كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( خليليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قَتِيلاً بَكى من حبّ قاتلِه قَبْلِي )
قال ابن سلام وهذا البيت الذي لكثير أخذه من جميل حيث يقول
( أريد لأنْسَى ذكرَها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى على كلَّ مَرْقَبِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن أبي شهاب طلحة بن عبد الله بن عوف قال
لقي الفرزدق كثيرا بقارعة البلاط وأنا وهو نمشي نريد المسجد فقال له الفرزدق يا أبا صخر أنت أنسب العرب حين تقول
( أُريد لأَنسَى ذكرَها فكأنَّما ... تمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيل )
يعرض له بسرقته من جميل فقال له كثير وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسيرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
قال عبد العزيز وهذا البيت أيضا لجميل سرقة الفرزدق فقال الفرزدق لكثير هل كانت أمك مرت بالبصرة قال لا ولكن أبي فكان نزيلا لأمك قال طلحة بن عبد الله فوالذي نفسي بيده لعجبت من كثير وجوابه وما رأيت أحداً قط أحمق منه رأيتني دخلت عليه يوما في نفر من قريش وكنا كثيرا ما نتهزأ به فقلنا كيف تجدك يا أبا صخر قال بخير أما سمعتم الناس يقولون شيئا قلنا نعم يتحدثون أنك الدجال فقال والله

لئن قلتم ذاك إني لأجد في عيني هذه ضعفاً منذ أيام
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال كتب إلي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم يقول حدثني أبو عبيدة عن جويرية بن أسماء قال
كان أبو صخر كثير صديقا لي وكان يأتيني كثيرا فقلما استنشدته إلا بدأ بجميل وأنشد له ثم أنشد لنفسه وكان يفضله ويتخذه إماما
قال الزبير وكتب إلي إسحاق يقول حدثني صباح بن خاقان عن عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير قال
ذكر جميل لكثير فقالوا ما تقول فيه فقال منه علم الله عز و جل
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو يحيى الزهري عن إسحاق بن قبيصة الكوفي عن رجل سماه قال
سألت نصيبا أجميل أنسب أم كثير فقال أنا سألت كثيرا عن ذاك فقال وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل
قال عمر بن شبة وقال إسحاق حدثني السعيدي عن أبي مالك النهدي قال
جلس إلينا نصيب فذكرنا جميلا فقال ذاك إمام المحبين وهل هدى الله عز و جل لما ترى إلا بجميل
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة عن جويرية بن

أسماء قال ما استنشدت كثيرا قط إلا بدأ بجميل وأنشدني له ثم أنشدني بعده لنفسه وكان يفضله ويتخذه إماما
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي قال

خبر تعرفه ببثينة
كان جميل ينسب بأم الجسير وكان أول ما علق بثينة أنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له بغيض فاضطجع وأرسل إبله مصعدةً وأهل بثينة بذنب الوادي فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء فمرتا على فصال له بروك فعرمتهنّ بثينة يقول نفرتهن وهي إذ ذاك جويرية صغيرة فسبها جميل فأفترت عليه فملح إليه سبابها فقال
( وأوَّلُ ما قاد المودَّةَ بيننا ... بِوَادِي بَغيضٍ يا بُثَيْنَ سِبَابُ )
( وقلنا لها قَوْلاً فجاءت بمثله ... لكلّ كلامٍ يا بُثَيْنَ جوابُ )
قال الزبير وحدثني محمد بن إسماعيل بن جعفر عن سعيد بن نبيه بن الأسود العذري وكانت بثينة عند أبيه نبيه بن الأسود وإياه يعني جميل بقوله
( لقد أَنْكَحُوا جَهْلاً نُبَيهاً ظَعِينةً ... لَطِيفةَ طَيِّ الكَشْحِ ذاتَ شَوًى خَدْلِ )
قال الزبير وحدثني أيضا الأسباط بن عيسى بن عبد الجبار العذري أن جميل بن معمر خرج في يوم عيد والنساء إذ ذاك يتزين ويبدو بعضهن لبعض ويبدون للرجال وأن جميلا وقف على بثينة وأختها أم الجسير في نساء من بني

الأحب وهن بنات عم عبيد الله بن قطبة أخي أبيه لحا فرأى منهن منظرا وأعجبنه وعشق بثينة وقعد معهن ثم راح وقد كان معه فتيان من بني الأحب فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه فراح وهو يقول
( عَجِل الفِراقُ ولَيْتَه لم يَعْجَلِ ... وجرتْ بوادرُ دَمْعِك المُتَهلِّلِ )
( طَرَباً وشاقكَ ما لَقِيتَ ولم تَخَفْ ... بَيْنَ الحبيبِ غداةَ بُرْقةِ مِجْوَلِ )
( وعرفتَ انك حين رُحْتَ ولم يكن ... بعدُ اليقينُ وليس ذاك بمُشْكِلِ )
( لن تَستطيع إلى بثينة رَجْعةً ... بعد التفرُّق دون عامٍ مُقبِلِ )
قال وإن بثينة لما أخبرت أن جميلا قد نسب بها حلفت بالله لا يأتيها على خلاء إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث إليها ومع أخواتها حتى نمي إلى رجالها أنه يتحدث إليها إذا خلا منهم وكانوا أصلافا غيرا أو قال غيارى فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلا وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف على بثينة وأم الجسير وهما يحدثانه وهو ينشدهما يومئذ
( حلفتُ بربِّ الراقصاتِ إلى مِنًى ... هُوِيَّ القَطَا يَجْتَزْنَ بطنَ دَفِينِ )

( لقد ظَنَّ هذا القلبُ أن ليس لاقياً ... سُلَيْمَى ولا أمَّ الجُسَيْرِ لحِينِ )
( فليت رجالاً فيكِ قد نذَرُوا دَمِي ... وهَمُّوا بقَتْلِي يا بُثَيْنَ لَقُونِي )
فبينا هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فرماهم بها فسبقت به وهو يقول
( إذا جمع الاثنان جمعاً رميتُهم ... بأركانها حتى تُخَلَّى سبيلُها )
فكان هذا أول سبب المهاجاة بينه وبين عبيد الله بن قطبة

تشكيه في شعره
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا بهلول بن سليمان عن مشيخة من عذرة
أن بثينة واعدت جميلا أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيء الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بها فقال في ذلك
صوت
( أبُثَيْن إنَّكِ قد مَلَكْتِ فأَسْجِحِي ... وخُذِي بحظك من كريمٍ واصلِ )
( فأجبتُها في القول بعد تَسَتُّرٍ ... حُبِّي بثينةَ عن وِصَالِكِ شاغِلِي )
( فلربَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها ... بالجِدّ تَخْلِطه بقول الهازل )

( لو كان في صدري كقَدْرِ قُلاَمةٍ ... فَضْلاً وصلتُكِ أو أتتكِ رسائلي )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من رواية ابنه أحمد عنه
صوت
( ويَقُلْنَ إنَّكَ قد رَضِيتَ بباطلٍ ... منها فهل لكَ في اجتنابِ الباطلِ )
( ولَبَاطِلٌ ممَّا أُحِبُّ حديثَه ... أشهَى إليّ من البَغيض الباذِل )
( لِيُزِلْنَ عنك هوايَ ثم يَصِلْنَنِي ... وإذا هَوِيتُ فما هوايَ بزائلِ )
الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو وذكر في نسخته الثانية أنه ليزيد حوراء وروى حماد عن أبيه في أخبار ابن سريج أن لابن سريج فيه لحنا ولم يجنسه
( صادتْ فؤادي يا بُثَيْن حِبالكُم ... يومَ الحَجُونِ وأخطأَتْكِ حبائلي )
( مَنَّيْتِنِي فلَوَيْتِ ما مَنَّيْتِنِي ... وجعلتِ عاجلَ ما وعدتِ كآجلِ )
( وتثاقلتْ لمَّأ رأت كَلَفِي بها ... أَحْبِبْ إليَّ بذاكَ من متثاقل )
( وأطعتِ فيَّ عواذِلاً فهجرتِني ... وعَصَيْتُ فيكِ وقد جَهَدْنَ عواذلي )
( حاولنَني لأِبُتَّ حبل وِصَالكم ... منِّي ولستُ وإن جَهَدْنَ بفاعل )

( فرددتُهن وقد سَعَيْنَ بهجرِكم ... لمَّا سَعَيْنَ له بأفْوَقَ ناصِلِ )
( يَعْضَضْنَ من غيظٍ عليّ أناملاً ... ووَدِدْتُ لو يَعْضَضْنَ صُمَّ جَنَادِلِ )
( ويقلن إنكِ يا بُثَيْن بخيلةٌ ... نفسي فداؤكِ من ضَنِينٍ باخل )
قالوا وقال جميل في وعد بثينة بالتلاقي وتأخرها قصيدة أولها
( يا صاحِ عن بعض المَلاَمةِ أَقْصِرِ ... إنّ المُنَى لَلِقاءُ أُمِّ المِسْوَرِ )
فمما يغنى فيه منها قوله

صوت
( وكأنّ طارقَها على عَلَل الكرَى ... والنجمُ وَهْناً قد دنا لتَغَوُّرِ )
( يَسْتافُ ريحَ مُدَامةٍ معجونةٍ ... بذَكِيِّ مِسْكٍ أو سَحيقِ العَنْبَر )
الغناء لابن جامع ثقيل أول بالبنصر من رواية الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لابن المكي
ومما يغنى فيه منها قوله
صوت
( إنَّي لأحفظُ غَيْبَكم ويسرُّني ... إذ تَذْكُرِينَ بصالح أن تَذْكُرِي )

( ويكون يومٌ لا أرى لكِ مُرْسَلاً ... أو نَلْتَقِي فيه عليّ كأشْهُرِ )
( يا ليتني ألقَى المنيَّةَ بغتةً ... إن كان يومُ لقائكم لم يُقْدَرِ )
( أو أستطِيعُ تَجَلُّداً عن ذكركم ... فيُفِيقَ بعضُ صبابتي وتَفَكُّري )
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وفيه يقول
( لو قد تُجِنّ كما أُجِنّ من الهوى ... لَعَذَرْتَ أو لظلمتَ إن لم تَعْذِرِ )
( واللَّه ما للقلبِ من علمٍ بها ... غيرُ الظنون وغير قول المُخْبِرِ )
( لا تحسَبي أنِّي هجرتُكِ طائعاً ... حَدَثٌ لعمرُكِ رائعٌ أن تُهْجَري )
( فَلْتَبْكِيَنَّ الباكياتُ وإن أَبُحْ ... يوماً بسرِّكِ مُعْلِناً لم أُعْذَرِ )
( يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أَمُتْ ... يَتْبَعْ صَدَاي صداكِ بين الأقْبُرِ )
(

صوت
( إنِّي إليكِ بما وعدتِ لناظرٌ ... نظرَ الفقيرِ إلى الغَنِيِّ المُكْثِرِ )
( يَعِدُ الديونَ وليس يُنْجِزُ موعداً ... هذا الغريمُ لنا وليس بمُعسِرِ )
( ما أنتِ والوَعْدَ الذي تَعِدِينَنِي ... إلاَّ كبرق سحابةٍ لم تُمْطِرِ )
( قلبي نصحتُ له فرَدَّ نصيحتي ... فمَتَى هَجَرْتِيهِ فمنه تَكَثَّرِي )
الغناء في هذه الأبيات لسليم رمل عن الهشامي وفيه قدح طنبوري اظنه لجحظة أو لعلي بن مودة قالوا وقال في إخلافها إياه هذا الموعد
صوت
( ألاَ ليتَ رَيْعانَ الشبابِ جديدُ ... ودهراً تولىَّ يا بُثَينَ يَعُودُ )

( فنَغْنَى كما كنّا نكون وأنتُم ... قريبٌ وإذ ما تَبْذُلِين زَهيدُ ) ويروى
( وممَّا لا يَزيد بعيدُ ... )
وهكذا يغنى فيه
الغناء لسليم خفيف ثقيل أول بالوسطى ومما يغنى فيه من هذه القصيدة

صوت
( ألاَ ليت شعري هل أَبِيتنّ ليلةً ... بوادِي القُرَى إنِّي إذاً لسَعِيدُ )
( وهل أَلْقَيَنْ فَرْداً بثينةَ مرَّةً ... تَجُود لنا من ودّها ونَجُود )
( عَلِقْتُ الهَوَى منها وليداً فلم يَزَلْ ... إلى اليوم يَنْمِي حُبُّها ويَزيد )
( وأفنيْتُ عُمْرِي بانتظاريَ وَعْدَهَا ... وأَبْليتُ فيها الدهرَ وهو جديدُ )
( فلا أنا مردودٌ بما جئتُ طالباً ... ولا حبُّها فيما يَبِيدُ يَبِيدُ )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى ومما يغنى فيه منها

صوت
( وما أَنْسَ مِ الأشياءِ لا أَنْسَ قولَها ... وقد قَرُبتْ بُصرَى أمصرَ تُرِيدُ )
( ولا قولَهَا لولا العيونُ التي تَرَى ... لزُرْتُكَ فاعذِرْني فَدَتْك جُدُودُ )
( خليليّ ما أَلْقَى من الوجد قاتِلي ... ودَمْعِي بما قلتُ الغَداةَ شَهِيدُ )
( يقولون جاهدْ يا جميلُ بغَزْوةٍ ... وأيَّ جهادٍ غيرَهنّ أُرِيدُ )
( لكلِّ حديثٍ بينهنّ بَشاشةٌ ... وكلُّ قَتيلٍ عندهنّ شَهِيدُ )
الغناء للغريض خفيف ثقيل من رواية حماد عن أبيه وفي هذه القصيدة يقول
( إذا قلتُ ما بي يا بثينةُ قاتِلي ... من الحبّ قالت ثابتٌ ويَزِيدُ )
( وإن قلتُ رُدِّي بعضَ عقلي أَعِشْ به ... مع الناسِ قالت ذاكَ منكَ بعيدُ )
( ألا قد أَرَى واللَّهِ أن رُبَّ عَبْرةٍ ... إذا الدَّارُ شَطَّتْ بينَنا ستَرُودُ )
( إذا فكَّرتْ قالت قد ادركتُ ودَّه ... وما ضَرَّنِي بُخْلِي فكيف أَجُود )
( فلو تُكْشَفُ الأَحْشاءُ صُودِفَ تحتَها ... لبَثْنَةَ حبٌّ طارِفٌ وتَلِيدُ )
- تُذَكِّرُنِيها كلُّ ريحٍ مَرِيضةٍ ... لها بالتِّلاَعِ القاوياتِ وَئيدُ )

( وقد تَلْتقي الأشْتاتُ بعد تفرُّقٍ ... وقد تُدْرَكُ الحاجاتُ وهي بعيدُ )

التقى بثينة بعد غياب فتعاتبا
أخبرني علي بن صالح قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال
لقي جميل بثينة بعد تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا فقالت له ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول
( رمَى اللَّهُ في عينيْ بُثَينَةَ بالقَذَى ... وفي الغُرّ من أَنْيابها بالقَوَادِحِ )
فأطرق طويلا يبكي ثم قال بل أنا القائل
( ألا ليتَنِي أَعْمَى أصمُّ تَقُوُدنِي ... بثينةُ لا يَخْفَى عليّ كلامُها )
فقالت له ويحك ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال
سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما إن جميلا عندها الليلة فأتياها مشتملين على سيفين فرأياه جالسا حجرة منها يحدثها ويشكو إليها بثه ثم قال لها يا بثينة أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه قالت بماذا قال بما يكون بين المتحابين فقالت له يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا فضحك وقال والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك

بسيفي هذا ما استمسك في يدي ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد أو ما سمعت قولي
( وإنِّي لأَرْضَى من بُثَينةَ بالذي ... لو ابْصَرَه الواشِي لقرَّتْ بَلاَبِلُهْ )
( بلاَ وبأن لا أستطيعَ وبالمُنَى ... وبالأملِ المرجوِّ قد خاب آملُهْ )
( وبالنَّظْرَةِ العَجْلَى وبالحَول تَنْقَضِي ... أواخرُه لا نَلْتَقِي وأوائلُهْ )
قال فقال أبوها لأخيها قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية عن رجل من عذرة قال
كنت تربا لجميل وكان يألفني فقال لي ذات يوم هل تساعدني على لقاء بثينة فمضيت معه فكمن لي في الوادي وبعث بي إلى راعي بثينة بخاتمه فدفعته إليه فمضى به إليها ثم عاد بموعد منها إليه فلما كان الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته فلما استوى في غرزها وهي باركة قالت له ادن مني يا جميل

صوت
( إنّ المنازل هيَّجتْ أَطْرابي ... واستَعجمَتْ آياتُها بجَوابِي )
( قَفْراً تَلُوح بذي اللُّجَين كأنها ... أَنْضَاءُ رَسْمٍ أو سُطورُ كتاب )
( لما وَقَفْتُ بها القَلُوصَ تبادرتْ ... منِّي الدموعُ لفُرْقة الأحبابِ )

( وذكرتُ عصراً يا بثينةُ شاقَني ... وذكرتُ أياَّمي وشَرْخَ شبابِي )
الغناء في هذه الأبيات للهذلي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

كثير يسعى لجمعهما
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق الموصلي عن السعيدي وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال حدثنا أبو مالك النهدي قال
جلس إلينا كثير ذات يوم فتذاكرنا جميلا فقال لقيني مرة فقال لي من أين أقبلت قلت من عند أبي الحبيبة أعني بثينة فقال وإلى أين تمضي قلت إلى الحبيبة أعني عزة فقال لا بد من أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدا من بثينة فقلت عهدي بها الساعة وأنا أستحيي أن أرجع فقال لا بد من ذلك فقلت له فمتى عهدك ببثينة فقال في أول الصيد وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها فلما أبصرتني أنكرتني فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به وعرفتني الجارية فأعادت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس وسألتها الموعد فقالت أهلي سائرون وما وجدت أحداً آمنه فأرسله إليها فقال له كثير فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها قال ذلك الصواب فأرسله إليها فقال له انتظرني ثم خرج كثير حتى أناخ بهم فقال له أبوها ما ردك قال ثلاثة

أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك قال هاتها قال كثير فأنشدته وبثينة تسمع
( فقلتُ لها يا عزّ أُرْسِلُ صاحبي ... إليكِ رسولاً والمُوَكَّلُ مُرْسَلُ )
( بأن تجعَلي بَيْنِي وبَيْنَكِ موعِداً ... وأنْ تأمُريني ما الذي فيه أفعلُ )
( وآخِرُ عهدِي منكِ يومَ لقيتِني ... بأسفلِ وادي الدَّوْمِ والثوبُ يُغْسَلُ )
قال فضربت بثينة جانب خدرها وقالت إخسأ إخسأ فقال أبوها مهيم يا بثينة قالت كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية ثم قالت للجارية ابغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونشويها له فقال كثير أنا أعجل من ذلك وراح إلى جميل فأخبره فقال له جميل الموعد الدومات وقالت لأم الحسين وليلى ونجيا بنات خالتها وكانت قد أنست إليهن واطمأنت بهن إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جميلا معه وخرج كثير وجميل حتى أتيا الدومات وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح فكان كثير يقول ما رأيت مجلسا قط أحسن من ذلك ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ما أدري أيهما كان أفهم
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قال لي صالح بن حسان

هل تعرف بيتا نصفه أعرابي في شملة وآخره مخنث من أهل العقيق يتقصف تقصفا قلت لا قال قد أجلتك حولا قلت لا أدري ما هو فقال قول جميل
( ألا أيُّها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... )
كأنه أعرابي في شملة ثم أدركه ما يدرك العاشق فقال
( أسائلُكم هل يقتُل الرجلَ الحبُّ ... )
كأنه من كلام مخنثي العقيق

ماذا فعل بعد أن أهدر السلطان دمه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال أخبرنا عبد الله بن أبي كريم عن أبي عمرو وإسحاق بن مروان قال
عشق جميل بثينة وهو غلام فلما بلغ خطبها فمنع منها فكان يقول فيها الأشعار حتى اشتهر وطرد فكان يأتيها سرا ثم تزوجت فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية إلى أن استعمل دجاجة بن ربعي على وادي القرى فشكوه إليه فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها وأهدر دمه لهم إن عاود زيارتها فاحتبس حينئذ
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثنا أحمد بن أبي العلاء قال حدثني إبراهيم الرماح قال حدثنا جابر أبو العلاء التنوخي قال
لما نذر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل

فكان يصعد بالليل على قور رمل يتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول
( أيا ريحَ الشَّمالِ أما تَرَيْنِي ... أَهِيمُ وأنَّني بادِي النُّحُولِ )
( هَبِي لي نَسْمةً من ريح بَثْنٍ ... ومُنِّي بالهُبُوب إلى جَمِيلِ )
( وقولي يا بُثينَةُ حَسْبُ نَفْسِي ... قليلُك أو أقلُّ من القليل )
فإذا بدا وضح الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها ويحكن إني لأسمع أنين جميل من بعض القيران فيقلن لها اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له

تذاكر النسيب مع كثير
حدثني أحمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني أحمد بن يعلى قال حدثني سويد بن عصام قال حدثني روح أبو نعيم قال
التقى جميل وكثير فتذاكرا النسيب فقال كثير يا جميل اترى بثينة لم تسمع بقولك
( يقِيكِ جميل كلَّ سُوءٍ أما له ... لديكِ حديثٌ أو إليكِ رسولُ )
( وقد قلتُ في حبِّي لكم وصَبَابتي ... مَحَاسِن شعرٍ ذِكْرُهنَّ يَطُول )
( فإن لم يكن قولي رضاكِ فعَلِّمِي ... هُبوبَ الصَّبَا يا بَثْن كيف أقولُ )
( فما غاب عن عيني خيالُكِ لحظةً ... ولا زال عنها والخيالُ يَزُول )
فقال جميل أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك
( يقول العِدَا يا عَزّ قد حال دونكم ... شجاعٌ على ظهر الطريق مُصَمِّمُ )
( فقلتُ لها واللِّهِ لو كان دونكم ... جهنَّمُ ما راعتْ فؤادِي جهنَّمُ )

( وكيف يَرُوع القلبَ يا عزّ رائعٌ ... ووجهك في الظَّلْماء للسَّفْر مَعْلَمُ )
( وما ظلمتْكِ النفسُ يا عَزّ في الهوى ... فلا تَنْقِمِي حبِّي فما فيه مَنْقَمُ )
قال فبكيا قطعة من الليل ثم انصرفا
وقال الهيثم بن عدي ومن ذكر روايته معه من أصحابه
زار جميل بثينة ذات يوم فنزل قريبا من الماء يترصد أمة لها أو راعية فلم يكن نزوله بعيدا من ورود أمة حبشية معها قربة وكانت به عارفة وبما بينها وبينه فسلمت عليه وجلست معه وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويحدثها بخبره بعدها ويحملها رسائله ثم أعطاها خاتمه وسألها دفعه إلى بثينة وأخذ موعد عليها ففعلت وانصرفت إلى أهلها وقد أبطأت عليهم فلقيها أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها فالتوت عليهم ولم تخبرهم وتعللت فضربوها ضربا مبرحا فأعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه ومر بها في تلك الحال فتيان من بني عذرة فسمعا القصة كلها وعرفا الموضع الذي فيه جميل فأحبا أن يثبطا عنه فقالا للقوم إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه وأهل بثينة أعز عذرة فدعوا الأمة توصل خاتمه إلى بثينة فإذا زارها بيتموهما جميعا قالوا صدقتما لعمري إن هذا الرأي فدفعوا الخاتم إلى الأمة وأمروها بإيصاله وحذروها أن تخبر بثينة بأنهم علموا القصة ففعلت ولم تعلم بثينة بما جرى ومضى الفتيان فأنذرا جميلا فقال والله ما أرهبهم وإن في كنانتي ثلاثين سهما والله لا أخطأ كل واحد منها رجلا منهم وهذا سيفي والله ما أنا به رعش اليد ولا جبان الجنان فناشداه الله وقالا البقية أصلح فتقيم عندنا

في بيوتنا حتى يهدأ الطلب ثم نبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف سليما غير مؤبن فقال أما الآن فابعثا إليها من ينذرها فأتياه براعية لهما وقالا له قل بحاجتك فقال ادخلي إليها وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره ذلك جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة فمضت فأعلمتها ما قال لها فعرفت قصته وبحثت عنها فعرفتها فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدوها فلم تبرح مكانها ومضوا يقتصون أثره فرأوه بعر ناقته فعرفوا أنه قد فاتهم فقال جميل في ذلك
( خليليّ عُوجَا اليومَ حتى تسلِّما ... على عَذْبةِ الأنيابِ طيِّبة النَّشْرِ )
( أَلِمَّا بها ثم اشفَعا لي وسلِّما ... عليها سقاها اللَّهُ من سَبَلِ القَطْرِ )
( إذا ما دَنَتْ زِدْتُ اشتياقا وإن نأت ... جَزِعْتُ لنَأْيِ الدار منها وللبُعْدِ )
( أَبَى القلبُ إلآ حبَّ بَثْنةَ لم يُرِدْ ... سِوَاها وحبُّ القلبِ بَثْنَةَ لا يُجْدِي )
قال وقال أيضا ومن الناس من يضيف هذه الأبيات إلى هذه القصيدة وفيها أبيات معادة القوافي تدل على أنها مفردة عنها وهي
( ألم تَسْأل الدارَ القديمةَ هل لها ... بأُمِّ جُسَيْرٍ بعد عهدكَ من عهد )
وفيها يقول

صوت
( سَلِي الرَّكْبَ هل عُجْنَا لِمَغْناكِ مَرَّةً ... صدورَ المطايا وهي مُوقَرَةً تَخْدِي )
( وهل فاضتِ العينُ الشَّرُوقُ بمائها ... مِنَ اجْلِكِ حتى اخْضَلَّ من دمعها بُرْدِي )

الغناء لأحمد بن المكي ثاني ثقيل بالوسطى
( وإنِّي لأَسْتَجْرِي لكِ الطَّيرَ جاهداً ... لتجرِي بيُمْنٍ من لقائِك من سعد )
( وإنِّي لأَسْتَبْكِي إذا الركبُ غَرَّدُوا ... بذكراكِ أن يحيا بكِ الركبُ إذ يَخْدِي )
( فهل تَجْزِيَنِّي أُمُّ عمروٍ بودِّها ... فإنّ الذي أُخْفِي بها فوقَ ما أُبْدِي )
( وكلُّ محبٍّ لم يَزِدْ فوقَ جَهْدِه ... وقد زدتُها في الحبّ منِّي على الجَهْدِ )
(

خبره مع أم منظور التي اؤتمنت على بثينة
)
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن إبراهيم وغيره وبهلول بن سليمان البلوي
أن رهط بثينة ائتمنوا عليها عجوزا منهم يثقون بها يقال لها أم منظور فجاءها جميل فقال لها يا أم منظور أريني بثينة فقالت لا والله ما أفعل قد ائتمنوني عليها فقال أما والله لأضرنك فقالت المضرة والله في أن أريكها فخرج من عندها وهو يقول
( ما أَنْسَ لا أَنْسَ منها نظرةً سَلَفَتْ ... بالحِجْرِ يومَ جَلَتْها أُمُّ منظورِ )
( ولا انسِلاَبَتها خُرْساً جبائرُها ... إليَّ من ساقِط الأَرواقِ مستور )
قال فما كان إلا قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان قال فتعلقوا بأم منظور فحلفت لهم بكل يمين فلم يقبلوا منها هكذا ذكر الزبير بن بكار في خبر أم منظور وقد ذكر فيه غير ذلك

مصعب يستفسر أم منظور عن قصة جميل وبثينة
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي
أن رجلا أنشد مصعب بن الزبير قول جميل
( ما أَنْسَ لا أَنسَ منها نظرةً سلفَتْ ... بالحِجْر يومَ جَلَتْها أُمّ منظورِ )
فقال لوددت أني عرفت كيف جلتها فقيل له إن أم منظور هذه حية فكتب في حملها إليه مكرمة فحملت إليه فقال لها أخبريني عن قول جميل
( ما أَنْس لا أَنْس منها نظرةً سَلَفَتْ ... بالحِجْرِ يومَ جَلَتْها أُمّ منظورِ )
كيف كانت هذه الجلوة قالت ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة وضفرت شعرها وجعلت في فرقها شيئا من الخلوق ومر بنا جميل راكبا ناقته فجعل ينظر إليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنا فقال لها مصعب فإني أقسم عليك إلا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة ففعلت وركب مصعب ناقته وأقبل عليهما وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينه ويسير حتى غاب عنهما ثم رجع

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني بهلول عن بعض مشايخه
أن جميلا جاء إلى بثينة ليلة وقد أخذ ثياب راع لبعض الحي فوجد عندها ضيفانا لها فانتبذ ناحية فسألته من أنت فقال مسكين مكاتب فجلس وحده فعشت ضيفانها وعشته وحده ثم جلست هي وجارية لها على صلائهما واضطجع القوم منتحين فقال جميل
( هل البائسُ المَقْرورُ دانٍ فمُصْطَلٍ ... من النار أو مُعْطًى لِحافاً فلابسُ )
فقالت لجاريتها صوت جميل والله اذهبي فانظري فرجعت إليها فقالت هو والله جميل فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون وقالوا مالك فطرحت برداً لها من حبرة في النار وقالت احترق بردي فرجع القوم وارسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به فحبسته عندها ثلاث ليال ثم سلم عليها وخرج
وقال الهيثم وأصحابه في أخبارهم
كانت بثينة قد واعدت جميلا للالتقاء في بعض المواضع فأتى لوعدها وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم إني قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلوا بعض إبلكم فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيىء الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بها فقال في ذلك

( أبُثَين إنَّكِ قد مَلَكْتِ فأَسْجِحِي ... وخُذِي بحظِّكِ من كريم واصلِ )

صوت
( فلرُبَّ عارضةٍ علينا وصلَها ... بالجِدّ تَخْلِطُه بقول الهازِلِ )
( فأجبتُها بالقول بعد تستُّرٍ ... حُبِّي بثينةَ عن وصالكِ شاغلي )
( لو كان في قلبي كقَدْرِ قُلاَمةٍ ... فضلاً وصلتُك أو أَتَتْكِ رسائلي )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من رواية أحمد
( وَيَقُلْنَ إِنَّكَ قد رضيتَ بباطلٍ ... منها فهل لك في اجتناب الباطلِ )
( ولباطلٌ ممَّن أحبُّ حديثَه ... أَشْهَى إليّ من البَغيض الباذِل )
الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو وذكر عمر أنه ليزيد حوراء
شعره بعد أن علم زوج بثينة بمقامه معها
وذكر الهيثم بن عدي وأصحابه أن جماعة من بني عذرة حدثوا أن جميلا رصد بثينة ذات ليلة في نجعة لهم حتى إذا صادف منها خلوة سكر ودنا منها وذلك في ليلة ظلماء ذات غيم وريح ورعد فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها ففزعت وقالت والله ما حذفني في هذا الوقت بحصاة إلا الجن فقالت لها بثينة وقد فطنت إن جميلا فعل ذلك فانصرفي ناحية إلى منزلك حتى ننام فانصرفت وبقيت مع بثينة أم الجسير وأم منظور فقامت إلى جميل فأدخلته الخباء معها وتحدثا طويلا ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه فذهب النوم بهما حتى أصبحا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها فرآها نائمة مع جميل فمضى لوجهه حتى خبر سيده ورأته ليلى والصبوح معه وقد عرفت خبر جميل وبثينة فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وبعثت بجارية لها

وقالت حذري بثينة وجميلا فجاءت الجارية فنبهتهما فلما تبينت بثينة الصبح قد أضاء والناس منتشرين ارتاعت وقالت يا جميل نفسك نفسك فقد جاءني غلام نبيه بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين فقال لها جميل وهو غير مكترث لما خوفته منه
( لعَمْرُكِ ما خَوَّفْتِنِي من مَخَافةٍ ... بُثَيْن ولا حَذَّرْتِنِي موضعَ الحَذَرْ )
( فأُقْسِمُ لا يُلْفَى لِيَ اليومَ غِرَّةٌ ... وفي الكَفِّ منِّي صارمٌ قاطعٌ ذَكَرْ )
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد وقالت إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك ففعل ذلك ونامت كما كانت واضجعت أمّ الجسير إلى جانبها وذهبت خادم ليلى إليها فأخبرتها الخبر فتركت العبد يمضي إلى سيده فمضى والصبوح معه وقال له إني رأيت بثينة مضطجعة وجميل إلى جنبها فجاء نبيه إلى أخيها وأبيها فأخذ بأيديهما وعرفهما الخبر وجاؤوا بأجمعهم إلى بثينة وهي نائمة فكشفوا عنها الثوب فإذا أم الجُسير إلى جانبها نائمة فخجل زوجها وسب عبده وقالت ليلى لأخيها وأبيها قبحكما الله أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور فيها بكل قبيح قبحه الله وإياكما وجعلا يسبان زوجها ويقولان له كل قول قبيح وأقام جميل عند بثينة حتى أجنه الليل ثم ودعها وانصرف وحذرتهم بثينة لما جرى من لقائه إياها فتحامته مدة فقال في ذلك

صوت
( أأن هتَفتْ وَوَرْقاءُ ظَلْتَ سَفَاهةً ... تُبَكِّي على جُمْلٍ لوَرْقَاءَ تَهْتِفُ )

( فلو كان لي بالصرم يا صاحِ طاقةٌ ... صرَمتُ ولكِّني عن الصرم أضعُفُ )
للهذلي في هذين البيتين لحنان أحدهما ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وذكر غيره أنه لابن جامع وفيه لبذل الكبرى خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن أحمد بن المكي ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله
صوت
( لها في سَوَاد القلب بالحُبِّ مَيْعةٌ ... هي الموتُ أو كادتْ على الموت تُشْرفُ )
( وما ذكرَتْكِ النفسُ با بَثْنَ مرَّةً ... من الدهر إلا كادتِ النفسُ تَتْلَفُ )
( وإلاَّ اعترتْنِي زَفْرةٌ واستكانةٌ ... وجاد لها سَجْلٌ مع الدمع يَذْرِفُ )
( وما استَطْرفتْ نفسي حديثاً لخُلَّةٍ ... أُسَرُّ به إلا حديثُكِ أَطْرَفُ )
الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وأول هذه القصيدة
( أمِنْ منزلٍ قَفْرٍ تَعَفَّتْ رُسُومَه ... شَمَالٌ تُغَادِيه ونَكْباءُ حَرْجَفُ )
( فأصبح قَفْراً بعد ما كان آهِلاً ... وجُمْلُ المُنَى تَشْتُو به وتُصَيِّفُ )
( ظَلِلتُ ومُسْتَنٌّ من الدمع هامِلٌ ... من العين لما عُجْتُ بالدَّارِ يَنْزِفُ )
( أمُنْصِفَتِي جُمْلٌ فتَعْدِلَ بينَنا ... إذا حكمتْ والحاكمُ العَدْلُ يُنْصِفُ )
( تعلَّقْتُها والجسمُ منِّي مصحَّحٌ ... فما زال يَنْمِي حُبُّ جُمْلٍ وأَضْعُفُ )
( إلى اليومِ حتى سَلَّ جسمِي وشَفنِي ... وأنكرتُ من نفسي الذي كنت أعرِفُ )

( قَنَاةٌ من المُرَّانِ مما فوقَ حَقْوِها ... وما تحتَه منها نَقاً يتقصَّفُ )
( لها مُقْلَتا رِيم وجِيدُ جِدَايةٍ ... وكَشْحٌ كطَيِّ السابِريَّة أَهْيَفُ )
( ولستُ بناسٍ أهلَها حينَ أقْبلُوا ... وجَالُوا علينا بالسيوفِ وطَوَّفُوا )
( وقالوا جَمِيلٌ بات في الحَيّ عندها ... وقد جَرَّدوا أسيافَهم ثم وَقَّفُوا )
( وفي البيت لَيْثُ الغابِ لولا مَخَافةٌ ... على نفس جُمْلٍ والإلهِ لأُرْعِفُوا )
( همَمْتُ وقد كادتْ مِرَاراً تطلَّعتْ ... إلى حَرْبِهم نفسي وفي الكفِّ مُرْهَفُ )
( وما سَرَّني غيرُ الذي كان منهمُ ... ومنِّي وقد جاؤوا إليّ وأَوْجَفُوا )
( فكم مُرْتَجٍ أمراً أُتيح له الرَّدَى ... ومن خائفٍ لم يَنْتَقِصْه التخوُّف )
حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال قال لي صالح بن حسان
هل تعرف بيتا نصفه أعرابي في شملة وآخره مخنث يتفكك من مخنثي العقيق فقلت لا أدري قال قد أجلتك فيه حولا فقلت لو أجلتني حولين ما علمت قال قول جميل
( ألا أيُّها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... )
هذا أعرابي في شملة ثم قال
( نسائلُكم هل يقتُل الرجلَ الحُبُّ ... )

كأنه والله من مخنثي العقيق في هذا الشعر غناء نسبته وشرحه

صوت
( ألا أيُّها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... نسائلُكم هل يقتُل الرجلَ الحُبُّ )
( ألا رُبَّ رَكْبٍ قد دفعتُ وَجِيفَهم ... إليكِ ولولا أنتِ لم يُوجِفِ الرَّكْبُ )
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وفيه لسليم ماخوريّ عن الهشامي وفيه لمالك ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وقيل إنه لمعبد وفيه لعريب هزج من رواية ابن المعتز وذكر عبد الله بن موسى أن لحن مالك من الثقيل الأول وأن خفيف الرمل لابن سريج وأن الهزج لحمدونة بنت الرشيد
حل جفاء بينه وبين بثينة بعد تعلقها بحجنة الهلالي
أخبرنا لحسين بن يحيى المرداسي قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية المحرزي عن شيخ من رهط جميل من عذرة
أن بثينة لما علقت حجنة الهلالي جفاها جميل قال وأنشدني لجميل في ذلك

صوت
( بَيْنا جِبالٌ ذاتُ عَقْدٍ لبَثْنةٍ ... أُتِيحَ لها بعضُ الغواة فحلَّها )
( فعُدْنا كأنَّا لم يكن بيننا هَوىً ... وصار الذي حَلَّ الحبالَ هَوىً لها )
( وقالوا نَراها يا جميلُ تبدَّلتْ ... وغيَّرها الواشِي فقلتُ لعلَّها )
الغناء للهذلي خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى وذكره إسحاق في هذه الطريقة والإصبع ولم ينسبه إلى أحد
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثنا أبو عوف عن عبد الرحمن بن مقرن قال
بعثني المنصور لأبتاع له جارية من المدينة وقال لي اعمل برأي ابن نفيس فكنت أفعل ذلك وأغشى ابنه وكانت له جارية مغنية قد كلف بها فتى من آل عثمان بن عفان فكان يبيع عقدة من ماله وينفق ثمنها عليها وابتلي برجل من أهل إفريقية ومعه ابن له فغشي ابن الإفريقي بيت ابن نفيس فجعل يكسو الجارية وأهلها ويبرهم حتى حظي عندهم وغلب عليهم وتثاقلوا العثماني فقضي أن اجتمعنا عشية وحضر ابن الإفريقي والعثماني فنزع ابن الإفريقي خفه فتناثر المسك منه وأراد العثماني أن يكيده بفعله فجلسنا ساعة فقال لها ابن الإفريقي غني
( بَيْنَا حِبَالٌ ذاتُ عَقْدٍ لبَثْنةٍ ... أُتِيح لها بعضُ الغُوَاةِ فحَلَّها )
يعرض بالعثماني فقال لها العثماني لا حاجة لنا في هذا ولكن غني

