... قُشارةً من أديم ثم تفريها )
( حتى يظلَّ هِدَان القوم يَحْسبُها ... بِكْراً وقَبْلُ هَوى في الدار هاوِيها )
قال الزبير عن رجاله وابن حبيب عن ابن الأعرابي
لما بلغ ابن الدمينة شعر مزاحم أتى امرأته فقال لها قد قال فيك هذا الرجل ما قال وقد بلغك قالت والله ما أرى ذلك مني قط قال فمن أين له العلامات قالت وصفهن له النساء قال هيهات والله أن يكون ذلك كذلك ثم أمسك مدة وصبر حتى ظن أن مزاحما قد نسي القصة ثم أعاد عليها القول وأعادت الحلف أن ذلك مما وصفه له النساء فقال لها والله لئن لم تمكنيني منه لأقتلنك فعلمت أنه سيفعل ذلك فبعثت إليه وواعدته ليلا وقعد له ابن الدمينة وصاحب

له فجاءها للموعد فجعل يكلمها وهي مكانها فلم تكلمه فقال لها يا حماء ما هذا الجفاء الليلة قال فتقول له هي بصوت ضعيف ادخل فدخل فأهوى بيده ليضعها عليها فوضعها على ابن الدمينة فوثب عليه هو وصاحبه وقد جعل له حصى في ثوب فضرب بها كبده حتى قتله وأخرجه فطرحه ميتا فجاء أهله فاحتملوه ولم يجدوا به أثر السلاح فعلموا أن ابن الدمينة قتله
قال الزبير في حديثه وقد قال ابن الدمينة في تحقيق ذلك
( قالوا هجَتْكَ سَلولُ الّلُّؤمِ مُخْفِيةً ... فاليومَ أهْجُو سَلُولاً لا أُخافيها )
( قالوا هجاكَ سلُوليٌّ فقلتُ لهم ... قد أنصف الصَّخْرَة الصَّماء رَامِيها )
( رِجالُهم شَرُّ من يَمْشِي ونسْوَتُهم ... شرُّ البريَّةِ واسْتٌ ذَلَّ حامِيها )
( يَحْكُكْنَ بالصَّخْر أستاهاً بها نُقَب ... كما يُحُكُّ نِقابَ الجُرْبِ طالِيها )
قال وقال أيضا يذكر دخول مزاحم ووضعه يده عليه
( لكَ الخَيْرُ إنْ واعدْتَ حَمَّاءُ فالْقَها ... نهاراً ولا تُدْلج إذا الليلُ أظلما )
( فإنَّكِ لا تَدْرِي أَبيضاء طَفْلَةً ... تُعانِقُ أمْ لَيْثاً من القوم قَشْعَما )
( فلما سَرَى عن ساعِدَيَّ ولحيتي ... وأيقن أني لستُ حَمَّاء جَمْجَما )

ابن الدمينة يقتل امرأته
قالوا جميعا ثم أتى ابن الدمينة امرأته فطرح على وجهها قطيفة ثم جلس عليها حتى قتلها فلما ماتت قال
( إذا قَعَدْتَ على عِرْنين جاريةٍ ... فوق القطيفةِ فادْعُوا لي بحَفَّار )

فبكت بنية له منها فضرب بها الأرض فقتلها وقال متمثلا لا تتخذن من كلب سوء جروا
قال الزبير في خبره عن عمه مصعب عن حميد بن أنيف قال
فخرج جناح أخو المقتول إلى أحمد بن إسماعيل فاستعداه على ابن الدمينة فبعث إليه فحبسه
وقالوا جميعا قالت أم أبان والدة مزاحم بن عمرو المقتول وهي من خثعم ترثي ابنها وتحضض مصعبا وجناحا أخويه
( بأهْلِي ومالِي بل بِجُلِّ عشيرتي ... قَتيلُ بني تَيْمٍ بغير سِلاح )
( فهَلاَّ قَتَلْتُم بالسِّلاحِ ابْنَ أُختِكم ... فتظهرَ فيه للشهودِ جِرَاحُ )
( فلا تطمعوا في الصلح ما دمْتُ حيّةً ... وما دامَ حيّاً مُصْعَبٌ وجَناحُ )
( ألَم تعلموا أنَّ الدَّوائرَ بيننا ... تَدُورُ وأنَّ الطالبين شِحاحُ )
قالوا فلما طال حبسه ولم يجد عليه أحمد بن إسماعيل سبيلا ولا حجة خلاه وقتلت بنو سلول رجلا من خثعم مكان المقتول وقتلت خثعم بعد ذلك نفرا من سلول ولهم في ذلك قصص وأشعار كثيرة

رواية مقتله
قالوا وأقبل ابن الدمينة حاجا بعد مدة طويلة فنزل بتبالة فعدا عليه مصعب أخو المقتول لما رآه وقد كانت أمه حرضته عليه وقالت اقتل ابن الدمينة فإنه قتل أخاك وهجا قومك وذم أختك وقد كنت أعذرك قبل هذا

لأنك كنت صغيرا وقد كبرت الآن فلما أكثرت عليه خرج من عندها وبصر بابن الدمينة واقفا ينشد الناس فغدا إلى جزار فأخذ شفرته وعدا على ابن الدمينة فجرحه جراحتين فقيل إنه مات لوقته وقيل بل سلم تلك الدفعة ومر به مصعب بعد ذلك وهو في سوق العبلاء ينشد فعلاه بسيفه حتى قتله وعدا وتبعه الناس حتى اقتحم دارا وأغلقها على نفسه فجاءه رجل من قومه فصاح به يا مصعب إن لم تضع يدك في يد السلطان قتلتك العامة فاخرج فلما عرفه قال له أنا في ذمتك حتى تسلمني إلى السلطان قال نعم فخرج إليه ووضع يده في يده فسلمه إلى السلطان فقذفه في سجن تبالة
قال السكري في خبره ومكث ابن الدمينة جريحا ليلته ومات في غد فقال في تلك الليلة يحرض قومه ويوبخهم
( هَتفتَ بأكْلُبٍ ودَعَوْتَ قَيْساً ... فلا خذُلاً دعَوْتَ ولا قَلِيلا )
( ثأرتَ مزاحماً وسَرَرت قيْساً ... وكنتَ لِما هممت بِه فَعُولا )
( فلا تَشلَلْ يَدَاك ولا تزالاَ ... تُفِيدان الغنائمَ والجزِيلاَ )
( فلو كان ابْنُ عبْدِ الله حيّاً ... لصبَّحَ في منازِلَها سَلُولاَ )
قال وبلغ مصعبا أن قوم ابن الدمينة يريدون أن يقتحموا عليه سجن تبالة فيقتلوه به غيلة فقال يحرض قومه
( لقيتُ أبا السَّرِيِّ وقد تَكَالا ... لهُ حقُّ العداوَةِ في فؤادي )
( فكاد الغيظُ يُفْرِطَني إليه ... بطَعْن دونه طَعْنُ السَّدَادِ )
( إذا نبحَتْ كِلابُ السجْنِ حَوْلِي ... طَمِعْتُ هشَاشَةً وهَفا فُؤادِي )
( طماعَةَ أنْ يدَُقَّ السجْنَ قَوْمِي ... وخَوْفَا أنْ يُبَيِّتَنِي الأعادِي )
( فما ظنِّي بقومي شَرُّ ظَنٍّ ... ولا أنْ يُسْلِمُوني في البلادِ )

( وقد جدّلتُ قاتِلُهُم فأمسَى ... يَمُجُّ دَمَ الوَتِين على الوِسَادِ )
فجاءت بنو عقيل إليه ليلا فكسروا السجن وأخرجوه منه

مصعب السلولي يهرب إلى صنعاء
قال مصعب فلما أفلت من السجن هرب إلى صنعاء فقدم علينا وأبى بها يومئذ وال فنزل على كاتب لأبي كان مولى لهم فرأيته حينئذ ولم يكن جلدا من الرجال
ومما يغنى به من شعر ابن الدمينة قوله من قصيدة أولها
( أقمتُ على زِمَّان يوماً وليلةً ... لأنظُرَ ما واشِي أُمَيْمَة صانِعُ )
( فقَصْرُكِ مني كلَّ عامٍ قَصيدة ... تخُبُّ بها خُوصُ المَطِيِّ النَّزائِعُ )
وهذه القصيدة ذكر أحمد بن يحيى ثعلب أن عبد الله بن شبيب أنشده إياها عن محمد بن عبد الله الكراني لابن الدمينة والذي يغني به منها قوله

صوت
( أُقَضِّي نَهارِي بالحديثِ وبالمُنَى ... ويجمَعُني والهمَّ بالليل جَامِعُ )
( نهارِي نَهارُ الناسِ حتى إذا بَدَا ... ليَ الليلُ شاقتني إليكِ المضاجعُ )
( لقد ثَبتتْ في القلْبِ مِنْكِ محبَّةٌ ... كما ثبَتتْ في الرَّاحَتيْن الأصابِعُ )
غناه إبراهيم رملا بالوسطى عن عمرو بن بانة
نسخت من كتاب أبي سعيد قال حدثنا ابن أبي السري عن هشام قال
هوي ابن الدمينة امرأة من قومه يقال لها أميمة فهام بها مدة فلما وصلته تجنى عليها وجعل ينقطع عنها ثم زارها ذات يوم فتعاتبا طويلا ثم أقبلت عليه فقالت
صوت
( وأنْتَ الذِي أخلَفْتِني ما وعدتني ... وأشْمَتَّ بي مَنْ كان فيكَ يَلُومُ )
( وأبرزْتَنِي للناس ثم تركْتَنِي ... لهم غَرَضاً أُرْمَى وأنت سَلِيمُ )
( فلولا أنَّ قولاً يَكْلُمُ الجِسْمَ قد بَدَا ... بجسمِيَ مِن قْولِ الوُشاةِ كُلُومُ )
الشعر لأميمة امرأة ابن الدمينة والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي وذكر حبش أن لإبراهيم أيضا فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى وذكر حكم الوادي أن هذا اللحن ليعقوب الوادي وفيه لعريب

خفيف ثقيل
قال فأجابها ابن الدمينة فقال
( وأنتِ التي قطَّعْتِ قلبي حزازةً ... ومزَّقْت قَرْح القَلْبِ فَهْوَ كليمُ )
( وأنتِ التي كلفتْنِي دَلَجَ السُّرَى ... وجُونُ القطَا بالجَلْهَتين جُثومُ )
( وأنتِ التي أحفظتِ قومي فكلُّهم ... بَعِيدُ الرِّضا داني الصدودِ كظيمُ )
قال ثم تزوجها بعد ذلك وقتل وهي عنده

قصة عاشقين
فأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق حدثني أبي قال حدثنا سعيد بن سلم عن أبي الحسن الينبعي قال
بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا إذا بظل نسوة في القمر فالتفتنا فإذا بجماعة نسوة فسمعت واحدة منهن وهي تقول أهو هو فقالت الأخرى نعم والله إنه لهو هو فدنت مني ثم قالت يا كهل قل لهذا الذي معك
( ليسَتْ لَياليك في خَاخٍ بعائدةٍ ... كما عَهِدْتَ ولا أيّام ذِي سَلَمِ )

فقلت له أجب فقد سمعت فقال قد والله قطع بي وأرتج علي فأجب عني فالتفت إليها ثم قلت
( فقلتُ لها يا عَزَّ كلُّ مُصِيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوماً لها النفْسُ ذلَت )
فقالت المرأة أوه ثم مضت ومضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت أنا إلى منزلي فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فالتفت إليها فقالت المرأة التي كلمتك تدعوك فمضيت معها حتى دخلت دارا ثم صرت إلى بيت فيه حصير وثنيت لي وسادة فجلست عليها ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها وجاءت المرأة فجلست عليها وقالت أنت المجيب قلت نعم قالت ما كان أفظ جوابك وأغلظه قلت والله ما حضرني غيره فبكت ثم قالت لي والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك قلت أنا الضامن لك عنه ما تحبين قالت أو تفعل قلت نعم فوعدتها أن آتيها به في الليلة القابلة وانصرفت فإذا الفتى ببابي فقلت ما جاء بك قال علمت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أجدك فعلمت أنك عندها فجلست أنتظرك فقلت فقد كان كل ما ظننت ووعدتها أن آتيها بك في الليلة القابلة فمضى ثم أصبحنا فتهيأنا ورحنا فإذا الجارية تنتظرنا فمضت أمامنا حتى دخلنا الدار فإذا برائحة الطيب وجاءت فجلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته طويلا ثم قالت

صوت
( وأنتَ الذي أخلفْتَنِي ما وَعَدْتَنِي ... وأشمَتَّ بي مَنْ كان فيكَ يلومُ )
( وأبرزْتَنِي للناس ثم تركْتَنِي ... لهم غَرضاً أُرْمى وأنتَ سلِيمُ )
( فلو أنّ قولاً يَكْلُمُ الجِسْمَ قد بدَا ... بجِسْميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كُلُومُ )

ثم سكتت فسكت الفتى هنيهة ثم قال
( غَدَرْتِ ولم أغْدِر وخُنْت ولم أخُنْ ... وفي دُونِ هَذَا للمُحِبِّ عَزَاء )
( جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الوُدَّ ثم صَرَمْتِني ... فحبُّكِ في قلبي إليك أدَاء )
فالتفتت إلي وقالت ألا تسمع ما يقول قد أخبرتك قال فغمزته فكف ثم قالت
صوت
( تجاهَلْتَ وَصْلِي حِيْنَ لَجَّتْ عمايتِي ... وهلا صرمت الحبل إذ أنا مبصرا )
( ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته ... نصيب وإذ رأيي جميع موفر )
( ولكنَّما آذَنتَ بالصّرْمِ بَغْتةً ... ولستُ على مِثْلِ الذي جئتَ أقْدِرُ )
غنى في هذه الأبيات إبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر حبش أن فيها ثاني ثقيل بالبنصر
قال فقال الفتى مجيبا لها
( لقد جَعَلَتْ نَفْسي - وأنت اجْتَرَمْتِه ... وكنتِ أحبّ الناس - عنكِ تَطِيبُ )
فبكت ثم قالت أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك خير بعدها فعليك السلام ثم قامت والتفتت إلي وقالت قد علمت أنك لا تفي بضمانك عنه وانصرفنا
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
حدثني أبي قال كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئا يستحسنه أطرفني به وأفعل مثل ذلك فجاءني يوما فوقف بين البابين وأنشد لابن الدمينة

صوت
( ألا يا صَبَا نَجْدٍ متى هِجْتَ مِنْ نَجْدِ ... فقد زادَنِي مَسْراك وَجْداً على وَجْدِ )
( أإنْ هَتَفَتْ ورْقاء في رَونَقِ الضحى ... على فَنَنٍ غَضِّ النبات من الرَّنْدِ )
( بَكَيْتَ كما يَبْكِي الحزينُ صبابةً ... وذُبْت من الشّوق المُبرِّح والصَّدِّ )
( بكيت كما يَبْكِي الوَليدُ ولم تكن ... جَزُوعاً وأبدْيتَ الذي لم تكن تُبْدِي )
( وقد زَعَمُوا أنَّ المُحِبَّ إذا دَنَا ... يَمَلُّ وأنَّ النأْيَ يَشفي من الوَجْدِ )
( بكُلِّ تَدَاوَينا فلم يُشْفِ ما بِنا ... على أنَّ قُرْبَ الدارِ خَيْرٌ مِنَ البُعْدِ )
وزيد على ذلك بيت وهو
( ولكنَّ قُرْبَ الدَّارِ ليس بنافعٍ ... إذا كان مَنْ تهْواه ليس بذِي وُدّ )
ثم ترنح ساعة وترجح أخرى ثم قال أنطح العمود برأسي من حسن هذا فقلت لا ارفق بنفسك
الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم له فيه لحنان أحدهما ما خوري بالبنصر أوله البيت الثاني والآخر خفيف ثقيل بالوسطى أوله البيت الأول
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال
حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال حدثني أحمد بن سعيد عن ابن زبنج راوية ابن هرمة قال
لقي ابن هرمة بعض أصدقائه بالبلاط فقال له من أين أقبلت قال من

المسجد قال فأي شيء صنعت هناك قال كنت جالسا مع إبراهيم بن الوليد المخزومي قال فأي شيء قال لك قال أمرني أن أطلق امرأتي قال فأي شيء قلت له قال ما قلت له شيئا قال فوالله ما قال لك ذلك إلا لأمر أظهرته عليه وكتمتنيه أفرأيت إن أمرتَه بطلاق امرأته أيطلقها قال لا والله قال فابن الدمينة كان أنصف منك كان يهوى امرأة من قومه فأرسلت إليه إن أهلي قد نهوني عن لقائك ومراسلتك فأرسل إليها
صوت
( أطعْتِ الآمِرِيكِ بقَطْعِ حَبْلِي ... مُرِيهمْ في أحبّتِهم بذاكِ )
( فإنْ هُمْ طاوَعوكِ فطاوعيهم ... وإنْ عاصَوْكِ فاعصي مَنْ عصاكِ )
( أما والرَّاقِصاتِ بكلِّ فَجٍّ ... ومَنْ صَلَّى بنَعْمانِ الأراكِ )
( لقد أضمَرْتُ حُبَّك في فُؤَادِي ... وما أضْمَرْتُ حُبّاً مِنْ سِواكِ )
في هذه الأبيات لإسحاق رمل وفيها لشارية خفيف رمل بالوسطى ولعريب خفيف ثقيل ابتداؤه ينشد في الثالث والرابع ثم الثاني والأول وفيه لمتيم خفيف رمل آخر

وحدثني بعض أصدقائنا عن أبي بكر بن دريد - ولم أسمعه منه - قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه ووجدته أيضا في بعض الكتب بغير هذا الإسناد عن الأصمعي فجمعت الحكايتين قال
مررت بالكوفة وإذا أنا بجارية تطلع من جدار إلى الطريق وفتى واقف وظهره إلي وهو يقول لها أسهر فيك وتنامين عني وتضحكين مني وأبكي وتستريحين وأتعب وأمحضك المودة وتمذقينها لي وأصدقك وتنافقيني ويأمرك عدوي بهجري فتطيعينه ويأمرني نصيحي بذلك فأعصيه ثم تنفس وأجهش باكيا فقالت له إن أهلي يمنعونني منك وينهونني عنك فكيف أصنع فقال لها
( أطَعْتِ الآمِريكِ بصَرْمِ حَبْلِي ... مُرِيهم في أحِبَّتهم بِذاكِ )
( فإنْ هُمْ طاوَعُوك فطاوِعيهم ... وإنْ عاصَوْك فاعصي مَنْ عَصَاكِ )
ثم التفت فرآني فقال يا فتى ما تقول أنت فيما قلت فقلت له والله لو عاش ابن أبي ليلى ما حكم إلا بمثل حكمك
تمت أخبار ابن الدمينة

صوت
( وإنَّ الذي بَيْنِي وبَيْنَ بَنِي أبي ... وبَيْنَ بني عَمِّي لمُخْتَلِفٌ جِدّا )
( فما أحْمِل الحقد القديم عليهمُ ... وليس رئيس القوم من يحمل الحِقدا )
( وليسوا إلى نَصْري سِرَاعا وإنْ همُ ... دعَوْني إلى نَصْرٍ أتيتهُم شَدّا )
( إذا أكلوا لَحْمِي وفَرْتُ لحومَهم ... وإنْ هَدمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدا )
( يعاتِبُني في الدِّينِ قومِي وإنما ... تديَّنْت في أشياء تُكسبهم حَمْدا )

عروضه من الطويل الشعر للمقنع الكندي والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو وفيه من روايته أيضا لمالك خفيف رمل بالوسطى وذكر علي بن يحيى أن لحن ابن سريج خفيف ثقيل وذكر إبراهيم أن فيه لقفا النجار لحنا لم يذكر طريقته وأظنه من خفيف الثقيل

نسب المقنع الكندي وأخباره
المقنع لقب غلب عليه لأنه كان أجمل الناس وجها وكان إذا سفر اللثام عن وجهه أصابته العين
قال الهيثم كان المقنع أحسن الناس وجها وأمدهم قامة وأكملهم خلقا فكان إذا سفر لقع - أي أصابته أعين الناس - فيمرض ويلحقه عنت فكان لا يمشي إلا مقنعا
واسمه محمد بن ظفر بن عمير بن أبي شمر بن فرعان بن قيس بن الأسود ابن عبد الله بن الحارث الولادة - سمي بذلك لكثرة ولده - بن عمرو بن معاوية ابن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب قحطان شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية وكان له محل كبير وشرف ومروءة وسؤدد في عشيرته
قال الهيثم بن عدي أن عمير جده سيد كندة وكان عمه عمرو بن أبي شمر ينازع أباه الرياسة ويساجله فيها فيقصر عنه

المقنع متخرق في عطاياه سمح اليد
ونشأ محمد بن عمير المقنع فكان متخرقا في عطاياه سمح اليد بماله لا يرد سائلا عن شيء حتى أتلف كل ما خلفه أبوه من مال فاستعلاه بنو عمه عمرو بن أبي شمر بأموالهم وجاههم وهوي بنت عمه عمرو فخطبها إلى إخوتها فردوه وعيروه بتخرقه وفقره وما عليه من الدين فقال هذه الأبيات المذكورة
وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن زكريا الغلابي عن العتبي قال حدثني أبو خالد من ولد أمية بن خلف قال
قال عبد الملك بن مروان - وكان أول خليفة ظهر منه بخل - أي الشعراء أفضل فقال له كثير بن هراسة يعرض ببخل عبد الملك أفضلهم المقنع الكندي حيث يقول
( إني أحرِّضُ أهْلَ البُخْل كُلَّهم ... لو كان ينفَعُ أهلَ البخل تَحْرِيضي )
( ما قَلَّ مَالِيَ إلاَّ زادَني كرَماً ... حتى يكونَ برزقِ اللهِ تعويضي )
( والمالُ يرفعُ مَنْ لوْلاَ دَراهِمُه ... أمْسى يُقلِّبُ فينا طَرْفَ مخفوضِ )
( لن تُخرجَ البيضُ عَفْواً من أكفهُم ... إلاّ عَلى وَجَعٍ منهم وتَمْرِيض )

( كأنَّها مِنْ جُلودِ الباخلين بها ... عند النوائب تُحْذَى بالمقاريض )
فقال عبد الملك - وعرف ما أراد - الله أصدق من المقنع حيث يقول ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا )

صوت
( يا بْنَ هشام يا علِيّ النَّدَى ... فَدَتْكَ نَفْسِي ووَقَتْكَ الرَدَى )
( نسيتَ عَهْدِي أوْ تناسيْتَنِي ... لَمّا عَدَانِي عَنْكَ صَرْفُ النَّوَى )
الشعر والغناء لإسحاق الموصلي رمل بالبنصر

