كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( وإذا ناحبتْ كلبٌ على الناس أيُّهم ... أحقُّ بتاج الماجد المتكرِّم )
( على نفر هُم من نزار ذوي العلا ... وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم )
( فلم يُجْزِ عن أَحسابهم غيرُ غالبٍ ... جرَى بعنان كلِّ أبيضَ خِضرم )

مباراة في الكرم بين أبيه وسحيم بن وثيل
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن جهم السليطي عن إياس بن شبة عن عقال بن صعصعة قال
أجدبت بلاد تميم وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة فانتجعتها بنو حنظلة فنزلوا أقصى الوادي وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن حنظلة ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب فنحر ناقته فأطعمهم إياها فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة فنحرها من غد فقيل لغالب إنما نحر سحيم مواءمة لك أي مساواة لك فضحك غالب وقال كلا ولكنه امرؤ كريم وسوف أنظر في ذلك فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين فنحرهما فأطعمهما بني يربوع فعقر سحيم ناقتين فقال غالب الآن علمت انه يوائمني فعقر غالب عشرا فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا فلما بلغ غالبا فعله ضحك وكانت إبله ترد لخمس فلما وردت عقرها كلها عن آخرها فالمكثر يقول كانت أربعمائة والمقل يقول كانت مائة فأمسك سحيم حينئذ ثم إنه عقر في خلافة علي بن أبي

طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير فخرج الناس بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم ورآهم علي عليه السلام فقال أيها الناس لا يحل لكم إنما أهل بها لغير الله عز و جل
قال فحدثني من حضر ذلك قال كان الفرزدق يومئذ مع أبيه وهو غلام فجعل غالب يقول يا بني اردد علي والفرزدق يردها عليه ويقول له يا أبت اعقر قال جهم فلم يغن عن سحيم فعله ولم يجعل كغالب إذ لم يطق فعله

قيد نفسه حتى حفظ القرآن
حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم يعني أبا العيناء عن أبي زيد النحوي عن أبي عمرو قال
جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة فقال إن ابني هذا من شعراء مضر فاسمع منه قال علمه القرآن فكان ذلك في نفس الفرزدق فقيد نفسه في وقت وآلى لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن
قال محمد بن يحيى فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة وندع ما قبل ذلك لأن مجيئه به بعد الجمل على الاستظهار كان في سنة ست وثلاثين وتوفي الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في ستة أشهر وحكي ذلك

عن جماعة منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة أيضا عن أبيه قال قال الفرزدق أيضا
كنت أجيد الهجاء في أيام عثمان قال ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة فقال الفرزدق يرثيه
( لقد ضمّت الأكفانُ من آل دارمٍ ... فتىً فائِضَ الكفّين محضَ الضَّرائب )

المفضل الضبي يفاضل بينه وبين جرير
أخبرني حبيب المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني جعفر بن محمد العنبري عن خالد ابن أم كلثوم قال
قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير قال الفرزدق قال قلت ولم قال لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال
( عجبتُ لعِجلٍ إذ تُهاجِي عَبِيدَها ... كما آلُ يربوع هَجَوْا آلَ دَارِم )
فقيل له قد قال جرير
( إنّ الفرزدقَ والبَعِيثَ وأمَه ... وأَبَا البَعِيث لشرّ ما إِستارِ )

فقال وأي شيء أهون من أن يقول إنسان فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة معمر بن المثنى
كان الشعراء في الجاهلية من قيس وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر وأشعر تميم جرير والفرزدق ومن بني تغلب الأخطل
قال يونس بن حبيب ما ذكر جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما قال وكان يونس فرزدقيا
أخبرني عمي عن محمد بن رستم الطبري عن أبي عثمان المازني قال
مر الفرزدق ابن ميادة الرماح والناس حوله وهو ينشد
( لو أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئت بجَدّي ظِالمٍ وابنِ ظَالم )
( لظلَّت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم )
فسمعه الفرزدق فقال أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها فقال له بان ميادة خذه لا بارك الله لك فيه فقال الفرزدق
( لو أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئت بجدّي دارمٍ وابنِ دارم )
( لظلَّت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم )

هو وجرير يتشاكيان عند يزيد بن عبد الملك
أخبرني عمي عن الكراني عن أبي فراس الهيثم بن فراس قال

حدثني ورقة بن معروف عن حماد الراوية قال
دخل جرير والفرزدق على يزيد بن عبد الملك وعنده بنية لها يشمها فقال جرير ما هذه يا أمير المؤمنين فيها عندك قال بنية لي قال بارك الله لأمير المؤمنين فيها
فقال الفرزدق إن يكن دارم يضرب فيها فهي أكرم العرب ثم أقبل يزيد على جرير فقال مالك والفرزدق قال إنه يظلمني ويبغي علي فقال الفرزدق
وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم قال جرير وأما والله لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم فقال الفرزدق أما بك يا حمار بني كليب فلا ولكن إن شاء صاحب السرير فلا والله ما لي كفء غيره فجعل يزيد يضحك
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن حماد الراوية قال
أنشدني الفرزدق يوما شعرا له ثم قال لي أتيت الكلب يعني جريرا قلت نعم قال أفأنا أشعر أم هو قلت أنت في بعض وهو في بعض قال لم تناصحني قال قلت هو أشعر منك إذا أرخي من خناقه وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت قال قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخير والشر
قال وروي عن أبي الزناد عن أبيه قال
قال لي جرير يا أبا عبد الرحمن أنا أشعر أم هذا الخبيث يعني الفرزدق وناشدني لأخبرنه فقلت لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب قال أوه قضيت والله له علي أنا والله أخبرك ما دهاني إلا أني

هاجيت كذا وكذا شاعرا فسمى عددا كثيرا وأنه تفرد لي وحدي

خبره مع النوار ابنة عمه
أخبرني عبد الله قال قال المازني قال أبو علي الحرمازي
كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي وكانت ابنة عمه أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيته وكان الفرزدق وليها فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل فقال لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك ففعلت فلما توثق منها قال أرسلي إلى القوم فليأتوا فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة
فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة فلم تجد من يحملها وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد يقال لهم بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وإياها وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم أمها ليحملنها فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار وقال

( أطاعت بني أم النُّسَيْر فأصبحت ... على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولُها )
( وإنّ الذي أمسى يخبِّب زوجتي ... كماشٍ إلى أُسْد الشّرى يَستبِيلها )
فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان بن سيار الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك

صوت
( أمّا بنوه فلم تُقْبل شفاعتُهم ... وشُفّعت بنتُ منظورِ بن زِبّانَا )
( ليس الشّفيع الذي يأتيك مُؤْتَزِراً ... مثلّ الشفيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا )
لعريب في هذا البيت خفيف رمل
قال وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة فاصطلحا على أن يرجعا إلى البصرة ولا يجمعهما ظل ولا كن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم ويصيرا على حكمهم
ففعلا فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها
قال وقال غير الحرمازي إن ابن الزبير قال للفرزدق جئني بصداقها

وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق أنا في بلاد عربة فكيف أصنع قالوا له عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال فأتاه فقص عليه قصته قال كم صداقها قال أربعة آلاف درهم فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال الفرزدق
( دعَي مُغِلقي الأبواب دون فَعالهم ... ولكن تمشَّى بي هُبِلْت إلى سَلمِ )
( إلى من يرى المعروفَ سهلاً سَبِيلُه ... ويفعلُ أفعال الرجال التي تَنِمي )
قال فدفعها إليه ابن الزبير فقال الفرزدق
( هلمّي لابن عمك لا تكوني ... كمختارٍ على الفرس الحمارا )
قال فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها فقال جرير في ذلك
( ألا تِلكمُ عِرسُ الفرزدق جامحاً ... ولو رضِيَتْ رُمح استِهِ لاستقرَّت )
فأجابه الفرزدق وقال
( وأمُّك لو لاقيتُها بِطمرَّةٍ ... وجاءت بها جوف استِها لاستقرَّت )
وقال الفرزدق وهو يخاصم النوار
( تُخاصمني وقد أولجتُ فيها ... كرأس الضَّبَ يلتمس الجرادا )
قال الحرماني ومكثت النوار عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا وكانت النوار امرأة صالحة فلم تزل تشمئز منه وتقول له ويحك

أنت تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى خدعة ثم لا تزال في كل ذلك حتى حلفت بيمين موثقة ثم حنثت
وتجنبت فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد فنافرته الخميصة واستعدت عليه فأنكرها الفرزدق وقال إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها وقال
( إن الخميصةَ كانت لي ولابنتها ... مثل الهَراسةِ بين النّعل والقَدَم )
( إذا أتت أهلَها مني مُطَلَّقة ... فلن أردَّ عليها زَفرةَ النَّدم )
جعل يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار هل تزوجتها إلا هدادية تعني حيا من أزد عمان فقال الفرزدق في ذلك
( تُريك نجومَ الليل والشَّمسُ حَيَّةٌ ... كرامُ بنات الحارث بن عُبادِ )
( أبوها الذي قاد النَعامة بعد ما ... أبت وائلٌ في الحرب غير تمادِ )
( نساءٌ أبوهنّ الأعزُّ ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهَدادِ )
( ولم يكُ في الحيّ الغموضِ محلُّها ... ولا في العُمانيِّين رهطِ زياد )
( عَدلتُ بها مَيلَ النّوار فأَصبحتْ ... وقد رَضيت بالنَصف بعد بعادِ )

قال فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل ذلك
قال المازني وحدثني محمد بن روح العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال
ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر وقد صحب النوار رجال كثيرة إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم الفرزدق فأتيا الحسن فقال له الفرزدق يا أبا سعيد قال له الحسن ما تشاء قال أشهد أن النوار طالق ثلاثا فقال الحسن قد شهدنا فلما انصرفنا قال يا أبا شفقل قد ندمت فقلت له والله إني لأظن أن دمك يترقرق أتدري من أشهدت والله لئن رجعت لترجمن بأحجارك فمضى وهو يقول
( ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لمّا ... غدت منّي مُطلَّقةً نوارُ )
( ولو أنّي ملكتُ يدي وقلبي ... لكان عليَ للقدَر الخيارُ )
( وكانت جَنّتي فخرجتُ منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار )
( وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً ... فأصبح ما يضيء له النهارُ )

يهجو بني قيس لأنهم ألجأوا النوار
وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن

شبة قال حدثني محمد بن يحيى عن أبيه يحيى بن علي بن حميد
أن النوار لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال الفرزدق فيهم
( بني عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجِئُ للسوءات دُسْم العَمائِم )
( بَني عاصمٍ لو كان حَيّاً أبوكم ... للام بنيه اليومَ قيسُ بن عاصمِ )
فبلغهم ذلك الشعر فقالوا له والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة وخلوه والنوار وأرادت منافرته إلى ابن الزبير فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه
ثم إن قوما من بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها فقال الفرزدق
( ولولا أن يقول بنو عدِيٍّ ... ألم تَك أمَّ حَنظلة النَّوارُ )
( أَتتكم يا بني مِلْكان عنّي ... قوافٍ لا تُقسّمها التِّجارُ )
وقال فيهم أيضا
( لعمري لقد أردى النّوارَ وساقها ... إلى البور أحلامٌ خِفافٌ عقولُها )
( أَطاعت بني أَمّ النُّسَير فأصبحت ... على قَتبٍ يعلو الفلاة دلِيلُها )
( وقد سَخِطَت مِنّي النّوارُ الذي ارتضَى ... به قبلَها الأزواجُ خاب رحيلُها )

( وإن امرأ أمسى يُخَبّب زوجتي ... كساع إلى أُسْدِ الشرى يستبيلها )
( ومن دون أَبواب الأسود بَسالةٌ ... وبَسْطَةً أَيد يمنع الضّيمَ طُولُها )
( وإنّ أميرَ المؤمنين لعالِمٌ ... بتأويل ما وَصَّى العِبَادَ رسَولُها )
( فدُونَكَها يا بنَ الزبير فإنها ... مُوَلَّعَة يُوهِي الحجارةَ قِيلُها )
( وما جادل الأقوامَ من ذي خصومة ... كورهاء مَشْنوءٍ إليها حليلُها )
فلما قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبان زوجة عبد الله ابن الزبير ونزل الفرزدق بحمزة بن عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله
( أَمسيتُ قد نزلتّ بحمزة حاجَتِي ... إن المنوَّه باسمِه الموثوقُ )
( بأبي عمارةَ خيرِ من وَطِئ الحصا ... وجرت له في الصالحين عُروقُ )
( بين الحواريِّ الأعزّ وهاشمٍ ... ثم الخليفةُ بعدُ والصِّدِّيق )
غنى في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر
قال فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف فقال
( أّمّا بنوه فلم تُقْبل شفَاعتُهم ... وَشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زِبَّانَا )

ملاحاة بينه وبين ابن الزبير
وقال ابن الزبير للنوار إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فقالت ما أريد واحدة منهما فقال

لها فإنه ابن عمك راغب فأزوجك أياه قالت نعم فزوجها منه فكان الفرزدق يقول خرجنا ونحن متحابين
قال وكان الفرزدق قال لعبد الله بن الزبير وقد توجه الحكم عليه إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها وكان ابن الزبير حديدا فقال له هل أنت وقومك إلا جالية العرب
ثم أمر به فأقيم وأقبل على من حضر فقال إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فاجتمعت العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من ارض تهامة قال فلقي الفرزدق بعض الناس فقال إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع ثم قال
( فإن تغْضَبْ قريشٌ أو تَغَضَّب ... فإنّ الأرضَ تُوعبُها تميم )
( هُم عَددُ النجوم وكلُّ حيٍّ ... سواهمْ لا تُعدُّ له نجوم )
( ولولا بيت مكةَ ما ثويتم ... بها صحَّ المنابتُ والأروم )
( بها كثُر العديدُ وطاب منكم ... وغيرُكم أخِيذُ الريش هِيم )
( فمهلاُ عن تعلّل مَن غَدَرْتم ... بخونته وعذَّبه الحَميم )
( أعبدَ اللَّهِ مهلاً عن أداتي ... فإني لا الضعيفُ ولا السؤوم )
( ولكنِّي صفاةٌ لم تُدَنَّس ... تزِلُّ الطيرُ عنها والعُصوم )

( أنا ابن العاقِر الخُورَ الصّفايا ... بضوّى حين فُتِّحت العُكوم )
قال فبلغ هذا الشعر ابن الزبير وخرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فغمز عنقه فكاد يدقها ثم قال
( لقد أصبحت عِرسُ الفرزدق ناشزاً ... ولو رَضِيت رُمحَ استِه لاستقرّت )
وقال هذا الشعر لجعفر بن الزبير
وقيل إن الذي كان تقرر عليه عشرة آلاف درهم وإن سلم بن زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية أتعطي عشرين ألف درهم وأنت محبوس فقال
( أَلا بَكَرَتْ عِرسِي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مني وتأمرُ بالبُخْلِ )
( فقلتُ لها والجودُ مِنِّي سجيّةٌ ... وهل يمنع المعروفَ سُواَّ لَه مِثلي )
( ذَرِيني فإنّي غيرُ تارك شِيمتي ... ولا مُقصرٍ طول الحياة عن البذْلِ )
( ولا طاردٍ ضيفي إذا جاء طارقا ... وقد طرق الأضيافُ شيخيَ من قبلي )
( أَأَبخَلُ إن البُحْل ليس بمُخْلِدي ... ولا الجودُ يدنيني إلى الموت والقتل )
( أَبيعُ بني حرب بآلِ خويلدٍ ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل )
( وليس ابنُ مروان الخليفةُ مشبهاُ ... لفحل بَني العوَّام قُبِّح من فحل )
( فإن تُظهرُوا ليَ البخلَ آلَ خْوَيْلد ... فما دأْبكم دأْبي ولا شكلُكم شكلِي )
( وإن تَقهروني حين غابت عشيرتي ... فمن عجبِ الأيام أن تقهروا مِثلي )

فلما اصطلحا ورضيت به ساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن يخرج من مكة
ثم خرجا وهما عديلان في محمل
وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد بنحو من هذه القصة
قال عمر بن شبة قال الفرزدق في خبره
( يا حمزَ هل لك في ذي حاجة عَرضت ... أنضاؤه بمكان غيرِ ممطور )
( فأنت أحرى قريش أن تكون لها ... وأَنت بين أبي بكرٍ ومنظور )
( بين الحواريّ والصدّيق في شُعَبٍ ... ثَبَتْنَ في طُنُب الإِسلام والخير )

كانت القبائل تتقي هجاءه
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال
كان فتى من بني حرام شويعر هجا الفرزدق قال فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هذا بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق فلا عدوى عليك ولا قصاص قد برئنا إليك منه قال فخلى سبيله وقال
( فمن يك خائفاًلأذاة شعري ... فقد أمِنَ الهجاء بَنُو حرامِ )
( هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائدَ مثل أَطواق الحمام )

قال ابن سلام وحدثني عبد القاهر قال
مر الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام ومعنا عنبسة مولى عثمان بن عفان فقال يا أبا فراس متى تذهب إلى الآخرة قال وما حاجتك إلى ذاك يا أخي قال أكتب معك إلى ابي قال أنا لا أذهب إلى حيث أبوك أبوك في النار اكتب إليه مع ريالويه واصطقانوس
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال أخبرني مخبر عن خالد بن كلثوم الكلبي قال
مررت بالفرزدق وقد كنت دونت شيئا من شعره وشعر جرير وبلغه ذلك فاستجلسني فجلست إليه وعذت بالله من شره وجعلت أحدثه حديث أبيه وأذكر له ما يعجبه ثم قلت له إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق قال وأي يوم قلت مررت به وأنت صبي فقال له بعض من كان يجالسه كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه وأبهته فسماك بذلك فأعجبه هذا القول وجعل يستعيد ثم قال أنشدني بعض أشعار ابن المراغة في فجعلت أنشده حتى انتهيت ثم قال فأنشد نقائضها التي أجبته بها فقلت ما أحفظها فقال يا خالد أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ تفائضه والله لأهجون كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها إلى يوم القيامة إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها وتنشدنيها فقلت أفعل فلزمته شهرا حتى حفظت نقائضها وأنشدته إياها خوفا من شره

زواجه من حدراء بنت زيق
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني وخاصمته النوار وأخذت بلحيته فجاذبها وخرج عنها مغضبا وهو يقول
( قامَتْ نوارُ إليَّ تَنتِف لِحيتي ... تَنْتافَ جعدةَ لحيةَ الخشخاشِ )
( كلتاهما أسدٌ إذا ما أُغْضِبت ... وإّذا رَضينَ فهنْ خير معاشِ )
قال والخشخاش رجل من عنزة وجعدة امرأته فجاءت جعدة إلى النوار فقالت ما يريد مني الفرزدق أما وجد لامرأته أسوة غيري
وقال الفرزدق يفضل عليها حدراء
( لعمرِي لأعرابيَّةٌ في مَظلّةٍ ... تظلُّ برَوقي بيتها الريحُ تخْفُق )
( أحبُّ إلينا من ضِنَاك ضِفَنَّة ... إذا وُضعت عنها المراويحُ تَغرَقُ )
( كرِيمِ غزالٍ أو كُدرَّةِ غائصٍ ... يكاد إذا مرت لها الأرض تُشرقُ )
فلما سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير وقالت للفرزدق والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير فقالت له أما ترى ما قال الفاسق وشكته إليه وأنشدته شعره فقال جرير أنا أكفيك وأنشأ يقول
( ولَسْت بمعطي الحكم عن شَفِّ منصبٍ ... ولا عن بنات الحنظلييّن راغبُ )
( وهنّ كماء المزنِ يُشْفَى به الصَّدى ... وكانت مِلاحاً غيرَهْنَّ المشارِبُ )

( لقد كنتَ أهلا أن يسوق دياتكم ... إلى آل رزيق أن يعيبَك عائب )
( وما عدلتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرّدفان منها وحاجبُ )
( أأهْديتَ يا زِيقُ بن بَسطامَ ظَبيةً ... إلى شرِّ من تُهْدى إليه القرائب )
( ألا رْبَّما لم نُعْطِ زِيقاً بحُكمِه ... وأَدّى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ )
( حَوينَا أبا زِيقٍ وزيقاً وعمَّه ... وجَدّةُ زِيق قد حَوتْها المقانِبُ )
فأجابه الفرزدق فقال
( تقول كليبٌ حين مثَّت سِبالها ... وأعشَبَ من مروْتِها كلُّ جانب )
( لسوّاقِ أغنام رعتهنّ أمَه ... إلى أن علاها الشيبُ فوق الذوائب )
( ألستَ إذا القعساءُ مرت براكب ... إلى آل بِسطام بن قيس بخاطب )
( وقالوا سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مائَةٍ شُمِّ الذُّرى والغوارب )
( فلو كنتَ من أكفاء حدْراء لم تلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى وغالبِ )
( فنل مثلَها من مثلهم ثُم أُمَّهم ... بمِلكك من مال مُراح وعازب )
( وإني لأخشى إن خطبتَ إليهمُ ... عليك الذي لاقَى يسارُ الكوَاعبِ )

( ولو تنِكحُ الشّمسُ النجوم بناتها ... نكحنا بنات الشمس قبل الكواكب )
وفي المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج بنت زيق قال جرير أبياته التي أولها
( يا زيقُ أنكحتَ قَيناً في استه حَمَمٌ ... يا زيقُ ويْحَك من أنكحتَ يا زيق )
( أين الألى أنزلوا النعمان ضاحيةً ... أم أين أبناءُ شيبانَ الغرانيق )
( يا رُبّ قائلةٍ بعد البناء بها ... لا الصهرُ راضٍ ولا ابنُ القينِ معشوقُ )
( غاب المثنَّى فلم يشهد نَجِيَّكُما ... والحوفزّانُ ولم يشهدْك مفروق )
والفرزدق يقول لجرير
( إن كان أنفُك قد أعياك تحمِلُه ... فاركب أتانك ثم اخطُب إلى زِيق )
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن زكريا بن ثباة الثقفي قال
أنشدني الفرزدق قصيدته التي رثى فيها ابنه فلما انتهى إلى قوله
( بَفي الشَّامِتِين الَّصخْر إن كان مسَّني ... زريّةُ شِبْل مُخْدِرٍ في الضَّراغم )

قال يا أبا يحيى أرأيت ابني قلت لا قال والله ما كان يساوي عباءته

لبطة بن الفرزدق ينشد لأبيه
قال إسحاق حدثني أبو محمد العبدي عن اليربوعي عن أبي نصر قال قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه ثم قالوا له من أنت قال ابن شاعركم ومادحكم وأنا والله ابن الذي يقول فيكم
( أضحى لتغلبَ من تميمٍ شاعِرٌ ... يرمي الأعاديَ بالقريض الأثقل )
( إن غاب كعبُ بني جُعَيلٍ عنهم ... وتنَمَّر الشعراء بعد الأخطل )
( يتباشرون بموتِه ووراءهم ... مِنّي لهم قِطعُ العذاب الْمُرْسلِ )
فقالوا له فأنت ابن الفرزدق إذا قال أنا هو فتنادوا يا آل تغلب اقضوا حق شاعركم والذائد عنكم في ابنه فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه فانصرف بها
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد وكان هجاه جرير لروايته للفرزدق في قوله
( ونُبِّئْتُ جوَّاباً وسَلْماً يسبّني ... وعمرو بن عِفْري لا سلامٌ على عمرو )
فقال ابن عفراء للباهلي لا يهولنك أمره أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون

ما كان هم له به فأعطاه ثلثمائة درهم فقبلها الفرزدق ورضي عنه فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال
( ستعلم يا عمرو بن عفْرى مَن الذي ... يُلام إذا ما الأمر غَبَّتْ عواقبُه )
( نهيتُ ابنَ عِفرى أن يعفّر أُمّه ... كعفْر السّلا إذا جرَّرَتْه ثعالبُه )
( فلو كنت ضَبِّياً صفحتُ ولو سَرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه )
( ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحوْران يعصرْن السليط أقاربه )
( ولما رأى الدّهنا رمته جبالُها ... وقالت دِيافيٌّ مع الشام جانبه )
( فإن تغضب الدهنا عليك فما بها ... طريقٌ لمرتاد تُقاد رَكائبُه ) ( تضِنُّ بمال الباهليِّ كأنما ... تضِنُّ على المال الذي أنت كاسِبُه )
( وإنّ امرأ يَغْتَابُني لم أطأْ لَه ... حَرِيماً ولا يَنْهاه عنِّي أقارِبُه )
( كمحتَطبٍ يوما أساودَ هَضْبة ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبُه )
( أحينَ التقى ناباي وأبيضّ مِسْحلي ... وأطرق إطراق الكرى من يُجانِبه )
فقال ابن عفراء وأتاه في نادي قومه اجهد جهدك هل هو إلا أن تسبني والله لا أدع لك مساءة إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا

تنهاني عن شيء إلا ركبته قال فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه فضحك القوم وخجل ابن عفرى
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا شعيب بن صخر قال
تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية فدعا الناس في وليمته فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألقى الفرزدق عنده فقال له يا أبا فراس انهض قال إنه لم يدعني قال إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة فأتياه فقال الفرزدق حين دخل
( كم قال لي ابنُ أبي شيخ وقلت له ... كيف السَّبيلُ إلى معروف ذُبيان )
( إنّ القلوصَ إذا أَلقت جآجئها ... قُدامَّ بابك لم نرحل بحِرمان )
قال أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده وأعطاه ثلثمائة درهم
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو بكر المدني قال
دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وكان سيدا سخيا شريفا فقال يا أهل المدينة أنتم أذل قوم الله قالوا وما ذاك يا أبا فراس قال غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم

يعطى عروضا بدل النقد
وأتى مكة فأتى عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي وهو سيد أهل مكة يومئذ وليس عنده نقد حاضر وهو يتوقع

أعطيته وأعطية ولده وأهله فقال والله يا أبا فراس ما وافقت عندنا نقدا ولكن عروضا إن شئت فعندنا رقيق فرهة فإن شئت أخذتهم قال نعم فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه فقال هم لك عندنا حتى تشخص وجاءه العطاء فأخبره الخبر وفداهم فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان يطوف بالبيت الحرام يتبختر
( تمْشي تَبَخْتُر حولَ البيتِ منتخَباً ... لو كنتَ عمرّو بنَ عبد الله لم تزدِ )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا عامر بن أبي عامر وهو صالح بن رستم الخراز قال أخبرني أبو بكر الهذلي قال
إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى جلس إلى جنبه فجاء رجل فقال يا أبا سعيد الرجل يقول لا والله وبلى والله في كلامه قال لا يريد اليمين فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت
( ولستَ بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تعمَّدْ عاقداتِ العزائم ) قال فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال يا أبا سعيد
نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة لها زوج أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت
( وذات حَليلٍ أنكحْتنا رِماحُنا ... حلالاً لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق )

يهجو في شعره إبليس
قال أبو خليفة أخبرني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن جعفر قالا
أتى الفرزدق الحسن فقال إني هجوت إبليس فاسمع قال لا حاجة لنا بما تقول قال لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس قال اسكت فإنك بلسانه تنطق
قال محمد بن سلام أخبرني سلام أبو المنذر عن علي بن زيد قال ما سمعت الحسن متمثلا شعرا قط إلا بيتا واحدا وهو قوله
( الموتُ بابٌ وكُلُّ الناسِ داخلُه ... فليتَ شعريَ بعد الباب ما الدَّار )
قال وقال لي يوما ما تقول في قول الشاعر
( لولا جريرٌ هلكتْ بَجِيلهْ ... نِعْمَ الفتى وبِئسَتِ القبيلهْ )
أهجاه أم مدحه قلت مدحه وهجا قومه قال ما مدح من هجي قومه
وقال جرير بن حازم ولم أسمعه ذكر شعرا قط إلا
( ليس مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميّتُ الأحياء )
وقال رجل لابن سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر أيتوضأ من الشعر فانصرف بوجهه إليه فقال
( ألا أَصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشِزاً ... ولو رضِيتْ رُمحَ استه لاستَقَرَّت )
ثم كبر

متفرقات من أبياته الشائعة
قال ابن سلام وكان الفرزدق أكثرهم بيتا ومقلدا والمقلد المغني المشهور الذي يضرب به المثل من ذلك قوله
( فيا عجبأً حتى كليبٌ تسبني ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجِاشِعُ )
وقوله
( ليس الكرام بناحِليك أباهمُ ... حتى يُردَّ إلى عطية نَهْشَل )
وقوله
( وكنّا إذا الجبّار صَعَّر خَدّه ... ضربناه حتى تستقيم الأَخادع )
وقوله
( وكنتَ كذئب السوء لما رأى دَمَاً ... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم )
وقوله
( وكنتَ ترجِّي رُبيعٌ أن تجيء صغارُها ... بخير وقد أعيا رُبيعاً كبارُها )
وقوله
( أكلتْ دوابرها الإكَامُ فمشيها ... مما وَجِئْن كمشية الإِعياء )
وقوله
( قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطرُ الإِناءَ فَيَفعُم )
وقوله
( أحلاَمُنا تزن الجبالَ رَزانةً ... وتخالنا جِناً إذا ما نجهل )
وقوله
( وإنك إذ تسعى لتدرك دارما ... لأنت المُعَنَّى يا جرير المُكَلف )
وقوله ( فإن تنجُ مني تنج من ذي عَظيمةٍ ... وإلا فإنّي لا إخالك ناجيا )
وقوله
( ترى كل مظلوم إلينا فِرارُه ... ويهربُ منا جهدَه كُلُّ ظالمِ )
وقوله
( ترى الناس ما سِرْنا يسيرون حولَنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا )
وقوله
( فسَيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نَبا بيَدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالد )

( كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويَقطعن أَحيانا مَنَاط القَلائِد )
وكان يداخل الكلام وكان ذلك يعجب أصحاب النحو من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك
( وأصبَح ما في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حَيٌّ أَبوه يُقاربه )
وقوله
( تا الله قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيَها ... فاستجهلت سُفهاؤها حلماءَها )
وقوله
( ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى العَرصاتِ أو أثَر الخيام )
فقالوا
( إن فعلتَ فأغنِ عنا ... دُموعاً غيرَ راقِئة السّجام )
وقوله
( فهل أنتَ إن ماتت أتانُكَ راحِلٌ ... إلى آل بِسطام بن قيس فخاطب )
وقوله
( فَنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم دُلَّهمَ ... على دارميّ بين ليلى وغالب )
وقوله
( تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطحبان )
وقوله
( إنا وإِياك إن بلّغْنَ أرحُلَنا ... كمَنْ بِواديه بعد المَحْل مَمْطورُ )
وقوله
( بنى الفاروق أمّك وابن أروى ... به عثمان مروان المصابا )
وقوله
( إلى مَلِك ما أمُّه من مُحاربٌ ... أبوه ولا كانت كليب تصاهِرْه )

وقوله
( إليك أميرَ المؤمنين رمَتْ بنا ... هموم المنا والهَوْجَل المتعسّف )
( وعض زمانٌ يا بن مروان لم يدعْ ... من المال إلا مُسحتاً أو مُجلَّف )
وقوله
( ولقد دنت لك بالتخلّف إذْ دنَت ... منها بلا بَخَلٍ ولا مبذولِ )
( وكأنّ لونَ رُضابِ فيها إذ بدا ... بَرَدٌ بفرع بَشامةٍ مصْقولُ )
وقوله فيها لمالك بن المنذر
( إنّ ابن ضبّارى ربيعةَ مالِكاً ... لله سيف صنيعةٍ مَسْلولُ )
( ما نال من آل المُعلّى قبلَه ... سيفٌ لكل خليفة ورسُولُ )
( ما من يَديْ رَجُل أحقُّ بما أتى ... من مكرمات عطاية الأخطارِ )
( من راحتين يزيدُ يقدح زندَه ... كفّاهما ويشد عقد جوار )
ومن قوله
( إذا جئتَه أعطاك عفواً ولم يكن ... على ماله حال الندى منك سائله )
( لدى ملك لا تنصف النعلُ ساقَه ... أجل لا وإن كانت طُوالاً حمائله )
وقوله ( والشيب يَنْهَضُ في الشباب كأنه ... ليل يسير بجانبيه نهار )

كان صادقا في مدحه
قال أبو خليفة أخبرنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر

عن محمد بن زياد وأخبرني به الجوهري وجحظة عن ابن شبة عن محمد ابن سلام وكان محمد في زمام الحجاج زمانا قال
انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله ينشد مديح سليمان بن عبد الملك
( وكم أطلقتْ كفاك من غلّ بائس ... ومن عُقدةٍ ما كان يُرجَى انحلالُها )
( كثيراً من الأيدي التي قد تُكتَّفَتْ ... فَكَكْتَ وأعناقاً عليها غِلالها )
قال قلت أنا والله أحدهم فأخذ بيدي وقال أيها الناس سلوه عما أقول والله ما كذبت قط
أخبرني جحظة قال حدثني ابن شبة عن محمد بن سلام فذكر مثله وقال فيه والله ما كذبت قط ولا أكذب أبدا

