كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

إليه إن أبت أن تبرأ منه فاقتلها فأبت فحفر لها حفيرة وأقيمت فيها فقتلت فقال عمر بن أبي ربيعة في ذلك
( إنّ من أعجبِ العجائب عندي ... قتل بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبولِ )
( قُتِلتْ حُرَّةٌ على غير جُرْمٍ ... إنّ للهِ دَرَّها من قَتيل )
( كُتب القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانياتِ جَرُّ الذيول )
رجع الحديث إلى رواية عمر بن شبة
قال أبو زيد وحدثني ابن عائشة عن أبيه بهذا الخبر ونحوه وزاد فيه أن الحارث لما تزوجها قالت فيه
( نكَحتُ المدِينيَّ إذ جاءني ... فيا لكِ من نَكْحةٍ غاويهْ )
وذكر الأبيات المتقدمة وقال عمر بن شبة فيه وتزوجها روح بن زنباع فنظر إليها يوما تنظر إلى قومه جذام وقد اجتمعوا عنده فلامها فقالت وهل أرى إلا جذام فوالله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام وقالت تهجوه
( بكى الخَزُّ من رَوْحٍ وأنكر جلدَه ... وعَجَّتْ عَجيجاً من جُذامَ المطارفُ )
( وقال العَبَا قد كنتُ حيناً لباسَكم ... وأكسيةٌ كُرْدِيَّةٌ وقَطائفُ )
فقال روح
( إن تَبْكِ منّا تَبْكِ ممن يُهِينُها ... وإن تَهْوَكم تهوَ اللِّئامَ المقَارِفَا )
وقال روح
( أَثْنِي عليَّ بما علمتِ فإنَّني ... مُثْنٍ عليكِ لبئس حَشوُ المِنْطَق )

فقالت
( أثْنِي عليكَ بأنّ باعَكَ ضَيِّقٌ ... وبأن اصْلَك في جُذَامٍ مُلْصَقُ )
فقال روح
( أَثْنِي عليَّ بما عَلِمْتِ فإنّني ... مُثْنٍ عليكِ بمثل رِيح الجَوْرَب )
فقالت
( فثناؤنا شرُّ الثَّنَاء عليكمُ ... أَسْوَا وأنْتَنُ من سُلاَح الثَّعْلَبِ )
وقالت
( وهل أنا إلا مُهْرَةٌ عربيّةٌ ... سَليلةُ أفراس تجلَّلها بَغْلُ )
( فإنْ نُتِجتُ مُهْراً كريماً فبالحَرَى ... وإن يك إقرافٌ فما أَنْجب الفحلُ )
فقال روح
( فما بالُ مُهْرٍ رائعٍ عَرَضتْ له ... أتانٌ فبالتْ عند جَحْفَلة البغِل )
( إذا هو وَلّى جانباً ربَخَتْ له ... كما ربختْ قَمْراءُ في دَمسٍ سهل )
وقالت عمرة لأخيها أبان بن النعمان
( أطال اللهُ شأوك من غُلاَمٍ ... متى كانتْ مَنَاكِحَنا جُذَامُ )

( أترضَى بالأكارع والذُّنَابَى ... وقد كنّا يَقِرُّ بنا السَّنامُ )
وقال ابن عم لروح
( رَضِي الأشياخ بالفِطْيَوْنِ فَحْلاً ... وترغَب للحماقة عن جُذامِ )
( يهوديٌّ له بُضْعُ العَذَارَى ... فقبحاً للكهول وللغلام )
( تُزَفُّ إليه قبل الزوج خَوْدٌ ... كأنْ شَمْساً تدلَّتْ من غَمام )
( فأبقى ذلكم عاراً وخِزْياً ... بقاءَ الوَحْيِ في صُمِّ السِّلام )
( يهودٌ جُمِّعُوا من كلِّ أَوْبٍ ... وليسوا بالغَطَاريفِ الكرام )
وقالت
( سُمِّيتَ رَوْحاً وأنت الغمُّ قد عَلِموا ... لا روَّح اللهُ عن رَوْح بن زِنْباعِ )
فقال روح
( لا روَّح الله عمن ليس يمنعنا ... مالٌ رَغيبٌ وبعلٌ غير مِمناعِ )
( كشافعٍ جَوْنةٍ ثُجْلٍ مَخَاصِرُها ... دَبَّابةٍ شَثْنةِ الكَفَّينِ جُبّاع )