خبر لإسحاق وابن هشام
وهذا الشعر يقوله في علي بن هشام أيام كان إسحاق بالبصرة وله إليه رسالة حسنة هذا موضع ذكرها أخبرنا بها علي بن يحيى المنجم عن أبيه ووقعت إلينا من عدة وجوه
أن إسحاق كتب إلى علي بن هشام جعلت فداك بعث إلي أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي يرتفع عن قدري ويقصر عنه شكري فلولا ما أعرف من معانيه لظننت أن الرسول غلط بي فيه فما لنا ولك يا عبد الله تدعنا حتى إذا أنسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة من شرها أفسدت قلوبنا وعلقت أنفسنا فلا أنت تريدنا ولا أنت تتركنا فبأي شيء تستحل هذا فأما ما ذكرته من شوقك إلي فلولا أنك حلفت عليه لقلت
( يا مَنْ شكا عَبَثاً إلينا شَوْقَهُ ... شَكْوَى المُحِبِّ وليس بالمُشْتاقِ )
( لو كنْتَ مشتاقاً إلَيَّ تُرِيدُني ... ما طِبْتَ نفساً ساعةً بفِراقِي )
( وحفِظْتَني حِفْظ الخليلِ خلِيلَه ... ووفيْتَ لي بالعَهْدِ والميثاقِ )
( هيهاتَ قد حدثَتْ أمورٌ بَعْدَنا ... وشُغِلْتَ باللذَّاتِ عن إسحاقِ )
وقد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب في الشعر وغيره وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأستقبل الشمال وأتنسم أرواحكم

فيها ثم يكون ما الله أعلم به وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله
( ألاَ قد أرى أنَّ الثَّواءَ قَلِيلُ ... وأنْ لَيْس يَبْقَى للخليلِ خَلِيلُ )
( وإني وإنْ مُكّنْتُ في العَيْشِ حِقْبَةً ... كذِي سَفَرٍ قد حان منه رَحِيلُ )
( فهلْ لي إلى أنْ تنظرَ العيْنُ مَرَّةً ... الى ابْنِ هشامٍ في الحياةِ سَبيلُ ! )
( فقد خِفْتُ أنْ ألْقَى المنايا بحَسْرةٍ ... وفي النَّفْسِ مِنه حاجةٌ وغَلِيلُ )
وأما بعد فإني أعلم أنك - وإن لم تسل عن حالي - تحب أن تعلمها وأن تأتيك عني سلامة فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن مريض القلب
وبعد فأنا - جعلت فداك - في صنعة كتاب مليح ظريف فيه تسمية القوم ونسبهم وبلادهم وأسبابهم وأزمنتهم وما اختلفوا فيه من غنائهم وبعض أحاديثهم وأحاديث قيان الحجاز والكوفة والبصرة المعروفات والمذكورات وما قيل فيهن من الأشعار ولمن كن وإلى من صرن ومن كان يغشاهن ومن كان يرخص في السماع من الفقهاء والأشراف فأعلمني رأيك فيما تشتهي لأعمل على قدر ذلك إن شاء الله
وقد بعثت إليك بأنموذج فإن كان كما قال القائل قبح الله كل دن أوله دردي لم نتجشم إتمامه وربحنا العناء فيه وإن كان كما قال العربي إن الجواد عينه فراره أعلمتنا فأتممناه مسرورين بحسن رأيك فيه إن شاء الله
وهذا مما يدل على أن كتاب الأغاني المنسوب إلى إسحاق ليس له وإنما ألف ما رواه حماد ابنه عنه من دواوين القدماء غير مختلط بعضها ببعض

وكان إسحاق يألف عليا وأحمد ابني هشام وسائر أهلهما إلفا شديدا ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة في أمر لم يقع إلينا إلا لمعا غير مشروحة فهجاهم هجاء كثيرا وانفرجت الحال بينه وبينهم

نماذج من شعره
فأخبرني محمد بن خلف وكيع ويحيى بن علي بن يحيى وغيرهما عن أبي أيوب سليمان المديني عن مصعب قال
قال لي أحمد بن هشام أما تستحي أنت وصباح بن خاقان وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب أن شبب بذكركما إسحاق في الشعر وهو مغن مذكور فيقول
( قد نهانا مُصْعَبٌ وصباحٌ ... فعَصَيْنا مُصْعَباً وصبَاحا )
( عَذلاً ما عَذَلا أمْ ملاماً ... فاسترَحْنا منهما فاستراحا )
ويروى
( علما في العَذْل أم قد ألاما ... )
ويروى
( عذلا عَذْلَهما ثم أناما ... )
فقلت إن كان فعل فما قال إلا خيرا إنما ذكر أنا نهيناه عن خمر شربها وامرأة عشقها وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا قال وما هو قلت قوله
( وصافيةٍ تغْشَى العيونَ رقيقةٍ ... رهينة عامٍ في الدِّنان وعَامِ )

( أدَرْنا بها الكأْسَ الرَّوِيَّةَ مَوْهِناً ... من الليل حتى انْجَاب كلُّ ظَلامِ )
( فما ذَرّ قَرْنُ الشَّمْسِ حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بنَ هِشامِ )
قال أو قد فعل العاض بظر أمه قلت إي والله لقد فعل
إلى هاهنا رواية مصعب
ووجدت هذا الخبر في غير روايته وفيه زيادة قد ذكرتها قال فآلى أحمد بن هشام أن يبلغ فيه كل مبلغ يقدر عليه وأن يجتهد في اغتياله
قال إسحاق حضرت بدار الخليفة وحضر علي بن هشام فقال لي أتهجو أخي وتذكره بما بلغني من القبيح فقلت أو يتعرض أخوك لي ويتوعدني فوالله ما أبالي بما يكون منه لأني أعلم أنه لا يقدر لي على ضر والنفع فلا أريده منه وأنا شاعر مغن والله لأهجونه بما أفري به جلده وأهتك مروءته ثم لأغنين في أقبح ما أقوله فيه غناء تسري به الركبان فقال لي أو تهب لي عرضه وأصلح بينكما فقلت ذاك إليك وإن فعلته فلك لا له ففعل ذلك وفعلته به
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال
كان صباح بن خاقان المنقري نديما لمصعب الزبيري فقال عبد الرحمن ابن أبي عبد الرحمن بن عائشة - وكان خليعا من أهل البصرة -
( مَنْ يكن إبْطُه كآباطِ ذَا الخَلقْ ... فإبْطاي في عِداد الفِقاحِ )
( لِيَ إبْطانِ يَرْمِيانِ جَلِيسي ... بشبِيه السُّلاح بَلْ بالسُّلاحِ )
( فكأنِّي مِنْ نَتْنِ هذا وهذا ... جالسٌ بين مُصْعَبٍ وصباحِ )

أخبرني علي بن يحيى المنجم قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال دخلت على الفضل بن الربيع يوما فقال ما عندك قلت بيتان أرجو أن يكونا فيما يستطرف وأنشدته
( سنُغْضي عن المكروهِ من كلِّ ظالمٍ ... ونصبرُ حتى يصنَع اللهُ بالفَضْل )
( فتنتصر الأحرارُ ممَّنْ يضِيمُها ... وتُدْرِكُ أقْصَى ما تطالِبُ من ذَحْلِ )
قال فدمعت عينه وقال من آذاك لعنه الله فقلت بنو هاشم وأخبرته الخبر
قال يحيى بن علي ولم يذكر بأي شيء أخبره

صوت
( قد حَصَّتِ الْبَيْضةُ رَأْسِي فما ... أطعَمُ نوماً غَيْرَ تَهْجاعِ )
( أسْعَى على جُلِّ بَني مالكٍ ... كلُّ امرىء في شأنِه ساعِ )
( مَنْ يَذُقِ الحَرْبَ يجِدْ طَعْمَها ... مُرّاً وتتركه بجَعْجاعِ )
( لا نألم القَتْلَ ونَجْزِي به الأعداء ... كَيْلَ الصّاعِ بالصَّاعِ )
الشعر لأبي قيس بن الأسلت والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل أول وقيل بل هو لمعبد

نسب أبي قيس بن الأسلت وأخباره
أبو قيس لم يقع إلي اسمه غير ابن الأسلت والأسلت لقب أبيه واسمه عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عمارة بن مرة بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر
وهو شاعر من شعراء الجاهلية وكانت الأوس قد أسندت إليه حربها وجعلته رئيسا عليها فكفى وساد وأسلم ابنه عقبة بن أبي قيس واستشهد يوم القادسية
وكان يزيد بن مرداس السلمي أخو عباس بن مرداس الشاعر قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت حتى تمكن من يزيد بن مرداس فقتله بقيس بن أبي قيس وهو ابن عمه
ولقيس يقول أبوه أبو قيس بن الأسلت

( أقيسٌ إن هلكتُ وأنت حيُّ ... فلا تعدَمْ مُواصَلةَ الفَقيرِ )
وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله أبو قيس في حرب بعاث

ابن الأسلت قائد الأوس في حربها
قال هشام بن الكلبي كانت الأوس قد أسندوا أمرهم في
يوم بعاث
إلى أبي قيس بن الأسلت الوائلي فقام في حربهم وآثرها على كل أمر حتى شحب وتغير ولبث أشهرا لا يقرب امرأة ثم إنه جاء ليلة فدق على امرأته وهي كبشة بنت ضمرة بن مالك بن عدي بن عمرو بن عوف ففتحت له فأهوى إليها بيده فدفعته وأنكرته فقال أنا أبو قيس فقالت والله ما عرفتك حتى تكلمت فقال في ذلك أبو قيس هذه القصيدة وأولها
( قالت ولم تَقْصِدْ لقيلِ الخَنا ... مَهْلاً فقد أبلغْتَ أسْماعِي )
( استنكرَتْ لَوْناً لهُ شاحِباً ... والحربُ غُولٌ ذاتُ أوْجاع )
( مَنْ يَذُقِ الحَرْبَ يَجدْ طعْمَها ... مُرّاً وتتركْه بِجَعْجَاع )
يوم بعاث
سبب يوم بعاث
فأما السبب في هذا اليوم وهو يوم بعاث فيما أخبرني به محمد بن

جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق وأضفت إليه ما ذكره ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر وعن عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب
أن الأوس كانت استعانت ببني قريظة والنضير في حروبهم التي كانت بينهم وبين الخزرج وبلغ ذلك الخزرج فبعثت إليهم إن الأوس فيما بلغنا قد استعانت بكم علينا ولن يعجزنا أن نستعين بأعدادكم وأكثر منكم من العرب فإن ظفرنا بكم فذاك ما تكرهون وإن ظفرتم لم ننم عن الطلب أبدا فتصيروا إلى ما تكرهون ويشغلكم من شأننا ما أنتم الآن منه خالون وأسلم لكم من ذلك أن تدعونا وتخلوا بيننا وبين إخواننا فلما سمعوا ذلك علموا أنه الحق فأرسلوا إلى الخزرج إنه قد كان الذي بلغكم والتمست الأوس نصرنا وما كنا لننصرهم عليكم أبدا فقالت لهم الخزرج فإن كان ذلك كذلك فابعثوا إلينا برهائن تكون في أيدينا فبعثوا إليهم أربعين غلاما منهم ففرقهم الخزرج في دورهم فمكثوا بذلك مدة
ثم إن عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه بياضة إن عامرا أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة وإنه والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل ثم راسهلم إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم نسكنها وإما أن نقتل رهنكم فهموا أن يخرجوا من ديارهم فقال لهم كعب بن أسد القرظي يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الرهن والله ما هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته حتى يولد له غلام مثل أحد الرهن

فاجتمع رأيهم على ذلك فأرسلوا إلى عمرو بألا نسلم لكم دورنا وانظروا الذي عاهدتمونا عليه في رهننا فقوموا لنا به فعدا عمرو بن النعمان على رهنهم هو ومن أطاعه من الخزرج فقتلوهم وأبى عبد الله بن أبي وكان سيدا حليما وقال هذا عقوق ومأثم وبغي فلست معينا عليه ولا أحد من قومي أطاعني وكان عنده في الرهن سليم بن أسد القرظي - وهو جد محمد بن كعب القرظي - فخلى عنه وأطلق ناس من الخزرج نفرا فلحقوا بأهليهم فناوشت الأوس الخزرج يوم قتل الرهن شيئا من قتال غير كبير
واجتمعت قريظة والنضير إلى كعب بن أسد أخي بني عمرو بن قريظة ثم توامروا أن يعينوا الأوس على الخزرج فبعث إلى الأوس بذلك ثم أجمعوا عليه على أن ينزل كل أهل بيت من النبيت على بيت من قريظة والنضير فنزلوا معهم في دورهم وأرسلوا إلى النبيت يأمرونهم بإتيانهم وتعاهدوا ألا يسلموهم أبدا وأن يقاتلوا معهم حتى لا يبقى منهم أحد فجاءتهم النبيت فنزلوا مع قريظة والنضير في بيوتهم ثم أرسلوا إلى سائر الأوس في الحرب والقيام معهم على الخزرج فأجابوهم إلى ذلك فاجتمع الملأ منهم واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم ودخلت معهم قبائل من أهل المدينة منهم بنو ثعلبة - وهم من غسان - وبنو زعوراء وهم من غسان
فلما سمعت بذلك الخزرج اجتمعوا ثم خرجوا وفيهم عمرو بن النعمان البياضي وعمرو بن الجموح السلمي حتى جاؤوا عبد الله بن أبي وقالوا له قد كان الذي بلغك من أمر الأوس وأمر قريظة والنضير واجتماعهم على حربنا وإنا نرى أن نقاتلهم فإن هزمناهم لم يحرز أحد منهم معقله ولا ملجأه حتى لا يبقى منهم أحد
فلما فرغوا من مقالتهم قام عبد الله بن أبي خطيبا وقال إن هذا بغي منكم

على قومكم وعقوق ووالله ما أحب أن رجلا من جراد لقيناهم وقد بلغني أنهم يقولون هؤلاء قومنا منعونا الحياة أفيمنعوننا الموت والله إني أرى قوما لا ينتهون أو يهلكوا عامتكم وإني لأخاف إن قاتلوكم أن ينصروا عليكم لبغيكم عليهم فقاتلوا قومكم كما كنتم تقاتلونهم فإذا ولوا فخلوا عنهم فإذا هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلوا عنكم فقال له عمرو بن النعمان انتفخ والله سحرك يا أبا الحارث حين بلغك حلف الأوس قريظة والنضير فقال عبد الله والله لا حضرتكم أبدا ولا أحد أطاعني أبدا ولكأني أنظر إليك قتيلا تحملك أربعة في عباءة
وتابع عبد الله بن أبي رجال من الخزرج منهم عمرو بن الجموح الحرامي واجتمع كلام الخزرج على أن رأسوا عليهم عمرو بن النعمان البياضي وولوه أمر حربهم ولبثت الأوس والخزرج أربعين ليلة يتصنعون للحرب ويجمع بعضهم لبعض ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل العرب فأرسلت الخزرج إلى جهينة وأشجع فكان الذي ذهب إلى أشجع ثابت بن قيس بن شماس فأجابوه وأقبلوا إليهم وأقبلت جهينة إليهم أيضا وأرسلت الأوس إلى مزينة وذهب حضير الكتائب الأشهلي إلى أبي قيس بن الأسلت فأمره أن يجمع له أوس الله فجمعهم له أبو قيس فقام حضير فاعتمد على قوسه وعليه نمرة تشف عن عورته فحرضهم وأمرهم بالجد في حربهم وذكر ما صنعت بهم الخزرج من إخراج النبيت وإذلال من تخلف من سائر الأوس في كلام كثير
فجعل كلما ذكر ما صنعت بهم الخزرج وما ركبوه منهم يستشيط ويحمى وتقلص خصيتاه حتى تغيبا فإذا كلموه بما يحب تدلتا حتى ترجعا إلى حالهما

فأجابته أوس الله بالذي يحب من النصرة والموازرة والجد في الحرب
قال هشام فحدثني عبد المجيد بن أبي عيسى عن خير عن أشياخ من قومه أن الأوس اجتمعت يومئذ إلى حضير بموضع يقال له الجباة فأجالوا الرأي فقالت الأوس إن ظفرنا بالخزرج لم نبق منهم أحدا ولم نقاتلهم كما كنا نقاتلهم فقال حضير يا معشر الأوس ما سميتم الأوس إلا لأنكم تؤوسون الأمور الواسعة ثم قال
( يا قوم قد أصْبَحْتُمُ دَوَارا ... لمعشَرٍ قد قَتَلُوا الخِيارا )
( يُوشِكُ أنْ يستَأصِلُوا الدِّيارا ... )
قال ولما اجتمعوا بالجباة طرحوا بين أيديهم تمرا وجعلوا يأكلون وحضير الكتائب جالس وعليه بردة له قد اشتمل بها الصماء وما يأكل معهم ولا يدنو إلى التمر غضبا وحنقا فقال يا قوم اعقدوا لأبي قيس بن الأسلت فقال لهم أبو قيس لا أقبل ذلك فإني لم أرأس على قوم في حرب قط إلا هزموا وتشاءموا برياستي وجعلوا ينظرون إلى حضير واعتزاله أكلهم واشتغاله بما هم فيه من أمر الحرب وقد بدت خصيتاه من تحت البرد فإذا رأى منهم ما يكره من الفتور والتخاذل تقلصتا غيظا وغضبا وإذا رأى منهم ما يحب من الجد والتشمير في الحرب عادتا لحالهما

وأجابت إلى ذلك أوس مناة وجدوا في الموازرة والمظاهرة وقدمت مزينة على الأوس فانطلق حضير وأبو عامر الراهب بن صيفي إلى أبي قيس بن الأسلت فقالا قد جاءتنا مزينة واجتمع إلينا من أهل يثرب ما لا قبل للخزرج به فما الرأي إن نحن ظهرنا عليهم الإنجاز أم البقية فقال أبو قيس بل البقية فقال أبو عامر والله لوددت أن مكانهم ثعلبا ضباحا فقال أبو قيس اقتلوهم حتى يقولوا بزا بزا - كلمة كانوا يقولونها إذا غلبوا - فتشاجروا في ذلك وأقسم حضير ألا يشرب الخمر أو يظهر ويهدم مزاحما أطم عبد الله بن أبي
فلبثوا شهرين يعدون ويستعدون ثم التقوا ببعاث وتخلف عن الأوس بنو حارثة بن الحارث فبعثوا إلى الخزرج إنا والله ما نريد قتالكم فبعثوا إليهم أن ابعثوا إلينا برهن منكم يكونون في أيدينا فبعثوا إليهم اثني عشر رجلا منهم خديج أبو رافع بن خديج
وبعاث من أموال بني قريظة فيها مزرعة يقال لها قورى فلذلك تدعى بعاث الحرب

حشد القوات
وحشد الحيان فلم يتخلف عنهم إلا من لا ذكر له ولم يكونوا حشدوا قبل ذلك في يوم التقوا فيه فلما رأت الأوس الخزرج أعظموهم وقالوا لحضير يا أبا أسيد لو حاجزت القوم وبعثت إلى من تخلف من حلفائك من مزينة فطرح قوسا كانت في يده ثم قال أنتظر مزينة وقد نظر إلي القوم ونظرت إليهم الموت قبل ذلك ثم حمل وحملوا فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الأوس حين

وجدوا مس السلاح فولوا مصعدين في حرة قورى نحو العريض وذلك وجه طريق نجد فنزل حضير وصاحت بهم الخزرج أين الفرار ألا إن نجدا سنة - أي مجدب - يعيرونهم
فلما سمع حضير طعن بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح واعقراه والله لا أريم حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا
فتعطفت عليه الأوس وقام على رأسه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ولبيد - ابنا خليفة بن ثعلبة - وهما يومئذ معرسان ذوا بطش فجعلا يرتجزان ويقولان
( أيَّ غلامَيْ ملكٍ تَرانا ... في الحَرْبِ إذ دَارَتْ بنا رَحانا )
( وعدَّدَ الناسُ لنَا مَكانا ... )
مقتل عمرو بن النعمان وانهزام الخزرج
فقاتلا حتى قتلا وأقبل سهم حتى أصاب عمرو بن النعمان رأس الخزرج فقتله لا يدرى من رمى به إلا أن بني قريظة تزعم أنه سهم رجل يقال له أبو لبابة فقتله

فبينا عبد الله بن أبي يتردد على بغلة له قريبا من بعاث يتحسس أخبار القوم إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان ميتا في عباءة يحمله أربعة إلى داره فلما رآه عبد الله بن أبي قال من هذا قالوا عمرو بن النعمان قال ذق وبال العقوق
وانهزمت الخزرج ووضعت الأوس فيهم السلاح وصاح صائح يا معشر الأوس أسجحوا ولا تهلكوا إخوتكم فجوارهم خير من جوار الثعالب
فتناهت الأوس وكفت عن سلبهم بعد إثخان فيهم وسلبتهم قريظة والنضير وحملت الأوس حضيرا من الجراح التي به وهم يرتجزون حوله ويقولون
( كَتِيبة زَيَّنَها مَوْلاها ... لا كَهْلُها هِدٌّ ولا فَتاها )
وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها فخرج سعد بن معاذ الأشهلي حتى وقف على باب بني سلمة وأجارهم وأموالهم جزاء لهم بيوم الرعل وكان للخزرج على الأوس يوم يقال له يوم مغلس ومضرس وكان سعد بن معاذ حمل يومئذ جريحا إلى عمرو بن الجموح الحرامي فمن عليه

وأجاره وأخاه يوم رعل وهو على الأوس من القطع والحرق فكافأه سعد بمثل ذلك في يوم بعاث
وأقسم كعب بن أسد القرظي ليذلن عبد الله بن أبي وليحلقن رأسه تحت مزاحم فناداه كعب انزل يا عدو الله فقال له عبد الله أنشدك الله وما خذلت عنكم فسأل عما قال فوجده حقا فرجع عنه
وأجمعت الأوس على أن تهدم مزاحما أطم عبد الله بن أبي وحلف حضير ليهدمنه فكلم فيه فأمرهم أن يريثوا فيه فحفروا فيه كوة وأفلت يومئذ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس أخا بني الحارث بن الخزرج وهي النعمة التي كافأه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة
وخرج حضير الكتائب وأبو عامر الراهب حتى أتيا أبا قيس بن الأسلت بعد الهزيمة فقال له حضير يا أبا قيس إن رأيت أن تأتي الخزرج قصرا قصرا ودارا دارا نقتل ونهدم حتى لا يبقى منهم أحد فقال أبو قيس والله لا نفعل ذلك فغضب حضير وقال ما سميتم الأوس إلا لأنكم تووسون الأمر أوسا ولو ظفرت منا الخزرج بمثلها ما أقالوناها ثم انصرف إلى الأوس فأمرهم بالرجوع إلى ديارهم

موت حضير الكتائب الأشهلي
وكان حضير جرح يومئذ جراحة شديدة فذهب به كليب بن صيفي بن عبد الأشهل إلى منزله في بني أمية بن زيد فلبث عنده أياما ثم مات من الجراحة التي كانت به فقبره اليوم في بني أمية بن زيد
قال وكان يهودي أعمى من بني قريظة يومئذ في أطم من آطامهم فقال لابنة له أشرفي على الأطم فانظري ما فعل القوم فأشرفت فقالت أسمع