( ومن يَرْعَ نَجْداً يُلْفِنِي قد رَعَيْته ... بجَنْيَتِه الأولى ويُورِدْ على وِرْدِي )
قال فنكس ابن الإفريقي رأسه وخرج العثماني فذهب وخمد أهل البيت فما انتفعوا بقية يومهم

شعره بعد زواج بثينة من نبيه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي وبهلول بن سليمان البلوي
أن جميلا قال لما زوجت بثينة نبيها
صوت
( أَلاَ نَادِ عِيراً من بُثَينةَ تَرْتَعِي ... نودِّعْ على شَحْطِ النَّوَى ونُوَدَّعِ )
( وحَثُّوا على جَمْع الرِّكَابِ وقَرَّبُوا ... جِمالاً ونُوقا جِلَّةً لم تَضَعْضَعِ )
في هذين البيتين رمل لابن سريج عن الهشامي ومما يغني فيه من هذه القصيدة
صوت
( أعِيذُكِ بالرحمن من عَيْشِ شِقْوةٍ ... وأن تَطْمَعِي يوماً إلى غير مَطْمَعِ )
( إذا ما ابنُ ملعونٍ تَحَدَّرَ رَشْحُهُ ... عليكِ فمُوتِي بعد ذلك أو دَعِي )
( مَلِلْنَ ولم أَمْلَلْ وما كنتُ سائماً ... لأجمال سُعْدَى ما أَنَخْنَ بجَعْجَعِ )
( وحَثُّوا على جَمْعِ الرِّكابِ وقَرَّبوا ... جِمالاً ونُوقاً جِلَّةً لم تَضَعْضَعِ )

( أَلاَ قد أَرَى إلاَّ بُثَينةَ ها هنا ... لنا بعد ذا المُصْطافِ والمتربِّع )
لمعبد في الثالث والرابع من هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق ولابن سريج في الأول والثاني والخامس خفيف رمل بالبنصر عن عمرو وللأبجر في الأول والخامس والثالث والرابع رمل بالبنصر وفي الأول والثاني خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وغيره ولم تعرف صحته من جهة يوثق بها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أنشدنا بهلول بن سليمان لجميل لما بعد عن بثينة وخاف السلطان وكان بهلول يعجب به
( أَلاَ قد أَرَى إلا بُثَينةَ للقلبِ ... بَوادِي بَداً لا بجِسْمَى ولا الشِّغْبِ )
( ولا ببُصَاقٍ قد تَيمَّمتَ فاعترف ... لما أنت لاقٍ أو تَنَكَّبْ عن الرَّكْبِ )
( أفي كلِّ يومٍ أنت مُحْدِثُ صَبْوةٍ ... تموت لها بُدِّلْتُ غيرَك من قلبِ )
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا أبي عن يعقوب بن محمد الزهري عن سليمان بن صخر الحرشي قال حدثنا سليمان بن زياد الثقفي
أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان فرأى امرأة خلفاء مولية

فقال لها ما الذي رأى فيك جميل قالت الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يسترها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن إبراهيم العويثي
أن جمل جميل الذي كان يزور عليه بثينة يقال له جديل وفيه يقول
( أَنَخْتُ جَدِيلاً عند بَثْنةَ ليلةً ... ويوماً أطال اللهُ رَغْمَ جَدِيلِ )
( أليس مُنَاخُ النَّضْوِ يوماً وليلةً ... لبَثْنةَ فيما بيننا بقليلِ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى المكي
أن جميلا لما اشتهرت بثينة بحبه إياها اعترضه عبيد الله بن قطبة أحد بني الأحب وهو من رهطها الأدنين فهجاه وبلغ ذلك جميلا فأجابه وتطاولا فغلبه جميل وكف عنه ابن قطبة واعترضه عمير بن رمل رجل من بني الأحب فهجاه وإياه عنى جميل بقوله
( إذا الناسُ هابُوا خِزْيَةً ذهبتْ بها ... أَحَبُّ المَخَازِي كَهْلُها ووَلِيدُها )
( لَعَمْرُ عَجُوزٍ طَرَّقتْ بكَ إنني ... عُمَير بنَ رَمْلٍ لابنُ حَرْبٍ أَقُودُها )
( بنَفْسِي فلا تَقْطَعْ فؤادَك ضَلَّةً ... كذلك حَزْنِي وَعْثُها وصعُودُها )
قال فاستعدوا عليه عامر بن ربعي بن دجاجة وكانت إليه بلاد عذرة وقالوا يهجونا ويغشى بيوتنا وينسب بنسائنا فأباحهم دمه وطلب فهرب منه وغضبت بثينة لهجائه أهلها جميعا فقال جميل

( وما صائبٌ من نابلٍ قذَفتْ به ... يدٌ ومُمَرُّ العُقْدتيْن وَثِيقُ )
( له من خَوَافِي النَّسْرِ حُمٌّ نَظَائِرٌ ... ونَصْلٌ كنَصْلِ الزَّاعِبِيّ فَتِيقُ
( على نَبعةٍ زَوْراءَ أمَّا خِطامُها ... فمَتْنٌ وأمَّا عُودُها فعَتِيقُ )
( بأوشَكَ قتلاً منكِ يوم رَميتِني ... نَوَافِذَ لم تَظْهَرْ لهنَّ خُروقُ )
( تَفَرَّقَ أهْلاَنَا بُثَيْن فمنهمُ ... فريقٌ أقاموا واستَمَرَّ فريقُ )
( فلو كنتُ خَوَّاراً لقد باح مُضْمَري ... ولكنَّني صُلْبُ القَناةِ عَريقُ )
( كأنْ لم نُحارِبْ يا بُثَين لو انه ... تَكَشَّفُ غمَّاها وأنتِ صديقُ )
قال ويدل على طلب عامر بن ربعي إياه قوله
( أَضَرَّ بأَخْفافِ البُغَيْلةِ أنَّها
حِذَارَ ابن رِبْعيّ بهنّ رُجومُ )

هرب إلى اليمن بعد أن أهدر دمه
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل الأصبهاني قال حدثني عمرو بن ابي عمرو الشيباني عن أبيه قال حدثني بعض رواة عذرة
أن السلطان أهدر دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه قد غشي دورهم فحذرهم مدة ثم وجدوه عندها فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا أن ينشب بينهم

وبين قومه حرب في دمه وكان قومه أعز من قومها فأعادوا شكواه إلى السلطان فطلبه طلبا شديدا فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة وأنشدني له في ذلك
( أَلَمَّ خَيالٌ من بُثَينةَ طارقُ ... على النَّأيِ مُشْتاقٌ إليَّ وشائقُ )
( سَرَتْ من تِلاَعِ الحِجْرِ حتى تخلَّصتْ ... إليّ ودُوني الأَْشْعَرُون وغافِقُ )
( كأنَّ فَتِيتَ المسك خالط نَشْرَها ... تُغَلَّ به أَرْدانُها والمَرافِقُ )
( تقوم إذا قامت به عن فِراشها ... ويَغْدُو به من حِضْنِها من تُعَانِقُ )
قال أبو عمرو وحدثني هذا العذري
أن جميلا لم يزل باليمن حتى عزل ذلك الوالي عنهم وانتجعوا ناحية الشام فرحل إليهم قال فلقيته فسألته عما أحدث بعدي فأنشدني
( سقَى منزليْنا يا بُثَين بحاجرٍ ... على الهَجْرِ منَّا صَيِّفٌ ورَبِيعُ )
( ودُورَكِ يا لَيْلَى وإن كُنّ بَعْدنا ... بَلِينَ بلًى لم تَبْلَهُنَّ رُبوعُ ) وخَيْماتِك اللاَّتِي بمُنْعَرَجِ اللَّوَى ... لقُمْرِيِّها بالمَشْرِقَيْن سجيعُ )
( تُزَعْزِعُ منها الريحُ كلَّ عشيَّةٍ ... هَزِيمٌ بسُلاَّفِ الرياح رَجِيعُ )
( وإنِّيَ أن يَعْلَى بكِ اللَّوْمُ أو تُرَيْ ... بدارِ أَذىً من شامتٍ لَجَزُوعُ )
( وإنِّي على الشيء الذي يُلْتَوَى به ... وإن زَجَرَتْنِي زَجْرَةً لَورِيعُ )

( فَقَدْتُكِ من نَفْسٍ شَعَاعٍ فإنَّني ... نَهيتُكِ عن هذا وأنتِ جميعُ )
( فقَرَّبتِ لي غيرَ القريبِ وأشرفتْ ... هناكَ ثَنَايَا ما لهنَّ طُلُوعُ )
( يقولون صَبٌّ بالغََوانِي مُوَكَّلٌ ... وهل ذاك من فعل الرجال بَديعُ )
( وقالوا رعيتَ اللَّهوَ والمالُ ضائعٌ ... فكالناسِ فيهم صالحٌ ومُضِيعُ )
الغناء لصالح بن الرشيد رمل بالوسطى عن الهشامي وابن خرداذبة وإبراهيم وذكر حبش أن في هذه الأبيات لإسحاق لحنا من الثقيل بالوسطى ولم يذكر هذا أحد غيره ولا سمعناه ولا قرأناه إلا في كتابه ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة المجنون التي على روي وقافية هذه القصيدة وليست له

كثير ينعته بأشعر الناس
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن أبي عبيدة عن أبيه قال
دخل علينا كثير يوما وقد أخذ بطرف ريطته وألقى طرفها الآخر وهو يقول هو والله أشعر الناس حيث يقول

( وخَبَّرْتُمانِي أنَّ تَيْماء منزلٌ ... لليلِى إذا ما الصَّيفُ ألقَى المَرَاسِيا )
( فهذِي شهورُ الصيفِ عنِّي قد انقضتْ ... فما للنَّوَى ترمِي بليلَى المَرَامِيا )
ويجر ريطته حتى يبلغ إلينا ثم يولي عنا ويجرها ويقول هو والله اشعر الناس حيث يقول
( وأنتِ التي إن شئتِ كَدَّرْتِ عِيشتي ... وإن شئتِ بعد اللَّه أَنْعمتِ بالِيَا )
( وأنتِ التي ما مِنْ صديقٍ ولا عِداً ... يَرَى نِضْوَ ما أَبْقيتِ إلاَّ رَثَى لِيَا )
ثم يرجع إلينا ويقول هو والله أشعر الناس فقلنا من تعني يا أبا صخر فقال ومن أعني سوى جميل هو والله أشعر الناس حيث يقول هذا وتيماء خاصة منزلٌ لبني عذرة وليس من منازل عامر وإنما يرويه عن المجنون من لا يعلمه
وفي هذه القصيدة يقول جميل
( وما زِلْتُمُ يا بَثْن حتَّى لَوَانَّني ... من الشوق أستبكِي الحمامَ بَكَى ليا )
( إذا خَدِرتْ رجلي وقيل شفاؤها ... دعاءُ حبيبٍ كنتِ أنتِ دُعَائيا )
( وما زادني النَّأْيُ المُفَرِّق بعدَكم ... سُلُوّاً ولا طولُ التلاقي تَقَالِيا )
( ولا زادني الواشون إلاَّ صَبابةً ... ولا كثرةُ الناهين إلا تَمَادِيا )
( ألم تعلمي يا عَذْبةَ الرِّيقِ أنَّني ... أَظَلُّ إذا لم أَلْقَ وجهَكِ صادِيا )
( لقد خِفْتُ أنْ ألقَى المنيَّة بَغْتةً ... وفي النفس حاجاتٌ إليكِ كما هيا )
أخبرنا الحرمي بن ابي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني بعض أصحابنا عن محمد بن معن الغفاري عن الأصبغ بن عبد العزيز قال
كنت عند طلحة بن عبد الله بن عوف فدخل عليه كثير فلما دخل من

الباب أخذ برجله فثناها ثم حجل حتى بلغ الفراش وهو يقول جميل والله أشعر العرب حيث يقول
( وخَبَّرْتُمانِي أنّ تَيْماءَ منزلٌ ... )
ثم ذكر باقي الخبر الذي رواه محمد بن مزيد
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عمر بن إبراهيم السعدي
أن رهط بثينة قالوا إنما يتبع جميل أمة لنا فواعد جميل بثينة حين لقيها ببرقاء ذي ضال فتحادثا ليلا طويلا حتى أسحرا ثم قال لها هل لك أن ترقدي قالت ما شئت وأنا خائفة أن نكون قد أصبحنا فوسدها جانبه ثم اضطجعا ونامت فانسل واستوى على راحلته فذهبت وأصبحت في مضجعها فلم يرع الحي إلا بها راقدة عند مناخ راحلة جميل فقال جميل في ذلك
( فَمَنْ يَكُ في حُبِّي بُثَيْنةَ يَمْتَرِي ... فبَرْقاءُ ذي ضالٍ عليَّ شهيدُ )
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن الحزامي عن فليح بن إسماعيل بمثل هذه القصة وزاد فيها فلما انتبهت بثينة علمت ما اراده جميل بها فهجرته وآلت ألا تظهر له فقال
( أَلاَ هل إلى إلمامةٍ أن أُلِمَّها ... بُثَيْنةُ يوماً في الحياةِ سبيلُ )
( فإن هي قالتْ لا سبيلَ فقُلْ لها ... عَنَاءٌ على العُذْرِيّ منكِ طويلُ )
( على حين يسلو الناسُ عن طَلَب الصِّبَا ... وينسَى اتِّباعَ الوصلِ منه خليلُ )

لامه أهله على حبه بثينة
وقال الهيثم وأصحابه في أخبارهم
تشكى زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها فوجهوا إلى جميل وأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وأعذروا إليهم فيه وتوعدوه وأتاهم فلامه أهله وعنفوه وقالوا إنا نستحلف إليهم ونتبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة لا يلم بها ثم لقي ابني عمه روقا ومسعودا فشكا إليهما ما به وأنشدهما قوله
( وإنِّي على الشيء الذي يُلْتَوَى به ... وإنْ زَجَرَتْنِي زَجْرةً لوَريعُ )
( فَقَدْتُكِ من نَفْسٍ شَعَاعٍ فإنني ... نهيتُكِ عن هذا وأنتِ جميعُ )
( فقَرَّبْتِ لي غيرَ القريب وأشرفتْ ... هناك ثَنَايَا ما لهنَّ طُلُوعُ )
( يقولون صَبٌّ بالغَواني مُوَكَّلٌ ... وهل ذاك من فعل الرجال بديعُ )
( وقالوا رَعَيْتَ اللَّهْوَ والمالُ ضائعٌ ... فكالنَّاسِ فيهم صالحٌ ومُضِيعُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال
كانت تحت محمد بن عبد الله بن حسن امرأة من ولد الزبير يقال لها فليحة وكانت لها صبية يقال لها رخية قد ربتها لغير رشدة وكانت من أجمل النساء وجها فرأت محمدا وقد نظر إليها ذات يوم نظرا شديدا ثم تمثل قول جميل
( بُثَيْنَةُ من صِنْفٍ يُقَلِّبْنَ أيديَ الرُّماة ... وما يحْمِلْنَ قوساً ولا نَبْلا )
( ولكنَّما يَظْفَرْنَ بالصيد كلَّما ... جَلَوْنَ الثَّنايا الغُرَّ والأعيُنَ النُّجْلاَ )
( يُخالسْنَ ميعاداً يُرَعْنَ لقولها ... إذا نطقتْ كانت مقالتُها فَصْلاَ )

( يَرَيْنَ قريباً بيتَها وهي لا تَرَى ... سوى بيتها بيتاً قريباً ولا سَهْلاَ )
فقالت له فليحة كأنك تريد رخية قال إي والله قالت إني أخشى أن تجيء منك بولد وهي لغير رشدة فقال لها إن الدنس لا يلحق الأعقاب ولا يضر الأحساب فقالت له فماذا يضر إذاً والله ما يضر إلا الأعقاب والأحساب وقد وهبتها لك فسر بذلك وقال أما والله لقد أعطيتك خيراً منها قالت وما هو قال أبيات جميل التي أنشدتك إياها لقد مكثت أسعى في طلبها حولين فضحكت وقالت ما لي ولأبيات جميل والله ما ابتغيت إلا مسرتك قال فولدت منه غلاما وكانت فليحة تدعو الله إلا يبقيه فبينا محمد في بعض هربه من المنصور والجارية وابنها معه إذ رهقهما الطلب فسقط الصبي من الجبل فتقطع فكان محمد بعد ذلك يقول أجيب في هذا الصبي دعاء فليحة
وقال الهيثم بن عدي وأصحابه في أخبارهم
لما نذر أهل بثينة دم جميل وأباحهم السلطان قتله أعذروا إلى أهله وكانت منازلهم متجاورة إنما هم بيوتات يفترقون كما يفترق البطون والأفخاذ والقبائل غير متباعدين ألم تر قول جميل
( أَبِيتُ مع الهُلاَّك ضَيْفاً لأهلها ... وأَهْلِي قريبٌ مُوسِعونَ أُولُو فَضْلِ )
فمشت مشيخة الحي إلى أبيه وكان يلقب صباحا وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله فشكوه إليه وناشدوه الله والرحم وسألوه كف ابنه عما يتعرض له ويفضحهم به في فتاتهم فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع ثم انصرفوا فدعا به فقال له يا بني حتى متى أنت عمه في ضلالك لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل ثم تقوم من تحته إليك فتغرك

بخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها فيكون قولها لك تعليلا وغرورا فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة إن هذا لذل وضيم ما أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك فأنشدك الله إلا كففت وتأملت أمرك فإنك تعلم أن ما قلته حق ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له وفي النساء عوض فقال له جميل الرأي ما رأيت والقول كما قلت فهل رأيت قبلي أحداً قدر أن يدفع عن قلبه هواه أو ملك أن يسلي نفسه أو استطاع أن يدفع ما قضي عليه والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت ولكن لا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمدا وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه وقام وهو يبكي فبكى ابوه ومن حضر جزعاً لما رأوا منه فذلك حين يقول جميل

صوت
( أَلاَ مَنْ لقَلْبٍ لا يَمَلُّ فَيَذْهَلُ ... أفِقْ فالتَّعَزِّي عن بُثَينَةَ أجمَلُ )
( سَلاَ كلُّ ذي ودٍّ علمتُ مكانَه ... وأنتَ بها حتى المماتِ مُوَكَّلُ )
( فما هكذا أحببتَ مَنْ كان قبلها ... ولا هكذا فيما مضَى كنتَ تفعلُ )
الغناء لمالك ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
( فيا قلبُ دَعْ ذِكْرَى بُثَيْنَةَ إنَّها ... وإن كنتَ تَهْواها تَضِنّ وتبخلُ )
( وقد أيأستْ من نَيْلِها وتجهَّمتْ ... ولَلْيأسُ إن لم يُقْدَرِ النَّيْلُ أمثَلُ )
( وإلاَّ فسَلْها نائلاً قبلَ بَيْنِها ... وأبْخِلْ بها مسؤولةً حين تُسْأَلُ )
( وكيف تُرَجِّي وصلَها بعد بُعْدِها ... وقد جُذَّ حبلُ الوصلِ ممن تؤمِّلُ )
( إنّ التي أحببتَ قد حِيل دونها ... فكُنْ حازماً والحازِمُ المُتَحَوِّلُ )

( ففي اليأسِ ما يُسْلي وفي الناسِ خُلَّةٌ ... وفي الأرض عمَّن لا يُوَاتِيكَ مَعْزِلُ )
( بدا كَلَفٌ منِّي بها فتثاقلتْ ... وما لا يُرَى من غائب الوجد أفضَلُ )
( هَبِينِي بريئاً نِلْتِهِ بظُلاَمةٍ ... عَفَاها لكم أو مُذْنِباً يتنصَّلُ )
( قَنَاةٌ من المُرَّانِ ما فوق حَقْوِها ... وما تحته منها نَقاً يتهيَّل )
قال وقال أيضا في هذه الحال
صوت
( أَعَنْ ظُعُنِ الحيّ الأُلَى كنتَ تَسألُ ... بليلٍ فرَدُّوا عِيرهم وتحمَّلوا )
( فأمسَوْا وهم أهلُ الديار وأصبحوا ... ومن أهلها الغِربانُ بالدارِ تَحْجُلُ )
في هذين البيتين لسياط خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو
( على حينَ ولَّى الأمرُ عنَّا وأَسْمحتْ ... عًصا البَيْنِ وانبَتَّ الرجاءُ المؤمَّلُ )
( فما هو إلاَّ أن أَهِيمَ بذكرِها ... ويحظَى بجَدْوَاها سوايَ ويَجْذَلُ )
( وقد أبقتِ الأيَّامُ منِّي على العِدَا ... حُسَاماً إذا مَسَّ الضريبةَ يَفصِلُ )
( ولستُ كمن إن سِيمَ ضَيْماً أطاعَه ... ولا كامرىءٍ إن عضَّه الدهرُ يَنكُلُ )
لعمري لقد أَبْدَى لِيَ البينُ صَفْحَه ... وبَيَّن لي ما شئتُ لو كنت اعقِلُ )
( وآخرُ عهدِي من بُثَينة نظرةٌ ... على موقفٍ كادت من البين تَقتُلُ )
( فلِلَّه عَيْنَا مَنْ رأى مثلَ حاجةٍ ... كَتَمْتُكِهَا والنفسُ منها تَمَلْمَلُ )

( وإني لأسْتبكِي إذا ذُكِرَ الهَوَى ... إليكِ وإنِّي من هواكِ لأوجَلُ )
( نظرتِ بِبِشْرٍ نظرةً ظَلْتُ أَمْتَرِي ... بها عَبْرةً والعينُ بالدمع تُكْحَلُ )
( إذا ما كرَرْتُ الطَّرْفَ نَحْوَكِ ردَّه ... من البعد فيَّاضٌ من الدمع يَهْمِلُ )

خروجه إلى الشام
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال
لما أراد جميل الخروج إلى الشام هجم ليلاً على بثينة وقد وجد غفلة فقالت له أهلكتني والله وأهلكت نفسك ويحك أما تخاف فقال لها هذا وجهي إلى الشام إنما جئتك مودعا فحادثها طويلا ثم ودعها وقال يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا وبكيا طويلا ثم قال لها وهو يبكي
( أَلاَ لا أُبالِي جفوةَ الناس ما بدَا ... لنا منك رأيٌ يا بُثَيْن جميلُ )
( وما لم تُطيعي كاشحاً أو تَبَدَّلي ... بنا بدلاً أو كان منك ذُهول )
( وإنِّي وتَكْرارِي الزيارةَ نحوَكم ... بُثَيْن بذي هجرٍ بُثَين يطول )
( وإن صَبَاباتي بكم لكثيرةٌ ... بُثَيْن ونِسْيانِيكُم لقليلُ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني شيوخ من عذرة
أن مروان بن الحكم خرج مسافرا في نفر من قريش ومعه جميل بن معمر وجواس بن قطبة أخو عبيد الله بن قطبة فقال مروان لجواس إنزل فارجز بنا وهو يريد أن يمدحه فنزل جواس وقال
( يقول أميرِي هل تَسُوق رِكابَنا ... فقلت له حادٍ لهنّ سَوَائِيَا )
( تكَرَّمتُ عن سَوْقِ المَطِيِّ ولم يكن ... سِيَاقُ المطيِّ همَّتي ورَجائيا )

( جعلتَ أبي رَهْناً وعِرْضِيَ سادراً ... إلى أهل بيت لم يكونوا كِفائيا )
( إلى شرِّ بيتٍ من قُضَاعَةَ مَنْصِباً ... وفي شرِّ قومٍ منهمُ قد بَدَا لِيَا )
فقال مروان إركب لا ركبت ثم قال لجميل إنزل فارجز بنا وهو يريد أن يمدحه فنزل جميل فقال
( أنا جميلٌ في السَّنامِ الأعظمِ ... الفارعِ الناسَ الأعزِّ الأكرمِ )
( أَحْمِي ذِمَارِي ووجدتُ أَقْرُمي ... كانوا على غاربِ طَوْدٍ خِضْرِمِ )
( أعيا على النَّاس فلم يُهَدَّم ... )
فقال عد عن هذا فقال جميل
( لَهْفاً على البيت المَعَدِّي لهفا ... من بعدِ ما كان قد استكَفَّا )
( ولو دعا اللَّه ومَدَّ الكَفَّا ... لَرَجَفَتْ منه الجبالُ رَجْفَا )
فقال له إركب لا ركبت
قال الزبير وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال
كان جميل مع الوليد بن عبد الملك في سفر والوليد على نجيب فرجز به مكين العذري فقال
( يا بَكْرُ هل تعلَم مَنْ عَلاَكَا ... خليفةُ اللَّه على ذُراكا )
فقال الوليد لجميل إنزل فارجز وظن الوليد أنه يمدحه فنزل فقال
( أنا جميلٌ في السَّنَام من مَعَدّ ... في الذِّرْوةِ العَلْياء والرُّكْنِ الأَشَدّ )

( والبيت من سَعْدِ بن زيد والعَدَدْ ... ما يَبْتغي الأعداء منِّي ولقدْ )
( أُضْرِي بالشَّتْمِ لِساني ومَرَدْ ... أقودُ منْ شِئتُ وصَعْبٌ لم أُقَدْ )
فقال له الوليد إركب لا حملك الله قال وما مدح جميل أحداً قط
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا يونس بن عبد الله بن سالم قال
وقف جميل على الحزين الديلي والحزين ينشد الناس فقال له الحزين وهو لا يعرفه كيف تسمع شعري قال صالح وسط فغضب الحزين وقال له ممن أنت فوالله لأهجونك وعشيرتك فقال جميل إذاً تندم فأقبل الحزين يهمهم يريد هجاءه فقال جميل
( الدِّيلُ أذنابُ بَكْرٍ حين تنسُبهم ... وكلُّ قومٍ لهم من قومِهم ذَنَبُ )
فقامت له بنو الديل وناشدوه الله إلا كف عنهم ولم يزالوا به حتى أمسك وانصرف
أخبرني الحرمي ومحمد بن مزيد واللفظ له قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال
لما هاجى عبيد الله بن قطبة جميلا واستعلى عليه جميل أعرض عنه واعترضه أخوه جواس بن قطبة فهجاه وذكر أختاً لجميل وكان جميل قبل ذلك يحتقره ولا ينصب له حتى هجا أخته فقال فيما ذكرها به من شعره

( إلى فَخِذَيْها العَبْلَتَيْنِ وكانتا ... بعَهْدِيَ لَفَّاوَينِ أُرْدِفتَا ثقْلاَ )
فغضب جميل حينئذ فواعده للمراجزة قال الزبير فحدثني بعض آل العباس بن سهل بن سعد عن عباس قال
( قدمت من عند عبد الملك بن مروان وقد أجازني وكساني بردا كان ذلك البرد أفضل جائزتي فنزلت وادي القرى فوافقت الجمعة بها فاستخرجت بردي الذي من عند عبد الملك وقلت أصلي مع الناس فلقيني جميل وكان صديقا لي فسلم بعضنا على بعض وتساءلنا ثم افترقنا فلما أمسيت إذا هو قد أتاني في رحلي فقال البرد الذي رأيته عليك تعيرنيه حتى أتجمل به فإن بيني وبين جواس مراجزة وتحضر فتسمع قال قلت لا بل هو لك كسوة فكسوته إياه وقلت لأصحابي ما من شيء أحب إلي من أن أسمع مراجزتهما فلما أصبحنا جعل الأعاريب يأتون أرسالا حتى اجتمع منهم بشر كثير وحضرت وأصحابي فإذا بجميل قد جاء وعليه حلتان ما رأيت مثلهما على أحد قط وإذا بردي الذي كسوته إياه قد جعله جلاّ لجمله فتراجزا فرجز جميل وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك فقال
( يا أُمّ عبد الملك اصْرِمِينِي ... فبَيِّنِي صرميِ أو صِلِينِي )
( أَبْكِي وما يُدْرِيكِ ما يُبْكِينِي ... أبكِي حِذَارَ أنْ تُفَارقيني )
( وتجعلي أبعَدَ منِّي دُوني ... إنَّ بني عَمِّكِ أَوْعدونِي )
( أن يقطعوا رأسِي إذا لَقُونِي ... ويقتلوني ثم لا يَدُونِي )
( كلاَّ وربِّ البيتِ لو لَقُونِي ... شَفْعاً ووَتْراً لتَوَاكلُونِي )

( قد علِم الأعداءُ أنّ دُونِي ... ضَرْباً كإيزاغ المخاضِ الجُونِ )
( أَلاَ أسُبُّ القومَ إذ سَبُّونِي ... بَلَى وما مَرّ على دَفِينِ )
( وسابحاتٍ بِلِوَى الحَجُونِ ... قد جَرَّبُوني ثم جرَّبوني )
( حتى إذا شابوا وشيَّبوني ... أخزاهمُ اللَّه ولا يَخْزِينِي )
( أشباهُ أعْيَارٍ على مَعِينِ ... أَحْسَسْنَ حِسَّ أَسَدٍ حَرُونِ )
( فهنَّ يَضْرِطْنَ من اليقينِ ... أنا جميلٌ فتَعَرَّفونِي )
( وما تَقَنَّعتُ فتُنْكِروني ... وما أُعَنِّيكم لتَسْألونِي )
( أُنْمَى إلى عاديَّةٍ طَحُونِ ... يَنْشقّ عنها السَّيْلُ ذو الشؤونِ )
( غَمْرٌ يَدُقّ رُجُحَ السَّفِينِ ... ذو حَدَبٍ إذا يُرَى حَجُونِ )
( تَنْحلّ أحقادُ الرجالِ دُونِي ... )
قال ورجز جميل أيضا
( أنا جميلٌ في السَّنام من مَعَدّ ... )
وقد تقدمت هذه الأرجوزة ثم رجز بعده جواس فلم يصنع شيئا قال فما رأيت غلبة مثلها قط

شعره في هجاء خوات العذري وبني الأحب
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا بهلول بن سليمان عن العلاء بن سعيد البلوي وجماعة غيره من قومه
أن رجلا من بني عذرة كان يقال له خوَّات أمه بلوية وكان شاعرا وكان جميل بن جذامية فخرج جميل إلى أخواله بجذام وهو يقول
( جُذَامُ سيوفُ اللَّه في كلِّ موطنٍ ... إذا أَزَمَتْ يومَ اللِّقاء أَزَامِ )
( هُمُ منعوا ما بين مِصْرَ فذي القُرَى ... إلى الشامِ مِنْ حلٍّ به وحَرَامِ )
( بضربٍ يُزيل الهامَ عن سَكناتِهِ ... وطَعْنٍ كإيزاغِ المَخَاض تُؤامِ )
( إذا قَصُرتْ يوماً أَكُفُّ قبيلةٍ ... عن المجدِ نالته أَكُفُّ جُذَامِ )
فأعطوه مائة بكرة قال وخرج خوات إلى أخواله من بلي وهو يقول
( إنّ بَلِيّاً غُرَّةٌ يُهْتَدَى بها ... كما يَهْتَدِي السارِي بمُطَّلَع النجمِ )
( هُمُ ولدوا أُميَّ وكنتُ ابنَ أُختهم ... ولم أَتَخَوَّلْ جِذْمَ قومٍ بلا علم )
قال فأعطوه مائة غرة ما بين فرس إلى وليدة ففخر على صاحبه وذكر أن الغرة الواحدة مما أتى به مما معه تعدل كل شيء أتى به جميل فقال عبيد الله بن قطبة
( ستَقْضِي بيننا حكماءُ سَعْدٍ ... أقُطْبةُ كان خيراً أم صُبَاحُ )
قال وكان عبد الله بن معمر أبو جميل يلقب صباحا وكان عبيد الله بن قطبة يلقب حماظا فقال النخار العذري أحد بني الحارث بن

سعد قطبة كان خيرا من صباح فقال جميل يهجو بني الأحب رهط قطبة ويهجو النخار
( إنّ أحبَّ سُفَّلٌ أشرارُ ... حُثَالةٌ عُودُهمُ خَوَّارُ )
( أذَلُّ قومٍ حين يُدْعَى الجارُ ... كما أذلَّ الحارث النَّخَّارُ )
وقال الأبيرق العتبي قطبة كان خيرا من صباح فقال جميل
( يابنَ الأُبَيْرِق وَطْبٌ بِتَّ مُسْنِدَه ... إلى وَسَادِك من حُمّ الذُّرى جُون )
( وأكلتان إذا ما شئت مرتفقاً ... بالسير من نغل الدفين مدهون )
( أُذكُرْ وأُمِّك منِّي حين تَنْكُبني ... جِنِّي فيَغْلِب جِنَّي كلَّ مجنونِ )
وقال جماعة من شعراء سعد في تفضيل قطبة على صباح أقوالا اجابهم عنها جميل فأفحمهم حتى قال له جعفر بن سراقة أحد بني قرة
( نحن مَنَعْنا ذَا القُرَى من عَدُوّنا ... وعُذْرةَ إذ نلقَى يَهُوداً ويعشرا )
( مَنَعْناه من عُلْيَا مَعَدٍّ وأنتمُ ... سَفَاسِيفُ رَوْحٍُ بين قُرْحَ وخَيْبَرَا )
( فريقانِ رُهْبَانٌ بأسفَلِ ذي القُرَى ... وبالشام عَرَّافون فيمن تنَصَّرَا )
فلما بلغت جميلا اتقاه وعلم أنه سيعلو عليه فقال جميل
( بَني عامرٍ أنَّى انتجعتمْ وكنتمُ ... إذا حُصِّل الأقوامُ كالخُصْية الفَرْدِ )

( فأنتم ولأَيٌ موضعَ الذُّلِّ حجْرةً ... وقُرَّةُ أَوْلَى بالعَلاَء وبالمجدِ )
فأعرض عنه جعفر قال الزبير بنو عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد رهط هدبة بن خشرم بن كرز بن ابي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن سعد هذيم بن زيد وزيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة بن خنبس بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد هذيم ولأي بن عبد مناة بن الحارث بن سعد هذيم قال فدخل جميل على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه إياهما سعيد بن العاصي وجاءه بنفقة فلما دخل عليه عرض ذلك عليه فقال هدبة أنت يابن قميئة الذي تقول
( بني عامرٍ أنَّى انتجعتم وكنتمُ ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخصْية الفَرْد )
أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر وكانت بنو عامر قد قلوا فحالفوا لأيا

لقاؤه بعمر بن أبي ربيعة وتناشدهما الشعر
اخبرني الحرمي بن أبي العلاء ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم المخزومي قال حدثني شيخ من أهلي عن أبيه عن الحارث مولى هشام بن المغيرة الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة

( يا أبا الحارث قلبي طائر ... )
قال شهدت عمر بن أبي ربيعة وجميل بن عبد الله بن معمر وقد اجتمعا بالأبطح فأنشد جميل قصيدته
( لقد فرِحَ الواشون أن صَرَمتْ حَبْلِي ... بُثَيْنةُ أو أبدتْ لنا جانبَ البُخْلِ )
( يقولون مَهْلاً يا جميلُ وإنني ... لأُقسم ما بي عن بُثَيْنة من مَهْلِ )
( أَحِلْماً فقبل اليوم كان أوانُه ... أَم اخْشَى فقبل اليومِ أُوعِدتُ بالقتلِ )
( لقد أَنْكَحُوا حَرْبِي نُبَيْهاً ظَعِينةً ... لطيفةَ طَيِّ البَطْنِ ذاتَ شَوًى خَدْلِ )
( وكم قد رأينا ساعياً بنَميمةٍ ... لآخرَ لم يَعْمِدْ بكفٍّ ولا رجلِ )
إذا ما تراجعْنا الذي كان بيننا ... جَرى الدمعُ من عينَيْ بُثَيْنةَ بالكحلِ )

صوت
( كلانا بكَى أو كاد يَبْكي صَبابةً ... إلى إلْفِهِ واستعجلتْ عَبْرةً قبلي )
( فلو تركتْ عَقْلي معي ما طلبتُها ... ولكنْ طِلاَبِيها لِمَا فات من عقلي )
( فيا وَيْحَ نفسي حَسْبُ نفسِي الذي بها ... ويا وَيْحَ أهلي ما أُصِيب به أهلي )
( وقالت لأتْرابٍ لها لا زَعَانِفٍ ... قصارٍ ولا كُسِّ الثَّنَايا ولا ثُعْلِ )
( إذا حميتْ شمسُ النَّهار اتَّقَيْنها ... بأكسية الدِّيباج والخَزِّ ذي الخَمْل )
( تَدَاعَيْنَ فاستَعْجَمْن مَشْياً بذي الغَضَا ... دَبِيبَ القَطا الكُدْرِيّ في الدَّمِثِ السَّهْلِ )

( إذا ارْتَعْنَ أو فُزِّعْنَ قُمْنَ حَوَالَها ... قيامَ بناتِ الماءِ في جانب الضَّحْلِ )
( أَجَدِّيَ لا أَلْقَى بُثَيْنَةَ مرّةً ... من الدهر إلا خائفاً أو على رِجْلِ )
( خليليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتِله قبلي )
قال وأنشده عمر قوله
( جرى ناصحٌ بالودّ بيني وبينها ... فقرَّبنِي يوم الحِصاب إلى قتلي )
( فما أَنْسَ مِ الأشياء لا أَنْسَ مَوْقِفِي ... وموقفَها وَهْناً بقارعة النخلِ )
( فلمَّا تواقَفْنَا عرفتُ الذي بها ... كمثل الذي بي حَذْوَكَ النعلَ بالنعل )
( فقلْنَ لها هذا عِشاءٌ وأهلُنا ... قَريبٌ أَلَمَّا تَسْأَمِي مَرْكَبَ البغل )
( فقالت فما شِئْتُنَّ قُلْنَ لها انزِلي ... فلَلأرضُ خيرٌ من وقوفٍ على رَحْلِ )
( فأقبَلْنَ أمثالَ الدُّمَى فاكتَنَفْنَها ... وكُلٌّ يُفَدِّي بالمَودَّة والأهل )
( نُجومٌ دَرَارِيٌّ تكنَّفْنَ صورةً ... من البدر وافتْ غيرَ هُوجٍ ولا ثُجْلِ )
( فسلَّمْتُ واستأنستُ خِيفةَ أن يَرَى ... عدوٌّ مكانِي أو يرى كاشحٌ فعلي )
( فقالت وأَلْقتْ جانبَ السِّتْر إنما ... معي فتحدَّثْ غيرَ ذي رِقْبةٍ أهلي )
( فقلتُ لها ما بي لهم من ترقُّبٍ ... ولكنَّ سِرِّي ليس يحملُه مِثلي )
( فلما اقتصرْنا دونَهن حديثَنا ... وهُنَّ طَبِيباتٌ بحاجة ذي التَّبْل )
( عرَفْنَ الذي نَهْوَى فقُلْنَ ائذَنِي لنا ... نَطُفْ ساعةً في بَرْدِ ليلٍ وفي سَهْلِ )
( فقالت فلا تَلْبَثْنَ قُلْنَ تحدَّثِي ... أتيناكِ وانسَبْنَ انسيابَ مَهَا الرملِ )