يأبى الحضور إلى يزيد بن المهلب قبل أن يدفع له
قال أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول
كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرحان إلى أخيه مدركة أو مروان احمل إلي الفرزدق فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا ذكر عشرة آلاف درهم فقال له الفرزدق ادفعها إلي قال اشخص وأدفعها إلى أهلك فأبى وخرج وهو يقول
( دعاني إلى جُرجانَ والرّيُّ دونه ... لآتِيَهُ إنّي إذاً لزءورُ )

( لآتيَ من آل المهَّلب ثائراً ... بأعراضِهم والدّائرات تدُورُ )
( سَآبَى وتَأْبى لي تميمٌ وربما ... أبَيْتُ فلم يقدر عليّ أمير )
قال أبو خليفة قال ابن سلام
وسمعت سلمة بن عياش قال حبست في السجن فإذا فيه الفرزدق قد حبسه مالك بن المنذر بن الجارود فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى القافية ويجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال كل أير حمار من قريش من أيهم أنت قلت من بني عامر بن لؤي قال لئام والله أذلة جاورتهم فكانوا شر جيران قلت ألا أخبرك بأذل منهم وألأم قال من قلت بنو مجاشع قال ولم ويلك قلت أنت سيدهم وشاعرهم وابن سيدهم جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن لم يمنعوك
قال قاتلك الله
قال أبو خليفة قال ابن سلام
وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس
( ولت بمسلمةَ الركابُ مُودَّعاً ... فارعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ )
( فسد الزمانُ وبُدِّلت أعلامُه ... حتى أميّةُ عن فزارةَ تنْزِع )
( ولقد علمتُ إذا فزارةُ أُمِّرت ... أن سوف تطمع في الإِمارة أشجعُ )

( وبحق ربك ما لهم ولمثلهم ... في مثل ما نالت فَزارةُ مطمع )
( عُزِل ابنُ بشر وابنُ عَمْرو قبلَه ... وأَخو هَراةَ لمثلها يتوقَّع )
ابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان كان على البصرة أمره عليها مسلمة وابن عمرو سعيد بن حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأخو هراة عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاصي
ويروى للفرزدق في ابن هبيرة
( أمِير المؤمنين وأنت عَفٌّ ... كريمٌ لستَ بالطَّبعِ الحريصِ )
( أَولَّيتَ العِراقَ ورافِدَيْه ... فزاريًّا أحذَّ يدِ القَميص )
( ولم يكُ قبلها راعي مخاضٍ ... لتأمنَه على وَرِكَيْ قَلُوصِ )
( تفنَّن بالعراق أبو المثُنَّى ... وعَلّم أهلَه أكْلَ الخَبِيص )
وأنشدني له يونس
( جَهّز فإنك ممتارٌ ومُبتعثٌ ... إلى فزارة عِيراً تحمِل الكَمَرَا )
( إنَّ الفزاريَّ لو يعمى فأطعَمَه ... أيرَ الحِمارِ طبيبٌ أبرأَ البَصَرَا )
( إن الفزاريّ لا يشفيه من قَرَمٍ ... أطايبُ العَيْر حتى ينهش الذّكرا )
( يقول لمّا رأى ما في إنائهم ... لله ضيف الفزاريين ما انْتَظَرَا )
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في

السجن فنقب له سرب فخرج منه فهرب إلى الشام فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه
( ولما رأيتَ الأرض قد سدَّ ظهرُها ... ولم تر إلا بطنَها لك مخرجا )
( دعوت الذي ناداه يونُسُ بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا )
( فأصبحت تحت الأرض قد سِرْت ليلةً ... وما سار سَارٍ مثلها حين أدلجا )
( خرجتَ ولم تمنن عليك شفاعةٌ ... سوى رَبذِ التقريب من آل أعوجا )
( أغرّ من الحُوِّ اللهاميم إذ جرى ... جرى بكَ محبوكُ القِرى غير أفحجا )
( جرى بك عُريان الحماتين ليلَهُ ... به عنك أرخى الله ما كان أشرجا )
( وما احتال مُحتالٌ كحيلته التي ... بها نفسه تحت الصّريمة أولجا )
( وظَلماء تحت الأرض قد خُضت هولَها ... وليلٍ كلون الطيَلسانيّ أدْعجا )
( هما ظُلْمتا ليل وأرض تلاقتا ... على جامع من هُمّه ما تعوَّجا )

هجوه لخالد القسري
فحدثني جابر بن جندل قال فقيل لابن هبيرة من سيد العراق قال

الفرزدق هجاني أميراً ومدحني سوقة
وقال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام
( ألا قطع الرحمن ظهرَ مطيَّةٍ ... أتتنا تمَطَّى من دمشقٍ بخالد )
( وكيف يؤمّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد )
( بَنَى بَيْعَةً فيها الصَّليبُ لأمّه ... وهَدّم من كُفرٍ مَنارَ المساجدِ )
وقال أيضا
( نزلت بجيلَةُ واسطاً فتمكَّنت ... ونفتْ فزارةَ عن قرار المنزل )
وقال أيضا
( لعمري لئن كانت بجيلةُ زانها ... جَريرٌ لقد أخزى بجيلة خالدُ )
فلما قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود وكان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية فأبطلها خالد وحفر النهر الذي سماه المبارك فاعترض عليه الفرزدق فقال
( أهلكتَ مالَ الله في غير حقّه ... على النَّهَر المشؤوم غيرِ المباركِ )
( وتَضربُ أقواماً صِحاحاً ظهورهم ... وتتركُ حقَّ الله في ظَهْرِ مالك )
( أإنفاقَ مالِ الله في غير كُنهه ... ومَنعاً لَحقِّ المرمِلات الضرائك )

دخل على الحجاج يستميحه مهر حدراء زوجته
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قال أعين بن لبطة
دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء يستميحه مهرها فقال له تزوجت أعرابية على مائة بعير فقال له عنبسة بن سعيد إنما هي فرائض قيمتها ألفا درهم الفريضة عشرون درهما فقال له الحجاج ليس غيرها يا كعب أعط الفرزدق ألفي درهم
قال وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن وائل فاشترى الفرزدق مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان قال الفرزدق فصليت مع الحجاج الظهر حتى إذا سلم خرجت فوقفت في الدار فرآني فقال مهيم فقلت إن الفضيل العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل وقد اشتريت منه مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن تحتسب له في الديوان فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل فأمر أبا كعب أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم ونسي ما كان أمر له به قال فلما جاء الفرزدق بالإبل قالت له النوار خسرت صفقتك أتتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء الساقين على مائة من الإبل فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة
( لجَاريةٌ بين السّليل عروقُها ... وبين أبي الصّهباء من آل خالدِ )
( أحقُّ بإغلاء المهور من التي ... رَبَتْ تتردّى في حجور الولائدِ )

فأبت النوار عليه أن يسوقها كلها فحبس بعضها وامتار عليه ما يحتاج إليه أهل البادية ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير قال أعين فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا مذبوحا فقال الفرزدق يا أوفى هلكت والله حدراء قال وما علمك بذلك قال ويقال إن أوفى قال للفرزدق يا أبا فراس لن ترى حدراء فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق وهو جالس فرحب به وقال له انزل فإن حدراء قد ماتت وكان زيق نصرانيا فقال قد عرفنا أن نصيبك من ميراثها في دينكم النصف وهو لك عندنا فقال له الفرزدق والله لا أرزؤك منه قطميرا فقال زيق يا بني دارم ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة ولا أكرم منكم شركة في الممات فقال الفرزدق
( عَجِبت لحادينا المقَحِّم سيره ... بنا مُوجعاتٍ من كَلالٍ وظُلَّعَا )
( ليُدنِينَا ممن إلينَا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أردنا لتجمعا )
( ولو نعلمُ الغيبَ الذي من أمامنا ... لكرّبنا الحادي المطِيّ فأَسرعا )
( يقولون زُرْ حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا )
( يقول ابن خِنزير بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إدخال لتدمعا )
( وأهونُ رزء لامرئٍ غير جازع ... رزئية مرتج الروادف أفرعا )
( ولست وإن عزت علي بزائرٍ ... تُرابا على مرموسةٍ قد تضعضعا )
وقيل إن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتماضر وأم هاشم أخت تماضر لأن تماضر ماتت عند عبد الله بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني

عبد الله بن الزبير وتزوج بعدها أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا وفي أم هاشم يقول الفرزدق
( تروّحتِ الرّكبانُ يا أُمَّ هاشم ... وهنَّ مُنَاخاتٌ لهن حنين )
( وحُبِّسْن حتّى ليس فيهن نافقٌ ... لبيعٍ ولا مركوبُهن سمين )

طلق رهيمة زوجته لأنها نشزت به
أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
نشزت رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها وقال يهجوها بقوله
( لا ينكحنْ بعدي فتىً نَمريّةً ... مُرَمَّلةً من بعلها لبعادِ )
( وبيضاء زَعراء المفارق شَخْتَةً ... مولّعةً في خُضرة وسوادِ )
( لها بَشَرٌ شَثْنٌ كأن مَضَمَّه ... إذا عانقت بَعْلاً مَضَمُّ قتادِ )
( قرنتُ بنفسي الشؤمَ في وِرد حوضها ... فَجُرِّعتُه مِلحا بماء رمادِ )
( وما زلتُ حتى فرَّق الله بيننا ... له الحمدُ منها في أذىً وجهاد )
( تُجدِّد لي ذكرى عذَاب جهنَّمٍ ... ثلاثاً تُمسِّيني بها وتغادي )
يحظى بجارية بنسيئة فتحمل منه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسين بن موسى قال قال

المدائني لقي الفرزدق جارية لبني نهشل فجعل ينظر إليها نظرا شديدا فقالت له مالك تنظر فو الله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها قال ولم يالخناء قالت لأنك قبيح المنظر سيء المخبر فيما أرى فقال أما والله لو جربتني لعفى خبري على منظري قال ثم كشف لها عن مثل ذراع البكر فتضبعت له عن مثل سنام البكر فعالجها فقالت أنكاح بنسيئة هذا شر القضية قال ويحك ما معي إلا جبتي أفتسلبينني إياها ثم تسنمها فقال
( أولجتُ فيها كذِراع البَكرِ ... مُدملَكَ الرأس شديدَ الأسْرِ )
( زاد على شِبْرٍ ونصفِ شِبْر ... كأنني أولجتُه في جَمرِ )
( يُطير عنه نَفَيانَ الشّعْرِ ... في شُعور الناس يَوْمَ النحر )
قال فحملت منه ثم ماتت فبكاها وبكى ولده منها
( وغمدِ سلاحٍ قد رزئتُ فلم أنُح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا )
( وفي جَوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أنّ المنايا أنسأته لياليا )
( ولكنَّ ريب الدهر يعْثُر بالفتى ... فلم يستطع رَدُّا لما كان جائيَا )
( وكم مثلِه في مثلها قد وضعته ... وما زلت وثَّاباً أجرُّ المخازيا )
فقال جرير يعيره
( وكم لكَ يا بنَ القيْن إنْ جاء سائلٌ ... من ابنٍ قصير الباع مثلُك حاملُه )

( وآخر لم تشعُر به قد أضعتَه ... وأوردته رِحما كثيراً غوائِلُه )

زواجه من ظبية ابنة حالم وعجزه عنها
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال
تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني مجاشع بعد أن أسن فضعف وتركها عند أمها بالبادية سنة ولم يكن صداقها عنده فكتب إلى أبان بن الوليد البجلي وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري فأعطاه ما سأل وأرضاه فقال يمدحه
( فلو جمعوا من الخِلاّنِ ألفا ... فقالوا أعطِنا بهمُ أبانا )
( لقلتُ لهم إذاً لغبنتموني ... وكيف أبيع من شرطَ الزمانا )
( خليلٌ لا يرى المائةَ الصّفايا ... ولا الخيلَ الجيادَ ولا القيانَا )
( عَطاءً دون أضعاف عليها ... ويُطعمُ ضَيفَه العُبُطَ السِّمانا )
العبط الإبل التي لا وجع بها
( فما أرجو لظبيةَ غيرَ ربِّي ... وغيرَ أبي الوليد بما أعانا )
( أعان بهجمة أرضَتْ أباها ... وكانت عنده غَلَقاً رِهانا )
وقال أيضا في ذلك
( لقد طال ما استودعتُ ظبيةَ أمَّها ... وهذا زمان رُدّ فيه الودائعُ )

وقال حين أراد أن يبني بها
( أبادر سُؤَّالا بظبية أنني ... أتتني بها الأهوالُ من كل جانب )
( بمالِئةِ الحِجْليْن لو أَنَّ مّيِّتاً ... ولو كان في الأموات تحت النصائب )
( دعته لألقى الرُّبَ عند انتفاضِه ... ولو كان تحت الراسيات الرواسب )
فلما ابتنى منها عجز عنها فقال
( يا لهفَ نفسي على نَعْطٍ فُجِعْتُ به ... حين التقى الرَّكَبُ المحلوقُ والرَّكَبُ )
وقال جرير
( وتقول ظبيةُ إِذ رأتك محوقِلاً ... حَوقَ الحمار من الخبال الخابل )
( إنَّ البليَّة وهْي كلُّ بليةٍ ... شيخٌ يُعَلّل عِرسَه بالباطل )
( لو قد عَلقتِ من المهاجر سُلَّما ... لنجوتِ منه بالقضاء الفاصِلِ )
قال فنشزت منه ونافرته إلى المهاجر وبلغه قول جرير فقال المهاجر لو أتتني بالملائكة معها لقضيت للفرزدق عليها

شعره في ابنته مكية وأمها الزنجية
قال وكان للفرزدق ابنة يقال لها مكية وكانت زنجية وكان إذا حمي الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقول

( ذا كمْ إذاً ما كنتُ ذا محميَّهٍْ ... بدارِميٍّ أمُّه ضَبِّيهْ )
( صمحمح يُكنَى أبا مكِّية ... )
وقال في أمها
( ويا ربَّ خوْدٍ من بنات الزّنجِ ... تحمل تنُّوراً شديدَ الوهْجِ )
( أقعبَ مثْلَ القدحِ الخَلَنج ... يزداد طيباً عند طول الهرجِ )
( مَخَجْتُها بالأير أيَّ مخجِ ... )
فقالت له النوار ريحها مثل ريحك
وقال في أم مكية يخاطب النوار
( فإن يكُ خالها من آل كسرى ... فكِسرى كان خيراً من عِقال )
( وأكثرَ جزيةً تُهدَى إليه ... وأصبرَ عند مختِلف العوالي )
قال وكانت أم النوار خراسانية فقال لها في أم مكية
( أغرك منها أُدْمَةٌ عربيّةٌ ... علت لونَها إِن البِجَادِيَّ أحمرُ )

يمدح سعيد بن العاص فيحقد عليه مروان
حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال
دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وهو والي المدينة لمعاوية فأنشده
( ترى الغرّ الجحاجِحَ من قريش ... إذا ما الخطب في الحدثان غالا )
( وقُوفاً ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا )
وعنده كعب بن جعيل فلما فرغ من إنشاده قال كعب هذه والله رؤياي البارحة رأيت كأن ابن مرة في نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي

خوفا منه فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال لم ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك
( قِياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا )
فقال له يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن فحقد عليه مروان ذلك ولم تطل الأيام حتى عزل سعيد وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال قصيدته التي قال فيها
( هما دَلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضَّ باز أقتمُ الريش كاسرُهْ )
( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أخيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذره )
( فقلت ارفعا الأمراسَ لا يشعروا بنا ... وأقبلت في أعقاب ليل أبادره )
( أبارد بوابين لم يشعروا بنا ... وأحمرَ من ساجٍ تلُوح مسامره )
فقال له مروان أتقول هذا بين أزواج رسول الله اخرج عن المدينة فذلك قول جرير
( تدلَّيتَ تزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَّرت عن باع الندى والمكارم )
أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام قال

خبر آخر في مدحه سعيدا
دخل الفرزدق المدينة هاربا من زياد وعليها سعيد بن العاص بن أمية

ابن عبد شمس أميرا من قبل معاوية فدخل على سعيد ومثل بين يديه وهو معتم وفي مجلس سعيد الحطيئة وكعب بن جعيل التغلبي وصاح الفرزدق أصلح الله الأمير أنا عائذ بالله وبك أنا رجل من تميم ثم أحد بني دارم أنا الفرزدق بن غالب قال فأطرق سعيد مليا فلم يجبه فقال الفرزدق رجل لم يصب دما حراما ولا مالا حراما فقال سعيد إن كنت كذلك فقد أمنت فأنشده
( إليك فررتُ مِنك ومن زيادٍ ... ولم أحسب دمي لكما حَلاَلا )
( ولكنِّي هجوتُ وقد هجاني ... معاشرُ قد رضخْتُ لهم سِجالا )
( فإن يكن الهجاء أحلَّ قتلي ... فقد قلنا لشاعرهم وقالا )
( أرِقتُ فلم أنم ليلاً طويلا ... أراقب هل أرى النَّسرينِ زالا )
( عليك بني أمية فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حِبالا )
( فإنّ بني أمية في قريش ... بَنَوْا لبيوتهم عَمَداً طوالا )
( ترى الغرَّ الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا )
( قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنّهمُ يرون به هلالا )
قال فلما قال هذا البيت قال الحطيئة لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنت تعلل به منذ اليوم فقال كعب بن جعيل فضلته على نفسك فلا تفضله على غيرك قال بلى والله إنه ليفضلني وغيره يا غلام أدركت من قبلك وسبقت من بعدك ولئن طال عمرك لتبرزن

ثم عبث الحطيئة بالفرزدق فقال يا غلام أنجدت أمك قال لا بل أبي أراد الحطيئة إن كانت أمك أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر فقال الفرزدق لا بل أبي فوجده لقنا
أخبرني ابن دريد قال قال لنا أبو حاتم قال الأصمعي
ومن عبثات الفرزدق انه لقي مخنثا فقال له من أين راحت عمتنا فقال له المخنث نفاها الأغر بن عبد العزيز يريد قول جرير
( نفاك الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقُّك تُنْفَى من المسجدِ )

جرير يقر له بالغلبة ويلقبه بالعزيز
أخبرنا ابن دريد عن الرياشي عن النضر بن شميل قال قال جرير
ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته أي قلبته إلا قوله
( ليس الكِرامُ بناحليك أباهم ... حتى يرد إلى عطية تعتل )
فإني لا أدري كيف أقول فيها
وأخبرني ابن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن عوانة بن الحكم قال
بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده عمر جواب قوله

( يا تَيْمَ تيم عديٍّ لا أبا لكم ... لا يقذفنَّكُم في سَوأَةٍ عمرُ )
( أحين صرْتُ سِماماً يا بني لجأٍ ... وخاطرَتْ بيَ عن أحسابها مُضرُ )
فقال عمر جواب هذا
( لقد كذبتَ وشرُّ القولِ أكذبُهُ ... ما خاطرَتْ بك عن أحسابها مُضَر )
( أَلسْتَ نَزوَة خوّارٍ على أمة ... لا يسبق الحلباتِ اللؤمُ والخورُ )
وقد كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة فقال جرير لما سمعها قبحا لك يا بن لجأ أهذا شعرك كذبت والله ولو مت هذا شعر حنظلي هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس عمر فما رد جوابا
وخرج غنيم بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق فضحك وقال إيه يا بن أبي الرقراق وإن عندك لخبرا قلت خزي أخوك ابن قتب فحدثته فضحك حتى فحص برجليه ثم قال في ساعته
( وما أنت إن قُرْمَا تًمِيم تساميا ... أخا التّيم إلا كالوشِيظة في العَظم )
( فلو كنت مولى الظلم أو في ثِيابِه ... ظلمتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظُّلْم )
فما بلغ هذان البيتان جريرا قال ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله
( إنْ قرْمَا تميم تساميا ... )

يغتصب جيد الشعراء
أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي قال
كان الفرزدق مهيبا تخافه الشعراء فمر يوما بالشمردل وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله
( وما بين مَنْ لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غيرُ حزّ الغَلاصم )
قال والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه على كره مني فهو في قصيدة الفرزدق التي أولها قوله
( تحنّ بزورّاءِ المدينة ناقَتِي ... )
قال وكان الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر
أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال بينما أنا بكاظمة وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها
( أحينَ أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدْت تجريدَ اليمَانِي من الغِمد )
إذا راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن وجهه وقال يا عبيد اضممها إليك يعني راويته وهو عبيد أخو بني ربيعة بن حنظلة فقال ذو الرمة نشدتك الله يا أبا فراس إن

فعلت قال دع ذا عنك فانتحلها في قصيدته وهي أربعة أبيات
( أحين أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدت اليمانِي من الغِمدِ )
( ومدت بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ ... وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد )
( ومن آل يربوع زُهَاءٌ كأنه ... دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد )
( وكنّا إذا الجبّارًُ صَعَّرَ خدَّه ... ضربناه فوق الأُنثَيَيْن على الكَرْد )
أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
اجتمع الفرزدق وجرير وكثير وابن الرقاع عند سليمان بن عبد الملك فقال أنشدونا من فخركم شيئا حسنا فبدرهم الفرزدق فقال
( وما قوم إذا العلماء عَدّت ... عروقَ الأكرمين إلى الترابِ )
( بمختلفين إن فضَّلتمونا ... عليهم في القَديم ولا غِضاب )
( ولو رَفع السحابُ إليه قوماً ... عَلَوْنا في السماء إلى السحاب )
فقال سليمان لا تنطقوا فو الله ما ترك لكم مقالا
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن عمران الضبي عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال
غاب الفرزدق فكتبت النوار تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم

( كتبتم عليها أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيتِ الله بل تظلمونها )
( فإلاّ تعدُّوا أنها من نسائكم ... فإنّ ابنَ ليلى والدُ لا يشينها )
( وإنّ لها أعمامَ صدق وإخوة ... وشيخاً إذا شاءت تَنَمّر دونها )

كان ابنه لبطة عاقا به
قال وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منهم لبطة والآخر حبطة والثالث سبطة وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق
( أإن أُرعِشتْ كفَّا أبيك وأصبَحتْ ... يداك يَدَيْ ليثٍ فإنك جادِبُه )
( إذا غالَبَ ابنٌ بالشباب أباً له ... كبيراً فإِن الله لا بدّ غالبُه )
( رأيتُ تباشيرَ العقوق هي التي ... من ابن امرئ ما إن يزال يُعاتبُه )
( ولما رآني قد كبِرتُ وأنني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربُه )
( أصاخ لغربان النَجيِّ وإنه ... لأزورُ عن بعض المقالة جانبُه )
قال أبو عبيدة في -
كتاب النقائض
- قال رؤبة بن العجاج حج سليمان ابن عبد الملك وحجت معه الشعراء فمر بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة فقعد سليمان وعنده عبد الله بن حسن بن حسن عليهم السلام وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلسا فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن حسن قم فاضرب عنقه

فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده وبعض الغل فقال له سليمان والله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك وجعل يدفع الأسرى إلى الوجوه فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسير فدست إليه القيسية سهما كليلا فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك سليمان وضحك الناس معه
وقيل إن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال اقتله به فقال لا بل أقتله بسيف مجاشع واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا فقال سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها وأولها

جرير يهجوه وهو يجيب
( ألا حيِّ ربعَ المنزل المُتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذ حلت به أمُّ سالمِ ) منها
( ألم تشهد الجَوْنَيْن والشِّعب ذا الغَضَى ... وكَرَّات قيسٍ يومَ دَيْر الجماجم )
( تُحرِّضُ يا بنَ القيْن قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يومِ الأراقم )

( بسيفِ أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالم )
( ضربتَ به عند الإِمام فأُرعِشتْ ... يداك وقالوا مُحدثٌ غيرُ صارمِ )
فقال الفرزدق يجيب جريرا عن قوله
( وهل ضربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكم ... أباً عن كُليْب أو أباً مثلَ دارمِ )
( كذاك سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحياناً مَناطَ التمائمِ )
( ولا نقتلُ الأسرَى ولكن نفكُّهُم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم )
وقال يعرض بسليمان ويعيره نبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس هم أخوال سليمان
( فإِن يكُ سيفٌ خان أو قَدَرٌ أبَى ... بتعجيلِ نفسٍ حتفُها غير شاهد )
( فسيفُ بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدَيْ ورَقاءَ عن رأسِ خالد )
( كذاك سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطع أحيانا مَناط القلائدِ )
وأولها
( تباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ... ضربتُ بها بين الطلا والمحارِد )
( ولو شئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنقه ... إلى عَلَق بين الحِجَابَيْن جامدِ )
وقيل إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الاسير فوهبه له فأعتقه وقال الأبيات التي منها

( ولا نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم )
ثم أقبل على راويته فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري
فقال
( بسيفِ أبي رَغوانَ سيفِ مجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالمِ )
( ضربتَ به عند الإِمام فأُرعِشت ... يداك وقالوا مُحدَثٌ غير صارم )
فما لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق
وقال أيضا في ذلك
( أَيعجبُ النَّاس أن أضحكتُ خيرَهُم ... خليفةَ الله يُستسقَى به المطرُ )
( فما نبا السيفُ عن جُبْنٍ وعن دَهَش ... عند الإمامِ ولكن أُخِّر القدرُ )
( ولو ضربتُ به عمداً مُقلَّدَهُ ... لخرَّ جثمانُه ما فوقه شَعرُ )
( وما يُقدَّم نفساً قبل مِيتَتِها ... جمعُ اليدين ولا الصَّمْصَامة الذكر )

متفرقات من شعره
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال
هجا الفرزدق خالدا القسري وذكر المبارك النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك وكتب خالد إلى مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله
( وأهلكتَ مالَ اللَّهِ في غير حقِّه ... على نهرك المشؤوم غير المُبَارك )

الأبيات فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال ائتني بالفرزدق فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة فقال الفرزدق ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت بني حنيفة فلما قيل لمالك هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا فلما أدخل عليه قال
( أقول لنفسي حين غصَّت بريقها ... ألا ليتَ شعري مالها عند مالكِ )
( لها عنده أن يَرجِعَ اللَّهُ رُوحَها ... إليها وتنجو من جميع المهالك )
( وأنت ابنُ حَبَّارَيْ ربيعةَ أدركت ... بك الشمس والخضراءَ ذاتَ الحبائك )
فسكن مالك وأمر به إلى السجن فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي
( فلو كنتَ قَيْسياًّ إذاً ما حبستنِي ... ولكن زنجيا غليظا مشافره )
( متت له بالرحم بيني وبينه ... فألفيتُه مني بَعيداً أواصِرُه )
( وقلت امرؤ من آل ضبةَ فاعتزى ... لغيرهم لونُ استِه ومَحاجِرُه )
( فسوف يرى النوبيّ ما اجترحَت له ... يَدَاه إذا ما الشِّعر عَيَّتْ نَوَافره )
( ستُلقِي عليك الخنفساء إذا فست ... عليك من الشعر الذي أنت حاذِرُه )
( وتأتي ابنَ زُبِّ الخنفساء قصيدةٌ ... تكون له مني عَذاباً يُباشِره )
( تعذرتَ يا بن الخنفساء ولم تكن ... لتُقْبَلَ لابْنِ الخنفساء معاذرُه )
( فإنكما يا بني يسار نزوْتما ... على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره )
( لزِنجيَّة بظراءَ شقق بظرَها ... زحيرٌ بأيوبٍ شديدٌ زوافره )

ثم مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا فأنشدني يونس في كلمة له طويلة
( يا مالِ هل هو مُهلكي ما لم أقل ... وليُعلَمَنَّ من القصائد قيلي )
( يا مالِ هل لك في كبير قد أتَتْ ... تسعون فوق يديه غير قليل )
( فتجيرَ ناصِيَتي وتُفْرجَ كُربتِي ... عني وتطلقَ لي يداك كُبُولِي )
( ولقد بنى لكم المُعَلَّى ذِروةً ... رَفعتْ بناءك في أشَمَّ طويل )
( والخيلُ تعلم في جَذِيمة أنها ... تَرْدَى بكل سَميدَعٍ بهلُول )
( فاسقُوا فقد ملأ المعلّى حوضَكم ... بذَنوبِ مُلتَهِم الرَّباب سجيل )
وقال يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع
( وقِرْمٍ بين أولاد المُعلّى ... وأولاد المَسامَعةِ الكرامِ )
( تخمَّط في ربيعة بين بكر ... وعبد القيس في الحسب اللُّهام )
فلما لم تنفعه مديحة مالك قال يمدح هشام بن عبد الملك ويعتذر إليه
( ألِكْني إلى رَاعِي البريَّةِ والذي ... له العَدلُ في الأرض العريضة نوّرا )
( فإن تُنكروا شعرِي إذاً خرجت له ... بوادرُ لو يُرمَى بها لتَفَقَّرا )

( ثبير ولو مست حِرَاء لحرّكت ... به الراسيات الصُّمَّ حتى تكوّرا )
( إذا قال غاوِ من مَعَدٍّ قصيدةً ... بها حَرَبٌ كانت وبالاً مُدَّ مرّا )
( أينطِقُها غيري وأُرمَى بجُرمها ... فكيف أَلوم الدّهرَ أن يتغيّرا )
( لئن صَبَرتْ نفسِي لقد أُمِرت به ... وخيرُ عباد الله من كان أصبرا )
( وكنت ابنَ أحْذارٍ ولو كنتُ خائفاً ... لكنت من العصماء في الطود أحذرا )
( ولكنْ أتوْني آمناً لا أخافهم ... نهاراً وكان اللَّهُ ما شاء قدَّراً )
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى قال
قال الفرزدق لابنه لبطة وهو محبوس اشخص إلى هشام وامدحه بقصيدة وقال استعن بالقيسية ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم سيغضبون لك وقال
( بكت عينُ محزونٍ ففاض سجامُها ... وطالت ليالي ساهر لا ينامُها )
( فإن تبك لا تبك المصيبات إذ أتَى ... بها الدهر والأيام جَمٌّ خِصامُها )
( ولكنما تبكي تَهتّكَ خالد ... محارمَ مِنّا لا يحلل حَرامُها )
( فقُل لبني مروان ما بال ذمَّة ... وحرمَةِ ... حَقٍّ ليس يُرْعى ذمامُها )
( أنُقْتَل فيكم أن قَتْلنا عدوَّكُم ... على دينكم والحرب باقٍ قتامُها )
( أتاك بقتل ابن المُهَلَّب خالدُ ... وفينا بَقيّاتُ الهدى وإمامها )

( فغيِّر أمير المؤمنين فإنها ... يمانيةٌ حَمْقاءُ وأنت هشامُها )
( أرى مُضَرَ المِضْرين قد ذَلَّ نصرُها ... ولكَنْ عسى أن لا يَذِلّ شآمُها )
( فَمنْ مُبلغ بالشام قيساً وخِندِفاً ... أحاديثَ ما يَشْفَى ببرءٍ سَقامُها )
( أحاديثَ منا نشتكيها إليهمُ ... ومظلمةً يغشى الوجوهَ قتامُها )
( فإن مَنْ بها لم يُنكرِ الضّيمَ منهمُ ... فيغضبَ منها كهلُها وغلامُها )
( نمَتْ مثلُها من مثلِهم وتُنكِّلوا ... فيعلمَ أهلُ الجَوْر كيف انتقامُها )
( بغلباءَ من جُمهورنا مضرَّيةٍ ... يُزايل فيها أذرعَ القوم هامُها )
( وبيْضٍ على هام الرجال كأنّها ... كواكب يحلوها لسار ظلامُها )
( غضِبنا لكم يا آل مروان فاغضبوا ... عسى أنَّ أرواحا يسوغُ طَعامها )
( ولا تقطعوا الأرحامَ منا فإنها ... ذُنوبٌ من الأعمال يُخشى أثامُها )
( ألم تكُ في الأرحام منّا ومنكمُ ... حواجزُ أيام عزيزٍ مَرامُها )
( فترعى قريشٌ من تميمٍ قرابةً ... ونَجْزي بأيامٍ كريمٍ مَقامُها )
( لقد علمَتْ أبناءُ خِندف أننا ... ذُراها وأنا عزُّهَا وسَنامها )
( وقد علم الأحياء من كل موطن ... إذا عُدَّت الأحياء أنّا كرامها )
( وأنّا إذا الحربُ العَوانُ تضرَّمت ... نَلِيها إذا ما الحرب شُبَّ ضِرامُها )
( قِوامُ قُوَى الإسلام والأمرِ كلِّه ... وهل طاعة إلا تميم قوامها )