الصوت قد ارتفع في أعلى قورى وأسمع قائلا يقول اضربوا يا آل الخزرج فقال الدولة إذا على الأوس لا خير في البقاء ثم قال ماذا تسمعين قالت أسمع رجالا يقولون يا آل الأوس ورجالا يقولون يا آل الخزرج قال الآن حمي القتال ثم لبث ساعة ثم قال أشرفي فاسمعي فأشرفت فقالت أسمع قوما يقولون
( نحن بنو صَخْرَة أصحابُ الرَّعَلْ ... )
قال تلك بنو عبد الأشهل ظفرت والله الأوس - وصخرة أمهم بنت مرة بن ظفر أم بني عبد الأشهل - ثم وثب فرحا نحو باب الأطم فضرب رأسه بحلق بابه وكان من حجارة فسقط فمات
وكان أبو عامر قد حلف ليركزن رمحه في أصل مزاحم أطم عبد الله بن أبي فخرجت جماعة من الأوس حتى أحاطوا به وكانت تحت أبي عامر جميلة بنت عبد الله بن أبي وهي أم حنظلة الغسيل بن أبي عامر فأشرف عليهم عبد الله فقال إني والله ما رضيت هذا الأمر ولا كان عن رأيي وقد عرفتم كراهتي له فانصرفوا عني فقال أبو عامر لا والله لا أنصرف حتى أركز لوائي في أصل أطمك
فلما رأى حنظلة أنه لا ينصرف قال لهم إن أبي شديد الوجد بي فأشرفوا بي عليه ثم قولوا والله لئن لم تنصرف عنا لنرمين برأسه إليك فقالوا ذلك له فركز رمحه في أصل الأطم ليمينه ثم انصرف فذلك قول قيس بن الخطيم

( صبَحْنَا به الآطامَ حَوْلَ مُزاحِمٍ ... قَوانِسُ أولَى بَيْضِنا كالكواكب )
وأسر أبو قيس بن الأسلت يومئذ مخلد بن الصامت الساعدي أبا مسلمة بن مخلد اجتمع إليه ناس من قومه من مزينة ومن يهود فقالوا اقتله فأبى وخلى سبيله وأنشأ يقول
( أسرت مخلدا فعفوت عنه ... وعند الله صالح ما أتيت )
( مزينة عنده ويهود قورى ... وقومي كل ذلكم كفيت )
رثاء حضير
( وقال خفاف بن ندبة يرثي حضير الكتائب وكان نديمه وصديقه
( لو انَّ المنايا حِدْنَ عن ذِي مَهابةٍ ... لَهِبْنَ حُضيراً يومَ أغلق وَاقِما )
( أطاف به حتى إذا الليلُ جَنَّهُ ... تَبَوَّأ منه منزلاً مُتَناعِما )
وقال أيضا يرثيه
( أتَاني حديثُ فكذَّبْتُه ... وقيل خَليلُكَ في المَرْمَسِ )
( فيا عين بَكِّي حُضَير النّدَى ... حُضَيرَ الكَتائبِ والمجلس )

( ويومٍ شديدِ أُوَارِ الحديدِ ... تقطَّعُ منه عُرَى الأنْفُسِ )
( صَلِيتَ به وعليك الحديد ... ُ ما بين سَلعٍ إلى الأعْرُسِ )
( فأوْدَى بنفسكَ يومُ الوَغى ... ونقَّى ثيابك لم تدنَسِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني داود بن محمد بن جميل عن ابن الأعرابي قال قال لي الهيثم بن عدي كنا جلوسا عند صالح بن حسان فقال لنا
وأخبرني عمي عن الكراني عن النوشجاني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قال لنا صالح بن حسان وأخبرني به الأخفش عن المبرد قال قال لي صالح بن حسان
أنشدوني بيتا خفرا في امرأة خفرة شريفة فقلنا قول حاتم
( يُضِيءُ لها البيتُ الظليلُ خصاصُه ... إذا هِيَ يَوْماً حاولَتْ أن تبسَّما )
فقال هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا قلنا قول الأعشى
( كأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بَيْتِ جارتِها ... مَرُّ السحابة لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ )
فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الاختلاف قلنا بيت ذي الرمة
( تَنُوءُ بأُخراها فلأياً قِيامُها ... وتَمْشي الهُوَيْنا مِنْ قَرِيبٍ فتُبْهَرُ )
فقال هذا ليس ما أردت إنما وصف هذه بالسمن وثقل البدن فقلنا ما عندنا شيء فقال قول أبي قيس بن الأسلت
( ويكرِمُها جاراتها فيزرْنَها ... وتَعْتَلُّ عن إتيانِهنَّ فتُعْذَرُ )
( وليس لها أنْ تستهين بجارةٍ ... ولكنها مِنْهُنَّ تحْيَا وتخفَرُ )

ثم قال أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا قلنا بيت ابن الزبير الأسدي
( وقد لاح في القُور الثُّريَّا كأنما ... به رايةٌ بيضاء تخفقٌ للطَّعْنِ )
قال أريد أحسن من هذا قلنا بيت امرىء القيس
( إذا ما الثريَّا في السماء تعرَّضَتْ ... تعرضَ أثناءِ الوِشاحِ المُفصَّلِ )
قال أريد أحسن من هذا قلنا بيت ابن الظثرية
( إذا ما الثريَّا في السماء كأنها ... جُمانٌ وَهَى مِنْ سِلْكِه فتَسرَّعا )
قال أريد أحسن من هذا قلنا ما عندنا شيء قال قول أبي قيس بن الأسلت
( وقد لاح في الصُّبْح الثريَّا لمن رَأى ... كعنقود مُلاَّحِيَّة حين نَّورا )
قال فحكم له عليهم في هذين المعنيين بالتقدم

استشهاد عبد الملك بشعر ابن الأسلت
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أحمد بن طالب الديناري قال حدثني أبو عدنان قال حدثني الهيثم بن عدي قال حدثني الضحاك بن زميل السكسكي قال

لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير خطب الناس بالنخيلة فقال في خطبته أيها الناس دعوا الأهواء المضلة والآراء المتشتتة ولا تكلفونا أعمال المهاجرين وأنتم لا تعملون بها فقد جاريتمونا إلى السيف فرأيتم كيف صنع الله بكم ولا أعرفنكم بعد الموعظة تزدادون جراءة فإني لا أزداد بعدها إلا عقوبة وما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو قيس بن الأسلت
( من يَصْلَ نارِي بلا ذَنْبٍ ولا تِرَةٍ ... يصلَ بنارِ كريمٍ غيْر غَدَّارِ )
( أنا النذيرُ لكم مِنِّي مُجاهرة ... كي لا أُلامَ على نهيٍ وإعذار )
( فإنْ عصيْتم مقالي اليومَ فاعترفوا ... أنْ سوف تلقون خِزياً ظاهِرَ العارِ )
( لتُتْرَكُنَّ أحاديثاً مُلَعَّنَةً ... عند المقيم وعند المُدْلج السَّارِي )
( وصاحب الوِتْر ليس الدهرَ مُدْرِكَه ... عندي وإني لطلاَّبٌ لأوْتارِ )
( أُقِيمُ عَوْجَتَهُ إن كان ذا عِوجٍ ... كما يقوِّمُ قِدح النَّبْعَةِ الباري )

صوت
( ترفَّعْ أيها القمر المنيرُ ... لعلَّكِ أن ترى حُجْراً يَسيرُ )
( يَسير إلى مُعاوية بن حَرْبٍ ... ليقتلَه كما زعم الأميرُ )

( ألا يا حُجْر حجر بني عَدِيٍّ ... تلقَّتكَ السلامة والسرور )
( تنعّمت الجَبابِرُ بعد حُجْرٍ ... وطاب لها الخورنَقُ والسَّدِيرُ )
الشعر لامرأة من كندة ترثي حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه والغناء لحكم الوادي رمل بالوسطى وفيه لحنين هزج خفيف بالوسطى عن ابن المكي والهشامي

خبر مقتل حجر بن عدي
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم قال حدثنا أبو مخنف قال حدثنا خالد بن قطن عن المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير وفضيل بن خديج والحسن بن عقبة المرادي وقد اختصرت جملا من ذلك يسيرة تحرزا من الإطالة
استنكاره ذم علي ولعنه
أن المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة كان يقوم على المنبر فيذم علي بن أبي طالب وشيعته وينال منهم ويلعن قتلة عثمان ويستغفر لعثمان ويزكيه فيقوم حجر بن عدي فيقول ( يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو

على أنفسكم ) وإني أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ممن تطرون ومن تزكون أحق بالذم ممن تعيبون فيقول له المغيرة يا حجر ويحك أكفف من هذا واتق غضبة السلطان وسطوته فإنها كثيرا ما تقتل مثلك ثم يكف عنه
فلم يزل كذلك حتى كان المغيرة يوما في آخر أيامه يخطب على المنبر فنال من علي بن أبي طالب عليه السلام ولعنه ولعن شيعته فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت كل من كان في المسجد وخارجه فقال له إنك لا تدري أيها الإنسان بمن تولع أو هرمت مر لنا بأعطياتنا وأرزاقنا فإنك قد حبستها عنا ولم يكن ذلك لك ولا لمن كان قبلك وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين فقام معه أكثر من ثلاثين رجلا يقولون صدق والله حجر مر لنا بأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا وأكثروا في ذلك
فنزل المغيرة ودخل القصر فاستأذن عليه قومه ودخلوا ولاموه في احتماله حجرا فقال لهم إني قد قتلته قالوا وكيف ذلك قال إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي وما أحب أن أبتدىء أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم فيسعدوا بذلك وأشقى ويعز معاوية في الدنيا ويذل المغيرة في الآخرة سيذكرونني لو قد جربوا العمال
قال الحسن بن عقبة فسمعت شيخا من الحي يقول قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم

زياد يحذره وينذره
قال ثم هلك المغيرة سنة خمسين فجمعت الكوفة والبصرة لزياد

فدخلها ووجه إلى حجر فجاءه وكان له قبل ذلك صديقا فقال له قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإني والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإن الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومودة وإني أخوك الذي تعهد إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي وإذا أتيت ولم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك ولك عندي في كل يوم حاجتان حاجة غدوة وحاجة عشية إنك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك وتشط عندي دمك إني لا أحب التنكيل قبل التقدمة ولا آخذ بغير حجة اللهم اشهد فقال حجر لن يرى الأمير مني إلا ما يحب وقد نصح وأنا قابل نصيحته
ثم خرج من عنده فكان يتقيه ويهابه وكان زياد يدنيه ويكرمه ويفضله والشيعة تختلف إلى حجر وتسمع منه
وكان زياد يشتو بالبصرة ويصيف بالكوفة ويستخلف على البصرة سمرة بن جندب وعلى الكوفة عمرو بن حريث فقال له عمارة بن عقبة

إن الشيعة تختلف إلى حجر وتسمع منه ولا أراه عند خروجك إلا ثائرا فدعاه زياد فحذره ووعظه وخرج إلى البصرة واستعمل عمرو بن حريث فجعلت الشيعة تختلف إلى حجر ويجيء حتى يجلس في المسجد فتجتمع إليه الشيعة حتى يأخذوا ثلث المسجد أو نصفه وتطيف بهم النظارة ثم يمتلىء المسجد ثم كثروا وكثر لغطهم وارتفعت أصواتهم بذم معاوية وشتمه ونقص زياد وبلغ ذلك عمرو بن حريث فصعد المنبر واجتمع إليه أشراف أهل المصر فحثهم على الطاعة والجماعة وحذرهم الخلاف فوثب إليه عنق من أصحاب حجر يكبرون ويشتمون حتى دنوا منه فحصبوه وشتموه حتى نزل ودخل القصر وأغلق عليه بابه وكتب إلى زياد بالخبر فلما أتاه أنشد يتمثل بقول كعب بن مالك
( فلما غدْوا بالعِرْض قال سَراتنا ... علامَ إذا لم نمنع العِرْض نزرعُ )
ما أنا بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده ويل أمك حجر لقد سقط بك العشاء على سرحان

زياد يعود إلى الكوفة ويأمر بإحضاره
ثم أقبل حتى أتى الكوفة فدخل القصر ثم خرج وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر وحجر جالس في المسجد وحوله أصحابه ما كانوا فصعد المنبر فخطب وحذر الناس ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط اذهب

فائتني بحجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه لا يأتيه ولا كرامة فسبوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه فقال يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى أبدانكم عندي وأهواؤكم مع هذا الهجاجة المذبوب أنتم معي وإخوتكم وأبناؤكم وعشيرتكم مع حجر فوثبوا إلى زياد فقالوا معاذ الله أن يكون لنا فيما ها هنا رأي إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين وكل ما ظننت أن يكون فيه رضاك فمرنا به قال ليقم كل امرىء منكم إلى هذه الجماعة التي حول حجر فليدع الرجل أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته حتى تقيموا عنه كل من استطعتم ففعلوا وجعلوا يقيمون عنه أصحابه حتى تفرق أكثرهم وبقي أقلهم
فلما رأى زياد خفة أصحابه قال لصاحب شرطته اذهب فائتني بحجر فإن تبعك وإلا فمر من معك أن ينتزعوا عمد السيوف ثم يشدوا عليه حتى يأتوا به ويضربوا من حال دونه
فلما أتاه شداد قال له أجب الأمير فقال أصحاب حجر لا والله ولا نعمة عين لا يجيبه فقال لأصحابه علي بعمد السيوف فاشتدوا إليها فأقبلوا بها فقال عمير بن زيد الكلبي أبو العمرطة إنه ليس معك رجل معه سيف غيري فما يغني سيفي قال فما ترى قال قم من هذا المكان فالحق بأهلك يمنعك قومك فقام وزياد ينظر على المنبر إليهم فغشوا حجرا بالعمد فضرب رجل من الحمراء يقال له بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وأتاه أبو

سفيان بن العويمر والعجلان بن ربيعة - وهما رجلان من الأزد - فحملاه فأتيا به دار رجل من الأزد يقال له عبيد الله بن موعد فلم يزل بها متواريا حتى خرج منها
قال أبو مخنف فحدثني يوسف بن زياد عن عبيد الله بن عوف قال
لما انصرفنا عن عروة باجميرى قبل قتل عبد الملك مصعبا بعام فإذا أنا بالأحمري الذي ضرب عمرو بن الحمق يسايرني ولا والله ما رأيته منذ ذلك اليوم وما كنت أرى لو رأيته أن أعرفه فلما رأيته ظننته هو هو وذلك حين نظرنا إلى أبيات الكوفة فكرهت أن أسأله أنت ضارب عمرو بن الحمق فيكابرني فقلت له ما رأيتك منذ اليوم الذي ضربت فيه رأس عمرو بن الحمق بالعمود في المسجد فصرعته حتى يومي ولقد عرفتك الآن حين رأيتك
فقال لي لا تعدم بصرك ما أثبت نظرك كان ذلك أمر السلطان أما والله لقد بلغني أنه قد كان امرأ صالحا ولقد ندمت على تلك الضربة فأستغفر الله
فقلت له الآن ترى لا والله لا أفترق أنا وأنت حتى أضربك في رأسك مثل الضربة التي ضربتها عمرو بن الحمق وأموت أو تموت

قال فناشدني وسألني بالله فأبيت عليه ودعوت غلاما يدعى رشيدا من سبي أصبهان معه قناة له صلبة فأخذتها منه ثم أحمل عليه فنزل عن دابته فألحقه حين استوت قدماه على الأرض فأصفق بها هامته فخر لوجهه وتركته ومضيت فبرأ بعد ذلك فلقيته مرتين من دهري كل ذلك يقول لي الله بيني وبينك فأقول له الله بينك وبين عمرو بن الحمق

رجع الحديث إلى سياقه الأول
قال فقال زياد - وهو على المنبر - لتقم همدان وتميم وهوازن وأبناء بغيض ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة وليمضوا من ثم إلى حجر فليأتوني به ثم كره أن تسير مضر مع اليمن فيقع شغب واختلاف أو تنشب الحمية فيما بينهم فقال لتقم تميم وهوازن وأبناء بغيض وأسد وغطفان ولتمض مذحج وهمدان إلى جبانة كندة ثم ليمضوا إلى حجر فليأتوني به وليسير أهل اليمن حتى ينزلوا جبانة الصيداويين وليمضوا إلى صاحبهم فليأتوني به
فخرجت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وقضاعة وخزاعة فنزلوا جبانة الصيداويين ولم تخرج حضرموت مع اليمن لمكانهم من كندة
قال أبو مخنف فحدثني سعيد بن يحيى بن مخنف عن محمد بن مخنف قال فإني لمع أهل اليمن وهم يتشاورون في أمر حجر فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف أنا مشير عليكم برأي فإن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم أن تلبثوا قليلا حتى تكفيكم عجلة في شباب مذحج وهمدان ما تكرهون أن يكون من مساءة قومكم في صاحبكم
فأجمع رأيهم على ذلك فلا والله ما كان إلا كلا ولا حتى أتينا فقيل لنا

إن شباب مذحج وهمدان قد دخلوا فأخذوا كل ما وجدوا في بني بجيلة

حجر الهارب لا يحب الهلاك لأصحابه
قال فمر أهل اليمن على نواحي دور كندة معذرين فبلغ ذلك زيادا فأثنى على مذحج وهمدان وذم أهل اليمن فلما انتهى حجر إلى داره ورأى قلة من معه قال لأصحابه انصرفوا فوالله ما لكم طاقة بمن اجتمع عليكم من قومكم وما أحب أن أعرضكم للهلاك فذهبوا لينصرفوا فلحقتهم أوائل خيل مذحج وهمدان فعطف عليهم عمير بن يزيد وقيس بن يزيد وعبيدة بن عمرو وجماعة فتقاتلوا معهم فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا وأسر قيس بن يزيد وأفلت سائر القوم فقال لهم حجر لا أبا لكم تفرقوا لا تقتلوا فإني آخذ في بعض هذه الطرق
ثم أخذ نحو طريق بني حرب من كندة حتى أتى دار رجل منهم يقال له سليمان بن يزيد فدخل داره وجاء القوم في طلبه ثم انتهوا إلى تلك الدار فأخذ سليمان بن يزيد سيفه ثم ذهب ليخرج إليهم فبكت بناته فقال له حجر ما تريد لا أبا لك فقال له أريد والله أن ينصرفوا عنك فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي دونك فقال له حجر بئس والله إذن ما دخلت به على بناتك أما في دارك هذه حائط أقتحمه أو خوخة أخرج منها

عسى الله أن يسلمني منهم ويسلمك فإن القوم إن لم يقدروا علي في دارك لم يضرك أمرهم قال بلى هذه خوخة تخرجك إلى دور بني العنبر من كندة فخرج معه فتية من الحي يقصون له الطريق ويسلكون به الأزقة حتى أفضى إلى النخع فقال عند ذلك انصرفوا رحمكم الله
فانصرفوا عنه وأقبل إلى دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر فدخلها فإنه لكذلك قد ألقى له عبد الله الفرش وبسط له البسط وتلقاه ببسط الوجه وحسن البشر إذ أتي فقيل له إن الشرط تسأل عنك في النخع وذلك أن أمة سوداء يقال لها أدماء لقيتهم فقالت لهم من تطلبون قالوا نطلب حجرا فقالت هو ذا قد رأيته في النخع فانصرفوا نحو النخع فخرج متنكرا وركب معه عبد الله ليلا حتى أتى دار ربيعة بن ناجذ الأزدي فنزل بها فمكث يوما وليلة
فلما أعجزهم أن يقدروا عليه دعا زياد محمد بن الأشعث فقال أما والله لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها ولا دارا إلا هدمتها ثم لا تسلم مني بذلك حتى أقطعك إربا إربا فقال له أمهلني أطلبه قال قد أمهلتك ثلاثا فإن جئت به وإلا فاعدد نفسك من الهلكى وأخرج محمد نحو السجن وهو منتقع اللون يتل تلا عنيفا فقال حجر بن يزيد الكندي من بني مرة لزياد ضمنيه وخل سبيله ليطلب صاحبه فإنه مخلى سربه أحرى أن يقدر عليه منه إذا كان محبوسا قال أتضمنه لي قال نعم قال أما والله لئن حاص عنك لأوردنك شعوب وإن كنت الآن علي كريما قال إنه لا يفعل فخلى سبيله

ثم إن حجر بن يزيد كلمه في قيس بن يزيد وقد أتي به أسيرا فقال ما عليه من بأس قد عرفنا رأيه في عثمان رضي الله عنه وبلاءه مع أمير المؤمنين بصفين ثم أرسل إليه فأتي به فقال قد علمت أنك لم تقاتل مع حجر أنك ترى رأيه ولكن قاتلت معه حمية وقد غفرنا لك لما نعلمه من حسن رأيك ولكن لا أدعك حتى تأتيني بأخيك عمير قال آتيك به إن شاء الله قال هات من يضمنه معك قال هذا حجر بن يزيد قال حجر نعم على أن تؤمنه على ماله ودمه قال ذلك لك
فانطلقا فأتيا به فأمر به فأوقر حديدا ثم أخذته الرجال ترفعه حتى إذا بلغ سررها ألقوه فوقع على الأرض ثم رفعوه فألقوه ففعل به ذلك مرارا فقام إليه حجر بن يزيد فقال أولم تؤمنه قال بلى لست أهريق له دما ولا آخذ له مالا فقال هذا يشفي به على الموت
وقام كل من كان عنده من أهل اليمن فكلموه فيه فقال أتضمنونه لي بنفسه متى أحدث حدثا أتيتموني به قالوا نعم فخلى سبيله
ومكث حجر في منزل ربيعة بن ناجذ يوما وليلة ثم بعث إلى ابن الأشعث غلاما رشيدا من سبي أصبهان فقال له إنه قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبار العنيد فلا يهولنك شيء من أمره فإني خارج إليك فاجمع نفرا من قومك وادخل عليه واسأله أن يؤمنني حتى يبعثني إلى معاوية فيرى في رأيه

زياد يأمر بحبسه ويطلب رؤوس أصحابه
فخرج محمد إلى حجر بن يزيد وجرير بن عبد الله وعبد الله أخي الأشتر فدخلوا إلى زياد فطلبوا إليه فيما سأله حجر فأجاب فبعثوا إليه رسولا

يعلمونه بذلك فأقبل حتى دخل على زياد فقال له مرحبا يا أبا عبد الرحمن حرب في أيام الحرب وحرب وقد سالم الناس على نفسها تجني براقش فقال له ما خلعت يدا عن طاعة ولا فارقت جماعة وإني لعلى بيعتي فقال هيهات يا حجر أتشج بيد وتأسو بأخرى وتريد إذا أمكننا الله منك أن نرضى هيهات والله فقال ألم تؤمنني حتى آتي معاوية فيرى في رأيه قال بلى انطلقوا به إلى السجن
فلما مضي به قال أما والله لولا أمانة ما برح حتى يلقط عصبه فأخرج وعليه برنس في غداة باردة فحبس عشر ليال وزياد ماله عمل غير الطلب لرؤوس أصحاب حجر
فخرج عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا الموصل فأتيا جبلا فكمنا فيه وبلغ عامل ذلك الرستاق - وهو رجل من همدان يقال له عبيد الله بن بلتعة - خبرهما فسار إليهما في الخيل ومعه أهل البلد فلما انتهى إليهما خرجا فأما عمرو فكان بطنه قد استسقى فلم يكن عنده امتناع وأما رفاعة فكان شابا قويا فوثب على فرس له جواد وقال لعمرو أقاتل عنك قال وما ينفعني أن تقتل انج بنفسك فحمل عليهم فأفرجوا له حتى أخرجه فرسه وخرجت الخيل في طلبه وكان راميا فلم يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه فأخذ عمرو بن الحمق فسألوه من أنت فقال من إن تركتموه كان أسلم لكم وإن قتلتموه كان أضر عليكم