( وقُمْنَ وقد أَفهَمْنَ ذا اللُّبِّ إنما ... أَتَينَ الذي يَأْتينَ من ذاك من أَجْلِي )
فقال جميل هيهات يا أبا الخطاب لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي وما خاطب النساء مخاطبتك أحد وقام مشمرا

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت
( خليليَّ فيما عشتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بَكَى من حبّ قاتله قبلي )
( أبِيتُ مع الهُلاَّكِ ضيفاً لأهلِها ... وأهلي قريبٌ مُوسِعُون ذوو فَضْلِ )
( فلو تركتْ عقلي معي ما طلبتُها ... ولكن طِلاَبيها لِمَا فات من عقلي )
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وذكر حماد والهشامي أن فيه لنافع الخير مولى عبد الله بن جعفر لحنا من الثقيل الأول
ومنها
صوت
( أَلاَ أيُّها البيتُ الذي حِيلَ دونَه ... بنا أنت من بيتٍ وأَهْلُكَ من أهلِ )
( ثلاثةُ أبياتٍ فبَيْتٌ أُحِبُّه ... وبيتان ليسا من هوايَ ولا شكلي )
( كِلاَنا بَكَى أو كاد يَبْكِي صَبابةً ... إلى إلْفِه واستَعْجَلتْ عَبْرةً قبلي )
الغناء لإسحاق خفيف ثقيل الثاني بالبنصر
ومنها
صوت
( لقد فرِح الواشُونَ أن صَرَمَتْ حبلِي ... بثينةُ أو أَبْدَتْ لنا جانبَ البخل )

( يقولون مَهْلاً يا جميلُ وإنني ... لأُقْسِمُ ما بي عن بُثَينةَ من مَهْلِ )
الغناء لابن محرز من كتاب يونس ولم يجنسه وذكر إسحاق أنه مما ينسب إلى ابن محرز وابن مسجح ولم يصح عنده لأيهما هو ولا ذكر طريقته
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني غير واحد من الرواة عن صالح بن حسان قال أخبرني نافع مولى عبد الله بن جعفر وما رأيت أحدا قط كان أشكل ظرفا ولا أزين في مجلس ولا أحسن غناء منه قال
قدمنا مع عبد الله بن جعفر مرة على معاوية فأرسل إلي يزيد يدعوني ليلا فقلت أكره أن يعلم أمير المؤمنين مكاني عندك فيشكوني إلى ابن جعفر قال فامهل حتى إذا سمر أمير المؤمنين فإن ابن جعفر يكون معه فلا يفتقدك ونخلو نحن بما نريد قبل قيامهما قأتيته فغنيته فوالله ما رأيت فتى أشرف أريحية منه والله لألقى علي من الكسا الخز والوشي وغيره ما لم استطع حمله ثم أمر لي بخمسمائة دينار قال وذهب بنا الحديث وما كنا فيه حتى قام معاوية ونهض ابن جعفر معه وكان باب يزيد في سقيفة معاوية فسمع صوتي فقال لابن جعفر ما هذا يابن جعفر قال هذا والله صوت نافع فدخل علينا فلما أحسَّ به يزيد تناوم فقال له معاوية ما لك يا بني قال

صدعت فرجوت أن يسكن عني بصوت هذا قال فتبسم معاوية وقال يا نافع ما كان أغنانا عن قدومك فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إن هذا في بعض الأحايين يذكي القلب قال فضحك معاوية وانصرف فقال لي ابن جعفر ويلك هل شرب شيئا قلت لا والله قال والله إني لأرجو أن يكون من فتيان بني عبد مناف الذين ينتفع بهم قال نافع ثم قدمنا على يزيد مع عبد الله بن جعفر بعدما استخلف فأجلسه معه على سريره ودخلت حاشيته تسلم عليه ودخلت معهم فلما نظر إلي تبسم ثم نهض ابن جعفر وتبعناه فقيل له نظر إلى نافع وتبسم فقال ابن جعفر هذا تأويل تلك الليلة فقضى حوائج ابن جعفر وأضعف ما كان يصله به معاوية فلما أراد الانصراف أتاه يودعه ونحن معه فأرسل إلي يزيد فدخلت عليه قال ويحك يا نافع ما أخرتك إلا لأتفرغ لك هات لحنك
( خليليَّ فيما عشتُما هل رايتُما ... قتيلاً بَكَى من حبِّ قاتِله قبلي )
فأسمعته فقال أعد ويلك فأعدته ثم قال أعد فأعدته ثلاثا فقال أحسنت فسل حاجتك فما سألته في ذلك اليوم شيئا إلا أعطانيه ثم قال إن يصلح لنا هذا الأمر من قبل ابن الزبير فلعلنا أن نحج فتلقانا بالمدينة فإن هذا الأمر لا يصلح إلا هناك قال نافع فمنعنا والله من ذلك شؤم ابن الزبير
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفري قال حدثنا القاسم بن أبي الزناد قال
خرج عمر بن أبي ربيعة يريد الشام فلما كان بالجناب لقيه جميل فقال له عمر أنشدني فأنشده
( خليليّ فيما عشتُما هل رايتُما ... قتيلاً بَكَى من حبِّ قاتله قبلي )

ثم قال جميل أنشدني يا ابا الخطاب فأنشده
( ألم تَسْألِ الأطلالَ والمُتَربَّعَا ... ببطن حُلَيَّاتٍ دَوَارِسَ بَلْقَعَا )
فلما بلغ إلى قوله
( فلما تواقفْنا وسلَّمتُ أَشْرقتْ ... وجوهٌ زَهاها الحسنُ أن تتقنَّعا )
( تَبَالَهْنَ بالعِرْفان لمَّا عرفْنَنِي ... وقُلْنَ امرؤٌ باغٍ أَكَلَّ وأَوْضَعَا )
( وقرَّبْنَ اسبابَ الهوى لمتيَّم ... يقيِسُ ذِراعاً كلَّما قِسْنَ إصْبَعَا )

عمر بن أبي ربيعة يطلب منه أن يأخذ به إلى بثينة
قال فصاح جميل واستخذى وقال ألا إن النسيب أخذ من هذا وما أنشده حرفا فقال له عمر إذهب بنا إلى بثينة حتى نسلم عليها فقال له جميل قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها وهاتيك أبياتها فأتاها عمر حتى وقف على ابياتها وتأنس حتى كلم فقال يا جارية أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني فخرجت إليه بثينة في مباذلها وقالت والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك فانكسر عمر قال وإذا امرأة أدماء طوالة
وأخبرني بهذا الخبر علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن المسيبي والزبير فذكر مثل ما ذكره الزبير وزاد فيه قال فقال لها قول جميل
( وهُمَا قالتا لَوَانَّ جميلاً ... عَرَض اليومَ نَظْرةً فرآنا )
( بَيْنَما ذاك منهما وإذا بي ... أُعْمِلُ النَّصَّ سَيْرةً زَفَيانَا )
( نظرتْ نحوَ تِرْبها ثم قالت ... قد أتانا وما علمنا مُنَانَا )
فقالت إنه استملى منك فما أفلح وقد قيل اربط الحمار مع الفرس

فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه
وذكر الهيثم بن عدي وأصحابه في أخبارهم أن جميلا طال مقامه بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته لموضع يلتقيان فيه فسار إليها وحدثها طويلا وأخبرها خبره بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة الله إلا انصرف وقالت له إن أقمت فضحتني ولعل الحي أن يلحقوك فأبى وقال أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا فلم تزل تناشده حتى انصرف وقال في ذلك وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة
( ألم تَسْألِ الربعَ الخَلاَء فينطقُ ... وهل تُخبِرنْكَ اليومَ بَيْدَاءُ سَمْلَقُ )
( وقفتُ بها حتى تجلَّتْ عَمَايتي ... وملَّ الوقوفَ الأرْحَبِيُّ المنوَّق )
( تَعَزَّ وإن كانت عليك كريمةً ... لعلَّك من رِقٍّ لبَثْنَةَ تَعْتِقُ )
( لعَمْرُكُم إن البِعاد لشائقي ... وبعضُ بعاد البَيْنِ والنأي أَشْوَقُ )
( لعلَّكَ محزونٌ ومُبْدٍ صَبابة ... ومُظْهِرُ شكوى من أُناسٍ تفرَّقوا )
( وبيضٍ غَريراتٍ تُثَنِّي خُصورَها ... إذا قُمْنَ أعجازٌ ثِقَال وأسْؤُقُ )
( غَرائرَ لم يَلْقَيْنَ بؤسَ معيشةٍ ... يُجنّ بهنّ الناظر المتنوِّقُ
( وغَلْغَلْتُ من وَجْدٍ إليهنَّ بعدما ... سَرَيْتُ وأحْشائي من الخوف تَخفِقُ )

( معي صارِمٌ قد أَخْلص القَيْنُ صقْله ... له حين أُغْشيه الضَّرِيبةَ روْنَقُ )
( فلولا احتيالي ضِقْن ذرْعا بزائرٍ ... به من صَباباتٍ إليهنّ أَوْلَقُ )
( تَسُوكُ بقُضْبانِ اْلأَرَاكِ مفلَّجاً ... يُشَعْشِعُ فيه الفارسِيُّ المروَّق )
( أبثنةُ لَلْوَصْلُ الذي كان بينَنا ... نَضَا مثلَ ما يَنْضُو الخِضابُ فيَخْلُقُ )
( أبَثْنَةُ ما تَنْأَيْنَ إلاَّ كأنَّني ... بنجم الثُّرَيَّا ما نأيتِ مُعَلَّقُ )
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على الرشيد يوما فقال لي يا إسحاق أنشدني أحسن ما تعرف في عتاب محب وهو ظالم متعتب فقلت يا أمير المؤمنين قول جميل
( رِدِ الماءَ ما جاءتْ بصَفْوٍ ذَنَائبُهْ ... ودَعْهُ إذا خِيضَتْ بطَرْقٍ مَشَارِبُهْ )
( أُعاتِبُ مَنْ يحلو لديَّ عتابُه ... وأترك مَنْ لا أشتهي وأُجَانِبُهْ )
( ومن لذَّة الدنيا وإن كنتَ ظالماً ... عِناقُك مظلوماً وأنت تُعاتبُهْ )
فقال أحسن والله أعدها علي فأعدتها حتى حفظها وأمر لي بثلاثين ألف درهم وتركني وقام فدخل إلى دار الحُرَم

فشل محاولته في لقاء بثينة
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن السعيدي قال حدثني رجل كان يصحب جميلا من أهل تيماء قال
كنت يوما جالسا مع جميل وهو يحدثني وأحدثه إذ ثار وتربد وجهه فأنكرته ورأيت منه غير ما كنت أرى ووثب نافرا مقشعر الشعر متغير اللون حتى أتي بناقة له قريبة من الأرض مجتمعة موثقة الخلق فشد عليها رحله ثم أتي بمحلب فيه لبن فشربه ثم ثنى فشربت حتى رويت ثم قال لي اشدد أداة رحلك واشرب واسق جملك فإني ذاهب بك إلى بعض مذاهبي ففعلت فجال في ظهر ناقته وركبت ناقتي فسرنا بياض يومنا وسواد ليلتنا ثم أصبحنا فسرنا يومنا كله لا والله ما نزلنا إلا للصلاة فلما كان اليوم الثالث دفعنا إلى نسوة فمال إليهن ووجدنا الرجال خلوفاً وإذا قدر لبن ثم وقد جهدت جوعا وعطشا فلما رأيت القدر اقتحمت عن بعيري وتركته جانبا ثم أدخلت رأسي في القدر ما يثنيني حرها حتى رويت فذهبت أخرج رأسي من القدر فضاقت علي وإذا هي على رأسي قلنسية فضحكن مني وغسلن ما أصابني وأتي جميل بقرى فوالله ما التفت إليه فبينا هو يحدثهن إذا رواعي الإبل وقد كان السلطان أحل لهم دمه إن وجدوه في بلادهم وجاء الناس فقالوا له ويحك انج وتقدم فوالله ما أكبرهم كل الإكبار وغشيه الرجال فجعلوا يرمونه ويطردونه فإذا قربوا منه قاتلهم ورمى فيهم وهام بي جملي فقال لي يسر لنفسك مركبا خلفي فأردفني خلفه ولا والله ما انكسر ولا انحل عن

فرصته حتى رجع إلى أهله وقد سار ست ليال وستة ايام وما التفت إلى طعام

ابن عمه روق يلومه على حبه بثينة
وشكا زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها فوجهوا إلى جميل فأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وأعذروا إليهم وتوعدوه وإياهم فلامه أهله وعنفوه وقالوا استخلص إليهم ونبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة لا يلم بها ثم لقي ابني عمه روقا ومسعدة فشكا إليهما ما به وأنشدهما قوله
صوت
( زُورَا بُثَيْنةَ فالحبيبُ مَزُورُ ... إن الزيارةَ للمحبِّ يسيرُ )
( إنّ الترحُّلَ إن تلبَّس أمرُنا ... واعتاقَنا قَدَرٌ أُحِمَّ بكور )
الغناء لعريب رمل بالوسطى
صوت
( إنِّي عشيَّةَ رُحْتُ وهي حزينةٌ ... تشكو إليّ صبابةً لَصَبُورُ )
( وتقول بِتْ عندي فَدَيْتُكَ ليلةً ... أشكو إليكَ فإنّ ذاك يسيرُ )
الغناء لسليم خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه ثقيل أول بالبنصر ذكر الهشامي أنه لمخارق وذكر حبش أنه لإبراهيم وذكر حبش أن لحن

مخارق خفيف رمل
( غَرَّاءُ مِبْسامٌ كأنَّ حديثَها ... دُرّ تَحَدَّرَ نَظْمُه منثورُ )
( محطوطةُ المَتْنَيْنِ مُضْمَرةُ الحَشَى ... رَيَّا الرّوادِف خَلْقُها ممكور )
( لا حُسْنِها حُسْنٌ ولا كَدَلاَلِها ... دَلٌّ ولا كَوقارِها توقير )
( إنّ اللسانَ بذكرها لَمُوَكَّلٌ ... والقلب صادٍ والخواطر صُورُ )
( ولئن جَزَيْتِ الودَّ منِّي مثلَه ... إني بذلك يا بُثَيْن جديرُ )
فقال له روق إنك لعاجر ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها وإنك منها بين فجور أرفعك عنه أو ذل لا أحبه لك أو كمد يؤديك إلى التلف أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرضت لها بعد إعذارهم إليك وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم حتى تألفها وتصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة الفت ذلك وسلوت فبكى جميل وقال يا أخي لو ملكتُ اختياري لكان ما قلت صوابا ولكني لا أملك الاختيار ولا أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا وقد جئتك لأمر أسالك ألا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم وأن تحمل على نفسك في مساعدتي فقال له فإن كنت لا بد مهلكا نفسك فاعمل على زيارتها ليلا فإنها تخرج مع بنات عم لها إلى ملعب لهن فأجيء معك حينئذ سرا ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب نأوي عنده نهارا وأسأله مساعدتك على هذا فتقيم عنده أياما نهارك وتجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك فشكره ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانه وسأله مساعدته فيه فقال له لقد جئتني بإحدى العظائم ويحك إن في هذا

معاداتي الحي جميعا إن فطن به فقال انا أتحرز في أمره من أن يظهر فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره القصة فأتيا الرجل ليلا فأقاما عنده وأرسل إلى بثينة بوليدة له بخاتم جميل فدفعته إليها فلما رأته عرفت فتبعتها وجاءته فتحدثا ليلتهما واقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودعها وقال لها عن غير قلى والله ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك ولكني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه وأقمت عنده ثلاثا ولا مزيد على ذلك ثم انصرف وقال في عذل روق ابن عمه إياه
( لقد لامني فيها أخٌ ذو قرابةٍ ... حبيبٌ إليه في مَلاَمتِه رُشْدِي )
( وقال أَفِقْ حتى متى أنت هائمٌ ... ببَثْنَةَ فيها قد تُعيدُ وقد تُبْدِي )
( فقلت له فيها قضَى اللَّهُ ما ترى ... عليَّ وهل فيما قضَى اللَّه من رَدِّ )
( فإن يك رُشْداً حُبُّها أو غَوَايةً ... فقد جئتُه ما كان منِّي على عَمْدِ )

صوت
( لقد لجَّ ميثاقٌ من اللَّه بيننا ... وليس لمن لم يُوفِ للَّه من عَهْد )
( فلا وأبيها الخيرِ ما خُنْتُ عهدَها ... ولا لِيَ علمٌ بالذي فعلتْ بعدي )
( وما زادها الواشون إلا كرامة ... عليّ وما زالت مودَّتُها عندي )
الغناء لمتيم ثقيل أول عن الهشامي وذكر ابن المعتز أنه لشارية وذكر ابن خرداذبه أنه لقلم الصالحية
( أفي الناسِ أمثالي أَحَبَّ فحالُهم ... كحالِيَ أمْ أحببتُ من بينهم وحدي )
( وهل هكذا يلقَى المحبُّون مثلَ ما ... لَقِيتُ بها أم لم يَجِدْ أحدٌ وَجْدِي

وقال جميل فيها
( خليليّ عُوجَا اليوم حتى تُسَلِّما ... على عَذْبةِ الأنياب طَيِّبة النَّشْرِ )
( أَلِمَّا بها ثم اشفَعا لي وسَلِّما ... عليها سَقَاها اللَّه من سائغ القطر )
( وبُوحَا بذكري عند بَثْنَةَ وانظُرَا ... أترتاح يوماً أم تَهَشُّ إلى ذكري )
( فإن لم تَكُنْ تَقْطَعْ قُوَى الودِّ بيننا ... ولم تَنْسَ ما أسلفتُ في سالف الدهر )
فسوف يُرَى منها اشتياقٌ ولَوْعةٌ ... بِبَيْنٍ وغَرْبٌ من مدامعِها يجري )
( وإن تكُ قد حالتْ عن العهد بَعْدَنا ... وأصغتْ إلى قول المُؤَنِّبِ والمُزْرِي )
( فسوف يُرَى منها صدودٌ ولم تكن ... بنَفْسِيَ من أهل الخِيانة والغَدْرِ )
( أعوذُ بك اللَّهمَّ أن تَشْحَطَ النَّوَى ... ببثنةَ في أدنى حياتي ولا حَشْري )
( وجاَوِرْ إذا ما مِتُّ بيني وبينها ... فيا حَبَّذا موتِي إذا جاورتْ قبرِي )
( عَدِمْتُكَ من حبٍّ أَمَا منك راحةٌ وما بك عنِّي من تَوَانٍ ولا فَتْرِ )
( أَلا أيُّها الحبُّ المبرِّح هلى ترى ... أَخَا كَلَفٍ يُغْرِي بحبٍّ كما أُغْرِي )
( أجِدَّكَ لا تَبْلَى وقد بَلِيَ الهوى ... ولا ينتهي حبِّي بُثَيْنَةَ للزَّجْر )
صوت
( هي البدرُ حسناً والنساءُ كواكبٌ ... وشَتَّانَ ما بين الكواكبِ والبدرِ )
( لقد فُضِّلتْ حسناً على الناس مثلَما ... على ألِف شهر فُضِّلتْ ليلةُ القَدْرِ )
غنت شارية في هذين البيتين خفيف رمل من رواية ابن المعتز

صلح بعد تهاجر
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني الرحال بن سعد المازني قال
وقع بين جميل وبثينة هجر في غيرة كان غارها عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها فكان جميل يتحدث إلى غيرها فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه فدخل جميل يوما وقد غلبه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة فلما رأته بثينة جاءت إلى البيت ولم تبرز له فجزع لذلك جميل وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه وقد بلغ الأمر من جميل كل مبلغ فأنشأ يقول
( لقد خِفْتُ أن يغتالني الموتُ عُنْوةً ... وفي النفسِ حاجاتٌ إليكِ كما هِيَا )
( وإني لتَثْنِينِي الحَفِيظةُ كلَّما ... لَقِيتُكِ يوماً أن أَبُثَّكِ ما بِيا )
( ألم تعلمي يا عذبةَ الرِّيقِ أنَّني ... أَظَلّ إذا لم أُسْقَ رِيقَكِ صَادِيا )
قال فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها ما أحسن الصدق بأهله ثم اصطلحا فقالت له بثينة أنشدني قولك
( تَظَلُّ وراء السِّتْرِ تَرْنُو بلَحْظِها ... إذا مرَّ من أترابها مَنْ يَرُوقُها )
فأنشدها إياها فبكت وقالت كلا يا جميل ومن ترى أنه يروقني غيرك
كيف نعي جميل إلى بثينة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر أيوب بن عباية قال

خرجت من تيماء في أغباش السحر فرأيت عجوزا على أتان فتكلمت فإذا أعرابية فصيحة فقلت ممن أنت فقالت عذرية فأجريت ذكر جميل وبثينة فقالت والله إنا لعلى ماء لنا بالجناب وقد تنكبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثا فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم فلم يبق غيري وغير بثينة إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقاءنا فسلم ونحن مستوحشون وجلون فتأملته ورددت السلام فإذا جميل فقلت أجميل قال إي والله وإذا به لا يتماسك جوعا فقمت إلى قعب لنا فيه أقط مطحون وإلى عكة فيها سمن ورب فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت أصب من هذا فأصاب منه وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردا فشرب منه وتراجعت نفسه فقلت له لقد بلغت ولقيت شرا فما أمرك قال أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم وأنا عامد إلى مصر فتحدثنا ساعة ثم ودعنا وشخص فلم تطل غيبته أن جاءنا نعيه فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة
( صَدَعَ النَّعِيُّ وما كنى بجميلِ ... وثَوَى بمِصْرَ ثَوَاءَ غيرِ قُفولِ )
( ولقد أجُرّ الذَّيْلَ في وادي القُرَى ... نَشْوانَ بين مزارعٍ ونخيلِ )

( قُومِي بُثَينَةُ فاندُبِي بعَويلِ ... وابكِي خليلَكِ دون كلِّ خليل )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني محمد بن القاسم عن الأصمعي قال حدثني رجل شهد جميلا لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعاه فقال هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك فقال قلت اللهم نعم قال إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبا ثم كل شيء سواها لك وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة وهم رهط بثينة فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات وخلاك ذم ثم أنشدني هذه الأبيات
( صدَع النَّعِيُّ وما كَنَى بجميلِ ... وثوى بمِصْرَ ثَوَاء غيرِ قُفولِ )
وذكر الأبيات المتقدمة فلما قضى وواريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل فما استتممت الأبيات حتى برزت إلي امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولا وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنة وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني فقالت يا هذا والله لئن كنت صادقا لقد قتلتني ولئن كنت كاذبا لقد فضحتني قلت والله ما أنا إلا صادق وأخرجت حلته فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول
( وإنّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ ... من الدَّهْرِ ما حانتْ ولا حان حِينُها )
( سواءٌ علينا يا جميلُ بن مَعْمَرٍ ... إذا مُِتَّ بأساءُ الحياةِ ولِينُها )
قال فلم أر يوما كان أكثر باكيا وباكية منه يومئذ

صوت
من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه
( أمسى الشبابُ مُوَدِّعاً محموداً ... والشيبُ مُؤْتَنِفَ المحلِّ جديدَا )
( وتغيَّر البِيضُ الأوانسُ بعد ما ... حَمَّلْتُهُنَّ مَوَاثِقاً وعُهودا )
عروضه من الكامل الشعر ليزيد بن الطثرية والغناء لإسحاق ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر وفيه لبابويه خفيف ثقيل بالوسطى كلاهما من رواية عمرو بن بانة

ذكر يزيد بن الطثرية وأخباره ونسبه
ذكر ابن الكلبي أن اسمه يزيد بن الصمة أحد بني سلمة الخير بن قشير وذكر البصريون أنه من ولد الأعور بن قشير وقال ابو عمرو الشيباني اسمه يزيد بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وإنما قيل إنه يزيد بن المنتشر بن سلمة
( والطثرية أمه فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب امرأة من طثر وهم حي من اليمن عدادهم في جرم وقال غيره إن طثرا من عنز بن وائل إخوة بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وكان أبو جراد أحد بني المنتفق بن عامر بن عقيل أسر طثرا فمكث عنده زمانا ثم خلاه وأخذ عليه إصرا ليبعثن إليه بفدائه أو ليأتينه بنفسه وأهله فلم يجد فداء فاحتمل بأهله حتى دخل على أبي جراد فوسمه سمة إبله فهم حلفاء لبني المنتفق إلى اليوم نحو من خمسمائة رجل متفرقين في بني عقيل يوالون بني المنتفق وهم يعيرون ذلك الوسم وقال بعض من يهجو

( عليه الوَسْمُ وسمُ أبي جَرَادِ ... )
وفيهم يقول يزيد بن الطثرية
( الاَ بئسما أن تَجْرِمُوني وتغضَبوا ... عليّ إذا عاتبتُكم يا بني طَثْرِ )
وزعم بعض البصريين أن الطثرية أم يزيد كانت مولعة بإخراج زبد اللبن فسميت الطثرية وطثرة اللبن زبدته
سبب تلقيبه بالمودّق
ويكنى يزيد أبا المكشوح وكان يلقب مودقا سمي بذلك لحسن وجهه وحسن شعره وحلاوة حديثه فكانوا يقولون إنه إذا جلس بين النساء ودقهن
أخبرني محمد بن خلف عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان يزيد بن الطثرية يقول من أفحم عند النساء فلينشد من شعري قال وكان كثيرا ما يتحدث إلى النساء وكان يقال إنه عنين
وروى عنه عبد الله بن عمر عن يحيى بن جابر أحد بني عمرو بن كلاب عن سعاد بنت يزيد بن زريق امرأة منهم
أن يزيد بن الطثرية كان من أحسن من مضى وجها وأطيبه حديثا وأن النساء كانت مفتونة به وذكر الناس أنه كان عنينا وذلك أنه لا عقب له وأن الناس أمحلوا حتى ذهبت الدقيقة من المال ونهكت الجليلة فأقبل صرم

من جرم ساقته السنة والجدب من بلاده إلى بلاد بني قشير وكان بينهم وبين بني قشير حرب عظيمة فلم يجدوا بدا من رمي قشير بأنفسهم لما قد ساقهم من الجدب والمجاعة ودقة الأموال وما أشرفوا عليه من الهلكة ووقع الربيع في بلاد بني قشير فانتجعها الناس وطلبوها فلم يعد أن لقيت جرم قشيراً فنصبت قشير لهم الحرب فقالت جرم إنما جئنا مستجيرين غير محاربين قالوا مما ذا قالوا من السنة والجدب والهلكة التي لا باقية لها فأجارتهم قشير وسالمتهم وأرعتهم طرفا من بلادها وكان في جرم فتى يقال له مياد وكان غزلا حسن الوجه تام القامة آخذا بقلوب النساء والغزل في جرم جائز حسن وهو في قشير نائرة فلما نازلت جرم قشيرا وجاورتها اصبح مياد الجرمي فغدا إلى القشيريات يطلب منهن الغزل والصبا والحديث واستبراز الفتيات عند غيبة الرجال واشتغالهم بالسقي والرعية وما أشبه ذلك فدفعنه عنهن وأسمعنه ما يكره وراحت رجالهن عليهن وهن مغضبات فقال عجائز منهن والله ما ندري أرعيتم جرما المرعى أم أرعيتموهم نساءكم فاشتد ذلك عليهم فقالوا وما أدراكنه قلن رجل منذ اليوم ظل مجحرا لنا ما يطلع منا رأس واحدة يدور بين بيوتنا فقال بعضهم بيتوا جرما فاصطلموها وقال بعضهم قبيح قوم قد سقيتموهم مياهكم وأرعيتموهم مراعيكم وخلطتموهم بأنفسكم وأجرتموهم من القحط والسنة تفتانون عليهم هذا الافتيات لا تفعلوا ولكن تصبحوا وتقدموا إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل فإنه سفيه من سفهائهم فليأخذوا على يديه فإن يفعلوا فأتموا لهم إحسانكم وإن يمتنعوا ويقروا ما كان منه يحل لكم البسط عليهم وتخرجوا من ذمتهم فأجمعوا على ذلك فلما

أصبحوا غدا نفر منهم إلى جرم فقالوا ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها إن كانت هذه البدعة سجية لكم فليس لكم عندنا إرعاء ولا إسقاء فبرزوا عنا أنفسكم وأذنوا بحرب وإن كان افتتانا فغيروا على من فعله وإنهم لم يعدوا أن قالوا لجرم ذلك فقام رجال من جرم وقالوا ما هذا الذي نالكم قالوا رجل منكم أمس ظل يجر أذياله بين ابياتنا ما ندري علام كان أمره فقهقهت جرم من جفاء القشيرين وعجرفيتها وقالوا إنكم لتحسون من نسائكم ببلاء ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلا ورجلا فقالوا والله ما نحسّ من نسائنا ببلاء وما نعرف منهن إلا العفة والكرم ولكن فيكم الذي قلتم قالوا فإنا نبعث رجلا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال وأخلف النساء وتبعثون رجلا إلى البيوت ونتحالف أنه لا يتقدم رجل منا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها بشيء مما دار بين القوم فيظل كلاهما في بيوت أصحابه حتى يردا علينا عشيا الماء وتخلى لهما البيوت ولا تبرز عليهما امرأة ولا تصادق منهما واحدا فيقبل منهما صرف ولا عدل إلا بموثق يأخذه عليها وعلامة تكون معه منها قالوا اللهم نعم فظلوا يومهم ذلك وباتوا ليلتهم حتى إذا كان من الغد غدوا إلى الماء وتحالفوا أنه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل وغدا مياد الجرمي إلى القشيريات وغدا يزيد بن الطثرية القشيري إلى الجرميات فظل عندهن بأكرم مظل لا يصير إلى واحدة منهن إلا افتتنت به وتابعته إلى المودة والإخاء وقبض منها رهنا وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها فيقول لها واي شيء تخافين وقد أخذت مني المواثيق والعهود وليس لأحد في قلبي نصيب غيرك حتى صليت العصر فانصرف يزيد بفتخ كثير وذبل

وبراقع وانصرف مكحولا مدهونا شبعان ريان مرجل اللمة وظل مياد الجرمي يدور بين بيوت القشيريات مرجوما مقصى لا يتقرب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل فتهالك لهن وظن أنه ارتياد منهن له حتى أخذه ضرب كثير بالجندل ورأى البأس منهن وجهده العطش فانصرف حتى جاء إلى سمرة قريبا إلى نصف النهار فتوسد يده ونام تحتها نويمة حتى أفرجت عنه الظهيرة وفاءت الأظلال وسكن بعض ما به من ألم الضرب وبرد عطشه قليلا ثم قرب إلى الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد فوجد أمة تذود غنما في بعض الظعن فأخذ برقعها فقال هذا برقع واحدة من نسائكم فطرحه بين يدي القوم وجاءت الأمة تعدو فتعلقت ببرقعها فرد عليها وخجل مياد خجلا شديدا وجاء يزيد ممسيا وقد كاد القوم أن يتفرقوا فنثر كمه بين ايديهم ملآن براقع وذبلا وفتخا وقد حلف القوم ألا يعرف رجل شيئا إلا رفعه فلما نثر ما معه اسودت وجوه جرم وأمسكوا بأيديهم إمساكة فقالت قشير أنتم تعرفون ما كان بيننا أمس من العهود والمواثيق وتحرج الأموال والأهل فمن شاء أن ينصرف إلى حرام فليمسك يده فبسط كل رجل يده إلى ما عرف فأخذه وتفرقوا عن حرب وقالوا هذه مكيدة يا قشير فقال في ذلك يزيد بن الطثرية
( فإنْ شئتَ يا مَيَّادُ زُرْنا وزُرْتُمُ ... ولم نَنْفَس الدّنيا على من يُصِيبُها )

( أيذهب مَيَّادٌ بألْبابِ نِسْوتِي ... ونسوةُ مَيَّادٍ صحيحٌ قُلوبها )
وقال مياد الجرمي
( لَعَمْرُكَ إنّ جَمْعَ بني قُشَيْرٍ ... لِجَرْمٍ في يزيدَ لظالمونا )
( أليس الظلمُ أنّ اباك مِنَّا ... وأنك في كَتيبةِ آخرينا )
( أحالفةٌ عليك بنو قُشَيْرٍ ... يمينَ الصَّبْرِ أَمْ مُتَحَرِّجونا )

حبه لوحشية ومرضه لغيابها
قال وبلي يزيد بعشق جارية من جرم في ذلك اليوم يقال لها وحشية وكانت من أحسن النساء ونافرتهم جرم فلم يجد إليها سبيلا فصار من العشق إلى أن أشرف على الموت واشتد به الجهد فجاء إلى ابن عم له يقال له خليفة بن بوزل بعد اختلاف الأطباء إليه ويأسهم منه فقال له يابن عم قد تعلم أنه ليس إلى هذه المرأة سبيل وأن التعزي أجمل فما أربك في أن تقتل نفسك وتأثم بربك قال وما همي يابن عم بنفسي وما لي فيها أمر ولا نهي ولا همي إلا نفس الجرمية فإن كنت تريد حياتي فأرنيها قال كيف الحيلة قال تحملني إليها فحمله إليها وهو لا يطمع في الجرمية إلا أنهم كانوا إذا قالوا له نذهب بك إلى وحشية أبل قليلا وراجع وطمع وإذا أيس منها اشتد به الوجع فخرج به خليفة بن بوزل فحمله فتخلل به اليمن حتى إذا دخل في قبيلة انتسب إلى أخرى ويخبر أنه طالب حاجة وأبل حتى صلح بعض الصلاح وطمع فيه ابن عمه وصارا بعد زمان إلى حي وحشية فلقيا الرعيان وكمنا في جبل من الجبال فجعل خليفة ينزل فيتعرض لرعيان الشاء فيسألهم عن راعي وحشية حتى لقي غلامها وغنمها فواعدهم موعدا وسألهم ما حال

وحشية فقال غلامها هي والله بشر لا حفظ الله بني قشير ولا يوما رأيناهم فيه فما زالت عليلة منذ رأيناهم وكان بها طرف مما بابن الطثرية فقال ويحك فإن ها هنا إنسانا يداويها فلا تقل لأحد غيرها قال نعم إن شاء الله تعالى فأعلمها الراعي ما قال له الرجل حين صار إليها فقالت له ويحك فجىء به ثم إنه خرج فلقيه بالغد فأعلمه وظل عنده يرعى غنمه وتأخر عن الشاء حتى تقدمته الشاء وجنح الليل وانحدر بين يدي غنمه حتى أراحها ومشى فيها يزيد حتى قربت من البيت على أربع وتجلل شملة سوداء بلون شاة من الغنم فصار إلى وحشية فسرت به سرورا شديدا وأدخلته سترا لها وجمعت عليه من الغد من تثق به من صواحباتها وأترابها وقد كان عهد إلى ابن عمه أن يقيم في الجبل ثلاث ليال فإن لم يره فلينصرف فأقام يزيد عندها ثلاث ليال ورجع إلى أصح ما كان عليه ثم انصرف فصار إلى صاحبه فقال ما وراءك يا يزيد ورأى من سروره وطيب نفسه ما سره فقال
( لَوَانَّكَ شاهدتَ الصِّبَا يابنَ بَوْزَلٍ ... بفَرْع الغَضَى إذ راجعتْني غَيَاطِلُهْ )
( لشاهدتَ لهواً بعد شَحْطٍ من النَّوَى ... على سَخَطِ الأعداء حُلْواً شَمَائلُه )

صوت
( ويوماً كإبهامِ القَطَاةِ مُزَيَّناً ... لِعيني ضُحاهُ غالباً لِيَ باطلُه )
غنى في البيت الثالث وبعده البيت الثاني وروايته
( تُشاهد لهواً بعد شحطٍ من النوى ... )
مخارق ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني علي بن الصباح قال
قال أبو محضة الأعرابي وأنشد هذه الأبيات ليزيد بن الطثرية فلما بلغ إلى قوله
( بِنَفْسِي مَنْ لو مَرَّ بَرْدُ بنانِهِ ... على كبِدِي كانت شِفاءً أَنَامِلُهْ )
( ومَنْ هابني في كل أمرٍ وهِبْتُه ... فلا هو يُعطيني ولا أنا سائلُهْ )
طرب لذلك وقال هذا والله من مغنج الكلام

وحشية تجيبه شعرا على رسالته
ونسخت من كتاب الحسن بن علي حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني هشام بن محمد بن موسى قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الطائي قال حدثني عبد الله بن روح الغنوي قال حدثتني ظبية بنت وزير الباهلية قالت
كتب يزيد بن الطثرية إلى وحشية
( أُحِبُّكِ أطرافَ النهارِ بشاشةً ... وباللَّيلِ يدعوني الهوى فأجِيبُ )
( لئن أصبحتْ ريحُ المودَّةِ بينَنا ... شَمَالاً لَقِدْماً كنتِ وهي جَنُوبُ )
فأجابته بقولها
( أُحِبّكَ حبَّ اليأس إن نفع الحيا ... وإن لم يكن لي من هواك طبيبُ )
أخبرني يحيى بن علي إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني هانىء بن سعد
أن ابن الطثرية وابن بوزل وهو قطري بن بوزل خرجا يسيران حتى نزلا برملة حائل بين قفار الملح فقال يزيد لابن بوزل إذهب فاسق راحلتك