( تميمُ التي تخشى معدٌّ وغيرُها ... إذا ما أبى أن يستقيم همامها )
( إلى الله تشكو عزَّنا الأرضُ فوقَها ... وتعلم أنا ثِقْلُها وغَرامها )
( شكتنا إلى الله العزيز فأسمعتْ ... قريباً وأعيا مَنْ سِواه كلامُها )
( نَصولُ بحول الله في الأمرِ كلِّه ... إذا خِيف من مصدوعةٍ ما التآمها )
فأعانته القيسية وقالوا كلما كان ناب من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد وقال الفرزدق أبياتا كتب بها إلى سعيد بن الوليد الأبرش وكلم له هشاما
( إلى الأَبرشِ الكلبيّ أسندتُ حاجةً ... تواكلَها حَيّا تميمٍ ووائلِ )
( على حين أن زلت بي النعل زّلَّةً ... فَأَخلف ظنّي كُلُّ حافٍ وناعل )
( فدونكها يا بن الوليد فإنها ... مفضِّلة أصحابَها في المحافل )
( ودونكها يا بن الوليد فقم بها ... قيام امرئ في قومه غيرِ خامل )
فكلم هشاما وأمر بتخليته فقال يمدح الأبرش
( لقد وثب الكلبيُّ وَثبةَ حازمٍ ... إلى خير خلقِ الله نفساً وعُنصرا )
( إلى خير أبناء الخليفة لم يجد ... لحاجته من دونها مُتَأخّرا )
( أبَى حِلْفُ كلبٍ في تميمٍ وعقدُها ... كما سنَّت الاباء أن يتغيَّرا )
وكان هذا الحلف حلفا قديما بين تميم وكلب في الجاهلية وذلك قول جرير بن الخطفى في الحلف
( تميمٌ إلى كلبٍ وكلبٌ إِليهمُ ... أحقُّ وأدنى من صُداءَ وحمِيرَا )

( أشدُّ حبالٍ بين حيَّين مِرّةً ... حبالٌ أُمِرَّت من تميمٍ ومن كلبِ )
( وليس قُضاعيُّ لدينا بخائفٍ ... ولو أصبحت تغلي القدورُ من الحرب )
وقال أيضا
( ألم تَرَ قيساً قَيسَ عَيلانَ شمَّرتْ ... لنَصرِي وحاطتني هناك قُرومُها )
( فقد حالفتْ قيسٌ على النأي كلُّهم ... تميماً فهم منها ومنها تَميمُهاً )
( وعادتْ عَدوّي إن قيساً لأسرتي ... وقومي إذا ما الناس عُدَّ صميمُها )

خبره مع الشرطيين
أخبرني ابن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
بينما الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ إذ مر به رجلان من قومه كانا في الشرطة وهما راكبان فقال أحدهما لصاحبه هل لك أن أفزعه وكان جبانا فحركا دابتيهما نحوه فأدبر موليا فعثر في طرف برده فشقه وانقطع شسع نعله وانصرفا عنه وعرف أنهما هزئا منه فقال
( لقد خار إذ يُجري عليّ حماَره ... ضِرارُ الخنا والعنبريُّ بن أخوقَا )
( وما كنتُ لو خَوَّفتماني كلاكما ... بأُمَّيكُما عُرْيَانَتَيْن لأفرَقا )
( ولكنما خَوّفتُماني بخادر ... شَتيم إذا ما صادف القِرن مزَّقا )

نزل بدار ليلى الأخيلية والتقى توبة بن الحمير
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا القحذمي عن بعض ولد قتيبة بن مسلم عن ابن زالان المازني قال حدثني الفرزدق قال
لما طردني زياد أتيت المدينة وعليها مروان بن الحكم فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال فليس يكلمه أحد ولا يجالسه أحد ولم أكن عرفت خبره فأرسل إلي مروان فقال أتدري ما مثلك حديث تحدث به العرب أن ضبعا مرت بحي قوم وقد رحلوا فوجدت مرآة فنظرت وجهها فيها فلما نظرت قبح وجهها ألقتها وقالت من شر ما أطرحك أهلك ولكن من شر ما أطرحك أميرك فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام قال فخرجت أريد اليمن حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي وهو طريق اليمن من البصرة فإذا رجل مقبل فقلت من أين أوضع الراكب قال من البصرة قلت فما الخبر وراءك قال أتانا أن زيادا مات بالكوفة قال فنزلت عن راحلتي فسجدت وقلت لو رجعت فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان بن الحكم فقلت
( وقفت بأعلى ذي قسِيٍّ مطيّتي ... أمثِّل في مروانَ وابنِ زيادِ )
( فقلت عُبّيْد الله خَيرُهما لنا ... وأدناهما من رأفةٍ وَسَداد )
ومضيت لوجهي حتى وطئت بلاد بني عقيل فوردت ما بين مياههم فإذا بيت عظيم وإذا فيه امرأة سافرة لم أر كحسنها وهيئتها قط فدنوت فقالت أتأذنين في الظل قالت انزل فلك الظل والقرى فأنخت وجلست إلى قال فدعت جارية لها سوداء كالراعية فقلت ألطفيه شيئا واسعي إليها الراعي فردي علي شاة فاذبحيها له وأخرجت إلي تمرا وزبدا قال

وحادثتها فو الله ما رأيت مثلها قط ما أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه قال فأعجبني المجلس والحديث إذ أقبل رجل بين بردين فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلس وأقبلت عليه بوجهها وحديثها فدخلني من ذلك غيظ فقلت للحين هل لك في الصراع فقال سوأة لك إن الرجل لا يصارع ضيفه قال فألححت عليه فقالت له ما عليك لو لاعبت ابن عمك فقام وقمت فلما رمى ببرده إذا خلق عجيب فقلت هلكت ورب الكعبة فقبض على يدي ثم اختلجني إليه فصرت في صدره ثم حملني قال فو الله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كبدي وجلس على صدري فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة قال وثرت إلى جملي فقال أنشدك الله فقالت المرأة عافاك الله الظل والقرى فقلت أخزى الله ظلكم وقراكم ومضيت فبينا أسير إذ لحقني الفتى على نجيب يجنب بختيا برحله وزمامه وكان رحله من أحسن الرحال فقال يا هذا والله ما سرني ما كان وقد أراك أبدعت أي كلت ركابك فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه فقد والله أعطيت به مائتي دينار قلت نعم آخذه ولكن أخبرني من أنت ومن هذه المرأة قال أنا توبة بن الحمير وتلك ليلى الأخيلية

خبر آخر عن لقائه بليلى وتوبة
وقد أخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال حدثني أحمد بن عبيد عن الأصمعي قال
كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها فجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه ودخل إليها فأقبلت عليه بحديثها وتركت الفرزدق فغاظه ذلك فقال للرجل أتصارعني قال ذلك إليك فقام إليه الرجل فلم يلبث أن أخذ الفرزدق مثل الكرة فصرعه وجلس على صدره فضرط الفرزدق فوثب عنه الرجل خجلا وقال له الرجل يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك والله ما أردت بك ما جرى فقال ويحك ما بي أن صرعتني ولكن كأني بابن الأتأن جرير وقد بلغه خبري هذا فقال يهجوني
( جلستَ إلى ليلى لتحظَى بقُربها ... فخانك دُبْرٌ لا يزال يَخونُ )
( فلو كنتَ ذا حزمٍ شددتَ وكاءَها ... كما شدَّ خَرْتاً للدِّلاص قُيونُ )
قالوا فو الله ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين
يومه كيوم امرئ القيس بدارة جلجل
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن زالان التميمي راوية

الفرزدق أن الفرزدق قال أصابنا بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية فظننت قوما قد خرجوا لنزهة فقلت خليق أن تكون معهم سفرة وشراب فقصصت أثرهم حتى وقفت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأغذذت السير نحو الغدير فإذا نسوة مستنقعات في الماء فقلت لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل وانصرفت مستحييا منهن فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن فقلن بالله إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل فقلت إن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة فطلبها زمانا فلم يصل إليها وكان في طلب غرة من أهلها ليزورها فلم يقض له حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل وذلك أن الحي احتملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء فإذا فتيات وفيهن عنيزة فلما وردن الغدير قلن لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال فنزلن إليه ونحين العبيد عنهن ثم تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة فأتاهن امرؤ القيس

محتالا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل فأخذ ثيابهن فجمعها ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن فجمعها ووضعها على صدره وقال لهن كما أقول لكن والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة قال الفرزدق فقالت إحداهن وكانت أمجنهن ذلك كان عاشقا لابنة عمه أفعاشق أنت لبعضنا قال لا والله ما أعشق منكن واحدة ولكن أشتهيكن قال فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما تحب قال الفرزدق في حديث امرئ القيس فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار ثم خشين أن يقصرن دون المنزل الذي أردنه فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فأخذته فلبسته ثم تتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها فقال دعينا منك فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة فوضع لها ثوبها فأخذته وأقبلن عليه يلمنه ويعذلنه ويقلن عريتنا وحبستنا وجوعتنا قال فإن نحرت لكن مطيتي أتأكلن منها قلن نعم فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا فأجج نارا عظيمة ثم جعل يقطع لهن من سنامها وأطايبها وكبدها فيلقيها على الجمر فيأكلن ويأكل معهن ويشرب من ركوة كانت معه ويغنيهن وينبذ إلى العبيد والخدم من الكباب حتى شبعن وطربن فلما أراد الرحيل قالت إحداهن أنا أحمل طنفسته وقالت الأخرى أنا أحمل رحله وقالت الأخرى أنا أحمل حشيته

وأنساعه فتقسمن متاع راحلته بينهن وبقيت عنيزة لم يحملها شيئا فقال لها امرؤ القيس يا بنة الكرام لا بد لك أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي فحملته على غارب بعيرها فكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل فلذلك قوله
( تقول وقد مال الغَبيطُ بنا معاً ... عقرت َ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ )
فلما فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة قاتلك الله ما أحسن حديثك يا فتى وأظرفك فمن أنت قال قلت من مضر قالت ومن أيها فقلت من تميم قالت ومن أيها قلت إلى ههنا انتهى الكلام قالت إخالك والله الفرزدق قلت الفرزدق شاعر وأنا راوية قالت دعنا من توريتك على نسبك أسألك بالله أنت هو قال أنا هو والله قالت فإن كنت أنت هو فلا أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا قلت أجل قالت فاصرف وجهك عنا ساعة وهمست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه فغططن في الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفيها طينا وجعلن يتعادين نحوي فضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وملأن عيني وثيابي فوقعت على وجهي فصرت مشغولا بعيني وما فيها وشددن على ثيابهن فأخذنها وركبت الماجنة بغلتي وتركتني منبطحا بأسوأ حال وأخزاها وهي تقول زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا فما زلت من ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول لهن

وقلن قل له تقول لك أخواتك طلبت منا ما لم يمكننا وقد وجهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك وهذا كسر درهم لحمامك إذا أصبحت فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول ما منيت بمثلهن

يهجو مسكينا الدارمي
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم الحراني قال حدثني الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال
لما مات زياد رثاه مسكين الدارمي فقال الفرزدق
( أمسكينُ أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلال دمعُها إذ تحدَّرَا )
( بكيتَ امرأ من آل مَيْسانَ كافراً ... ككِسرى على عِدَّانِه أو كقيصرا )
( أقول له لمّا أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصَّريمة أعفرا )
هجا ومدح آل المهلب
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم الحراني قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال
لما أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة لقي الفرزدق جريرا فقال

له يا أبا فراس هل لك أن تكلم المهلب حتى يضع عني البحث وأعطيك ألف درهم فكلم المهلب فأجابه فلامه جذيع رجل من عشيرته وشكا ذلك إلى خيرة امرأة المهلب وقال لها لا يزال الآن الرجل يجيء فيسأل في عشيرته وصديقه فلامته خيرة بنت ضمرة القشيرية فقال المهلب إنما اشتريت عرضي منه فبلغ ذلك الفرزدق فقال يهجو جذيعا
( إن تَبْن دَارَكَ يا جُذَيع فما بنى ... لك يا جذيع أبوك من بُنْيانِ )
( وابوك ملتزم السفينة عاقدٌ ... خُصْيَيْه فوق بنائق التُّبّان )
( ويظلّ يدفَع باستِه متقاعِساً ... في البحر معتمدا على السُّكّان )
( لا تحسبنّ دراهماً جمعتها ... تمحو مَخازِيَك التي بِعُمان )
وقال يهجو خيرة
( ألاَ قشَر الإلهُ بني قَشُيرٍ ... كقَشْر عصا المنقِّح من مُعَال )
( أرى رهطاً لخيرة لم يَؤُوبوا ... بسهم في اليمين ولا الشمال )
( إذا رُهِزَت رأيت بني قُشَيْرٍ ... من الخُيَلاء مُنتفِشي السِّبالِ )
فغضب بنو المهلب لما هجا جذيعا وخيرة فنالوا منه فهجاهم فقال
( وكائِن للمهلّب من نَسِيبٍ ... يُرى بلَبانه أثرُ الزِّيار )
( بِخارَكَ لم يقُد فرساً ولكن ... يقود السّاج بالمسَد المغار )

( عمي بالتَّنَائف حين يُضحى ... دَليلَ اللّيل في اللجج الغِمار )
( وما لِلَّه يسجُد إذ يصلّي ... ولكن يسجدون لكل نارِ )
فلما ولي يزيد بن المهلب خراسان والعراق بعد أبيه ولاه سليمان بن عبد الملك خاف الفرزدق من بني المهلب فقال يمدحهم
( فلأَ مدحنَّ بنِي المهلَّب مِدحةً ... غَرّاء قاهرة على الأشعارِ )
( مثل النجوم أمامها قَمْراؤها ... تجلو العَمى وتضيء ليلَ السَّاري )
( ورِثوا الطّعان عن المهلّب والقِرى ... وخلائقاً كتدفُّقِ الأنهار )
( كان المهلّب للعراق وقايةً ... وحَيَا الرَّبيعِ ومَعقِل الفُرَّار )
( وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتَهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار )
( مازال مذ شد الإزار بكفه ... ودنا فأدرك خمسة الأشبار )
( أيزيد إنك للمهلب أدركت ... كفاك خير خلائق الأخيار )
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
لما قدم يزيد بن المهلب واسطا قال لأمية بن الجعد وكان صديق الفرزدق إني لأحب أن تأتيني بالفرزدق فقال للفرزدق ماذا فاتك من يزيد أعظم الناس عفوا وأسخى الناس كفا قال صدقت ولكن أخشى أن آتيه فأجد العمانية ببابه فيقوم إلي رجل منهم فيقول هذا الفرزدق الذي هجانا فيضرب عنقي فيبعث إليه يزيد فيضرب عنقه ويبعث إلى أهلي

ديتي فإذا يزيد قد صار أوفى العرب وإذا الفرزدق فيما بين ذلك قد ذهب قال لا والله لا أفعل فأخبر يزيد بما قال فقال أما إذ قد وقع هذا بنفسه فدعه لعنه الله

خبره مع الماجن الذي أراده
قال ابن حبيب وحدثنا يعقوب بن محمد الزهري عن أبيه عن جده قال
دخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة يتبردون فيها ومعهم ابن أبي علقمة الماجن فجعل يتفلت إلى الفرزدق فيقول دعوني أنكحه حتى لا يهجونا أبدا وكان الفرزدق من أجبن الناس فجعل يستغيث ويقول ويلكم لا يمس جلده جلدي فيبلغ ذلك جريرا فيوجب علي أنه قد كان منه الذي يقول فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه
أخبرني عبيد الله قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق فقدمها وكان من أشد خلق الله عصبية على نوار فقال لبطة بن الفرزدق فلبس أبي من صالح ثيابه وخرج يريد السلام عليه فقلت له يا أبت إن هذا الرجل يماني وفيه من العصبية ما قد علمت فلو دخلت إليه فأنشدته مدائحك أهل اليمن لعل الله أن يأتيك منه بخير فإنك قد كبرت على الرحلة فجعل لا يرد علي شيئا حتى دفعنا إلى البواب فأذن له فدخل وسلم فاستجلسه ثم قال إيه يا أبا فراس أنشدنا مما أحدثت فأنشدته
( يختلف الناسُ ما لم نجتمْع لهمُ ... ولا خلاف إذا ما أجمعت مُضرُ )
( فينا الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها ... فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصر )

( ولا نحالف غيرَ الله من أحد ... إلا السيوفَ إذا ما اغرَوْرَق النظر )
( ومن يَملِْ يمل المأثورُ قُلَّتَه ... بحيث يَلقى حِفَافَيْ رأسه الشعر )
( أما الملوكُ فإنا لا نلين لهم ... حتى يلينَ لضرس الماضِغ الحجرُ )
ثم قام فخرجنا قلت أهكذا أوصيتك قال اسكت لا أم لك فما كنت قط أملأ لقلبه مني الساعة

يفحم المنذر بن الجارود
أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب عن موسى بن طلحة قال
كان الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع وفيها المنذر بن الجارود العبدي فقال المنذر من الذي يقول
( وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقُّ الخيلِ بالركضِ المعارُ )
فقال الفرزدق يا أبا الحكم هو الذي يقول
( أشاربُ قهوةٍ وخدينُ زيرٍ ... وعَبْدي لفَسْوَته بُخار )
( وجَدنا الخيلَ في أبناء بكرٍ ... وأفضلُ خيلهم خشبٌ وقار )
قال فخجل المنذر حتى ما قدر على الكلام
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال

دخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء فأنشأ يقول
( ما حملّتْ ناقةٌ من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفَّتْنِي على الكُورِ )
( أعزَّ قوماً وأوفى عند مكرمةٍ ... لمعْظَمٍ من دماء القوم مهجورِ )
فقال له إيه فقال
( إِلاّ قُريشاً فإنّ الله فضَّلها ... على البريّةِ بالإسلام والخيرِ )
( تلقى وجوهَ بني مرْوانَ تحسبُها ... عند اللقاء مشُوفاتِ الدَّنانير )
ففضله عليهم ووصله

يمدح عيسى بن حصيلة لأنه أعانه على الفرار
قال ابن حبيب وكان الفرزدق يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم فأرفث بهم فاستعدوا عليه زيادا فحدثني جابر بن جندل قال فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر بن خالد السلمي ثم من بني بهز فقال يا أبا حصيلة إن هذا الرجل قد أخافني وقد لفظني جميع من كنت أرجو قال فمرحبا بك يا أبا فراس فكان عنده ليالي ثم قال إني أريد أن ألحق بالشام قال إن أقمت ففي الرحب والسعة وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها وألف درهم فركب الناقة وخرج من عنده ليلا

فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث فقال يمدحه
( كفاني بها البَهْزيُّ حُملانَ منْ أبى ... من الناس والجاني تُخاف جرائمُهْ )
( فتى الجودِ عيسى والمكارمِ والعُلا ... إذا المال لم ينفَع بخيلاً كرائمه )
( ومن كان يا عيسى يُؤنّب ضَيْفَه ... فَضَيْفُك يا عيسى هنيءٌ مطاعمُه )
( وقال تَعلَّمْ أنها أرحبِيَّةٌ ... وأنَّ لك الليلَ أنت جاشِمه )
( فأصْبَحْتُ والملقى ورائي وحنبل ... وما صدرت حتى علا النجم عاتمه )
( تزاور في آل الحقيق كأنها ... ظليمٌ تباري جُنح ليل نعائمه )
( رأت دون عينيها ثويَّة فانجلى ... لها الصبح عن صَعْلٍ أسيلٍ مخاطمه )
وقال
( تدارَكني أسبابُ عيسى من الرَّدَى ... ومن يَكُ مولاه فليس بواحدِ )
( نمتْه النواصي من سُليْمٍ إلى العلا ... واعراقُ صدق بين نَصْر وخالد )
( سأٌثنِي بما أوليْتَني وأرُبُّه ... إذا القوم عدُّوا فضْلَهم في المشاهد )

فلما بلغ زيادا شخوصه أتبعه علي بن زهدم الفقيمي أحد بني مؤلة فلم يلحقه
فقال الفرزدق
( فإنك لو لاقيتَني يا بنَ زهدمٍ ... لأبت شعاعيًّا على غير تمثال )

يلجأ إلى بكر بن وائل
فأتى بكر بن وائل فجاورهم فأمن فقال
( وقد مَثلت أين المسيرُ فلم تجد ... لعَوذَتها كالحيّ بكر بن وائل )
( وسارت إلى الأجفان خمساً فأصبحت ... مكان الثريا من يد المتناول )
( وما ضرها إذ جاورت في بلادها ... بني الحصِن ما كان اختلاف القَبائل )
الحصن بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة
وهرب الفرزدق من زياد فأتى سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي ابن أمية وهو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فأمنه سعيد فبلغ الفرزدق أن زيادا قال لو أتاني أمنته وأعطيته فقال في كلمة له
( دعاني زياد للعطاءِ وَلم أكُنْ ... لآتِيَهُ ما ساق ذو حسب وَقْرا )
( وَعند زيادً لو أراد عطاءَهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهمُ فقرا )
( قعودٌ لدى الأَبواب طلاَّبُ حاجة ... عوانٍ من الحاجات أو حاجة بكرا )
( فلما خشيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا )
( نمْيتُ إلى حَرف أضرَّ بنَيِّها ... سُرَى الليل وَاستعراضُها البلد القفْرا )

فلما اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة قال
( أَلا مَنْ مبلغٌ عنّي زِياداً ... مُغلغلةً يخُبُّ بها البَريدُ )
( بأني قد فررتُ إلى سعيدٍ ... وَلا يُسْطَاعُ ما يَحْمي سعيد )
( فررتُ إليه من ليثٍ هِزبْرٍ ... تفادى عن فريسته الأُسود )
( فإن شئت انتمْيت إلى النصارى ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ اليهودُ )
( وَإن شئت انتسبت إلى فُقَيْمٍ ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ القرود )
( وَأَبغضُهم إليَّ بَنُو فُقيم ... وَلكن سوف آتي ما تُرِيد )
فأقام الفرزدق بالمدينة فكان يدخل بها على القيان فقال
( إذا شئتُ غنَّاني من العاج قاصفٌ ... على معصم ريّان لم يتخدَّدِ )
( لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِش ... ببؤس ولم تتبعْ حُمولة مُجْحد )
( وقامت تُخشيِّني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُردَيْ يمانٍ وَمُجسَد )
( فقلتُ دعيني من زياد فإنَّني ... أرى الموت وَقَّاعاً على كل مُرْصَدِ )

ملاحاة بينه وبين مسكين الدارمي
فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي بن عدس بن عبد الله بن دارم فقال
( رأَيت زيادة الإِسلام وَلّت ... جهاراً حين فارقها زِيادُ )
فبلغ ذلك الفرزدق فقال

( أمسكينُ أبكى الله عينيك إنَّما ... جرى في ضلالٍ دَمعُها فتحدَّرا )
( أتبكي امرأً من آل مَيسَان كافراً ... ككسرى على عِدَّانه أو كقيصرا )
( أقول له لما أتانِي نَعِيُّه ... بهِ لا بظبيٍ بالصّرِيمة أعفرا )
فقال مسكين
( أَلا أيها المرءُ الذي لَسْتٌُ قائماً ... ولا قاعداً في القوم إلاَّ انبرى لِيَا )
( فجئْنِي بعَمٍّ مثل عَمِّي أَو أَبٍ ... كمثل أبي أو خالِ صدقٍ كخاليَا )
( بعَمرو بن عمرو أو زرارةَ ذي النّدى ... سموتُ به حتى فَرعتُ الّروابيا )
فأمسك الفرزدق عنه وكان يقول نجوت من أن يهجوني مسكين فإن أجبته ذهبت بشطر فخري وإن أمسكت عنه كانت وصمة على مدى الدهر
أخبرني أبو خليفة فقال أخبرنا ابن سلام قال حدثني الحكم بن محمد المازني قال كان تميم بن زيد القضاعي ثم أحد بني القين بن جسر غزا الهند في جيش فجمرهم وفي جيشه رجل يقال له حبيش فلما طالت غيبته على أمه إشتاقته فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل ابنها فقيل لها عليك بالفرزدق فاستجيري بقبر أبيه فأتت قبر غالب بكاظمة حتى علم الفرزدق مكانها
ثم أتته وطلبت إليه حاجتها فكتب إلى تميم بن زيد هذه الأبيات
( هَبْ لي حُبَيشاً واتخذ فيه مِنّةً ... لغُصَّةِ أَمٍّ ما يَسوغُ شرابُها )
( أتتني فعَاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليها تُرابُها )
( تَميمُ بن زَيدٍ لا تكوننَّ حاجتي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابها )

فلما أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش فأخرج ديوانه وأقفل كل حبيش وحنيش في جيشه وهم عدة وأنفذهم إلى الفرزدق

قبر أبيه معاذ الناس
قال أبو خليفة قال ابن سلام وحدثني أبو يحيى الضبي قال
ضرب مكاتب لبني منقر بساطا على قبر غالب أبي الفرزدق فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه
ثم قدم عليه فقال
( بقبر ابن لَيْلى غالب غُذْتُ بعدما ... خَشِيت الرَّدَى أو أن أُرَدَّ عَلَى قَسْر )
( فأخبرني قبرُ ابنِ لَيْلى فقال لي ... فِكاككَ أن تأتي الفرزدقَ بالمِصْرِ )
فقال الفرزدق صدق أبي أنخ ثم طاف له في الناس حتى جمع له مكاتبته وفضلا
وكان نفيع ذو الأهدام أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا فهجاه الفرزدق فاستجارت أمه بقبر غالب وعاذت من هجاء الفرزدق فقال
( ونُبّئتُ ذا الأَهدام يعوي ودونه ... من الشَّام زُرَّاعَاتُها وَقُصُورُها )
( على حينَ لم أتركْ عَلَى الأرضْ حيَّةً ... ولا نابحاً إلا استقرّ عقورُها )
( كلابٌ نَبَحن الحيّ من كل جانبٍ ... فعاد عُواءً بعد نَبْحٍ هريرُها )
( عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالبٍ ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها )

( لئن نافعٌ لم يرع أرحام أُمِّه ... وَكَانت كدَلوٍ لا يزال يعيرُها )
( لبئس دمُ المولود بلَّ ثيَابها ... عشيَّةَ نادى بالغلام بشيرُها )
( وإنّي على إشفاقها من مخافتي ... وَإن عَقّهَا بي نافعٌ لمجيرها )
( وَلو أن َّ أمَّ الناس حواء جاوَرت ... تميمَ بن مُرٍّ لم تجد من يجيرها )
وهذا البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر عن الأصمعي قال
كان عبد الله بن عطية راوية الفرزدق وجرير قال فدعاني الفرزدق يوما فقال إني قلت بيت شعر والنوار طالق إن نقضه ابن المراغة قلت ما هو قال قلت
( فإِني أنا الموتُ الذي هو نازلٌ ... بنفسك فانظر كيف أنت تُحاوله )
ارحل إليه بالبيت قال فرحلت إلى اليمامة قال ولقيت جريرا بفناء بيته يعبث بالرمل فقلت إن الفرزدق قال بيتا وحلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه قال هيه أظن والله ذلك ما هو ويلك فأنشدته إياه فجعل يتمرغ في الرمل ويحثوه على رأسه وصدره حتى كادت الشمس تغرب ثم قال أنا أبو حزرة طلقت امرأة الفاسق وقال
( أنا الدهرُ يفنى الموتُ والدهر خالدٌ ... فجئني بمثل الدهرِ شيئاً يطاوله )
ارحل إلى الفاسق قال فقدمت على الفرزدق فأنشدته إياه وأعلمته بما قال فقال أقسمت عليك لما سترت هذا الحديث
أخبرني عبد الله قال أخبرني محمد بن حبيب قال حدثنا الأصمعي وأبو عبيدة قال

دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة فضحكوا فقال يا أبا فراس أتدري مم ضحكوا قال لا قال من جفائك قال أصلح الله الأمير حججت فإذا أنا برجل منهم على عاتقه الأيمن صبي وعلى عاتقه الأيسر صبي وإذا امرأة آخذة بمئزره وهو يقول
( أنت وهبت زائداً ومزْيَدا ... وكهلةً أُولجُ فيها الأجردا )
والمرأة تقول من خلفه إذا شئت فسألت ممن هو فقيل من الأشعريين أفأنا أجفى أم ذلك فقال بلال لا حياك الله قد علمت أنهم لن يفتلوا منك
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثنا موسى بن طلحة عن أبي زيد الأنصاري قال
ركب الفرزدق بغلته فمر بنسوة فلما حاذاهن لم تتمالك البغلة أن ضرطت فضحكن منه فالتفت إليهن فقال لا تضحكن فما حملتني أنثى إلا ضرطت فقالت له إحداهن ما حملتك أنثى أكثر من أمك فأراها قاست منك ضراطا كثيرا فحرك بغلته وهرب منهن وبهذا الإسناد قال
أتى الفرزدق الحسن البصري فقال إني قد هجوت إبليس فقال كيف تهجوه وعن لسانه تنطق
وبهذا الإسناد قال حمزة بن بيض للفرزدق يا أبا فراس أسألك عن مسألة قال سل عما أحببت قال أيما أحب إليك أتسبق الخير أم

يسبقك قال إن سبقني فاتني وإن سبقته فته ولكن نكون معا لا يسبقني ولا أسبقه ولكن أسألك عن مسألة
قال ابن بيض سل قال أيما أحب إليك أن تنصرف إلى منزلك فتجد امرأتك قابضة على أير رجل أم تراه قابضا على هنها قال فتحير وكان قد نهي عنه فلم يقبل

هو وجرير لا يصطلحان أبدا
أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني الأصمعي قال
اجتمع الفرزدق وجرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى يتكافا فقال لهما ويحكما قد بلغتما من السن ما قد بلغتما وقربت آجالكما فلوا اصطلحتما ووهب كل واحد منكما لصاحبه ذنبه فقال جرير أصلح الله الأمير إنه يظلمني ويتعدى علي فقال الفرزدق أصلح الله الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه
فسلكت طريقهم في ظلمه فقال بشر عليكما لعنة الله لا تصطلحان والله أبدا
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال حدثنا الأصمعي قال الفرزدق
ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب دهقان مرة قال لي أنت الفرزدق الشاعر قلت نعم قال أفأموت إن هجوتني قلت لا قال أفتموت عيشونة ابنتي قلت لا قال فرجلي إلى عنقي في حر أمك قال قلت ويلك لم تركت رأسك قال حتى أنظر أي شيء تصنع
أخبرني عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال

مر الفرزدق بمأجل فيه ماء فأشرع بغلته فيه فقال له مجنون بالبصرة يقال له حربيش نح بغلتك جذ الله رجليك قال ولم ويلك قال لأنك كذوب الحنجرة زاني الكمرة فقال الفرزدق لبغلته عدس ومضى وكره أن يسمع قوله الناس

يؤثر القصائد القصار
أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل للفرزدق ما اختيارك في شعرك للقصار قال لأني رأيتها أثبت في الصدور وفي المحافل أجول قال وقيل للحطيئة ما بال قصارك أكثر من طوالك قال لأنها في الآذان أولج وفي أفواه الناس أعلق
أخبرني عبد الله بن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل لعقيل ابن علفة مالك تقصر في هجائك قال حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة
أخبرني عبد الله عن محمد بن علي بن سعيد الترمذي عن أحمد بن حاتم أبي نصر قال
قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق أما وجدت أمك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها قال والعرب تسمي خبز الفتوت الفرزدق فأقبل الفرزدق على قوم معه في المجلس فقال ما اسمه فلم يخبروه باسمه فقال والله لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم قال

الجهم بن سويد بن المنذر فقال الفرزدق أحق الناس ألا يتكلم في هذا أنت لأن اسمك اسم متاع المرأة واسم أبيك اسم الحمار واسم جدك اسم الكلب

بيتان لكثير يغيران لون وجهه
أخبرنا عبد الله بن مالك عن الزبير عن عمه عن بعض القرويين قال
قدم علينا الفرزدق فقلنا له قدم علينا جرير فأنشدنا قصيدة يمدح بها هؤلاء القوم ومضى يريدهم فقال أنشدونيها فأنشدناه قصيدة كثير التي يقول فيها
( وما زالت رُقاك تسُلُّ ضِغْني ... وتخرج من مكامنها ضِبابي )
( ويَرقيني لك الحاوون حتى ... أجابك حيّةٌ تحت الحِجاب )
قال فجعل وجهه يتغير وعندنا كانون ونحن في الشتاء فلما رأينا ما به قلنا هون عليك يا أبا فراس فإنما هي لابن أبي جمعة فانثنى سريعا ليسجد فأصاب ناحية الكانون وجهه فأدماه
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال أخبرني القحذمي قال
لقي الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم السادس من ذي الحجة فقال له الحسين صلوات الله عليه وآله ما وراءك قال يا بن رسول الله أنفس الناس معك وأيديهم عليك قال ويحك معي وقر بعير من كتبهم يدعونني ويناشدونني الله