فسألوه فأبى أن يخبرهم فبعثوا به إلى عبد الرحمن بن عثمان وهو ابن أم الحكم الثقفي فلما رأى عمرا عرفه فكتب إلى معاوية بخبره فكتب إليه معاوية إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات وإنه لا يتعدى عليه فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان
فأخرج فطعن تسع طعنات فمات في الأولى منهن أو في الثانية وبعث برأسه إلى معاوية فكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام
وجد زياد في طلب أصحاب حجر وهم يهربون منه ويأخذ من قدر عليه منهم فجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له إن امرأ منا يقال له صيفي ابن فسيل من رؤوس أصحاب حجر وهو أشد الناس عليك فبعث إليه فأتي به فقال له زياد يا عدو الله ما تقول في أبي تراب فقال ما أعرف أبا تراب قال ما أعرفك به أما تعرف علي بن أبي طالب قال بلى قال فذاك أبو تراب قال كلا فذاك أبو الحسن والحسين فقال له صاحب الشرطة أيقول لك الأمير هو أبو تراب وتقول أنت لا قال أفإن كذب الأمير أردت أن أكذب وأشهد له بالباطل كما شهد قال له زياد وهذا أيضا مع ذنبك علي بالعصي فأتي بها فقال ما قولك في علي قال أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين قال اضربوا عاتقه بالعصي حتى يلصق بالأرض فضرب حتى لصق بالأرض ثم قال أقلعوا عنه ما قولك فيه قال والله لو شرحتني بالمدى والمواسي ما زلت عما سمعت قال لتلعننه أو لأضربن عنقك قال إذا والله تضربها قبل ذلك فأسعد وتشقى إن شاء الله قال أوقروه حديدا واطرحوه في السجن

زياد يأمر رؤوس الأرباع أن يشهدوا على حجر
وجمع زياد من أصحاب حجر بن عدي اثني عشر رجلا في السجن

وبعث إلى رؤوس الأرباع فأشخصهم فحضروا وقال اشهدوا على حجر بما رأيتموه وهم عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة وأبو بردة بن أبي موسى فشهدوا أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة وعيب زياد وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه وأن هؤلاء الذين معه رؤوس أصحابه وعلى مثل رأيه
فنظر زياد في الشهادة فقال ما أظن هذه شهادة قاطعة وأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة
فكتب أبو بردة بن أبي موسى
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية وكفر بالله كفرة صلعاء
فقال زياد على مثل هذه الشهادة فاشهدوا والله لأجهدن في قطع عنق الخائن الأحمق فشهد رؤوس الأرباع الثلاثة الآخرون على مثل ذلك ثم دعا الناس فقال اشهدوا على مثل ما شهد عليه رؤوس الأرباع
فقام عثمان بن شرحبيل التيمي أول الناس فقال اكتبوا اسمي فقال زياد ابدأوا بقريش ثم اكتبوا اسم من نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالصحة والاستقامة فشهد إسحاق وموسى وإسماعيل بنو طلحة بن عبيد الله

والمنذر بن الزبير وعمارة بن عقبة وعبد الرحمن بن هبار وعمر بن سعد ابن أبي وقاص وشهد عنان ووائل بن حجر الحضرمي وضرار بن هبيرة وشداد بن المنذر أخو الحضين بن المنذر وكان يدعى ابن بزيعة
فكتب شداد بن بزيعة فقال أما لهذا أب ينسب إليه ألغوا هذا من الشهود فقيل له إنه أخو الحضين بن المنذر فقال انسبوه إلى أبيه فنسب فبلغ ذلك شدادا فقال والهفاه على ابن الزانية أوليست أمه أعرف من أبيه فوالله ما ينسب إلا إلى أمه سمية
وشهد حجار بن أبجر العجلي وعمرو بن الحجاج ولبيد بن عطارد ومحمد بن عمير بن عطارد وأسماء بن خارجة وشمر بن ذي الجوشن وزحر ابن قيس الجعفي وشبث بن ربعي وسماك بن مخرمة الأسدي صاحب مسجد سماك ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن المغيرة بن شعبة إلى الشهادة فراغا وشهد سبعون رجلا ودفع ذلك إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب

وبعثهما عليهم وأمرهما أن يخرجوهم
وكتب في الشهود شريح بن الحارث وشريح بن هانىء فأما شريح بن الحارث فقال سألني عنه فقلت أما إنه كان صواما قواما وأما شريح ابن هانىء فقال بلغني أن شهادتي كتبت فأكذبته ولمته
وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرجا القوم عشية وسار معهم أصحاب الشرط حتى أخرجوهم فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات فقال لوائل وكثير أدنياني أوص أهلي فأدنياه فلما دنا منهن بكين فسكت عنهن ساعة ثم قال اسكتن فسكتن فقال اتقين الله واصبرن فإني أرجو من ربي في وجهي هذا خيرا إحدى الحسنيين إما الشهادة فنعم سعادة وإما الانصراف إليكن في عافية فإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تبارك وتعالى وهو حي لا

يموت وأرجو ألا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ثم انصرف فجعل قومه يدعون له بالعافية
وجاء شريح بن هانيء بكتاب فقال بلغوا هذا عني أمير المؤمنين فتحمله وائل بن حجر
ومضوا بهم حتى انتهوا إلى مرج عذراء فحبسوا به وهم على أميال من دمشق وهم حجر بن عدي الكندي والأرقم بن عبد الله الكندي وشريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فسيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي وكريم بن عفيف الخثعمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وكدام بن حيان وعبد الرحمن بن حسان العنزيان ومحرز بن شهاب المنقري وعبد الله بن جؤية التميمي وأتبعهم زياد برجلين وهما عتبة بن الأخنس السعدي وسعيد بن نمران الهمداني الناعطي فكانوا أربعة عشر

كتاب زياد إلى معاوية
فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير فأدخلهما وفض كتابهما وقرأه

على أهل الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان
أما بعد فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء فأداله من عدوه وكفاه مؤونة من بغى عليه إن طواغيت الترابية السابة رأسهم حجر بن عدي خلعوا أمير المؤمنين وفارقوا جماعة المسلمين ونصبوا لنا حربا فأطفأها الله عليهم وأمكننا منهم وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي النهى والدين فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا وقد بعثت إلى أمير المؤمنين وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا
فلما قرأ الكتاب قال ما ترون في هؤلاء فقال يزيد بن أسد البجلي أرى أن تفرقهم في قرى الشام فتكفيكهم طواغيتها

كتاب شريح بن هانىء إلى معاوية
ودفع وائل كتاب شريح إليه فقرأه وهو
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شريح بن هانىء
أما بعد فقد بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي على حجر وإن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام المال والدم فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه
فقرأ كتابه على وائل وقال ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم فحبس القوم بعد هذا وكتب إلى زياد
فهمت ما اقتصصت من أمر حجر وأصحابه والشهادة عليهم فأحيانا أرى

أن قتلهم أفضل وأحيانا أرى أن العفو أفضل من قتلهم
فكتب زياد إليه مع يزيد بن حجية التيمي قد عجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم مع شهادة أهل مصرهم عليهم وهم أعلم بهم فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجرا وأصحابه إليه
فمر يزيد بحجر وأصحابه فأخبرهم بما كتب به زياد فقال له حجر أبلغ أمير المؤمنين أنا على بيعته لا نقيلها ولا نستقيلها وإنما شهد علينا الأعداء والأظناء
فقدم يزيد بن حجية على معاوية بالكتاب وأخبره يقول حجر فقال معاوية زياد أصدق عندنا من حجر
وكتب جرير بن عبد الله في أمر الرجلين اللذين من بجيلة فوهبهما له وليزيد بن أسد وطلب وائل بن حجر في الأرقم الكندي فتركه وطلب أبو الأعور في عتبة بن الأخنس فوهبه له وطلب حمزة بن مالك الهمداني في سعيد ابن نمران فوهبه له وطلب حبيب بن مسلمة في عبد الله بن جؤية التميمي فخلى سبيله
فقام مالك بن هبيرة فسأله في حجر فلم يشفعه فغضب وجلس في بيته وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي والحصين بن عبد الله الكلابي وآخر معهما يقال له أبو صريف البدري فأتوهم عند المساء فقال الخثعمي حين رأى الأعور يقتل نصفنا وينجو نصفنا فقال سعيد بن نمران اللهم اجعلني ممن ينجو وأنت عني راض فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي اللهم اجعلني ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راض فطالما عرضت نفسي للقتل فأبى الله إلا ما أراد

رسول معاوية إلى أصحاب حجر
فجاء رسول معاوية إليهم فإنه لمعهم إذ جاء رسول بتخلية ستة منهم وبقي ثمانية فقال لهم رسول معاوية إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له فإن فعلتم هذا تركناكم وإن أبيتم قتلناكم وأمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنه قد عفا عن ذلك فابرأوا من هذا الرجل يخل سبيلكم قالوا لسنا فاعلين فأمر بقيودهم فحلت وأتي بأكفانهم فقاموا الليل كله يصلون فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية يا هؤلاء قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة وأحسنتم الدعاء فأخبرونا ما قولكم في عثمان قالوا هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق فقالوا أمير المؤمنين كان أعرف بكم ثم قاموا إليهم وقالوا تبرأون من هذا الرجل قالوا بل نتولاه
فأخذ كل رجل منهم رجلا يقتله فوقع قبيصة في يدي أبي صريف البدري فقال له قبيصة إن الشر بين قومي وقومك أمين أي آمن فليقتلني غيرك فقال برتك رحم فأخذه الحضرمي فقتله
وقتل القضاعي صاحبه ثم قال لهم حجر دعوني أصلي ركعتين فإني والله ما توضأت قط إلا صليت فقالوا له صل فصلى ثم انصرف فقال والله ما صليت صلاة قط أقصر منها ولولا أن يروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها ثم قال اللهم إنا نستعديك على أمتنا فإن أهل الكوفة قد شهدوا علينا وإن أهل الشام يقتلوننا أما والله لئن قتلتمونا فإني أول فارس من المسلمين سلك في واديها وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها فمشى إليه هدبة بن الفياض الأعور بالسيف فأرعدت خصائله فقال كلا زعمت أنك لا تجزع من الموت فإنا ندعك فابرأ من صاحبك فقال ما لي لا أجزع وأنا أرى قبرا

محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا وإني والله إن جزعت لا أقول ما يسخط الرب فقتله
وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة نفر فقال عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته فبعثوا إلى معاوية فأخبروه فبعث ائتوني بهما فالتفتا إلى حجر فقال له العنزي لا تبعد يا حجر ولا يبعد مثواك فنعم أخو الإسلام كنت وقال الخثعمي نحو ذلك ثم مضى بهما فالتفت العنزي فقال متمثلا
( كَفَى بشَفَاةِ القبر بُعْداً لِهالِكٍ ... وبالموت قَطَّاعاً لِحَبْلِ القرائنِ )
فلما دخل عليه الخثعمي قال له الله الله يا معاوية إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ومسؤول عما أردت بقتلنا وفيما سفكت دماءنا فقال ما تقول في علي قال أقول فيه قولك أتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به وقام شمر بن عبد الله الخثعمي فاستوهبه فقال هو لك غير أني حابسه شهرا فحبسه ثم أطلقه على ألا يدخل الكوفة ما دام له سلطان فنزل الموصل فكان ينتظر موت معاوية ليعود إلى الكوفة فمات قبل معاوية بشهر
وأقبل على عبد الرحمن بن حسان فقال له يا أخا ربيعة ما تقول في علي قال أشهد أنه من الذاكرين الله كثيرا والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والعافين عن الناس قال فما تقول في عثمان قال هو أول من فتح أبواب الظلم وأرتج أبواب الحق قال قتلت نفسك قال بل إياك قتلت لا

ربيعة بالوادي يعني أنه ليس ثم أحد من قومه فيتكلم فيه
فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه إن هذا شر من بعثت به فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها واقتله شر قتلة
فلما قدم به على زياد بعث به إلى قس الناطف فدفنه حيا
قال أبو مخنف عن رجاله فكان من قتل منهم سبعة نفر حجر بن عدي وشريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فسيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي ومحرز بن شهاب المنقري وكدام بن حيان العنزي وعبد الرحمن بن حسان العنزي ونجا منهم سبعة كريم بن عفيف الخثعمي وعبد الله بن جؤية التميمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وأرقم بن عبد الله الكندي وعتبة بن الأخنس السعدي من هوازن وسعيد بن نمران الهمداني
وبعث معاوية إلى مالك بن هبيرة لما غضب بسبب حجر مائة ألف درهم فرضي
قال أبو مخنف فحدثني ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق قال أدركت الناس يقولون أول ذل دخل الكوفة قتل حجر ودعوة زياد وقتل الحسين

قال وجعل معاوية يقول عند موته أي يوم لي من ابن الأدبر طويل

رسول عائشة إلى معاوية في أمر حجر
قال أبو مخنف وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق من بني عامر بن لؤي أن عائشة بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه وقد قتلهم فقال له أين غاب عنك حلم أبي سفيان فقال حين غاب عني مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت
قال وكانت عائشة رضي الله عنها تقول لولا أنا لم نغير شيئا قط إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر أما والله إن كان لمسلما ما علمته حاجا معتمرا
وقالت امرأة من كندة ترثي حجرا
( ترفّع أيُّها القمَرُ المُنِرُ ... لعلَّكَ أن تَرى حُجْراً يَسيرُ )
( يسير إلى معاوية بن حرب ... لِيَقْتُلَهُ كما زعم الأميرُ )
( ألا يا ليتَ حُجْراً مات مَوْتاً ... ولم يُنْحَر كما نُحِرَ البَعيرُ )
( ترفّعَت الجبابِرُ بعد حُجْرٍ ... وطاب لها الخَوَرْنَقُ والسَّديرُ )
( وأصبحتِ البلادُ له مُحُولاً ... كأنْ لم يُحيها مُزْنٌ مَطِيرُ )
( ألا يا حُجْرُ حُجْرَ بني عَدِيٍّ ... تلقَّتْكَ السلامةُ والسرورُ )
( أخافُ عليكَ سطوةَ آلِ حربٍ ... وشيخاً في دمشقَ له زَئيرُ )
( يرى قَتْلَ الخِيار عليه حقّاً ... له مِنْ شَرّ أُمَّتِه وَزِيرُ )
( فإنْ تهلِكْ فكلُّ زعيم قومٍ ... إلى هُلْكٍ من الدنيا يَصِيرُ )

صوت
( أحِنُّ إذا رأيْتُ جمالَ سُعْدَى ... وأبكي إن رأيتُ لها قَرِينا )
( وقد أفِدَ الرَّحيل فقُلْ لسُعْدَى ... لعمركِ خَبِّرِي ما تَأمرينا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة يقوله في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن حبش وقد قيل إن عمر قال هذا البيت مع بيت آخر في ليلى بنت الحارث بن عوف المري وفيه أيضا غناء وهو
صوت
( ألا يا لَيْلَ إنَّ شفَاء نفسي ... نوالُكِ إنْ بخلتِ فزوِّدِينا )
( وقد أفِد الرحيل وحان منّا ... فِراقُك فانظري ما تَأمرينا )
غنى به الغريض ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو وحبش وفيه خفيف ثقيل يقال إنه أيضا للغريض ومن الناس من ينسبه إلى ابن سريج

أخبار لعمر بن أبي ربيعة
أخبرني حرمي عن الزبير عن طارق بن عبد الواحد قال قال عبد الرحمن المخزومي
كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد فرأت عمر ابن أبي ربيعة في الطواف فأرسلت إليه إذا قضيت طوافك فائتنا فلما قضى طوافه أتاها فحادثها وأنشدها فقالت ويحك يابن أبي ربيعة ما تزال سادرا في حرم الله منتهكا تتناول بلسانك ربات الحجال من قريش فقال دعي هذا عنك أما سمعت ما قلت فيك قالت وما قلت في فأنشدها
( أحِنُّ إذا رأيْتُ جمالَ سُعْدَى ... وأبكي إنْ رأيت لها قَرِينا )
( أسُعدى إنّ أهلك قد أجَدُّوا ... رحيلاً فانْظُري ما تأمرينا )
فقالت آمرك بتقوى الله وترك ما أنت عليه
قال الزبير وحدثني عبد الله بن مسلم قال أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن أبي عتيق قوله
( أحِنُّ إذا رأيتُ جمالَ سُعدى ... )

قال فركب ابن أبي عتيق فأتى سعدى بالجناب من أرض بني فزارة فأنشدها قول عمر وقال لها ما تأمرين فقالت آمره بتقوى الله يا بن الصديق
قال الزبير وحدثني طارق بن عبد الواحد عن أبي عبيدة عن عبد الرحمن المخزومي قال
لقي عمر بن أبي ربيعة ليلى بنت الحارث بن عوف المري وهو يسير على بغلة فقال لها قفي أسمعك بعض ما قلت فيك فوقفت فقال
( ألاَ يا ليلَ إنّ شفاء نفسي ... نوالُكِ إنْ بخلتِ فنوِّلِينا )
قال فما بلغنا أنها ردت عليه شيئا ومضت
وقد روى هذا الخبر إبراهيم بن المنذر عن محمد بن معن فذكر أن ابن أبي عتيق إنما مضى إلى ليلى بنت الحارث بن عوف فأنشدها هذا البيت وهو الصحيح لأن حلولها بالجناب من أرض فزارة أشبه بها منه بسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف ورواية الزبير فيما أروي وهم لاختلاط الشعرين في سعدى وليلى
أخبرني حرمي عن الزبير عن محمد بن سلام قال
كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت فأرسلت إليه إذا فرغت من طوافك فائتنا فأتاها فقالت ألا أراك يابن أبي ربيعة إلا سادرا في حرم الله أما تخاف الله ويحك إلى متى هذا السفه قال أي هذه دعي عنك هذا من القول أما سمعت ما قلت فيك قالت لا فما قلت فأنشدها قوله

صوت
( قالت سُعَيْدَةُ والدموعُ ذَوَارِفٌ ... منها على الخدَّيْنِ والجِلْبابِ )

( ليت المغيري الذي لم أَجِزْهِ ... فيما أطال تصيُّدي وطِلابي )
( كانت تردّ لنا المُنَى أيامُنا ... إذ لا نُلامُ على هوًى وتَصابي )
( أسُعَيدَ ما ماءُ الفراتِ وطِيْبُه ... منّي على ظمأ وحُبِّ شراب )
( بألذَ منك وإن نأيْتِ وقلَّما ... يَرْعَى النساء أمانة الغُيَّابِ )
عروضه من الكامل غناه الهذلي رملا بالوسطى عن الهشامي وغناه الغريض خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
فقالت أخزاك الله يا فاسق ما علم الله أني قلت مما قلت حرفا ولكنك إنسان بهوت
وهذا الشعر تغني فيه
( قالت سكينة والدموعُ ذوارفٌ ... )
وفي موضع
( أسعيد ما ماءُ الفرات وبَرْده ... )
أسكين وإنما غيره المغنون ولفظ عمر ما ذكر فيه في الخبر
وقد أخبرني إسماعيل بن يونس عن ابن شبة عن إسحاق قال غنيت الرشيد يوما بقوله
( قالت سُكَيْنَةَ والدموعُ ذَوَارِفٌ ... منها على الخدَّيْن والجِلْبابِ )
فوضع القدح من يده وغضب غضبا شديدا وقال لعنه الله الفاسق ولعنك معه فسقط في يدي وعرف ما بي فسكن ثم قال ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي وبنت رسول الله ألا تتحفظ في غنائك

وتدري ما يخرج من رأسك عد إلى غنائك الآن وانظر بين يديك فتركت هذا الصوت حتى أنسيته فما سمعه مني أحد بعده والله أعلم
صوت
( فلا زال قَبْرٌ بين تُبْنَى وجَاسم ... عليه من الوسْميِّ جَوْدٌ ووَابِلُ )
( فينبت حَوْذاناً وعوفاً مُنَوَّراً ... سأتبعه مِنْ خير ما قال قائلُ )
عروضه من الطويل والشعر لحسان بن ثابت الأنصاري وهذا القبر الذي ذكره حسان فيما يقال قبر الأيهم بن جبلة بن الأيهم الغساني وقيل إنه قبر الحارث بن مارية الجفني وهو منهم أيضا والغناء لعزة الميلاء خفيف ثقيل أول بالوسطى مما لا يشك فيه من غنائها وقد نسبه قوم إلى ابن عائشة وذلك خطأ

أخبار عزة الميلاء
كانت عزة مولاة للأنصار ومسكنها المدينة وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز وماتت قبل جميلة وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهن جسما وسميت الميلاء لتمايلها في مشيها وقيل بل كانت تلبس الملاء وتشبه بالرجال فسميت بذلك وقيل بل كانت مغرمة بالشراب وكانت تقول خذ ملئا واردد فارغا - ذكر ذلك حماد بن إسحاق عن أبيه
والصحيح أنها سميت الميلاء لميلها في مشيتها
آراء في عزة وغنائها
قال إسحاق ذكر لي ابن جامع عن يونس الكاتب عن معبد قال كانت عزة الميلاء ممن أحسن ضربا بعود وكانت مطبوعة على الغناء لا يعيبها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه وكانت تغني أغاني القيان من القدائم مثل سيرين

وزرنب وخولة والرباب وسلمى ورائقة وكانت رائقة أستاذتها فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية فلقنت عزة عنهما نغما وألفت عليها ألحانا عجيبة فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرض نساءهم ورجالهم عليه
قال إسحاق وقال الزبير إنه وجد مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا لله درها ما كان أحسن غناءها ومد صوتها وأندى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي وأجمل وجهها وأظرف لسانها وأقرب مجلسها وأكرم خلقها وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها
قال إسحاق وحدثني أبي عن سياط عن معبد عن جميلة بمثل ذلك من القول فيها
قال إسحاق وحدثني أبي عن يونس قال
كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة فيسمع من عزة ويتعلم غناءها

ويأخذ عنها وكان بها معجبا وكان إذا سئل من أحسن الناس غناء قال مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء
قال وحدثني هشام بن المرية أن ابن محرز كان يقيم بمكة ثلاثة أشهر ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة وكان يأخذ عنها
قال إسحاق وحدثني الجمحي عن جرير المغني المديني أن طويسا كان أكثر ما يأوي إلى منزل عزة الميلاء وكان في جوارها وكان إذا ذكرها يقول هي سيدة من غنى من النساء مع جمال بارع وخلق فاضل وإسلام لا يشوبه دنس تأمر بالخير وهي من أهله وتنهى عن السوء وهي مجانبة له فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها
ثم قال كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها من تكلم أو تحرك نقر رأسه
قال ابن سلام فما ظنك بمن يقول فيه طويس هذا القول ومن ذلك الذي سلم من طويس
قال إسحاق وحدثني أبو عبد الله الأسلمي عن معبد
أنه أتى عزة يوما وهي عند جميلة وقد أسنت وهي تغني على معزفة في شعر ابن الإطنابة قال
( عَلِّلانِي وعَلِّلاَ صاحبَيَّا ... واسقِياني مِنَ المرَّوق رِيّا )