واسقنا فلما جاوز أوفى يزيد على أجرع فرأى اشباحا فأتاها فقيل له هذه والله فلانة وأهلها عجيبة بها أي معجبون بها فأتاها فظل عشيته وبات ليلته وأقام الغد حتى راح عشيا وقد لقي ابن بوزل كل شر ومات غيظا فلما دنا منه قال
( لَوَ انَّكَ شاهدتَ الصِّبَا يابنَ بوزلٍ ... بجِزْع الغَضَى إذ راجعتْني غَيَاطِلُهْ )
( بأسفَلِ خَلِّ المِلْح إذ دَيْنُ ذي الهَوَى ... مُؤَدَّى وإذ خيرُ الوصال أوائلُه )
( لشاهدْتَ يوماً بعد شَحْطٍ من النَّوَى ... وبعد تَنَائي الدارِ حُلْواً شَمائلُه )
وقد روي
( وغَيْمَ الصِّبا إذ راجعتْني غَيَاطِلُهْ ... )
فاخترط سيفه ابن بوزل وحاوطه يزيد بعصاه ثم اعتذر إليه وأخبره خبره فقبل منه وقد روى هذه الأبيات أبو عمرو الشيباني وغيره فزاد فيها على إسحاق هذه الأبيات
( أَلاَ حَبَّذَا عيناكِ يا أُمَّ شَنْبَلٍ ... إذا الكُحْلُ في جَفْنَيْهما جال جائلُهْ )
( فَدَاكِ من الخُلاَّنِ كلُّ مُمَزِّجٍ ... تكون لأدنى مَنْ يُلاَقي وسائلُهْ )
( فَرُحْنا تَلَقَّانا به أُمُّ شَنْبَلٍ ... ضُحَيّاً وأبكتْنا عَشِيّاً أصائلُهْ )

( وكنتُ كأنِّي حينَ كان كلامُها ... وَدَاعاً وخَلَّى مَوْثِقَ العهدِ حاملُه )
( رَهينٌ بنفسٍ لم تُفَكَّ كُبُولُه ... عن الساقِ حتى جَرد السيفَ قاتلُه )
( فقال دَعُونِي سَجْدَتَيْنِ وأُرْعِدَتْ ... حِذَارَ الرَّدَى أحشاؤه ومَفَاصِلُهْ )
قال إسحاق وقال أبو عثمان سعيد بن طارق
نزلت سارية من بني سدرة على بني قشير بمالهم فجعلت فتيان قشير تترجل وتتزين وتزور بيوت سدرة فاستنهوهم فقال يزيد بن الطثرية وما في هذا عليكم زوروا بيوتنا كما نزور بيوتكم وقال
( دعوهنّ يَتْبَعْنَ الصِّبَا وتبادلوا ... بنا ليس بأسٌ بينَنا بالتَّبادُلِ )
ثم إن بني سدرة قالوا لنسائهم ويحكن فضحتننا نأتي نساء هؤلاء فلا نقدر عليهن ويأتونكن فلا تحتجبن عنهم فقالت كهلة منهن مروا نساءكم يجتمعن إلى بيتي فإذا جاؤوا لم يجدوا امرأة إلا عندي فإن يزيد أتاني لم يعد في بيوتكم ففعلوا فجاء يزيد فقال
( سلام عليكنّ الغَداةَ فما لنا ... إليكنّ إلا أن تَشَأْنَ سبيلُ )
فقالت الكهلة ومن أنت فقال
( أنا الهائم الصَّبُّ الذي قاده الهوى ... إليكِ فأَمْسَى في حبالِكِ مُسْلَمَا )
( بَرَتْه دَوَاعِي الحبّ حتى تركْنَه ... سقيماً ولم يَتْرُكْنَ لحماً ولا دَمَا )
فقالت اختر إحدى ثلاث خصال إما أن تمضي ثم ترجع علينا فإنا نرقب عيون الرجال فإنهم قد سبونا فيك وإما أن تختار أحبنا إليك وأن تطلب

امرأة واحدة خير من أن يشهرك الناس ونسي الثالثة فقال سآخذ إحداهن فاختاري أنت إحدى ثلاث خصال قالت وما هن قال إما أن أحملك على مرضوف من أمري فتركيبه وإما أن تحمليني على مشروج من أمرك فأركبه وإما أن تلزي بكري بين قلوصيك قالت لو وقع بكرك بين قلوصي لطمرتا به طمرة يتطامن عنقه منها قال كلا إنه شديد الوجيف عارم الوظيف فغلبها فلما أتاها القوم قالت لهم إنه أتاني رجل لا تمتنع عليه امرأة فإما أن تغمضوا له وإما أن ترحلوا عن مكانكم هذا فرحلوا وذهبوا فقال حكيم بن أبي الخلاف السدري في قصيدة له يذكر أنه إنما ارتحلوا عنهم لأنهم آذوهم بكثرة ما يصنعون بهم
( فكان الذي تُهْدُون للجار منكم ... بخاتج حبّاتٍ كثيراً سُعَالُها )

خبره مع اسماء الجعفرية
قال إسحاق فأخبرني الفزاري أن قوما من بني نمير وقوما من بني جعفر تزاوروا فزار شبان من بني جعفر بيوت بني نمير فقبلوا وحدثوا وزار بنو نمير بني جعفر فلم يقبلوا فاستنجدوا ابن الطثرية فزار معهم بيوت بني جعفر فأنشدهن وحدثهن فأعجبن به واجتمعن إليه من البيوت فتوعد بنو جعفر ابن

الطثرية فتتاركوا وأمسك بعضهم عن بعض فأرسلت أسماء الجعفرية إلى ابن الطثرية أن لا تقطعني وإن منعت فإني سأتخلص إلى لقائك فأنشأ يقول
( خَلِيلَيَّ بين المنحَنَى من مُخَمّرٍ ... وبين اللِّوَى من عَرْفَجَاءَ المُقَابِلِ )
( قِفَا بين أعناقِ اللِّوى لمُرَيَّةٍ ... جَنُوبٍ تُداوِي غُلَّ شَوْقٍ مُمَاطِلِ )
( لكَيْما أَرَى أسماءَ أو لِتَمَسَّنِي ... رياحٌ برَيَّاها لِذَاذُ الشَّمائِلِ )
( لقد حادَلتْ أسماءُ دونَك باللِّوَى ... عيونَ العِدَا سَقْياً لها من مُحَادِلِ )
( ودسَّتْ رسولاً أنّ حَوْلِي عِصَابةً ... هُمُ الْحَرْبُ فاسْتَبطِنْ سلاحَ المُقَاتِلِ )
( عشيَّةَ ما لي من نصيرٍ بأرضها ... سوى السَّيْفِ ضَمَّتْهُ إليَّ حَمَائلي )
( فيأيُّها الواشون بالغِشِّ بيننا ... فُرَادَى ومَثْنَى من عدوٍّ وعاذِل )
( دَعُوهنَّ يَتْبَعْنَ الهوى وتبادَلوا ... بنا ليس بأسٌ بيننا بالتَّبَادُل )
( تَرَوْا حين نأتيهنّ نحنُ وأنْتُمُ ... لِمَنْ وعلى مَنْ وَطْأةُ المُتَثَاقِلِ )
( ومَنْ عُرِّيتْ للَّهو قِدْماً رِكَابُه ... وشاعت قَوَافي شعرِه في القبائل )
( تُبَرِّزْ وجوهُ السابقين ويَخْتَلِطْ ... على المُقْرِفِ الكافي غبارُ القنابل )
( فإنْ تمنَعوا أسماءَ أو يَكُ نَفْعُها ... لكم أو تَدِبُّوا بيننا بالغوائل )
( فلن تمنعوني أنْ أُعَلِّل صُحْبَتي ... على كل شيء من مدى العينِ قابل )

حبس لديون عليه
قال إسحاق وحدثني أبو زياد الكلابي
أن يزيد بن الطثرية كان شريفا متلافا يغشاه الدين فإذا أخذ به قضاه عنه أخ له يقال له ثور ثم إنه كثر عليه دين لمولى لعقبة بن شريك الحرشي يقال له البربري فحبسه له عقبة بالعقيق من بلاد بني عقيل وعقبة عليها يومئذ أمير وقال المفضل بن سلمة قال أبو عمرو الشيباني كان يزيد قد هرب منه فرجع إليه من حب اسماء وكانت جارة البربري فأخذه البربري ويقال إنه أعطاه بعيرا من إبل ثور أخيه فقال يزيد في السجن
( قضى غُرَمائي حبُّ أسماءَ بعد ما ... تَخَوَّنني ظلمٌ لهم وفجورُ )
( فلو قَلَّ دَيْنُ البربريّ قضيتُه ... ولكنّ دَيْنَ البربريّ كثيرُ )
( وكنتُ إذا حَلَّتْ عليّ ديونُهم ... أضُمّ جَنَاحِي منهمُ فأطيرُ )
( عليّ لهم في كل شهرٍ أَدِيَّةٌ ثمانون وافٍ نَقْدُها وجَزورُ )
( نَجِيءُ إلى ثَوْرٍ ففِيمَ رحيلُنا ... وثَورٌ علينا في الحياة صَبُورُ )
( أشُدّ على ثَوْرٍ وثورٌ إذا رأى ... بنا خَلَّةً جَزْلُ العطاء غفورُ )
( فذلك دَأْبي ما بَقِيتُ وما مَشَى ... لِثوْرٍ على ظهر البِلاد بعيرُ )
ويروى فهذا له ما دمت حيا ثم إن عقبة حج على جمل له يقال له ابن الكميت أنجب ما ركب الناس وثبت ابن الطثرية في السجن حتى انصرف عقبة بن شريك من مكة فأرسل ابن الكميت في مخاضة مستقبلة الربيع وهي حاضرة العقيق تأكل الغضى وتشرب بأحسائه وانحدر عقبة نحو اليمامة وعليها المهاجر بن عبد الله الكلابي فلما ضاقت بابن الطثرية المخارج قال له صاحب له لا أعلم لك أنجى إن قدرت على الخروج من

السجن إلا أن تركب ابن الكميت فينجيك نحو بلد من البلاد فلم يزل حتى جعل للحداد على أن يرسله ليلةً إلى ابن عمه جعلا فشكا إليه وجده بها فأرسله فمضى يزيد نحو الإبل عشاء فاحتكم ابن الكميت حتى جلس عليه فوجهه قصد اليمامة يريد عقبة بن شريك وقال في طريقه
( لَعَمْريَ إن ابن الكُمَيْتِ على الوَجَا ... وسَيْريَ خَمْساً بعد خَمْسٍ مُكَمَّلُ )
( لَطَلْقُ الهَوَادِي بالوَجِيفِ إذا وَنَى ... ذواتُ البَقَايا والعَتِيقُ الهَمَرْجَلُ )
فورد اليمامة فأناخ بابن الكميت على باب المهاجر فكان أول من خرج عليه عقبة بن شريك فلما نظر إليه عرفه وعرف الجمل فقال ويحك أيزيد أنت قال نعم وهذا ابن الكميت قال نعم قال ويحك فما شأنك قال يا عقبة فار منك إليك وأنشده قصيدته التي يقول فيها
( يا عُقْب قد شُذِبَ اللِّحاءُ عن العصا ... عنِّي وكنتُ مُؤَزَّراً محمودا )
( صِلْ لي جَناحِي واتَّخِذْني عُدَّةً ... ترمي بي المُتَعَاشِيَ الصِّنْدِيدا )
فقال له عقبة وكانت من خير فعلة علمناه فعلها أشهدكم أني قد أبرأته من دين البربري وأن له ابن الكميت وأمره أن يحتكم فيما سوى ذلك من ماله
وهذان البيتان من القصيدة التي أولها
( أمسى الشبابُ مُوَدَّعاً محمودا ... )
وهي من جيد شعره يقول فيها

( ومُدِلَّةٍ عند التبذُّل يَفْتَرِي ... منها الوِشَاحُ مُخَصَّراً أُملودا )
( نازعتُها غُنْمَ الصِّبَا إنّ الصِّبَا ... قد كان منِّي للكواعب عِيدا )
( يا لَلرِّجالِ وإنما يشكو الفتى ... مَرَّ الحوادث أو يكونَ جليدا )
( بَكَرتْ نَوَارُ تَجُدُّ باقيةَ القُوَى ... يومَ الفِراق وتُخْلِف الموعودا )
( ولَرُبَّ أمرِ هَوًى يكون نَدامةً ... وسبيل مَكْرَهَةٍ يكون رشيدا )
ثم قال يفخر
( لا أتَّقِي حَسَكَ الضَّغائنِ بالرُّقى ... فِعْلَ الدَّليلِ وإن بَقِيتُ وحيدا )
( لكنْ أُجَرِّد للضغائن مثلَها ... حتى تموتَ وللحُقود حُقودا )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح قال
قال أبو محضة الأعرابي وأنشد هذه الأبيات ليزيد بن الطثرية هي والله من مغنج الكلام
( بِنَفْسِيَ مَنْ لو مَرَّ بَرْدُ بَنانِهِ ... على كبدي كانت شفاءً أنامِلُهْ )
( ومَنْ هابَني في كلّ شيء وهِبْتُه ... فلا هو يُعطيني ولا أنا سائلُهْ )
وهذه الأبيات من قصيدته التي قالها في وحشية الجرمية التي مضى ذكرها

أعداؤه يستولون على راحلته
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظبية قالت
مر يزيد بن الطثرية بأعداء له فأرادوه وهو على راحلته فركضها وركضوا الإبل على أثره فخشي أن يدركوه وكانت نفسه عنده أوثق من الراحلة فنزل فسبقهم عدوا وأدركوا الراحلة فعقروها فقال في ذلك
( أَلاَ هل أتى ليلَى على نَأْي دارِها ... بأن لم أُقاتِلْ يومَ صَخْرٍ مُذَوِّدا )
( وأنِّيَ أسلمتُ الرِّكابَ فعُقِّرتْ وقد كنتُ مِقْداماً بسيفي مُفْرَدا )
( أثرتُ فلم أَسْطِعْ قتالا ولا ترى ... أخا شِيعةٍ يوماً كآخر أَوْحَدا )
( فهل تَصْرِمَنَّ الغانياتُ مودَّتي ... إذا قيل قد هاب المنونَ فعّرَّدا )
هجوه لفديك الجرمي لأنه عذب وحشية
أخبرني يحيى إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي زياد قال
كان يزيد بن الطثرية يتحدث إلى نساء فديك بن حنظلة الجرمي ومنزلهما بالفلج فبلغ ذلك فديكا فشق عليه فزجر نساءه عن ذلك فأبين إلا أن يدخل عليهن يزيد فدخل عليهن فديك ذات يوم وقد جمعهن جميعا أخواته وبنات عمه وغيرهن من حرمه ثم قال لهن قد بلغني أن يزيد دخل عليكن وقد نهيتكن عنه وإن لله علي نذرا واجبا واخترط سيفه إن لم أضرب

أعناقكن به فلما ملأهن رعبا ضرب عنق غلام له مولد يقال له عصام فقتله ثم أنشأ يقول
( جعلتُ عصاماً عِبْرةً حين رابَني ... أَنَاسِيُّ من أهلي مِرَاضٌ قلوبُها )
ثم إن فديكا رأى يزيد قائما عند باب أهله فظن أنه يواعد بعض نسائه فارتصده على طريقه وأمر بزبية فحفرت على الطريق ثم أوقد فيها نارا لينة ثم اختبأ في مكان ومعه عبدان له وقال لهما تبصرا هل تريان أحدا فلم يلبثا إلا قليلا حتى خرجت بنت أخي فديك وكان يقال لها وحشية تتهادى في برودها لميعاد يزيد فأيقظه العبدان ومضت حتى وقعت على الزبية فاحترق بعضها وأمر بها فأخرجت واحتملها العبدان فانطلقا بها إلى داره فقال فديك
( شفى النفسَ من وَحْشِيَّةَ اليوم أنَّها ... تَهَادَى وقد كانت سريعاً عَنِيقُها )
( فإلاَّ تَدَعْ خَبْطَ المَوارِدِ في الدُّجَى ... تَكُنْ قَمَناً من غَشْيةٍ لا تُفِيقُها )
( دواءُ طبيبٍ كان يعلم أنَّه ... يُداوي المجانينَ المُخلَّى طريقُها )
فبلغ ذلك يزيد فقال
( سَتَبْرَأُ من بعدِ الضَّمَانَةِ رجلُها ... وتأتي الذي تَهْوَى مُخَلًّى طريقُها )
( عليّ هَدَايا البُدْنِ إن لم أُلاَقِها ... وإن لم يكن إلا فُدَيْكٌ يسوقها )
( يُحَصِّنها منِّي فديكٌ سَفَاهةً ... وقد ذهبتْ فيها الكُبَاسُ وحُوقُها )
( تُذيقونها شيئاً من النَّار كلَّما ... رأتْ من بني كعبٍ غلاماً يَرُوقها )

قال وإنما كانت وضعت رجلها فأحرقتها النار
وقال يزيد أيضا
( يا سُخْنَةَ العينِ لِلجَرْميّ إذ جمعَتْ ... بيني وبين نَوَارٍ وحشةُ الدارِ )
( خُبِّرتُهمْ عذَّبوا بالنارِ جارتَهم ... ومَنْ يُعَذِّبُ غيرَ اللَّه بالنار )
فبلغ ذلك فديكا فقال
( أحالفةٌ عليك بنو قُشَيْرٍ ... يمينَ الصَّبْرِ أم متحرِّجونا )
ويروى يمين اللَّه
( فإنْ تَنْكُلْ قُشَيْرٌ تَقْضِ جَرْمٌ ... وتقض لها مع الشبه اليقينا )
( أليس الجَوْرُ أنّ أباك منَّا ... وانَّك في قبيلةِ آخرينا )
( لَعَمْرُ اللَّهِ إن بني قُشَيْرٍ ... لِجَرْم في يزيدَ لظالمونا ) فإلاَّ يحلِفوا فعليك شَكْلٌ ... ونَجْرٌ ليس مما يعرفونا )
( وأعرِفُ فيك سِيمَا آلِ صَقْرٍ ... ومِشْيتَهم إذا يتخيَّلونا )
قال وكانت جرم تدعيه وقشير تدعيه فأراد أن يخبر أنه دعي
وقال فديك بن حنظلة يهجوه
( وإنَّا لسيَّارون بالسُّنَّة التي ... أُحِلَّتْ وفينا جَفْوةٌ حين نُظْلَمُ )
( ومنَّا الذي لاقْته أُمُّك خالياً ... فلم تدرِ ما أيّ الشهورِ المحرَّمُ )
فقال يزيد يهجو فديكا
( أنعتُ عَيْراً من عُيُورِ القَهْرِ ... أَقْمَرَ من شرِّ حَمِيرٍ قُمْرِ )

( صبَّح أبياتَ فُدَيْكٍ يجري ... منزلةَ اللُّؤم ودارَ الغَدْرِ )
( فلَقِيْتُه عند بابِ العَقْرِ ... يَنْشِطُها والدِّرْعُ عند الصَّدرِ )
( نَشْطَكَ بالدَّلْوِ قَرَاحَ الجَفْرِ ... )
أخبرنا يحيى بن علي إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثنا أبو الحارث هانىء بن سعد الخفاجي قال
ذكرت ليزيد بن الطثرية امرأة حدثة جميلة فخرج حتى يدفع إليها فوجد عندها رجلين قاعدين يتحدثان فسلم عليهم فأوجست أنه يزيد ولم تتثبت ورأت عليه مسحة فقالت أي ريح جاءت بك يا رجل قال الجنوب قالت فأي طير جرت لك الغداة قال عنز زنمة رأيتها يداورها ثعلبان فانقض عليها سرحان فراغ الثعلبان قال فطفرت وراء سترها وعرفت أنه يزيد
قال إسحاق وحدثني عطرد قال
قال قطري بن بوزل ليزيد بن الطثرية انطلق معي إلى فلانة وفلانة فإنهن يبرزن لك ويستترن عني عسى أن أراهن اليوم على وجهك فذهب به معه فخرج عليهما النسوة وظلا يتحدثان عندهن حتى تروحا وقال يزيد في ذلك

( على قَطَرِيٍّ نعمةٌ إن جرى بها ... يزيدَ وإلاَّ يَجْزِهِ اللَّهُ لي أجْرا )
( دنوتُ به حتَّى رَمَى الوحشَ بعدما ... رأى قَطَرِيُّ من أوائلها نَفْرا )

خبره مع رجل من صداء أحب خثعمية فأعانه يزيد عليها
أخبرنا يحيى إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عطرد قال
نزل نفر من صداء بناحية العقيق وهو منزل ابن الطثرية نصف النهار فلم يأتهم أحد فأبصرهم ابن الطثرية فمر عليهم وهو منصرف وليسوا قريبا من أهله فلما رآهم مرملين أنفذ إليهم هدية ومضى على حياله ولم يراجعهم فسألوا عنه بعد حتى عرفوه فحلا عندهم وأعجبهم ثم إن فتى منهم واده فآخاه فأهدى له بردا وجبة ونعلين ثم أغار المقدم بن عمرو بن همام بن مطرف بن الأعلم بن ربيعة بن عقيل على ناس من خثعم وفي ذلك يقول الشاعر
( مُغَار ابنَ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعَمَا ... )
فأخذ منهم إبلا ورقيقا وكانت فيهن جارية من حسان الوجوه وكان يهواها الذي آخى يزيد فأصابه عليها بلاء عظيم حتى نحل جسمه وتغيرت حاله فأقبل الفتى حتى نزل العقيق متنكرا فشكا إلى يزيد ما أصابه في تلك الجارية فقال أفيك خير قال نعم قال فإني أدفعها إليك فخبأه في عريش له اياما حتى خطف الجارية فدفعها إليه فبعث إليها قطري بن بوزل فاعترض لها بين أهلها وبين السوق فذهب بها حتى دفعها إليه وقد وطن له ناقة مفاجة فقال النجاة فإنك لن تصبح حتى تخرج من بلاد قشير وتصير إلى دار

نهد فقد نجوت وأنا أخفي أثرك فعفى أثره وقال لابنة خمارة كان يشرب عندها إسحبي ذيلك على أثره ففعلت ثم بحث على ذلك حتى قيل قد كان قطري أحدث الناس بها عهدا فاستعدي عليه فظفر بيزيد فأخذ مكانه فحبس بحجر حبسه المهاجر ففي ذلك يقول يزيد
( أَلاَ لا أُبَالِي إن نجا لي ابنُ بَوْزَلٍ ... ثَوَائِي وتَقْيِيدِي بِحُجْرِ لَيَالِيَا )
( إذا حُمَّ أمرٌ فهو لا بدَّ واقعٌ ... له لا أُبالِي ما عليّ ولا لِيَا )
( هو العَسَلُ الماذِيُّ طوراً وتارةً ... هو السَّمُّ والذّيفان واللَّيْث عاديا )
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب عن محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبو الغراف قال
كان يزيد بن الطثرية صاحب غزل ومحادثة للنساء وكان ظريفا جميلا من أحسن الناس كلهم شعرا وكان أخوه ثور سيدا كثير المال والنخل والرقيق وكان متنسكا كثير الحج والصدقة كثير الملازمة لإبله ونخله فلا يكاد يلم بالحي إلا الفلتة والوقعة وكانت إبله ترد مع الرعاء على أخيه يزيد بن الطثرية فتسقى على عينه فبينا يزيد مار في الإبل وقد صدر عن الماء إذ مر بخباء فيه نسوة من الحاضر فلما رأينه قلن يا يزيد أطعمنا لحما فقال أعطينني سكينا فأعطينه ونحر لهن ناقة من إبل أخيه وبلغ الخبر أخاه فلما جاءه أخذ بشعره وفسقه وشتمه فأنشأ يزيد يقول
( يا ثَوْرُ لا تشتُمَنْ عِرْضِي فداك أبي ... فإنما الشتمُ للقوم العَوَاويرِ )

( ما عَقْرُ نابٍ لأمثال الدُّمَى خُرُدٍ ... عِينٍ كِرامٍ وأبكارٍ مَعَاصِيرِ )
( عَطَفْنَ حَوْلِيَ يسألْنَ القِرَى أُصُلاً ... وليس يَرْضَيْنَ منِّي بالمَعاذير )
( هَبْهُنَّ ضيفاً عَرَاكم بعد هَجْعَتِكم ... في قِطْقِطٍ من سَقِيطِ اللَّيل منثورِ )
( وليس قُرْبَكُمُ شاءٌ ولا لبنٌ ... أيرجَلُ الضيفُ عنكم غيرَ مجبور )
( ما خيرُ واردةٍ للماء صادرةٍ ... لا تنجلي عن عَقِيرِ الرِّجْل منحور )

شعره في امرأة أحبها سبعة رجال
أخبرني أبو خليفة قال قال ابن سلام
كان يزيد بن الطثرية يتحدث إلى امرأة ويعجب بها فبينما هو عندها إذ حدث لها شاب سواه قد طلع عليه ثم جاء آخر ثم آخر فلم يزالوا كذلك حتى تموا سبعة وهو الثامن فقال
( أرى سبعةً يَسْعَوْنَ للوصلِ كلُّهم ... له عند ليلَى دِينةٌ يستدينُها )
( فألقَيْتُ سهمي وسْطَهم حين أَوْخَشُوا ... فما صار لي من ذاك إلاَّ ثَمِينُها )
( وكنتُ عَزُوفَ النَّفْسِ أَشْنأُ أن أرَى ... على الشِّرْك من وَرْهاء طَوْعٌ قَرِينُها )
( فيوماً تراها بالعهود وَفِيَّةً ... ويوماً على دِين ابن خَاقَانَ دينُها )

( يَداً بِيَدٍ مَنْ جاء بالعَين منهمُ ... ومَنْ لم يجىء بالعين حِيزَتْ رُهونُها )
وقال فيها وقد صارمها
( أَلاَ بِأبِي مَنْ قد بَرَى الجسمَ حُبُّهُ ... ومَنْ هو مرموقٌ إليّ حبيبُ )
( ومن هو لا يزداد إلا تَشَوُّقاً ... وليس يُرَى إلاَّ عليه رقيبُ )
( وإنِّي وإن أَحْمَوْا عليَّ كلامَها ... وحالت أعادٍ دونها وحُروبُ )
( لَمُثْنٍ على ليلَى ثناءً يزيدها ... قَوَافٍ بأفواه الرُّواةِ تَطِيبُ )
( ألَيْلَى احْذَرِي نَقْضَ القُوى لا يَزَلْ لنا ... على النأْيِ والهِجْرانِ منكِ نصيبُ )
( وكُونِي على الواشين لَدَّاءَ شَغْبَةً ... كما أنا للواشي ألدُّ شَغُوبُ )
( فإنْ خِفْتِ أَلاَّ تُحْكِمِي مِدَّةَ القُوَى ... فرُدِّي فؤادي والمَزارُ قريبُ )
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن رجل من بني عامر ثم من بني خفاجة قال
استعذب جرم على ابن الطثرية في وحشية أمرأة منهم كان يشبب بها فكتب بها صاحب اليمامة إلى ثور أخي يزيد بن الطثرية وأمره بأدبه فجعل عقوبته حلق لمته فحلقها فقال يزيد
( أقول لِثَوْرٍ وهو يَحْلِقُ لِمَّتِي ... بحَجْنَاءَ مردودٍ عليها نِصَابُها )
قال عبد الرحمن كان عمي يحتج في تأنيث الموسى بهذا البيت
( تَرَفَّقْ بها يا ثورُ ليس ثوابُها ... بهذا ولكن غيرُ هذا ثوابُها )

( أَلاَ ربَّما يا ثَوْرُ قد غَلَّ وَسْطَها ... أَنَامِلُ رَخْصاتٌ حديثٌ خِضَابُها )
( وتَسْلُك مِدْرَى العاج في مُدْلَهِمَّةٍ ... إذا لم تُفَرَّجْ مات غَمّاً صُؤابُها )
( فراح بها ثَوْرٌ تَرِفُّ كأنها ... سلاسلُ دِرْع خِيرُهاوانسكابُها )
( مُنَعَّمةٌ كالشَّرْيَةِ الفَرْدِ جادَها ... نِجَاءُ الثُّريَّا هَطْلُها وذِهَابُها )
( فأصبح رأسي كالصُّخَيْرة أَشْرفتْ ... عليها عُقَابٌ ثم طارتْ عُقابُها )
ونظير هذا الخبر أخبار من حلقت جمته فرثاها وليس من هذا الباب ولكن يذكر الشيء بمثله
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن عن عمه قال
شرب طخيم الأسدي بالحيرة فأخذه العباس بن معبد المري وكان على شرط يوسف بن عمر فحلق رأسه فقال
( وبالحِيرةِ البَيْضاء شيخٌ مُسَلَّطٌ ... إذا حلَف الأيمانَ بالله بَرَّتِ )
( لقد حَلَقُوا مِنَّا غُدَافاً كأنها ... عَناقيدُ كَرْمٍ أَيْنعتْ فاسْبَطَرَّتِ )
( يَظَلّ العّذارَى حين تُحْلَقُ لِمَّتِي ... على عَجَلٍ يَلْقُطْنَها حين جُزَّتِ )
أخبرني محمد عن عبد الرحمن عن عمه عن بعض بني كلاب قال
أخذ فتى منا مع بعض فتيات الحي فحلق رأسه فقال

( يا لِمَّتِي ولقد خُلقْتِ جَميلةً ... وكرُمْتِ حين أصابكِ الجَلَمانِ )
( أمستْ تَرُوق الناظرين وأصبحتْ ... قَصَصاً تكون فواصلَ المَرْجان )

شعره في أخيه ثور
أخبرني وكيع قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدثنا أبو محلم قال
كان ليزيد بن الطثرية أخ يقال له ثور أكبر منه فكان يزيد يغير على ماله ويتلفه فيتحمله ثور لمحبته إياه فقال يزيد في ذلك
( نُغِيرُ على ثَوْرٍ وثورٌ يَسُرُّنا ... وثورٌ علينا في الحياة صَبُورُ )
( وذلك دَأبِي ما حَيِيتُ وما مَشَى ... لثورٍ على عَفْرِ التُّرابِ بعيرُ )
مقتله ورثاء الشعراء له
وقتل يزيد بن الطثرية في خلافة بني العباس قتلته بنو حنيفة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل بن سلمة عن أبي عبيدة وابن الكلبي وأخبرنا يحيى بن علي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي الجراح العقيلي قال

أغارت بنو حنيفة على طائفة من بني عقيل ومعهم رجل من بني قشير جار لهم فقتل القشيري ورجل من بني عقيل واطردت إبل من العقيليين فأتى الصريخ عقيلا فلحقوا القوم فقاتلوهم فقتلوا من بني حنيفة رجلا وعقروا أفراسا ثلاثة من خيل حنيفة وانصرفوا فلبثوا سنة ثم إن عقيلا انحدرت منتجعة من بلادها إلى بلاد بني تميم فذكر لحنيفة وهم بالكوكبة والقيضاف فغزتهم حنيفة وحذر العقيليون وأتتهم النذر من نمير فانكشفوا فلم يقدروا عليهم فبلغ ذلك من بني عقيل وتلهفوا على بني حنيفة فجمعوا جمعا ليغزوا حنيفة ثم تشاوروا فقال بعضهم لا تغزوا قوما في منازلهم ودورهم فيتحصنوا دونكم ويمتنعوا منكم ولا نأمن أن يفضحوكم فأقاموا بالعقيق وجاءت حنيفة غازية كعبا لا تتعداها حتى وقعت بالفلج فتطاير الناس ورأس حنيفة يومئذ المندلف وجاء صريخ كعب إلى أبي لطيفة بن مسلم العقيلي وهو بالعقيق أمير عليها فضاق بالرسول ذرعا وأتاه هولٌ شديد فأرسل في عقيل يستمدها فأتته ربيعة بن عقيل وقشير بن كعب والحريش بن كعب وأفناء خفاجة وجاش إليه الناس فقال إني قد أرسلت طليعة فانتظروها حتى تجيء ونعلم ما تشير به قال أبو الجراح فأصبح صبح ثالثة على فرس له يهتف أعز الله نصركم وأمتعنا بكم انصرفوا راشدين فلم يكن بأس فانصرف الناس وصار في بني عمه ورهطه دنية وإنما فعل ذلك لتكون له السمعة والذكر فكان فيمن سار معه القحيف بن خمير ويزيد بن الطثرية الشاعران فساروا حتى واجهوا القوم فواقعوهم فقتلوا المندلف رموه في عينه وسبوا وأسروا ومثلوا بهم وقطعوا أيدي اثنين منهم وأرسلوهما إلى اليمامة وصنعوا ما أرادوا ولم يقتل ممن كان

مع أبي لطيفة غير يزيد بن الطثرية نشبب ثوبه في جذل من عشرة فانقلب وخبطه القوم فقتل فقال القحيف يرثيه
( أَلاَ تَبْكِي سَرَاةُ بني قشَيْرٍ ... على صِنْديدِها وعلى فَتاها )
( فإنْ يُقْتَلْ يزيدُ فقد قَتَلْنا ... سَرَاتَهُمُ الكهولَ على لِحَاها )
( أبَا المَكْشوحِ بَعْدَك مَنْ يُحَامِي ... وَمَنْ يُزْجِي المَطِيّ على وَجَاها )
وقال القحيف أيضا يرثيه
( إن تقتُلوا منَّا شهيداً صابراً ... فقد تركنا منكُمُ مَجَازِرا )
( عشرين لمَّا يدخُلوا المقابرا ... قَتْلَى أصِيبتْ قَعَصاً نَحائرا )
( نعجاً تَرَى أرجُلَها شَوَاغِرَا ... )
وهذه من رواية ابن حبيب وحده وقال القحيف أيضا ولم يروها إلا ابن حبيب
( يَا عينُ بَكِّي هَمَلاً على هَمَلْ ... على يَزيد ويزيدَ بنِ حَمَلْ )
( قَتَّال أبطالٍ وجَرَّار حُلَلْ ... )
قال ويزيد بن حمل قشيري قتل يومئذ أيضا وقالت زينب بنت الطثرية ترثي أخاها يزيد وعن أبي عمرو الشيباني أن الأبيات لأم يزيد قال وهي من الأزد ويقال إنها لوحشية الجرمية

( أرَى الأَثْلَ من بطن العَقيِق مُجَاوِرِي ... مُقِيماً وقد غالت يزيدَ غوائلُهْ )
( فَتًى قُدَّ قَدَّ السَّيْفِ لا مُتَضَائلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبَّاتُه وَبَآدِلُهْ )
( فتًى لا تَرَى قَدَّ القميص بخَصْرِه ... ولكنَّما تُوهِي القميصَ كواهلُهْ )
( إذا نزل الضِّيفان كان عَذَوَّراً ... على الحيّ حتى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُه )
( يَسُرُّك مظلوماً ويُرضيك ظالماً ... وكلُّ الذي حَمَّلتَه فهو حامِلُه )
( إذا جَدَّ عند الجِدّ أرضاك جِدُّه ... وذو باطلٍ إن شئتَ أَلْهاكَ باطلُهْ )
( مَضَى ووَرِثْناه دَرِيسَ مُفَاضَةٍ ... وأبيضَ هِنْدِيّاً طويلاً حمائلُه )
( وقد كان يَحْمِي المَحْجِرين بسيفه ... ويبلغُ أَقْصَى حَجْرةِ الحيِّ نائلُه )
( فتًى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكِلُه )
( سيَبْكِيه مولاه إذا ما ترفَّعت ... عن الساق عند الرَّوْع يوما ذلاَذِلُه )
الذلذل هدب الثياب
وقد أخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمر بن إبراهيم السعدي عن عباس بن عبد الصمد قال
قال هشام بن عبد الملك للعجير السلولي اصدقت فيما قلت في ابن

عمك قال نعم يا أمير المؤمنين ألا إني قلت
( فتًى قُدّ قَدَّ السيفِ لا متضائِلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبَّاتُه وأبَاجِلُه )
فذكر هذا البيت وحده ونسبه إلى العجير السلولي من الأبيات المنسوبة إلى أخت يزيد بن الطثرية أو إلى أمه وأتى بأبيات أخر ليست منها وسيذكر ذلك في أخبار العجير مشروحا إن شاء الله تعالى
( ومما يغنى فيه من شعر يزيد بن الطثرية قوله

صوت
( بنفسيَ مَنْ لا بدّ انِّيَ هاجِرُه ... ومن أنا في الميسور والعُسْرِ ذاكِرُهْ )
( ومن قد رماه الناسُ بي فاتَّقاهُم ... ببغضيَ إلاَّ ما تُجِنَّ ضمائرُهْ )
عروضه من الطويل غنى في هذين البيتين عبد الله بن العباس الربيعي لحنا من خفيف الثقيل بالبنصر وغنت فيه عريب وفي أبيات أضافتها إليها لحنا من خفيف الثقيل الأول آخر وغنت علية بنت المهدي فيها خفيف رمل وذكر الهشامي أن لإبراهيم فيها لحنا ماخوريا والأبيات المضافة
( بنفسيَ من لا أُخْبِرُ الناسَ باسمه ... وإن حَمَلَتْ حِقْداً عليّ عشائرُهْ )
( بأهلي ومالي من جلَبتُ له الأَذَى ... ومَنْ ذكرُه منِّي قريبٌ أسامرُه )
( ومَنْ لو جرت شَحْناءُ بيني وبينه ... وحاوَرَنِي لم أدْرِ كيف أُحَاورُهْ )

صوت

من المائة المختارة
( شأتْكَ المنازلُ بالأَبْرَقِ ... دوارسَ كالعين في المُهْرَقِ )
( لآلِ جَميلةَ قد أَخْلَقتْ ... ومهما يَطُلْ عهدُه يُخْلِقِ )
( فإن يقُلِ الناسُ لي عاشِقٌ ... فأين الذي هو لم يَعْشَقِ )
( ولم يَبْكِ نُؤْياً على عَبْرةٍ ... بداء الصَّبَابة والمَعْلَق )
شأتك بعدت عنك والشأو البعد يقال جرى الفرس شأوا يريد طلقا والمهرق الصحيفة والجمع المهارق يريد أن الدار قد بقيت منها طرائق كالصحف وما فيها
الشعر للأحوص والغناء لجميلة ولحنها المختار خفيف رمل بالوسطى عن إسحاق وفيه لعطرد ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه لمعبد خفيف ثقيل عن حبش وفيه رمل يقال إنه لفريدة ويقال إنه لمالك وقيل إن الثقيل الأول لابن عائشة وذكر عمرو بن بانة أن خفيف الرمل لعطرد أيضا

حذف

ذكر جميلة وأخبارها
هي جميلة مولاة بني سليم ثم مولاة بطن منهم يقال لهم بنو بهز وكان لها زوج من موالي بني الحارث بن الخزرج وكانت تنزل فيهم فغلب عليها ولاء زوجها فقيل إنها مولاة للأنصار تنزل بالسنح وهو الموضع الذي كان ينزله أبو بكر الصديق ذكر ذلك إبراهيم بن زياد الأنصاري الأموي السعيدي وذكر عبد العزيز بن عمران أنها مولاة للحجاج بن علاط السلمي وهي أصل من أصول الغناء وعنها أخذ معبد وابن عائشة وحبابة وسلامة وعقيلة العقيقية والشماسيتان خليدة وربيحة وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة
صوت
( إنّ الدَّلاَل وحسنَ الغناءِ ... وَسْطَ بيوت بني الخزْرجِ )

( وتلكم جميلةُ زينُ النساء ... إذا هي تَزْدان للمَخْرَج )
( إذا جئتَها بَذلتْ وُدَّها ... بوجه مُنيرٍ لها أَبْلَجِ )
الشعر لعبد الرحمن بن أرطأة والغناء لمالك خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى ويقال فيه للدلال وجميلة لحنان