قال فلما قتل الحسين صلوات الله عليه قال الفرزدق انظروا فإن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها وإن صبرت عليه ولم تتغير لم يزدها الله إلا ذلا إلى آخر الدهر وأنشد في ذلك
( فإن أنتمُ لم تثأَروا لابن خيركم ... فألقوا السلاح واغزِلوا بالمغازِل )
أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرني أبو مسلم قال حدثني الأصمعي قال أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد فقال له الفرزدق أعيدها عليك لقد أتى علي زمان ولو سمعت ببيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهب عني
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني أبو مسلم الحراني عن الأصمعي قال
تغدى الفرزدق عند صديق له
ثم انصرف فمر ببني أسد فحدثهم ساعة ثم استسقى ماء فقال فتى منهم أو لبنا فقال لبنا فقام إلى عس فصب فيه رطلا من خمر ثم حلب وناوله إياه فلما كرع فيه انتفخت أوادجه واحمر وجهه ثم رد العس وقال جزاك الله خيرا فإني ما علمتك تحب أن تحفي صديقك وتخفي معروفك ثم مضى

قصته مع المرأة الشريفة وزوجته النوار
وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن القحذمي قال

كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها فامتنعت عليه وتهددها بالهجاء والفضيحة فاستغاثت بالنوار امرأته وقصت عليها القصة فقالت لها واعديه ليلة ثم أعلميني ففعلت وجاءت النوار فدخلت الحجلة مع المرأة فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية فأطفأت السراج وغادرت المرأة الحجلة واتبعها الفرزدق فصار إلى الحجلة وقد انسلت المرأة خلف الحجلة وبقيت النوار فيها فوقع بالنوار وهو لا يشك أنها صاحبته فلما فرغ قالت له يا عدو الله يا فاسق فعرف نغمتها وأنه خدع فقال لها وأنت هي يا سبحان الله ما أطيبك حراما وأردأك حلالا

يهجو ابن سبرة لأنه منعه عن جارية
أخبرني عبد الله بن مالك
قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال
استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب إليه الخيار
( كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظتَ من بلدٍ بعيد )
فأجابه الفرزدق
( ألا قال الخيارُ وكان جهلا ... قد استهدى الفرزدقُ من بعيد )
( فلولا أن أمك كان عمٍّي ... أباها كنت أخرس بالنشيد )
( وأَنّ أبي لَعَمُّ أبيك لحًّا ... وأنك حين أغضبُ من أسودي )

( إذاً لشددتُ شدّةَ أعوجيٍّ ... يدقّ شكيمَ مجدول الحديد )
أخبرنا عبد الله بن مالك عن الأصمعي قال
سمع الفرزدق رجلا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم ) فقال لا ينبغي أن يكون هذا هكذا قال فقيل له إنما هو ( عزيز حكيم ) قال هكذا ينبغي أن يكون

يمدح أسماء بن خارجة
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي قال
مر أسماء بن خارجة الفزاري على الفرزدق وهو يهنأ بعيرا له بنفسه فقال له أسماء يا فرزدق كسد شعرك واطرحتك الملوك فصرت إلى مهنة إبلك فقد أمرت لك بمائة بعير فقال الفرزدق فيه يمدحه
( إنَّ السّماحَ الذي في الناس كلّهمُ ... قد حازه اللَّهُ للمفضَال أسماءِ )
( يُعطي الجزيلَ بلا من يكدره ... عفوا ويتبع آلاء بنعماء )
( ما ضر قوما إذا أمسى يجاورهم ... ألاّ يكونوا ذوي إبلٍ ولا شاءِ )
اخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة

دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها
( فإن أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه يُمْنَى للهدى وشِمالُها )
فقال ابن أبي بردة هلكت والله يا أبا فراس فارتاع الشيخ وقال كيف ذاك قال ذهب شعرك أين مثل شعرك في سعيد وفي العباس بن الوليد وسمى قوما فقال جئني بحسب مثل أحسابهم حتى أقول فيك كقولي فيهم فغضب بلال حتى درت أوداجه ودعي له بطست فيه ماء بارد فوضع يده فيها حتى سكن فكلمه فيه جلساؤه وقالوا قد كفاك الشيخ نفسه وقل ما يبقى حتى يموت فلم يحل عليه الحول حتى مات

اغتلم فاحتال على قابلة
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن سعيد بن همام اليمامي قال
شرب الفرزدق شرابا باليمامة وهو يريد العراق فقال لصاحب له إن الغلمة قد آذتني فأكسبني بغيا قال من أين أصيب لك ها هنا بغيا قال فلا بد لك من أن تحتال قال فمضى الرجل إلى القرية وترك الفرزدق ناحية فقال هل من امرأة تقبل فإن معي امرأتي وقد أخذها الطلق فبعثوا معه امرأة فأدخلها على الفرزدق وقد غطاه فلما دنت منه واثبها
ثم ارتحل مبادرا وقال كأني بابن الخبيثة يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال

( وكنت إذا حللتَ بدار قومٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عارا )
قال فبلغ جريرا الخبر فهجاه بهذا الشعر
وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال قال أبو نهشل حدثنا بعض أصحابنا قال
وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له فمر هذا البيت في بعض قوله
( وما بين مَن لم يعطِ سمعاً وطاعة ... وبين جرير غير حزِّ الحلاقم )
فقال الفرزدق يا شمردل لتتركن هذا البيت لي أو لتتركن عرضك قال خذه لا بارك الله لك فيه فهو في قصيدته التي ذكر فيها قتيبة بن مسلم وهي التي أولها قوله
( تحنُّ إلى زورا اليمامة ناقتي ... حنينَ عجولٍ تبتغي البَّو رائمِ )

امراة تستعيذ بقبر أبيه
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال
جاءت امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق فضربت عليه فسطاطا
فأتاها فسألها عن أمرها
فقالت إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي قال لها وما هو قد ضمنت خلاصك منه قالت إن ابنا لي أغزي إلى السند

مع تميم بن زيد وهو واحدي قال انصرفي فعلي انصرافه إليك إن شاء الله قال وكتب من وقته إلى تميم بقوله
( تميم بنَ زيد لاتكوننَّ حاجتِي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابُها )
( وهب لي حُبيْشاً واتّخِذْ قيه مِنَّةً ... لحرْمة أمٍّ ما يسوغُ شَرَابُهَا )
( أتتِني فعاذت يا تَمِيمُ بغَالبٍ ... ويالحفْرة السّافي عليها ترابُهَا )
قال فعرض تميم جميع من معه من الجند فلم يدع أحدا اسمه حبيش ولا حنيش إلا وصله وأذن له في الانصراف إلى أهله
أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال
مر الفرزدق بصديق له فقال له ما تشتهي يا أبا فراس قال أشتهي شواء رشراشا ونبيذا سعيرا وغناء يفتق السمع
الرشراش الرطب والسعير الكثير
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني السعدي عن أبي مالك الزيدي
قال
أتينا الفرزدق لنسمع منه شيئا فجلسنا ببابه ننتظر إذ خرج علينا في ملحفة فقال لنا يا أعداء الله ما اجتماعكم ببابي والله لو أردت أن أزني ما قدرت
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم قال
قال الفرزدق قد علم الناس أني فحل الشعراء وربما أتت علي

الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت شعر
حدثنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم عن الأصمعي قال
كان الفرزدق وأبو شقفل راويته في المسجد فدخلت امرأة فسألت عن مسالة مسألة وتوسمت فرأت هيئة أبي شقفل فسألته عن مسألتها فقال الفرزدق
( أبو شقفَل شيخ عن الحق جائرٌ ... بباب الهدى والرّشد غيرُ بصير )
فقالت المرأة سبحان الله أتقول هذا لمثل هذا الشيخ فقال أبو شقفل دعيه فهو أعلم بي

سكينة بنت الحسين تكذب ادعاءاته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال
خرج الفرزدق حاجا فمر بالمدينة فأتى سكينة بنت الحسين صلوات الله عليه وآله فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسي مَن تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ وَمَنْ زِيارتُه لِمامُ )
( وَمن أُمسِي وَأُصبِح لا أراه ... وَيطرُقني إذا هجع النيامُ )

فقال والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه
فقالت أقيموه فأخرج
ثم عاد إليها في اليوم الثاني
فقالت له يا فرزدق
من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ ... وَلزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ )
( لا يلبث القُرفاءُ أن يتفرّقوا ... ليلٌ بكرّ عليهمُ ونهارُ )
( كانت إذا هجر الضجيعُ فراشها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفّت الأسرار )
قال أفأسمعك أحسن منه قالت اخرج
ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها جارية كأنها ظبية فاشتد عجبه بها
فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا
قالت كذبت
أشعر منك الذي يقول
( إنّ العيونَ التي في طَرفِها مَرَضٌ ... قتَلننا ثم لم يُحيين قَتْلاَنَا )
( يَصرعْن ذا اللُّبّ حتى لا حَراكَ له ... وهُنَّ أضعفُ خلقِ الله أَركانا )
ثم قالت قم فاخرج
فقال لها يا بنت رسول الله إن لي عليك لحقا
إذ كنت إنما جئت مسلما عليك فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردت أن أسمعك شيئا من شعري ما ضاق به صدري
والمنايا تغدو وتروح ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت
فإن مت فمري من يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من ثيابها وأمرت له بالجارية وقالت أحسن صحبتها فقد

آثرتك بها على نفسي قال فخرج وهو آخذ بريطتها

يطالب معاوية بتراث عمه
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال
وفد الحتات عم الفرزدق على معاوية فخرجت جوائزهم فانصرفوا ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات فأمر معاوية بماله فأدخل بيت المال فخرج الفرزدق إلى معاوية وهو غلام فلما أذن للناس دخل بين السماطين ومثل بين يدي معاوية فقال
( أبوك وعمّي يا معاويَ ورَّثا ... تراثاً فيحتازُ التّراثَ أَقاربُه )
( فما بال ميراثِ الحتات أكلتَهُ ... وميراثُ حرب جامدٌ ليَ ذائبه )
( فلو كان هذا الأمرُ في جاهليَّةٍ ... علمتَ مَن المولى القليلُ حلائبهُ )
( ولو كان هذا الأمر في مِلك غيركم ... لأدّاه لي أو غصّ بالماء شاربه )
فقال له معاوية من أنت قال أنا الفرزدق قال ادفعوا إليه ميراث عمه الحتات وكان ألف دينار فدفع إليه
امرأة ترجز به فيذكرها بشعر فاحش
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي حمزة الأنصاري قال أخبرنا أبو زيد قال قال أبو عبيدة

انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة بادرة وأمر بجزور فنحرت ثم قسمت فأغفل امرأة من بني فقيم نسيها فرجزت به فقالت
( فيْشلةٌ هدْلاءُ ذات شِقْشقِ ... مشرفةُ اليافوخِ والمحوَّقِ )
( مُدمَجةٌ ذاتُ حِفافٍ أخلقِ ... نِيطت بحَقْوَيْ قَطِمٍ عشَنَّق )
( أولجتها في سبة الفرزدق ... )
قال أبو عبيدة فبلغني أنه هرب منها فدخل في بيت حماد بن الهيثم ثم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك
( قتلتُ قتيلاً لم ير الناسُ مثلَه ... أُقلِّبه ذا تَوْمَتين مُسَوَّرا )
( حملتُ عليه حملتين بطعنةٍ ... فغَادرتهُ فوق الحشَايا مكوّرا )
( ترى جرحَه من بعد ما قد طعنته ... يفوح كمثل المسك خالطَ عنبرا )
( وما هو يوم الزحف بارزَ قِرنَه ... ولا هو ولىّ يوم لاقى فأدبرا )
( بني دارم ما تأمرون بشاعرٍ ... برود الثّنَايَا ما يزال مزعفرا )
( إذا ما هو استلقى رأيت جهَازه ... كمقطع عُنق الناب أسود أحمرا )
( وكيف أُهَاجي شاعراً رمحُهُ استُه ... أعدَّ ليوم الروع درعاً وَمَجْمرا )

فقالت المرأة ألا لا أرى الرجال يذكرون مني هذا وعاهدت الله ألا تقول شعرا
أخبرنا عبد الله بن مالك بن مسلم عن الأصمعي قال
مر الفرزدق يوما في الأزد فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه وأعانه على ذلك سفهاؤهم فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهى منهم فصاحوا بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء فقال لهم ابن أبي علقمة ويلكم أطيعوني اليوم واعصوني الدهر هذا شاعر مضر ولسانها قد شتم أعراضكم وهجا ساداتكم والله لا تنالون من مضر مثلها أبدا فحالوا بينه وبينه فكان الفرزدق يقول بعد ذلك قاتله الله
إي والله لقد كان أشار عليهم بالرأي

رجل من الأنصار يتحداه بشاعرهم حسان بن ثابت
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال قال الكلبي قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص
وأخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي والأخفش جميعا عن السكري عن ابن حبيب عن أبي عبيدة والكلبي قال وأخبرنا به إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قالوا جميعا
قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان فأتى الفرزدق وكثير عزة فبينا هما يتناشدان الأشعار إذ طلع عليهما غلام شخت رقيق الأدمة في ثوبين ممصرين فقصد نحونا فلم يسلم وقال أيكم الفرزدق فقلت مخافة أن يكون من قريش أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها فقال لو كان

كذلك لم أقل هذا فقال له الفرزدق من أنت لا أم لك قال رجل من الأنصار ثم من بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب وتزعمه مضر وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا فأردت أن اعرضه عليك وأؤجلك سنة فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب كما قيل وإلا فأنت منتحل كذاب ثم أنشده
( ألم تسألِ الربّع الجديدَ التكلُّما ... )
حتى بلغ إلى قوله
( وأبقى لنا مَرُّ الحروب ورزؤُها ... سيوفاً وأدراعاً وجمّاً عرمرما )
( متى ما تُرِدْنا من مَعدٍّ عِصابةٌ ... وغسانَ نمنعْ حوضنا أن يُهدَّما )
( لنا حاضر فعْمٌ وبادٍ كأنه ... شماريخُ رَضْوَى عِزةً وتكرُّما )
( أبى فِعلُنَا المعروفَ أن ننطق الخنا ... وقائلُنا بالعُرف إلا تَكلُّما )
( بكل فتىً عاري الأشاجع لاحَه ... قِراعُ الكماة يرشح المِسكَ والدّما )
( ولدنا بني العنقاء وابنَيْ محرِّقٍ ... فأكرم بذا خالاً وأكرم بذا ابْنما )
( يُسَوِّدُ ذا المالِ القليل إذا بدت ... مروءتُه فينا وإن كان مُعدِما )
( وإنا لنَقْرِي الضيفَ إن جاء طارقاً ... من الشحم ما أمسى صحيحا مُسلَّما )
( لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يلمعَن بالضّحى ... وأسيافُنا يقطُرن من نجدةٍ دمَا )
فأنشده القصيدة وهي نيف وثلاثون بيتا وقال له قد أجلتك في

جوابها حولا فانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه وما يدري أية طرقه حتى خرج من المسجد فأقبل على كثير فقال له قاتل الله الأنصار ما أفصح لهجتهم وأوضح حجتهم وأجود شعرهم فلم نزل في حديث الأنصار والفرزدق بقية يومنا حتى إذا كان من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس فأتى كثير فجلس معي وإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما صنع إذ طلع علينا في حلة أفواف قد أرحى غديرته حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل الأنصاري فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله الله ما منيت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقته وأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم لم أقل شعرا قط حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا وهو جبل بالمدينة ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم يعني شيطانه فجاش صدري كما يجيش المرجل فعقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما عتمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا فبينا هو ينشد إذ طلع الأنصاري حتى إذا انتهى إلينا سلم علينا ثم قال إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك إيش صنعت فقال اجلس وأنشده قوله
( عزفتَ بأعشاشٍ وما كنت تعزفُ ... وأنكرتَ من حدراءَ ما كنت تعرف )
( ولجّ بك الهجرانُ حتى كأنما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف )

في رواية ابن حبيب تيلف حتى بلغ إلى قوله
( تَرى الناسُ ما سِرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا )
وأنشدها الفرزدق حتى بلغ إلى آخرها فقام الأنصاري كئيبا فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن حزم في مشيخة من الأنصار فسلموا عليه وقالوا يا أبا فراس قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك فنسألك بحق الله وحق رسوله لما حفظت فينا وصية رسول الله ووهبتنا له ولم تفضحنا
قال محمد بن إبراهيم فأقبلت عليه أكلمه فلما أكثرنا عليه قال اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي
قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق أنشدني أجود شعر عملته فأنشده
( عزفتَ بأَعشاش وما كدت تعزف ... )
فقال زدني فأنشده
( ثلاثٌ واثنتان فتلك خمس ... وواحدة تميل إلى الشِّمام )
( فبتْنَ بجانبيّ مصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق الخِتَام )
فقال له سليمان ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة أقررت بالزنى عندي وأنا إمام ولا تريد مني إقامة الحد عليك فقال إن أخذت في بقول الله عز و جل لم تفعل
قال وما قال
قال قال الله تبارك وتعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون

مالا يفعلون ) فضحك سليمان وقال تلافيتها ودرأت عنك الحد وخلع عليه وأجازه

يجتمع هو وجرير بالشام
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قدم الفرزدق الشام وبها جرير بن الخطفي فقال له جرير ما ظننتك تقدم بلدا أنا فيه فقال له الفرزدق إني طالما أخلفت ظن العاجز
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو مخنف
كان الفرزدق لعنة أي يتلعن به كأنه لعنة على قوم وكان جرير شهابا من شهب النار
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا الأزدي قال حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال قال أبو عمرو بن العلاء
مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود وهو على ناقة فقال له غدني قال ما يحضرني غداء قال فاسقني سويقا قال ما هو عندي قال فاسقني نبيذا قال أو صاحب نبيذ عهدتني قال فما يقعدك في الظل قال فما أصنع قال أطل وجهك بدبس ثم تحول إلى الشمس واقعد فيها حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه قال أبو عمرو فما زال ولد محمد يسبون بذلك من قول الفرزدق انتهى
أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن موسى بن طلحة عن

أبي عبيدة عن أبي العلاء قال أخبرني هاشم بن القاسم العنزي انه قال
جمعني والفرزدق مجلس فتجاهلت عليه فقلت له من أنت قال أما تعرفني قلت لا قال فأنا أبو فراس قلت ومن أبو فراس قال أنا الفرزدق قلت ومن الفرزدق قال أو ما تعرف الفرزدق قلت أعرف الفرزدق أنه شيء يتخذه النساء عندنا يتسمن به وهو الفتوت فضحك وقال الحمد الله الذي جعلني في بطون نسائكم
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن النضر بن حديد قال
مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا فأخذوه وكان جبانا فقالوا والله لتلقين منا ما تكره أو لتنكحن هذه الأتان وأتوه بأتان فقال ويلكم اتقوا الله فإنه شيء ما فعلته قط فقالوا إنه لا ينجيك والله إلا الفعل قال أما إذا أبيتم فأتوني بالصخرة التي يقوم عليها عطية فضحكوا وقالوا اذهب لا صحبك الله

فتى اسود يستخف به
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال
دخل الفرزدق على قوم يشربون عند رجل بالبصرة وفي صدر مجلسهم فتى أسود وعلى رأسه إكليل فلم يحفل بالفرزدق ولم يحف به تهاونا فغضب الفرزدق من ذلك وقال
( جلوسُك في صدر الفراش مَذَلّةٌ ... ورأسك في الإِكليل إحدى الكبائر )
( وما نَطَفَتْ كأسٌ ولا لذَّ طعمُها ... ضربْتُ على حافاتها بالمشافِر )

أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال
لما مات وكيع بن أبي سود أقبل الفرزدق حين أخرج وعليه قميص أسود وقد شقه إلى سرته وهو يقول
( فمات ولم يوتر وما من قبيلة ... من الناس إلا قد أباءت على وتر )
( وإنّ الذي لاقى وكيعاً وناله ... تناول صِدّيق النبيّ أبا بكر )
قال فعلق الناس الشعر فجعلوا ينشدونه حتى دفن وتركوا الاستغفار له

ميميته المشهورة في مدح زين العابدين
أخبرنا عبد الله بن علي بن الحسن الهاشمي عن حيان بن علي العنزي عن مجالد عن الشعبي قال
حج الفرزدق بعد ما كبر وقد أتت له سبعون سنة وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى علي بن الحسين في غمار الناس في الطواف فقال من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها فقالوا هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم فقال الفرزدق
( هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطأتَه ... والبَيْتُ يَعْرِفه والحِلُّ والحرمُ )
( هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم ... هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ )
( هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهله ... بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا )

( وليس قولُك مَن هذا بضائرِه ... العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم )
( إذا رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارِم هذا ينتهي الكرمُ )
( يُغْضِي حياءً ويُغْضى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إلا حين يَبْتسِم )
( بكَفّه خيزْرانٌ رِيحُها عَبِقٌ ... من كفّ أروعَ في عِرْنينه شمم )
( يكاد يُمسكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم )
( الله شرَّفه قِدْماً وعَظمه ... جَرَى بذاك له في لوحِه القلم )
( أيُّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأَوَّلِيَّة هذا أولَهُ نِعَمُ )
( مَنْ يشكرِ الله يشكرْ أَوّليَّة ذا ... فالدِّين من بيت هذا ناله الأمم )
( يَنْمِي إلى ذِروة الدين التي قَصُرت ... عنها الأكفُّ وعن إدراكها القَدَمُ )
( مَنْ جَدُّه دان فَضْلُ الأنبياء له ... وفَضْلُ أمَّته دانت له الأمم )
( مُشتقَّةٌ من رسول الله نبَعتُه ... طابت مغارسُه والخِيمُ والشِّيَمُ )
( ينشقُّ ثَوبُ الدجى عن نُور غُرَّته ... كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلَم )
( مِنْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصَم )
( مُقَدَّمٌ بعد ذكر الله ذِكرُهُم ... في كلِّ بدْء ومختومٌ به الكَلِم )
( إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم ... أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيلَ همُ )
( لا يستطيع جوادٌ كنهَ جودهمُ ... ولا يدانيهمُ قومٌ وإن كرموا )
( يُسْتَدفَع الشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ ... ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَم )
وقد حدثني بهذا الخبر أحمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن القاسم البرتي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي فذكر أن هشاما حج في حياة

أبيه فرأى علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم يطوف بالبيت والناس يفرجون له
فقال من هذا فقال الأبرش الكلبي ما أعرفه فقال الفرزدق ولكني أعرفه فقال من هو فقال
( هذا الذي تعرِف البطحاء وطأته ... )
وذكر الأبيات الخ
قال فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فقال
( أتَحِبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يَهْوى مُنِيبُها )
( يقلِّبُ رأساً لم يكن رأس سيِّد ... وعيناً له حولاء بادٍ عيوبُها )
فبلغ شعره هشاما فوجه فأطلقه

يعجب بشعر لحائك
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن الهيثم بن عدي قال اخبرنا أبو روح الراسبي قال
لما ولي خالد بن عبد الله العراق ولى مالك بن المنذر شرطة البصرة فقال الفرزدق
( يُبَغِّض فينا شرطةً المصر أنني ... رأيتُ عليها مالكاً عَقِبَ الكلبِ )
قال فقال مالك علي به فمضوا به إليه فقال
( أقول لنفسي إذ تَغَصُّ بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مَالِكِ )

قال فسمع قوله حائك يطلع من طرازه فقال
( لها عنده أن يَرجعَ اللَّهُ ريقها ... إليها وتنجُو من عظيم المهالك )
فقال الفرزدق هذا أشعر الناس وليعودن مجنونا يصيح الصبيان في أثره فقال فرأوه بعد ذلك مجنونا يصيح الصبيان في أثره
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن علي بن سعيد قال حدثنا القحذمي قال
فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال هيه عقب الكلب قال ليس هذا هكذا قلت وإنما قلت
( ألم ترني ناديتُ بالصوت مالكاً ... ليسمع لما غصَّ من ريقه الفمُ )
( أعوذ بقبر فيه أكفانُ مُنْذرٍ ... فهن لأيدي المستجيرين مَحْرَم )
قال قد عذت بمعاذ وخلى سبيله

خالد القسري يأمر مالك بن المنذر بطلب الفرزدق
أخبرنا عبد الله قال حدثني محمد بن موسى قال
كتب خالد القسري إلى مالك بن المنذر يأمره بطلب الفرزدق ويذكر أنه بلغه أنه هجاه وهجا نهره المبارك وهو النهر الذي بواسط الذي كان

خالد حفره فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم فأخذه وحبسه ومروا به على بني مجاشع فقال يا قوم اشهدوا أنه لا خاتم بيدي وذلك أنه أخذ عمر بن يزيد بن أسيد ثم أمر به فلويت عنقه ثم أخرجوه ليلا إلى السجن فجعل رأسه يتقلب والأعوان يقولون له قوم رأسك فلما أتوا به السجان قال لا أتسلمه منكم ميتا فأخذوا المفاتيح منه وأدخلوه الحبس وأصبح ميتا فسمعوا أنه مص خاتمه وكان فيه سم فمات وتكلم الناس في أمره فدخل لبطة بن الفرزدق على أبيه فقال يا بني هل كان من خبر قال نعم عمر بن يزيد مص خاتمه في الحبس وكان فيه سم فمات فقال الفرزدق والله يا بني لئن لم تلحق بواسط ليمص أبوك خاتمه وقال في ذلك
( ألم يَكُ قَتْلُ عبد الله ظُلما ... أبا حفص من الحُرَم العظامِ )
( قتيلُ عداوة لم يجنِ ذنباً ... يُقطَّعُ وهو يهتف للإِمام )
قال وكان عمر عارض خالدا وهو يصف لهشام طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم فصفق عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى حتى سمع له في الإيوان دوي ثم قال كذب والله يا أمير المؤمنين ما أطاعت اليمانية ولا نصحت أليس هم أعداؤك وأصحاب يزيد بن المهلب وابن الأشعث والله ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه فاحذرهم يا أمير المؤمنين قال فتبين ذلك في وجه هشام ووثب رجل من بني أمية فقال لعمرو بن يزيد وصل الله رحمك وأحسن جزاءك فلقد شددت من أنفس قومك وانتهزت الفرصة في وقتها ولكن أحسب هذا الرجل سيلي العراق وهو منكر حسود وليس يخار لك إن ولي فلم يرتدع عمر بقوله وظن أنه

لا يقدم عليه فلما ولي لم تكن له همة غيره حتى قتله قال

شفاعة جرير له
ثم إن مالكا وجه الفرزدق إلى خالد فلما قدم عليه وجده قد حج واستخلف أخاه أسد بن عبد الله على العراق فحبسه أسد ووافق عنده جريرا فوثب يشفع له وقال إن رأى الأمير أن يهبه لي فقال أسد أتشفع له يا جرير فقال إن ذلك أذل له أصلحك الله وكلم أسدا ابنه المنذر فخلى سبيله فقال الفرزدق في ذلك
( لا فضلَ إلا فضلُ أمٍّ على ابنها ... كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق )
( تداركني من هُوَّةٍ دون قعرِها ... ثمانون باعاً للطُّوال العَشَنَّقِ )
وقال جرير يذكر شفاعته له
( وهل لك في عان وليس بشاكرٍ ... فتطلَق عنه عضَّ مَسَّ الحدائدِ )
( يعودُ وكان الخُبْثُ منه سجيةً ... وإن قال إني مُنْتَهٍ غَيْرُ عائد )
هجاؤه بني فقيم
أخبرني عبيد الله عن محمد بن موسى عن القحذمي قال كان سبب هرب الفرزدق من زياد وهو على العراق أنه كان هجا بني فقيم فقال فيهم أبياتا منها
( وآب الوفدُ وفدُ بني فُقَيْمٍ ... بأخبث ما تؤوب به الوفودُ )

( أتَونا بالقرود مُعادليها ... فصار الجَدُّ للجدِّ السعيدُ )
وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيمي والأشهب بن رميلة بأبيات منها قوله
( تمنّى ابنُ مسعودٍ لقائي سفاهةً ... لقد قال مَيْناً يوم ذاك ومنكرا )
( غناءٌ قَلِيلٌ عن فُقَيمٍ ونهْشلٍ ... مَقامُ هَجينٍ ساعةً ثم أَدْبرا )
يعني الأشهب بن رميلة وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردوه وقالوا له اهج الفرزدق حتى نزوجك فرجز به الأشهب فقال
( يا عجبا هل يركبُ القَيْنُ الفرسْ ... وَعَرَقُ القيْنِ على الخيل نَجَسْ )
( وإنما سلاحُه إذا جَلَسْ ... الكَلْبتان والعَلاةُ والقَبسْ )

يهرب من زياد
فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه فأرفث له وألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء فشكوه إلى زياد وكان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد فطلبه زياد فهرب فأتى بكر بن وائل فأجاروه فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات
( إني وإن كانت تميمٌ عِمارتيِ ... وكنتُ إلى القُرْمُوسِ منها القُماقم )
( لُمثْنٍ على أبناء بكرِ بن وائلٍ ... ثناءً يوافي ركبهم في المواسم )

( همو يوم ذي قار أناخوا فجالدوا ... برأسٍ به تَدْمَى رؤوسُ الصّلادم )
وهرب حتى أتى سعيد بن العاصي فأقام بالمدينة يشرب ويدخل إلى القيان وقال
( إذا تشئتُ غَنَّاني من العاج قاصف ... على معصم ريّانَ لم يتخدّدِ )
( لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِشْ ... ببؤس ولم تتبعْ حمولة مُجْحَد )
( وقامت تخشِّيني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُرْدٍ يمانٍ ومَجْسَد )
( فقلتُ دعيني من زياد فإنني ... أرى الموت وقَّافاً على كلِّ مَرْصَد )

مروان يتوعده ويؤجله ثلاثا
فبلغ شعره مروان فدعاه وتوعده وأجله ثلاثا وقال اخرج عني فأنشأ يقول الفرزدق
( دعانا ثم أجلنا ثلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمهلكها ثمودُ )
قال مروان قولوا له عني إني أجبته فقلت
( قال للفرزدق والسّفاهةُ كاسْمِها ... إن كنت تاركَ ما أمرتُك فاجلِس )
( ودعِ المدينةَ إنها محظورةٌ ... والحَقْ بمكةَ أو ببيت المقدسِ )
قال وعزم على الشخوص إلى مكة فكتب له مروان إلى بعض عماله

ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار فارتاب بكتاب مروان فجاء به إليه وقال
( مروانُ إنّ مطيتي معقولةٌ ... ترجو الحباءَ وربُّها لم ييأسِ )
( آتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... يُخشَى عليَّ بها حِباءُ النّقرس )
( ألقِ الصحيفةَ يا فرزدق لا تكن ... نكراء مثلَ صحيفةِ المُتَلَمِّس )
قال ورمى بها إلى مروان فضحك وقال ويحك إنك أمي لا تقرأ فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم ردها حتى أختمها فذهب بها فلما قرئت إذا فيها جائزة قال فردها إلى مروان فختمها وأمر له الحسين بن علي عليهما السلام بمائتي دينار قال ولما بلغ جريرا أنه أخرج عن المدينة قال
( إذا حلّ المدينةَ فارجُمُوهُ ... ولا تدْنوهُ من جَدَث الرسول )
( فما يُحْمَى عليه شرابُ حدٍّ ... ولا وَرْهاءُ غائبةُ الحليل )
فأجابه الفرزدق فقال
( نعتّ لنا من الورْهاء نَعْتاً ... قعدتُ به لِأِّمك بالسبيلِ )
( فلا تبْغي إذا ما غاب عنها ... عطيةُ غيرَ نَعْتِك من حَليل )

مرضه وموته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا أبو

عكرمة الضبي عن أبي حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال أبو عكرمة وحكي لنا عن لبطة بن الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته
قال ووصف له أن يشرب النفط الأبيض فجعلناه له في قدح وسقيناه إياه فقال يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار فقلت له يا أبت قل لا إله إلا الله فجعلت أكررها عليها مرارا فنظر الي وجعل يقول
( فَظلَّتْ تعالى باليَفاع كأنها ... رماح نحاها وِجْهة الرّيح راكز )
فكان ذا هجيراه حتى مات
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر قال
ودخل بلال بن أبي بردة على الفرزدق في مرضه الذي مات وفيه وهو يقول
( أروني مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطاب )
البيتين فقال بلال إلى الله إلى الله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال
كان الفرزدق قد دبر عبيدا له وأوصى بعتقهم بعد موته ويدفع شيء من ماله إليهم فلما احتضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول
( أروني مَنْ يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطاب )

( إلى مَن تفزعون إذا حَثْوتم ... بأيديكم عليَّ من التّرابِ )
فقال له بعض عبيده الذين أمر بعتقهم إلى الله فأمر ببيعه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه والله أعلم
أخبرني الحسن بن علي عن بشر بن مروان عن الحميدي عن سفيان عن لبطة بن الفرزدق قال
لما احتضر أبو فراس قال أي لبطة أبغني كتابا أكتب فيه وصيتي فأتيته بكتاب فكتب وصيته
( اروني من يقوم لكم مقامي ... )
البيتين فقالت مولاة له قد كان أوصى لها بوصية إلى الله عز و جل فقال يا لبطة امحها من الوصية
قال سفيان نعم ما قالت وبئس ما قال أبو فراس