قال فما سمع السامعون قط بشيء أحسن من ذلك قال معبد هذا غناؤها وقد أسنت فكيف بها وهي شابة
قال إسحاق وذكر لي عن صالح بن حسان الأنصاري قال كانت عزة مولاة لنا وكانت عفيفة جميلة وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها فلما أفاق قال له القوم لغيرك الجهل يا أبا الخطاب قال إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي
وقال إسحاق وحدثني أبو عبد الله الأسلمي المدني قال
كان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء وكان يقدمها على سائر قيان المدينة

عزة تغني شعرا لحسان فيبكي
أخبرني حرمي عن الزبير عن محمد بن الحسن المخزومي عن محرز ابن جعفر قال
ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته فأولم فاجتمع إليه المهاجرون

والأنصار وعامة أهل المدينة وحضر حسان بن ثابت وقد كف بصره يومئذ وثقل سمعه وكان يقول إذا دعي أعرس أم عذار فحضر ووضع بين يديه خوان ليس عليه إلا عبد الرحمن ابنه فكان يسأله أطعام يد أم يدين فلم يزل يأكل حتى جاؤوا بالشواء فقال طعام يدين فأمسك يده حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة فوضع في حجرها مزهر فضربت به ثم تغنت فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان قال
( فلا زالَ قَبْرٌ بَيْن بُصرى وجِلَّق ... عليه من الوَسْمِيّ جَوْدٌ ووَابِلُ )
فطرب حسان وجعلت عيناه تنضحان وهو مصغ لها
أخبرني ابن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن الأصمعي عن أبي الزناد قال
قلت لخارجة بن زيد أكان يكون هذا الغناء عندكم قال كان يكون في العرسات ولم يكن يشهد بما يشهد به اليوم من السعة
وكان في إخواننا بني نبيط مأدبة فدعينا وثم قينة أو قينتان تنشدان شعر حسان بن ثابت قال

( انظُرْ خَلِيلِي ببابِ جِلَّقَ هلْ ... تُبْصِرُ دون البَلْقَاء مِنْ أحَدِ )
قال وحسان يبكي وابنه يومىء إليهما أن زيدا فإذا زادتا بكى حسان فأعجبني ما يعجبه من أن تبكيا أباه وقد كف بصر حسان بن ثابت يومئذ
أخبرنا وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال
سمعت خارجة بن زيد يقول دعينا إلى مأدبة في آل نبيط قال خارجة فحضرتها وحسان بن ثابت قد حضرها فجلسنا جميعا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن فكان إذا أتى طعام سأل ابنه أطعام يد أم يدين يعني باليد الثريد وباليدين الشواء لأنه ينهش نهشا فإذا قال طعام يدين أمسك يده فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين إحداهما رائقة والأخرى عزة فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجيبا وغنتا بقول حسان
( انظر خَلِيلي بباب جلّق هَلْ ... تُبْصَرُ دُونَ البَلْقاء من أحَدِ )
فأسمع حسانا يقول
( قد أراني بها سَمِيعاً بصيرا ... )
وعيناه تدمعان فإذا سكتتا سكت عنه البكاء وإذا غنتا بكى فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنيا فيبكي أبوه فأقول ما حاجته إلى إبكاء أبيه
قال الواقدي فحدثت بهذا الحديث يعقوب بن محمد الظفري فقال سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان يقول لما انقلب حسان من مأدبة بني

نبيط إلى منزله استلقى على فراشه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم فقلت يا أبا الوليد أكان القيان يكن عند جبلة فتبسم ثم جلس فقال لقد رأيتُ عشر قِيَان خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة وأوقد له العود المندى إن كان شاتيا وإن كان صائفا بطن بالثلج وأتي هو وأصحابه بكسا صيفية يتفضل هو وأصحابه بها في الصيف وفي الشتاء الفراء الفنك وما أشبهه ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا خلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه هذا مع حلم عمن جهل وضحك وبذل من غير مسألة مع حسن وجه وحسن حديث ما رأيت منه خنى قط ولا عربدة ونحن يومئذ على الشرك فجاء الله بالإسلام فمحا به كل كفر وتركنا الخمرة وما كره وأنتم اليوم مسلمون تشربون هذا النبيذ من التمر والفضيخ من الزهر والرطب فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى

يصاحب صاحبته ويفارقها وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي أيوب المديني عن مصعب الزبيري عن الضحاك عن عثمان بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد مثله وزاد فيه
فلما فرغنا من الطعام ثقل علينا جلوس حسان فأومأ ابنه إلى عزة الميلاء فغنت
( انظر خَلِيلي ببابِ جِلَّق هلْ ... تُبْصِرُ دونَ البَلْقاء مِنْ أحَدِ )
فبكى حسان حتى سدر ثم قال هذا عمل الفاسق أما لقد كرهتم مجالستي فقبح الله مجلسكم سائر اليوم وقام فانصرف
أخبرني حرمي عن الزبير عن عمه مصعب قال
ذكر هشام بن عروة عن أبيه أنه دعي إلى مأدبة في زمن عثمان ودعي حسان ومعه ابنه عبد الرحمن ثم ذكر نحو ما ذكره عمر بن شبة عن الأصمعي في الحديث الأول قال

نسبة هذا الصوت
( انظُرْ خليلي بباب جلّق هلْ ... تُؤْنِسُ دُونَ البَلْقَاءِ مِنْ أحَدِ )
( أجمال شَعْثا إنْ هَبَطْنَ من المحبس ... بين الكثبان فالسند )
( يملن حورا حور المدامع في الْريط ... وبِيضَ الوُجُوهِ كالبَردِ )

( مِنْ دون بُصْرَى ودونَها جبل الثَّلج ... عليه السَّحابُ كالقَرَدِ )
( إنِّي وأيدي المخيَّساتِ وما ... يقْطَعْنَ من كلِّ سَرْبَخ جَدَدِ )
( أهوَى حديثَ النُّدْمان في فَلقِ الصُّبْح ... وصَوْتَ المُسامر الغَرِدِ )
( تقولُ شَعْثا بعدما هبطت ... بصَوْر حُسنى من احتدى بَلدِي )
( لا أخدِشُ الخَدْشَ بالحبيب ولا ... يَخْشَى نديمي إذا انتشيتُ يَدي )
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لعزة الميلاء رمل بالبنصر وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن محرز وإلى عزة الميلاء وإلى الهذلي في
( تقول شْعثاء بعدما هبطت ... )
وما بعده من الأبيات ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيها لعبد الرحيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو

حسان بن ثابت وشعثاء
وشعثاء هذه التي شبب بها حسان - فيما ذكر الواقدي ومصعب الزبيري - امرأة من أسلم تزوجها حسان وولدت منه بنتا يقال لها أم فراس تزوجها عبد الرحمن بن أم الحكم وذكر أبو عمرو الشيباني مثل ما ذكره في نسبها ووصف له أنه خطبها إلى قومها من أسلم فردوه فقال يهجوهم
( لقد أتى عن بني الجَرْباء قولُهُم ... ودونهم قُفُّ جُمْدَانٍ فمَوْضُوعُ )

( قد علمت أسلمُ الأرذالُ أنَّ لها ... جاراً سيقتُله في دارِه الجُوعُ )
( وأنْ سيمنَعُهم ما نَوَوْا حَسَبٌ ... - لن يبلغ المجدَ والعلياء - مقطوعُ )
( وقد عَلوْا - زَعموا - عنّي بأختهمُ ... وفي الذُّرَا حسبي والمَجْدُ مرفوعُ )
( ويلُ أمّ شعثاء شيئاً تستغيثُ به ... إذا تجلَّلها النَّعْظُ الأفاقيع )
( كأنه في صَلاها وهي بارِكةٌ ... ذِرَاعُ بَكْرٍ مِن النَّياط مَنْزُوعُ )
أخبرني حرمي عن الزبير عن إبراهيم بن المنذر عن أبي القاسم بن أبي الزناد عن أخيه عبد الرحمن عن أبيه عن خارجة بن زيد قال شعثاء هذه بنت عمرو من بني ماسكة من يهود وكانت مساكن بني ماسكة بناحية القف وكان أبو الشعثاء قد رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة وكان ذا قدر فيهم فقال حسان يذكر ذلك
( هل في تَصابِي الكريم مِنْ فَنَدِ ... أم هل لمدَى الأيام مِنْ نَفَدِ )

( تقول شَعْثاء لو أفقتَ عن الكاس ... لأُلفِيتَ مُثرِيَ العَدَدِ )
( يَأْبى لي السيفُ واللسانُ وقوْم ... ٌ لم يُضَامُوا كلِبْدَة الأسَدِ )
وذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء
ومما قاله حسان بن ثابت في شعثاء وغني به قوله
( ما هاج حسّانَ رسومُ المُقامْ ... ومظعَنُ الحيّ ومبنى الخِيامْ )
( والنُّؤْيُ قد هَدّم أعضادَهُِ ... تقادُمُ العَهْد بوادي تِهَامْ )
( قد أدرك الواشون ما حاوَلُوا ... والحَبْلُ من شَعْثَاء رثٌ رِمام )
( جنِّيَّةٌ أرَّقني طَيْفُها ... يذهبُ صُبْحاً ويُرى في المنام )
( هل هِي إلاّ ظبيةٌ مُطْفِلٌ ... مألَفُها السِّدْر بنعفَيْ بَرَام )
( ترعى غَزالاً فاتِراً طَرْفُه ... مُقارِبَ الخَطْوِ ضعيف البُغَامْ )
( كأنَّ فاهَا ثَغبٌ باردٌ ... في رَصفَ تحتَ ظلالِ الغَمامْ )
( شُجَّ بِصَهْبَاء لها سَوْرَةٌ ... من بنت كَرْمٍ عُتِّقت في الخِيام )

( تدبّ في الكأس دَبيباً كما ... دبَّ دَبىً وسْطَ رفاقٍ هُيام )
( مِنْ خَمْرِ بَيْسان تخيَّرتُها ... دِرْياقةً توشِكُ فَتْر العظام )
( يَسْعى بها أحمَرُ ذُو بُرْنُسٍ ... مُحْتلَق الذِّفْرى شَديد الحِزام )
يقول فيها
( قَوْمِي بنو النّجّار إذْ أقبلَت ... شَهْباء تَرْمِي أهلَها بالقَتامْ )
( لا تخذل الجارَ ولا تُسلم المَوْلَى ... ولا تُخْصَمُ يَوْمَ الخِصامُ )
الشعر لحسان والغناء لمعبد خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في البيت الأول من الأبيات والرابع والتاسع والحادي عشر وذكر الهشامي أن فيه لحنا لابن سريج من الرمل بالوسطى
وهذه الأبيات يقولها حسان في حرب كانت بينهم وبين الأوس تعرف بحرب مزاحم وهو حصن من حصونهم
أخبرني بخبره حرمي عن الزبير عن عمه مصعب قال
جمعت الأوس وحشدت بأحلافها ورأسوا عليهم أبا قيس بن الأسلت يومئذ فسار بهم حتى كان قريبا من مزاحم وبلغ ذلك الخزرج فخرجوا يومئذ عليهم سعد بن عبادة وذلك أن عبد الله بن أبي كان مريضا أو متمارضا

فاقتتلوا قتالا شديدا وقتلت بينهم قتلى كثيرة وكان الطول يومئذ للأوس فقال حسان في ذلك
( ما هاج حسّانَ رسومُ المقامْ ... ومَظْعَنُ الحيّ ومَبْنَى الخِيامْ )
وذكر الأبيات كلها
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن القاسم بن الحسن عن محمد ابن سعد عن الواقدي عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي قال
قال رجل من أهل المدينة ما ذكر بيت حسان بن ثابت
( أهْوَى حَديث النُّدْمانِ في فَلقِ الصُّبْح ... وصَوْتَ المُسَامِرِ الغَرِدِ )
إلا عدت في الفتوة كما كنت قال وهذا البيت من قصيدته التي يقول فيها
( انظر خليلي بباب جلّق هل ... تُؤْنِسُ دونَ البَلْقاء مِنْ أحَدِ )
وقد روي أيضا في هذا الخبر غير الروايتين اللتين ذكرتهما
أخبرني بذلك حرمي عن الزبير عن وهب بن جرير عن جويرية بن أسماء عن عبد الوهاب بن يحيى عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن شيخ من قريش قال
إني وفتية من قريش عند قينة من قيان المدينة ومعنا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت إذ استأذن حسان فكرهنا دخوله وشق ذلك علينا فقال لنا عبد الرحمن أيسركم ألا يجلس قلنا نعم قال فمروها إذا نظرت إليه أن ترفع عقيرتها وتغني

( أولادُ جَفْنَةَ عند قَبْرِ أبيهمُ ... قَبْرِ ابْنِ مارية الكريم المُفْضِلِ )
( يُغشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهم ... لا يَسألُون عن السَّوَادِ المقبلِ )
قال فوالله لقد بكى حتى ظننا أنه سقطت نفسه ثم قال أفيكم الفاسق لعمري لقد كرهتم مجلسي سائر اليوم وقام فانصرف والله تعالى أعلم
نسبة هذا الصوت وسائر ما يغنى فيه من القصيدة التي هو منها

صوت
( أولادُ جَفْنَةَ عند قَبْرِ أبيهمُ ... قَبْرِ ابْنِ مارية الجواد المُفْضِلِ )
( يسقُون مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... كأساً تصفَّق بالرحيق السَّلْسَلِ )
البريص موضع بدمشق
( بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهم ... شُمّ الأُنوفِ مِنَ الطِّراز الأوَّلِ )
( يُغشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهم ... لا يَسألُون عن السَّوَادِ المقبلِ )
ذكر حبش أن فيه لسيرين قينة حسان بن ثابت لحنا ثقيلا أول ابتداؤه نشيد وفيه لعريب ثقيل أول لا يشك فيه
ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله
صوت
( كِلْتاهُما حَلَبُ العَصِير فعَاطِني ... بزُجَاجَةٍ أرْخاهُما للمِفْصَلِ )
( بِزُجَاجَةٍ رقَصَتْ بما في قَعْرِها ... رَقْصَ القُلوصِ براكبٍ مستعجلِ )

غناه إبراهيم الموصلي رملا مطلقا في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو وغيرهما ويروى كلتاهما حلب العصير بجعل الفعل للعصير ويروى للمفصل بكسر الميم وفتح الصاد وللمفصل بفتح الميم وكسر الصاد وهو اللسان
أخبرنا بذلك علي بن سليمان الأخفش عن المبرد حكاية عن أصحابه عن الأصمعي

رجع الحديث إلى أخبار عزة الميلاء
قال إسحاق حدثني مصعب الزبيري عن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة عن أبيه عن جده قال
كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني
( بانَتْ سُعَادُ وأمسى حَبْلُها انقَطَعا ... )
فاستهتر بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاوس فلاماه فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر
( بلُومَني فيكِ أقوامٌ أُجالِسُهم ... فما أُبالِي أطارَ اللَّوْمُ أمْ وَقَعَا )

وبلغ عبد الله بن جعفر خبره فبعث إلى النخاس فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال لها ممن أخذته قالت من عزة الميلاء فابتاعها بأربعين ألف درهم ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه وصدقه عنه فقال له أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية قال نعم فدعا بعزة وقال لها غنيه إياه فغنته فصعق الرجل وخر مغشيا عليه فقال ابن جعفر أثمنا فيه الماء الماء فنضح على وجهه فلما أفاق قال له أكل هذا بلغ بك عشقها قال وما خفي عنك أكثر قال أفتحب أن تسمعه منها قال قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبها فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها قال أفتعرفها إن رأيتها قال أو أعرف غيرها فأمر بها فأخرجت وقال خذها فهي لك والله ما نظرت إليها إلا عن عرض فقبل الرجل يديه ورجليه وقال أنمت عيني وأحييت نفسي وتركتني أعيش بين قومي ورددت إلي عقلي ودعا له دعاء كثيرا فقال ما أرضى أن أعطيكها هكذا يا غلام احمل معها مثل ثمنها لكيلا تهتم به ويهتم بها

نسبة هذا الصوت
صوت
( بانت سعادُ وأمسى حَبْلُها انقطَعا ... واحتلَّت الغَوْر فالجدَّين فالفَرَعا )
( وأنكرتْنِي وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعا )
عروضه من البسيط والشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة

وزعم الأصمعي أن البيت الثاني هو صنعه ونحله الأعشى
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال
ما نحلت أحدا من الشعراء شيئا قط لم يقله إلا بيتا واحدا نحلته الأعشى وهو
( وأنكرَتْنِي وما كان الذي نكَرَتْ ... من الحوادث إلاّ الشَّيْبَ والصَّلَعا )
الغناء لعزة الميلاء خفيف ثقيل أول بالوسطى وذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد وأنكر إسحاق ذلك ودفعه وفيه للغريض ثقيل أول بالبنصر وقيل إنه لجميلة

عزة تغني في المدينة
قال إسحاق وحدثني ابن سلام عن ابن جعدبة قال
كان ابن أبي عتيق معجبا بعزة الميلاء فأتى يوما عند عبد الله بن جعفر فقال له بأبي أنت وأمي هل لك في عزة فقد اشتقت إليها قال لا أنا اليوم مشغول فقال بأبي أنت وأمي إنها لا تنشط إلا بحضورك فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك ففعل فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها دعي الغناء فقد ضج أهل المدينة منك وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونساءهم فقال له ابن جعفر ارجع إلى صاحبك فقل له عني أقسم عليك إلا ناديت في المدينة أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه ويظهر لنا ولك أمره فنادى الرسول بذلك فما أظهر أحد نفسه ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه فقال لها لا يهولنك ما سمعت وهاتي فغنينا فغنته

بشعر القطامي
( إنّا محيُّوك فاسْلَمْ أيُّها الطَّلَلُ ... وإنْ بليت وإن طالتْ بك الطِّيَلُ )
فاهتز ابن أبي عتيق طربا فقال عبد الله بن جعفر ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة
وقد مضت نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني في مواضع أخر

صوت
( مَنْ كان مسروراً بمَقْتَلِ مالكٍ ... فليَأْتِ نسوتَنا بوَجْهِ نَهارِ )
( يَجِدِ النساءَ حواسراً يَنْدُبْنَهُ ... قد قُمْنَ قبل تبلُّج الأسحارِ )
عروضه من الكامل قوله
( قد قمن قبل تَبَلُّج الأسحار ... )
يعني أنهن يندبنه في ذلك الوقت وإنما خصه بالندبة لأنه وقت الغارة يقول فهن يذكرنه حينئذ لأنه كان من الأوقات التي ينهض فيها للحرب والغارات قال الله تبارك وتعالى ( فالمغيرات صبحا ) وأما قول الخنساء

( يُذَكِّرُني طلوعُ الشمسِ صَخْراً ... وأذْكُره لكلِّ غُرُوبِ شَمْسِ )
فإنما ذكرته عند طلوع الشمس للغارة وعند غروبها للضيف
الشعر للربيع بن زياد العبسي والغناء لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والله أعلم

ذكر نسب الربيع بن زياد وبعض أخباره وقصة هذا الشعر والسبب الذي قتل من
أجله
هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
وأمه فاطمة بنت الخرشب واسم الخرشب عمرو بن النضر بن حارثة ابن طريف بن أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان وهي إحدى المنجبات كان يقال لبنيها الكملة وهم الربيع وعمارة وأنس
أم الربيع إحدى المنجبات
ولما سأل معاوية علماء العرب عن البيوتات والمنجبات وحظر عليهم أن يتجاوزوا في البيوتات ثلاثة وفي المنجبات ثلاثا عدوا فاطمة بنت الخرشب فيمن عدوا وقبلها حيية بنت رياح الغنوية أم الأحوص وخالد ومالك وربيعة بني جعفر بن كلاب وماوية بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد الله بن دارم بن

عمرو بن تميم وهي أم لقيط وحاجب وعلقمة بني زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح واللفظ له وخبره أتم وأخبرني به أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال
ولدت فاطمة بنت الخرشب من زياد بن عبد الله العبسي سبعة فعدت العرب المنجبين منهم ثلاثة وهم خيارهم
قال محمد بن موسى قال محمد بن صالح وحدثني موسى بن طلحة والوليد بن هشام القحذمي بمثل ذلك قال
فمنهم الربيع ويقال له الكامل وعمارة وهو الوهاب وأنس وهو أنس الفوارس وهو الواقعة وقيس وهو البرد والحارث وهو الحرون ومالك وهو لاحق وعمرو وهو الدراك
قال محمد بن موسى قال ابن النطاح وحدثني أبو عثمان العمري
أن عبد الله بن جدعان لقي فاطمة بنت الخرشب وهي تطوف بالكعبة فقال لها نشدتك برب هذه البنية أي بنيك أفضل قالت الربيع لا بل

عمارة لا بل أنس ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل
قال ابن النطاح وحدثني أبو اليقظان سحيم بن حفص العجيفي قال حدثني أبو الخنساء قال
سئلت فاطمة عن بنيها أيهم أفضل فقالت الربيع لا بل عمارة لا بل أنس لا بل قيس وعيشي ما أدري أما والله ما حملت واحدا منهما تضعا ولا ولدته يتنا ولا أرضعته غيلا ولا منعته قيلا ولا أبته على ماقة
قال أبو اليقظان
أما قولها ما حملت واحدا منهم تضعا فتقول لم أحمله في دبر الطهر وقبل الحيض وقولها ولا ولدته يتنا وهو أن تخرج رجلاه قبل رأسه ولا أرضعته غيلا أي ما أرضعته قبل أن أحلب ثديي ولا منعته قيلا أي لم أمنعه اللبن عند القائلة ولا أبته على ماقة أي وهو يبكي
قال ابن النطاح وحدثني أبو اليقظان قال حدثني أبو صالح الأسدي قال
سئلت فاطمة بنت الخرشب عن بنيها فوصفتهم وقالت في عمارة لا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف وقالت في الربيع لا تعد مآثره ولا تخشى في الجهل بوادره وقالت في أنس إذا عزم أمضى وإذا سئل أرضى وإذا قدر أغضى وقالت في الآخرين أشياء لم يحفظها أبو اليقظان
وقال ابن النطاح وحدثني القحذمي قال حدثني أبي قال حدثني ابن عياش عن رجل من بني عبس قال

ذكاء الربيع
ضاف فاطمة ضيف فطرحت عليه شملة من خز وهي مسك كما هي فلما وجد رائحتها وأعتم دنا منها فصاحت به فكف عنها ثم إنه تحرك

أيضا فأرادها عن نفسها فصاحت فكف ثم إنه لم يصبر فواثبها فبطشت به فإذا هي من أشد الناس فقبضت عليه ثم صاحت يا قيس فأتاها فقالت إن هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه فقال أخي أكبر منك فعليك فه فنادت يا أنس فأتاها فقالت إن هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه فقال لها أخي أكبر مني فسليه فنادت يا عمارة فأتاها فذكرت ذلك له فقال لها السيف وأراد قتله فقالت له يا بني لو دعونا أخاك فهو أكبر منك فدعت الربيع فذكرت ذلك له فقال أفتطيعونني يا بني زياد قالوا نعم قال فلا تزنوا أمكم ولا تقتلوا ضيفكم وخلوه يذهب فذهب
قال ابن النطاح وقال بعض الشعراء يمدح بني زياد من فاطمة يقال إنه قيس بن زهير ويقال حاتم طيىء
( بنو جِنِّيَّةٍ ولدَتْ سيوفاً ... قواطعَ كلُّهم ذكرٌ صَنِيعُ )
( وجارتُهم حَصانٌ لم تُزَنَّى ... وطاعمة الشتاء فما تجوعُ )
( شرى وُدِّي ومكرمتي جميعاً ... طَوالَ زمانه مني الربيع )
وقال سلمة بن الخرشب خالهم فيهم يخاطب قوما منهم أرادوا حربه
( أتيتُم إلينا تَرْجُفُونَ جماعةً ... فأيْن أبو قيس وأين ربيعُ )
( وذاك ابنُ أختٍ زانه ثوبُ خاله ... وأعمامه الأعمام وهو نَزِيعُ )
( رَفيقٌ بداءِ الحرب طبٌّ بصَعْبها ... إذا شتَّ رأيُ القوم فهو جَميعُ )
( عطوفٌ على المولى ثقيلٌ على العِدا ... أصمُّ عن العَوْراء وهو سميعُ )