جميلة هي أصل الغناء
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي جعفر القرشي عن المحرزي قال
كانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء وكان معبد يقول أصل الغناء جميلة وفرعه نحن ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين
أنى لها هذا الغناء
قال إسحاق وحدثني ايوب بن عباية قال حدثني رجل من الأنصار قال
سئلت جميلة أنى لك هذا الغناء قالت والله ما هو إلهام ولا تعليم ولكن ابا جعفر سائب خاثر كان لنا جاراً وكنت أسمعه يغني ويضرب بالعود فلا أفهمه فأخذت تلك النغمات فبنيت عليها غنائي فجاءت أجود من تأليف ذلك الغناء فعلمت وألقيت فسمعني موالياتي يوما وأنا أغني سراً ففهمنني ودخلن علي وقلن قد علمنا فما تكتمينا فأقسمن علي فرفعت صوتي وغنيتهن بشعر زهير بن ابي سلمى
( وما ذكرتُكِ إلاَّ هِجْتِ لي طَرَباً ... إنّ المحبَّ ببعض الأمر معذورُ )

( ليس المحبّ بمن إن شَطَّ غيَّره ... هجرُ الحبيب وفي الهِجران تغيرُ )

صوت
( نام الخليّ فنومُ العين تَعْذيرُ ... مما ادَّكرتُ وهمُّ النفس مذكورُ )
( ذكرتُ سَلْمَى وما ذِكْرِي براجِعها ... ودونها سَبْسَبٌ يَهْوي به المُورُ )
الشعر لزهير والغناء في هذين البيتين لجميلة فقط رمل بالوسطى عن حبش فحينئذ ظهر أمري وشاع ذكري فقصدني الناس وجلست للتعليم فكان الجواري يتكاوسنني فربما انصرف أكثرهن ولم يأخذن شيئا سوى ما يمنعنني أطارح لغيرهن ولقد كسبت لموالي ما لم يخطر لهن ببال وأهل ذلك كانوا وكنت
وحدثني أبو خليفة قال حدثني ابن سلام قال حدثني مسلمة بن محمد بن مسلمة الثقفي قال
كانت جميلة ممن لا يشك في فضيلتها في الغناء ولم يدع أحد مقاربتها في ذلك وكل مدني ومكي يشهد لها بالفضل
وصف مجلس من مجالسها غنت فيه وغنى فيه كبار مغنّى مكة والمدينة
قال إسحاق وحدثني هشام بن المرية المدني قال حدثني جرير المدني قال إسحاق وكانا جميعا مغنيين حاذقين شيخين جليلين عالمين ظريفين وكانا قد أسنا فأما هشام فبلغ الثمانين وأما جرير فلا أدري قال جرير

وفد ابن سريج والغريض وسعيد بن مسجح ومسلم بن محرز المدينة لبعض من وفدوا عليه فأجمع رأيهم على النزول على جميلة مولاة بهز فنزلوا عليها فخرجوا يوما إلى العقيق متنزهين فوردوا على معبد وابن عائشة فجلسوا إليهما فتحدثوا ساعة ثم سأل معبد ابن سريج وأصحابه أن يعرضوا عليهم بعض ما ألفوا فقال ابن عائشة إن للقوم أعمالا كثيرة حسنة ولك أيضا يا ابا عباد ولكن قد اجتمع علماء مكة وأنا وأنت من اهل المدينة فليعمل كل واحد منا صوتا ساعته ثم يغن به قال معبد يابن عائشة قد أعجبتك نفسك حتى بلغتك هذه المرتبة قال ابن عائشة أوغضبت يا ابا عباد إني لم اقل هذا وأنا أريد أن أتنقصك فإنك لأنت المفاد منه قال معبد أما إذ قد اختلفنا واصحابنا المكيون سكوت فلنجعل بيننا حكما قال ابن عائشة إن أصحابنا شركاء في الحكومة قال ابن سريج على شريطة قال على أن يكون ما نغني به من الشعر ما حكمت فيه امرأة قال ابن عائشة ومعبد رضينا وهي أم جندب فأجمع رأيهم على الاجتماع في منزل جميلة من غد فلما حضروا قال ابن عائشة ما ترى يا ابا عباد قال أرى أن يبتدىء أصحابنا أو أحدهم قال ابن سريج بل أنتما أولى قالا لم نكن لنفعل فأقبل ابن سريج على سعيد بن مسجح فسأله أن يبتدىء فأبى فأجمع رأي المكيين على أن يبتدىء ابن سريج فغنى ابن سريج

صوت
( ذهبتَ من الهِجْران في غير مَذْهبِ ... ولم يَكُ حقّاً كلُّ هذا التجنُّبِ )
( خليليّ مُرَّا بي على أمّ جُنْدَب ... أقَضِّ لُباناتِ الفؤاد المُعَذَّبِ )
( فإنَّكما إن تُنْظِرانِيَ ساعةً ... من الدَّهر تَنْفَعْني لدى أمّ جُنْدَبِ )
( أَلم تَرَياني كلَّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ )
الشعر لامرىء القيس ولابن سريج فيه لحنان ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى وخفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى جميعا عن إسحاق
وغنى معبد
صوت
( فَلِلَّهِ عينَا مَنْ رأى مِنْ تَفَرُّقٍ ... أَشَتَّ وأَنْأَى من فِراق المُحَصَّبِ )
( عَلَوْنَ بأَنطاكيَّةٍ فوق عِقْمَةٍ ... كجِرْمَةِ نخلٍ أو كجَنَّة يَثْرِبِ )
( فريقانِ منهم سالكٌ بطنَ نَخْلَةٍ ... وآخَرُمنهم جازعٌ نَجْدَ كَبْكَب )
( فَعَيْناكَ غَرْبَا جَدْوَلٍ في مُفَاضةٍ ... كَمَرِّ خَلِيجٍ في سَنيحٍ مُثَقَّبِ )

وغنى ابن مسجح

صوت
( وقالت فإن يُبْخَلْ عليكَ ويُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ وإن يُكْشَفْ غرامُك تَدْرَبِ )
( وإنَّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخِرٍ ... ضعيفٍ ولم يَغْلبك مثلُ مُغَلَّبِ )
( وإنك لم تَقْطَعْ لُبَانَةَ عاشقٍ ... بمثل بُكُور أو رَوَاحٍ مُؤَوَّبِ )
( بأَدْمَاءَ حُرْجُوجٍ كأنَّ قُتُودَها ... على أبْلَقِ الكَشْحَيْن ليس بمُغْرَبِ )
( يغرِّد بالأسْحارِ في كلّ سُدْفةٍ ... تَغُرُّدَ مَيَّاحِ النَّدَامَى المُطَرِّبِ )
وغنى ابن عائشة
صوت
( وقد أَغْتَدي والطيرُ في وُكُنَاتِها ... وماءُ النَّدَى يَجْرِي على كل مِذْنَبِ )
( بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابدِ لاحَهُ ... طِرادُ الهَوَادِي كلَّ شَأْوٍ مُغَرِّبِ )

( إذا ما جَرَى شَأْوَيْنِ وابتَلَّ عِطْفُه ... تقول هَزِيزُ الرِّيح مَرَّتْ بأَثْأَبِ )
( له أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقَا نَعَامةٍ ... وصَهْوةُ عَيْرٍ قائم فوقَ مَرْقَبِ )
وغنى أبن محرز

صوت
( فلِلسَّوْطِ ألْهُوبٌ وللساق دِرَّة ... وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِب )
( فأَدْرك لم يَجْهَدْ ولم يُبْلِ شَدَّه ... يَمُرُّ كخُذْرُوفِ الوَليد المُثَقَّبِ )
( تَذُبُّ به طَوْراً وطَوْراً تُمِرُّه ... كَذَبِّ البَشير بالرِّداء المُهَدَّبِ )
( إذا ما ضربتُ الدَّفَّ أو صُلْتُ صَوْلةً ... تَرَقَّبُ منِّي غيرَ أَدْنَى تَرَقُّبِ )
وغنَّى الفريض
صوت
( أخا ثقةٍ لا يَلْعَنُ الحيُّ شخصَه ... صبوراً على العِلاَّتِ غيرَ مُسَبَّب )

( رأينا شِياهاً يَرْتَعِينَ خَمِيلةً ... كَمَشْي العَذَارَى في المُلاَء المُجَوَّبِ )
( وما أنت أَمْ مَا ذِكْرُها رَبَعِيَّةً ... تَحُلّ بإيرٍ أو بأكناف شُرْبُب )
( أطعتُ الوُشَاةَ والمُشَاةَ بصُرْمِها ... فقد أنْهَجَتْ حِبَالُها للتقضُّب )
فقالت جميلة كلكم محسن وكلكم مجيد في معناه ومذهبه قال ابن عائشة ليس هذا بمقنع دون التفضيل فقالت أما أنت يا أبا يحيى فتضحك الثكلى بحسن صوتك ومشاكلته للنفوس وأما أنت يا أبا عباد فنسيج وحدك بجودة تأليفك وحسن نظمك مع عذوبة غنائك وأما أنت يا أبا عثمان فلك أولية هذا الأمر وفضيلته وأما أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح وأما أنت يا أبا الخطاب فلو قدمت أحدا على نفسي لقدمتك وأما انت يا مولى العبلات فلو ابتدأت لقدمتك عليهم ثم سألوها جميعا أن تغنيهم لحنا كما غنوا فغنتهم بيتا لامرىء القيس وأربعة أبيات لعلقمة وهي
( خَلِيليّ مُرَّا بي على أمّ جُنْدَبِ ... أقَضِّ لُباناتِ الفؤاد المُعَذَّبِ )

( لَيَالِيَ لا تَبْلَى نصيحةُ بَيْنِنا ... لياليَ حَلُّوا بالسِّتارِ فغُرَّبِ )
( مُبَتَّلَةٌ كأنَّ أَنْضَاءَ حَلْيِها ... على شادنٍ من صَاحَةٍ مُتَربَّب )
( مَحَالٌ كأَجْواز الجَراد ولؤلؤٌ ... من القَلَقيَّ والكَبِيسِ المُلَوَّب )
( إذا أَلْحم الواشون للشرّ بيننا ... تبلَّغ رَسُّ الحبّ غيرُ المُكَذِّبِ )
فكلهم أقروا لها وفضلوها فقالت لهم ألا أحدثكم بحديث يتم به حسن غنائكم وتمام اختياركم قالوا بلى والله قال الغريض قد والله فهمته يا سيدتي قالت لعنك الله يا مخنث ما أجود فهمك وأحسن وجهك وما يلام فيك أبو يحيى إذ عرفته فهاته حدثنا قال يا سيدتي وسيدة من حضر والله لا نطقت بحرف منه وأنت حاضرة ولك الفضل والعتبى قالت نازع أمرؤ القيس علقمة بن عبدة الفحل الشعر فقال له قد حكمت بيني وبينك أمرأتك أم جندب قال قد رضيت فقالت لهما قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة صفا فيه الخيل فقال أمرؤ القيس
( خَليليّ مُرَّا بي على أمّ جُنْدَب ... أقَضِّ لُباناتِ الفؤادِ المُعَذَّب )
وقال علقمة

( ذهبتَ من الهِجْرانِ في غير مَذْهبِ ... ولم يَكُ حقّاً كلُّ هذا التجنُّبِ )
وأنشداها فغلبت علقمة فقال لها زوجها بأي شيء غلبته قالت لأنك قلت
( فللسَّوْطِ أُلْهوبٌ وللساق درَّةٌ ... وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَهْوجَ مِنْعَبِ )
فجهدت فرسك بسوطك ومريته بساقك وزجرك وأتعبته بجهدك وقال علقمة
( فولَّى على آثارهنَّ بحاصِبٍ ... وغَبْيَةِ شُؤْبُوبٍ من الشَّدِّ مُلْهِب )
( فأدركهنّ ثانياً من عِنَانه ... يَمُرّ كمَرّ الرائح المُتَحلِّبِ )
فلم يضرب فرسه بسوط ولم يمره بساق ولم يتعبه بزجر فقال ابن عائشة جعلت فداك أتأذنين أن أحدث قالت هيه قال إنما تزوج أم جندب حين هرب من المنذر بن ماء السماء فأتى جبلي طيىء وكان مفركا فبينا هو معها ذات ليلة إذ قالت له قم يا خير الفتيان فقد أصبحت فلم يقم فكررت عليه فقام فوجد الفجر لم يطلع فرجع فقال لها ما حملك على ما صنعت فأمسكت وألح عليها فقالت حملني أنك ثقيل الصدر خفيف العجيزة سريع الإراقة بطيء الإفاقة فعرف تصديق قولها وسكت فلما

أصبح أتى علقمة وهو في خيمته وخلفه أم جندب فتذاكروا الشعر فقال امرؤ القيس أنا أشعر منك وقال علقمة مثل ذلك فتحاكما إلى أم جندب ففضلت أم جندب علقمة على امرىء القيس فقال لها بم فضلته علي قالت فرس ابن عبدة أجود من فرسك زجرت وضربت وحركت ساقيك وابن عبدة جامد لا مقتدر فغضب من قولها وطلقها وخلف عليها علقمة فقالت جميلة ما أحسن مجلسنا لو دام اجتماعنا ثم دعت بالغداء فأتي بألوان الأطعمة وأنواع من الفاكهة ثم قالت لولا شناعة مجلسنا لكان الشراب معدا ولكن الليل بيننا فلم يزالوا يومهم ذلك بأطيب مجلس وأحسن حديث فلما جنهم الليل دعت بالشراب ودعت لكل رجل منهم بعود وأخذت هي عودا فضربت ثم قالت اضربوا فضربوا عليها بضرب واحد وغنت بشعر امرىء القيس
( أَأَذْكَرْتَ نفسَكَ ما لن يَعُودَا ... فهاج التَّذكُّرُ قلباً عَمِيدَا )
( تَذَكَّرتَ هنداً وأترابَها ... وأيَّامَ كنتَ لها مُستقيدا )
( ويُعجبك اللَّهْوُ والمُسْمِعاتُ ... فأصبحتَ أزمعتَ منها صُدودا )
( ونادمتُ قَيْصَرَ في مُلكه ... فأوجهني ورَكِبتُ البَريدا )
فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك ثم قالت تغنوا جميعا بلحن واحد فغنوها هذا الشعر والصوت بعينه كما غنته وعلم القوم ما أرادت بهذا الشعر فقال ابن عائشة جعلت فداك نرجو أن يدوم مجلسنا ويؤثر أصحابنا المقام بالمدينة فنواسيهم من كل ما نملكه قال أبو عباد وكيف بذاك فباتوا

بأنعم ليلة وأحسنها قال إسحاق قال أبي قال لي يونس قال أبو عباد لا أعرف يوما واحدا منذ علقت ولا ليلة عند خليفة ولا غيره مثل ذلك اليوم ولا أحسبه يكون بعد قال يونس ولا أدركنا نحن مثل ذلك اليوم ولا بلغنا قال إسحاق ولا أنا ولا أحسب ذلك اليوم يكون بعد

عبد الله بن جعفر يزورها في منزلها لأنها آلت على نفسها أن لا تغني خارجه
وحدثني أبي قال حدثنا يونس قال قال لي أبو عباد
أتيت جميلة يوما وكان لي موعد ظننت أني سبقت الناس إليها فإذا مجلسها غاص فسألتها أن تعلمني شيئا فقالت لي إن غيرك قد سبقك ولا يجمل تقديمك على من سواك فقلت جعلت فداك إلى متى تفرغين ممن سبقني قالت هو ذاك الحق يسعك ويسعهم فينا نحن كذلك إذ أقبل عبد الله بن جعفر وإنه لأول يوم رأيته وآخره وكنت صغيرا كيسا وكانت جميلة شديدة الفرح فقامت وقام الناس فتلقته وقبلت رجليه ويديه وجلس في صدر المجلس على كوم لها وتحوق أصحابه حوله وأشارت إلى من عندها بالانصراف وتفرق الناس وغمزتني أن لا أبرح فأقمت وقالت يا سيدي وسيد آبائي وموالي كيف نشطت إلى أن تنقل قدميك إلى أمتك قال يا جميلة قد علمت ما آليت على نفسك ألا تغني أحداً إلا في منزلك وأحببت الاستماع وكان ذلك طريقا مادا فسيحا قالت جعلت فداك فأنا أصير إليك وأكفر قال لا أكلفك ذلك وبلغني أنك تغنين بيتين لامرىء القيس تجيدين الغناء فيهما وكان الله أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت قالت يا سيدي نعم فاندفعت تغني فغنت بعودها فما سمعت منها قبل ذلك

ولا بعد إلى أن ماتت مثل ذلك الغناء فسبح عبد الله بن جعفر والقوم معه وهما
( ولما رأتْ أنّ الشَّرِيعةَ هَمُّها ... وأنّ البَياضَ من فَرَائِصها دَامِي )
( تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ ... يَفِيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِي )
ولابن مسجح في هذا الشعر صوت وهذا أحسنهما فلما فرغت قالت جميلة أي سيدي أزيدك قال حسبي فقال بعض من كان معه بأبي جعلت فداك وكيف أنقذ الله من المسلمين جماعة بهذين البيتين قال نعم أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبي فضلوا الطريق ووقعوا على غيرها ومكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطلح يائسا من الحياة إذ أقبل راكب على بعير له وأنشد بعض القوم هذين البيتين فقال
( ولما رأتْ أن الشَّرِيعةَ همُّها ... وأنَّ البياضَ من فَرَائِصها دامِي )
( تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِج ... يَفِيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِي )
فقال الراكب من يقول هذا قال امرؤ القيس قال والله ما كذب هذا ضارج عندكم وأشار لهم إليه فحبوا على الركب فإذا ماء عذب وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه فشربوا منه ريهم وحملوا ما اكتفوا به حتى بلغوا الماء فأتوا النبي فأخبروه وقالوا يا رسول الله أحيانا الله عز و جل ببيتين من شعر امرىء القيس وأنشدوه الشعر فقال رسول الله

ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها منسي في الآخرة خامل فيها يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار فكل استحسن الحديث ونهض عبد الله بن جعفر ونهض القوم معه فما رأيت مجلسا كان أحسن منه

عمر بن الخطاب يفضل امرأ القيس على غيره من الشعراء
قال إسحق حدثني بعض أهل العلم عن ابن عياش عن الشعبي قال
رأيت دغفلا النسابة يحدث أنه رأى العباس بن عبد المطلب سأل عمر بن الخطاب عن الشعراء فقال امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصرا قال إسحاق معنى خسف احتفر وهو من كندة من اليمن وليست لهم فصاحة مضر ولا شعرهم بجيد فجعل معاني اليمن معاني عورا وما قاله أصح بصرا أي أجود شعرا ومعنى افتقر احتفر والفقيرة الحفيرة تحفر للفسيلة لتغرس وكل ما ابتدأت حفره فهو فقير والمعنى أنه قال شعرا جيدا وليس هو في معنى شعر مضر
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي
سمعت أبي يقول دخل جدي على بعض ملوك بني أمية فقال ألا تخبرني عن الشعراء قال بلى قال من أشعر الناس قال ابن العشرين يعني طرفة قال فما تقول في امرىء القيس قال اتخذ الخبيث الشعر نعلين فأقسم بالله لو أدركته لرفعت له ذلاذله قال فما رأيك في ابن

أبي سلمى قال كان يبري الشعر قال فما رأيك في ذي الرمة قال قدر من طريف الكلام وغريبه وحسنه على ما لم يقدر عليه حتى أحد صنف الشعر

معبد ومالك يجتمعان في منزل جميلة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني أيوب بن عباية عن رجل من الأنصار قال
زار معبد مالك بن أبي السمح فقال له هل لك أن نصير إلى جميلة فمضيا جميعا فقصداها فأذنت لهما فدخلا فأخرجت إليها رقعة فيها أبيات فقالت لمعبد بعث بهذه الرقعة إلي فلان أغني فيها فقال معبد فابتدئي فابتدأت جميلة فغنت
صوت
( إنما الذَّلْفاءُ همِّي ... فلْيَدَعْنِي من يَلُومُ )
فغنى معبد
( أحسنُ الناسِ جميعاً ... حين تمشي وتقوم )
فغنت جميلة
( حبِّب الذَّلْفاءَ عندي ... مَنْطِقٌ منها رَخيم )
( فغنى معبد
( أَصِلُ الحبلَ لترضَى ... وهي للحبل صَرُومُ )

فغنت جميلة
( حبُّها في القلب داءٌ ... مستكنٌّ لا يَرِيمُ )
طريقة واحدة الشعر للأحوص وذكر ابن النطاح أنه للبختري العبادي والغناء لمعبد وله فيه لحنان خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن ابن المكي وثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر أحمد بن سعيد المالكي أن له فيه خفيف ثقيل آخر وذكر حماد بن إسحاق أن فيه لمالك وجميلة لحنين وقالت لمعبد ولمالك يغني كل واحد منكما لحنا مما عمله فغناها معبد بشعر قاله فيها الأحوص يصفها به وكان معجبا بها وكانت هي له مكرمة وهو قوله
( شَأَتْكَ المنازلُ بالأبْرَق ... دوارسَ كالعين في المُهْرَقِ )
( لآلِ جَميلةَ قد أَخْلقتْ ... ومَهما يَطُلْ عهدُه يُخْلِقِ )
( فإن يقلِ الناسُ لي عاشقٌ ... فأين الذي هو لم يَعْشَقِ )
( ولم يَبْكِ نُؤْياً على عَبْرةٍ ... بداء الصَّبابة والمَعْلَقِ )
في هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى ذكر إسحاق أنه لعطرد وذكر ابن المكي أنه لجميلة وفيها خفيف رمل بالوسطى في مجراها ذكر إسحاق أنه لعطرد أيضا وعمرو وذكر الهشامي أن الثقيل الأول لابن عائشة وذكر حبش أن فيه خفيف ثقيل لمعبد وأن خفيف الرمل لمالك قال معبد فسرت جميلة بما غنيتها به وتبسمت وقالت حسبك يا أبا عباد ولم تكنني قبلها ولا بعدها ثم قالت لمالك يا أخا طيىء هات ما عندك وجنبنا مثل قول عبد ابن قطن فاندفع وغنى بلحن لها وقد تغنى به أيضا معبد لها واللحن

( أَلاَ مَنْ لقلبٍ لا يَمَلُّ فيَذْهَلُ ... أَفِقْ فالتعزِّي عن بُثينةَ أجملُ )
( فما هكذا أحببت مَنْ كان قبلها ... ولا هكذا فيما مضى كنت تفعلُ )
( فإنّ التي أَحْببتَ قد حيلَ دونها ... فكن حازماً والحازم المتحوِّلُ )
لحن جميلة هكذا ثقيل أول بالبنصر وفيه ألحان عدة مع أبيات أخر من القصيدة وهي لجميل فقالت جميلة أحسنت والله في غنائك وفي الأداء عني أما قوله شأتك فأراد بعدت عنك والشأو البعد يقال جرى الفرس شأوا أو شأوين أي طلقا أو طلقين والمهرق الصحيفة بما فيها من الكتابة والجمع مهارق قال ذو الرمة
( كَمُسْتَعْبِرٍ في رَسْم دارٍ كأنَّها ... بوَعْساءَ تَنْضُوها الجماهيرُ مُهْرَقُ )
والعين أن تتعين الإداوة أو القربة التي تخرز ويسيل الماء عن عيون الخرز فشبه ما بقي من الدار بتعين القربة وطرائق خروقها التي ينزل منها الماء شيئا بعد شيء فأما الذلفاء الذي ذكرت فيها فهي التي فتن بها أهل المدينة وقال بعض من كانت عنده بعد ما طلقها
( لا بارَك اللَّهُ في دار عدَدْتُ بها ... طلاقَ ذَلْفاءَ من دارٍ ومن بلدِ )
( فلا يقولَنْ ثلاثاً قائلٌ أبداً ... إني وجدتُ ثلاثاً أنكدَ العدد )
فكان إذا عد شيئا يقول واحد اثنان أربعة ولا يقول ثلاثة

بثينة تبوح لجميلة عن حب جميل لها وعفته
وقالت جميلة حدثتني بثينة وكانت صدوقة اللسان جميلة الوجه

حسنة البيان عفيفة البطن والفرج قالت والله ما أرادني جميل رحمة الله عليه بريبة قط ولا حدثت أنا نفسي بذلك منه وإن الحي انتجعوا موضعا وإني لفي هودج لي أسير إذا أنا بهاتف ينشد أبياتا فلم أتمالك أن رميت بنفسي وأهل الحي ينظرون فبقيت أطلب المنشد فلم أقف عليه فناديت أيها الهاتف بشعر جميل ما وراءك منه وأنا أحسبه قد قضى نحبه ومضى لسبيله فلم يجبني مجيب فناديت ثلاثا وفي كل ذلك لا يرد علي أحد شيئا فقال صواحباتي أصابك يا بثينة طائف من الشيطان فقلت كلا لقد سمعت قائلا يقول قلن نحن معك ولم نسمع فرجعت فركبت مطيتي وأنا حيرى والهة العقل كاسفة البال ثم سرنا فلما كان في الليل إذا ذلك الهاتف يهتف بذلك الشعر بعينه فرميت بنفسي فسعيت إلى الصوت فلما قربت منه انقطع فقلت أيها الهاتف ارحم حيرتي وسكن عبرتي بخبر هذه الأبيات فإن لها شأنا فلم يرد علي شيئا فرجعت إلى رحلي فركبت وسرت وأنا ذاهبة العقل وفي كل ذلك لا يخبرني صواحباتي أنهن سمعن شيئا فلما كانت الليلة القابلة نزلنا وأخذ الحي مضاجعهم ونامت كل عين فإذا الهاتف يهتف بي ويقول يا بثينة أقبلي إلي أنبئك عما تريدين فأقبلت نحو الصوت فإذا شيخ كأنه من رجال الحي فسألته عن اسمه وبيته فقال دعي هذا وخذي فيما هو أهم عليك فقلت له وإن هذا لمما يهمني قال اقنعي بما قلت لك قلت له أنت المنشد الأبيات قال نعم قلت فما خبر جميل قال نعم فارقته وقد قضى نحبه وصار إلى حفرته رحمة الله عليه فصرخت صرخة آذنت منها الحي وسقطت لوجهي فأغمي علي فكأن صوتي لم يسمعه أحد وبقيت سائر ليلتي ثم أفقت عند طلوع الفجر وأهلي يطلبونني فلا يقفون على موضعي ورفعت صوتي بالعويل والبكاء ورجعت إلى مكاني فقال لي أهلي ما خبرك وما شأنك فقصصت عليهم القصة فقالوا يرحم الله جميلا واجتمع نساء الحي وأنشدتهن الأبيات فأسعدنني بالبكاء فأقمن كذلك لا يفارقنني ثلاثا وتحزن الرجال أيضا وبكوا ورثوه وقالوا كلهم يC فإنه كان عفيفا

صدوقا فلم أكتحل بعده بإثمد ولا فرقت رأسي بمخيط ولا مشط ولا دهنته إلا من صداع خفت على بصري منه ولا لبست خمارا مصبوغا ولا إزاراً ولا أزال أبكيه إلى الممات قالت جميلة فأنشدتني الشعر كله وهذا الغناء بعضه وهو
( ألا مَنْ لقلبٍ لا يَمَلُّ فيَذْهَلُ ... أَفِقْ فالتعزِّي عن بُثَينَةَ أجملُ )
قال ابن سلام حدثني جرير قال
زار ابن سريج جميلة ليسمع منها ويأخذ عنها فلما قدم عليها أنزلته وأكرمته وسألته عن أخبار مكة فأخبرها وبلغ معبداً الخبر وكانت تطارحه وتسأله عن أخبار مكة فيخبرها وكانت عندها جارية محسنة لبقة ظريفة فابتدأت تطارحها فقال ابن سريج سبحان الله نحن كنا أحق بالابتداء قالت جميلة كل إنسان في بيته أمير وليس للداخل أن يتأمر عليه فقال ابن سريج صدقت جعلت فداءك وما أدري أيهما أحسن أدبك أم غناؤك فقالت له كف يا عبيد فإن النبي قال احثوا في وجوه المداحين التراب فسكت ابن سريج وطارحت الجارية بشعر حاتم الطائي
( أتعرفُ آثارَ الديار توهُّماً ... كَخَطِّك في رَقٍّ كتاباً مُنَمْنما )
( أذاعتْ به الأرواحُ بعد أَنيسها ... شهوراً وأيَّاماً وحَوْلاً مجرَّما )
( فأصبَحْنَ قد غَيَّرْنَ ظاهرَ تُرْبِه ... وغيَّرتِ الأنواءُ ما كان مَعْلَما )
( وغيَّرها طولُ التقادُم والبِلَى ... فما أعرف الأطلالَ إلا توهَّمَا )

قال فحدثت أنه حضر ذلك المجلس جماعة من حذاق أهل الغناء فكلهم قال مزامير داود قال ابن سريج لها أفأسمعك صوتا لي في هذا الشعر قالت هاته فغنى
( ديار التي قامت تُرِيكَ وقد عَفَتْ ... وأَقْوَتْ من الزُّوَّار كَفّاً ومِعْصَمَا )
( تَهَادَى عليها حَلْيُها ذاتَ بهجة ... وكَشْحاً كطَيِّ السابريَّة أَهْضَما )
( فبانتْ لِطيَّاتٍ لها وتبدَّلتْ ... به بَدَلا مَرَّتْ به الطيرُ أَشْؤُما )
وعاذلتانِ هَبَّتا بعد هَجْعةٍ ... تَلُومانِ مِتْلافاً مُفِيداً ملوَّما )
قالت جميلة أحسنت يا عبيد وقد غفرنا لك زلتك لحسن غنائك قال معبد جعلت فداءك أفلا أسمعك أنا ايضا لحنا عملته في هذا الشعر قالت هات وإني لأعلم انك تحسن فاندفع فغنى
( فقلتُ وقد طال العتاب عليهما ... وأَوْعَدتَانِي أن تَبِينَا وتَصْرِمَا )
( ألا لا تَلُومانِي على ما تَقَدَّما ... كَفَى بصُرُوف الدَّهر للمرء مُحْكِما )
( تَلُومانِ لما غَوَّر النجمُ ضَلَّةً ... فَتًى لا يَرى الإنفاقَ في الحقِّ مٌغْرَما )
قالت جميلة ما عدوت الظن بك ولا تجاوزت الطريقة التي أنت عليها قال مالك أفلا أغنيك أنا ايضا قالت ما علمتك إلا تجيد الغناء وتحسن فهات فاندفع فغنى في هذا الشعر
( يضيء لنا البيتُ الظَّلِيلُ خَصَاصُه ... إذا هي ليلاً حاولتْ أن تَبَسَّمَا )
( إذا انقلبتْ فوقَ الحَشِيَّة مَرَّةً ... تَرَنَّمَ وَسْواسُ الحُليِّ ترنُّما )

( ونَحْراً كفَاثُورِ اللُّجَيْنِ يَزِينه ... توقُّدُ ياقوتٍ وشَذْرٍ منَظِّما )
( كجَمْرِ الغَضَى هَبَّتْ به بعد هَجْعةٍ ... من الليل أَرْواحُ الصَّبَا فتنسَّما )
فقالت جميل ما قلت وحسن ما نظمت وإن صوتك يا مالك لمما يزيد العقل قوة والنفس طيبا والطبيعة سهولة وما أحسب أن مجلسنا هذا إلا سيكون علما وفي آخر الزمان متواصفا والخبر ليس كالمشاهدة والواصف ليس كالمعاين وخاصة في الغناء

جميلة تغني ابن أبي عتيق وابن أبي ربيعة والأحوص
وحدثني الحسن بن عتبة اللهبي قال حدثني من رأى ابن أبي عتيق وابن أبي ربيعة والأحوص بن محمد الأنصاري وقد أتوا منزل جميلة فاستأذنوا عليها فأذنت لهم فلما جلسوا سألت عمر وأحفت فقال لها إني قصدتك من مكة للسلام عليك فقالت له أهل الفضل أنت قال وقد أحببت أن تفرغي لنا نفسك اليوم وتخلي لنا مجلسك قالت أفعل قال لها الأحوص أحب ألا تغني إلا ما أسألك قالت ليس المجلس لك والقوم شركاؤك فيه قال أجل قال عمر إن ترد أن تفعل ذلك بك يكن قال الأحوص كلا قال عمر فإني أرى أن نجعل الخيار إليها قال ابن أبي عتيق وفقك الله فدعت بالعود وغنت
( تَمْشِي الهُوَينْىَ إذا مشتْ فُضُلاً ... مَشْيَ النَّزِيفِ المخمور في الصُّعُدِ )
( تَظَلُّ من زَوْرِ بيت جارتها ... واضعةً كفَّها على الكَبدِ )

( يا من لقلبٍ متيَّمٍ سَدِمٍ ... عانٍ رهينٍ مكلَّمٍ كَمِدِ )
( أزجُرُه وهو غيرُ مُزْدَجِرٍ ... عنها وطَرْفي مكحَّلُ السَّهَدِ )
فلقد سمعت للبيت زلزلة وللدار همهمة فقال عمر لله درك يا جميلة ماذا أعطيت أنت أول الغناء وآخره ثم سكتت ساعة وأخذوا في الحديث ثم أخذت العود وغنت
( شَطَّتْ سُعَادُ وأَمْسَى البَيْنُ قد أَفِدَا ... وأَوْرثوكَ سَقاماً يَصْدَع الكَبدا )
( لا أستيطع لها هَجْراً ولا تِرَةً ... ولا تَزال أحاديثي بها جُدُدا )
الغناء فيه لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق ولم يذكر حبش لحن جميلة وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لحكم الوادي وذكر الهشامي وابن خرداذبة أنه من الحان عمر بن عبد العزيز بن مروان في سعاد وأن طريقته من الثقيل الثاني بالوسطى وذكر إبراهيم أن لابن جامع فيه أيضا صنعة فاستخف القوم أجمعين وصفقوا بأيديهم وفحصوا بأرجلهم وحركوا رؤوسهم وقالوا نحن فداؤك من السوء ووقاؤك من المكروه ما أحسن ما غنيت وأجمل ما قلت وأحضر الغداء فتغدى القوم بأنواع من الأطعمة الحارة والباردة ومن الفاكهة الرطبة واليابسة ثم دعت بأنواع من الأشربة فقال عمر لا أشرب وقال ابن أبي عتيق مثل ذلك فقال الأحوص لكنني اشرب وما جزاء جميلة أن يمتنع من شرابها قال عمر ليس ذلك كما ظننته قالت جميلة من شاء أن يحملني بنفسه ويخلط روحي بروحه شكرناه ومن أبى ذلك عذرناه ولم يمنعه ذلك عندنا ما يريد من قضاء حوائجه والأنس

بمحادثته قال ابن أبي عتيق ما يحسبن بنا إلا مساعدتك قال عمر لا أكون أخسكم افعلوا ما شئتم تجدوني سميعاً مطيعا فشرب القوم أجمعون فغنت صوتا بشعر لعمر
( ولقد قالت لجاراتٍ لها ... كالمَهَا يلعبْنَ في حُجْرَتِها )
خُذْنَ عنِّي الظِّلَّ لا يتبعُني ... ومضتْ تَسْعَى إلى قُبَّتها )
( لم تُعَانِقْ رجلاً فيما مَضَى ... طَفْلةٌ غَيْداءُ في حُلَّتها )
( لم يَطِشْ قَطُّ لها سَهْمٌ ومَنْ ... تَرْمِه لا يَنْجُ من رَمْيتِها )
لم يذكر طريقة لحنها في هذا الصوت وذكر الهشامي أن فيه لابن المكي رملا بالبنصر وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج رملا بالوسطى فصاح عمر ويلاه ويلاه ثلاثا ثم عمد إلى جيب قميصه فشقه إلى أسفله فصار قباء ثم آب إليه عقله فندم واعتذر وقال لم أملك من نفسي شيئا قال القوم قد أصابنا كالذي أصابك وأغمي علينا غير أنا فارقناك في تخريق الثياب فدعت جميلة بثياب فخلعتها على عمر فقبلها ولبسها وانصرف القوم إلى منازلهم وكان عمر نازلا على ابن أبي عتيق فوجه عمر إلى جميلة بعشرة آلاف درهم وبعشرة أثواب كانت معه فقبلتها جميلة وانصرف عمر إلى مكة جذلان مسرورا

رافقها الشعراء والمغنون والمغنيات في حجها إلى مكة
قال إسحاق وحدثني أبي عن سياط وابن جامع عن يونس قالا حجت جميلة وأخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثني أبي عن سياط وابن جامع عن يونس الكاتب

وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قالوا جميعا
إن جميلة حجت وقد جمعت رواياتهم لتقاربها وأحسب الخبر كله مصنوعا وذلك بين فيه فخرج معها من المغنين مشيعين حتى وافوا مكة ورجعوا معها من الرجال المشهورين الحذاق بالغناء هيت وطويس والدلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى وفند ورحمة وهبة الله هؤلاء مشايخ وكلهم طيب الغناء ومعبد ومالك وابن عائشة ونافع بن طنبورة وبديح المليح ونافع الخير ومن المغنيات الفرهة وعزة الميلاء وحبابة وسلامة وخليدة وعقيلة والشماسية وفرعة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء ومن غير المغنين ابن أبي عتيق والأحوص وكثير عزة ونصيب وجماعة من الأشراف وكذلك من النساء من مواليها وغيرهن واما سياط فذكر أنه حج معها من القيان مشيعات لها ومعظمات لقدرها ولحقها زهاء خمسين قينة وجه بهن مواليهن معها فأعطوهن النفقات وحملوهن على الإبل في الهوادج والقباب وغير ذلك فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهن درهما فما فوقه حتى رجعن وأما يونس فذكر أنه حج معها من الرجال المغنين مع من سمينا زهاء ثلاثين رجلا وتخايروا في اتخاذ أنواع اللباس العجيب الظريف وكذلك في الهوادج والقباب وقيل فيما قال أهل المدينة إنهم ما رأوا مثل ذلك الجمع سفرا طيبا وحسنا وملاحة قالوا ولما