وصيته شعرا
وقال عوانة قيل للفرزدق في مرضه الذي مات فيه أوص فقال
( أُوصي تميماً إن قضاعةَ ساقها ... نَدَى الغيث عن دارٍ بدومةَ أَو جدْبِ )
( فإنكم الأكفاءُ والغيث دَولةٌ ... يكون بشرق من بلاد ومن غَرْب )
( إذا انتجعت كلْبٌ عليكم فوسِّعوا ... لها الدارَ في سهل المقَامَة والرَّحب )
( فأعظمُ من أَحلام عاد حُلومُهم ... وأَكثرهم عند العديد من التُّرْب )
( أشدُّ حبالٍ بعد حَيَّيْن مِرَّةً ... حِبالٌ أُمِرّت من تميم ومن كلب )

قال وتوفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام وصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال
( وما نَحْن إلا مِثلُهم غير أَنَّنا ... أَقمنا قليلاً بعدهم وتَقَدَّمُوا )
قال فلم يلبث إلا أياما حتى مات

شعره عند موته
وقال المدائني قال لبطة أغمي على أبي فبكينا ففتح عينيه وقال أعلي تبكون قلنا نعم أفعلى ابن المراغة نبكي فقال ويحكم أهذا موضع ذكره وقال
( إذا ما دبَّت الانقاءُ فوقي ... وصاح صدىً عليَّ مع الظلامِ )
( فقد شَمِتتْ أعاديكم وقالت ... أدانيكم مِنَ أينَ لنا المحامي )
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو العراف قال
نعي الفرزدق لجرير وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة فقال
( مات الفرزدقُ بعد ما جرَّعتُهُ ... ليْتَ الفرزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس ما قلت أتهجو ابن عمك بعد ما مات ولو رثيته كان أحسن بك
فقال والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل وأن نجمي لموافق لنجمه أفلا أرثيه قال أبعد ما قيل لك ألو كنت بكيته ما نسيتك العرب

قال أبو خليفة قال ابن سلام فأنشدني معاوية بن عمرو قال أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق بأبيات منها
( فلا وَلَدَتْ بعد الفرزدق حاملٌ ... ولا ذاتُ بعل من نِفاسٍ تعَلَّتِ )
( هو الوافد المأمونُ والرّاتِقُ الثَّأَى ... إذا النعلُ يوماً بالعشيرة زَلّتِ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة بخبر جرير لما بلغه وفاة الفرزدق وهو عند المهاجر فذكر نحوا مما ذكره ابن سلام وزاد فيه قال
ثم قام وبكى وندم وقال ما تقارب رجلان في أمر قط فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه

الاختلاف في سنة وفاته
قال أبو زيد مات الحسن وابن سيرين والفرزدق وجرير في سنة عشر ومائة فقبر الفرزدق بالبصرة وقبر جرير وأيوب السختياني ومالك بن دينار باليمامة في موضع واحد
وهذا غلط من أبي زيد عمر بن شبة لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة ومائة وقد قال فيه الفرزدق شعرا وذكره في مواضع من قصائده ويقوي ذلك ما أخبرنا به وكيع قال
حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح عن المدائني عن أبي اليقظان وأبي همام المجاشعي
أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة ومائة
قال أبو عبيدة

جرير يرثي نفسه ويرثيه
حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي وأمه ابنة جرير بن عطية قال
بينا جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل فقال له جرير من أين وضح الراكب قال من البصرة فسأل عن الخبر فأخبره بموت الفرزدق فقال
( مات الفرزدق بعد ما جرّعته ... ليت الفرزدقَ كان عاش قليلا )
ثم سكت ساعة فظنناه يقول شعرا فدمعت عيناه فقال القوم سبحان الله أتبكي على الفرزدق فقال والله ما أبكي إلا على نفسي أما والله إن بقائي خلافه لقليل إنه قل ما كان مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا ثم أنشأ يقول
( فُجِعنا بحمَّالِ الدِّيات ابنِ غالبٍ ... وحامي تميم كلِّها والبَراجِم )
( بكيناكَ حِدْثَانَ الفِراق وإنما ... بكينَاك شجْواً للأمور العظائم )
( فلا حَملت بعدَ ابنِ ليلى مَهيرَةٌ ... ولا شُدَّ أنساعُ المطيِّ الرّواسِمِ )
وقال البلاذري حدثنا أبو عدنان عن أبي اليقظان قال
أسن الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة وهو بالبادية فقدم إلى البصرة فأتي برجل من بني قيس متطبب فأشار بأن يكوى ويشرب النفط

الأبيض فقال أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا وجعل يقول
( أروني مَنْ يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطابِ )

أبو ليلى المجاشعي يرثيه
وقال أبو ليلى المجاشعي يرثي الفرزدق
( لعمري لقد أشجى تميماً وهَدَّها ... على نكباتِ الدهر موتُ الفرزدق )
( عشيَّةَ قُدْنَا للفرزدق نعشَه ... إلى جَدَثٍ في هْوّة الأرض مُعْمَق )
( لقد غيّبوا في اللَّحد مَنْ كان ينتمي ... إلى كل بدر في السماء مُحَلِّقِ )
( ثَوَى حاملُ الاثقال عن كل مُثقل ... ودفَّاعُ سلطانِ الغشوم السَّمَلَّق )
( لسانُ تميمٍ كلِّها وعِمَادُها ... وناطقُها المعروف عند المُخَنَّق )
( فمن لتميمٍ بعد موت ابن غالبٍ ... إذا حل يومٌ مظلمٌ غَيرُ مُشرِق )
( لتبكِ النِّساءُ المعْوِلاتُ ابنَ غالبٍ ... لجانٍ وعانٍ في السلاسل مُوثق )
وقال ابن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال
مات الفرزدق وجرير في سنة عشرة ومائة ومات جرير بعده بستة أشهر ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن سيرين قال
فقالت امرأة من أهل البصرة كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة ونسبت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومه إليها من اليمامة وقبر جرير باليمامة وبها مات وقبر الأعشى أيضا باليمامة أعشى بني قيس بن ثعلبة وقبر الفرزدق بالبصرة في مقابر بني تميم

وقال جرير لما بلغه موت الفرزدق قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به
ورثاهما جماعة فمنهم أبو ليلى الأبيض من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما
( لعمري لئْن قَرْمَا تَميمٍ تتابعا ... مُجِيبيْن للدّاعي الذي قد دَعَاهُما )
( لرُبّ عَدُوٍّ فرّق الدهرُ بينه ... وَبَينْهما لم تُشْوِه ضَغْمتَاهما )
أخبرني ابن عمار عن يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي عن جرير يعني أبا حازم قال
رئي الفرزدق وجرير في النوم فرئي الفرزدق بخير وجرير معلق
قال قعنب وأخبرني الأصمعي عن روح الطائي قال
رئي الفرزدق في النوم فذكر انه غفر له بتكبيره كبرها في المقبرة عند قبر غالب
قال قعنب وأخبرني أبو عبيدة النحوي وكيسان بن المعروف النحوي عن لبطة بن الفرزدق قال
رأيت أبي فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال نفعتني الكلمة التي نازعنيها الحسن على القبر

هو والحسن البصري في جنازة النوار
أخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل الحساني عن علي بن عاصم عن سفيان بن الحسن وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام والرواية قريب

بعضها من بعض أن النوار لما حضرها الموت أوصت الفرزدق وهو ابن عمها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره الفرزدق فقال إذا فرغتم منها فأعلمني وأخرجت وجاءها الحسن وسبقهما الناس فانتظروهما فأقبلا والناس ينتظرون فقال الحسن ما للناس فقال ينتظرون خير الناس وشر الناس فقال إني لست بخيرههم ولست بشرهم وقال له الحسن على قبرها ما أعددت لهذا المضجع فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة
هذا لفظ محمد بن سلام
وقال وكيع في خبره فتشاغل الفرزدق بدفنها وجلس الحسن يعظ الناس فما فرغ الفرزدق وقف على حلقة الحسن وقال
( لقد خاب من أولاد آدمَ مَنْ مَشَى ... إلى النار مغلولَ القِلادةِ أزرقا )
( أخاف وراءَ القبر إن لم يُعافِني ... أشدَّ من القبر التهابا وأضيقا )
( إذا جاءني يومَ القيامة قائدٌ ... عَنِيفٌ وسَوَّاقٌ يَقُود الفرزدقا )
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن هلال قال حدثنا خالد بن الحر قال
رأيت الحسن في جنازة أبي رجاء العطاردي فقال للفرزدق ما أعددت لهذا اليوم فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ بضع وتسعين سنة قال إذا تنجو إن صدقت
قال وقال الفرزدق في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس فقال الحسن لست بخير الناس ولست بشرهم

يذكر ذنوبه ويبكي
أخبرنا ابن عمار عن أحمد بن إسرائيل عن عبيد الله بن محمد القرشي بطوس قال
حدثني يزيد بن هاشم العبدي قال حدثنا أبي قال حدثنا فضيل الرقاشي قال
خرجت في ليلة باردة فدخلت المسجد فسمعت نشيجا وبكاء كثيرا فلم أعلم من صاحب ذلك إلى أن أسفر الصبح فإذا الفرزدق فقلت يا أبا فراس تركت النوار وهي لينة الدثار دفئة الشعار قال إني والله ذكرت ذنوبي فأقلقني ففزعت إلى الله عز و جل
أخبرني وكيع عن أبي العباس مسعود بن عمرو بن مسعود الجحدري قال حدثني هلال بن يحيى الرازي قال حدثني شيخ كان ينزل سكة قريش قال
رأيت الفرزدق في النوم فقلت يا أبا فراس ما فعل الله بك قال غفر لي بإخلاصي يوم الحسن وقال لولا شيبتك لعذبنك بالنار
أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه قال
لقيت الحسين بن علي صلوات الله عليهما وأصحابه بالصفاح وقد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل متقلدين السيوف متنكبين القسي عليهم يلامق من الديباج فسلمت عليه وقلت أين تريد قال العراق فكيف

تركت الناس قال تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك والدنيا مطلوبة وهي في أيدي بني أمية والأمر إلى الله عز و جل والقضاء ينزل من السماء بما شاء
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قال حدثني هارون بن عمر عن ضمرة بن شوذب قال
قيل لأبي هريرة هذا الفرزدق قال هذا الذي يقذف المحصنات ثم قال له إني أرى عظمك رقيقا وعرقك دقيقا ولا طاقة لك بالنار فتب فإن التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه
أخبرني هاشم بن محمد عن الرياشي عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة عن صالح المري عن حبيب بن أبي محمد قال
رأيت الفرزدق بالشام فقال لي أبو هريرة إنه سيأتيك قوم يوئسونك من رحمة الله فلا تيأس

موازنة بينه وبين جرير والأخطل
قال أبو الفرج والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل ومحله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول أو يدل على مكانه بوصف لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف وقد تكلم الناس في هذا قديما وحديثا وتعصبوا واحتجوا بما لا مزيد فيه واختلفوا بعد اجتماعهم على

تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر ولا له مثل ما لهما من فنونه ولا تصرف كتصرفهما في سائره وزعموا أن ربيعة أفرطت فيه حتى ألحقته بهما وهم في ذلك طبقتان أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين والى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال سمعت يونس ين حبيب يقول
ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه الفرزدق وجرير فاجتمع أهل ذلك المجلس على أحدهما
قال ابن سلام وكان يونس يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط وكان المفضل يقدمه تقدمة شديدة
قال ابن سلام وقال ابن دأب وسئل عنهما فقال الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة
أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن العلاء بن الفضل قال قال لي أبو البيداء يا أبا الهذيل أيهما أشعر أجرير أم الفرزدق قال قلت ذاك إليك ثم قال ألم تسمعه يقول
( ما حُمِّلت ناقةٌ من معشرٍ رجلاً ... مثلي إذا الريح لفّتني على الكُورِ )
( إلا قريشاً فإن الله فضّلها ... مع النبوّة بالإِسلام والخِير )
ويقول جرير
( لا تحسبَنَّ مِرّاسَ الحرب إذ لَقِحَتْ ... شُرْبَ الكسِيس وأكلَ الخبز بالصِّير )

سلح والله أبو حرزة
أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال
سمعت يونس يقول لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب
أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي غسان عن أبي عبيدة قال قال يونس أبو البيداء قال الفرزدق
كنت أهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان بن عفان فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ ووفد بي أبي إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عام الجمل فقال له إن ابني هذا يقول الشعر فقال علمه القرآن فهو خير له

يمضي خمسا وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف
قال أبو عبيدة ومات الفرزدق في سنة عشر ومائة وقد نيف على التسعين سنة كان منها خمسة وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف فيغضهم ما ثبت له أحد منهم قط إلا جريرا
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثنا ابن الرازي عن خالد بن كلثوم قال
قيل للفرزدق مالك وللشعر فو الله ما كان أبوك غالب شاعرا ولا كان صعصعة شاعرا فمن أين لك هذا قال من قبل خالي قيل أي أخوالك قال خالي العلاء بن قرظة الذي يقول

( إذا ما الدهر جرّ على أُناسٍ ... بكلكله أناخ بآخرينا )
( فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا )

يرد على قوم من بني ضبة
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وأخبرني هاشم الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال
دخل قوم من بني ضبة على الفرزدق فقالوا له قبحك الله من ابن أخت قد عرضتنا لهذا الكلب السفيه يعنون جريرا حتى يشتم أعراضنا ويذكر نساءنا فغضب الفرزدق وقال بل قبحكم الله من أخوال فو الله لقد شرفكم من فخري أكثر مما غضكم من هجاء جرير أفأنا ويلكم عرضتكم لسويد بن أبي كاهل حيث يقول
( لقد زَرِقتْ عيناك يا بن مُكَعْبَرٍ ... كما كلُّ ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرقُ )
( ترى اللؤمَ فيهم لائحاً في وجوههم ... كما لاح في خيل الحلائب أبلق )
أو أنا عرضتكم للأغلب العجلي حيث يقول
( لن تجد الضَّبِّيَّ إلاّ فَلاّ ... عبداً إِذانا ولقومٍ ذَلاَّ )

( مثل قَفا المُدية أو أَكَلاً ... حتى يكون الأَلأَمَ الأقلاَّ )
أو أنا عرضتكم له حيث يقول
( إذا رأَيتَ رجلاً من ضبَّهْ ... فنكه عمداً في سَوَاء السَّبَّهْ )
( إن اليَمانِيَّ عِقَاصُ الزّبَّه ... )
أو أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث يقول
( ولو يُذبًح الضَّبيُّ بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضّبيّ لحماً ولا دما )
والله لما ذكرت من شرفكم وأظهرت من أيامكم أكثر ألست القائل
( وأنا ابنُ حنظلةَ الأغرُّ وإنني ... في آل ضبَّة للمُعِمُّ المُخْوِلُ )
( فرعان قد بلغ السّماءَ ذُرَاهما ... وإليهما من كل خوف يُعْقَلُ )

بنو حرام يخشون معرة لسانه
أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام عن أبي بكر محمد بن واسع وعبد القاهر قالا
كان فتى في بني حرام بن سماك شويعر قد هجا الفرزدق فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هو بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق لا عدوى عليك ولا قصاص فخلى عنه وقال

( فمن يكُ خائفاً لأذاة قولِي ... فقد أمِنَ الهجاءَ بنو حَرامِ )
( همُ قادوا سفيهَهْمُ وخافوا ... قلائدَ مثلَ أطواق الحمَام )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني الحكم بن محمد قال كان رجل من قضاعة ثم من بني القين على السند وفي حبسه رجل يقال له حبيش أو خنيس وطالت غيبته عن أهله فأتت أمه قبر غالب بكاظمة فأقامت عليه حتى علم الفرزدق بمكانها ثم إنها أتت فطلبت إليه في أمر ابنها فكتب إلى تميم القضاعي
( هَب لي خُنَيْساً واتّخذْ فيه منّةً ... لُغصَّة أُمٍّ ما يَسوغ شرابُها )
( أَتَتْني فعاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السَّافي عليه ترابها )
( تميمُ بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي ... بظهرٍ فلا يخفَى عليَّ جوابُها )
فلما أتاه الكتاب لم يدر أخنيس أم حبيش فأطلقهما جميعا
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر خيما على قبر غالب فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه ثم قدم عليه وهو بالمربد فقال
( بقبرِ ابن ليلى غالب عُذْتُ بعدما ... خشيتُ الرّدَى أَو أَن أُردَّ على قسر )
( فخاطبني قبرُ ابن ليلى وقال لي ... فَكَاكُك أن تَلْقَى الفرزدقَ بالمِصْر )
فقال له الفرزدق صدق أبي أنخ أنخ ثم طاف في الناس حتى جمع كتابته وفضلا

يناقض نفسه في شعره
أخبرني ابن خلف وكيع عن هارون بن الزيات عن أحمد بن حماد ابن الجميل قال حدثنا القحذمي عن ابن عياش قال
لقيت الفرزدق فقلت له يا فراس أنت الذي تقول
( فليتَ الأكفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف ... يُقطَّعْن إذ غَّيبْن تحت السقائِف )
فقال نعم أنا فقلت له ثم قلت بعد ذلك له
( لئن نفرُ الحجّاح آلُ مُعَتِّب ... لَقُوا دوْلةً كان العدوُّ يُدالُها )
( لقد أصبح الأحياءُ منهم أذلةً ... وفي الناس موتاهم كلوحاً سِبالُها )
قال فقال الفرزدق نعم نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه فإذا تخلى منه انقلبنا عليه
أخبرنا هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن بعض أشياخه قال
شهد الفرزدق عند إياس بن معاوية فقال أجزنا شهادة الفرزدق أبي فراس وزيدونا شهودا فقام الفرزدق فرحا فقيل له أما والله ما أجاز شهادتك قال بلى قد سمعته يقول قد قبلنا شهادة أبي فراس قالوا أفما سمعته يستزيد شاهدا آخر فقال وما يمنعه ألا يقبل شهادتي وقد قذفت ألف محصنة
أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال
كان عطية بن جعال الغذاني صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن

رجلا من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفح له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال
( أبني غُدانة إنني حَرّرتكم ... فوهبتكم لعطيةَ بنِ جُعال )
( لولا عطيةُ لاجتَدعْتُ أنوفكم ... من بين ألأم أعين وسبال )
فبلغ ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها الله من هبة ممنوعة مرتجعة

خبر آخر عن المجنون الذي أراده
أخبرني وكيع عن هارون بن محمد قال حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي عن المدائني عن محمد بن النضر
أن الفرزدق مر بباب المفضل بن المهلب فأرسل إليه غلمة فاحتملوه حتى أدخل إليه بواسط وقد خرج من تيار ماء كان فيه فأمر به فألقي فيه بثيابه وعنده ابن أبي علقمة اليحمدي المجنون فسعى إلى الفرزدق فقال له المفضل ما تريد قال أريد أن أنيكه وأفضحه فو الله لا يهجو بعدها أحدا من الأزد فصاح الفرزدق الله الله أيها الأمير في أنا جوارك وذمتك فمنع عنه ابن أبي علقمة فلما خرج قال قاتل الله مجنونهم والله لو مس ثوبه لقام بها جرير وقعد وفضحني في العرب فلم يبق لي فيهم باقية
وأخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبي عن ابن شبة
عن محمد بن يحيى عن عبد الحميد عن أبيه عن جده قال أبو زيد وأخبرني أبو

حذف 404

عاصم عن الحسن بن دينار قال قال لي الفرزدق
ما مر بي يوم قط أشد علي من يوم دخلت فيه على أبي عيينة بن المهلب وكان يوما شديد الحر فما منا أحد إلا جلس في أبزن
فقلنا له إن أردت أن تنفعنا فابعث إلى ابن أبي علقمة فقال لا تريدوه فإنه يكدر علينا مجلسنا فقلنا لا بد منه فأرسل إليه فلما دخل فرآني قال الفرزدق والله
ووثب إلي وقد أنعظ أيره وجعل يصيح والله لأنيكنه فقلت لأبي عيينة الله الله في أنا في جوارك فو الله لئن دنا إلي لا تبقى لي باقية مع جرير فلم يتكلم أبو عيينة ولم تكن لي همة إلا أن عدوت حتى صعدت إلى السطح فاقتحمت الحائط فقيل له ولا يوم زياد كان مثل يومئذ فقال ولا مثل يوم زياد

عمر بن عبد العزيز يجيزه ثم ينفيه
أخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن إسحاق بن مروان مولى جهينة وكان يقال له كوزا الراوية قال احمد بن عمر وأخبرني عثمان بن خالد العثماني
أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصاء فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا له أيها الأمير إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعرا فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح ولا هجاء فبعث إليه عمر إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة وليس عند أحد ما يعطيه شاعرا وقد

أمرت لك بأربعة آلاف درهم فخذها ولا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء فأخذها الفرزدق ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره وعليه مطرفا خز أحمر وجبة خز أحمر فوقف عليه وقال
( أَعبد الله أَنت أَحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجماهير الكبارِ )
( نما الفاروقُ أُمَّك وابنُ أَروَى ... أَبوك فأَنت مُنصَدَعُ النّهارِ )
( هما قَمَرَا السماء وأَنتَ نجمٌ ... به في الليل يُدْلج كُلُّ سارِ )
فخلع عليه الجبة والعمامة والمطرف وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج رجل كان حضر عبد الله والفرزدق عنده ورأى ما أعطاه إياه وسمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد فدخل إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره فبعث إليه عمر ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء أخرج فقد أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك فخرج وهو يقول
( فأجّلني وواعدني ثلاثاً ... كما وُعِدَت لمهْلِكها ثَمُودُ )
قال وقال جرير فيه
( نفَاك الأغرُّ ابنُ عبد العزيزِ ... ومثلُك يُنفَى من المسجدِ )
( وَشبَّهْتَ نفسَكَ أشقى ثَمُودَ ... فقالوا ضلَلتَ ولم تهْتَدِ )

يهجو ابن عفراء لأنه استكثر عليه الجائزة
أخبرني حبيب المهلبي عن ابن أبي سعد عن صباح عن النوفلي بن خاقان عن يونس النحوي قال

مدح الفرزدق عمر بن مسلم الباهلي فأمر له بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقا لعمر فلامه وقال أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه عشرون درهما فبلغه ذلك فقال
( نهيتُ ابنَ عِفْرَى أن يعفِّر أمَّهُ ... كعَفْر السَّلا إذ جرّرَتْه ثعَالبُه )
( وإنّ امرأً يَغْتابني لم أَطأ له ... حريماً فلا ينهَاهُ عنِّي أَقاربُه )
( كمحتطبٍ يوماً أَساودَ هضبةٍ ... أَتاه بها في ظلمة الليل حاطبه )
( أَلمّا استَوى ناباي وأبيضَّ مِسْحلي ... وأطرقَ إطراقَ الكرى مَنْ أحاربُه )
( فلو كَان ضَبِّيَّا صفحتُ ولو سرت ... على قدمي حيَّاتُه وعقاربُه )
( ولكن دِيافيٌّ أبوه وأمه ... بحُورانَ يعصِرنَ السّليطَ قرائبه )

صوت
( ومقالها بالنَّعف نعف مُحّسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا )
( ذاك الذي أعطى مواثقَ عَهدِه ... ألاّ يخونَ وخلتُ أن لن يَنْقُضا )
( فلئن ظفرتُ بمثْلِها من مثلِه ... يوماً ليَعترفَنَّ ما قد أقْرَضا )
الشعر لخالد القسري والناس ينسبونه إلى عمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش
وقبل أن أذكر أخباره ونسبه فإني أذكر الرواية في أن هذا الشعر له
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد الواحد بن سعيد قال حدثني أبو بشر محمد بن خالد البجلي قال حدثني أبو الخطاب بن يزيد بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يحدث قال حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجلي قال

ركب خالد بن عبد الله وهو أمير العراق وهو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال لها المكرخة وهي من الكوفة على أربعة فراسخ وركبت معه في زورق فقال لي نشدتك الله يا بن جحوش هل سمعت غريض مكة يتغنى
( ومقالها بالنّعفِ نعفِ مُحّسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرضا )
قال قلت نعم قال الشعر والله لي والغناء لغريض مكة وما وجدت هذا الشعر في شيء من دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيون والمكيون وإنما يوجد في الكتب المحدثة والإسنادات المنقطعة ثم نرجع الآن إلى ذكره

بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار النابغة ونسبه
النابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان بن مضر
ويكنى أبا أمامة
وذكر أهل الرواية أنه إنما لقب النابغة لقوله
( فقد نَبَغتْ لهم منّا شؤونُ ... )
طبقته ومنزلته عند الخلفاء
وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم
وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر ابن شبة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شريك عن مجاهد عن الشعبي عن

ربعي بن حراش قال قال عمر يا معشر غطفان من الذي يقول
( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيَابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنونُ )
قلنا النابغة
قال ذاك أشعر شعرائكم
أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبيد بن جناد قال حدثنا معن بن عبد الرحمن عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن جده عن الشعبي قال قال عمر من أشعر الناس قالوا أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال من الذي يقول
( إلاّ سليمانَ إذ قال الإِله له ... قُمْ في البَريَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد )
( وخَبِّرِ الجِنَّ أنِّي قد أذِنتُ لهم ... يبنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعمدِ )
قالوا النابغة
قال فمن الذي يقول
( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثيابي ... على خوفٍ تُظَنُّ بيَ الظنونُ )
قالوا النابغة
قال فمن الذي يقول
( حلفتُ فلم أتركْ لنفسك رِيبةً ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مَذْهَبُ )
( لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي خِيانةً ... لمُبْلِغُك الواشِي أغَشُّ وأكْذَبُ )

( ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ أيَّ الرجالِ المَهَذَّبُ )
قالوا النابغة
قال فهو أشعر العرب
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي قال ذكر الشعر عند عمر ثم ذكر مثله
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني علي بن محمد عن المدائني عن عبد الله بن الحسن عن عمر بن الحباب عن أبي المؤمل قال
قام رجل إلى ابن عباس فقال أي الناس أشعر فقال ابن عباس أخبره يا أبا الأسود الدؤلي قال الذي يقول
( فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عنك وَاسعُ )
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي عن جرير بن شريك بن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا عند الجنيد بن عبد الرحمن

بخراسان وعنده بنو مرة وجلساؤه من الناس فتذاكروا شعر النابغة حتى أنشدوا قوله
( فإِنَّك كاللّيل الذي هو مدركِي ... وإن خلتُ أَنّ المنتأى عنك واسع )
فقال شيخ من بني مرة ما الذي رأى في النعمان حيث يقول له هذا وهل كان النعمان إلا على منظرة من مناظر الحيرة وقالت ذلك القيسية فأكثروا
فنظر إلي الجنيد وقال يا أبا خالد لا يهولنك قول هؤلاء الأعاريض فأقسم بالله أن لو عاينوا من النعمان ما عاين صاحبهم لقالوا أكثر مما قال ولكنهم قالوا ما تسمع وهم آمنون

كان الشعراء يحتكمون إليه
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثني عبد الملك بن قريب قال
كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها
قال وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد

( وإِنّ صخراً لَتَأْتمُّ الهُدَاةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسه نارُ )
فقال والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والإنس
فقام حسان فقال والله لأنا أشعر منك ومن أبيك
فقال له النابغة يا بن أخي أنت لا تحسن أن تقول
( فإِنّكَ كاللّيل الذي هو مُدْرِكِي ... وإن خِلتُ أنّ المنتأى عنك واسع )
( خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ مَتِيْنةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ إليك نَوَازِعُ )
قال فخنس حسان لقوله
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عمرو بن العلاء قال قال فلان لرجل سماه فأنسيته
بينا نحن نسير بين أنقاء من الأرض تذاكرنا الشعر فإذا راكب أطيلس يقول أشعر الناس زياد بن معاوية ثم تملس فلم نره
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو

يقول ما كان ينبغي للنابغة إلا أن يكون زهير أجيرا له
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال عمرو بن المنتشر المرادي
وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه فقام رجل فاعتذر من أمر وحلف عليه فقال له عبد الملك ما كنت حريا أن تفعل ولا تعتذر
ثم أقبل على أهل الشأم فقال أيكم يروي من اعتذار النابغة الى النعمان
( حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهُب )
فلم يجد فيهم من يرويه فأقبل علي فقال أترويه قلت نعم فأنشدته القصيدة كلها فقال هذا أشعر العرب
أخبرنا حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال قال معاوية بن بكر الباهلي قلت لحماد الراوية بم تقدم النابغة قال باكتفائك بالبيت الواحد من شعره لا بل بنصف بيت لا بل بربع بيت مثل قوله
( حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهُب )
كل نصف يغنيك عن صاحبه وقوله
( أيّ الرجال المهذَّبُ ... ) ربع بيت يغنيك عن غيره
وهذه القصيدة العينية يقولها في النعمان بن المنذر يعتذر اليه بها وبعدة قصائد قالها فيه تذكر في مواضعها
ولقد اختلفت الرواة في السبب الذي دعاه الى ذلك

خبره مع النعمان وزوجته المتجردة
فأخبرني حييب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة وغيره من علمائهم

ان النابغة كان كبيرا عند النعمان خاصا به وكان من ندمائه وأهل أنسه فرأى زوجته المتجردة يوما وغشيها تشبيها بالفجاءة فسقط نصيفها واستترت بيدها وذراعها فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها وغلظها فقال قصيدته التي أولها
( أمِنَ آلِ مَيّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِي ... عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مُزَوَّدِ )
( زعَمَ البوارحُ أنّ رِحْلَتنَا غداً ... وبذاك تَنْعَابُ الغُرَابِ الأسودِ )
( لا مرحباً بغَدٍ ولا أهلاً به ... إن كان تفريقُ الأحِبّةِ في غَدِ )
( أزفَ التَّرَحُّلُ غيرَ أَنّ رِكَابَنا ... لمّا تَزُلْ بِرِحالنا وَكَأنْ قَدِ )
( في إِثْرِ غانيةٍ رمتْك بسَهْمِها ... فأصاب قلبَك غير أنْ لم تُقْصِدِ )
( بالدُّرّ والياقوتِ زُيِّن نحرُها ... ومُفَصَّلٍ من لُؤْلُؤ وزَبَرْجَدِ )
عروضه من الكامل
وغناه أبو كامل من رواية حبش ثقيلا أول بالبنصر
وغناه الغريض من روايته ثاني ثقيل بالوسطى
وغناه ابن سريج من رواية إسحاق ثقيلا أول بالسبابة في مجرى الوسطى

قوله أمن آل مية يخاطب نفسه كالمستثبت
وعجلان من العجلة نصبه على الحال
والزاد في هذا الموضع ما كان من تسليم ورد تحية
والبوارح ما جاء من ميامنك إلى مياسرك فولاك مياسره
والسانح ما جاء من مياسرك فولاك ميامنه حكى ذلك أبو عبيدة عن رؤبة وقد سأله يونس عنه
وأهل نجد يتشاءمون بالبوارح وغيرهم من العرب تتشاءم بالسانح وتتيمن بالبارح ومنهم من لا يرى ذلك شيئا قال بعضهم
( ولقد غدوتُ وكنتُ لا ... أَغدو على واقٍ وحاتِمْ )
( فإذا الأشائمُ كالأيَامِن ... والأَيامِنُ كالأشائمْ )
وتنعاب الغراب صياحه يقال نعب الغراب ينعب نعيبا ونعبانا والتنعاب تفعال من هذا
وكان النابغة قال في هذا البيت
( وبذاك خبَّرنا الغُرَابُ الأسودُ ... ) ثم ورد يثرب فسمعه يغنى فيه فبان له الإقواء فغيره في مواضع من شعره

الإقواء عيب في شعره
وأخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي قال أبو عبيدة كان فحلان من الشعراء يقويان النابغة وبشر بن أبي

خازم فأما النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت وأكفأت فدعوا قينة وأمروها أن تغني في شعره ففعلت
فلما سمع الغناء وغير مزوُّد والغرابُ الأسوُد وبان له ذلك في اللحن فطن لموضع الخطأ فلم يعد
وأما بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة إنك تقوي قال وما ذاك قال قولك
( ويُنْسِي مثلَ ما نُسِيت جُذَامُ ... )
ثم قلت بعده
( إلى البلد الشآمِ ... )
ففطن فلم يعد
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط وغيره من علمائنا قالوا
كان النابغة يقول إن في شعري لعاهة ما أقف عليها
فلما قدم المدينة غني في شعره فلما سمع قوله
( واتَّقَتْنا باليد ... ) و
( يكاد من اللَّطافةِ يُعْقَدُ ... ) تبين له لما مدت باليد فصارت الكسرة ياء ومدت يُعْقَدُ فصارت الضمة كالواو ففطن فغيره وجعله
( عَنَمٌ على أغصانِهِ لم يُعْقَدِ ... )
وكان يقول وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة فصدرت عنها