وقال رجل من طيىء ويقال له الربيع بن عمارة
( فإن تكن الحوادثُ أفْظَعَتْنِي ... فلم أرَ هالِكاً كابْنيْ زِيادِ )
( هما رُمْحان خَطِّيَّان كانَا ... من السُّمْر المثقَّفةِ الجِيادِ )
( تهاب الأرض أنْ يَطأ عليها ... بمثلهما تُسالمُ أو تُعَادي )

وأمه تقتل نفسها خوفا من النار
وقال الأثرم حدثني أبو عمرو الشيباني قال
أغار حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر الفزاري على بني عبس فظفر بفاطمة بنت الخرشب أم الربيع بن زياد إخوته راكبة على جمل لها فقادها بجملها فقالت له أي رجل ضل حلمك والله لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة بي وبك التي أمامنا وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبدا لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاؤوه وحسبك من شر سماعه قال فإني أذهب بك حتى ترعى علي إبلي فلما أيقنت أنه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير فماتت خوفا من أن يحلق بنيها عار فيها
وحدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال
لبيد يحاول الإيقاع بينه وبين النعمان
وفد أبو براء ملاعب الأسنة - وهو عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب - وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة ومعهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر وهو غلام على النعمان بن المنذر فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي وكان

الربيع ينادم النعمان مع رجل من أهل الشام تاجر يقال له سرجون بن توفل وكان حريفا للنعمان - يعني سرجون - يبايعه وكان أديبا حسن الحديث والمنادمة فاستخفه النعمان وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي - متطبب كان له - وإلى الربيع بن زياد وكان يدعى الكامل
فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فإذا خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم وذكر معايبهم ففعل ذلك بهم مرارا وكانت بنو جعفر له أعداء فصده عنهم فدخلوا عليه يوما فرأوا منه تغيرا وجفاء وقد كان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم فخرجوا من عنده غضابا ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدوا بإبلهم كل صباح فيرعاها فإذا أمسى انصرف بإبلهم فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع وما يلقون منه فسألهم فكتموه فقال لهم والله لا أحفظ لكم متاعا ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني
وكانت أم لبيد امرأة من بني عبس وكانت يتيمة في حجر الربيع فقالوا خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه فقال لهم لبيد هل تقدرون على أن تجمعوا بينه وبيني فأزجره عنكم بقول ممض ثم لا يلتفت النعمان إليه بعده أبدا فقالوا وهل عندك من ذلك شيء قال نعم قالوا فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة - لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض تدعى التربة - فقال هذه التربة التي لا تذكي نارا ولا تؤهل دارا ولا تسر جارا عودها ضئيل وفرعها كليل وخيرها قليل بلدها شاسع ونبتها خاشع وآكلها جائع والمقيم عليها ضائع أقصر البقول فرعا وأخبثها مرعى وأشدها قلعا فتعسا لها وجدعا ألقوا بي أخا بني عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس وأتركه من أمره في لبس
فقالوا نصبح فنرى فيك رأينا فقال لهم عامر انظروا غلامكم فإن

رأيتموه نائما فليس أمره بشيء وإنما يتكلم بما جاء على لسانه ويهذي بما يهجس في خاطره وإذا رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلا فهو يكدم بأوسطه حتى أصبح
فلما أصبحوا قالوا أنت والله صاحبنا فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابتين وألبسوه حلة ثم غدوا به معهم على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع وهما يأكلان ليس معه غيره والدار والمجالس مملوءة من الوفود
فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه وقد كان تقارب أمرهم فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم فاعترض الربيع في كلامهم فقام لبيد يرتجز ويقول
( يا رُبَّ هَيْجا هي خَيْرٌ من دَعَهْ ... أكُلَّ يوم هامَتِي مقَزَّعهْ )
( نحن بَنُو أُمِّ البنينَ الأربعهْ ... ومِنْ خيارِ عامرِ بْنِ صَعْصَعَهْ )
( المطعمون الجَفْنَةَ المُدَعْدَعَهْ ... والضاربون الهامَ تحت الخَيْضَعهْ )
( يا واهِبَ الخير الكثير مِنْ سَعهْ ... إليكَ جاوَزْنَا بلاداً مُسْبِعَهْ )
( يخبر عن هذا خبيرٌ فاسْمَعَهْ ... مَهْلاً - أبيت اللَّعْنَ - لا تأكُلْ معَهْ )
( إنّ استَهُ مِنْ بَرَصٍ مُلَمَّعَهْ ... وإنه يُدْخِلُ فيها إصبعهْ )
( يُدْخِلُها حتى يُواري أشْجَعَهْ ... كأنما يطلب شيئاً أطمعهْ )
فلما فرغ من إنشاده التفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه فقال أكذا

أنت قال لا والله لقد كذب علي ابن الحمق اللئيم فقال النعمان أف لهذا الغلام لقد خبث علي طعامي فقال أبيت اللعن أما إني لقد فعلت بأمه فقال لبيد أنت لهذا الكلام أهل وهي من نساء غير فعل وأنت المرء فعل هذا بيتيمة في حجره
فأمر النعمان ببني جعفر فأخرجوا وقام الربيع فانصرف إلى منزله فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به وأمره بالانصراف إلى أهله
وكتب إليه الربيع إني قد تخوفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد ولست برائم حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال فأرسل إليه إنك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا ولا قادرا على ما زلت به الألسن فالحق بأهلك
فقال الربيع
( لئن رحلت جِمالي إنَّ لي سعةً ... ما مِثْلُها سَعة عَرْضاً ولا طُولاً )
( بحيْثُ لو وُزنت لَخْمٌ بأجمعها ... لم يَعْدِلُوا ريشة من ريش سمويلا )
( تَرْعَى الرَّوائمُ أحرارَ البقُول بها ... لا مِثْلَ رَعْيكم مِلْحاً وغَسْويلا )
( فابرُقْ بأرضك يا نعمان متّكِئاً ... مع النطاسيّ يوماً وابن توفيلا )
فكتب إليه النعمان
( شَرِّدْ برَحْلك عني حيثُ شئتَ ولا ... تكثَرْ عليّ وَدَعْ عنك الأباطيلا )

( فقد ذُكرتَ به والركبُ حامِلُه ... وِرْداً يُعلِّل أهلَ الشام والنِّيلا )
( فما انتِفاؤُك مِنْهُ بعدما جزَعت ... هُوجُ المطيّ به إبْرَاقَ شِمْليلا )
( قد قِيل ذلك إنْ حقّاً وإنْ كذباً ... فما اعتذارُك من شيء إذا قِيلا )
( فالحقْ بحيث رأيتَ الأرضَ واسعة ... وانشر بها الطَّرْفَ إنْ عرضًا وإن طولا )
وأما الشعر الذي فيه الغناء فإن الربيع بن زياد يقوله في مقتل مالك بن زهير وكان قتله في بعض تلك الوقائع التي يعرف مبدؤها بداحس والغبراء

حرب داحس والغبراء
سبب الحرب
وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وأبي غسان دماذ عن أبي عبيدة وإبراهيم بن سعدان عن أبيه قال
كان من حديث داحس أن أمه فرس كانت لقرواش بن عوف بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع يقال لها جلوى وكان أبوه يسمى ذا العقال وكان لحوط بن أبي جابر بن أوس بن حميري بن رياح وإنما سمي داحسا لأن بني يربوع احتملوا ذات يوم سائرين في نجعه وكان ذو العقال مع ابنتي حوط بن أبي جابر بن أوس تجنبانه فمرتا به على جلوى فرس قرواش وديقا فلما

رآها الفرس ودى وصهل فضحك شبان من الحي رأوه فاستحيت الفتاتان فأرسلتاه فنزا على جلوى فوافق قبولها فأقصت ثم أخذه لهما بعض الحي فلحق بهما حوط وكان رجلا شريرا سيىء الخلق فلما نظر إلى عين الفرس قال والله لقد نزا فرسي فأخبراني ما شأنه فأخبرتاه الخبر فقال يا آل رياح لا والله لا أرضى أبدا حتى أخرج ماء فرسي فقال له بنو ثعلبة والله ما استكرهنا فرسك إنما كان منفلتا فلم يزل الشر بينهما حتى عظم
فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا دونكم ماء فرسكم فسطا عليها وأدخل يده في ماء وتراب ثم أدخلها في رحمها حتى ظن أنه قد أخرج الماء واشتملت الرحم على ما كان فيها فنتجها قرواش مهرا فسماه داحسا لذلك وخرج كأنه أبو ذو العقال وفيه يقول جرير
( إنَّ الجيادَ يَبِتْنَ حَوْلَ خِبائنا ... مِنْ آلِ أعوجَ أو لذِي العُقَّالِ )
وأعوج فرس لبني هلال
فلما تحرك المهر سام مع أمه وهو فلو يتبعها وبنو ثعلبة سائرون فرآه حوط فأخذه فقالت بنو ثعلبة يا بني رياح ألم تفعلوا فيه أول مرة ما فعلتم ثم هذا الآن فقالوا هو فرسنا ولن نترككم أو نقاتلكم عنه أو تدفعوه إلينا
فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا إذا لا نقاتلكم عنه أنتم أعز علينا هو فداؤكم ودفعوه إليهم
فلما رأى ذلك بنو رياح قالوا والله لقد ظلمنا إخوتنا مرتين ولقد حلموا

وكرموا فأرسلوا به إليهم مع لقوحين
فمكث عند قرواش ما شاء الله وخرج أجود خيول العرب ثم إن زهير بن قيس بن جذيمة العبسي أغار على بني يربوع فلم يصب أحدا غير ابنتي قرواش بن عوف ومائة من الإبل لقرواش وأصاب الحي وهم خلوف ولم يشهد من رجالهم غير غلامين من بني أزنم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع فجالا في متن الفرس مرتدفيه وهو مقيد بقيد من حديد فأعجلهما القوم عن حل قيده واتبعهما القوم فضبر بالغلامين ضبرا حتى نجوا به ونادتهما إحدى الجاريتين إن مفتاح القيد مدفون في مذود الفرس بمكان كذا وكذا أي بجنب مذود وهو مكان أي لا تنزلا عنه إلا في ذلك المكان فسبقا إليه حتى أطلقاه ثم كرا راجعين
فلما رأى ذلك قيس بن زهير رغب في الفرس فقال لهما لكما حكمكما وادفعا إلي الفرس فقالا أو فاعل أنت قال نعم فاستوثقا منه على أن يرد ما أصاب من قليل وكثير ثم يرجع عوده على بدئه ويطلق الفتاتين ويخلي عن الإبل وينصرف عنهم راجعا فقل ذلك قيس فدفعا إليه الفرس
فلما رأى ذلك أصحاب قيس قالوا لا نصالحك أبدا أصبنا مائة من الإبل وامرأتين فعمدت إلى غنيمتنا فجعلتها في فرس لك تذهب به دوننا فعظم في ذلك الشر حتى اشترى منهم غنيمتهم بمائة من الإبل
فلما جاء قرواش قال للغلامين الأزنميين أين فرسي فأخبراه فأبى أن

يرضى إلا أن يدفع إليه فرسه فعظم في ذلك الشر حتى تنافروا فيه فقضي بينهم أن ترد الفتاتان والإبل إلى قيس بن زهير ويرد عليه الفرس فلما رأى ذلك قرواش رضي بعد شر وانصرف قيس بن زهير ومعه داحس فمكث ما شاء الله
وزعم بعضهم أن الرهان إنما هاجه بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر ابن عمرو بن جوية بن لوذان بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار - أن قيسا دخل على بعض الملوك وعنده قينة لحذيفة بن بدر تغنيه بقول امرىء القيس
( دارٌ لهندٍ والرَّبابِ وَفَرْتَنَى ... ولَمِيسَ قَبْلَ حوادِثِ الأيامِ )
وهن - فيما يذكر - نسوة من بني عبس فغضب قيس بن زهير وشق رداءها وشتمها فغضب حذيفة فبلغ ذلك قيسا فأتاه يسترضيه فوقف عليه فجعل يكلمه وهو لا يعرفه من الغضب وعنده أفراس له فعابها وقال ما يرتبط مثلك مثل هذه يا أبا مسهر فقال حذيفة أتعيبها قال نعم فتجاريا حتى تراهنا
وقال بعض الرواة إن الذي هاج الرهان أن رجلا من بني عبد الله بن غطفان ثم أحد بني جوشن - وهم أهل بيت شؤم أتى حذيفة زائرا - ويقال إن الذي أتاه الورد العبسي أبو عروة بن الورد - قال فعرض عليه حذيفة خيله فقال ما أرى فيها جوادا مبرا والمبر الغالب قال ذو الرمة
( أبرّ على الخُصومً فليس خَصْمٌ ... ولا خصْمانِ يَغْلِبُه جِدَالا )

فقال له حذيفة فعند من الجواد المبر فقال عند قيس بن زهير فقال له هل لك أن تراهنني عنه قال نعم قد فعلت فراهنه على ذكر من خيله وأنثى
ثم إن العبدي أتى قيس بن زهير وقال إني قد راهنت عنك على فرسين من خيلك ذكر وأنثى وأوجبت الرهان
فقال قيس ما أبالي من راهنت غير حذيفة فقال ما راهنت غيره فقال له قيس إنك ما علمت لأنكد
ثم ركب قيس حتى أتى حذيفة فوقف عليه فقال له ما غدا بك قال غدوت لأواضعك الرهان قال بل غدوت لتغلقه قال ما أردت ذلك فأبى حذيفة إلا الرهان فقال قيس أخيرك ثلاث خلال فإن بدأت فاخترت قبلي فلي خلتان ولك الأولى وإن بدأت فاخترت قبلك فلك خلتان ولي الأولى
قال حذيفة فابدأ قال قيس الغاية من مائة غلوة - والغلوة الرمية بالنشابة - قال حذيفة فالمضمار أربعون ليلة والمجرى من ذات الإصاد
ففعلا ووضعا السبق على يدي غلاق او ابن غلاق أحد بني ثعلبة بن سعد بن ثعلبة
فأما بنو عبس فزعموا أنه أجرى الخطار والحنفاء وزعمت بنو فزارة أنه أجرى قرزلا والحنفاء وأجرى قيس داحسا والغبراء
ويزعم بعضهم أن الذي هاج الرهان أن رجلا من بني المعتمر بن قطيعة بن

عبس يقال له سراقة راهن شابا من بني بدر - وقيس غائب - على أربع جزائر من خمسين غلوة فلما جاء قيس كره ذلك وقال له لم ينته رهان قط إلا إلى شر ثم أتى بني بدر فسألهم المواضعة فقالوا لا حتى نعرف سبقنا فإن أخذنا فحقنا وإن تركنا فحقنا
فغضب قيس ومحك وقال أما إذ فعلتم فأعظموا الخطر وأبعدوا الغاية قالوا فذلك لك فجعلوا الغاية من واردات إلى ذات الإصاد وذلك مائة غلوة والثنية فيما بينهما وجعلوا القصبة في يدي رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له حصين ويقال رجل من بني العشراء من بني فزارة وهو ابن أخت لبني عبس وملؤوا البركة ماء وجعلوا السابق أول الخيل يكرع فيها
ثم إن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الذي أرسلن منه ينظران إلى الخيل كيف خروجها منه فلما أرسلت عارضاها فقال حذيفة خدعتك يا قيس قال ترك الخداع من أجرى من مائة فأرسلها مثلا
ثم ركضا ساعة فجعلت خيل حذيفة تبر وخيل قيس تقصر فقال حذيفة سبقتك يا قيس فقال جري المذكيات غلاب فأرسلها مثلا ثم ركضا ساعة فقال حذيفة إنك لا تركض مركضا فأرسلها مثلا وقال سبقت خيلك يا قيس فقال قيس رويدا يعلون الجدد فأرسلها مثلا
قال وقد جعل بنو فزارة كمينا بالثنية فاستقبلوا داحسا فعرفوه فأمسكوه وهو السابق ولم يعرفوا الغبراء وهي خلفه مصلية حتى مضت الخيل واستهلت من

الثنية ثم أرسلوه فتمطر في آثارها أي أسرع فجعل يبدرها فرسا فرسا حتى سبقها إلى الغاية مصليا وقد طرح الخيل غير الغبراء ولو تباعدت الغاية لسبقها فاستقبلها بنو فزارة فلطموها ثم حلؤوها عن البركة ثم لطموا داحسا وقد جاءا متواليين وكان الذي لطمه عمير بن نضلة فجسأت يده فسمي جاسئا
فجاء قيس وحذيفة في آخر الناس وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم ولطموا أفراسهم ولم تطقهم بنو عبس يقاتلونهم وإنما كان من شهد ذلك من بني عبس أبياتا غير كثيرة فقال قيس بن زهير يا قوم إنه لا يأتي قوم إلى قومهم شرا من الظلم فأعطونا حسنا فأبت بنو فزارة أن يعطوهم شيئا - وكان الخطر - عشرين من الإبل - فقالت بنو عبس أعطونا بعض سبقنا فأبوا فقالوا أعطونا جزورا ننحرها نطعمها أهل الماء فإنا نكره القالة في العرب فقال رجل من بني فزارة مائة جزور وجزور واحد سواء والله ما كنا لنقر لكم بالسبق علينا ولم نسبق
فقام رجل من بني مازن بن فزارة فقال يا قوم إن قيسا كان كارها لأول هذا الرهان وقد أحسن في آخره وإن الظلم لا ينتهي إلا إلى الشر فأعطوه جزورا من نعمكم فأبوا فقام إلى جزور من إبله فعقلها ليعطيها قيسا ويرضيه فقام ابنه فقال إنك لكثير الخطأ أتريد أن تخالف قومك وتلحق بهم خزاية بما ليس عليهم فأطلق الغلام عقالها فلحقت بالنعم فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم هو ومن معه من بني عبس فأتى على ذلك ما شاء الله

مقتل عوف بن بدر ومالك بن زهير
ثم إن قيسا أغار عليهم فلقي عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله فبلغ ذلك بني فزارة فهموا بالقتال وغضبوا فحمل الربيع بن زياد أحد بني عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس دية عوف بن بدر مائة عشراء متلية
العشراء التي أتى عليها من حملها عشرة أشهر من ملقحها والمتالي التي نتج بعضها والباقي يتلوها في النتاج
وأم عوف وأم حذيفة ابنة نضلة بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة
واصطلح الناس فمكثوا ما شاء الله
ثم إن مالك بن زهير أتى امرأة يقال لها مليكة بنت حارثة من بني عوذ بن فزارة فابتنى بها باللقاطة قريبا من الحاجر فبلغ ذلك حذيفة بن بدر فدس له فرسانا على أفراس من مسان خيله وقال لا تنظروا مالكا إن وجدتموه أن تقتلوه والربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب العبسي مجاور حذيفة بن بدر وكانت تحت الربيع بن زياد معاذة ابنة بدر فانطلق القوم فلقوا مالكا فقتلوه ثم انصرفوا عنه فجاؤوا عشية وقد جهدوا أفراسهم فوقفوا على حذيفة ومعه الربيع بن زياد فقال حذيفة أقدرتم على حماركم قالوا نعم وعقرناه
فقال الربيع ما رأيت كاليوم قط أهلكت أفراسك من أجل حمار فقال حذيفة لما أكثر عليه من الملامة وهو يحسب أن الذي أصابوا حمارا إنا لم نقتل

حمارا ولكنا قتلنا مالك بن زهير بعوف بن بدر فقال الربيع بئس لعمر الله القتيل قتلت أما والله إني لأظنه سيبلغ ما نكره
فتراجعا شيئا من كلام ثم تفرقا فقام الربيع يطأ الأرض وطأ شديدا وأخذ يومئذ حمل بن بدر ذا النون سيف مالك بن زهير
قال أبو عبيدة فزعموا أن حذيفة لما قام الربيع بن زياد أرسل إليه بمولدة له فقال لها اذهبي إلى معاذة بنت بدر امرأة الربيع فانظري ما ترين الربيع يصنع فانطلقت الجارية حتى دخلت البيت فاندست بين الكفاء والنضد - والكفاء شقة في آخر البيت والنضد متاع يجعل على حمار من خشب - فجاء الربيع فنفذ البيت حتى أتى فرسه فقبض بمعرفته ثم مسح متنه حتى قبض بعكوة ذنبه - العكوة أصل الذنب - ثم رجع إلى البيت ورمحه مركوز بفنائه فهزه هزا شديدا ثم ركزه كما كان ثم قال لامرأته اطرحي لي شيئا فطرحت له شيئا فاضطجع عليه وكانت قد طهرت تلك الليلة فدنت منه فقال إليك قد حدث أمر ثم تغنى وقال
( نام الخَلِيُّ وما أُغمِّضُ حارِ ... من سيِّىء النَّبَأ الجليلِ السَّارِي )
( مِنْ مِثْله تُمسِي النساءُ حواسِراً ... وتقوم مُعْوِلةٌ مع الأسحار )
( مَنْ كان مسروراً بمَقْتَلِ مالكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسوَتنا بوَجْهِ نهار )
( يَجد النساء حواسراً ينْدُبْنَه ... يبكين قبل تبلُّج الأسحارِ )
( قد كُنَّ يَخْبأن الوُجوهَ تستُّراً ... فاليوم حين بدَوْنَ للنُّظَّارِ )
( يَخْمِشْنَ حُرَّات الوُجوهِ على امرىء ... سَهْلِ الخليقة طيّب الأخبار )
( أفبَعْدَ مَقْتَل مالك بن زُهَيْرٍ ... تَرْجُوِ النساءُ عواقبَ الأطهارِ )
( ما إنْ أرَى في قتله لِذَوي الحِجا ... إلاَّ المطيّ تُشدُّ بالأكَوارِ )