قاربوا مكة تلقاهم سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز والهذليون وجماعة من المغنين من أهل مكة وقيان كثير لم يسمين لنا ومن غير المغنين عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي والعرجي وجماعة من الأشراف فدخلت جميلة مكة وما بالحجاز مغن حاذق ولا مغنية إلا وهو معها وجماعة من الأشراف ممن سمينا وغيرهم من الرجال والنساء وخرج أبناء أهل مكة من الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم فلما قضت حجها سألها المكيون أن تجعل لهم مجلسا فقالت للغناء أم للحديث قالوا لهما جميعا قالت ما كنت لأخلط جدا بهزل وأبت أن تجلس للغناء فقال عمر بن أبي ربيعة أقسمت على من كان في قلبه حب لاستماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة فإني خارج فعزم القوم الذين سميناهم كلهم على الخروج ومعهم جماعة ممن نشط فخرجت في جمع أكثر من جمعها بالمدينة فلما قدمت المدينة تلقاها أهلها وأشرافهم من الرجال والنساء فدخلت أحسن مما خرجت به منها وخرج الرجال والنساء من بيوتهم فوقفوا على أبواب دورهم ينظرون إلى جمعها وإلى القادمين معها فلما دخلت منزلها وتفرق الجمع إلى منازلهم ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم أتاها الناس مسلمين وما استنكف من ذلك كبير ولا صغير فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء فقالت لعمر بن أبي ربيعة إني جالسة لك ولأصحابك وإذا شئت فعد الناس لذلك اليوم فغصت الدار بالأشراف من الرجال والنساء فابتدأت جميلة فغنت صوتا بشعر عمر
( هيهاتَ من أَمَةِ الوَهَّابِ منزلُنا ... إذا حَلَلْنَا بسِيفِ البحر من عَدَنِ )
( واحتلَّ أَهْلُكِ أَجْياداً فليس لنا ... إلا التذكُّر أو حَظٌّ من الحَزَنِ )
( لو أنها أبْصرتْ بالجِزْع عَبْرتَه ... وقد تَغَرَّد قُمْريٌّ على فَنَن )

( إذاً رأتْ غيرَ ما ظَنَّتْ بصاحبها ... وأيْقنتْ أن عَكّاً ليس من وَطَنِي )
( ما أَنْسَ لا أَنْسَ يومَ الخَيْفِ موقفَها ... ومَوْقِفِي وكِلاَنا ثَمَّ ذو شَجَن )
( وقولَها للثُّرَيَّا وهي باكيةٌ ... والدمعُ منها على الخدَّين ذو سُنَنِ )
( باللَّه قُولي له في غير مَعْتَبةٍ ... ماذا أردتَ بطول المُكْثِ في اليَمَنِ )
( إن كنتَ حاولتَ دنيا أو نَعِمْتَ بها ... فما أَصبْتَ بتركِ الحجّ من ثَمَنِ )
فكلهم استحسن الغناء وضج القوم من حسن ما سمعوا ويقال إنهم ما سمعوا غناء قط أحسن من غنائها ذلك الصوت في ذلك اليوم ودمعت عين عمر حتى جرى الدمع على ثيابه ولحيته وإنه ما رئي عمر كذلك في محفل غيره قط ثم أقبلت على ابن سريج فقالت هات فاندفع يغني ورفع صوته بشعر عمر

غناء ابن سريج في مجلسها بشعر عمر بن أبي ربيعة
( أليستْ بالتي قالت ... لمَوْلاةٍ لها ظُهُرا )
( أَشِيري بالسلام له ... إذا هو نحونَا نَظَرا )
( وقُولِي في مُلاطفةٍ ... لزَينبَ نَوِّلي عُمَرا )
( وهذا سِحْرُكَ النِّسْوانَ ... قد خبَّرْنَنِي الخبَرا )
سماعها لعدد كبير من المغنين
فسمع من ابن سريج في هذا اللحن من الحسن ما يقال إنه ما سمع مثله ثم قالت لسعيد بن مسجح هات يا أبا عثمان فاندفع فغنى
( قد قلتُ قبل البَيْنِ لمَّا خَشِيتُه ... لتُعْقِبَ وُدّاً أو لتعلمَ ما عندي )
( لكِ الخيرُ هل من مَصْدَرٍ تَصْدُرينَهُ ... يُرِيحُ كما سَهَّلْتِ لي سُبُلَ الوِرْد )

( فلمَّا شكوتُ الحبّ صَدَّتْ كأنَّما ... شَكوتُ الذي أَلْقَى إلى حَجَرٍ صَلْدِ )
( تولَّتْ فأَبْدتْ غُلَّةً دونَ نَقْعِها ... كما أَرْصدتْ من بُخْلِها إذ بَدَا وَجْدي )
فاستحسن ذلك منه وبرع فيه ثم قالت يا معبد هات فغنى
( أحَارِبُ مَنْ حاربتَ من ذي عَداوةٍ ... وأَحْبِس مالي إن غرِمتَ فأَعْقِلُ )
( وإنِّي أخوكَ الدائمُ العهدِ لم أَحُلْ ... إنَ ابْزَاكَ خَصْمٌ أو نبا بكَ منزلُ )
( ستقطعَ في الدنيا إذا ما قطعتَني ... يمينَك فانظرْ أيَّ كفٍّ تَبَدَّلُ )
قالت جميلة أحسنت يا معبد اختيار الشعر والغناء هذا الشعر لمعن بن أوس ثم قالت هات يابن محرز فإني لم أؤخرك لخساسة بك ولا جهلا بالذي يجب في الصناعة ولكنني رأيتك تحب من الأمور كلها أوسطها وأعدلها فجعلتك حيث تحب واسطة بين المكيين والمدنيين فغنى
( وقفتُ برَبْع قد تحمَّل أهلُه ... فأَذْرَيْتُ دمعاً يسبِق الطَّرْفَ هامِلُهْ )
( بسائلة الرَّوْحاءِ أو بَطْن مَثْغَرٍ ... لها الضاحكاتُ الرابياتُ سواهِلُه )
( هو الموتُ إلاَّ أن للموتِ مدَّةً ... متى يَلْقَ يوماً فارِغاً فهو شاغلُهْ )

فقالت جميلة يا أبا الخطاب كيف بدا لك في ثلاثة وأنت لا ترى ذلك قال أحببت أن أواسي معبدا قال معبد والله ما عدوت ما أردت ثم قالت للغريض هات يا مولى العبلات فاندفع يغني
( فوانَدَمِي على الشَّبابِ ووانَدَمْ ... نَدِمتُ وبانَ اليومَ منِّي بغيرِ ذَمّ )
( وإذ إخوتي حَوْلِي وإذ انا شائخٌ ... وإذ لا أُجِيبُ العاذلاتِ من الصَّمَمْ )
( أرادتْ عراراً بالهَوانِ ومن يُرِدْ ... عراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فقد ظَلَمْ )
قالت جميلة أحسن عمرو بن شأس ولم تحسن إذ أفسدت غناءك بالتعريض والله ما وضعناك إلا موضعك ولا نقصنا من حظك فبماذا أهناك ثم أقبلت على الجماعة فقالت يا هؤلاء اصدقوه وعرفوه نفسه ليقنع بمكانه فأقبل القوم عليه وقالوا له قد أخطأت إن كنت عرضت فقال قد كان ذلك ولست بعائد وقام إلى جميلة فقبل طرف ثوبها واعتذر فقبلت عذره وقالت له لا تعد ثم أقبلت على ابن عائشة فقالت يا ابا جعفر هات فتغنى بشعر النابغة
( سقَى الغيثُ قبراً بين بُصْرَى وجاسِمٍ ... عليه من الوَسْمِيّ جَوْدٌ ووابِلُ )
( وأَنْبتَ حَوْذاناً وعَوْفاً مُنوِّراً ... سأتْبِعُه من خيرِ ما قال قائلُ )
( بكَى حارثُ الجَوْلانِ من هُلْك ربِّه ... فحَوْرانُ منه خاشعٌ مُتضائلُ )

( وما كان بَيْني لو لَقيتُك سالماً ... وبين الغِنَى إلاَّ ليالٍ قلائلُ )
قالت جميلة حسن ما قلت يا ابا جعفر ثم اقبلت على نافع وبديح فقالت أحبُّ أن تغنياني صوتا واحدا فغنيا جميعا بصوت واحد ولحن واحد
( أَلاَ يا مَنْ يَلُوم على التصابي ... أَفِقْ شيئاً لتسمعَ من جوابِي )
( بَكَرْتَ تَلُومُنِي في الحبِّ جَهْلاً ... وما في حبِّ مثلي من مَعَابِ )
( أليس من السعادةِ غيرَ شَكٍّ ... هَوَى متواصلين على اقترابِ )
( كريمٌ نال وُدّاً في عَفَافٍ ... وسترٍ من مُنعَّمةٍ كَعَابِ )
فقالت جميلة هواكما والله واحد وغناؤكما واحد وأنتما نحتما من بقية الكرم وواحد الشرف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ثم أقبلت على الهذليين الثلاثة فقالت غنوا صوتا واحدا فاندفعوا فغنوا بشعر عنترة العبسي
( حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادم عهدُه ... أَقْوَى وأَقْفَر بعد أمِّ الهَيْثَم )
( كيف المَزَارُ وقد تربَّع أهلُها ... بعُنَيْزتَيْن وأهلُنا بالغَيْلَمِ )
( إن كنتِ أَزْمعتِ الفِراقَ فإنما ... زُمَّتْ رِكَابُكُم بلَيْلٍ مُظْلِم )
( شَرِبتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فَأَصْبحتْ ... زَوْراء تَنْفِر عن حِياضِ الدَّيْلَمِ )

قالت ما رأيت شيئا أشبه بغنائكم من اتفاق أرواحكم ثم أقبلت على نافع بن طنبورة فقالت هات يا نقش الغضار ويا حسن اللسان فاندفع يغني
( يا طُولَ ليلي وبتُّ لم أَنَمِ ... وِسَادِيَ الهَمُّ مُبْطِنٌ سَقَمِي )
( أنْ قمتُ يوماً على البَلاَطِ فَأَبْصَرتُ ... رَقَاشاً وليت لم أَقُمِ )
فقالت جميلة حسن والله ولابن سريج في هذا اللحن أربعة أبيات في صوت ثم قالت يا مالك هات فإني لم أؤخرك لأنك في طبقة آخرهم ولكني أردت أن أختم بك يومنا تبركا بك وكي يكون أول مجلسنا كآخره ووسطه كطرفه وإنك عندي ومعبدا لفي طريقة واحدة ومذهب واحد لا يدفع ذلك إلا ظالم ولا ينكره إلا عاضل الحق أقول فمن شاء فلينكر فسكت القوم كلهم إقرارا لما قالت واندفع يغني
( عدُوٌّ فمن عَادَتْ وسَلْمٌ لِسَلْمِها ... ومن قرَّبتْ سَلْمَى أحبَّ وقَرَّبَا )
( هَبِيني امرَأً إمَّا بريئاً ظلمتِه ... وإمَّا مُسِيئاً تاب بعدُ وأَعْتبا )
( أقول التماسَ العُذْر لمَّا ظلَمْتِنِي ... وحمَّلْتِنِي ذنباً وما كنتُ مُذْنِبَا )
( ليَهْنِئْك إشماتُ العدوّ بهَجْرِنا ... وقَطْعُك حبلَ الوصل حتى تقضَّبا )
قالت جميلة ليت صوتك يا مالك قد دام لنا ودمنا له وقطعت المجلس وانصرف عامة الناس وبقي خواصهم فلما كان اليوم الثاني حضر القوم جميعا فقالت لطويس هات يا أبا عبد النعيم قال فأنكر ما فعلت جميلة في اليوم الأول لأن طويسا لم يكن يرضى بذلك فأخبرني ابن جامع أن جميلة صنفتهم طويسا واصحابه وابن سريج وأصحابه ثم أقرعت بينهم فخرجت القرعة

الأولى لابن سريج وأصحابه والثانية لطويس وأصحابه فابتدأ طويس فغنى
( قد طال لَيْلِي وعاد لي طَرَبي ... من حبِّ خَوْدٍ كريمةِ الحَسَبِ )
( غَرَّاءَ مثلِ الهلال آنسةٍ ... أو مثلِ تِمْثالِ صُورة الذَّهبِ )
( صادت فؤادي بجِيد مُغْزِلةٍ ... تَرْعَى رِيَاضاً ملتفَّةَ العُشُبِ )
فقالت جميلة حسن والله يا أبا عبد النعيم ثم قالت للدلال هات يا أبا يزيد فاندفع فغنى
( قد كنت آمُلُ فيكُم أملاً ... والمرء ليس بمدرَكٍ أَمَلُهْ )
( حتى بَدا لي منكُم خُلُفٌ ... فزجَرْتُ قلبي فارْعَوَى جَهَلُهْ )
( ليس الفتى بمخلَّد أبداً ... حَيّاً وليس بفائتٍ أجلُهْ )
( حَيِّ البَغُومَ ومَنْ بعَقْوتها ... وقَفَا العَمُودِ وإن خَلا أَهَلُهْ )
قالت حسن والله يا أبا يزيد ثم قالت لهيت إنا نجلك اليوم لكبر سنك ورقة عظمك قال أجل يا ماما ثم قالت لبرد الفؤاد ونومة الضحى هاتيا جميعا لحنا واحدا فغنيا
( إني تذكَّرتُ فلا تَلْحَني ... لؤلؤةً مكنونةً تَنْطِقُ )
مسكنُها طَيْبةُ لم يَغْذُها ... بؤسٌ ولا والٍ بها يَخْرُقُ )
( قد قلت والعِيسُ سِراعٌ بنا ... تُرْقِلُ إرقالاً وما تُعْنِقُ )

( يا صاحبي شَوْقي أَرَى قاتلي ... ومُورِدِي منها جَوىً يُقْلِقُ )
قالت جميلة أحسنتما ثم قالت لفند ورحمة وهبة الله هاتوا جميعا صوتا واحدا فإنكم متفقون في الأصوات والألحان فاندفعوا فغنوا
( أشاقكَ من نحو العَقيق بُروقُ ... لموامعُ تَخْفَى تارة وتَشُوقُ )
( وما لِيَ لا أَهْوَى جواريَ بَرْبَرٍ ... وروُحي إلى أَرْواحِهن تَتُوق )
( لهنّ جمال ٌ فائقٌ ومَلاحةٌ ... ودَلٌ على دَلِّ النساء يَفوقُ )
وكان بربر حاضرا فقال جواري والله على ما وصفتم فمن شاء أقر ومن شاء انكر فقالت جميلة صدق ثم غنت جميلة بشعر الأعشى ولمعبد فيه صوت أخذه عنها
( بانت سُعَادُ وأَمْسَى حبلُها انقطعا ... واحتلَّتِ الغَوْر فالجَدَّيْنِ فالفَرَعَا )
( واستنكرتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلَعَا )
( تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مرتحلاً ... يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصابَ والوَجَعَا )
( وكان شيءٌ إلى شيء فغيَّره ... دهرٌ مُلِحٌّ على تفريق ما جَمعا )
فلم يسمع شيء أحسن من ابتدائنا بالأمس وختمها في اليوم الثاني وقطعت المجلس فانصرف القوم واقام آخرون فلما كان اليوم الثالث اجتمع الناس فضربت ستارة وأجلست الجواري كلهن فضربن وضربت فضربن على خمسين وترا فتزلزلت الدار ثم غنت على عودها وهن يضربن على ضربها بهذا الشعر
( فإن خَفِيَتْ كانت لعينك قُرَّةً ... وإن تَبْدُ يوماً لم يُعمِّمْك عارُها )

( من الخَفِراتِ البِيضِ لم تَرَ غِلْظَةً ... وفي الحَسَبِ الضَّخْم الرَّفَيع نِجَارُها )
( فما رَوْضةٌ بالحَزْنِ طيِّبةُ الثَّرَى ... يَمُجُّ النَّدَا جَثْجاثُها وعَرارُها )
( بأطيبَ من فيها إذا جئتَ طارقاً ... وقد أوقِدتْ بالمَنْدَل الرَّطْبِ نارُها )
فدمعت أعين كثير منهم حتى بل ثوبه وتنفس الصعداء وقال بنفسي أنت يا جميلة ثم قالت للجواري أكففن فكففن وقالت يا عزة غني فغنت بشعر لعمر
( تذكَّرتَ هنداً وأَعْصارَها ... ولم تَقْضِ نفسُك أوطارَها )
( تذكَّرتِ النفسُ ما قد مَضَى ... وهاجتْ على العينِ عُوَّارَها )
( لتمنحَ رامةَ منَّا الهوى ... وتَرْعَى لرامةَ أسرارَها )
( إذا لم نَزُرْها حِذارَ العِدَا ... حَسَدْنا على الزَّوْرِ زُوَّارَها )
فقالت جميلة يا عزة إنك لباقية على الدهر فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء ثم قالت لحبابة وسلامة هاتيا لحنا واحدا فغنتا
( كَفَى حَزَناً أني أَغِيبُ وتَشْهَدُ ... وما نَلْتَقِي والقلبُ حَرَّانُ مُقْصدُ )
( ومن عَجَبٍ أنِّي إذا الليلُ جَنَّنِي ... أقوم من الشوق الشديد وأقعُد )
( أَحِنُّ إليكم مثلَ ما حَنَّ تائقٌ ... إلى الوِرْد عَطْشانُ الفؤاد مصرَّدُ )
( ولي كَبِدٌ حَرَّى يعذِّبها الهَوَى ... ولي جسدٌ يَبْلَى ولا يتجدَّدُ )

فاستحسن غناؤهما ثم أقبلت على خليدة فقالت لها بنفسي أنت غني فغنت
( أَلاَ يا مَنْ يَلُوم على التَّصابي ... أَفِقْ شيئاً لتسمعَ من جوابِي )
( بَكرْتَ تَلُومُنِي في الحبّ جَهْلاً ... وما في حبِّ مثلي من مَعَابِ )
( أليس من السعادة غيرَ شَكٍّ ... هَوَى مُتواصلين على اقترابِ )
( كريمٌ نال وُدّاً في عَفَافٍ ... وسَتْرٍ من منعَّمةٍ كَعَابِ )
فاستحسن منها ما غنت وهو بلحنها حسن جدا ثم قالت لعقيلة والشماسية هاتيا فغنتا
( هجرتِ الحبيبَ اليومَ في غير ما اجتَرَمْ ... وقطَّعْتِ من ذي وُدّكِ الحبلَ فانصرمْ )
( أطعت الوُشاةَ الكاشحين ومن يُطِعْ ... مقالةَ واش يَقْرَع السنِّ من نَدَمْ )
ثم قالت لفرعة وبلبلة ولذة العيش هاتين فغنين فاندفعن بصوت واحد
( لعَمْرِي لئن كان الفؤادُ من الهوى ... بَغَى سَقَماً إنِّي إذاً لسَقِيمُ )
( عليّ دِماءُ البُدْنِ إن كان حبُّها ... على النأي في طول الزمانَ يَرِيمُ )
( تُلِمُّ مُلِمَّاتٌ فيُنْسَيْنَ بَعْدَها ... ويُذْكَر منها العهدُ وهو قديمُ )
( فأُقْسِمُ ما صافيتُ بعدكِ خُلَّةً ... ولا لكِ عندي في الفؤاد قَسِيمُ )
قالت أحسنتن وهو لعمري حسن وقالت لسعدة والزرقاء غنيا فغنتا
( قد أرسلوني يُعَزُّونِي فقلتُ لهم ... كيف العَزَاءُ وقد سارتْ بها الرُّفَقُ )
( اسْتَهْدَتِ الرِّيمَ عينيه فجادلها ... بمُقْلَتَيْه ولم تُتْرَكْ له عُنُقُ )
فاستحسن ذلك ثم قالت للجماعة فغنوا وانقضى المجلس وعاد كل إنسان إلى وطنه فما رئي مجلس ولا جمع أحسن من اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث

وحدثتني عمتي وكانت أسن من أبي وعمرت بعده قالت كان السبب في طلب أبيك الغناء والمواظبة عليه لحنا سمعه لجميلة في منزل يونس بن محمد الكاتب فانصرف وهو كئيب حزين مغموم لم يطعم ولم يقبل علينا بوجهه كما كان يفعل فسألته عن السبب فأمسك فألححت عليه فانتهرني وكان لي مكرما فغضبت وقمت من ذلك المجلس إلى بيت آخر فتبعني وترضاني وقال لي أحدثك ولا كتمان منك عشقت صوتا لامرأة قد ماتت فأنا بها وبصوتها هائم إن لم يتداركني الله منه برحمته فقالت أتظن أن الله يحيي لك ميتا قال بل لا أشك قالت فما تعليقك قلبك بما لا يعطاه إلا نبي ولا نبي بعد محمد وأما عشقك الصوت فهو أن تحذقه وتغنيه عشر مرار فتمله ويذهب عشقك له فكأنه ارعوى ورجع إلى نفسه وقام فقبل رأسي ويدي ورجلي وقال لي فرّجت عني ما كنت فيه من الكرب والغم ثم تمثل حبك الشيء يعمي ويصم ولزم بيت يونس حتى حذق الصوت ولم يمكث إلا زمنا يسيرا حتى مات يونس وانضم إلى سياط وكان من أحذق أهل زمانه بالغناء وأحسنهم أداء عمن مضى قالت عمتي فقلت لإبراهيم وما الصوت فأنشدني الشعر ولم يحسن أداء الغناء
( من البَكَراتِ عِراقيَّةٌ ... تُسَمَّى سُبَيعةَ أَطْريْتُها )
( من آلِ أبي بَكْرةَ الأكرمين ... خَصَصْتُ بودِّي فأصْفيتُها )
( ومن حبّها زرتُ أهلَ العراق ... وأَسْخَطْتُ أهلي وأرضيْتُها )
( أموتُ إذا شَحَطَتْ دارُها ... وأَحْيا إذا أنا لاقيتُها )
فأُقْسِم لو أن ما بي بها ... وكنتُ الطبيبَ لداويتُها )
قالت عمتي هذا شعر حسن فكيف به إذا قطع ومدد تمديد الأطربة

وضرب عليها بقضبان الدفلى على بطون المعزى فما مضت الأيام والليالي حتى سمعت اللحن مؤدى فما خرق مسامعي شيء قط أحسن منه ولقد أذكرني بما يؤثر من حسن صوت داود وجمال يوسف فبينا أنا يوما جالسة إذ طلع علي إبراهيم ضاحكا مستبشرا فقال لي ألا أحدثك بعجب قلت وما هو قال إن لي شريكا في عشق صوت جميلة قلت وكيف ذلك قال كنت عند سياط في يومنا هذا وأنا أغنيه الصوت وقد وقفني فيه على شيء لم أكن أحكمته عن يونس وحضر عند سياط شيخ نبيل فسبح على الصوت تسبيحا طويلا فظننت أنه فعل ذلك لاستحسانه الصوت فلما فرغت أنا وسياط من اللحن قال الشيخ ما أعجب أمر هذا الشعر وأحسن ما غني به وأحسن ما قال قائله فقلت له دون القوم وما بلغ من العجب به قال نعم

غنت بشعر عمر بن أبي ربيعة في سبيعة أجمل النساء
حجَّت سبيعة من ولد عبد الرحمن بن أبي بكرة وكانت من أجمل النساء فأبصرها عمر بن أبي ربيعة فلما انحدرت إلى العراق اتبعها يشيعها حتى بلغ معها موضعا يقال له الخورنق فقالت له لو بلغت إلى أهلي وخطبتني لزوجوك فقال لها ما كنت لأخلط تشييعي إياك بخطبة ولكن أرجع ثم آتيكم خاطبا فرجع ومر بالمدينة فقال فيها
( من البَكَراتِ عِراقيَّةٌ ... تُسمَّى سُبَيعةَ أطريْتُها )
ثم أتى بيت جميلة فسألها أن تغني بهذا الشعر ففعلت فأعجبه ما سمع من حسن غنائها وجودة تأليفها فحسن موقع ذلك منه فوجه إلى بعض موالياته ممن كانت تطلب الغناء أن تأتي جميلة وتأخذ الصوت منها فطارحتها إياه أياما حتى حذقت ومهرت به فلما رأى ذلك عمر قال أرى أن تخرجي إلى سبيعة

وتغنيها هذا الصوت وتبلغيها رسالتي قالت نعم جعلني الله فداك فأتتها فرحبت بها وأعلمتها الرسالة فحيت وأكرمت ثم غنتها فكادت أن تموت فرحا وسرورا لحسن الغناء والشعر ثم عادت رسول عمر فأعلمته ما كان وقالت له إنها خارجة في تلك السنة فلما كان أوان الحج استأذنت سبيعة أباها في الحج فأبى عليها وقال لها قد حججت حجة الإسلام قالت له تلك الحجة هي التي أسهرت ليلي وأطالت نهاري وتوقتني إلى أن أعود وأزور البيت وذلك القبر وإن أنت لم تأذن لي مت كمدا وغما وذلك أن بقائي إنما كان لحضور الوقت فإن يئست فالموت لا شك نازل بي فلما رأى ذلك أبوها رق لها وقال ليس يسعني منعها مع ما أرى بها فأذن لها ووافى عمر المدينة ليعرف خبرها فلما قدمت علم بذلك وسألها أن تأتي منزل جميلة وقد سبق إليه عمر فأكرمتها جميلة وسرت بمكانها فقالت لها سبيعة جعلني الله فداك اقلقني وأسهرني صوتك بشعر عمر في فأسمعيني إياه قالت جميلة وعزازة لوجهك الجميل فغنتها الصوت فأغمي عليها ساعة حتى رش على وجهها الماء وثاب إليها عقلها ثم قالت أعيدي علي فأعادت الصوت مرار في كل مرة يغشى عليها ثم خرجت إلى مكة وخرج معها فلما رجعت مرت بالمدينة وعمر معها فأتت جميلة فقالت لها أعيدي علي الصوت ففعلت وأقامت عليها ثلاثا تسألها أن تعيد الصوت فقالت لها جميلة إني أريد أن أغنيك صوتا فاسمعيه قالت هاتيه يا سيدتي فغنتها
( أبتِ المليحةُ أن تُوَاصلَني ... وأظنُّ أني زائرٌ رَمْسِي )
( لا خيرَ في الدنيا وزِينتِها ... ما لم تُوَافِقْ نفسُها نفسِي )
( لا صبرَ لي عنها إذا حسَرتْ ... كالبدر أو قَرْنٍ من الشمس )
( ورمتْ فؤادَك عند نظرتها ... بمَلاحةِ الإيثار والأنْس )
قالت سبيعة لولا أن الأول شعر عمر لقدمت هذا على كل شيء سمعته فقال عمر فإنه والله أحسن من ذلك فأما الشعر فلا قالت جميلة صدقت

والله قالت عمتي قال لها أبي لعمري إن ذلك على ما قالا
ولابن سريج في هذا الشعر لحن عن جميلة وربما حكي بزيادة أو نقصان أو مثلاً بمثل

شيخ يثنيها عن عزمها اعتزال الغناء
أخبرني من يفهم الغناء قال
بلغني أن جميلة قعدت يوما على كرسي لها وقالت لآذنتها لا تحجبي عنا أحداً اليوم واقعدي بالباب فكل من يمر بالباب فاعرضي عليه مجلسي ففعلت ذلك حتى غصت الدار بالناس فقالت جميلة اصعدوا إلى العلالي فصعدت جماعة حتى امتلأت السطوح فجاءتها بعض جواريها فقالت لها يا سيدتي إن تمادى أمرك على ما أرى لم يبق في دارك حائط إلا سقط فأظهري ما تريدين قالت اجلسي فلما تعالى النهار واشتد الحر استسقى الناس الماء فدعت لهم بالسويق فشرب من أراد فقالت أقسمت على كل رجل وامرأة دخل منزلي إلا شرب فلم يبق في سفل الدار ولا علوها أحد إلا شرب وقام على رؤوسهم الجواري بالمناديل والمراوح الكبار وأمرت جواريها فقمن على كراسي صغار فيما بين كل عشرة نفر جارية تروح ثم قالت لهم إني قد رأيت في منامي شيئا أفزعني وأرعبني ولست أعرف ما سبب ذلك وقد خفت أن يكون قرب أجلي وليس ينفعني إلا صالح عملي وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي فقال قوم منهم وفقك الله وثبت عزمك وقال آخرون بل لا حرج عليك في الغناء وقال شيخ منهم ذو سن وعلم وفقه وتجرية قد تكلمت الجماعة وكل حزب بما لديهم فرحون ولم أعترض عليهم في قولهم ولا شركتهم في رأيهم فاستمعوا الآن لقولي

وأنصتوا ولا تشغبوا إلى وقت انقضاء كلامي فمن قبل قولي فالله موفقه ومن خالفني فلا بأس عليه إذ كنت في طاعة ربي فسكت القوم جميعا فتكلم الشيخ فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد النبي ثم قال يا معشر أهل الحجاز إنكم متى تخاذلتم فشلتم ووثب عليكم عدوكم وظفر بكم ولا تفلحوا بعدها أبدا إنكم قد انقلبتم على أعقابكم لأهل العراق وغيرهم ممن لا يزال ينكر عليكم ما هو وارثه عنكم لا ينكره عالمكم ولا يدفعه عابدكم بشهادة شريفكم ووضيعكم يندب إليه كما يندب جموعكم وشرفكم وعزكم فأكثر ما يكون عند عابدكم فيه الجلوس عنه لا للتحريم له لكن للزهد في الدنيا لأن الغناء من أكبر اللذات وأسر للنفوس من جميع الشهوات يحيي القلب ويزيد في العقل ويسر النفس ويفسح في الرأي ويتيسر به العسير وتفتح به الجيوش ويذلل به الجبارون حتى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه ويبرىء المرضى ومن مات قلبه وعقله وبصره ويزيد أهل الثروة غنى وأهل الفقر قناعة ورضا باستماعه فيعزفون عن طلب الأموال من تمسك به كان عالما ومن فارقه كان جاهلا لأنه لا منزلة أرفع ولا شيء أحسن منه فكيف يستصوب تركه ولا يستعان به على النشاط في عبادة ربنا عز و جل وكلام كثير غير هذا ذهب عن المحدث به فما رد عليه أحد ولا أنكر ذلك منهم بشر وكل عاد بالخطأ على نفسه وأقر بالحق له ثم قال لجميلة أوعيت ما قلت ووقع من نفسك وما ذكرت قالت أجل وأنا أستغفر الله قال لها فاختمي مجلسنا وفرقي جماعتنا بصوت فقط فغنت
( أفي رسمِ دارٍ دمعُك المترقرِقُ ... سَفَاهاً وما استنطاقُ ما ليس يَنْطِقُ )
( بحيثُ التقَى جَمْعٌ وأَقْصَى مُحَسِّرٍ ... مَغَانِيه قد كادتْ عن العهد تَخْلُقُ )

( مُقامٌ لنا بعد العِشاء ومنزلٌ ... به لم يكدِّرْه علينا مُعَوِّق )
( فأحسنُ شيء كان أوَّلُ ليلنا ... وآخرهُ حزنٌ إذا نتفرَّق )
فقال الشيخ حسن والله أمثل هذا يترك فيم يتشاهد الرجال لا والله ولا كرامة لمن خالف الحق ثم قام وقام الناس معه وقال الحمد لله الذي لم يفرق جماعتنا على اليأس من الغناء ولا جحود فضيلته وسلام عليك ورحمة الله يا جميلة

وصف مجلس آخر لها
وقال أبو عبد الله جلست جميلة يوما ولبست برنسا طويلا وألبست من كان عندها برانس دون ذلك وكان في القوم ابن سريج وكان قبيح الصلع قد اتخذ وفرة شعر يضعها على رأسه وأحبت جميلة أن ترى صلعته فلما بلغ البرنس إلى ابن سريج قال دبرت علي ورب الكعبة وكشف صلعته ووضع القلنسية على رأسه وضحك القوم من قبح صلعته ثم قامت جميلة ورقصت وضربت بالعود وعلى رأسها البرنس الطويل وعلى عاتقها بردة يمانية وعلى القوم أمثالها وقام ابن سريج يرقص ومعبد والغريض وابن عائشة ومالك وفي يد كل واحد منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ورقصها فغنت وغنى القوم على غنائها
( ذهب الشبابُ وليتَه لم يَذْهبِ ... وعَلاَ المَفَارِقَ وَقْعُ شيبٍ مُغْرَب )
( والغانياتُ يُرِدْنَ غيرَك صاحباً ... ويَعِدْنَكَ الهِجْرانَ بعد تقرُّب )
( إنِّي أقولُ مقالةً بتجارِبٍ ... حقّاً ولم يُخْبِرْكَ مثلُ مجرِّب )
( صَافِ الكريمَ وكُنْ لعِرْضِكَ صائناٍ ... وعن اللَّئيم ومِثْلِه فتَنَكَّبِ )

ثم دعت بثياب مصبغة ووفرة شعر مثل وفرة ابن سريج فوضعتها على رأسها ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا ثم ضربت بالعود وتمشت وتمشى القوم خلفها وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد
( يَمْشِينَ مَشْيَ قَطَا البِطاحِ تَأَوُّداً ... قُبَّ البطون رواجحَ الأكفال )
( فيهنّ آنسةُ الحديثِ حَيِيَّةٌ ... ليست بفاحشةٍ ولا مِتْفالِ )
( وتكون رِيقتُها إذا نَبَّهْتَها ... كالمسك فوق سُلاَفة الجِرْيالِ )
ثم نعرت ونعر القوم طربا ثم جلست وجلسوا وخلعوا ثيابهم ورجعوا إلى زيهم وأذنت لمن كان ببابها فدخلوا وانصرف المغنون وبقي عندها من يطارحها من الجواري
وحدثتني عمتي قالت سمعت سياطا يحدث أباك يوما بأحاديث جميلة فقال بنفسي هي وأمي فما كان أحسن وجهها وخلقها وغناءها ما خلفت النساء مثلها شبيها فأعجبني ذلك ثم قال سياط جلست جميلة يوما للوفادة عليها وجعلت على رؤوس جواريها شعوراً مسدلة كالعناقيد إلى أعجازهن وألبستهن أنواع الثياب المصبغة ووضعت فوق الشعور التيجان وزينتهن بأنواع الحلي ووجهت إلى عبد الله بن جعفر تستزيره وقالت لكاتب أملت عليه بأبي أنت وأمي قدرك يجل عن رسالتي وكرمك يحتمل زلتي وذنبي لا تقال عثرته ولا تغفر حوبته فإن صفحت فالصفح لكم معشر أهل البيت يؤثر والخير والفضل كله فيكم مدخر ونحن العبيد وأنتم الموالي فطوبى لمن كان لكم مقاربا وإلى وجوهكم ناظرا وطوبى لمن كان لكم مجاوراً وبعزكم

قاهراً وبضيائكم مبصراً والويل لمن جهل قدركم ولم يعرف ما أوجبه الله على هذا الخلق لكم فصغيركم كبير بل لا صغير فيكم وكبيركم جليل بل الجلالة التي وهبها الله عز و جل للخلق هي لكم ومقصورة عليكم وبالكتاب نسألك وبحق الرسول ندعوك إن كنت نشيطا لمجلس هيأته لك لا يحسن إلا بك ولا يتم إلا معك ولا يصلح أن ينقل عن موضعه ولا يسلك به غير طريقه فلما قرأ عبد الله الكتاب قال إنا لنعرف تعظيمها لنا وإكرامها لصغيرنا وكبيرنا وقد علمت أنها قد آلت ألية ألا تغني أحدا إلا في منزلها وقال للرسول والله قد كنت على الركوب إلى موضع كذا وكان في عزمي المرور بها فأما إذا وافق ذلك مرادها فإني جاعل بعد رجوعي طريقي عليها فلما صار إلى بابها أدخل بعض من كان معه إليها وصرف بعضهم فنظر إلى ذلك الحسن البارع والهيئة الباذة فأعجبه ووقع في نفسه فقال يا جميلة لقد أوتيت خيرا كثيرا ما أحسن ما صنعت فقالت يا سيدي إن الجميل للجميل يصلح ولك هيأت هذا المجلس فجلس عبد الله بن جعفر وقامت على رأسه وقامت الجواري صفين فأقسم عليها فجلست غير بعيد ثم قالت يا سيدي ألا أغنيك قال بلى فغنت
( بَنِي شَيْبةِ الحمدِ الَّذي كان وجهُه ... يُضيء ظلامَ اللَّيلِ كالقمر البَدْرِ )
( كُهُولُهُم خيرُ الكهولِ ونَسْلُهم ... كنسل الملوكِ لا يَبُورُ ولا يجري )
( أبو عُتْبةَ المُلْقي إليك جَمَالَه ... أغرُّ هِجانُ اللَّوْن من نَفَر زُهْرِ )

( لِساقِي الحجيج ثم للخَيْرِ هاشمٍ ... وعبدِ منافٍ ذلك السيِّدِ الغَمْرِ )
( أبوكم قُصَيٌّ كان يُدْعَى مُجَمِّعاً ... به جمَّع الله القبائلَ من فِهْرِ )
فقال عبد الله أحسنت يا جميلة وأحسن حذافة ما قال بالله أعيديه علي فأعادته فجاء الصوت أحسن من الارتجال ثم دعت لكل جارية بعود وأمرتهن بالجلوس على كراسي صغار قد أعدتها لهن فضربن وغنت عليهن هذا الصوت وغنى جواريها على غنائها فلما ضربن جميعا قال عبد الله ما ظننت أن مثل هذا يكون وإنه لمما يفتن القلب ولذلك كرهه كثير من الناس لما علموا فيه ثم دعا ببغلته فركبها وانصرف إلى منزله وقد كانت جميلة أعدت طعاما كثيراً وكان أراد المقام فقال لأصحابه تخلفوا للغداء فتغدوا وانصرفوا مسرورين وهذا الشعر لحذافة بن غانم بن عبيد الله بن عويج بن عدي بن كعب يمدح به عبد المطلب

أنزلت العرجي على الأحوص بعد فراره من مكة
قال وحدثني بعض المكيين قال
كان العرجي وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان شاعرا سخيا شجاعا أديبا ظريفا ويشبه شعره بشعر عمر بن ابي ربيعة والحارث بن خالد بن هشام وإن كانا قدما عليه وقد نسب كثير من شعره إلى شعرهما وكان صاحب صيد فخرج يوما متنزهاً من مكة ومعه جماعة من غلمانه ومواليه ومعه كلابه وفهوده وصقوره وبوازيه نحو الطائف إلى مال له بالعرج وبهذا الموضع سمي

العرجي فجرى بينه وبين مولى لبني أمية كلام فأمضه المولى فكف عنه العرجي حتى أوى إلى منزله ثم هجم عليه ومعه غلمانه فأمرهم أن يوثقوه ثم أمرهم أن ينكحوا امرأته وهو يراهم ففعلوا ثم أخرجه فقتله فبلغ أمير مكة ما فعل فطلبه فخرج من منزله وأخرج معه غلمانه ومواليه وآلة الصيد وتوجه نحو المدينة وقد ركب أفراسه وأعد عدته فلم يزل يتصيد ويقصف في طريقه حتى دخل المدينة ليلا وأراد المقام في منزل جميلة وكانت آلت ألا تغني بشعره ولا تدخله منزلها لكثرة عبثه وسفهه وحداثة سنه فلما أعلمت بمكانه ليلا قالت طارق إن له لشأنا فاستخبرت خبره فقيل لها إنه قدم مستخفيا ولم ير بالمدينة موضعا هو أطيب له من منزلك والأيمان تكفر والأشراف لا يردون فقالت لرسولها إليه منزلي منزل جوار ولا يمكن مثلك الاستخفاء فيه فعليك بالأحوص وكان الأحوص مجانبا له لشيء جرى بينه وبينه في منزل جميلة فقال أنى لي بالأحوص مع الذي كان بيننا قالت ائته عني وقل له قد غنَّينا بذلك الشعر فإن أحببت أن تظهر وتبقى مودتنا لك فأصلح ما بينك وبين عبد الله إذ أصلح ما بيننا وأنزله منزلك قال لها ليس هذا بمقنعي أما إذ أبيت أن أقيم بمنزلك فوجهي معي رسولا إلى الأحوص فإن منزله أحب المنازل إلي بعد منزلك فوجهت معه إلى الأحوص بعض مولياتها فأنزله الأحوص وأكرمه وأحسن جواره وستر أمره فقال شعرا ووجه به إلى جميلة
( أَلاَ قاتَل اللَّه الهَوَى كيف أخلَقَا ... فلم تُلْفِهِ إلآَّ مَشُوباً مُمَذَّقَا )
( وما من حبيبٍ يستزير حبيبَه ... يُعاتبه في الودّ إلا تَفَرَّقا )
( أَمَرَّ وصالُ الغانياتِ فأصبحت ... مَضَاضتُه يشجَى بها مَنْ تَمَطَّقا )
( تعلَّق هذا القلبُ للحَيْن مَعْلَقاً ... غَزَالاً تحلَّى عِقْدَ دُرٍّ ويَارَقا )