وأنا أشعر الناس
وقوله لا مرحبا لا سعة ونصبه ها هنا شبيه بالمصدر كأنه قال لا رحب رحبا ولا أهل أهلا
وأزف قرب
قال وقال في قصيدته هذه يذكر ما نظر إليه من المتجردة وسترها وجهها بذراعها

صوت
( سقَط النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناولتْه واتَّقَتْنا باليَدِ )
( بمُخَضَّب رَخْصٍ كأنّ بَنَانَه ... عَنَمٌ على أغصانِهِ لم يُعْقَدِ )
( وبفاحمٍ رَجْلٍ أثِيثٍ نبتُه ... كالكَرْمِ مَالَ على الدِّعَامِ المُسْنَدِ )
( نظرتْ اليك بحاجةٍ لم تَقْضِها ... نَظَرَ السَّقِيم إلى وُجُوه العُوَّدِ )
غناه ابن سريج ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو
والنصيف الخمار والجمع أنصفة ونصف
والعنم فيما ذكر أبو عبيدة يساريع حمر تكون في البقل في الربيع
وقال الأصمعي العنم شجر يحمر وينعم نبته
والفاحم الشديد السواد
والرجل الذي ليس بجعد
والأثيث المتكاثف قال أمرؤ القيس
( أثِيثٍ كقِنْوِ النخلة المُتَعَثْكِلِ ... )
ويقال شعر رجل ورجل ويروى
( ورنتْ إِليَّ بمقلتَيْ مكحولةٍ ... )

والمكحولة البقرة
وقوله لم تقضها يعني المرأة أي لم تقدر على الكلام من مخافة أهلها فهي كالسقيم الذي ينظر الى من يعوده
غناه أبن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة

اتهم بالتخنث
وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري قال
قال الهيثم بن عدي قال لي صالح بن حسان كان والله النابغة مخنثا
قلت وما علمك به أرأيته قط قال لا والله
قلت أفأخبرت عنه قال لا
قلت فما علمك به قال أما سمعت قوله
( سَقَط النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إِسقاطَه ... فتناولته واتَّقتْنا باليدِ )
لا والله ما أحسنَ هذه الإشارة ولا هذا القولَ إِلا مُخَنَّثٌ
قال فأنشدها النابغة مرة بن سعد القريعي فأنشدها مرة النعمان فامتلأ غضبا فأوعد النابغة وتهدده فهرب منه فأتى قومه ثم شخص إلى ملوك غسان بالشأم فامتدحهم
وقيل إن عصام بن شهبر الجرمي حاجب النعمان أنذره وعرفه ما يريده النعمان وكان صديقه فهرب
وعصام الذي يقول

فيه الراجز
( نَفْسُ عِصَامٍ سَوّدتْ عِصَامَا ... وَعلَّمتْه الكَرَّ والإِقدامَا )
( وجعلته مَلِكاً هُمَامَا ... )
وقال من رويت عنه خبر النابغة إن السبب في هربه من النعمان أن عبد القيس بن خفاف التميمي ومرة بن سعد بن قريع السعدي عملا هجاء في النعمان على لسانه وأنشدا النعمان منه أبياتا يقال فيها
( مَلكٌ يُلاعِبُ أُمَّه وقَطِينَه ... رِخْوُ المَفَاصِلِ أَيْرُه كالمِرْوَدِ ) ومنه
( قَبَّح اللهُ ثم ثَنَّى بِلَعْنٍ ... وارثَ الصائغ الجَبَانَ الجهُولاَ )
( مَنْ يَضُرُّ الأدنَى وَيَعْجِزُ عن ضَرِّ الأقاصِي ومَنْ يَخُون الخليلا ... )
( يجمع الجيشَ ذا الألوفِ ويغزو ... ثم لا يَرْزأ العَدُوَّ فَتيلا )
يعني بوارث الصائغ النعمان وكان جده لأمه بفدك يقال له عطية
وأم النعمان سلمى بنت عطية
فأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن مرة بن سعد القريعي الذي وشى

بالنابغة كان له سيف قاطع يقال له ذو الريقة من كثرة فرنده وجوهره فذكره النابغة للنعمان فأخذه
فاضطغن ذلك القريعي حتى وشى به إلى النعمان وحرضه عليه
وأخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن أبن قتيبة وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة قالوا جميعا
إن الذي من أجله هرب النابغة من النعمان أنه كان والمنخل بن عبيد ابن عامر اليشكري جالسين عنده وكان النعمان دميما أبرش قبيح المنظر وكان المنخل بن عبيد من أجمل العرب وكان يرمي بالمتجردة زوجة النعمان ويتحدث العرب أن ابني النعمان منها كانا من المنخل
فقال النعمان للنابغة يا أبا أمامة صف المتجردة في شعرك فقال قصيدته التي وصفها فيها ووصف بطنها وروادفها وفرجها
فلحقت المنخل من ذلك غيرة فقال للنعمان ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من جربه
فوقر ذلك في نفس النعمان وبلغ النابغة فخافه فهرب فصار في غسان

تشبيبه بهند صاحبة المنخل اليشكري
قالوا وكان المنخل يهوى هندا بنت عمرو بن هند وفيها يقول
صوت
( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدْرَ في اليومِ المَطِير )
( الكاعِبِ الحسناءِ تَرْفُلُ ... في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ )
( فدفعتُها فتدافعتْ ... مَشْيَ القَطَاةِ إلى الغَدِيرِ )
( وَلَثَمْتُها فَتنفَّستْ ... كتنفُّس الظَّبْيِ البَهِير )
غناه ابراهيم الموصلي من رواية عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق
( وَبَدَتْ وقالت يا مُنَخَّلُ ... ما بجسمك من فُتورِ )
( ما مَسَّ جِسْمِي غيرُ حُبِّكِ ... فاهْدَئي عنِّي وسِيرِي )
( ولقد شَرِبتُ من المُدَامةِ ... بالكبيرِ وبالصغيرِ )
( فإذا سَكِرتُ فإِنَّني ... رَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ )
( وإذا صحوتُ فإِنّني ... ربُّ الشُّوَيْهَةِ والبعير )
( يا هِنْدُ هل من نائلٍ ... يا هندُ للعانِي الأسِير )
( وأحِبُّها وتُحِبُّني ... وتُحِبّ ناقتُها بعيري )

وقال حماد بن إسحاق عن أبيه في كتاب أغاني ابن مسجح في هذا الصوت لمالك ومعبد وابن سريج وابن محرز والغريض وابن مسجح لكلهم فيه ألحان قال فبلغ عمرا خبر المنخل فأخذه فقتله
وقال المنخل قبل أن يقتله وهو محبوس في يده يحض قومه على طلب الثأر به
( طُلَّ وَسْطَ العِرَاقِ قَتْلِي بِلاَ جُرْمٍ ... وَقَوْمِي يُنَتِّجون السِّخالاَ )
رجع الخبر إلى سياقه
قالوا جميعا فلما صار النابغة الى غسان نزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر وأم الحارث الأعرج مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندية وهي ذات القرطين اللذين يضرب بهما المثل فيقال لما يغلى به الثمن خذه ولو بقرطي مارية
وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار
وإياها عنى حسان بقوله في جبلة بن الأيهم
( أولادُ جَفْنَةَ حولَ قبرِ أبِيهمُ ... قبر ابن مَارِيَةَ الجَوَادِ المُفْضِلِ )

مدحه النعمان وأخاه عمرو بن الحارث
ولذلك خبر يأتي في موضعه فمدحه النابغة ومدح أخاه النعمان
ولم يزل مقيما مع عمرو حتى مات وملك أخوه النعمان فصار معه الى أن استطلعه النعمان فعاد إليه
فمما مدح به عمرا قوله
صوت
( كِلِيِني لِهَمٍّ يا أمَيْمَةَ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أَقَاسِيهِ بَطِيء الكواكبِ )
( وَصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّه ... تضاعَفَ فيه الحُزْنُ من كلِّ جانب )
( تَقَاعَسَ حتى قلتُ ليس بمُنْقَضٍ ... وليس الذي يَهْدِي النجومَ بِآئِبِ )
( عَلَيّ لِعَمْروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذاتِ عَقَارِبِ )
عروضه من الطويل
غنى في البيتين الأولين ابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو
وغنى فيه الأبجر من رواية حبش ثاني ثقيل بالوسطى
وغنى مالك في البيت الرابع ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات
وغنى في الأربعة الأبيات عبد الله بن العباس الربيعي ماخوريا عن حبش وغنى فيها طويس رملا بالوسطى بحكايتين عن حبش
هكذا روي قوله يا أميمة مفتوح الهاء
قال الخليل من عادة العرب أن تنادي المؤنث بالترخيم فتقول يا أميم ويا عز ويا سلم فلما لم يرخم لحاجته الى الترخيم أجراها على لفظها مرخمة وأتى بها بالفتح
وكليني أي دعيني

ووكلته الى كذا أكله وكالة
وناصب متعب
وبطيء الكواكب أي قد طال حتى إن كواكبه لا تجري ولا تغور
أراح رد
يقال أراح الرجل إبله أي ردها
فيقول رد هذا الليل إلي ما عزب من همي بالنهار لأنه يتعلل نهارا بمحادثة الناس والتشاغل بغير الفكر فإذا خلا بالليل راح اليه همه
وتقاعس تأخر وأصل التقاعس الرجوع الى خلف القهقري فشبه الليل في طوله بالمتقاعس
والذي يهدي النجوم أولها شبهها بهواديها
وقوله
( ليست بذات عقارب ... ) أي لا يكدرها ولا يمنها ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
( حلفتُ يميناً غيرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إِلاَّ حسنَ ظَنِّي بصاحبِ )
( لئن كان للقَبْرَينِ قَبْرٍ بِجِلَّقٍ ... وَقَبْرٍ بصَيْدَاءَ الذي عند حارب )
( وللحارثِ الجَفْنِيِّ سَيِّدِ قومِهِ ... لَيَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المُحَارِبِ )
غناه إسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهبه من رواية عمرو بن بانة عنه ومن رواية حبش
وغناه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر
يقول ليس لي علم بما يكون من صاحبي إلا أني أحسن الظن به
وقوله
( لئن كان للقبرين ... ) يعني لئن كان عمرو ابنا للمدفونين في هذين القبرين يعني قبر أبيه وجده وهما الحارث الأكبر والحارث الأعرج ليلتمسن جيشه دار المحارب له يحرضه بذلك
ويروى أرض المحارب

( ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفَهم ... بهنّ فلولٌ من قِرَاع الكتائبِ )
( إذا استنْزِلوا عنهن الطعن أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقال الجِمَال المَصَاعِبِ )
صوت
( لهم شِيمةُُ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم ... من النَّاسِ والأحلامُ غيرُ عَوَازب )
( على عارفاتٍ للطِّعانِ عَوَابِسٍ ... بهنّ كلومٌ بين دامٍ وجالِبِ )
( ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلولٌ من قِراع الكتائب )
( إذا استُنْزِلوا عنهنّ للطعن أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقالَ الجمال المصاعب )
( حَبَوْتُ بها غَسّان إذ كنتُ لاحقاً ... بقومي وإذْ أعيتْ عليّ مَذَاهِبي )
وجدت في كتاب لهارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في البيتين والثالث والرابع لحنا منسوبا إلى معبد من خفيف الرمل بالوسطى
وأحسبه من لحن يحيى المكي
الشيمة الطبيعة وجمعها شيم
غير عوازب أي لا تعزب أحلامهم فتنفذ عنهم
وعارفات للطعان أي صابرات عليه قد عودت أن يحارب عليها
وعوابس كوالح
وجالب أي عليه جلبة وهي قشرة تكون على الجرح يقال جلب الجرح يجلب جلوبا وأجلب إجلابا
والإرقال مشي يشبه الخبب سريع
والمصاعب واحدها مصعب وهو الفحل الذي لم يمسسه الحبل وإنما يقتنى للفحلة ويقال له قرم ومقرم
وقوله حبوت بها يعني

بالقصيدة وروى أبو عبيدة إذ كنت لاحقا بقوم وقال يعني إذ كنت لاحقا بغيركم أي بقوم آخرين فكنتم أحق بالمدح منهم
قالوا فنظر إلى النعمان بن الحارث أخي عمرو وهو يومئذ غلام فقال
( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُقتبِلُ الخيرِ سريعُ التَّمَام )
( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام )
( ثم لِهندٍ ولهندٍ فقد ... أسرع في الخيراتِ منه إمام )
( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هُمُ ... هُمْ خيرُ من يشرب صوبَ الغَمَام )
غناه حنين خفيف رمل بالبنصر عن حبش

الشعبي يفضله على الأخطل في مجلس عبد الملك بن مروان
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثناعمر بن شبة قال حدثنا هارون بن عبد الله الزبيري قال حدثنا شيخ يكنى أبا داود عن الشعبي قال
دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل وأنا لا أعرفه
فقلت حين دخلت عامر بن شراحيل الشعبي
فقال على علم ما أذنا لك
فقلت في نفسي خذ واحدة على وافد أهل العراق
فسأل عبد الملك الأخطل من أشعر الناس قال أنا يا أمير المؤمنين
فقلت لعبد الملك من هذا يا أمير

المؤمنين فتبسم وقال هذا الأخطل
فقلت في نفسي خذها ثنتين على وافد أهل العراق فقلت أشعر منك الذي يقول
( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُسْتَقْبِلُ الخيرِ سريعُ التَّمَام )
( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام )
( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هم ... هُمْ خيرُ من يشرب ماء الغمام )
والشعر للنابغة فقال الأخطل إن أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه ولو سألني عن أشعر أهل الجاهلية لكنت حريا أن أقول كما قلت أو شبيها به
فقلت في نفسي خذها ثلاثا على وافد أهل العراق
يعني أنه أخطأ ثلاث مرات
ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز ولم أسمعه من أحد ووجدته أتم مما رأيت في كل موضع فأتيت به في هذا الموضع وإن لم يكن من خاص خبر النابغة لأنه أليق به
قال أحمد بن الحارث الخراز حدثني المدائني عن عبد الملك بن مسلم قال
كتب عبد الملك إلى الحجاج إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه ولم يكن عندي شيء ألذه إلا مناقلة الإخوان للحديث
وقبلك عامر الشعبي فابعث به إلي يحدثني
فدعا الحجاج الشعبي فجهزه وبعث به إليه وقرطه وأطراه في كتابه
فخرج الشعبي حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب استأذن لي
قال من أنت قال أنا عامر الشعبي
قال حياك الله ثم نهض فأجلسني على كرسيه
فلم يلبث أن خرج إلي فقال ادخل يرحمك الله
فدخلت فإذا عبد الملك جالس على كرسي وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية على كرسي فسلمت فرد علي السلام ثم أومأ إلي بقضيبه فقعدت عن يساره ثم أقبل على الذي بين يديه فقال ويحك

من اشعر الناس قال أنا يا أمير المؤمنين
قال الشعبي فأظلم علي ما بيني وبين عبد الملك فلم أصبر أن قلت ومن هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس قال فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي قال هذا الأخطل
فقلت يا أخطل أشعر والله منك الذي يقول
( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُسْتَقْبِلُ الخيرِ سريعُ التَّمَامْ )
( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام )
( ثم لهندٍ ولهندٍ فقد ... أسرع في الخيراتِ منه إمام )
( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هُمُ ... هُمْ خيرُ من يشرب صوبَ الغَمَام )
فرددتها حتى حفظها عبد الملك
فقال الأخطل من هذا يا أمير المؤمنين قال هذا الشعبي
قال فقال صدق والله يا أمير المؤمنين النابغة والله أشعر مني
فقال الشعبي ثم أقبل علي فقال كيف أنت يا شعبي قلت بخير يا أمير المؤمنين فلا زلت به
ثم ذهبت لأضع معاذيري لما كان من خلافي على الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى تفارقنا
ثم أقبل علي فقال ما تقول في النابغة قال قلت يا أمير المؤمنين قد فضله عمر بن الخطاب في غير موطن على الشعراء أجمعين وببابه وفد غطفان فقال يا معشر غطفان أي شعرائكم الذي يقول
( حَلَفتُ فلم أتركْ لنفسك رِيبةً ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مَذْهَبُ )
( لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي خِيانةً ... لَمُبْلِغُكَ الواشِي أغَشُّ وأكْذَبُ )
( ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّب )

قالوا النابغة يا أمير المؤمنين قال فأيكم الذي يقول
( فإِنَّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإن خلتُ أَن المنتأى عنك واسعُ )
( خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حبالٍ مَتِيْنةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ إليك نوازع )
قالوا النابغة
قال فأيكم الذي يقول
( الى ابن مُحَرِّقٍ أعملتُ نفسي ... وراحلتي وقد هَدَتِ العيونُ )
( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيَابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنونُ )
( فألفيْتُ الأمانة لم تَحُنْها ... كذلك كان نُوحٌ لا يخون )
قالوا النابغة يا أمير المؤمنين
قال هذا أشعر شعرائكم
قال ثم أقبل على الأخطل فقال أتحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أو تحب أنك قلته قال لا والله يا أمير المؤمنين إلا أني وددت أن كنت قلت أبياتا قالها رجل منا كان والله ما علمت مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع
قال وما قال فأنشد قصيدته
( إنّا مُحَيُّوكَ فاسْلَمْ أيُّها الطَّلَلُ ... وإن بَلِيتَ وإن طالت بكَ الطِّيَلُ )
( ليس الجديدُ به تبقَى بَشَاشتُه ... إِلاَّ قليلاً ولا ذو خُلَّةٍ يصلُ )
( والعيشُ لا عيشَ إلاَّ ما تَقَرُّ به ... عينٌ ولا حالَ إِلاَّ سوف تنتقل )
( إِن تَرْجِعي من أبي عثمانَ مُنْجِحةً ... فقد يَهُون على المُسْتَنْجِح العمل )
( والناسُ مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأُِمِّ المخطىء الهَبَلُ )
( قد يُدْرِكُ المُتَأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكون مع المستعجِلِ الزلل )

حتى أتى على آخرها قال الشعبي فقلت قد قال القطامي أفضل من هذا قال وما قال قلت قال
( طَرَقتْ جَنُوبُ رِحالَنَا من مَطْرَقِ ... ما كنت أحسَبُها قريبَ المُعْنَقِ )
( قطَعتْ اليك بمثلِ جيدِ جَدايةٍ ... حَسَن مُعَلَّق تُومَتَيْه مُطَوَّقِ )
( ومُصَرَّعِين من الكَلاَل كأنما ... شَرِبوا الغَبُوقَ من الرَّحِيق المُعْرَقِ )
( متوسِّدين ذراعَ كلِّ نَجيبةٍ ... ومُفَرَّجٍ عُرَقِ المَقَذِّ مُنَوَّقِ )
( وَجَثَتْ على رُكَبٍ تَهُدّ بها الصَّفَا ... وعلى كَلاَكِلَ كالنَّقِيلِ المُطْرَقِ )
( وإذا سمِعْنَ إلى هَمَاهِمِ رُفْقَةٍ ... ومن النجوم غوابِرٌ لم تَخْفِقِ )
( جعلتْ تُميلُ خدودَها آذانُها ... طَرَباً بهنّ إلى حُداء السُّوَّق )

( كالمُنْصِتات إلى الغناء سمعنَه ... من رائع لقلوبهن مُشَوِّق )
( وإذا نظرنَ إلى الطَّريق رأينه ... لهقاً كشاكلة الحِصان الأبلق )
( وإذا تخلَّف بعدهنّ لحاجةٍ ... حادٍ يُشَسِّعُ نَعْلَه لم يَلْحَقِ )
( وإذا يصيبك والحوادثُ جَمَّةٌ ... حَدَثٌ حَدَاك إلى أخيكَ الأوثق )
( لئن الهمومُ عن الفؤاد تفرّقت ... وَخَلاَ التَّكَلُّمُ للّسان المُطْلَق )
قال فقال عبد الملك هذا والله أشعر ثكلت القطامي أمه قال فالتفت إلي الأخطل فقال يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث وإنما لنا فن واحد فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا فقلت لا أعرض لك في شيء من الشعر أبدا فأقلني في هذه المرة قال من يتكفل بك قلت أمير المؤمنين
فقال عبد الملك هو علي ألا يعرض لك أبدا ثم قال يا شعبي أي نساء الجاهلية أشعر قلت خنساء
قال ولم فضلتها على غيرها قلت لقولها
( وقائلةٍ والنَّعْشُ قد فات خَطْوَها ... لِتُدْرِكه يالَهْفَ نفسي على صَخْرِ )
( أَلاَ ثَكِلتْ أمُّ الذين غَدَوْا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر ) فقال عبد الملك أشعر منها والله التي تقول
( مُهَفْهَفث الكَشْحِ والسربالِ منخرقٌ ... عنه القميصُ لسير الليل محتقرُ )

( لا يأمَنُ الناسُ مُمْساه ومُصْبَحَهُ ... في كلِّ فَجٍّ وإن لم يَغْزُ يُنْتَظَرُ )
ثم قال يا شعبي لعلك شق عليك ما سمعت
قلت إي والله يا أمير المؤمنين أشد المشقة
إني أحدثك منذ شهرين لم أفدك إلا أبيات النابغة في الغلام
قال يا شعبي إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن اهل العراق يتطاولون على أهل الشام يقولون إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية وأهل الشأم أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق ثم رد علي الأبيات أبيات ليلى حتى حفظتها ولم أزل عنده فكنت أول داخل وآخر خارج
قال فمكثت كذلك سنتين وجعلني في ألفين من العطاء وعشرين رجلا من ولدي وأهل بيتي في ألفين ألفين فبعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب اليه يا أخي إني قد بعثت اليك الشعبي فأنظر هل رأيت مثله قط ثم أذن لي فأنصرفت
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني وأخبرني ببعضه أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة عن أبي بكر الهذلي قال
قال حسان بن ثابت قدمت علىالنعمان بن المنذر وقد أمتدحته فأتيت حاجبه عصام بن شهبر فجلست إليه فقال إني لأرى عربيا أفمن الحجاز أنت قلت نعم
قال فكن قحطانيا
فقلت فأنا قحطاني
قال فكن يثربيا
قلت فأنا يثربي
قال فكن خزرجيا
قلت فأنا خزرجي
قال فكن حسان بن ثابت
قلت فأنا هو
قال أجئت بمدحة الملك قلت نعم
قال فإني أرشدك إذا دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم

ويسبه فإياك أن تساعده على ذلك ولكن أمر ذكره إمرارا لا توافق فيه ولا تخالف وقل ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وأنت منه
وإن دعاك إلى الطعام فلا تؤاكله فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة بار قسمه متشرف بمؤاكلته لا أكل جائع سغب ولا تطل محادثته ولا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك ولا تطل الإقامة في مجلسه
فقلت أحسن الله رفدك قد أوصيت واعيا
ودخل ثم خرج إلي فقال لي ادخل
فدخلت فسلمت وحييت تحية الملوك
فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه كان حاضرا وأجبت بما أمرني ثم أستأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته
ثم دعا بالطعام ففعلت ما أمرني عصام به وبالشراب ففعلت مثل ذلك
فأمر لي بجائزة سنية وخرجت
فقال لي عصام بقيت علي واحدة لم أوصك بها قد بلغني أن النابغة الذبياني قدم عليه وإذا قدم فليس لأحد منه حظ سواه فأستأذن حينئذ وانصرف مكرما خير من أن تنصرف مجفوا فأقمت ببابه شهرا
ثم قدم عليه الفزاريان وكان بينهما وبين النعمان دخلل أي خاصة وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسألة النعمان أن يرضى عنه
فضرب عليهما قبة من أدم ولم يشعر بأن النابغة معهما
ودس النابغة قينة تغنيه بشعره
( يا دار مَيّةَ بالعَلْياء فالسَّنَدِ ... )
فلما سمع الشعر قال أقسم بالله إنه لشعر النابغة وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين فكلماه فيه فأمنه
وقال أبو زيد عمر بن شبة في خبره لما صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب وألطاف مع قينة من إمائه فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة

قبلهما
فذكرت ذلك للنعمان فعلم أنه النابغة
ثم ألقى عليها شعره هذا وسألها أن تغنيه به إذا أخذت فيه الخمر ففعلت فأطربته فقال هذا شعر علوي هذا شعر النابغة
قال ثم خرج في غب سماء فعارضه الفزاريان والنابغة بينهما قد خضب بحناء فقنأ خضابه
فلما رآه النعمان قال هي بدم كانت أحرى أن تخضب
فقال الفزاريان أبيت اللعن لا تثريب قد أجرناه والعفو أجمل فأمنه وأستنشده أشعاره
فعند ذلك قال حسان بن ثابت
فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشد حسدا على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه أم على جودة شعره أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها
قال أبو عبيدة قيل لأبي عمرو أفمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك فقال لا لعمر الله ما لمخافته فعل إن كان لامنا من أن يوجه النعمان له جيشا وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره
وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده لا يستعمل غير ذلك
وقيل إن السبب في رجوعه إلى النعمان بعد هربه منه أنه بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به فصار إليه وألفاه محمولا على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة
فقال لعصام بن شهبر حاجبه فيما أخبرنا به اليزيدي عن عمه عبيد الله وابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل

صوت
( ألم أُقْسِمْ عَلَيكَ لَتُخْبِرَنِّي ... أمحمولٌ على النَّعْشِ الهُمَامُ )
( فإِنّي لا ألومُك في دخولي ... ولكن ما وراءكَ يا عِصَامُ )
( فإِنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْ ... ربيعُ النَّاسِ والشهرُ الحرامُ )
( ونُمْسِك بعده بِذِنَابِ عيشٍ ... أجَبِّ الظهر ليس له سَنَامُ )
غناه حنين ثقيلا أول بالبنصر عن حبش
قال أبو عبيدة كانت ملوك العرب إذا مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه فيكون كذلك على أكتاف الرجال لأنه عندهم أوطأ من الأرض
وقوله
( فإني لا ألومُك في دخولي ... )
أي لا ألومك في ترك الإذن لي في الدخول ولكن أخْبِرْني بكُنْه أمره وقوله
( ربيع الناس والشهر الحرام ... )
يريد أنه كالربيع في الخِصْب لِمُجْتَدِيه وكالشهر الحرام لجاره لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد

أصوات من شعره تغنى
صوت
( رأيُتك تَرْعَاني بعينٍ بصيرةٍ ... وتبعث حُرَّاساً عليَّ وناظرا )
( فآليتُ لا آتيك إن كنتُ مُجْرِماً ... ولا أبتغي جاراً سواك مجاورا )
( وأهلي فداءٌ لامرىء إِن أتيتُهُ ... تقبَّل معروفي وسَدَّ المَفَاقِرا )
( ألاَ أَبْلِغِ النُّعْمَانَ حيث لَقِيتَه ... وأهدَى له اللهُ الغيوثَ البواكرا )
غناه خليد الوادي رملا بالبنصر من رواية حبش
ومما يغنى فيه من قصائد النابغة التي يعتذر فيها إلى النعمان
صوت
( يا دارَ مَيّةَ بالعَلْياء فالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وطال عليها سالف الأَمَدِ )
( وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... أعْيَتْ جواباً وما بالرَّبْع من أحدِ )
( إِلاَّ الأوارِيّ لأْياً ما أُبَيِّنُها ... والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمظلومة الجَلَدِ )
( ردّتْ عليه أقاصيه ولبّده ... ضَرْبُ الولِيدةِ بالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ )
( خَلَّتْ سبيلَ أَتِيٍّ كان يحبِسه ... ورفَّعته إلى السَّجْفين فالنَّضَدِ )
( أضحتْ خَلاَءً وأضحى أهلُها احْتَمَلوا ... أَخْنَى عليها الذي أَخْنَى على لُبَدِ )

الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لجميلة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وحبش
قال الأصمعي قوله يا دار مية يريد يا أهل دار مية كما قال امرؤ القيس
( ألاَعِمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلُ البالي ... )
يريد أهل الطلل وقال الفراء إنما نادى الدار لا أهلها أسفا عليها وتشوقا إلى أهلها وتمنيه أن تكون أهلا والعلياء المكان المرتفع بناؤه يقال من ذلك علا يعلو وعلي يعلى مثل حلا يحلو وحلي يحلى وسلا يسلو وسلي يسلى
والسند سند الجبل وهو ارتفاعه حيث يسند فيه أي يصعد
أقوت أقفرت وخلت من أهلها
وقال أبو عبيدة في قوله يا دار مية ثم قال أقوت ولم يقل أقويت
إن من شأن العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه ويكفوا عنه وروى الأصمعي أصيلانا وهو تصغير أصلان
ويروى عيت جوابا أي عييت بالجواب
والأواري جمع آري
ولأيا بطأ
والمظلومة التي لم يكن فيها أثر فحفر أهلها فيها حوضا وظلمهم إياها إحداثهم فيها ما لم يكن فيها
شبه النؤي بذلك الحوض لاستدارته
والجلد الأرض الصلبة الغليظة من غير حجارة
وإنما جعلها جلدا لأن الحفر فيها لا يسهل
وقوله ردت عليه أقاصيه يعني أمة فعلت ذلك أضمرها ولم يكن جرى لها ذكر
وأقاصيه يعني أقاصي النؤي على أدناه ليرتفع
ولبده طأمنه والوليدة الأمة

الشابة
والثأد الندى
والسبيل الطريق والأتي النهر المحفور والأتي السيل من حيث كان يقول لما أفسدت طريق الأتي سهلت له طريقا حتى جرى
ورفعته أي قدمت الحفر الى موضع السجفين وليس رفعته ها هنا من ارتفاع العلو
والسجفان ستران رقيقان يكونان في مقدم البيت
والنضد ما نضد من المتاع
وأخنى أفسد
ولبد آخر نسور لقمان التي اختار أن يعمر مثل أعمارها وله حديث ليس هذا موضعه

صوت
( أسْرَتْ عليه من الجَوْزاءِ ساريةٌ ... تُزْجِي الشَّمَالُ عليه جامدَ البَرَدِ )
( فأرتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبٍ فباتَ له ... طَوْعُ الشَّوامِتِ من خَوْفٍ ومن صَرَد )
( فبَثَّهُنّ عليه وأستمرّ به ... صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيَّاتٍ من الحَرَدِ )
( وكان ضُمْرَانُ منه حيثُ يُوزِعُهُ ... طَعْنَ المُعَاركِ عند المُحْجَرِ النَّجُدِ )
( شَكَّ الفَرِيصةَ بالمِدْرَى فأَنْفَذَها ... طَعْنَ المُبَيْطِرِ إذ يَشْفِي من العَضَدِ )
غنى فيه إبراهيم الموصلي هزجا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة
وفيه لحن لمالك
يعني أن سحابة مرت عليه ليلا وأن أنواء الجوزاء أسرت عليه بها
وتزجي تسوق وتدفع
عليه أي على الثور
والكلاب صاحب

الكلاب
وقوله بات له طوع الشوامت أي بات له ما يسر الشوامت اللواتي شمتن به
وصمع الكعوب يعني قوائمه أنها لازقة محددة الأطراف ليست برهلات
وأصل الصمع رقة الشيء ولطافته
والحرد داء يعيبه يقال بعير أحرد وناقة حرداء
والمحجر الملجأ
والنجد الشجاع
والفريصة مرجع الكتف الى الخاصرة
والمدرى القرن
والمبيطر البيطار
والعضد داء يأخذ في العضد
وفي لحن ابراهيم الموصلي بعد فارتاع من صوت كلاب
( كأنّ رَحْلِي وقد زَالَ النَّهارُ بنا ... يومَ الجَلِيلِ على مُسْتَأنِسٍ وَحَدِ )
( مِنْ وَحْشِ وَجْرَة مَوْشِيٍّ أكارِعُه ... طاوي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرَدِ )
قال الأصمعي زال النهار بنا أي انتصف
وبنا ها هنا في موضع علينا
ومن روى مستوجس فإنه يعني أنه قد أوجس شيئا خافه فهو يستوجس
والجليل الثمام واحدته جليلة
ووجرة طرف السي وهي فلاة بين مران وذات عرق وهي ستون ميلا يجتمع فيها الوحش
وموشي أكارعه أي إنه أبيض في قوائمه نقط سود وفي وجهه سفعة
وطاوي المصير ضامر
والمصير المعي وجمعه المصران
والفرد المنقطع القرين يقال فرد وفرد وفرد

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال غنى مخارق يوما بين يدي الرشيد
( سرت عليه من الجوزاء ساريةٌ ... ) فلما بلغ إلى قوله
( فأرتاع من صوت كَلاَّبٍ فبات له ... )
قال فارتاع بضم العين فأردت أن أرد عليه خطأه ثم خفت أن يغضب الرشيد ويظن أني حسدته على منزلته منه وأردت إسقاطه
فالتفت إليه بعض من حضر أظنه قال محمد بن عمر الرومي فقال له ويلك يا مخارق أتغني بمثل هذا الخطأ القبيح لسوقة فضلا عن الملوك ويلك لو قلت فارتاع كان أخف على اللسان وأسهل من قولك فارتاع
فخجل مخارق وكفيت ما أردته بغيري
قال وكان مخارق لحانا ومنها
صوت
( قالت ألاَ لَيْتَما هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتنا ونِصْفُّه فَقَدِ )
( يَحُفُّه جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُه ... مثلَ الزُّجَاجة لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ )

( فحسبوه فألْفَوْه كما حَسِبتْ ... تسعاً وتسعين لم تنقُص ولم تَزِدِ )
( فكمّلَتْ مائةً فيها حمامتُها ... وأسرعتْ حِسْبةً في ذلك العدد )
غناه ابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي
هذا خبر روي عن زرقاء اليمامة ويروى عن بنت الخس

اعجابه بمعنى لزرقاء اليمامة واخذه عنها
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الأحول يقول هذا أخذه النابغة من زرقاء اليمامة قالت
( ليت الحمامَ لِيَهْ ... ونِصْفَه قَدِيَهْ )
( الى حَمَامَتِيَهْ ... تَمّ الحمامُ مِيَهْ )
فسلَخه النابغة
وقال الأصمعي سمعت أناسا من أهل البادية يتحدثون أن بنت الخس كانت قاعدة في جوار فمر بها قطا وارد في مضيق من الجبل فقالت
( ياليتَ ذا القَطَا لِيَهْ ... ومثلَ نِصْفٍ مَعِيَهْ )
( إلى قَطاةِ أهْلِيَهْ ... إذاً لنا قَطاً مِيَهْ )

وأتبعت فعدت على الماء فإذا هي ست وستون
وقوله فقد أي فحسب
ويحفه أي يكون من ناحية هذا الثمد يقال حف القوم بالرجل أي اكتنفوه
والنيق الجبل
ومثل الزجاجة يريد عينا صافية كصفاء الزجاجة
الحسبة الهيئة التي تحسب يقال ما أحسن حسبته مثل الجلسة واللبسة والركبة ومنها

صوت
( نُبِّئْتُ أَنّ أبا قابُوسَ أوعدني ... ولا قَرَارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ )
( مَهْلاً فِداءٌ لك الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ من مالٍ ومن ولد )
( إنْ كنتُ قلتُ الذي بُلِّغْتَ مُعْتَمِداً ... إِذاً فلا رفعتْ سَوْطِي إِليَّ يدي )
( هذا الثناءُ فإِنْ تَسْمَعْ به حَسَناً ... فلم أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ )
غناه الهذلي ولحنه من الثقيل الأول عن الهشامي
أثمر أصلح وأجمع
والزأر صياح الأسد يقال زأر زئيرا وهو الزأر
والصفد العطية يقال أصفده يصفده إصفادا إذا أعطاه وصفده يصفده صفدا إذا أوثقه
رواية حسان عنه حين وفد على النعمان
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الصلت بن مسعود قال حدثنا أحمد بن شبويه عن سليمان بن صالح عن عبد الله بن المبارك عن فليح بن سليمان عن رجل قد سماه عن حسان بن

ثابت ونسخت من كتاب ابن أبي خيثمة عن أبيه عن مصعب الزبيري قال قال حسان بن ثابت وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف بن محمد عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال قال أبو عمرو الشيباني قال حسان ابن ثابت وقد جمعت رواياتهم وذكرت اختلافهم فيها وأكثر اللفظ للجوهري قال خرجت الى النعمان بن المنذر فلقيت رجلا وقال اليزيدي في خبره فلقيت صائغا من أهل فدك فلما رآني قال كن يثربيا فقلت الأمر كذلك
قال كن خزرجيا قلت أنا خزرجي
قال كن نجاريا قلت أنا نجاري
قال كن حسان بن ثابت قلت أنا هو
فقال أين تريد قلت إلى هذا الملك
قال تريد أن أسددك إلى أين تذهب ومن تريد قلت نعم
قال إن لي به علما وخبرا
قلت فأعلمني ذلك
قال فإنك إذا جئته متروك شهرا قبل أن يرسل إليك ثم عسى أن يسأل عنك رأس الشهر ثم إنك متروك آخر بعد المسألة ثم عسى أن يؤذن لك
فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيرا فأقم ما أقمت فإن رأيت أبا أمامة فأظعن فلا شيء لك عنده
قال فقدمت ففعل بي ما قال الرجل ثم أذن لي وأصبت منه مالا كثيرا ونادمته وأكلت معه
فبينا أنا على ذلك وأنا معه في قبة له إذا رجل يرتجز حولها
( أصَمُّ أم يسمع ربُّ القُبَّهْ ... يا أوهبَ الناس لِعَنْسٍ صُلْبَهْ )
( ضَرَّابةٍ بالمِشْفَرِ الأذِبَّهْ ... ذات هِبَاتٍ في يديها جُلبهْ )
( في لاَحِبٍ كأنّه الأطِبَّهْ ... )

وفي رواية اليزيدي في يديها خدبة أي طول واضطراب والأطبة جمع طباب وهو الشراك يجمع فيه بين الأديمين في الخرز
وقال عمر بن شبة في خبره قال فليح بن سليمان أخذت هذا الرجز عن ابن دأب قال فقال أليس بأبي أمامة قالوا بلى
قال فأذنوا له
ودخل فحياه وشرب معه
ثم وردت النعم السود ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود يعرف مكانه ولا يفتحل أحد بعيرا أسود غير النعمان
فأستأذنه في أن ينشده كلمته على الباء فأذن له أن ينشده قصيدته التي يقول فيها
( فإِنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ )
ووردت عليه مائةٌ من الإِبل السُّود الكَلْبيّة فيها رعاؤها وبيتها وكلبها فقال شأنك بها يا أبا أمامة فهي لك بما فيها
قال حسان
فما أصابني حسد في موضع ما أصابني يومئذ وما أدري أيما كنت أحسد له عليه ألما أسمع من فضل شعره أم ما أرى من جزيل عطائه فجمعت جراميزي وركبت إلى بلادي
وقد روى الواقدي عن محمد بن صالح الخبر فذكر أن حسان قدم علىجبلة بن أبي شمر ولعله غلط
أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف قال حدثني عمي إسماعيل عن الواقدي عن محمد بن صالح قال
كان حسان بن ثابت يقدم على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في أهله فقال لو وفدت على الحارث فإن له قرابة ورحما بصاحبي وهو أبذل

الناس لمعروف وقد يئس مني أن أقدم عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة
فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث وقد هيأت مديحا
فقال لي حاجبه وكان لي ناصحا إن الملك قد سر بقدومك عليه وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة
فإياك أن تقع فيه فإنه يختبرك فإنك إن وقعت فيه زهد فيك وإن ذكرت محاسنه ثقل عليه فلا تبتدىء بذكره فإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه امسح ذكره مسحا وجاوزه
وإنه سوف يدعوك الى الطعام وهو يثقل عليه أن يؤكل طعامه أو يشرب شرابه فلا تضع يدك في شيء حتى يدعوك إليه
قال فشكرت له ذلك
ثم دعاني فسألني عن البلاد والناس وعن عيشنا في الحجاز وكيف ما بيننا من الحرب وكل ذلك أخبره حتى انتهى الى ذكر جبلة فقال كيف تجد جبلة فقد انقطعت إليه وتركتنا فقلت له إنما جبلة منك وأنت منه فلم أجر معه في مدح ولا ذم وفعلت في الطعام والشراب كما قال لي الحاجب
قال ثم قال لي الحاجب قد بلغني قدوم النابغة وهو صديقه وآنس به وهو قبيح أن يجفوك بعد البر فاستأذنه من الآن فهو أحسن
فاستأذنته فأذن لي وأمر لي بخمسمائة دينار وكسا وحملان فقبضتها وانصرفت إلى أهلي

صوت
( ملوكٌ وإخوانٌ إذا ما لَقِيتُهمْ ... أُحَكَّمُ في أموالهم وأقَرَّبُ )
( ولكنّني كنتُ امرأً لِيَ جانبٌ ... من الأرض فيه مُسترادٌ ومطلب )
الغناء لإبراهيم ثقيل أول
الجانب هنا المتسع من الأرض
والمستراد المختلف يذهب فيه ويجيء ويقال راد الرجل لأهله إذا خرج رائدا لهم في طلب الكلإ ونحوه
ثم ذكر مستراده فقال ملوك وإخوان
ومن القصيدة العينية

صوت
( عَفَا ذو حُساً من فَرْتَنَا فالفوارعُ ... فَجَنْبَا أرِيكٍ فالتِّلاعُ الدوافعُ )
( فمُجْتَمَعُ الأشراجِ غَيَّرَ رَسْمَها ... مَصَايِفُ مَرّتْ بعدنا وَمَرَابِعُ )
( توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لِستّة أعوامٍ وذا العامُ سابع )
( رَمَادٌ ككُحْل العين مَا إنْ أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْم الحوض أَثْلَمُ خاشع )
غناه معبد من رواية حبش رملا بالبنصر
صوت
( آذنتنا ببينِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُ منه الثَّوَاءُ )
( بعد عَهْدٍ لها ببُرْقة شَمَّا ... ءَ فأدنَى ديارِها اخصاءُ )
عروضه من الخفيف آذنتنا أعلمتنا
والبين الفرقة
والثاوي المقيم يقال ثوى ثواء
والبرقة أرض ذات رمل وطين
وشماء والخلصاء موضعان
الشعر للحارث بن حلزة اليشكري
والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ومن الناس من ينسبه إلى حنين

أخبار الحارث بن حلزة ونسبه
هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار
مناسبة قصيدته المعلقة
قال أبو عمرو الشيباني كان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أن عمرو بن هند الملك وكان جبارا عظيم الشأن والملك لما جمع بكرا وتغلب ابني وائل وأصلح بينهم أخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض فكان أولئك الرهن يكونون معه في مسيره ويغزون معه فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون
فقالت تغلب لبكر أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لكم لازم فأبت بكر بن وائل
فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصة
فقال عمرو ابن كلثوم لتغلب بمن ترون بكرا تعصب أمرها اليوم قالوا بمن عسى إلا برجل من أولاد ثعلبة
قال عمرو أرى والله الأمر سينجلي عن أحمر أصلج أصم من بني يشكر
فجاءت بكر بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم
فلما

اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك فقال النعمان وعلى من أظلت السماء كلها يفخرون ثم لا ينكر ذلك
فقال عمرو بن كلثوم له أما والله لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها
فقال له النعمان والله لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك
فغضب عمرو بن هند وكان يؤثر بني تغلب على بكر فقال يا جارية أعطيه لحيا بلسان أنثى أي سبية بلسانك
فقال أيها الملك أعط ذلك أحب أهلك إليك
فقال يا نعمان أيسرك أني أبوك قال لا ولكن وددت أنك أمي
فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان
وقام الحارث بن حلزة فارتجل قصيدته هذه ارتجالا توكأ على قوسه وأنشدها وانتظم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها
قال ابن الكلبي أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وضح فقيل لعمرو بن هند إن به وضحا فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر فلما تكلم أعجب بمنطقه فلم يزل عمرو يقول أدنوه حتى أمر بطرح الستر وأقعده معه قريبا منه لإعجابه به
هذه رواية أبي عمرو
وذكر الأصمعي نحوا من ذلك وقال أخذ منهم ثمانين غلاما من كل حي وأصلح بينهم بذي المجاز وذكر أن الغلمان من بني تغلب كانوا معه في حرب فأصيبوا
وقال في خبره إن الحارث بن حلزة لما ارتجل هذه القصيدة بين يدي عمرو قام عمرو بن كلثوم فارتجل قصيدته

قفي قبل التفرق يا ظعينا
وغير الأصمعي ينكر ذلك وينكر أنه السبب في قول عمرو بن كلثوم
وذكر ابن الكلبي عن أبيه ان الصلح كان بين بكر وتغلب عن المنذر بن ماء السماء وكان قد شرط أي رجل وجد قتيلا في دار قوم فهم ضامنون لدمه وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما فينظر أقربهما إليه فتضمن ذلك القتيل
وكان الذي ولي ذلك واحتمى لبني تغلب قيس بن شراحيل بن مرة بن همام
ثم إن المنذر أخذ من الحيين أشرافهم وأعلامهم فبعث بهم إلى مكة فشرط بعضهم على بعض وتواثقوا على ألا يبقي واحد منهم لصاحبه غائلة ولا يطلبه بشيء مما كان من الآخر من الدماء
وبعث المنذر معهم رجلا من بني تميم يقال له الغلاق
وفي ذلك يقول الحارث بن حلزة
( فهَلاَّ سَعَيْتَ لصُلْح الصَّدِيِقِ ... كصُلح ابن مَارِيةَ الأقصم )
( وقَيْسٌ تداركَ بَكْرَ العِرَاقِ ... وتَغْلِبَ من شرِّها الأعظم )
( وبيتُ شَرَاحيلَ في وائلٍ ... مكانَ الثُرَيَّا من الأَنْجُمِ )
( فأصلَح ما أفسدوا بينهم ... كذلك فِعْلُ الفتى الأكرم )
ابن مارية هو قيس بن شراحيل
ومارية أمه بنت الصباح بن شيبان من بني هند
فلبثوا كذلك ما شاء الله وقد أخذ المنذر من الفريقين رهنا بأحداثهم فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن
فسرح النعمان ابن المنذر ركبا من بني تغلب إلى طيىء في أمر من أمره فنزلوا بالطرفة وهي لبني شيبان وتيم اللات
فذكروا أنهم أجلوهم عن الماء وحملوهم على المفازة فمات القوم عطشا
فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وأتوا عمرو بن

هند فاستعدوه على بكر وقالوا غدرتم ونقضتم العهد وانتهكتم الحرمة وسفكتم الدماء
وقالت بكر أنتم الذين فعلتم ذلك قذفتمونا بالعضيهة وسمعتم الناس بها وهتكتم الحجاب والستر بادعائكم الباطل علينا
قد سقيناهم إذ وردوا وحملناهم على الطريق إذ خرجوا فهل علينا إذ حار القوم وضلوا ويصدق ذلك قول الحارث بن حلزة
( لم يَغُرُّوكُمُ غُرُوراً ولكن ... يَرفَع الآلُ جِرْمَهم والضَّحاءُ )

ابو عمرو الشيباني يعجب لارتجاله معلقته في موقف واحد
وقال يعقوب بن السكيت كان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال الحارث هذه القصيدة في موقف واحد ويقول لو قالها في حول لم يلم
قال وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحا وعرض ببعضها لعمرو بن هند فمن ذلك قوله
( أعلينا جُنَاحُ كِنْدَةَ أن يغنَمَ ... غازيهمُ ومِنّا الجزاءُ )
قال وكانت كندة قد كسرت الخراج على الملك فبعث اليهم رجالا من بني تغلب يطالبونهم بذلك فقتلوا ولم يدرك بثأرهم فعيرهم بذلك
هكذا ذكر الأصمعي
وذكر غيره أن كندة غزتهم فقتلت وسبت واستاقت فلم يكن في ذلك منهم شيء ولا أدركوا ثأرا
قال وهكذا البيت الذي يليه وهو

( أم علينا جَرّى قُضَاعَةَ أم ليس ... علينا فيما جَنَوْا أنداء )
فإنه عيره بأن قضاعة كانت غزت بني تغلب ففعلت بهم فعل كندة ولم يكن منهم في ذلك شيء ولا أدركوا منهم ثأرا قال وقوله
( أم علينا جَرّى حَنِيفَة أم ما ... جَمَّعتْ من مُحارِبٍ غَبْرَاءُ )
قال وكانت حنيفة محالفة لتغلب على بكر فأذكر الحارث عمرو بن هند بهذا البيت قتل شمر بن عمرو الحنفي أحد بني سحيم المنذر بن ماء السماء غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني وبعث الحارث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله فركن المنذر إلى ذلك وأقام الغلمان معه فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي فقتله غيلة وتفرق من كان مع المنذر وانتهبوا عسكره
فحرضه بذلك على حلفاء بني تغلب بني حنيفة
قال وقوله
( وثمانون من تميمٍ بأيديهمْ ... رِماحٌ صدورُهنّ القَضَاءُ )
يعني عمرا أحد بني سعد بن مناة زيد خرج في ثمانين رجلا من تميم فأغار على قوم من بني قطن من تغلب يقال لهم بنو رزاح كانوا يسكنون أرضا تعرف بنطاع قريبة من البحرين فقتل فيهم وأخذ أموالا كثيرة فلم يدرك منه بثأر
قال وقوله

( ثمّ خَيْلٌ من بعد ذاك مع الغَلاّق ... لا رأفةٌ ولا إبقاءُ )
قال الغلاق صاحب هجائن النعمان بن المنذر وكان من بني حنظلة ابن زيد مناة تميميا
وكان عمرو بن هند دعا بني تغلب بعد قتل المنذر إلى الطلب بثأره من غسان فامتنعوا وقالوا لا نطيع أحدا من بني المنذر أبدا أيظن ابن هند أنا له رعاء
فغضب عمرو بن هند وجمع جموعا كثيرة من العرب فلما اجتمعت آلى ألا يغزو قبل تغلب أحدا فغزاهم فقتل منهم قوما ثم استعطفه من معه لهم واستوهبوه جريرتهم فأمسك عن بقيتهم وطلت دماء القتلى
فذلك قول الحارث
( مَنْ أصابوا من تَغْلِبِيٍّ فمطلولٌ ... عليه إذا تولّى العَفَاء )
ثم اعتد على عمرو بحسن بلاء بكر عنده فقال
( مَنْ لنا عنده من الخير آياتٌ ... ثلاثٌ في كلِّهن القضاءُ )
( آيةٌ شارِقُ الشَّقِيقةِ إذا جاءوا ... جميعاً لكل حيٍّ لِواءُ )
( حولَ قَيْسٍ مُسْتَلْئِمين بِكَبْشٍ ... قَرَظِيٍّ كأنه عَبْلاء )

( فَردَدْنَاهُمُ بضَرب كما يخرُج ... من خُرْبة المَزَادِ الماءُ )
( ثم حُجْراً أعني ابنَ أمِّ قَطامٍ ... وله فارسيةٌ خضراءُ )
( أسَدٌ في اللِّقاء ذو أشبالٍ ... وربيعٌ إن شَنَّعتْ غَبْرَاء )
( فرددناهُمُ بطعن كما تُنْهَزُ ... في جُمّة الطّوِي الدِّلاء )
( وفَكَكْنا غُلَ امرىء القيسِ عنه ... بعدما طال حَبْسُه والعناء )
( وأقَدْناه رَبَّ غَسّان بالمُنْذِرِ ... كَرْهاً وما تُكَال الدِّماء )
( وفديناهُمُ بتسعةِ أملاكٍ ... كرامٍ اسلابُهم أغلاء )
( ومع الجَوْنِ آل بني الأَوْسِ ... عَنُودٌ كأنها دَفْوَاء )
يعني بهذه الأيام أياما كانت كلها لبكر مع المنذر فمنها يوم الشقيقة وهم قوم من شيبان جاؤوا مع قيس بن معد يكرب ومعه جمع عظيم من أهل اليمن يغيرون على إبل عمرو بن هند فردتهم بنو يشكر وقتلوا فيهم ولم يوصل إلى شيء من إبل عمرو بن هند
ومنها يوم غزا حجر الكندي وهو حجر بن أم قطام امرأ القيس وهو ماء السماء بن المنذر لقيه ومع حجر جمع

كثير من كندة وكانت بكر مع امرىء القيس فخرجت إلى حجر فردته وقتلت جنوده
وقوله
( ففككنا غل امرىء القيس عنه ... )
وكانت غسان أسرته يوم قتل المنذر أبيه فأغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام فقتلوا ملكا من ملوك غسان واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر وأخذ عمرو بن هند بنتا لذلك الملك يقال لها ميسون
وقوله وفديناهم بتسعة يعني بني حجر آكل المرار
وكان المنذر وجه خيلا من بكر في طلب بني حجر فظفرت بهم بكر بن وائل فأتوا المنذر بهم وهم تسعة فأمر بذبحهم في ظاهر الحيرة فذبحوا بمكان يقال له جفر الأملاك
قال والجون جون آل بني الأوس ملك من ملوك كندة وهو ابن عم قيس بن معد يكرب
وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار ومعه كتيبة خشناء فحاربته بكر فهزموه وأخذوا بني الجون فجاؤوا بهم إلى المنذر فقتلهم قال فلما فرغ الحارث من هذه القصيدة حكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث على رهائن تغلب فتفرقوا على هذه الحال ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتى هم باستخدام أم عمرو بن كلثوم تعرضا لهم وإذلالا فقتله عمرو بن كلثوم
وخبره يذكر هناك
قال يعقوب بن السكيت أنشدني النضر بن شميل للحارث بن حلزة وكان يستحسنها ويستجيدها ويقول لله دره ما أشعره

صوت
( مَنْ حاكمٌ بيني وبين ... الدَّهْر مالَ عليّ عَمْدَا )
( أودَى بسادتنا وقد ... تركوا لنا حَلَقاً وجُرْدا )

( خيلي وفارسُها ورَبِّ ... أبيك كان أعزَّ فَقْدا )
( فَلَو أنَّ ما يَأْوِي إلَيَّ ... أصاب من ثَهْلاَنَ هَدا )
( فَضَعِي قِنَاعَكِ إنَّ رَيْبَ ... الدَّهْرِ قد أفنَى مَعَدّا )
( فَلَكَمْ رأيتُ مَعَاشِراً ... قد جَمَّعُوا مالاً ووُلْدا )
( وهُمُ زَبَابٌ حائرٌ ... لا تَسْمَعُ الآذانُ رَعْدا )
( فَعِشْ بجَدٍ لا يَضِرْك ... النُّوك ما لاقيت جَدَّا )
( والعَيْشُ خَيرٌ في ظِلاَلِ ... النُّوك ممن عاش كَدَّا )
في البيت الأول من القصيدة والبيتين الأخيرين خفيف ثقيل أول بالوسطى لعبد الله بن العباس الربيعي ومن الناس من ينسبه إلى بابويه
صوت
( ألاَ هُبِّي بِصَحْنِك فَاصْبَحِينا ... ولا تُبْقي خمورَ الأندَرِينا )
( مَشَعْشَعةً كأنّ الحُصَّ فيها ... إذا ما الماءُ خالطها سَخِينَا )

عروضه من الوافر
الشعر لعمرو بن كلثوم التغلبي
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى من روايته وفيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو

نسب عمرو بن كلثوم وخبره
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى ابن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان
وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخي كليب وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني العكلي عن العباس بن هشام عن أبيه عن خراش بن إسماعيل عن رجل من بني تغلب ثم من بني عتاب قال سمعت الأخذر وكان نسابة يقول
لما تزوج مهلهل بنت بعج بن عتبة أهديت إليه فولدت له ليلى بنت مهلهل
فقال مهلهل لإمرأته هند أقتليها
فأمرت خادما لها أن تغيبها عنها
فلما نام هتف به هاتف يقول

( كم من فتىً يُؤَمَّلْ ... وسَيِّدٍ شَمَرْدَلْ )
( وعُدَّةٍ لا تُجْهَلْ ... في بطن بنت مهلهلْ )
واستيقظ فقال ياهند أين بنتي قالت قتلتها
قال كلا وإله ربيعة فكان أول من حلف بها فاصدقيني فأخبرته
فقال أحسني غذاءها
فتزوجها كلثوم بن مالك بن عتاب
فلما حملت بعمرو بن كلثوم قالت إنه أتاني آت في المنام فقال
( يا لَك ليلى من وَلَدْ ... يُقْدِمُ إقدام الأَسَدْ )
( من جُشَمٍ فيه العَدَدْ ... أقولُ قِيلاً لافَنَدْ )
فولدت غلاما فسمته عمرا
فلما أتت عليه سنة قالت أتاني ذلك الآتي في الليل أعرفه فأشار إلى الصبي وقال
( إِنِّي زعيمٌ لكِ أُمَّ عَمْرِو ... بماجِد الجَدِّ كريمِ النَّجْرِ )
( أشجعَ من ذي لِبَدٍ هِزَبْرِ ... وَقَّاصِ أقرانٍ شديدِ الأَسْرِ )
( يسودُهم في خمسةٍ وعشر ... )
قال الأخذر فكان كما قال ساد وهو ابن خمسة عشر ومات وله مائة وخمسون سنة

قصة قتله لعمرو بن هند
قال أبو عمرو حدثني أسد بن عمر الحنفي وكرد بن السمعي وغيرهما وقال ابن الكلبي حدثني أبي وشرقي بن القطامي وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة
أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي فقالوا نعم أم عمرو بن كلثوم
قال ولم قالوا لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو سيد قومه
فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمه أمه
فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة بني تغلب وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب
وأمر عمرو بن هند برواقة فضرب فيما بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب
فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق
وكانت هند عمة امرىء القيس بن حجر الشاعر وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرىء القيس وبينهما هذا النسب
وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى
فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف
فقالت هند ناوليني يا ليلى ذلك الطبق
فقالت ليلى لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها
فأعادت عليها وألحت
فصاحت ليلى واذلاه يا لتغلب فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه ونظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في وجهه فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره فضرب به رأس عمرو بن هند ونادى في بني تغلب فانتهبوا ما في الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة
ففي ذلك يقول عمرو بن كلثوم

( ألاَ هُبِّيِّ بِصَحْنِك فَاصْبَحينا ... )
وكان قام بها خطيبا بسوق عكاظ وقام بها في موسم مكة
وبنو تغلب تعظمها جدا ويرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك قال بعض شعراء بكر بن وائل
( ألْهَى بني تَغْلِبٍ عن كل مَكْرُمةٍ ... قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ )
( يَرْوُونها أبداً مذ كان أوَّلُهم ... يا للرجالِ لِشِعْرٍ غيرِ مسؤومِ )

شعراء تغلب يفخرون بقتله عمرو بن هند
وقال الفرزدق يرد على جرير في هجائه الأخطل
( ما ضَرَّ تَغْلِبَ وائلٍ أهجوتَها ... أم بُلْتَ حيث تَنَاطَحَ البحرانِ )
( قومٌ هُمُ قتلوا ابنَ هندٍ عَنْوةً ... عمراً وهم قَسَطوا على النُّعْمان )
وقال أفنون صريم التغلبي يفخر بفعل عمرو بن كلثوم في قصيدة له
( لَعَمْرُك ما عمرُو بن هندٍ وقد دعا ... لتخدِمَ ليلى أُمَّه بموفَّقِ )
( فقام ابنُ كُلْثُومٍ إلى السيف مُصْلِتاً ... فأمسك من نَدْمانه بالمُخَنِّق )
( وجللّه عمروٌ على الرأس ضربةً ... بذي شُطَبٍ صافي الحديدة رَوْنَقِ )

وقال وكان لعمرو أخ يقال له مرة بن كلثوم فقتل المنذر بن النعمان وأخاه
وإياه عنى الأخطل بقوله لجرير
( أبني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللّذا ... قتلا الملوكَ وفكّكا الأغلالا )
وكان لعمرو بن كلثوم ابن يقال له عباد وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس
ولعمرو بن كلثوم عقب باق ومنهم كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر صاحب الرسائل

أسره يزيد بن عمرو ثم أطلقه فمدحه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي قال
أغار عمرو بن كلثوم التغلبي على بني تميم ثم مر من غزوه ذلك على حي من بني قيس بن ثعلبة فملأ يديه منهم وأصاب أسارى وسبايا وكان فيمن أصاب أحمد بن جندل السعدي ثم انتهى إلى بني حنيفة باليمامة وفيهم أناس من عجل فسمع به أهل حجر فكان أول من أتاه من بني حنيفة بنو سحيم عليهم يزيد بن عمرو بن شمر
فلما رآهم عمرو بن كلثوم ارتجز فقال
( مَنْ عاذَ مِنِّي بعدَها فلا اجْتَبَرْ ... ولا سقى الماء ولا أرعى الشَّجَرْ )

( بنو لُجَيْمٍ وجعاسيسُ مُضَرْ ... بجانب الدَّوِّ يُدَهْدُون العَكَرْ )
فانتهى إليه يزيد بن عمرو فطعنه فصرعه عن فرسه وأسره
وكان يزيد شديدا جسيما فشده في القد وقال له أنت الذي تقول
( متى تُعْقَدْ قَرِينتُنَا بحَبْلٍ ... تَجذّ الحبلَ أو تَقِص القَرينا )
أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعا
فنادى عمرو بن كلثوم يالربيعة أمثلة
قال فاجتمعت بنو لجيم فنهوه ولم يكن يزيد ذلك به
فسار به حتى أتى قصرا بحجر من قصورهم وضرب عليه قبة ونحر له وكساه وحمله على نجيبه وسقاه الخمر
فلما أخذت برأسه تغنى
( أأجْمَعَ صُحْبتي السِّحَرَ ارتحالاَ ... ولم اشعُرْ بِبَيْنٍ مِنِكِ هَالاَ )
( ولم أرَ مثل هالةَ في مَعَدٍّ ... أُشَبِّه حسنَها إلاَّ الهِلالا )
( ألاَ أبِلِغْ بني جُشَمَ بنِ بكرٍ ... وتَغْلِبَ كلّما أتَيَا حِلاَلا )
( بأنّ الماجدَ القَرْمَ ابنَ عمروٍ ... غداةَ نَطَاعِ قد صَدَقَ القِتَالا )
( كَتِيبَتُهُ مُلَمْلَمَةٌ رَدَاحٌ ... إذا يرمونها تُفْنِي النِّبالا )
( جزى اللّه الأغَرَّ يزيدَ خيراً ... وَلَقَّاه المَسَرَّةَ والجَمَالا

( بمأخذِه ابنَ كُلْثوم بنِ عَمْروٍ ... يزيدَ الخيرِ نازَلَه نِزَالا )
( بجمعٍ من بني قُرَّانَ صيدٍ ... يَجِيلون الطِّعان إذا أجالا )
( يزيد يقدم السفراء حتى ... يُرَوِّي صَدْرَها الأسَلَ النِّهالا )
أخبرني علي بن سليمان قال أخبرنا الأحول عن ابن الأعرابي قال
زعموا أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء فلحقوا بالشأم خوفا منه
فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني فتلقاه عمرو بن كلثوم
فقال له يا عمرو ما منع قومك أن يتلقوني فقال له يا عمرو يا خير الفتيان فإن قومي لم يستيقظوا لحرب قط إلا علا فيها أمرهم واشتد شأنهم ومنعوا ما وراء ظهورهم
فقال له أيقاظ نومة ليس فيها حلم أجتث فيها أصولهم وأنفى فلهم إلى اليابس الجرد والنازح الثمد
فانصرف عمرو بن كلثوم وهو يقول
( ألاَ فاعلَمْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ أنّا ... على عَمْدٍ سنأتي ما نُرِيدُ )
( تَعَلَّمْ أنّ مَحْمَلَنا ثقيلٌ ... وأنّ زنادَ كبتنا شديد )
( وأنّا ليس حَيٌّ من مَعَدٍّ ... يُوَازينا إذا لُبِس الحديدُ )

هجا النعمان بن المنذر
قال وقال ابن الأعرابي بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده فدعا كاتبا من العرب فكتب إليه

( ألاَ أَبِلغِ النُّعْمَانَ عنِّي رسالةً ... فمَدْحُكَ حَوِليٌّ وذَمُّك قارحُ )
( متى تَلْقَني في تَغْلِبَ ابنةِوائلٍ ... وأشياعها ترقَى إليك المسالح )
وهجا النعمان بن المنذر هجاء كثيرا منه قوله يعيره بأمه سليمى
( حَلَّتْ سُلَيْمَى بَخْبتٍ بعد فِرْتَاجِ ... وقد تكون قديماً في بني ناج )
( إذ لا تُرَجِّي سُلَيْمَى أن يكونَ لَها ... مَنْ بالخَوَرْنَق من قَيْنٍ وَنَسَّاج )
( ولا يكونَ على أبوابها حَرَسٌ ... كما تلفَّف قِبْطيٌّ بِدِيباج )
( تمشِي بِعِدْلَيْنِ من لُؤْمٍ وَمَنْقَصةٍ ... مَشْيَ المقيَّدِ في اليَنْبُوت والحاج )
قال وقال في النعمان
( لحا اللّه أدنانا إلى اللُّؤْمِ زُلْفَةً ... وألأَمَنا خالاً وأعجزَنَا أبَا )
( وأجْدَرَنا أن ينفُخَ الكِيرَ خالُه ... يصوغُ القُروطَ والشُّنوفَ بِيَثْرِبَا )
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن المغيرة عن ابن الكلبي عن رجل من النمر بن قاسط قال

لما حضرت عمرو بن كلثوم الوفاة وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة جمع بنيه فقال يا بني قد بلغت من العمر مالم يبلغه أحد من آبائي ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت
وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله إن كان حقا فحقا وإن كان باطلا فباطلا
ومن سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم وامنعوا من ضيم الغريب فرب رجل خير من ألف ورد خير من خلف
وإذا حدثتم فعوا وإذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار تكون الأهذار
وأشجع القوم العطوف بعد الكر كما أن أكرم المنايا القتل
ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ولا من إذا عوتب لم يعتب
ومن الناس من لا يرجى خيره ولا يخاف شره فبكؤه خير من دره وعقوقه خير من بره
ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض

صوت
( لِمَنِ الديارُ ببُرْقَةِ الرَّوْحان ... إذ لا نَبِيع زمانَنَا بزمانِ )
( صدَع الغواني إذ رَمَيْنَ فؤادَه ... صَدْعَ الزُّجاجة ما لذاك تَدَاني )
( إن زرتُ أهلَكِ لم أُنوَّلْ حاجةً ... وإذا هجرتُكِ شفّني هِجْراني )
الشعر لجرير يهجو الأخطل ويرد عليه حكومته التي حكم بها للفرزدق عليه
والغناء فيما ذكره علي بن يحيى المنجم في كتابه الذي لقبه بالمحدث لمعبد ثقيل أول بالوسطى وذكر الهشامي أنه لحنين قال

ويقال إنه لمعبد
وفيه ليزيد حوراء لحن ذكره عبد الملك بن موسى عنه وقال لا أدري أهو الثقيل الأول أم خفيف الرمل
وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وأن خفيف الرمل بالبنصر للدلال

ذكر الخبر عن السبب في اتصال الهجاء بين جرير والأخطل
سبب النقائض بين جرير والأخطل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وعن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة وأخبرنا الصولي عن إبراهيم بن المعلى الباهلي عن الطوسي عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني وقد جمعت رواياتهم
قال أبو عبيدة حدثني عامر بن مالك المسمعي قال
كان الذي هاج التهاجي بين جرير والأخطل أنه لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك وهو أكبر ولده وبه كان يكنى انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما
فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم أتى أباه
فقال له كيف وجدتهما قال وجدت جريرا يغرف من بحر ووجدت الفرزدق ينحت من صخر
فقال الأخطل الذي يغرف من بحر أشعرهما وقال يفضل جريرا على الفرزدق
( إِنِّي قضيتُ قضاءً غيرَ ذي جَنَفٍ ... لَمّا سمعتُ ولمّا جاءني الخَبَرُ )
( أنّ الفرزدقَ قد شالت نَعَامتُه ... وعضّه حيّةٌ من قومه ذَكَرُ )

وفي رواية ابن الأعرابي قد سال الفرات به
قال أبو عبيدة ثم إن بشر بن مروان دخل الكوفة فقدم عليه الأخطل فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بألف درهم وكسوة وبغلة وخمر وقال له لا تعن علي شاعرنا واهج هذا الكلب الذي يهجو بني دارم فإنك قد قضيت على صاحبنا فقل أبياتا واقض لصاحبنا عليه
فقال الأخطل
( أجريرُ إنّكَ والذي تسمو له ... كأَسِيفةٍ فَخَرَتْ بِحِدْجِ حَصَانِ )
( عَمِلتْ لربَّتها فلما عُولِيتْ ... نَسَلتْ تعارضها مع الرُّكْبَان )
( أتَعُدُّ مأثرةً لغيرك فخرُها ... وثناؤها في سالف الأزمان )
( تاجُ الملوك وفخرُهم في دارمٍ ... أيَّام يَرْبوعٌ من الرُّعيان )
وهي طويلة يقول فيها
( فاخسَأْ إليك كُلَيْبُ أنّ مُجَاشِعاً ... وأبا الفوارس نَهْشَلاً أَخَوَانِ )
( سبقوا أباك بكلّ أعْلَى تَلْعةٍ ... في المجد عند مَوَاقف الرُّكبان )
( قومٌ إذا خَطَرتْ عليك قُرومُهم ... ألقتْكَ بين كَلاَكِلٍ وجِرَانِ )
( وإذا وضعتَ أباك في ميزانهم ... رجَحوا وشال أبوك في الميزان )
وقال جرير يرد حكومة الأخطل

( لِمَنِ الدِّيارُ ببُرْقةِ الرَّوْحَان ... إذ لا نَبِيعُ زمانَنَا بزمانِ )
وهي طويلة يقول فيها
( يا ذَا الغباوة إنّ بِشْراً قد قَضَى ... ألاّ تجوزَ حكومةُ النَّشْوَانِ )
( فدَعُوا الحكومة لَسْتُمُ من أهلها ... إنَّ الحكومةَ في بني شيبان )
( قتلوا كُلَيْبَكُمُ بِلِقْحَةِ جارِهم ... يا خُزْرَتَغْلِبَ لستُمُ بِهِجَان )
ومما غني فيه من نقائض جرير والأخطل

صوت
( أناخُوا فجَرُّوا شَاصِياتٍ كأنّها ... رجالٌ من السُّودان لم يَتَسَرْبَلُوا )
( فقلتُ اصْبَحُوني لا أبَا لأبيكُمُ ... وما وضعوا الأثقالَ إلا ليفعلوا )
( تمرُّ بها الأيدي سنِيحاً وبارحاً ... وتُرْفَعُ باللَّهُمًّ حَيَّ وتُنْزَلُ )
الشاصيات الشائلات القوائم من امتلائها
وعنى بالشاصيات ها هنا الزقاق لأنها إذا امتلأت شالت أكارعها يقال شصا برجله إذا رفعها وشصا ببصره إذا شخص قال الراجز يصف الشاخص

( وبَقَرٍ خِمَاصِ ... يَنْظُرْنَ من خَصَاصِ )
( بأعيُنٍ شَوَاصِي ... كفِلَق الرَّصاص )
والسانح والسنيح ما جاء عن يمينك يريد شمالك
والبارح ما جاء عن شمالك يريد يمينك
والجابه ما جاء من أمامك مواجها لك
والقعيد والخفيف ما جاء من ورائك
شبه دور الكأس واختلافها بينهم بالسوانح والبوارح
الشعر للأخطل والغناء لمالك فيه لحنان كلاهما له أحدهما رمل بالبنصر في مجراها في الأبيات الثلاثة على الولاء من رواية إسحاق والآخر خفيف رمل بالوسطى في الثالث ثم الأول والثاني عن عمرو وذكر عمرو أن الرمل أيضا لابن سريج وأنه بالوسطى
وفيه لإبراهيم رمل بالبنصر في الأول والثاني عن الهشامي وعمرو وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي ومنها
صوت
( خَفّ القَطِينُ فراحُوا منك أو بَكَرُوا ... وأزعجتْهم نَوىً في صَرْفها غِيَر )
( كأنَّني شاربٌ يوم استُبِدَّ بهم ... من قَرْقَفٍ ضُمِّنَتْها حِمْصُ أو جَدَرُ )
( جادت بها من ذوات القارِ مُتْرَعةٌ ... كَلْفاءُ يَنْحَتُّ من خُرْطومها المَدَرُ )
( يا قاتلَ اللهُ وَصْلَ الغانياتِ إذا ... أيقنَّ أنّك ممن قد زَهَا الكِبَرُ )
( أعْرَضْنَ لمّا حَنَى قَوْسِي مُوَتِّرُها ... وابيضَّ بعد سواد اللِّمّةِ الشَّعَرُ )

استبد بهم أي علي عليهم
والقرقف التي تأخذ شاربها رعدة لشدتها
والكلفاء الخابية في لونها كلف
وقوله زها الكبر يعني استخفه وأضعفه يقال زهاه وازدهاه
وقال أبو عبيدة الأصل في زهاه رفعه فكأنه أراد أنه رفعه في علو سنه عما يردن منه
واللمة الشعر المجتمع
الشعر للأخطل يمدح عبد الملك بن مروان ويهجو قيسا وبني كليب ويقول فيها
( أمّا كُلَيْبُ بنُ يَرْبُوعٍ فليس لها ... عند التفاخُرِ إيرادٌ ولا صَدَرُ )
( مُخَلَّفُون ويقضِي الناسُ أمرَهُمُ ... وهُمْ بغَيْبٍ وفي عَمْيَاءَ ما شَعَرَوا )
( مُلَطَّمُون بأعقارِ الحِيَاضِ فما ... ينفكُّ من دَارِميٍّ فيهمُ أثَرُ )
( بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ ... إذا جرى فيهمُ المُزَّاء والسَّكَرُ )
( قومٌ تناهتْ إليهم كلُّ مُخْزِيَةٍ ... وكلُّ فاحشةٍ سُبَّتْ بها مُضَرُ )
( الآكلون خبيثَ الزَّادِ وحْدَهُمُ ... والسائلونَ بظَهْر الغَيْبِ ما الخبرُ )
وهذه القصيدة من فاخر شعر الأخطل ومقدمه ومما غلب فيه علىجرير وقد احتاج جرير إلى سلخ بيته هذا الأخير فرده عليه بعينه في نقيضة هذه القصيدة وضمنه بيتين من شعره فقال
( الآكلون خبيثَ الزَّاد وحدَهُم ... والنازلون إذا وَاراهُمُ الخَمَرُ )

( والظاعنون على العَمْياء إن رَحَلوا ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر )
وفي هذه القصيدة يقول الأخطل يمدح عبد الملك
( إلى امرىء لا تُعَرِّينا نوافلُهُ ... أظْفَره الله فَلْيَهْنِىءْ له الظَّفَر )
( الخائِضُ الغَمْر والميمون طائرُه ... خليفةُ اللَّه يُسْتَسْقَى به المطرُ )
( والهَمُّ بعد نَجِيِّ النفس يَبْعَثه ... بالحَزْمِ والأَصْمَعَانِ القلبُ والحَذَرُ )
( وما الفُرَاتُ إذا جاشتْ غواربُهُ ... في حافَتَيْهِ وفي أوساطِهِ العُشَرُ )
( وزعزعتْه رياحُ الصَّيْفِ واضطربتْ ... فوقَ الْجَآجِىء من آذِيِّه غُدُرُ )
( مُسْحَنْفِرٌ من جبالِ الروم يستُرُه ... منها أكافِيفُ فيها دونه زَوَرُ )
( يوماً بأجْوَدَ منه حين تسألُهُ ... ولا بأجهرَ منه حين يُجْتَهَرُ )
( في نَبْعةٍ من قُرَيْشٍ يَعْصِبون بها ... ما إِن يُوَازَى بأعلَى نَبْتها الشجرُ )
( حُشْدٌ على الخير عَيّافو الخَنَا أُنُفٌ ... إذا ألمّتْ بهم مكروهةٌ صَبَروا )
( لا يَسْتَقلّ ذوو الأضغان حربَهُم ... ولا يُبَيِّنُ في عِيدانهم خَوَرُ )
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتَقادَ لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَروا )

الرشيد وآدم بن عمر يمدحان شعر الأخطل
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن أبيه
أن الرشيد قال لجماعة من أهله وجلسائه أي بيت مدح به الخلفاء منا ومن بني أمية أفخر فقالوا وأكثروا
فقال الرشيد أمدح بيت وأفخره قول ابن النصرانية في عبد الملك
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُستقادَ لهم ... وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قدروا )
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث عن المدائني قال
قال المهدي يوما وبين يديه مروان بن أبي حفصة أين ما تقوله فينا من قولك في أمير المؤمنين المنصور
( له لَحَظَاتٌ عن حِفَافَيْ سَرِيرِه ... إذا كرّها فيها عِقابٌ ونائلُ )
فاعترضه آدم بن عمر بن عبد العزيز فقال هيهات والله يا أمير المؤمنين أن يقول هذا ولا ابن هرمة كما قال الأخطل

( شُمْسُ العَداوةِ حتى يُسْتقاد لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا )
قال فغضب المهدي حتى استشاط وقال كذب والله ابن النصرانية العاض بظر أمه وكذبت يا عاض بظر أمك والله لولا أن يقال إني خفرت بك لعرفتك من أكثر شعرا خذوا برجل ابن الفاعلة فأخرجوه عني فأخرجوه على تلك الحال وجعل يشتمه وهو يجر ويقول يا بن الفاعلة أراها في رؤوسكم وأنفسكم

صوت
( إِنِّي أَرِقتُ ولم يَأْرَقْ معي صاح ... لِمُسْتَكفٍّ بُعَيْدَ النَّومِ لَوّاحِ )
( دانٍ مُسِفٍّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُه ... يكاد يدفعه مَنْ قام بالرَّاحِ )
عروضه من البسيط
الشعر لأوس بن حجر وهكذا رواه الأصمعي أخبرنا بذلك اليزيدي عن الرياشي عنه ووافقه بعض الكوفيين وغير هؤلاء يرويه لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
ولحسين بن محرز لحن في البيت الثاني وبعده
( إِنْ أَشْرَبِ الخمرَ أو أُغْلى بها ثمناً ... فلا مَحَالَةَ يوماً أنني صاح )
وطريقته خفيف رمل بالوسطى
قوله مستكف يعني مستديرا وكل طرة كفة
أخبرنا محمد بن

العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا مهدي يقول وهو يصف شجاعا عرض له في طريقه تبعني شجاع من هذه الشجعان فمر خلفي كأنه سهم زالج فحدت عنه واستكف كأنه كفة حابل فرميته فنظرت ثلاثة أثنائه
وكذلك يقال كفة الحابل وكفة الميزان بالكسر والأولى مضمومة
ولواح من قولهم لاح يلوح إذا ظهر
ومسف قد أسف على وجه الأرض إذا صار عليها أو قرب منها أو دنا إليها ومن هذا يقال أسف الطائر إذا طار على وجه الأرض ويقال ذلك للسهم أيضا
وهيدبه الذي تراه كالمتعلق بالسحاب
يقول هذا السحاب يكاد من قام أن يمسه ويدفعه براحته لقربه من الأرض وهو أحسن ما وصف به السحاب

ذكر أوس بن حجر وشيء من أخباره
وقد اختلف في نسبه فقال الأصمعي فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي عنه هو أوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير
وقال ابن حبيب فيما ذكره السكري عنه هو أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها
وذكر أبو عبيدة أنه من الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة ونابغة بني جعدة
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة حدثنا يونس عن أبي عمرو قال
كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة وزهير فهو شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو يقول كان أوس بن حجر فحل الشعراء فلما نشأ النابغة طأطأ منه
وأما الكلبي فإنه زعم أن من هذه الطبقة لبيد بن ربيعة والشماخ بن ضرار

قال وتميم إلى الآن مقيمة على تقديم أوس
قال ومنهم من يقول بتقديم عدي وأنشد لحارثة بن بدر الغداني
( والشِّعْرُ كان مَبِيتُهُ وَمَظلُّهُ ... عند العِبَاديّ الذي لا يُجْهَلُ )
وقال يعقوب بن سليمان قال حماد أدركت رجالا من بني تميم لا يفضلون على عدي في الشعر أحدا
أخبرني اليزيدي عن الرياشي عن الأصمعي قال تميم تروي هذه القصيدة الحائية لعبيد وذلك غلط ومن الناس من يخلطها بقصيدته التي على وزنها ورويها لتشابههما
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري قال حدثنا علي بن الصباح قال حدثني عبيد الله بن الحسين بن المسود بن وردان مولى رسول الله قال
خرج أعرابي مكفوف ومعه ابنة عم له لرعي غنم لهما
فقال الشيخ أجد ريح النسيم قد دنا فارفعي رأسك فأنظري
فقالت أراها كأنها ربرب معزى هزلى
قال ارعي واحذري
ثم قال لها بعد ساعة إني أجد ريح النسيم قد دنا فارفعي رأسك فانظري
قالت أراها كأنها بغال دهم تجر جلالها
قال ارعي واحذري
ثم مكث ساعة ثم قال إني لأجد ريح النسيم قد دنا فانظري
قالت أراها كأنها بطن حمار أصحر
فقال ارعي واحذري
ثم مكث ساعة فقال إني لأجد ريح النسيم فما ترين قالت أراها كما قال الشاعر

( دَانٍ مُسِفٍّ فويقَ الأرضِ هيدبُه ... يكاد يدفعه مَنْ قام بالراحِ )
( كأنما بين أعلاهُ وأسْفَلِهِ ... رَيْطٌ مُنَشَّرةٌ أو ضوءُ مصباحِ )
( فمَنْ بمَحْفِله كمن بنَجْوَتِهِ ... والمُسْتَكِنّ كَمَنْ يمشي بِقرواح )
فقال انجي لا أبالك فما انقضىكلامه حتى هطلت السماء عليهما
البيت الثاني من هذه الأبيات ليس من رواية ابن حبيب ولا الأصمعي
معنى قول الجارية كأنها بطن حمار أصحر تعني أنه أبيض فيه حمرة
والصحرة لون كذلك
وقوله
( فَمَنْ بِمَحْفِله كمن بنجوته ... ) يعني من هو بحيث احتفل السيل واحتفال كل شيء معظمه كمن في نجوته
وقد روي بمحفشه وهما واحد ومعناهما مجرى معظم السيل
يقول فمن هو في هذا الموضع منه كمن بنجوته أي ناحية عنه سواء لكثرة المطر
والقرواح الفضاء يقال قرواح وقرياح
ويقال في معنى المحفش حفشت الأودية إذا سالت وتحفشت المرأة على ولدها إذا قامت عليه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني علي بن أبي عامر السهمي المصري قال حدثني أبو يوسف الأصبهاني قال حدثني أبو محمد الباهلي عن الأصمعي وذكر هذا الخبر أيضا التوزي عن أبي عبيدة فجمعت روايتيهما قالا

مدح فضالة بن كلدة لأنه أكرمه بعد أن صرعته ناقته
كان أوس بن حجر غزلا مغرما بالنساء فخرج في سفر حتى إذا كان

بأرض بني أسد بين شرج وناظرة فبينا هو يسير ظلاما إذا جالت به ناقته فصرعته فاندقت فخذاه فبات مكانه حتى إذا أصبح غدا جواري الحي يجتنين الكمأة وغيرها من نبات الأرض والناس في ربيع
فبينا هن كذلك إذ بصرن بناقته تجول وقد علق زمامها في شجرة وأبصرنه ملقى ففزعن فهربن
فدعا بجارية منهن فقال لها من أنت قالت أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة وكانت أصغرهن فأعطاها حجرا وقال لها اذهبي إلى أبيك فقولي له ابن هذا يقرئك السلام
فأخبرته فقال يا بنية لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل
ثم احتمل هو وأهله حتى بنى عليه بيته حيث صرع وقال والله لا أتحول أبدا حتى تبرأ وكانت حليمة تقوم عليه حتى استقل
فقال أوس بن حجر في ذلك
( جُدِلتُ على ليلةٍ ساهره ... بصحراء شَرْجٍ إلى ناظره )
( تُزاد لَيَاليّ في طُولها ... فليست بطَلْقٍ ولا ساكره )
( أنوءُ برجل بها ذِهْنُها ... وأعيتْ بها أخْثها الغابره )
وقال في حليمة
( لَعَمْرُكَ مَا مَلّتْ ثَوَاءَ ثَوِيَّها ... حليمةُ إذ ألْقَى مَرَاسِيَ مُقْعَدِ )
( ولكن تَلَقَّتْ باليدينِ ضَمَانَتي ... وحَلَّ بِشَرْجٍ مِ القبائلِ عُوَّدِي )

( ولم تُلْهِها تلك التكاليفُ إنّها ... كما شئتَ من أكرومةٍ وَتَخَرُّد )
( سأَجزيك أو يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وقَصْرُكِ أنْ يُثْنَى عليكِ وُتحْمَدِي )

رثاؤه فضالة حين مات
قالا ثم مات فضالة بن كلدة وكان يكنى أبا دليجة فقال فيه أوس بن حجر يرثيه
( يا عينُ لا بدّ من سَكْبٍ وتَهْمَالِ ... على فَضَالَةَ جَلّ الرُّزْءُ والعالِي )
ويروى عيني
العالي الأمر العظيم الغالب
وهي طويلة جدا
وفيها مما يغنى فيه
صوت
( أبا دُلَيْجةَ مَنْ تُوصِي بأرملةٍ ... أم مَنْ لأشْعَثَ ذي طِمْرَيْنِ مِمْحَالِ )
( أبا دُلَيْجَةَ مَنْ يكفي العشيرةَ إذ ... أمْسَوْا مَن الأمر في لَبْسٍ وبَلْبال )
( لا زال مِسْكٌ ورَيْحَانٌ له أَرَجٌ ... على صَدَاكَ بصافي اللَّون سَلْسَال )
غنى فيه دحمان خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
وذكر حبش أن فيه لابن عائشة رملا بالوسطى عن عمرو
وذكر حبش أن فيه لابن عائشة رملا

بالبنصر ولداود بن العباس ثاني ثقيل ولابن جامع خفيف ثقيل
ومن فاضل مراثيه إياه ونادرها قوله
( أيَّتُها النفسُ أَجمِلِي جَزَعَا ... إِنّ الذي تَكْرَهين قد وقعا )
( إنّ الذي جَمع السماحة والنَّجْدَةَ ... والحزمَ والقُوَى جُمَعَا )
( المُخْلِفَ المُتْلِفَ المُرَزَّأ لم ... يُمْتَعْ بِضَعْفٍ ولم يَمُتْ طَبِعَا )
( أوْدَى وهل تنفع الإِشاحةُ مِنْ ... شيء لمن قد يُحاول البِدَعَا )
وهي قصيدة أيضا يمدحه بها في حياته ويرثيه بعد وفاته
وله فيه قصائد غير هذه
صوت
( رأيتُ زُهَيْراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلتُ أسعى كالعَجُولِ أُبادِرُ )
( فَشَلَّتْ يميني يوم أضرِبُ خالداً ... ويمنعه مني الحديدُ المُظَاهَرُ )
عروضه من الطويل
الشعر لورقاء بن زهير
والغناء لكردم خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد وذكر إسحاق أنه ينسبه إلى معبد من لا يعلم وروى عن أبيه عن سياط عن يونس أنه أخذه من كردم وأعلمه أن الصنعة فيه له

خبر ورقاء بن زهير ونسبه وقصة شعره هذا
هو ورقاء بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان يقوله لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة أباه زهير بن جذيمة
وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة ونسخت بعض هذا الخبر عن الأثرم ورواية ابن الكلبي وأضفت بعض الروايات إلى بعض إلا ما أفردته وجلبته عن راويه
قال أبو عبيدة حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد بن عاصم بن عبد الله بن رافع بن مالك بن عبد بن جلهمة بن حداق بن يربوع بن سعد بن تغلب بن عوف بن جلان بن غنم بن أعصر قال حدثني أبي عبد الواحد وعمي صفوان ابنا عاصم عن أبيهما عاصم بن عبد الله عمن أدرك شأس بن زهير
قال كان مولد عاصم قبل مبعث النبي وكان عاصم جاهليا
قال قال وعبد الحميد حدثني سيار بن عمرو أحد بني عبيد بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم قال أبو عبيدة وكان أعلم غني عن شيوخهم

مقتل أخيه شأس ومحاولة الثأر من قاتله
أن شأس بن زهير بن جذيمة أقبل من عند ملك قال أبو عبيدة
أراه النعمان وكان بينه وبين زهير صهر قال أبو عبيدة ثم حدثني مرة أخرى قال كانت ابنة زهير عنده فأقبل شأس بن زهير من عنده وقد حباه أفضل الحبوة مسكا وكسا وقطفا وطنافس فأناخ ناقته في يوم شمال وقر على ردهة في جبل ورياح بن الأسك أحد بني رباع بن عبيد بن سعد بن عوف بن جلان على الردهة ليس غير بيته بالجبل فأنشأ شأس يغتسل بين الناقة والبيت فاستدبره رياح فأهوى له بسهم فبتر به صلبه
قال أبو عبيدة وحدثني رجل يخيل إلي أنه أبو يحيى الغنوي قال ورد شأس وقد حباه الملك بحبوة فيها قطيفة حمراء ذات هدب وطيب فورد منعجا وعليه خباء ملقى لرياح بن الأسك فيه أهله في الظهيرة فألقى ثيابه بفنائه ثم قعد يهريق عليه الماء والمرأة قريبة منه يعني امرأة رياح فإذا هو مثل الثور الأبيض
فقال رياح لامرأته أنطيني قوسي فمدت إليه قوسه وسهما وانتزعت المرأة نصله لئلا يقتله فأهوى عجلان إليه
فوضع السهم في مستدق الصلب بين فقارتين ففصلهما وخر ساقطا وحفر له حفرا فهدمه عليه ونحر جمله وأكله
قال وقال عبد الحميد أكل ركوبته وأولج متاعه بيته
وقال عبد الحميد وفقد شأس وقص أثره ونشد وركبوا إلى الملك فسألوه عن حاله
فقال لهم الملك حبوته وسرحته
فقالوا وما متعته به قال مسك وكسا

ونطوع وقطف
فأقبلوا يقصون أثره فلم تتضح لهم سبيله
فمكثوا كذلك ما شاء الله لا أدري كم حتى رأوا أمرأة رياح باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك فعرفت وتيقنوا أن رياحا ثأرهم
قال أبو عبيدة وزعم الاخر قال نشد زهير بن جذيمة الناس فانقطع ذكره على منعج وسط غني ثم أصابت الناس جائحة وجوع فنحر زهير ناقة فأعطى أمرأة شطيها فقال اشتري لي الهدب والطيب
فخرجت بذلك الشحم والسنام تبيعه حتى دفعت إلى امرأة رياح فقالت إن معي شحما أبيعه في الهدب والطيب فاشترت المرأة منها
فأتت المرأة زهيرا بذلك فعرف الهدب
فأتى زهير غنيا فقالوا نعم قتله رياح بن الأسك ونحن برءاء منه
وقد لحق بخاله من بني الطماح وبني أسد بن خزيمة فكان يكون الليل عنده ويظهر في أبان إذا أحس الصبح يرمي الأروى إلى أن أصبح ذات يوم وهو عنده وعبس تريغه
فركب خاله جملا وجعله على كفل وراءه
فبينا هو كذلك إذ دنت فقالوا هذه خيل عبس تطلبك
فطمر في قاع شجر فحفر في أصل

سوقه
ولقيت الخيل خاله فقالوا هل كان معك أحد قال لا
فقالوا ما هذا المركب وراءك لتخبرنا أو لنقتلنك قال لا كذب هو رياح في ذلك القاع
فلما دنوا منه قال الحصينان يا بني عبس دعونا وثأرنا فخنسوا عنهما
فأخذ رياح نعلين من سبت فصيرهما على صدره حيال كبده ونادى هذا غزالكما الذي تبغيان
فحمل عليه أحدهما فطعنه فأزالت النعل الرمح إلى حيث شاكلته ورماه رياح موليا فجذم صلبه
قال ثم جاء الآخر فطعنه فلم يغن شيئا ورماه موليا فصرعه
فقالت عبس أين تذهبون إلى هذا والله ليقتلن منكم عدد مراميه وقد جرحاه فسيموت
قال وأخذ رياح رمحيهما وسلبيهما وخرج حتى سند إلى أبان
فأتته عجوز وهو يستدمي على الحوض ليشرب منه وقالت استأسر تحي فقال جنبيني حتى أشرب
قال فأبت ولم تنته
فلما غلبته أخذ مشقصا وكنع به كرسوعي يديها
قال فقال عبد الحميد فلما استبان لزهير بن جذيمة أن رياحا ثأره قال يرثي شأسا

قصيدة زهير بن جذيمة في رثاء ابنه شأس
( بكيتُ لشَأْسٍ حين خُبِّرتُ أنّه ... بماء غَنِيٍّ آخِرَ اللَّيلِ يُسْلَبُ )
( لقد كان مَأْتاهُ الرِّداهَ لِحَتْفِهِ ... وما كان لولا غِرّةُ اللّيلِ يُغْلَبُ )

( قتيلُ غنِيٍّ ليس شَكْلٌ كشكله ... كذاك لَعَمْرِي الحَيْنُ للمرء يُجْلَبُ )
( سأبكي عليه إن بكيتُ بعَبْرةٍ ... وحُقَّ لِشَأْسٍ عَبْرةٌ حين تُسْكَبُ )
( وحزنٌ عليه ما حَيِيتُ وعولةٌ ... على مثل ضوء البدر أو هو أعجبُ )
( إذا سِيمَ ضَيْماً كان للضيم منكراً ... وكان لدى الهيجاء يُخْشَى ويُرْهَبُ )
( وإنْ صوتَ الداعي إلى الخير مرةً ... أجاب لِمَا يدعو له حين يُكْرَبُ )
( ففرّج عنه ثم كان وَلِيَّه ... فقلبي عليه لو بدا القلبُ مُلْهَبُ )
وقال زهير بن جذيمة حين قتل شأس شأس وما شأس والبأس وما البأس لولا مقتل شأس لم يكن بيننا بأس
قال ثم انصرف إلى قومه فكان لا يقدر على غنوي إلا قتله
قال عبد الحميد فغزت بنو عبس غنيا قبل أن يطلبوا قودا أو دية مع أخي شأس الحصين بن زهير بن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة ابن أخي زهير
فقيل ذلك لغني فقالت لرياح انج لعلنا نصالح على شيء أو نرضيهم بدية وفداء
فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب وزعم أبو حية النميري أنه من بني جعد وكان معهما صحيفة فيها آراب لحم لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم فأوجفا أيديهما في الصحيفة فأخذ كل واحد منهما وذرة ليأكلها مترادفين لا يقدران على النزول
قال فمر فوق رؤوسهما صرد فصرصر فألقيا اللحم وأمسكا بأيديهما وقالا ما هذا ثم

عادا إلى مثل ذلك فأخذ كل واحد منهما عظما ومر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر فألقيا العظمين وأمسكا بأيديهما وقالا ما هذا ثم عادا الثالثة فأخذ كل واحد منهما قطعة فمر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر فألقيا القطعتين حتى فعلا ذلك ثلاث مرات فاذا هما بالقوم أدنى ظلم وأدنى ظلم أي أدنى شيء وقد كانا يظنان أنهما قد خالفا وجهة القوم
فقال صاحبه لرياح اذهب فإني آتي القوم أشاغلهم عنك وأحدثهم حتى تعجزهم ثم ماض إن تركوني
فانحدر رياح عن عجز الجمل فأخذ أدراجه وعدا أثر الراحلة حتى أتى ضفة فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب فولج فيه ثم أخذ نعليه فجعل إحداهما على سرته والأخرى على صفنه ثم شد عليهما العمامة ومضى صاحبه حتى لقي القوم فسألوه فحدثهم وقال هذه غني كاملة وقد دنوت منهم فصدقوه وخلوا سربه
فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه فقالوا من الذي كان خلفك فقال لا مكذبة ذلك رياح في الأول من السمرات
فقال الحصينان لمن معهما قفوا علينا حتى نعلم علمه فقد أمكننا الله من ثأرنا ولم يريدا أن يشركهما فيه أحد فمضيا ووقف القوم عنهما
قالوا قال رياح فاذا هما ينقلان فرسيهما فما زالا يريغاني فابتدراني فرميت الأول فبترت صلبه وطعنني الآخر قبل أن أرميه وأراد السرة فأصاب الربلة ومر الفرس يهوي به فاستدبرته بسهم فرشقت به صلبه فانفقر منحنى الأوصال وقد بترت صلبيهما
قال أبو عبيدة قال أبو حية بل قال رياح استدبرته بسهم وقد خرجت قدمه فقطعتها فكأنما نشرت بمنشار
قال عبد الحميد وند فرساهما

فلحقا بالقوم
قال رياح فأخذت رمحيهما فخرجت بهما حتى أتيت رملة فسندت فغرزت الرمحين فيها ثم انحدرت
قال وطلبه القوم حتى إذا رفع لهم الرمحان لم يقربوهما علم الله حتى وجدوا أثر رياح خارجا قد فات
وانطلق رياح خارجا حتى ورد ردهة عليها بيت أنمار بن بغيض وفيه امرأة ولها ابنان قريبان منها وجمل لها راتع في الجبل وقد مات رياح عطشا
فلما رأته يستدمي طمعت فيه ورجت أن يأتيها ابناها فقالت له استأسر
فقال لها دعيني ويحك أشرب فأبت فأخذ حديدة إما سكينا وإما مشقصا فجذم به رواهشها فماتت وعب في الماء حتى نهل ثم توجه إلى قومه
فقال رياح فيها وفي الحصينين
( قالت لِيَ اسْتأَسِرْ لِتَكْتِفَني ... حِيناً ويعلو قولُها قولي )
( ولأَنتَ أجرأُ من أُسَامَة أو ... منِّي غداةَ وقفتُ للخيلِ )
( إذِ الحُصَيْنُ لدى الحُصَيْنِ كما ... عَدَل الرِّجازةُ جانبَ المَيْلِ )
قال الأثرم الرجازة شيء يكون مع المرأة في هودجها فإذا مال أحد الجانبين وضعته في الناحية الأخرى ليعتدل
قال أبو عبيدة يعني حصين بن زهير بن جذيمة وحصين بن أسيد بن جذيمة وهو ابن عمه
قال أبو عبيدة قال عبد الحميد والله لقد سمعت هذا الحديث على ما حدثتك به منذ ستين سنة
قال عبد الحميد وما سمعت أن بني عبس أدركوا بواحد منهم ولا اقتادوا ولا أنذروا ولا سمعت فيه من الشعر لنا ولا لغيرنا في الجاهلية بأكثر مما أنشدتك
وإلى هذا انتهى حديثنا وحديثه
ولا والله ما قتل خالد بن جعفر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45