( ومجَّنباتٍ ما يَذُقْنَ عذُوفةً ... يَقْذِفْنَ بالمُهَرات والأمْهارِ )
العذوف والعدوف واحد وهو ما أكلته
( ومساعِراً صدأُ الحديدِ عليهم فكأنما ... طُلِيَ الوجوهُ بقار )
( يا رُبَّ مَسْرُورٍ بمَقْتَلِ مالكٍ ... ولسوف نصرِفُه بشرِّ مَحارِ )
فرجعت المرأة فأخبرت حذيفة الخبر فقال هذا حين اجتمع أمر إخوتكم ووقعت الحرب
وقال الربيع لحذيفة وهو يومئذ جاره سيرني فإني جاركم فسيره ثلاث ليال ومع الربيع فضلة من خمر فلما سار الربيع دس حذيفة في أثره فوارس فقال اتبعوه فإذا مضت ثلاث ليال فإن معه فضلة من خمر فإن وجدتموه قد أهراقها فهو جاد وقد مضى فانصرفوا وإن لم تجدوه قد أراقها فاتبعوه فإنكم تجدونه قد مال لأدنى منزل فرتع وشرب فاقتلوه فتبعوه فوجدوه قد شق الزق ومضى فانصرفوا
فلما أتى الربيع قومه وقد كان بينه وبين قيس بن زهير شحناء وذلك أن الربيع ساوم قيس بن زهير في درع كانت عنده فلما نظر إليها وهو راكب وضعها بين يديه ثم ركض بها فلم يردها على قيس فعرض قيس لفاطمة ابنة الخرشب الأنمارية - من أنمار من بغيض وهي إحدى منجبات قيس وهي أم الربيع - وهي تسير في ظعائن من عبس فاقتاد جملها يريد أن يرتهنها بالدرع حتى يرد

عليه فقالت ما رأيت كاليوم فعل رجل أي قيس ضل حلمك أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد وقد أخذت أمهم فذهبت بها يمينا وشمالا فقال الناس في ذلك ما شاؤوا وحسبك من شر سماعه فأرسلتها مثلا فعرف قيس بن زهير ما قالت له فخلى سبيلها وأطرد إبلا لبني زياد فقدم بها مكة فباعها من عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي وقال في ذلك قيس بن زهير
( ألم يبلغك والأنباءُ تَنْمِي ... بما لاقَتْ لَبُونُ بني زِيادِ )
( ومَحْبِسُها على القرشي تُشْرَى ... بأدراعٍ وأسيافٍ حِداد )
( كما لاقيتَ مِنْ حَمَلِ بن بَدْرٍ ... وإخوتِه على ذات الإصاد )
( هُم فَخَرُوا عليّ بغير فَخْرٍ ... وذَادُوا دُونَ غايتِه جَوادي )
( وكنتُ إذا مُنِيتُ بخَصْمِ سوءٍ ... دلفْتُ له بِداهيةٍ نآدا )
( بداهِيةٍ تدقّ الصُّلْبَ منه ... فتقصِمُ أو تجوبُ عن الفؤاد )
( وكنتُ إذا أتاني الدَّهرَ رِبْقٌ ... بداهيةٍ شددتُ لها نِجادي )
الربق ما يتقلده
( ألم تعلم بنو المِيقاب أنِّي ... كريمٌ غير مُنْغَلِثِ الزِّنادِ )
الوقب الأحمق والميقاب التي تلد الحمقى والمنغلث الذي ليس بمنتقى

( أُطوِّفُ ما أُطوِّفُ ثم آوي ... الى جارٍ كجارِ أبي دُوَاد )
جاره يعني ربيعة الخير بن قرط بن سلمة بن قشير وجار أبي دواد يقال له الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وكان أبو دواد في جواره فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير فغمس الصبيان ابن أبي دواد فيه فقتلوه فخرج الحارث فقال لا يبقى صبي في الحي إلا غرق في الغدير أو يرضى أبو دواد فودي ابن أبي دواد عشر ديات فرضي وهو قول أبي دواد
( إبلي الإِبْلُ لا يحوزها الراعون ... ومَجَّ النّدَى عليها المُدَامُ )
قال أبو سعيد حفظي لا يحوزها الراعي ومج الندى
( إليكَ ربيعةَ الخير بن قُرْط وَهُوباً للطَّريف وللتَّلادِ ... )
( كفانِي ما أخافُ أبو هلال ... ربيعةُ فانتهَتْ عَنّي الأعَادِي )
( تَظَلُّ جِيَادُه يحدين حوْلي ... بذات الرِّمْث كالحِدَإ الغَوَادِي )
( كأني إذ أنختُ إلى ابْنِ قرط ... عقلْتُ إلى يَلَمْلَمَ أو نَضَادِ )

وقال أيضا قيس بن زهير
( إن تك حَرْبٌ فلم أَجْنِها ... جَنَتْها خيارُهُم أوْ هُمُ )
( حِذَار الرَّدَى إذ رأوا خَيْلَنا ... مُقَدِّمُها سابحٌ أدْهَمُ )
( عليه كَمِيٌ وسِرْبالُه ... مُضاعفة نسجُها مُحْكمُ )
( فإنْ شَمَّرَتْ لكَ عن ساقِها ... فَوَيْهاً ربيعُ ولم يسأمُوا )
( نَهيتُ رَبيعاً فلم يَزْدَجِرُ ... كما انزجر الحارثُ الأضْجَمُ )
قال أبو عبد الله الحارث الأضجم رجل من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار وهو صاحب المرباع
قال فكانت تلك الشحناء بين بني زياد وبين بني زهير فكان قيس يخاف خذلانهم إياه فزعموا أن قيسا دس غلاما له مولدا فقال انطلق كأنك تطلب إبلا فإنهم سيسألونك فذكر مقتل مالك ثم احفظ ما يقولون فأتاهم العبد فسمع الربيع يتغنى بقوله
( أفبَعْدَ مَقْتلِ مالكِ بْنِ زُهَير ... ترجُو النساءُ عواقبَ الأطهارِ )
فلما رجع العبد إلى قيس فأخبره بما سمع من الربيع بن زياد عرف قيس أن قد غضب فاجتمعت بنو عبس على قتال بني فزارة فأرسلوا إليهم أن ردوا علينا إبلنا التي ودينا بها عوفا أخا حذيفة بن بدر لأمه فقال لا أعطيكم دية ابن أمي وإنما قتل صاحبكم حمل بن بدر وهو ابن الأسدية وأنتم وهو أعلم

فزعم بعض الناس أنهم كانوا ودوا عوف بن بدر بمائة من الإبل متلية أي قد دنا نتاجها وأنه أتى على تلك الإبل أربع سنين وأن حذيفة بن بدر أراد أن يردها بأعيانها فقال له سنان بن خارجة المري أتريد أن تلحق بنا خزاية فنعطيهم أكثر مما أعطونا فتسبنا العرب بذلك فأمسكها حذيفة وأبى بنو عبس أن يقبلوا إلا إبلهم بعينها فمكث القوم ما شاء الله أن يمكثوا

مقتل مالك بن بدر
ثم إن مالك بن بدر خرج يطلب إبلا له فمر على بني رواحة فرماه جندب - أحد بني رواحة - بسهم فقتله فقالت ابنة مالك بن بدر في ذلك
( لِلَّهِ عَيْنا مَنْ رأى مِثْلَ مالكٍ ... عَقيرةَ قَوْمٍ أنْ جَرَى فَرَسانِ )
( فليتهما لم يَشْربا قطُّ قطرةً ... وليتهما لم يُرْسلا لِرهان )
( أُحِلَّ به مِنْ جندب أمس نَذْره ... فأيُّ قتيلٍ كان في غطفان )
( إذا سجعَتْ بالرَّقْمَتَيْن حَمامةٌ ... أو الرَّسِّ تبْكِي فارسَ الكَتفانِ )
فرس له كانت تسمى الكتفان
ثم إن الأسلع بن عبد الله بن ناشب بن زيد بن هدم بن أد بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس مشى في الصلح ورهن بني ذبيان ثلاثة من بنيه وأربعة من بني أخيه حتى يصطلحوا جعلهم على يدي سبيع بن عمرو من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فمات سبيع وهم عنده
فلما حضرته الوفاة قال لابنه مالك بن سبيع إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة وكأني بك لو قدمت قد أتاك حذيفة خالك - وكانت أم مالك هذا ابنة بدر - فعصر عينيه وقال هلك سيدنا ثم خدعك عنهم حتى

تدفعهم إليه فيقتلهم فلا شرف بعدها فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم
فلما ثقل جعل حذيفة يبكي ويقول هلك سيدنا فوقع ذلك له في قلب مالك
فلما هلك سبيع أطاف بابنه مالك فأعظمه ثم قال له يا مالك إني خالك وإني أسن منك فادفع إلي هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا ولم يزل به حتى دفعهم إلى حذيفة باليعمرية واليعمرية ماء بواد من بطن نخل من الشربة لبني ثعلبة
فلما دفع مالك إلى حذيفة الرهن جعل كل يوم يبرز غلاما فينصبه غرضا ويرمي بالنبل ثم يقول ناد أباك فينادي أباه حتى يمزقه النبل ويقول لواقد بن جنيدب ناد أباك فجعل ينادي يا عماه خلافا عليهم ويكره أن يأبس أباه بذلك - والأبس القهر والحمل على المكروه - وقال لابن جنيدب بن عمرو بن عبد الأسلع ناد جنيبة - وكان جنيبة لقب أبيه - فجعل ينادي يا عمراه باسم أبيه حتى قتل وقتل عتبة بن قيس بن زهير
ثم إن بني فزارة اجتمعوا هم وبنو ثعلبة وبنو مرة فالتقوا هم وبنو عبس فقتلوا منهم مالك بن سبيع بن عمرو الثعلبي - قتله مروان بن زنباع العبسي - وعبد العزى بن حذار الثعلبي والحارث بن بدر الفزاري وهرم بن ضمضم المري - قتله ورد بن حابس العبسي ولم يشهد ذلك اليوم حذيفة بن بدر فقالت ناجية أخت هرم بن ضمضم المري

( يا لَهْفَ نفسي لهفةَ المفجوع ... ألاّ أرى هَرِماً على مَوْدُوعِ )
( مِنْ أجل سيّدنا ومَصْرَع جَنْبه ... عَلِقَ الفؤاد بحنظلٍ مجدوع )
مودوع فرسه

بين ذبيان وعبس
ثم إن حذيفة بن بدر جمع وتأهب واجتمع معه بنو ذبيان بن بغيض فبلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم فقال قيس أطيعوني فوالله لئن لم تفعلوا لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري قالوا فإنا نطيعك فأمرهم فسرحوا السوام والضعاف بليل وهم يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك ثم ارتحلوا في الصبح وأصبحوا على ظهر العقبة وقد مضى سوامهم وضعفاؤهم فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل من الثنايا فقال قيس خذوا غير طريق المال فإنه لا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم ولا يريدون بكم في أنفسكم شرا من ذهاب أموالكم فأخذوا غير طريق المال
فلما أدرك حذيفة الأثر ورآه قال أبعدهم الله وما خيرهم بعد ذهاب أموالهم فاتبع المال
وسارت ظعن بني عبس والمقاتلة من ورائهم وتبع حذيفة وبنو ذبيان المال فلما أدركوه ردوه أوله على آخره ولم يفلت منهم شيء وجعل الرجل يطرد ما قدر عليه من الإبل فيذهب بها وتفرقوا واشتد الحرب فقال قيس بن زهير يا قوم إن القوم قد فرق بينهم المغنم فاعطفوا الخيل في آثارهم فلم تشعر بنو ذبيان إلا والخيل دوائس فلم يقاتلهم كبير أحد وجعل بنو ذبيان إنما همة الرجل في غنيمته أن يحوزها ويمضي بها

فوضعت بنو عبس فيهم السلاح حتى ناشدتهم بنو ذبيان البقية ولم يكن لهم هم غير حذيفة فأرسلوا خيلهم مجتهدين في أثره وأرسلوا خيلا تقص الناس ويسألونهم حتى سقط خبر حذيفة من الجانب الأيسر على شداد بن معاوية العبسي وعمرو بن ذهل بن مرة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة العبسي وعمرو بن الأسلع والحارث بن زهير وقرواش بن هني بن أسيد بن جذيمة وجنيدب
وكان حذيفة قد استرخى حزام فرسه فنزل عنه فوضع رجله على حجر مخافة أن يقتص أثره ثم شد الحزام فوقع صدر قدمه على الأرض فعرفوه وعرفوا حنف نفسه - والحنف أن تقبل إحدى اليدين على الأخرى وفي الناس أن تقبل إحدى الرجلين على الأخرى وأن يطأ الرجل وحشيهما وجمع الأحنف حنف - فاتبعوه ومضى حتى استغاث بجفر الهباءة وقد اشتد الحر فرمى بنفسه ومعه حمل بن بدر وحنش بن عمرو وورقاء بن بلال وأخوه - وهما من بني عدي بن فزارة - وقد نزعوا سروجهم وطرحوا سلاحهم ووقعوا في الماء وتمعكت دوابهم وقد بعثوا ربيئة فجعل يطلع فينظر فإذا لم ير شيئا رجع فنظر نظرة فقال إني قد رأيت شخصا كالنعامة أو كالطائر فوق القتادة من قبل مجيئنا فقال حذيفة هنا وهنا هذا شداد على جروة وجروة فرس شداد والمعنى دع ذكر شداد عن يمينك وعن شمالك واذكر غيره لما كان يخاف من شداد

فبينا هم يتكلمون إذا هم بشداد بن معاوية واقفا عليهم فحال بينهم وبين الخيل ثم جاء عمرو بن الأسلع ثم جاء قرواش حتى تناموا خمسة فحمل جنيدب على خيلهم فاطردها وحمل عمرو بن الأسلع فاقتحم هو وشداد عليهم في الجفر فقال حذيفة يا بني عبس فأين العقول والأحلام فضربه أخوه حمل بن بدر بين كتفيه وقال اتق مأثور القول بعد اليوم فأرسلها مثلا
وقتل قرواش بن هني حذيفة وقتل الحارث بن زهير حمل بن بدر وأخذ منه ذا النون سيف مالك بن زهير وكان حمل أخذه من مالك بن زهير يوم قتله فقال الحارث بن زهير في ذلك
( تركتُ على الهَباءةِ غيْر فخر ... حُذيفةَ حوله قِصَدُ العَوالِي )
( سيخبرُ عنهُمُ حَنَشُ بن عَمْروٍ ... إذا لاقاهُمُ وابْنَا بِلالِ )
( ويُخبرهم مكانَ النُّون مني ... وما أعطيتُه عرَقَ الخِلالِ )
العرق المكافأة والخلال المودة يقول لم يعطوني السيف عن مكافأة ومودة ولكني قتلت وأخذت
فأجابه حنش بن عمرو أخو بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان
( سيُخْبرك الحديثَ به خبيرٌ ... يُجاهِرك العداوةَ غَيْرَ آلِي )
( بُداءتها لِقِرْواشٍ وعَمْرٍو ... وأنْتَ تجُولُ جَوْبُكَ في الشمال )
الجوب الترس يقول بداءة الأمر لقرواش وعمرو بن الأسلع وهما اقتحما الجفر وقتلا من قتلا وأنت ترسك في يدك يجول لم تغن شيئا ويقال لك البداءة ولفلان العودة
وقال قيس بن زهير

( تعلّم أنّ خيْر الناسِ مَيْتٌ ... على جَفْر الهَباءةِ ما يَريمُ )
( ولولا ظُلْمُه ما زلتُ أبْكي ... عليه الدهرَ ما طلع النجوم )
( ولكنَّ الفتى حمَلَ بن بدرٍ ... بَغَى والبَغْيُ مَرْتَعُه وَخِيم )
( أظنُّ الحلم دلَّ عليَّ قومي ... وقد يُستجهَلُ الرجلُ الحليمُ )
( فلا تَغْشَ المظالم لن تراه ... يُمتَّعُ بالغَنى الرجلُ الظَّلُوم )
( ولا تَعْجَلْ بأمرك واستَدِمْه ... فما صلَّى عصاك كمستديم )
( أُلاقي مِنْ رجالٍ مُنْكراتٍ ... فأنكرها وما أنَا بالغَشُوم )
( ولا يُعْييك عُرْقُوبٌ بَلأيٍ ... إذا لم يعطك النِّصْفَ الخصيم )
( ومارَسْتُ الرجال ومارسُوني ... فمعوجٌّ عليَ ومُسْتَقِيمُ )
قوله فما صلى عصاك كمستديم يقول عليك بالتأني والرفق وإياك والعجلة فإن العجول لا يبرم أمر أبدا كما أن الذي يثقف العود إذا لم يجد تصليته على النار لم يستقم له
وقال في ذلك شداد بن معاوية العبسي
( مَنْ يَكُ سائلاً عنِّي فإنِّي ... وجِروةَ لا نَرودُ ولا نُعارُ )
( مُقَرَّبة النّساء ولا تراها ... أمام الحيّ يتبعُها المِهار )
( لها في الصيف آصِرَةُ وُجُلٌّ ... وسِتٌّ من كرائمها غِزارُ )
آصرة حشيش وست أي ست أينق تسقى لبنها
( ألاَ أبلغ بني العُشَراء عنِّي ... علانيةً وما يُغْني السِّرار )

( قتلتُ سراتكمْ وحَسلْتُ منكم ... حسِيلاً مثلَ ما حُسِل الوبارُ )
حسالة الناس وحفالتهم ورعاعهم وخمانهم وشرطهم وحثالتهم وخشارتهم وغثاؤهم واحد وهم السفلة يقول قتلت سراتكم وجعلتكم بعدهم حسالة كما خلقت الوبار حسالة
وكان ذلك اليوم يوم ذي حسا ويزعم بعض بني فزارة أن حذيفة كان أصاب يومئذ فيمن أصاب من بني عبس تماضر ابنة الشريد السلمية أم قيس فقتلها وكانت في المال وقال
( ولم أقتلكُمْ سِرّاً ولكن ... علانيةً وقد سطع الغُبار )

صوت
( جاء البريدُ بِقرطاسٍ يخبّ به ... فأوجس القلبُ من قِرطاسِه فَزَعا )
( قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم ... قال الخليفة أمسى مُثبَتا وجَعا )
عروضه من الكامل الشعر ليزيد بن معاوية والغناء لابن محرز هزج بالوسطى عن عمرو
وهذا الشعر يقوله يزيد في علة أبيه التي مات فيها وكان يزيد يومئذ غازيا غزاة الصائفة

خبر ليزيد بن معاوية
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني السكري والمبرد عن دماذ أبي غسان - واسمه رفيع بن سلمة - عن أبي عبيدة
أن معاوية وجه جيشا إلى بلد الروم ليغزو الصائفة فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين وكان ابنه يزيد مصطبحا بدير مران مع زوجته أم كلثوم فبلغه خبرهم فقال
( إذا ارتفقتُ على الأنماط مصطبِحاً ... بدَيْر مُرّان عندي أمُّ كُلْثومِ )

( فما أُبَالِي بما لاَقَتْ جنودُهُم ... بالغَذْقَذُونة مِنْ حُمَّى ومن مُومِ )
فبلغ شعره أباه فقال أجل والله ليلحقن بهم فليصيبنه ما أصابهم
فخرج حتى لحق بهم وغزا حتى بلغ القسطنطينية فنظر إلى قبتين مبنيتين عليهما ثياب الديباج فإذا كانت الحملة للمسلمين ارتفع من إحداهما أصوات الدفوف والطبول والمزامير وإذا كانت الحملة للروم ارتفع من الأخرى فسأل يزيد عنهما فقيل له هذه بنت ملك الروم وتلك بنت جبلة بن الأيهم وكل واحدة منهما تظهر السرور بما تفعله عشيرتها فقال أما والله لأسرنها ثم صف العسكر وحمل حتى هزم الروم فأحجرهم في المدينة وضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده فهشمه حتى انخرق فضرب عليه لوح من ذهب فهو عليه إلى اليوم
نسخت من كتاب محمد بن موسى اليزيدي حدثني العباس بن ميمون طابع قال حدثني ابن عائشة عن أبيه وحدثني القحذمي
أن ميسون بنت بحدل الكلبية كانت تزين يزيد بن معاوية وترجل جمته قال فإذا نظر إليه معاوية قال
( فإنْ مات لم تُفلح مزينةُ بَعْدَه ... فَنُوطِي عليه يا مزين التَّمائما )

يزيد وعنبسة في حضرة معاوية وهو يحتضر
فلما احتضر معاوية حضره يزيد بن معاوية وعنبسة بن أبي سفيان

فبكى يزيد إلى عنبسة وقال
( لو فات شيء يُرى لفات أبو ... حيّان لا عاجِزٌ ولا وَكَلُ )
( الحُوَّلُ القلَّب الأريب ولن ... يَدْفَع زَوْءَ المنيةِ الحِيَلُ )
فسمعهما معاوية بعد أن رددهما مرارا فقال يا بني إن أخوف ما أخاف على نفسي شيء صنعته قبل ذلك إني كنت أوضىء رسول الله فكساني قميصا وأخذت شعرا من شعره فإذا أنا مت فكفني قميصه واجعل الشعر في منخري وأذني وفمي وخل بيني وبين ربي لعل ذلك ينفعني شيئا
قال العباس بن ميمون فقلت للقحذمي هذا غلط والدليل على ذلك أن أبا عدنان حدثني - وها هو حي فاسأله - عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن الشعبي
أن معاوية مات ويزيد بالصائفة فأتاه البريد بنعيه فأنشأ يقول
( جاء البريدُ بقرطاسٍ يخبُّ به ... فأوجس القلبُ من قرطاسه فَزَعا )
( قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم ... قال الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وَجَعا )
( مادَتْ بنا الأرضُ أو كادت تَمِيدُ بنا ... كأنّ ما عزَّ من أركانها انقلعا )
( مَنْ لم تَزَلْ نَفْسُه تُوفِي على وَجلٍ ... تُوشكْ مقاديرُ تلك النفس أنْ تقعا )
( لما وَردتُ وبابُ القَصْرِ منطبِقٌ ... لصوت رَمْلة هُدَّ القلبُ فانصدعا )

الضحاك بن قيس يتولى دفن معاوية
وكان الذي تولى غسله ودفنه الضحاك بن قيس فخطب الناس فقال

إن ابن هند قد توفي وهذه أكفانه على المنبر ونحن مدرجوه فيها ومخلون بينه وبين ربه ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة ولو كان يزيد حاضرا لم يكن للضحاك ولا غيره أن يفعل من هذا شيئا
قال العباس فسكت القحذمي وما رد علي شيئا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن جدي عن هشام بن عروة عن أبيه قال
صلى بنا عبد الله بن الزبير يوما ثم انفتل من الصلاة فنشج وكان قد نعي له معاوية ثم قال رحم الله معاوية إن كنا لنخدعه فيتخادع لنا وما ابن أنثى بأكرم منه وإن كنا لنعرفه يتفاوق لنا وما الليث المحرب بأجرأ منه كان والله كما قال بطحاء العذري
( رَكُوبُ المنابر وثَّابها ... مِعَنٌّ بخُطبته يَجْهَرُ )
( تَريع إليه عيونُ الكلام ... إذا حَصِر الهذِر المِهْمَرُ )
كان والله كما قالت رقيقة أو قال بنت رقيقة
( ألاَ أبكيه ألا أبكيه ... ألاَ كلّ الفَتَى فيه )
والله لودي أنه بقي بقاء أبي قبيس لا يتخون له عقل ولا تنقص له قوة

قال فعرفنا أن الرجل قد استوجس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال قال محمد بن إسحاق المسيبي حدثني جماعة من أصحابنا أن ابن عباس أتاه نعي معاوية وولاية يزيد وهو يعشي أصحابه ويأكل معهم وقد رفع إلى فيه لقمة فألقاها وأطرق هنيهة ثم قال جبل تدكدك ثم مال بجميعه في البحر واشتملت عليه الأبحر لله در ابن هند ما كان أجمل وجهه وأكرم خلقه وأعظم حلمه
فقطع عليه الكلام رجل من أصحابه وقال أتقول هذا فيه فقال ويحك إنك لا تدري من مضى عنك ومن بقي عليك وستعلم ثم قطع الكلام