( إذا قلتُ مهلاً للفؤاد عن الَّتي ... دعتْك إليها العينُ أغضَى وأطْرَقا )
( دعانَا فلم نَسْتَبْقِ حُبّاً بما نَرَى ... فما منك هذا العذلُ إلا تَخرُّقا )
( فقد سنّ هذا الحبَّ مَنْ كان قبلَنا ... وقاد الصِّبَا المرءَ الكريمَ فأعنقَا )
فلما قرأت شعره رقت له وقالت كيف لي بإيلائي ألاَّ يدخل منزلي ولا أغنيه بشعره فقيل لها يدخل منزلك وتغنين وتكفرين عن يمينك فوجهت إليه أن صر إلينا والأحوص في تلك الليلة فجاءاها وعرفت الأحوص تكفير اليمين فقال لها وأنا والله شفيعه إليك ففرجي ما به من غم فقد فارق من يحب ويهوى فتؤنسينه وتسرينه وتغنينه بشعره فغنت
( أَلاَ قاتَلَ اللَّهُ الهَوَى كيف أخلقَا ... فلم تُلْفِهِ إلاَّ مشوباً مُمَذَّقا )

إعجاب الأحوص بها ودعوتها له في مجلس خاص
وحدثني بعض أهلنا قال قال يونس بن محمد
كان الأحوص معجبا بجميلة ولم يكن يكاد يفارق منزلها إذا جلست فصار إليها يوما بغلام جميل الوجه يفتن من رآه فشغل أهل المجلس وذهبت اللحون عن الجواري وخلطن في غنائهن فأشارت جميلة إلى الأحوص أن أخرج الغلام فالخلل قد عم مجلسي وأفسد علي أمري فأبى الأحوص وتغافل وكان بالغلام معجبا فآثر لذته بالنظر إلى الغلام مع السماع ونظر الغلام إلى الوجوه الحسان من الجواري ونظرن إليه وكان مجلسا عاما فلما خافت عاقبة المجلس وظهور أمره أمرت بعض من حضر بإخراج الغلام فأخرج وغضب الأحوص وخرج مع الغلام ولم يقل شيئا فأحمد أهل المجلس ما كان من جميلة وقال لها بعضهم هذا كان الظن بك أكرمك الله فقالت إنه

والله ما استأذنني في المجيء به ولا علمت به حتى رأيته في داري ولا رأيت له وجها قبل ذلك وإنه ليعز علي غضب الأحوص ولكن الحق أولى وكان ينبغي له ألا يعرض نفسه وإياي لما نكره مثله فلما تفرق أهل المجلس بعثت إليه الذنب لك ونحن منه برءاء إذ كنت قد عرفت مذهبي فلم عرضتني للذي كان فقد ساءني ذلك وبلغ مني ولكن لم أجد بدا من الذي رأيت إما حياء وإما تصنعا فرد عليها ليس هذا لك بعذر إن لم تجعلي لي وله مجلسا نخلو فيه جميعا تمحين به ما كان منك قالت أفعل ذلك سرا قال الأحوص قد رضيت فجاءاها ليلا فأكرمتهما ولم تظهر واحدة من جواريها على ذلك إلا عجائز من مواليها وسألها الأحوص وأقسم عليها أن تغنيه من شعره
( وبالقَفْر دارٌ من جميلةَ هيجتْ ... سوالفَ حُبٍّ في فؤادِكَ مُنْصِبِ )
( وكانت إذا تنأى نَوًى أو تفرَّقتْ ... شِدَادُ الهَوَى لم تدرِ ما قولُ مِشْغَبِ )
( أسِيلةُ مَجْرَى الدمعِ خُمْصانةُ الحَشَا ... بَرُودُ الثَّنايا ذاتُ خَلْقٍ مُشَرْعَبِ )
( ترى العينُ ما تهوَى وفيها زيادةٌ ... من الحسنِ إذ تبدو ومَلْهًى لمُلْعِبِ )
قال يونس ما لها صوت أحسن منه وابن محرز يغنيه وعنها أخذه وأنا أغنيه فتعجبني نفسي ويدخلني شيء لا أعرفه من النخوة والتيه وقال المحدث لي بهذا الحديث عن يونس إن هذا للأحوص في جميلة والذي عندي أنه لطفيل

الغنوي قاله في ابن زيد الخيل وهو زيد بن المهلهل بن المختلس بن عبد رضا أحد بني نبهان ونبهان لقب له ولكنه سودان بن عمرو بن الغوث بن طيىء أغار على بني عامر فأصاب بني كلاب وبني كعب واستحر القتل في غني بن أعصر ومالك بن أعصر وأعصر هو الدخان ولذلك قيل لهما ابنا دخان وأخوهما الحارث وهو الطفاوة وهو مالك بن سعد بن قيس بن عيلان وغطفان بن سعد عمهم وكانت غني مع بني عامر في دارهم موالي لنمير وكان فيهم فرسان وشعراء ثم إن غنيا أغارت على طيىء وعليهم سيار بن هريم فقال في ذلك قصيدته الطويلة
( وبالقفر دارٌ من جميلة هيَّجتْ ... سوالفَ شوقٍ في فؤادك مُنْصِبِ )
وحدثني ايوب بن عباية قال
كان عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن فراص بن معن بن مالك بن أعصر بن قيس بن عيلان بن مضر من شعراء الجاهلية المعدودين وكان ينزل الشام وقد أدرك الإسلام وأسلم وقال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً وفي الخلفاء الذين أدركهم عمر بن الخطاب فمن دونه إلى عبد الملك بن مروان وكان في خيل خالد بن الوليد حين وجه أبو بكر خالداً إلى الشام ولم يأت أبا بكر وقال في خالد رحمه الله
( إذا قال سيفُ اللَّه كُرُّوا عليهمُ ... كَرَرْتُ بقلبٍ رابطِ الجأْش صارمِ )

وقال في عمر بن الخطاب رضي الله عنه قصيدة له طويلة جيدة
( أدركتُ آل أبي حَفْص وأُسْرتَه ... وقبل ذاك ودهراً بعده كَلبا )
( قد ترتمي بقوافٍ بيننا دُوَلٌ ... بين الهناتينِ لا جِدّاً ولا لَعِبَا )
( اللَّهُ يعلم ما قولِي وقولهُمُ ... إذ يركبون جَنَاناً مُسْهَباً وَرِبَا )
وقال في عثمان بن عفان رضي الله عنه
( حُثِّي فليس إلى عثمانَ مُرْتَجَعٌ ... إلاَّ العداء وإلاَّ مُكْنِعٌ ضررُ )
( إخالُها سَمِعت عَزْفاً فتحسَبه ... إهابةَ القَسْرِ ليلاً حين تنتشر )
وقال في علي بن أبي طالب رضي الله عنه
( مَنْ مُبْلِغٌ مَألُكاً عنِّي أبا حَسَنٍ ... فارتَحْ لخَصْمٍ هداك اللَّه مظلومِ )
فلما أنشدت جميلة قصيدته في عمر بن الخطاب قالت والله لأعملن فيها لحنا لا يسمعه أحد أبداً إلا بكى قال إبراهيم وصدقت والله ما سمعته قط إلا ابكاني لأني أجد حين أسمعه شيئا يضغط قلبي ويحرقه فلا أملك عيني وما رأيت أحدا قط سمعه إلا كانت هذه حاله

صوت
من المائة المختارة
( يا دارَ عَبْلةَ من مَشَارِقِ مَأْسَلِ ... دَرَس الشؤونُ وعهدُها لم يَنجلِ )
( فاستبدلتْ عُفْرَ الظِّباء كأنما ... أبعارُها في الصَّيف حَبُّ الفُلْفُلِ )
( تمشي النَّعامُ به خلاءً حولَه ... مَشْيَ النَّصارى حولَ بيت الهيكلِ )

( إحذَرْ مَحَلَّ السّوءِ لا تَحْلُلْ به ... وإذا نَبَا بك منزلٌ فتَحَوَّلِ )
الشعر فيما ذكر يحيى بن علي عن إسحاق لعنترة بن شداد العبسي وما رأيت هذا الشعر في شيء من دواوين شعر عنترة ولعله من رواية لم تقع إلينا فذكر غير أبي أحمد أن الشعر لعبد قيس بن خفاف البرجمي إلا أن البيت الأخير لعنترة صحيح لا يشك فيه والغناء لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي ولحنه المختار على ما ذكره أبو أحمد من الثقيل الأول وذكر ابن خرداذبه أن لحن أبي دلف خفيف ثقيل بالوسطى وذكر إسحاق أن فيه لمعبد لحنا من الثقيل الأول المطلق في مجرى الوسطى وأن فيه لأبي دلف لحنا ولم يجنسه وذكر حبش أن فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى وأن لابن سريج في البيت الثاني ثقيلا أول وذكر ابن خرداذبه أن خفيف الثقيل لمالك وليس ممن يعتمد على قوله وقد ذكر يونس أيضا أن فيه غناء لمالك ولم يذكر جنسه ولا طريقته

ذكر عنترة ونسبه وشيء من أخباره
هو عنترة بن شداد وقيل ابن عمرو بن شداد وقيل عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة وقيل مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر وله لقب يقال له عنترة الفلحاء وذلك لتشقق شفتيه وأمه أمة حبشية يقال لها زبيبة وكان لها ولد عبيد من غير شداد وكانوا إخوته لأمه وقد كان شداد نفاه مرة ثم اعترف به فألحق بنسبه وكانت العرب تفعل ذلك تستعبد بني الإماء فإن أنجب اعترفت به وإلا بقي عبدا
فأخبرني علي بن سليمان النحوي الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عن محمد بن حبيب قال أبو سعيد وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني قالا كان عنترة قبل أن يدعيه أبوه حرشت عليه امرأة أبيه وقالت إنه يراودني عن نفسي فغضب من ذلك شداد غضبا شديدا وضربه ضربا مبرحا وضربه بالسيف فوقعت عليه امرأة أبيه وكفته عنه فلما رأت ما به من الجراح بكت وكان اسمها سمية وقيل سهية فقال عنترة
صوت
( أَمِنْ سُمَيَّةَ دمعُ العين مذروفُ ... لو أنّ ذا منكِ قبل اليوم معروفُ )

( كأنَّها يوم صدَّتْ ما تكلِّمني ... ظَبْيٌ بعُسْفانَ ساجي العَين مطروفُ )
( تَجَلَّلتنيَ إذ أَهوَى العَصَا قِبَلِي ... كأنَّها صَنَمٌ يُعتادُ معكوف )
( العبدُ عبدُكُم والمالُ مالُكُمُ ... فهل عذابُك عنِّي اليوم مصروفُ )
( تنسَى بلائي إذا ما غارةٌ لَحِقتْ ... تخرجُ منها الطُّوَالاتُ السَّراعيف )
( يخرُجن منها وقد بُلَّتْ رَحائلها ... بالماء تركضُها الشُّمُّ الغطاريف )
( قد أطعَن الطعنةَ النَّجْلاء عن عُرُضٍ ... تَصْفَرُّ كَفُّ أخيها وهو منزوف )
غنى في البيت الأول والثاني علوية ولحنه من الثقيل الأول مطلق في مجرى البنصر وقيل إنه لإبراهيم وفيهما رمل بالوسطى يقال إنه لابن سريج وهو من منحول ابن المكي
قوله مذروف من ذرفت عينه يقال ذرفت تذرف ذريفا وذرفا وهو قطر يكاد يتصل وقوله لو أن ذا منك قبل اليوم معروف أي قد أنكرت هذا الحنو والإشفاق منك لأنه لو كان معروفا قبل ذلك لم ينكره ساجي العين ساكنها والساجي الساكن من كل شيء مطروف أصابت عينه طرفةٌ وإذا كان كذلك فهو أسكن لعينه تجللتني ألقت نفسها علي وأهوى اعتمد صنم يعتاد أي يؤتى مرة بعد مرة ومعكوف يعكف عليه والسراعيف السراع واحدتها سرعوفة والطوالات الخيل والرحائل السروج والشمم ارتفاع في الأنف والغطاريف الكرام والسادة أيضا والغطرفة ضرب من السير والمشي يختال فيه والنجلاء الواسعة يقال سنان منجل واسع الطعنة عن عرض أي

عن شق وحرف وقال غيره أعترضه اعتراضا حين أقتله

كيف ادعاه أبوه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن ابن الكلبي وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن الكلبي
شداد جد عنترة غلب على نسبه وهو عنترة بن عمرو بن شداد وقد سمعت من يقول إن شدادا عمه كان نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه قال وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر وذلك لأن أمه كانت أمة سوداء يقال لها زبيبة وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبدوه وكان لعنترة إخوة من أمه عبيد وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلا فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة يومئذ فيهم فقال له أبوه كر يا عنترة فقال عنترة العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر فقال كر وأنت حر فكر وهو يقول
( أنا الهجينُ عَنْتَرهْ ... كلُّ امرىء يحمي حِرَهْ )
( أسودَه وأحمرَه
والشَّعَرَاتِ المُشْعَره )
( الوارداتِ مِشْفَره ... )
وقاتل يومئذ قتالا حسنا فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه
وحكى غير ابن الكلبي أن السبب في هذا أن عبسا أغاروا على طيىء

فأصابوا نعما فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة لا نقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا لأنك عبد فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيىء فاعتزلهم عنترة وقال دونكم القوم فإنكم عددهم واستنقذت طيىء الإبل فقال له أبوه كر يا عنترة فقال أو يحسن العبد الكر فقال له أبوه العبد غيرك فاعترف به فكر واستنقذ النعم وجعل يقول
( أنا الهجينُ عَنْتَرهْ ... كلُّ امرىء يحمي حِرَهْ )
الأبيات
قال ابن الكلبي وعنترة أحد أغربة العرب وهم ثلاثة عنترة وأمه زبيبة وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة وإليهن ينسبون وفي ذلك يقول عنترة
( إنِّي امرؤٌ من خير عَبْسٍ مَنْصِباً ... شَطْرِي وأحمِي سائري بالمُنْصُلِ )
( وإذا الكتيبةُ أحجمتْ وتلاحظت ... ألفِيتُ خيراً من مُعَمٍّ مُخْوَلِ )
يقول إن أبي من أكرم عبس بشطري والشطر الآخر ينوب عن كرم أمي فيه ضربي بالسيف فأنا خير في قومي ممن عمه وخاله منهم وهو لا يغني غنائي وأحسب أن هذه القصيدة هي التي يضاف إليها البيتان اللذان يغنى فيهما وهذه الأبيات قالها في حرب داحس والغبراء

كان حامي لواء بني عبس
قال أبو عمرو الشيباني غزت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن

زهير فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم فوقف لهم عنترة ولحقتهم كبكبة من الخيل فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبر وكان قيس بن زهير سيدهم فساءه ما صنع عنترة يومئذ فقال حين رجع والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء وكان قيس أكولا فبلغ عنترة ما قال فقال يعرض به قصيدته التي يقول فيها

صوت
( بَكَرَتْ تُخَوِّفُني الحُتوفَ كأنَّني ... أصبحتُ عن عَرَض الحُتوف بمَعْزِلِ )
( فأجبتُها أنّ المنيَّةَ مَنْهَلٌ ... لا بدّ أن أُسْقَى بكأس المنهلِ )
( فاقْنَيْ حياءكِ لا أبالكِ واعلمي ... أَنِّي امرؤ سأموت إن لم أُقْتَلِ )
( إنّ المنيَّة لو تُمَثَّلُ مُثِّلتْ ... مِثْلي إذا نزلوا بضَنْكِ المنزلِ )
( إني امرؤ من خير عَبْسٍ مَنْصِباً ... شَطْرِي وأحمي سائري بالمُنْصُلِ )
( وإذا الكتيبةُ أَحْجمتْ وتلاحظتْ ... أُلْفِيتُ خيراً من مُعَمٍّ مُخْوَِلِ )
( والخيلُ تعلم والفوارسُ أنَّني ... فرَّقتُ جَمْعَهمُ بضربةِ فيصلِ )
( إذ لا أبَادِر في المَضِيق فوارسي ... أوَ لا أُوَكَّلُ بالرَّعِيلِ الأوَّل )
( إن يُلْحَقُوا أكْرُرْ وإن يُسْتَلْحَمُوا ... أَشْدُدْ وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزِلِ )

( حين النزولُ يكون غايةَ مثلنا ... ويَفِرّ كلُّ مُضلَّلٍ مُسْتَوْهِلِ )
( والخيلُ ساهمةُ الوجوهِ كأنما ... تُسْقَى فوارسُها نقيعَ الحنظل )
( ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّه ... حتى أنالَ به كريمَ المأكلِ )
عروضه من الكامل غنت في الأربعة الأبيات الأول والبيت الثاني عريب خفيف رمل بالبنصر من رواية الهشامي وابن المعتز وأبي العبيس
الحتوف ما عرض للإنسان من المكاره والمتالف عن عرض أي ما يعرض منها بمعزل أي في ناحية معتزلة عن ذلك ومنهل مورد وقوله فاقني حياءك أي احفظيه ولا تضيعيه والضنك الضيق يقول إن المنية لو خلقت مثالا لكانت في مثل صورتي والمنصب الأصل والمنصل السيف ويقال منصل أيضا بفتح الصاد وأحجمت كعت والكتيبة الجماعة إذا اجتمعت ولم تنتشر وتلاحظت نظرت من يقدم على العدو وأصل التلاحظ النظر من القوم بعضهم إلى بعض بمؤخر العين والفيصل الذي يفصل بين الناس وقوله لا أبادر في المضيق فوارسي أي لا أكون أول منهزم ولكني أكون حاميتهم والرعيل القطعة من كل شيء ويستلحموا يدركوا والمستلحم المدرك وأنشد الأصمعي
( نَجَّى علاجاً وبِشْراً كلُّ سَلْهَبَةٍ ... واستلحم الموتُ أصحابَ البَرَاذِينِ )
وساهمة ضامرة متغيرة قد كلح فوارسها لشدة الحرب وهولها وقوله ولقد أبيت على الطوى وأظله قال الأصمعي أبيت بالليل على الطوى وأظل بالنهار كذلك حتى أنال به كريم المأكل أي ما لا عيب فيه عليّ

ومثله قوله إنه ليأتي علي اليومان لا أذوقهما طعاما ولا شرابا أي لا أذوق فيهما والطوى خمص البطن يقال رجل طيان وطاوي البطن
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال
أنشد النبي قول عنترة
( ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّه ... حتىَّ أنالَ به كريمَ المأكلِ )
فقال ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة

خبر إلحاقه إخوته لأمه بنسب قومه
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة
أن عنترة كان له إخوة من أمه فأحب عنترة أن يدعيهم قومه فأمر أخا له كان خيرهم في نفسه يقال له حنبل فقال له أرو مهرك اللبن ثم مر به علي عشاء فإذا قلت لكم ما شأن مهركم متخددا مهزولا ضامراً فاضرب بطنه بالسيف كأنك تريهم أنك قد غضبت مما قلت فمر عليهم فقال له يا حنبل ما شأن مهركم متخددا أعجر من اللبن فأهوى أخوه بالسيف إلى بطن مهره فضربه فظهر اللبن فقال في ذلك عنترة
( أَبَنِي زَبِيبةَ ما لِمُهْرِكُمُ ... مُتَخَدِّداً وبطونُكم عُجْرُ )
( ألكم بإيغال الوليدِ على ... أَثَر الشِّياه بشدَّةٍ خُبْرُ )

وهي قصيدة قال فاستلاطه نفر من قومه ونفاه آخرون ففي ذلك يقول عنترة
( أَلاَ يا دارَ عَبْلةَ بالطَّوِيِّ ... كَرَجْعِ الوَشْمِ في كَفّ الهَدِيّ )
وهي طويلة يعدد فيها بلاءه وآثاره عند قومه
أخبرني عمي قال أخبرني الكراني عن النضر بن عمرو عن الهيثم بن عدي قال
قيل لعنترة أنت أشجع العرب وأشدها قال لا قيل فبماذا شاع لك هذا في الناس قال كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما ولا أدخل إلا موضعا أرى لي منه مخرجا وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال
قال عمر بن الخطاب للحطيئة كيف كنتم في حربكم قال كنا ألف فارس حازم قال وكيف يكون ذلك قال كان قيس بن زهير فينا وكان حازما فكنا لا نعصيه وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره فكنا كما وصفت لك فقال عمر صدقت

أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري قال قال محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل عن أبي عبيدة وابن الكلبي قالا

موته
أغار عنترة على بني نبهان من طيىء فطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول
( آثارُ ظُلْمَانٍ بقاعٍ مُحْرب ... )
قال وكان زر بن جابر النبهاني في فتوة فرماه وقال خذها وأنا ابن سلمى فقطع مطاه فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فقال وهو مجروح
( وإنّ ابنَ سَلْمَى عنده فاعلموا دَمِي ... وهيهاتَ لا يُرْجَى ابن سلمى ولا دَمِي )
( يحلُّ بأكناف الشِّعاب وينتمي ... مكانَ الثُّرَيَّا ليس بالمُتَهَضَّمِ )
( رماني ولم يَدْهَشْ بأزرقَ لَهْذَمٍ ... عشيَّة حلُّوا بين نَعْفٍ ومَخْرِمِ )
قال ابن الكلبي وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص وأما أبو عمرو الشيباني فذكر أنه غزا طيئا مع قومه فانهزمت عبس فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب فدخل دغلا وأبصره ربيئة طيىء فنزل إليه وهاب أن يأخذه أسيرا فرماه وقتله

وذكر أبو عبيدة أنه كان قد أسن واحتاج وعجز بكبر سنه عن الغارات وكان له على رجل من غطفان بكر فخرج يتقاضاه إياه فهاجت عليه ريح من صيف وهو بين شرج وناظرة فأصابته فقتلته
قال أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
كان عمرو بن معد يكرب يقول ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها يعني بالحرين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة
هذه أخبار عنترة قد ذكرت فيها ما حضر

نبذة عن ترجمة عبد قيس البرجمي
وأما عبد قيس بن خفاف البرجمي فإني لم أجد له خبرا أذكره إلا ما أخبرني به جعفر بن قدامة قال قرأت في كتاب لأبي عثمان المازني كان عبد قيس بن خفاف البرجمي أتى حاتم طيىء في دماء حملها عن قومه فأسلموه فيها وعجز عنها فقال والله لآتين من يحملها عني وكان شريفا شاعرا شجاعا فقدم على حاتم وقال له إنه وقعت بيني وبين قومي دماء فتواكلوها وإني حملتها في مالي وأهلي فقدمت مالي وأخرت أهلي وكنت أوثق الناس في نفسي فإن تحملتها فكم من حق قضيته وهم كفيته وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك ولم أنس غدك ثم أنشأ يقول
( حملتُ دماءً للبَرَاجِمِ جَمَّةً ... فجئتُكَ لمَّا أسلمتْني البراجمُ )
( وقالوا سَفَاهاً لِمْ حَمَلتَ دماءنَا ... فقلتُ لهم يكفي الحَمَالةَ حاتمُ )
( متى آته فيها يَقُلْ لِيَ مرحباً ... وأهلاً وسهلاً أخطأتْكَ الأشائم )
( فيحملها عنِّي وإن شئتُ زادَني ... زيادةَ مَنْ حِيزَتْ إليه المكارمُ )
( يعيش النَّدَى ما عاش حاتمُ طّيِّىءٍ ... وإن مات قامت للسخاء مآتمُ )
( يُنادِينَ مات الجودُ مَعْك فلا نَرَى ... مُجِيباً له ما حام في الجوِّ حائم )
( وقال رجال أنهبَ العامَ مالَه ... فقلت لهم إنِّي بذلك عالم )
( ولكنه يُعطى مِنَ اموال طيِّىءٍ ... إذا حلَق المالَ الحقوقُ اللَّوازِمُ )
( فيُعطِي الَّتي فيها الغِنَى وكأنه لتصغيره تلك العطَّيةَ جارمُ )
( بذلك أوصاه عَدِيُّ وحَشْرَجٌ ... وسَعْدٌ وعبدُ اللَّه تلك القَمَاقِمُ )
فقال له حاتم إني كنت لأحب أن يأتيني مثلك من قومك وهذا

مرباعي من الغارة على بني تميم فخذه وافراً فإن وفى بالحمالة وإلا أكملتها لك وهي مائتا بعير سوى نيبها وفصالها مع أني لا أحب أن تؤبس قومك بأموالهم فضحك أبو جبيل وقال لكم ما أخذتم منا ولنا ما أخذنا منكم وأي بعير دفعته إلي وليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء فأخذها وزاده مائة بعير وانصرف راجعا إلى قومه فقال حاتم
( أتاني البُرْجُمِيّ أبو جُبَيْلٍ ... لِهَمٍّ في حَمَالتِه طويلِ )
( فقلت له خُذِ المرباعَ منها ... فإنِّي لستُ أرضَى بالقليلِ )
( على حالٍ ولا عوّدتُ نفسي ... على عِلاَّتها عِلَلَ البخيلِ )
( فخُذْها إنها مائتَا بعيرٍ ... سوى النابِ الرذِيَّة والفصيلِ )
( ولا مَنٌّ عليك بها فإنِّي ... رأيتُ المَنَّ بُزْرِي بالجميلِ )
( فآبَ البُرْجُمِيُّ وما عليه ... مِنَ اعباء الحَمالةِ من فتيلِ )
( يَجُرّ الذَّيْلَ ينفُض مِذْرَوَيْهِ ... خفيفَ الظهر من حملٍ ثقيلِ )

ذكر أبي دلف ونسبه وأخباره
هو القاسم بن عيسى بن إدريس أحد بني عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومحله في الشجاعة وعلو المحل عند الخلفاء وعظم الغناء في المشاهد وحسن الأدب وجودة الشعر محل ليس لكبير أحد من نظرائه وذكر ذلك أجمع مما لا معنى له لطوله وفي هذا القدر من أخباره مقنع وله أشعار جياد وصنعة كثيرة حسنة فمن جيد شعره وله فيه صنعة قوله
صوت
( بنفسي يا جِنَانُ وأنتِ منِّي ... محلَّ الروح من جَسَد الجَبَانِ )
( ولو أنِّي أقول مكانَ نفسي ... خَشِيتُ عليكِ بادرةَ الزمانِ )
( لإقدامي إذا ما الخيلُ حامتْ ... وهابَ كُمَاتُها حَرَّ الطِّعانِ )
وله فيه لحن وهذا البيت الأول أخذه من كلام إبراهيم النظام
أخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال
لقي إبراهيم النظام غلاما حسن الوجه فاستحسنه وأراد كلامه فعارضه

ثم قال له يا غلام إنك لولا ما سبق من قول الحكماء مما جعلوا به السبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل كما أنه لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول لما أنبت إلى مخاطبتك ولا انشرح صدري لمحادثتك لكنه سبب الإخاء وعقد المودة ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان فقال له الغلام وهو لا يعرفه لئن قلت ذلك أيها الرجل لقد قال أستاذنا إبراهيم النظام الطبائع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة وتميل إلى ما قاربها بالموافقة وكياني مائل إلى كيانك بكليتي ولو كان الذي انطوى عليه عرضا لم أعتد به ودا ولكنه جوهر جسمي فبقاؤه ببقاء النفس وعدمه بعدمها وأقول كما قال الهذلي
( فتَيَقَّنِي أنْ قد كَلِفتُ بكم ... ثم افْعَلِي ما شئتِ عن علمِ )
فقال له النظام إنما كلمتك بما سمعت وأنت عندي غلام مستحسن ولو علمت أن محلك مثل محل معمر وطبقته في الجدل لما تعرضت لك قال أبو الحسن ومن هذا أخذ أبو دلف قوله
( أُحِبُّكِ يا جِنانُ وأنتِ منِّي ... محلَّ الرُّوح من جسد الجبانِ )
ومن جيد شعره وله فيه صنعة قوله
صوت
( في كل يومٍ أَرَى بيضاءَ طالعةً ... كأنَّما أُنبِتتْ في ناظر البَصَرِ )
( لئن قَصَصْتُكِ بالمِقْراضِ عن بَصَرِي ... لَمَا قطعتُكِ عن هَمِّي وعن فِكَرِي )

حارب الشراة وهو بالسرادن
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب قال حدثني أبي قال سمعت عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف يقول حدثتني ظبية جارية أبي قالت إني لمعه ليلة بالسرادن وهو جالس يشرب معي وعليه ثياب ممسكة إذ أتاه الصريح بطروق الشراة أطراف عسكره فلبس الجوشن ومضى فقتل وأسر وانصرف إلي في آخر الليل وهو يغني قالت والشعر له
صوت
( ليلتِي بالسَّرَادِنِ ... كُلِّلتْ بالمحاسنِ )
( وجَوَارٍ أوَانسٍ ... كالظِّباءِ الشَّوادِنِ )
( بُدِّلتْ بالمُمَسَّكاتِ ... ادِّراعَ الجَوَاشِنِ )
الشعر لأبي دلف والغناء له رمل بالسبابة في مجرى البنصر
خرج مع الإفشين لحرب بابك
وقال أحمد بن أبي طاهر كان أبو دلف القاسم بن عيسى في جملة من كان مع الإفشين خيذر بن كاووس لما خرج لمحاربة بابك ثم تنكر له فوجه يوما بمن جاء به ليقتله وبلغ المعتصم الخبر فبعث إليه بأحمد بن

أبي دواد وقال له أدركه وما أراك تلحقه فاحتل في خلاصه منه كيف شئت قال ابن أبي دواد فمضيت ركضا حتى وافيته فإذا أبو دلف واقف بين يديه وقد أخذ بيديه غلامان له تركيان فرميت بنفسي على البساط وكنت إذا جئته دعا لي بمصلى فقال لي سبحان الله ما حملك على هذا قلت أنت أجلستني هذا المجلس ثم كلمته في القاسم وسألته فيه وخضعت له فجعل لا يزداد إلا غلظة فلما رأيت ذلك قلت هذا عبد وقد أغرقت في الرفق به فلم ينفع وليس إلا أخذه بالرهبة والصدق فقمت فقلت كم تراك قدرت تقتل أولياء أمير المؤمنين واحداً بعد واحد وتخالف أمره في قائد بعد قائد قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين فهات الجواب قال فذل حتى لصق بالأرض وبان لي الاضطراب فيه فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي دلف وأخذت بيده وقلت له قد أخذته بأمر أمير المؤمنين فقال لا تفعل يا أبا عبد الله فقلت قد فعلت وأخرجت القاسم فحملته على دابة ووافيت المعتصم فلما بصر بي قال بك يا ابا عبد الله وريت زنادي ثم رد علي خبري مع الإفشين حدسا بظنه ما أخطأ فيه حرفا ثم سألني عما ذكره لي وهو كما قال فأخبرته أنه لم يخطىء حرفا

أحمد بن أبي دواد ينكر عليه غناءه
وقال علي بن محمد حدثني جدي قال
كان أحمد بن أبي دواد ينكر أمر الغناء إنكارا شديداً فأعلمه المعتصم أن صديقه ابا دلف يغني فقال ما أراه مع عقله يفعل ذلك فستر احمد بن أبي دواد في موضع وأحضر ابا دلف وأمره أن يغني ففعل ذلك وأطال ثم خرج احمد بن أبي دواد عليه من موضعه والكراهة ظاهرة في وجهه فلما رآه

أحمد قال له سوءة لهذا من فعل بعد هذه السن وهذا المحل تضع نفسك كما أرى فخجل ابو دلف وتشور وقال إنهم أكرهوني على ذلك فقال هبهم أكرهوك على الغناء أفأكرهوك على الإحسان والإصابة
قال علي وحدثني جدي أن سبب منادمته للمعتصم أنه كان نديما للواثق وكان ابو دلف قد وصف للمعتصم فأحب أن يسمعه وسأل الواثق عنه فقال يا أمير المؤمنين أنا على الفصد غداً وهم عندي فقال له المعتصم أحب ألاَّ تخفي علي شيئا من خبركم وفصد الواثق فأتاه أبو دلف وأتته رسل الخليفة بالهدايا وأعلمهم الواثق حضور أبي دلف عنده فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون قد جاء الخليفة فقام الواثق وكل من عنده حتى تلقوه حين برز من الدهليز إلى الصحن فجاء حتى جلس وأمر بندماء الواثق فردوا إلى مجالسهم قال حمدون وخنست عن مجلسي الذي كنت فيه لحداثتي فنظر المعتصم إلى مكاني خاليا فسأل عن صاحبه فسميت له فأمر بإحضاري فرجعت إلى مكاني وأمر بأن يؤتى برطل من شرابه فأتي به فأقبل على أبي دلف فقال له يا قاسم غنِّ أمير المؤمنين صوتا فما حصر ولا تثاقل وقال أغني أمير المؤمنين صوتا بعينه أو ما اخترته قال بل غنِّ صنعتك في شعر جرير
( بَانَ الخليطُ برامَتَيْنِ فودَّعوا ... )

فغناه إياه فقال المعتصم أحسن أحسن ثلاثا وشرب الرطل ولم يزل يستعيده ويشرب عليه حتى والى بين سبعة أرطال ثم دعا بحمار فركبه وأمر أبا دلف أن ينصرف معه وأمرني بالانصراف معهما فخرجت أسعى مع ركابه فثبت في ندمائه من ذلك اليوم وأمر لأبي دلف بعشرين ألف دينار

نسبة الصوت الذي غناه ابو دلف
صوت
( بَانَ الخليطُ برامتَيْنِ فودَّعوا ... أَوَكُلَّما اعتزموا لبينٍ تَجْزَعُ )
( كيف العَزاءُ ولم أجِدْ مذ غِبْتُمُ ... قلباً يَقَرُّ ولا شراباً يَنْقَعُ )
عروضه من الكامل الشعر لجرير والغناء لأبي دلف ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي وعمرو بن بانة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس وكان منقطعا إليه وله منه منزلة حسنة فذكر له مطيع بن إياس حماداً الراوية وكان مطرحا مجفوا في أيامهم فقال له دعني فإن دولتي كانت في بني أمية وما لي عند هؤلاء خير فأبى مطيع إلا الذهاب به إليه فاستعار سواداً وسيفاً ثم أتاه فدخل على جعفر فسلم عليه وجلس فقال له جعفر أنشدني فقال لمن أيها الأمير قال لجرير قال حماد فسلخ الله شعره أجمع من قلبي إلا قوله

( بَانَ الخليطُ برامتين فودَّعوا ... )
فاندفعت أنشده إياه حتى بلغت إلى قوله
( وتقول بَوْزَعُ قد دَبَبْتَ على العَصَا ... هَلاَّ هَزِئْتِ بغيرنا يا بَوْزَعُ )
قال حماد فقال لي جعفر أعد هذا البيت فأعدته فقال إيش هو بوزع قلت اسم امرأة قال امرأة اسمها بوزع هو بريء من الله ورسوله ومن العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع يا غلمان قفاه قال فصفعت والله حتى لم أدر أين أنا ثم قال جروا برجله فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه وقد تخرق السواد وانكسر جفن السيف ولقيت شرا عظيما مما جرى من ذلك وكان أغلظ من ذلك علي غرامتي السواد والسيف فلما انصرف إلي مطيع جعل يتوجع لي فقلت له ألم أخبرك أني لا أصيب منهم خيرا وأن حظي قد مضى مع من مضى من بني أمية
رجع الحديث إلى اخبار أبي دلف
وكان أبو دلف جوادا ممدحا وفيه يقول علي بن جبلة
( إنما الدُّنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَغْزَاهُ ومُحْتَضَرِهْ )
( وإذا وَلَّى أبو دُلَفٍ ... وَلَّتِ الدُّنيا على أَثَرِهْ )
وهي من جيد شعره وحسن مدائحه وفيها يقول
( ذادَ وِرْدَ الغَيّ عن صَدَرِهْ ... وارعَوَى واللَّهوُ من وَطَرِهْ )

( نَدَمِي أنّ الشَّبابَ مَضَى ... لم أُبَلِّغْهُ مَدَى أَشَرِهْ )
( حَسَرتْ عنِّي بَشاشتُه ... وذوَى المحمودُ من ثَمرهْ )
( ودَمٍ أَهْدرتُ من رَشَأٍ ... لم يُرِدْ عَقْلاً على هَدَرِهْ )
( فأتتْ دون الصَّبَا هَنَةٌ ... قلبتْ فُوقي على وَتَرِهْ )
( دَعْ جَدَا قَحْطانَ أو مُضَرٍ ... في يَمَانِيهِ وفي مُضَرهْ )
( وامْتَدِحْ من وائلٍ رجلاً ... عُصُرُ الآفاق من عُصُرهْ )
( المنايا في مَقَانِبِه ... والعطايَا في ذَرَا حُجَرِهْ )
( مَلِكٌ تندَى أنَامِلُه ... كانبلاج النَّوْء عن مَطَرِهْ )
( مستهلٌّ عن مَواهِبِه ... كابتسام الرَّوْض عن زَهَرِهْ )
( جَبَلٌ عزّتْ مَنَاكِبُه ... أمِنتْ عَدْنانُ في نَفَرِهْ )
( إنما الدُّنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَغْزاهُ ومُحتَضَرِهْ )
( فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... وَلَّتِ الدنيا على أَثَرِهْ )
( كلُّ مَنْ في الأرض من عَرَبٍ ... بين بادِيه إلى حَضَرِهْ )
( مستعيرٌ منه مَكرُمةً ... يكتسيها يومَ مُفْتَخَرِهْ )
وهذان البيتان هما اللذان احفظا المأمون على علي بن جبلة حتى سل لسانه من قفاه وقوله في أبي دلف أيضا
( أنت الذي تُنزل الأيّامَ منزلَها ... وتَنْقُلُ الدهرَ من حالٍ إلى حالِ )
( وما مددتَ مَدَى طَرْفٍ إلى أحدٍ ... إلاَّ قضيتَ بأرزاقٍ وآجال )
وسنذكر ذلك في موضعه من أخبار علي بن جبلة إن شاء الله تعالى