صوت
( إذا زينبٌ زارها أهلُها ... حَشَدتُ وأكرَمْتُ زوّارَها )
( وإن هي زارتهم زُرتُهم ... وإن لم أجد لي هوىً دارها )
( فسَلْمِي لمن سالمَتْ زينب ... وحَرْبي لمن أشعلت نارَها )
( وما زلتُ أرعى لها عَهْدَها ... ولم أتّبع ساعة عارَها )
عروضه من المتقارب الشعر لشريح القاضي في زوجته زينب بنت حدير التميمية والغناء لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالبنصر عنه على مذهب إسحاق وذكر إسحاق في كتاب الأغاني المنسوب إليه أنه لابن محرز

ذكر شريح ونسبه وخبره
هو فيما أخبرني به الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو سعيد عن هشام بن السائب وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني علي بن عبد الله بن معاوية بن ميسرة بن شريح كلاهما اتفق في الرواية لنسبه
أنه شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندي قال هشام في خبره خاصة وليس بالكوفة من بني الرائش غيرهم وسائرهم من هجر وحضرموت
وقد اختلف الرواة بعد هذا في نسبه فقال بعضهم شريح بن هانىء - وهذا غلط - ذاك شريح بن هانىء الحارثي واعتل من قال هذا بخبر روي عن مجالد عن الشعبي أنه قرأ كتابا من عمر إلى شريح
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانىء وقد يجوز أن يكون كتب عمر رضي الله عنه هذا الكتاب إلى شريح بن هانىء الحارثي وقرأه الشعبي وكلا هذين الرجلين معروف والفرق بينهما النسب والقضاء فإن شريح بن هانىء لم يقض وشريح بن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب عليه السلام وقيل شريح بن عبد الله وشريح بن شراحيل والصحيح ابن الحارث وابنه أعلم به
وقد أخبرنا وكيع قال حدثنا أحمد بن عمر بن بكير قال حدثني أبي

عن الهيثم بن عدي عن أبي ليلى أن خاتم شريح كان نقشه شريح بن الحارث وقيل إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن وعداده في كندة وقد روي عنه شبيه بذلك
أخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال حدثنا عبدان قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان الثوري عن ابن أبي السفر عن الشعبي قال
جاء أعرابي إلى شريح فقال ممن أنت قال أنا من الذين أنعم الله عليهم وعدادي في كندة
قال وكيع وقال أبو حسان عن أيوب بن جابر عن أبي حصين قال
كان شريح إذا قيل له ممن أنت قال ممن أنعم الله عليه بالإسلام عديد كندة
قال وكيع وقيل إنما خرج إلى المدينة ثم إلى العراق لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا
وقد اختلف أيضا في سنه فقيل مائة وعشرون سنة وقيل مائة وعشر وقيل أقل من ذلك وأكثر
فمن ذكر أنه عمر مائة وعشرين سنة أشعث بن سوار روى ذلك يحيى بن معين عن المحاربي عن أشعث وأبو سعيد الجعفي روى ذلك عنه أبو إبراهيم الزهري وممن قال أقل من ذلك أبو نعيم
أخبرنا الحسن بن علي عن الحارث عن ابن سعد عن أبي نعيم قال بلغ شريح مائة وثمانين سنة

سنة وفاته
قال الحارث وأخبرني ابن سعد عن الواقدي عن أبي سبرة عن عيسى عن الشعبي قال توفي شريح في سنة ثمانين أو تسع وسبعين

قال أبو سعيد وقال إبراهيم في سنة ست وسبعين وقال أبو إبراهيم الزهري عن أبي سعيد الجعفي إن شريحا مات في زمن عبد الملك بن مروان
أخبرني وكيع قال حدثنا الكراني عن سهل عن الأصمعي قال ولد لشريح وهو ابن مائة سنة
وروى إسماعيل بن أبان الوراق عن علي بن صالح قال قيل لشريح كيف أصبحت قال أصبحت ابن ست ومائة قضيت منها ستين سنة

عمر بن الخطاب يستقضي شريحا
وأخبرني وكيع بخبر عمر حين استقضاه قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أيوب قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا شعبة قال سمعت سيارا قال سمعت الشعبي يقول
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ من رجل فرسا على سوم فحمل عليه رجلا فعطب الفرس فقال عمر اجعل بيني وبينك رجلا فقال له الرجل اجعل بيني وبينك شريحا العراقي فقال يا أمير المؤمنين أخذته صحيحا سليما على سوم فعليك أن ترده كما أخذته قال فأعجبه ما قال وبعث به قاضيا ثم قال ما وجدته في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم تستبن في كتاب فالزم السنة فإن لم يكن في السنة فاجتهد رأيك
أخبرني وكيع قال أخبرني عبد الله بن الحسن عن النميري عن حاتم بن قبيصة المهلبي عن شيخ من كنانة قال
قال عمر لشريح حين استقضاه لا تشار ولا تضار ولا تشتر ولا تبع

فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين
( إن القُضاة إن أرادوا عَدْلا ... وفَصلوا بين الخصوم فَصْلا )
( وزَحْزَحُوا بالحكم منهم جهلا ... كانوا كمثل الغيث صَابَ مَحْلاَ )
وله أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها وفيها ما لا يستغنى عن ذكره منها محاكمة أمير المؤمنين علي عليه السلام إليه في الدرع

شريح يقضي بين علي ويهودي أخذ درعه
حدثني به عبد الله بن محمد بن إسحاق ابن أخت داهر بن نوح بالأهواز قال حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي قال حدثني حكيم بن حزام عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال
عرف علي صلوات الله عليه درعا مع يهودي فقال يا يهودي درعي سقطت مني يوم كذا وكذا فقال اليهودي ما أدري ما تقول درعي وفي يدي بيني وبينك قاضي المسلمين
فانطلقا إلى شريح فلما رآه شريح قام له عن مجلسه فقال له علي اجلس فجلس شريح ثم قال إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله يقول لا تساووهم في المجلس ولا تعودوا مرضاهم ولا تشيعوا جنائزهم واضطروهم إلى أضيق الطرق وإن سبوكم فاضربوهم وإن ضربوكم فاقتلوهم ثم قال درعي عرفتها مع هذا اليهودي
فقال شريح لليهودي ما تقول قال درعي وفي يدي
قال شريح صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك كما قلت ولكن لا بد من شاهد فدعا قنبرا فشهد له ودعا الحسن بن علي فشهد له فقال أما شهادة مولاك فقد قبلتها وأما شهادة ابنك لك فلا فقال علي سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله يقول إن الحسن والحسين سيدا شباب

أهل الجنة قال اللهم نعم قال أفلا تجيز شهادة أحد سيدي شباب أهل الجنة والله لتخرجن إلى بانقيا فلتقضين بين أهلها أربعين يوما ثم سلم الدرع إلى اليهودي
فقال اليهودي أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه فقضى عليه فرضي به صدقت إنها لدرعك سقطت منك يوم كذا وكذا عن جمل أورق فالتقطتها وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال علي عليه السلام هذه الدرع لك وهذه الفرس لك وفرض له في تسعمائة فلم يزل معه حتى قتل يوم صفين

خبر زينب بنت حدير وتزويج شريح إياها
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال حدثنا ابن أبي زائدة وأبو محمد رجل ثقة قال حدثنا مجالد عن الشعبي قال
قال لي شريح يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء قال قلت وكيف ذاك قال انصرفت من جنازة ذات يوم مظهرا فمررت بدور بني تميم فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة وتجاهها جارية رؤد - يعني التي قد بلغت - ولها ذؤابة على ظهرها جالسة على وسادة فاستسقيت فقالت لي أي الشراب أعجب إليك النبيذ أم اللبن أم الماء قلت أي ذلك يتيسر عليكم قالت اسقوا الرجل لبنا فإني إخاله غريبا
فلما شربت نظرت إلى الجارية فأعجبتني فقلت من هذه قالت ابنتي قلت وممن قالت زينب بنت حدير إحدى نساء بني تميم ثم إحدى نساء بني حنظلة ثم إحدى نساء بني طهية قلت أفارغة أم مشغولة قالت بل فارغة قلت أتزوجينيها قالت نعم إن كنت كفيا ولها عم فاقصده

فانصرفت فامتنعت من القائلة فأرسلت إلى إخواني القراء الأشراف مسروق بن الأجدع والمسيب بن نجبة وسليمان بن صرد الخزاعي وخالد بن عرفطة العذري وعروة بن المغيرة بن شعبة وأبي بردة بن أبي موسى فوافيت معهم صلاة العصر فإذا عمها جالس فقال أبا أمية حاجتك قلت إليك قال وما هي قلت ذكرت لي بنت أخيك زينب بنت حدير قال ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر وإنك لنهزة
فتكلمت فحمدت الله جل ذكره وصليت على النبي وذكرت حاجتي فرد الرجل علي وزوجني وبارك القوم لي ثم نهضنا
فما بلغت منزلي حتى ندمت فقلت تزوجت إلى أغلظ العرب وأجفاها فهممت بطلاقها ثم قلت أجمعها إلي فإن رأيت ما أحب وإلا طلقتها
فأقمت أياما ثم أقبل نساؤها يهادينها فلما أجلست في البيت أخذت بناصيتها فبركت وأخلى لي البيت فقلت يا هذه إن من السنة إذا دخلت المرأة على الرجل أن يصلي ركعتين وتصلي ركعتين ويسألا الله خير ليلتهما ويتعوذا

بالله من شرها فقمت أصلي ثم التفت فإذا هي خلفي فصليت ثم التفت فإذا هي على فراشها فمددت يدي فقالت لي على رسلك فقلت إحدى الدواهي منيت بها فقالت إن الحمد لله أحمده وأستعينه إني امرأة غريبة ولا والله ما سرت مسيرا قط أشد علي منه وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك فحدثني بما تحب فآتيه وما تكره فأنزجر عنه فقلت الحمد لله وصلى الله على محمد قدمت خير مقدم قدمت على أهل دار زوجك سيد رجالهم وأنت سيدة نسائهم أحب كذا وأكره كذا
قالت أخبرني عن أختانك أتحب أن يزوروك فقلت إني رجل قاض وما أحب أن تملوني
قال فبت بأنعم ليلة وأقمت عندها ثلاثا ثم خرجت إلى مجلس القضاء فكنت لا أرى يوما إلا هو أفضل من الذي قبله حتى إذا كان عند رأس الحول دخلت منزلي فإذا عجوز تأمر وتنهى قلت يا زينب من هذه فقالت أمي فلانة قلت حياك الله بالسلام قالت أبا أمية كيف أنت وحالك قلت بخير أحمد الله قالت أبا أمية كيف زوجك قلت كخير امرأة قالت إن المرأة لا ترى في حال أسوأ خلقا منها في حالين إذا حظيت عند زوجها وإذا ولدت غلاما فإن رابك منها ريب فالسوط فإن الرجال والله ما حازت إلى بيوتها شرا من الورهاء المتدللة
قلت أشهد أنها ابنتك قد كفيتنا الرياضة وأحسنت الأدب
قال فكانت في كل حول تأتينا فتذكر هذا ثم تنصرف

شريح يعالج زينب
قال شريح فما غضبت عليها قط إلا مرة كنت لها ظالما فيها وذاك أني

كنت أمام قومي فسمعت الإقامة وقد ركعت ركعتي الفجر فأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء فلما كنت عند الباب قلت يا زينب لا تحركي الإناء حتى أجيء فعجلت فحركت الإناء فضربتها العقرب فجئت فإذا هي تلوى فقلت مالك قالت لسعتني العقرب فلو رأيتني يا شعبي وأنا أعرك أصبعها بالماء والملح وأقرأ عليها المعوذتين وفاتحة الكتاب
وكان لي يا شعبي جار يقال له ميسرة بن عرير من الحي فكان لا يزال يضرب امرأته فقلت
( رأيتُ رجالاً يضربون نساءهم ... فشَلَّت يميني يوم أضْرِبُ زينبا )
يا شعبي فوددت أني قاسمتها عيشي
ومما يغنى فيه من الأشعار التي قالها شريح في امرأته زينب

صوت
( رأيتُ رجالاً يضربُون نساءهم ... فشلَّت يميني يَوْمَ أضرِبُ زَيْنَبا )
( أأضربها في غير جُرمٍ أتَتْ به ... إليّ فما عذري إذا كُنْتُ مذنبا )
( فتاة تزينُ الحلْي إن هي حُلِّيتْ ... كأن بفيها المسكَ خالط مَحلبا )
والغناء ليونس الكاتب من كتابه غير مجنس
صوت
( أمِنْ رسم دارٍ مربعٌ ومصيفُ ... لعينك من ماء الشؤون وكِيفُ )
( تذكرْتُ فيها الجَهْلَ حتى تبادَرتْ ... دُموعي وأصحابي عليّ وقوف )

عروضه من مصرع الطويل الشعر للحطيئة من قصيدة يمدح بها سعيد ابن العاص لما ولي الكوفة لعثمان والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو

أخبار الحطيئة مع سعيد بن العاص
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد عن أبيه قال لقيني إياس بن الحطيئة فقال لي يا أبا عثمان مات أبي وفي كسر بيته عشرون ألفا أعطاه إياها أبوك وقال فيه خمس قصائد فذهب والله ما أعطيتمونا وبقي ما أعطيناكم فقلت صدقت والله
قال أبو زيد فمما قال فيه قوله
( أمِنْ رَسْمِ دارٍ مرَبعٌ ومَصيفُ ... لعينك من ماء الشؤون وَكِيفْ )
( إليك سعيدَ الخير جُبْتُ مهامِهاً ... يقابلني آلٌ بها وتُنُوف )
( ولولا أصيلُ اللُّبِّ غضّ شبابه ... كريم لأيام المنون عَرُوف )
( إذا همّ بالأعداء لم يَثْن همّه ... كعابٌ عليها لؤلؤ وشُنُوف )
( حَصَانٌ لها في البيت زيّ وبهجة ... ومَشْيٌ كما تمشي القَطَاة قَطُوفُ )

( ولو شاء وارى الشمس مِنْ دُونِ وَجْهه ... حِجابٌ ومطويّ السراةِ منيف )
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن خالد بن سعيد بن العاص عن أبيه قال كان سعيد بن العاص في المدينة زمن معاوية وكان يعشي الناس فإذا فرغ من العشاء قال الآذِنُ أجيزوا إلا من كان من أهل سمرة قال فدخل الحطيئة فتعشى مع الناس ثم أقبل فقال الآذن أجيزوا حتى انتهى إلى الحطيئة فقال أجز فأبى فأعاد عليه فأبى فلما رأى سعيد إباءه قال دعه وأخذ في الشعر والحطيئة مطرق لا ينطق فقال الحطيئة والله ما أصبتم جيد الشعر ولا شاعر الشعراء قال سعيد من أشعر العرب يا هذا فقال الذي يقول
( لا أعدُّ الإِقتارَ عُدْماً ولكن ... فَقْدُ مَنْ قد رُزئتُه الإِعدامُ )
( مِنْ رجالٍ من الأقارب بانُوا ... من جُذامٍ هم الرؤوس الكرام )
( سُلِّط الموتُ والمنون عليهم ... فلهم في صُوَى المقابر هَامُ )
( وكذَاكُم سبيل كلِّ أناس ... سوف حقّاً تُبْلِيهمُ الأيام )
قال ويحك من يقول هذا الشعر قال أبو دواد الإيادي قال أو ترويه قال نعم قال فأنشدنيه فأنشدته الشعر كله قال ومن الثاني قال الذي يقول

( أفْلْحْ بما شئتَ فقد يُبْلَغ بالضعف ... وقد يُخدع الأريبُ )
قال ومن يقول هذا قال عبيد قال أو ترويه قال نعم قال فأنشدنيه فأنشده ثم قال له ثم من قال والله لحسبك بي عند رهبة أو رغبة إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى ثم رفعت عقيرتي بالشعر ثم عويت على أثر القوافي عواء الفصيل الصادر عن الماء
قال ومن أنت قال الحطيئة قال ويحك قد علمت تشوقنا إلى مجلسك وأنت تكتمنا نفسك منذ الليلة قال نعم لمكان هذين الكلبين عندك وكان عنده كعب بن جعيل وأخوه وكان عنده سويد بن مشنوء النهدي حليف بني عدي بن جناب الكلبيين فأنشده الحطيئة قوله
( ألستَ بجاعلي كابنَيْ جُعَيْلٍ ... هداكَ الله أو كابْنَيْ جنابِ )
( أدبُّ فلا أُقدِّرَ أنْ تراني ... ودونك بالمدينة ألفُ باب )
( وأُحْبَسُ بالعراء المحْل بيتي ... ودونك عازِبٌ ضخم الذباب )
العازب الكلأ الذي لم يرع وقد التف نبته
فقال له سعيد لعمر الله لأنت أشعر عندي منهم فأنشدني فأنشده
( سعِيدٌ وما يفعلْ سَعِيدٌ فإنه ... نجيبٌ فَلاهُ في الرِّباط نَجيبُ )

( سَعِيدٌ فلا يغررك قِلَّة لحمه ... تخدَّدَ عنه اللحمُ فهو صَلِيبُ )
ويروى خفة لحمه
( إذا غاب عنّا غاب عنا رَبِيعُنا ... ونُسقَى الغمامَ الغُرَّ حينَ يَؤُوبُ )
( فنعم الفتى تَعْشُو إلى ضَوْء ناره ... إذا الريحُ هبت والمكانُ جَدِيبُ )
فأمر له بعشرة آلاف درهم ثم عاد فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( أمِنْ رسم دارٍ مربع ومَصِيف ... )
يقول فيها
( إذا همّ بالأعداء لم يثن عَزْمَه ... كعابٌ عليها لؤلؤٌ وشُنُوفُ )
فأعطاه عشرة آلاف أخرى
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة بهذا الحديث نحو ما رواه خالد بن سعيد وزاد فيه
فانتهى الشرط إلى الحطيئة فرأوه أعرابيا قبيح الوجه كبير السن سيىء الحال رث الهيئة فأرادوا أن يقيموه فأبى أن يقوم وحانت من سعيد التفاتة فقال دعوا الرجل وباقي الخبر مثله

الحطيئة وخالد بن سعيد بن العاص
قال أبو عبيدة في هذا الخبر وأخبرني رجل من بني كنانة قال أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس حتى قدم المدينة فأقام مدة ثم قال له من في رفقته إنا قد أرذينا وأخلينا فلو تقدمت إلى رجل شريف من أهل هذه القرية فقرانا وحملنا فأتى خالد بن سعيد بن العاص فسأله فاعتذر إليه وقال ما

عندي شيء فلم يعد عليه الكلام وخرج من عنده فارتاب به خالد فبعث يسأل عنه فأخبر أنه الحطيئة فرده فأقبل الحطيئة فقعد لا يتكلم فأراد خالد أن يستفتحه الكلام فقال من أشعر الناس فقال الذي يقول
( ومَنْ يجعل المعروفَ مِنْ دونِ عِرْضه ... يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْم يُشْتَمِ )
فقال خالد لبعض جلسائه هذه بعض عقاربه وأمر بكسوة وحملان فخرج بذلك من عنده

صوت
( حبَّذَا لَيْلَتي بِتَلّ بَونَّى ... حين نُسَقَّى شرابَنا ونُغَنَّى )
( إذْ رأَيْنَا جَوَارِياً عَطِراتٍ ... وغناءٌ وقَرْقفاً فنزلنا )
( ما لهم لا يُبَارِكُ اللهُ فيهم ... إذ يسألون ويحنا ما فَعَلْنا )
عروضه الضرب الأول من الخفيف الشعر لمالك بن أسماء بن خارجة والغناء لحنين رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار مالك بن أسماء بن خارجة ونسبه
هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري وقد مضى هذا النسب في أخبار عويف القوافي وقد مضت أخباره وذكر هذا البيت من فزارة وشرفه فيها وسائر قصصه هناك
وكان الحجاج بن يوسف ولى مالك بن أسماء بعد أن تزوج أخته هندا بأصبهان بعد حبس طويل في خيانة ظهرت عليه ثم خلاه بعد ذلك وطالت أيامه بأصبهان فظهرت عليه خيانة أخرى فحبسه وناله بكل مكروه

أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى قال حدثني هشام بن محمد الهلالي قال
اختلف الحجاج وهند بنت أسماء زوجته في وقعة بنات قين فبعث إلى مالك بن أسماء بن خارجة فأخرجه من السجن وكان محبوسا بمال عليه للحجاج فسأله عن الحديث فحدثه به ثم أقبل على هند فقال قومي إلى أخيك فقالت لا أقوم إليه وأنت ساخط عليه فأقبل الحجاج عليه فقال إنك والله ما علمت للخائن أمانته اللئيم حسبه الزاني فرجه فقال إن أذن لي الأمير تكلمت قال قل قال أما قول الأمير الزاني فرجه فوالله لأنا أحقر عند الله عز و جل وأصغر في عين الأمير من أن يجب لله علي حد فلا يقيمه وأما قوله اللئيم حسبه فوالله لو علم الأمير مكان رجل أشرف مني لم يصاهرني وأما قوله إني خؤون فلقد ائتمنني فوفرت فأخذني بما أخذني به فبعت ما كان وراء ظهري ولو ملكت الدنيا بأسرها لافتديت بها من مثل هذا الكلام
قال فنهض الحجاج وقال شأنك يا هند بأخيك
قال مالك بن أسماء فوثبت هند إلي فأكبت علي ودعت بالجواري ونزعن عني حديدي وأمرت بي إلى الحمام وكستني وانصرفت
فلبثت أياما ثم دخلت على الحجاج وبين يديه عهود وفيها عهدي على أصبهان قال خذ هذا العهد وامض إلى عملك فأخذته ونهضت قال وهي ولايته التي عزله عنها وبلغ به ما بلغ من الشر
قال أبو زيد ويقال إنه كان في الحبس في الدفعة الثانية مضيقا عليه في كل أحواله حتى كان يشاب له الماء الذي كان يشربه بالرماد والملح فاشتاق الحجاج

إلى حديثه يوما فأرسل إليه فأحضر فبينا هو يحدثه إذا استسقى ماء فأتي به فلما نظر إليه الحجاج قال لا هات ماء السجن فأتي به وقد خلط بالملح والرماد فسقيه
قال ويقال إنه هرب من الحبس فلم يزل متواريا حتى مات الحجاج
قال وكتب إليه بعض أهله أن يمضي إلى الشام فيستجير ببعض بني أمية حتى يأمن ثم يعود إلى مصره

مالك يكتب لأبيه يسأله شفاعة الحجاج
وقد كان خالد بن عتاب الرياحي فعل ذلك واستجار بزفر بن الحارث الكلابي فأجاره فراجعه عبد الملك في أمره ثم أجاره فكتب مالك إلى أبيه يسأله أن يدخل إلى الحجاج ويسأله في أمره فقال أسماء في ذلك
( أبَنِي فزارةَ لا تُعَنُّوا شَيْخَكم ... مَا لِي وما لزيارةِ الحجَّاجِ )
( شبَّهْتُه شِبْلاً غداةَ لقيتُه ... يُلْقي الرؤوسَ شَوَاخبَ الأوْدَاج )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45