إذ كان القصد ها هنا أمر أبي دلف

أخبار عن شدة كرمه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال
كنا عند أبي العباس المبرد يوما وعنده فتى من ولد أبي البختري وهب بن وهب القاضي أمرد حسن الوجه وفتى من ولد أبي دلف العجلي شبيه به في الجمال فقال المبرد لابن أبي البختري أعرف لجدك قصة ظريفة من الكرم حسنة لم يسبق إليها قال وما هي قال دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذا غير الذي كانوا يشربون منه فقال فيهم
( نَبِيذانِ في مجلسٍ واحدٍ ... لإيثار مُثْرٍ على مُقْتِرِ )
( فلو كان فعلُك ذا في الطعامِ ... لَزِمْتَ قياسَك في المُسْكِر )
( ولو كنتَ تطلب شأوَ الكرام ... صنعتَ صنيعَ أبي البَخْتَرِي )
( تتبَّعَ إخوانَه في البلاد ... فأغنى المُقِلَّ عن المُكْثِرِ )
فبلغت الأبيات أبا البختري فبعث إليه بثلثمائة دينار قال ابن عمار فقلت قد فعل جد هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسن من هذا قال وما فعل قلت بلغه أن رجلا افتقر بعد ثروة فقالت له امرأته افترض في الجند فقال
( إليكِ عنِّي فقد كَلَّفْتِنِي شَطَطاً ... حَمْلَ السلاحِ وقِيلَ الدَّارعين قِفِ )
( تمشي المنايا إلى غيرِي فأكْرهُها
فكيف أمشي إليها عارِيَ الكَتِفِ )
( حَسِبتِ أنّ نفادَ المال غيَّرني ... وأنّ رُوحِيَ في جَنْبَيْ أبي دُلَفِ )
فأحضره أبو دلف ثم قال له كم أملت امرأتك أن يكون رزقك قال مائة دينار قال وكم أملت أن تعيش قال عشرين سنة قال فذلك لك علي

على ما أملت امرأتك في مالنا دون مال السلطان وأمر بإعطائه إياه قال فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلل وانكسر ابن أبي البختري انكساراً شديداً
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال أخبرني علي بن القاسم قال
قال علي بن جبلة زرت أبا دلف بالجبل فكان يظهر من إكرامي وبري والتحفي بي أمراً مفرطاً حتى تأخرت عنه حيناً حياء فبعث إلي معقل بن عيسى فقال يقول لك الأمير قد انقطعت عني وأحسبك استقللت بري بك فلا يغضبنك ذلك فسأزيد فيه حتى ترضى فقلت والله ما قطعني إلا إفراطه في البر وكتبت إليه
( هجرتُكَ لم أهجُرْكَ من كفر نعمةٍ ... وهل يُرْتَجَى نَيْلُ الزيادة بالكفرِ )
( ولكنَّني لمّا أتيتُك زائراً ... فأفرطتَ في بِرِّي عجزتُ عن الشكر )
( فَمِ الانَ لا آتيك إلا مُسَلِّماً ... أزورُك في الشهرينِ يوماً أو الشهرِ )
( فإن زدْتَنِي بِرّاً تزايدتُ جفوةً ... ولم تلقَني طولَ الحياةِ إلى الحشرِ )
فلما قرأها معقل استحسنها جدا وقال أحسنت والله أما إن الأمير لتعجبه هذه المعاني فلما أوصلها إلى أبي دلف قال قاتله الله ما اشعره وأدق معانيه فأعجبته فأجابني لوقته وكان حسن البديهة حاضر الجواب
( أَلاَ رُبَّ ضيفٍ طارقٍ قد بَسَطتُه ... وآنستُه قبل الضِّيافة بالبِشْرِ )
( أتاني يرجِّيني فما حال دونه ... ودون القِرَى والعُرْفِ ما نائلي سِتْري )
( وجدتُ له فضلاً عليَّ بقَصْدِه ... إليَّ وبِرّاً زاد فيه على بِرِّي )
( فزوَّدته مالاً يَقِلّ بقاؤه ... وزوَّدني مدحاً يدوم على الدهر )

حذف

قال وبعث إلي بالأبيات مع وصيف له وبعث معه إلي بألف دينار فقلت
( حينئذ إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... ) الأبيات
أخبرني علي بن سليمان قال أخبرنا المبرد قال أخبرني إبراهيم بن خلف قال
بينا أبو دلف يسير مع معقل وهما إذ ذاك بالعراق إذ مرا بقصر فأشرفت منه جاريتان فقالت إحداهما للأخرى هذا أبو دلف الذي يقول فيه الشاعر
( إنما الدنيا أبو دُلَفِ ... )
فقالت الأخرى أوهذا قد والله كنت أحب أن أراه منذ سمعت ما قيل فيه فالتفت أبو دلف إلى معقل فقال ما أنصفنا علي بن جبلة ولا وفيناه حقه إن ذلك لمن كبير همي وكان أعطاه ألف دينار

صوت من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( أمَّا القَطاةُ فإنِّي سوف أنعَتُها ... نعتاً يُوافق منها بعضَ ما فيها )
( سَكَّاءُ مخطوبةٌ في رِيشها طَرَقٌ ... صُهْبٌ قَوادِمُها كُدْرٌ خَوافيها )
عروضه من البسيط والشعر مختلف في قائله ينسب إلى أوس بن غلفاء الهجيمي وإلى مزاحم العقيلي وإلى العباس بن يزيد بن الأسود الكندي وإلى العجير السلولي وإلى عمرو بن عقيل بن الحجاج الهجيمي وهو أصح الأقوال

رواه ثعلب عن أبي نصر عن الأصمعي وعلى أن في هذه الروايات أبياتا ليست مما يغنى فيه وأبياتا ليست في الرواية وقد روي أيضا أن الجماعة المذكورة تساجلوا هذه الأبيات فقال كل واحد منهم بعضا وأخبار ذلك وما يحتاج إليه في شرح غريبه يذكر بعد هذا والغناء في اللحن المختار لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى وفي هذين البيتين مع أبيات أخر من القصيدة اشتراك كثير بين المغنين يتقدم بعض الأبيات فيه بعضا ويتأخر بعضها عن بعض على اختلاف تقديم ذلك وتأخيره والأبيات تكتب ها هنا ثم تنسب صنعة كل صانع في شيء منها إليه وهي بعد البيتين الأولين إذ كانا قد مضيا واستغني عن إعادتهما
( لمَّا تبدَّى لها طارت وقد علمتْ ... أنْ قد أظل وأنّ الحيّ غاشيها )
( تَشْتقّ في حيث لم تُبْعِدْ مُصَعِّدةً ... ولم تُصَوِّبْ إلى أدنى مَهَاويها )
( تَنْتاشُ صفراءَ مطروقاً بقيَّتُها ... قد كاد يأزِي عن الدُّعْموصِ آزِيها )
( ما هاج عينَك أمْ قد كاد يُبكيها ... من رَسْمِ دار كسَحْقِ البُرْدِ باقيها )
( فلا غنيمة تُوفِي بالذي وَعَدتْ ... ولا فؤادُك حتى الموتِ ناسِيها )
ثبط مولى عبد الله بن جعفر خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر من رواية إسحاق في أما القطاة والذي بعده وتنتاش صفراء خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو ولإبراهيم الموصلي في لما تبدى لها وأما القطاة خفيف رمل عن الهشامي ولعمر الوادي في أما القطاة ثقيل بالوسطى ولابن جامع في لما تبدى لها وبعده أما القطاة خفيف رمل ولسياط في الأول والثاني وبعدهما تشتق في حيث لم تبعد خفيف ثقيل بالبنصر ومن الناس من ينسب

لحنه إلى عمر الوادي وينسب لحن عمر إليه ولعلويه في أما القطاة والذي بعده رمل هو من صدور أغانيه ومقدمها فجميع ما وجدته في هذه الأبيات من الصنعة أحد عشر لحنا

أقوال بعض الشعراء في وصف القطاة
فأما خبر هذا الشعر فإن ابن الكلبي زعم أن السبب فيه أن العجير السلولي وأوس بن غلفاء الهجيمي ومزاحما العقيلي والعباس بن يزيد بن الأسود الكندي وحميد بن ثور الهلالي اجتمعوا فتفاخروا بأشعارهم وتناشدوا وادعى كل واحد منهم أنه أشعر من صاحبه ومر بهم سرب قطا فقال أحدهم تعالوا حتى نصف القطا ثم نتحاكم إلى من نتراضى به فأينا كان أحسن وصفا لها غلب أصحابه فتراهنوا على ذلك فقال أوس بن غلفاء الأبيات المذكورة وهي أما القطاة وقل حميد أبياتا وصف ناقته فيها ثم خرج إلى صفة القطاة فقال
( كما انصَلتتْ كَدْراءُ تسقِي فِرَاخَها ... بشَمْظةَ رِفْهاً والمياهُ شُعُوبُ )
( غدتْ لم تُباعدْ في السماء ودونَها ... إذا ما علتْ أُهْوِيَّةٌ وصَبُوبُ )
( قرينةُ سَبْعٍ إنْ تَوَاترنَ مَرَّةً ... ضَرَبْنَ فصَفَّتْ أرؤس وجُنوبُ )
( فجاءتْ وما جاء القطا ثم قَلّصتْ ... بمَفْحَصِها والوارداتُ تَنوبُ )
( وجاءت ومَسْقَاها الذي وردتْ به ... إلى الصَّدْرِ مشدودُ العَصَامِ كَتِيبُ )

( تُبادر أطفالاً مساكينَ دونها ... فَلاً لا تَخَطَّاه العيونُ رَغِيبُ )
( وصَفْنَ لها مُزْناً بأرض تَنُوفةٍ ... فما هي إلاَّ نُهْلةٌ وتؤوبُ )
وقال العباس بن يزيد بن الأسود هكذا ذكر ابن الكلبي وغيره يرويها لبعض بني مرة
( حَذَّاءُ مُدْبِرةً سَكَّاءُ مقبلةً ... للماء في النحر منها نَوْطةٌ عَجَبُ )
( تسقي أُزَيْغِبَ تُرويه مُجاجتها ... وذاك من ظَمْأةٍ من ظِمْئها شَرَبُ )
( مُنْهَرِت الشِّدقِ لم تَنْبُتْ قَوَادِمُه ... في حاجب العين من تسبيده زَبَبُ )
( تدعو القَطَا بقصير الخطو ليس له ... قُدَّام مَنْحَرِها ريشٌ ولا زَغَبُ )
( تدعو القَطَا وبه تُدْعَى إذا انتسبتْ ... يا صِدْقَها حين تدعوه وتنتسبُ )
وقال مزاحم العقيلي
( أذلكَ أم كُدْرِيَّةٌ هاج وِرْدَها ... من القيظ يومٌ واقِدٌ وسَمُومُ )
( غدتْ كَنواة القَسْب لا مُضْمحِلَّةٌ ... ونَاةٌ ولا عَجْلَى الفُتور سؤومُ )
( تُواشِكُ رَجْعَ المَنْكِبين وترتمي ... إلى كَلْكَل للهادياتِ قَدُومُ )
( فما انخفضتْ حتى رأتْ ما يسرُّها ... وفَيْءُ الضُّحَى قد مال فهو ذميمُ )

( أَباطِح وانتصَّتْ على حيث تستقى ... بها شَرَكٌ للوارداتِ مُقيمُ )
( سقتْها سيولُ المُدْجِناتِ فأصبحتْ ... عَلاَجِيمَ تَجْرِي مرَّةً وتدومُ )
( فلما استقتْ من بارد الماء وانجلَى ... عن النفس منها لَوْحةٌ وهمومُ )
( دعتْ باسمها حين استقتْ فاستقلَّها ... قَوَادِمُ حجنٌ رِيشُهنّ ملِيمُ )
( بجَوْزٍ كحُقِّ الهاجريّة زانَه ... بأطراف عودِ الفارسِّ وُشُومُ )
يعني حق الطيب شبه حوصلتها بها والوشوم يعني الشية التي في صدرها
( لتسقِيَ زُغْبا بالتَّنوفةِ لم يكن ... خِلافَ مُوَلاَّها لهنّ حميمُ )
( تَرَائكَ بالأرضِ الفَلاة ومن بَدَعْ ... بمنزلها الأولادَ فهو مُليمُ )
( إذا استقبلتْها الريحُ طَمَّتْ رفيقةً ... وهنَّ بمهْوًى كالكُرَاتِ جُثُومُ )
( يُرَاطِنَّ وَقْصاءَ القَفَا وَحْشةَ الشَّوَى ... بدعوى القَطَا لَحْنٌ لهنّ قديمُ )
( فبِتْنَ قرِيراتِ العيونِ وقد جرى ... عليهن شِرْبُ فاستقَيْن مُنِيمُ )
( صَبِيبُ سِقَاءٍ نِيطَ قد بَرَكتْ به ... مُعَاوِدةٌ سَقْيَ الفِرَاخِ رَؤومُ )
وقال العجير فيما روى ابن الكلبي وقد تروى لغيره
( سأَغلِبُ والسماءِ ومَنْ بناها ... قَطاةَ مُزَاحِمٍ ومَنِ انتحاها )

( قَطاة مُزَاحمٍ وأبي المُثَنَّى ... على حُوزيَّةٍ صُلْبٍ شَوَاها )
( غدتْ كالقَطْرةِ السَّفْواء تَهْوِي ... أمام مُجَلْجِلٍ زَجِلٍ نَفَاها )
( تَكَفَّأ كالجُمانَةِ لا تُبالي ... أبالموماةِ أضحتْ أم سِواها )
( نبتْ منها العَجيزةُ فاحزألَّتْ ... ونَبَّسَ للتقتُّل مَنْكِبَاها )
( كأنّ كعوبها أطرافُ نَبْلٍ ... كساها الرَّازقيَّةَ مَنْ بَراها )
قال واحتكموا إلى ليلى الأخيلية فحكمن لأوس بن غلفاء
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن محرز الباهلي قال حدثني رجل عن أبي عبيدة قال أخبرنا حميد بن ثور والعجير السلولي ومزاحم العقيلي وأوس بن غلفاء الهجيمي أنهم تحاكموا إلى ليلى الأخيلية لما وصفوا القطاة أيهم أحسن وصفاً لها فقالت
( أَلاَ كلُّ ما قال الرُّواة وأنشدوا ... بها غيرَ ما قال السَّلُوليُّ بَهْرَجُ )
وحكمت له فقال حميد بن ثور يهجوها
( كأنَّكِ وَرْهاءُ العِنانَيْنِ بغلةٌ ... رأت حُصُناً فعارضتْهنّ تَشْحَجُ )

ووجدت هذه الحكاية عن أبي عبيدة مذكورة عن دماذ عنه وأنه سأله عن أبيات العجير فأنشده
( تجوبُ الدُّجَى سَكَّاءُ من دون فَرْخِها ... بمَطْلَى أَرِيكٍ نَفْنَفٌ وسُهوبُ )
( فجاءت وقَرْنُ الشمسِ بادٍ كأنَّه ... هِجانٌ بصحراء الخُبَيْبِ شَبُوبُ )
( لتسقيَ أفراخاً لها قد تبلَّلتْ ... حلاقيمُ أسماطٌ لها وقلوبُ )
( قِصارُ الخُطَا زُغْبُ الرؤوسِ كأنَّها ... كُرَاتٌ تَلَظَّى مرَّةً وتَلوبُ ) فأما ما ذكرت من رواية ثعلب في الأبيات التي فيها الغناء فإنه أنشدها عن أبي حاتم عن الأصمعي أن أبا الحضير أنشده لعمرو بن عقيل بن الحجاج الهجيمي
( أمَّا القطاةُ فإنِّي سوف أنعَتُها ... نعتاً يُوافِق نعتِي بعضَ ما فيها )
( صفراءُ مطروقةٌ في ريشِها خَطَبٌ ... صُفْرٌ قوادمُها سُودٌ خَوافِيها )
( مِنْقارُها كنَواة القَسْبِ قَلَّمَها ... بمِبرَد حاذقُ الكفَّين يَبْرِيها )
( تمشِي كَمَشْيِ فتاةِ الحيّ مسرعةً ... حذارَ قومٍ إلى سِتْرٍ يُواريها )
قال الأصمعي مطروقة يعني أن ريشها بعضه فوق بعض والخطب لون الرماد يقال للمشبه به أخطب

( تَنْتاشُ صفراءَ مطروقاً بَقيَّتُها ... قد كادَ يَأْزِي عن الدُّعْموص آزِيها )
تنتاش تتناويل بقية من الماء والمطروق الماء الذي قد خالطه البول وقوله يأزي أي يقل عن الدعموص فيخرج منه لقلته والدعموص الصغير من الضفادع وجمعه دعاميص
( تسقي رَذِيَّيْنِ بالمَوْماةِ قُوتُهما ... في ثُغْرةِ النَّحْرِ من أعلى تَرَاقيها )
الرذيّ الساقط من الضعف يعني فرخيها
( كأنّ هَيْدَبةً من فوق جُؤْجئها ... أو جِرْوُ حَنْظلةٍ لم يعدُ راميها )
جرو الحنظل صغاره وقوله لم يعد من العداء أي لم يعد عليها فيكسرها
( تَشْتَقّ من حيث لم تُبْعِدْ مُصَعِّدة ... ولم تُصَوِّبْ إلى أدنى مَهاويها )
( حتى إذا استأنسا للوقت واحتَضرت ... تَوَجَّسا الوَحْيَ منها عند غَاشِيها )
ويروى حتى إذا استأنسا للصوت وتوجسا تسمعا وحيها أي سرعة طيرانها وغاشيها أي حين تغشاهما وتنتهي إليهما
( تَرَفَّعَا عن شؤون غير ذاكيةٍ ... على لَدِيدَيْ أعالي المَهْدِ أُدْحِيها )
الذاكية الشديدة الحركة والمهد أفحوصها ولديداه جانباه
( مَدَّا إليها بأفواهٍ مُزَيَّنةٍ ... صُعْداً ليستنزلا الأرزاقَ مِنْ فِيها )
( كأنَّها حين مَدَّاها لجَنْأتها ... طَلَى بَوَاطنَها بالوَرْسِ طَالِيها )
جنأتها أي جنأت عليهما بصدرها لتزقهما

( حِثْلَيْن رَضَّا رُفَاضَ البَيْضِ عن زَغَبٍ ... وُرْقٌ أسافلُها بيضٌ أعَالِيها )
حثلين دقيقين ضاويين رضاً كسرا والرفاض ما ارفض وتفرق
( تَرَأَّدا حين قاما ثُمّتَ احتطبَا ... على نَحَائفَ مُنْآدٍ مَحانيها )
ترأدا تثنيا واحتطبا دنوا والمنآد المنعطف ومحانيها حيث انحنت
( تكاد من لِينها تنآد أسْؤُقُها ... تَأوُّدَ الرَّبْل لم تَعرِمْ نواميها )
تعرم تشتد ونواميها أعاليها
( لا أشتكي نَوْشةَ الأيَّام من وَرَقِي ... إلاَّ إلى مَنْ أَرَى أن سوف يُشْكِيها )
( لدِلْهِمٍ مأثُراتٌ قد عُدِدْن له ... إن المآثِرَ معدودٌ مَسَاعِيها )
( تَنْمِي به في بني لأيٍ دَعَائمُها ... ومن جُمَانة لم تخضَعْ سَوَارِيها )
( بَنَى له في بيوت المجد والدُه ... وليس مَنْ ليس يَبْنِيها كبانيها )
وأنشدني هذه الأبيات الحسن بن محمد الضبعي الشاعر المعروف بابن الحداد قال وجدتها بخط محمد بن داود بن الجراح عن إسماعيل بن يونس الشيعي شيخنا رحمه الله عن أخيه عن أبي محلم مثل رواية ثعلب وزاد فيها قال أبو محلم جمانة بن جرير بن عبد ثعلبة بن سعد بن الهجيم وهم أخوال دلهم هذا الممدوح ودلهم من بني لأي ثم من بني يزيد بن هلال بن بذل بن عمرو بن الهيثم وكان أحد الشجعان وهو قتل الضحاك بن قيس الخارجي

بيده مع مروان بن محمد ليلة كفرتوثا

صوت من المائة المختارة
عن علي بن يحيى
( أيّها القلبُ لا أراك تُفيق ... طالما قد تعلَّقتْك العُلوقُ )
( من يكن من هوى حبيبٍ قريباً ... فأنا النازحُ البعيدُ السَّحيقُ )
( قُدِّرَ الحبُّ بيننا فالتقينا ... وكِلانا إلى اللقاءِ مَشُوقُ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة وقد مضت أخباره والغناء في اللحن المختار لبابويه الكوفي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن سريج ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه ايضا لمخارق خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وفيه لعلويه رمل بالبنصر عنه وعن الهشامي وبابويه رجل من أهل الكوفة قليل الصنعة ليس ممن خدم الخلفاء ولا الأكابر ولا أعلم له خبراً فأذكره
صوت من المائة المختارة
( مَنْ لِقَلْبٍ أضحَى بكم مُستهامَا ... خائفاً للوُشاةِ يُخْفِي الكلاما )
إنّ طَرْفي رسولُ نفسي ونفسي ... عن فؤادي تقرَا عليك السلاما )
لم يقع إلينا قائل الشعر فنذكر خبره والغناء لرياض جارية أبي حماد

خفيف ثقيل بالوسطى وكان أبو حماد هذا أحد القواد الخراسانية ومن أولاد الدعاة وكان يعاشر إسحاق ويبره ويهاديه فأخذت رياض عنه غناء كثيرا وكانت محسنة ضاربة كثيرة الرواية وأحب إسحاق أن ينوه باسمها ويرفع من شأنها فذكر صنعتها في هذا الصوت فيما اختاره للواثق قضاء لحق مولاها وليس فيما قلته في هذا لأن الصوت غير مختار ولكن في الغناء ما هو أفضل منه بكثير ولم يذكره وقد فعل ذلك بجماعة ممن كان يوده ويتعصب له مثل متيم وأبي دلف وغيرهم ومن يعلم هذه الصناعة يعرف صحة ما قلناه وماتت رياض هذه مملوكة لمولاها لم تخرج من يده ولا شهرت ولا روي لها خبر

صوت من المائة المختارة عن علي بن يحيى
( راح صحبي وعاود القلبَ داءُ ... من حبيبٍ طِلاَبُه لي عَناءُ )
( حَسَنُ الرأي والمواعيد لا يُلْفَى ... لشيء مما يقول وفاء )
( مَنْ تَعَزَّى عمن يحبّ فإني ... ليس لي ما حَيِيتُ عنه عزاء )
( أُمُّ عثمان قد قتلتِ قتيلاً ... عَمْدَ عَيْنٍ قتلتِه لا خَطَاءُ )
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر فنذكره والغناء لنافع بن طنبورة ولحنه المختار خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى وفي هذا الشعر لحن لعبد الله بن طاهر ثاني ثقيل من جيد صنعته وكان نسبه إلى لميس جاريته وله خبر سنذكره في أخباره إذا انتهينا وكان نافع بن طنبورة يكنى أبا عبد الله مغن محسن من أهل المدينة حسن الوجه نظيف الثوب يلقب نقش الغضار لحسن وجهه وجعلته جميلة في المرتبة لما اجتمع المغنون إليها بعد نافع وبديح وقبل مالك بن أبي السمح وغناها يومئذ
( يا طُولَ ليلِي وبِتُّ لم أَنَمِ ... وِسادِيَ الهَمُّ مُبطِنٌ سَقَمِي )

( أنْ قمتُ يوماً على البَلاَطِ وأبصرتُ ... رَقَاشاً فليتَ له أقُمِ )
فقالت جميلة أحسنت والله يا نقش الغضار ويا حلو اللسان ويا حسن البيان ولم يفارق ابن طنبورة الحجاز ولا خدم الخلفاء ولا انتجعهم بصنعة فخمل ذكره
صوت من المائة المختارة عن علي بن يحيى )
( عَتَق الفؤادُ من الصِّبَا ... ومن السَّفاهة والعَلاَقِ )
( وحططتُ رحلي عن قَلُوصِ ... الغيّ في قُلُص عِتَاقِ )
( ورفعت فضلَ إزاريَ الْمَجرور ... عن قدمي وساقي )
( وكَفَفْتُ غَرْبَ النفسِ حَتَّى ... ما تتوقُ إلى مَتاقِ )
الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت والغناء لابن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل وقيل إنه لغيره

أخبار سعيد بن عبد الرحمن
وقد مضى نسبه في نسب جده حسان بن ثابت متقدما وهو شاعر من شعراء الدولة الأموية متوسط في طبقته ليس معدوداً في الفحول وقد وفد إلى الخلفاء من بني أمية فمدحهم ووصلوه ولم تكن له نباهة أبيه وجده
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني ابو عمرو الخصاف عن العتبي قال
خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسان مع جماعة من قريش إلى الشام في خلافة هشام بن عبد الملك وسألهم معاونته فلم يصادفوا من هشام له نشاطاً وكان الوليد بن يزيد قد طلق امرأته العثمانية ليتزوج أختها فمنعه هشام عن ذلك ونهى أباها أن يزوجه فمر يوما بالوليد وقد خرج من داره ليركب فلما رآه وقف فأمر به الوليد فدعي إليه فلما جاءه قال أنت ابن عبد الرحمن بن حسان قال نعم أيها الأمير فقال له ما أقدمك قال وفدت على أمير المؤمنين منتجعا ومادحا ومستشفعاً بجماعة صحبتهم من أهله فلم أنل منه حظوة ولا قبولا قال لكنك تجد عندي ما تحب فأقم حتى أعود فأقام ببابه حتى دخل إلى هشام وخرج من عنده فنزل ودعا بسعيد فدخل إليه فأمر بتغيير هيئته وإصلاح شأنه ثم قال له أنشدني قصيدة بلغتني لك فشوقتني

إليك وغنيت في بعضها فلم أزل أتمنى لقاءك فقال أي قصيدة أيها الأمير قال قولك
( أبائنةٌ سُعْدَى ولم تُوفِ بالعَهْدِ ... ولم تَشْفِ قلباً تيّمتْه على عَمْدِ )
( نَعَمْ أفَمُودٍ أنت إن شَطَّتِ النَّوَى ... بسُعْدَى وما من فُرقةِ الدهر من رَدِّ )
( كأنْ قد رأيتَ البينَ لا شيءَ دونه ... فَمِ الآنَ أعْلِنْ ما تُسِرّ من الوجدِ )
( لعلك منها بعد أن تَشْحَطَ النّوَى ... مُلاَقٍ كما لاقى ابنُ عَجْلانَ من هندِ )
( فوَيْلُ ابنِ سَلْمَى خُلَّةً غيرَ أنها ... تُبَلَّغ منِّي وهي مازحةٌ جِدِّي )
( وتدنو لنا في القول وهي بعيدةٌ ... فما إنْ بسَلْمَى من دُنُوٍّ ولا بُعْدِ )
( ومهما أكُنْ جَلْداً عليه فإنَّني ... على هَجْرِها غيرُ الصَّبُورِ ولا الجَلْدِ )
( إذا سُمْتُ نفسي هجرَها قُطِعتْ به ... فجانبتُه فيما أُسِرّ وما أُبْدِي )
( كأنِّي أرى في هجرها أيَّ ساعةٍ ... هَمَمْتُ به موتي وفي وصلها خُلْدي )
( ومن أجلِها صافَيْتُ مَنْ لا تَرُدُّني ... عليه له قُرْبَى ولا نعمةٌ عندي )
( وأغضيتُ عيني من رجالٍ على القَذَى ... يقولون أقوالاً أَمَضُّوا بها جِلْدِي )
( وأقصَيتُ مَنْ قد كنتُ أُدْنِي مكانَه ... وأدنيتُ من قد كنتُ أقصيتُه جَهْدِي )
( فإن يَكُ أمسَى وصلُ سَلمَى خِلابةً ... فما أنا بالمفتونِ في مثلها وحدي )
( فأَصْبحَ ما مَنَّتْكَ دَيْناً مُسَوَّفاً ... لواه غريمٌ ذو اعتلالٍ وذو جَحْدِ )

( تجود بتقريبِ الذي هو آجلٌ ... من الوعد ممطولٌ وتبخَل بالنَّقْدِ )
( وقد قلت إذ أهدَتْ إلينا تحيَّةً ... عليها سلامُ الله من نازح مُهْدِي )
( سقى الغيثُ ذاك الغورَ ما سكنتْ به ... ونجداً إذا صارت نَواهَا إلى نجدِ )
قال فجعل ينشدها ودموع الوليد تنحدر على خديه حتى فرغ منها ثم قال له لن تحتاج إلى رفد أحد ولا معونته ما بقيت وأمر له بخمسمائة درهم وقال ابعث بها إلى أهلك واقم عندي فلن تعدم ما تحبه ما بقيت فلم يزل معه زمانا ثم استأذنه وانصرف وفي بعض هذه الأبيات غناء نسبيته

صوت
( أبائنةٌ سُعْدَى ولم تُوفِ بالعهدِ ... ولم تَشفِ قلباً أقصدتْه على عَمْدِ )
( ومهما أكن جلداً عليه فإنَّني ... على هجرها غيرُ الصبَّور ولا الجَلْدِ )
الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي ومن هذه القصيدة
صوت
وأغضيتُ عيني من رجالٍ على القَذَى ... يقولون أقوالاً أَمَضُّوا بها جِلْدِي )
( إذا سُمْتُ نفسي هجرَها قُطِعتْ به ... فجانيتُه فيما أسِرّ وما أَبْدِي )
الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو
خبره مع عبد الصمد مؤدب الوليد بن يزيد
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي ومحمد بن الضحاك بن عثمان قالا

وفد سعيد بن عبد الرحمن بن حسان على هشام بن عبد الملك وكان حسن الوجه فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك فأراده على نفسه وكان لوطيا زنديقا فدخل سعيد على هشام مغضبا وهو يقول
( إنه واللَّه لولا أنت لم ... ينجُ منِّي سالماً عبدُ الصَّمَدْ )
فقال له هشام ولماذا قال
( إنه قد رام منِّي خُطَّةً ... لم يَرُمْها قبله منِّي أحدْ )
فقال وما هي قال
( رامَ جهلاً بي وجهلاً بأبي ... يُدْخِلُ الأفعَى إلى خِيسِ الأسَدْ )
قال فضحك هشام وقال له لو فعلت به شيئا لم أنكر عليك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن شبة قال أخبرنا ابن عائشة لا أعلمه إلا عن أبيه قال
سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان صديقاً له حاجة وقال هاشم بن محمد في خبره سأل سعيد بن عبد الرحمن ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حاجة يكلم فيها سليمان بن عبد الملك فلم يقضها له ففزع فيها إلى غيره فقضاها فقال
( سُئلتَ فلم تفعلْ وأدركتُ حاجتِي ... تولَّى سواكم حَمْدَها واصطناعَها )
( أبى لك كَسْبَ الحمد رأيٌ مُقَصِّرٌ ... ونفسٌ أضاق اللَّه بالخير باعَها )
( إذا ما أرادته على الخير مرَّةً ... عصاها وإن هَمَّتْ بشرٍّ أطاعها )

قال ابن عمار وقد أنشدنا هذه الأبيات سليمان بن أبي شيخ لسعيد بن عبد الرحمن ولم يذكر لها خبرا

عدي بن الرقاع يشهد له بشاعريته
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال
قال رجل من الأنصار لعدي بن الرقاع أكتبني شيئا من شعرك قال ومن أي العرب أنت قال أنا رجل من الأنصار قال ومن منكم القائل
( إنّ الحَمامَ إلى الحجازِ يَهيجُ لي ... طَرَباً تَرَنُّمُهُ إذا يَتَرَنَّمُ )
( والبرقُ حين أَشِيمُه مُتَيامِناً ... وجنائبُ الأرواحِ حين تَنَسَّمُ )
فقال له سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال عليكم بصاحبكم فاكتب شعره فلست تحتاج معه إلى غيره
وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته
صوت
( بَرِحَ الخفاءُ فأيَّ ما بك تَكتُمُ ... والشَّوْقُ يُظْهِرُ ما تُسِرّ فيُعْلَمُ )
( وحملتَ سُقْماً من علائِق حبِّها ... والحبُّ يَعْلَقُه الصحيحُ فيَسْقَمُ )
الغناء لحكم خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وذكره إبراهيم له ولم يجنسه وفي هذه القصيدة يقول

( علويَّةٌ أمستْ ودون وِصَالِها ... مضمارُ مصرَ وعابِدٌ والقُلْزُمُ )
( خَوْدٌ تُطِيفُ بها نواعمُ كالدُّمَى ... مما اصطفى ذو النِّيقة المتوسِّمُ )
( حُلِّينَ مَرْجانَ البحورِ وجوهراً ... كالجمر فيه على النحور يُنَظَّمُ )
( قالت وماءُ العين يغسِل كحلَها ... عند الفِراق بمستهلٍّ يَسْجُمُ )
( يا ليتَ أنك يا سعيدُ بأرضِنا ... تُلْقِي المَراسِيَ ثاوياً وتُخَيِّمُ )
( فتُصِيبَ لذَّةَ عيشِنا ورخاءَه ... فنكون أجواراً فماذا تَنقِمُ )
( لا تَرجِعَنَّ إلى الحجازِ فإنه ... بلدٌ به عيش الكريم مُذَمَّمُ )
( وهَلُمَّ جَاوِرْنا فقلت لها اقصِرِي ... عيشٌ بطَيْبةَ ويحَ غيرِك أنعَمُ )
( أيُفارَقُ الوطنُ الحبيبُ لمنزلٍ ... ناءٍ ويُشْرَى بالحديث الأقدمُ )
( إنّ الحمامَ إلى الحجاز يَهِيجُ لي ... طَرَباً تَرَنُّمُه إذا يترنَّمُ )
( والبرقُ حين أشِيمُه متيامناً ... وجنائبُ الأرواحِ حين تَنَسَّمُ )
( لو لَحَّ ذو قَسَمٍ على أنْ لم يكن ... في الناسِ مُشْبِهُها لبَرّ المُقْسمُ )
( من أجلها تَرْكِي القَرارَ وخَفْضَه ... وتَجَشُّمِي ما لم أكن أَتَجَشَّمُ )
( ولقد كتمتُ غداةَ بانتْ حاجةً ... في الصدر لم يعلم بها متكلِّم )
( تَشفِي برؤيتها السقيمَ وترتمي ... حَبَّ القلوب رَمِيُّها لا يَسْلم )
( رَقْراقةٌ في عُنْفوان شَبابها ... فيها عن الخُلُق الدَّنيِّ تَكَرُّمُ )
( ضَنَّتْ على مُغْرًى بطول سؤالها صَبٍّ كما يَسَلُ الغَنِيُّ المُعْدِمُ )

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن الحرمازي قال
( خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسان إلى عسكر يزيد بن عبد الملك فأتى عنبسة بن سعيد بن العاصي وكان أبوه صديقاً لأبيه فسأله أن يرفع أمره إلى الخليفة فوعده أن يفعل فلم يمكث إلا يسيراً حتى طرقه لص فسرق متاعه وكل شيء كان معه فأتى عنبسة فتنجزه ما وعده فاعتل عليه ودافعه فرجع سعيد من عنده فارتجل وقال
( أَعَنْبَسُ قد كنت لا تَعْتَزِي ... إلى عِدَةٍ منك كانت ضَلاَلاَ )
( وعدتَ عِدَاتٍ لَوَانجزتَها ... إذاً لحُمِدْتَ ولم تُزْرَ مالاَ )
( وما كان ضَرَّكَ لو قد شفعتَ ... فأعطى الخليفةُ عفواً نَوالا )
( وقد يُنْجِزُ الحرُّ موعودَه ويفعل ما كان بالأمسِ قالا )
( فيا ليتني والمُنَى كاسمِها ... وقد يصرِف الدهرُ حالاً فحالا )
( قعدتُ ولم ألتمس ما وعدتَ ... ويا ليت وعدَك كان اعتلالا )
( وكانت نَعَمْ منك مخزونةً ... وقلت مِن أوَّل يومٍ ألاَلا )
( أرى كذِبَ القولِ من شرِّ ما ... يُعدَ إذا الناسُ عَدوا الخِصالا )
( فأبقيتَ لي عنكَ مندوحةً ... ونفساً عَزُوفاً تُقِلّ السؤالا )
( فإن عدتُ أرجوكُمُ بعدَها ... فبُدِّلتْ بعد العَلاَء السَّفَالا )
( أأرجوك من بعد ما قد عَزَفْتَ ... لَعَمرِي لقد جئت شيئا عُضَالا )

الوليد يستأنس به في الحج
نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني يأثر

كان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان إذا وفد إلى الشام نزل على الوليد بن يزيد فأحسن نزله وأعطاه وكساه وشفع له فلما حج الوليد لقيه سعيد بن عبد الرحمن في أول من لقيه فسلم عليه فرد الوليد عليه السلام وحياه وقربه وأمر بإنزاله معه وبسطه ولم يأنس بأحد أنسه به وأنشده سعيد قوله فيه
( يا لَقَوْمِي لِلهَجْرِ بعد التَّصافِي ... وتَنَائِي الجميع بعد ائتلافِ )
( ما شجا القلبَ بعد طول اندمال ... غيرُ هابٍ كالفَرْخ بين أَثَافِي )
( ونعيبِ الغراب في عَرْصةِ الدار ... ونُؤْيٍ تَسْفِي عليه السَّوافي )
وقد روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال رأى علي ابن عمر أوضاحا فقال ألقها عنك فقد كبرت

صوت من المائة المختارة من رواية جحظة
( ما جرتْ خَطْرةٌ على القلب منِّي ... فيكِ إلاَّ استترتُ عن أصحابِي )
( من دموعٍ تجرِي فإن كنتُ وحدي ... خالياً أسعدتْ دموعي انتحابي )
( إنَّ حُبِّي إيَّاكِ قد سَلّ جِسْمِي ... ورَمانِي بالشيبِ قبل الشَّباب )
( ارْحَمِي عاشقاً لكِ اليوم صبّاً ... هائمَ العقل قد ثَوَى في التُّرابِ )
الشعر للسيد الحميري والغناء لمحمد نعجة خفيف رمل أيضا

ولم أجد لهذا المغني خبراً ولا ذكراً في موضع من المواضع اذكره وقد مضت أخبار السيد متقدما

صوت من المائة المختارة
( أكرَعُ الكَرْعةَ الرويَّةَ منها ... ثم أصحو ما شَفَيتُ غَليلِي )
( كم أتى دون عهدِ أُمِّ جميل ... من إنَى حاجةٍ ولُبْثٍ طويلِ )
( وصياح الغراب أن سِرْ فأسْرِعْ ... سوف تحظَى بنائلٍ وقَبُولِ )
الشعر للأحوص والغناء للبردان خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45