قال والجباع القصيرة والجباع من السهام الذي لا نصل له والجباع الرصف
وقالت
( تُكَحِّل عينيكَ بَرْدَ العَشيّ ... كأنّكَ مُومِسةٌ زانيهْ )
( وآيةُ ذلك بعد الخُفُوقِ ... تَغَلُّفُ رأسِك بالغاليه )
( وأنّ بَنِيكَ لرَيْبِ الزمان ... أمستْ رقابهمُ حاليه )
( فلوكان أَوْسٌ لهم حاضراً ... لقال لهم إنّ ذا ماليه )
وأوس رجل من جذام يقال إنه استودع روحا مالا فلم يرده عليه فقال لها روح
( إن يكن الخُلْعُ من بالكم ... فليس الخلاعةُ من باليهْ )
( وإن كان مَنْ قد مضىَ مثلَكم ... فأُفٍّ وتُفٍّ على الماضيه )
( وما إنْ بَرَا اللهُ فاستيقنيه ... من ذات بعلٍ ومن جاريه )
( شبيهاً بك اليوم فيمن بَقِي ... ولا كان في الأَعْصرُ الخاليه )
( فبُعداً لَمِحْياكِ إذ ما حَيِيتِ ... وبُعداً لأَعظُمِك الباليه )
وقال روح في بعض ما يتنازعان فيه اللهم إن بقيت بعدي فابتلها ببعل يلطم وجهها ويملأ حجرها قيئا فتزوجها بعده الفيض بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وكان شابا جميلا يصيب من الشراب فأحبته فكان ربما أصاب من الشراب مسكرا فيلطم وجهها ويقيء في حجرها فتقول يرحم الله أبا زرعة قد أجيبت دعوته في وقالت لفيض
( سُمِّيت فيضاً وما شيءٌ تَفِيضُ به ... إلاّ سُلاَحَكَ بين الباب والدارِ )

( فتلك دعوةُ رَوْحِ الخيرِ أعرِفُها ... سقَى الإِلهُ صَدَاه الأَوْطَفَ السَّارِي )
وقالت لفيض أيضا
( ألا يَا فَيْضُ كنتُ أراكَ فَيْضاً ... فلا فَيْضاً أصبتُ ولا فُرَاتا )
وقالت
( وليس فيضٌ بفَيّاضِ العَطاء لنا ... لكنَّ فيضاً لنا بالقّيْءِ فَيّاضُ )
( ليثُ اللُّيوثِ علينا باسلٌ شَرِسٌ ... وفي الحروب هَيُوبُ الصدرِ جَيَّاضُ )
فولدت من الفيض ابنة فتزوجها الحجاج بن يوسف وقد كانت قبلها عند الحجاج أم أبان بنت النعمان بن بشير فقالت حميدة للحجاج
( إذا تذكَّرتُ نكاحَ الحَجّاجْ ... من النَّهارِ أو من اللَّيل الداجْ )
( فاضتْ له العينُ بدمع ثَجَّاجْ ... وأُشْعِل القلبُ بوَجْدٍ وَهَّاجْ )
( لو كان نُعمانُ قتيلُ الأَعْلاجْ ... مسْتَوِيَ الشَّخصِ صَحِيحَ الأوداجْ )
( لكنتَ منها بمكان النَّسَّاجْ ... قد كنتُ أرجو بعضَ ما يرجو الرَّاجْ )
( أن تَنْكِحيه مَلِكاً أو ذا تاجْ ... )
فقدمت حميدة على ابنتها زائرة فقال لها الحجاج يا حميدة إني كنت

أحتمل مزاحك مرة وأما اليوم فإني بالعراق وهم قوم سوء فإياك فقالت سأكف حتى أرحل
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثنا المدائني عن مسلمة بن محارب قال قالت حميدة بنت النعمان لزوجها روح بن زنباع وكان أسود ضخما كيف تسود وفيك ثلاث خصال أنت من جذام وأنت جبان وأنت غيور فقال أما جذام فأنا في أرومتها وبحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه وأما الجبن فإنما لي نفس واحدة ولو كان لي نفسان لجدت بإحداهما وأما الغيرة فهو أمر لا أحب أن أشارك فيه وإن المرء لحقيق بالغيرة على المرأة مثلك الحمقاء الورهاء لا يأمن أن تأتي بولدمن غيره فتقذفه في حجره ثم ذكر باقي خبرها مثل ما تقدم وقال فيه فخلف بعده عليها الفيض بن محمد عم يوسف بن عمر فكان يشرب ويلطمها ويقيء في حجرها فقالت
( سُمِّيتَ فَيْضا وما شيءٌ تَفيض به ... إلا سُلاحَكَ بين الباب والدار )
قال المدائني وتمثل فيض يوما بهذا البيت
( إن كنتِ ساقيةً يوماً على كَرَمٍ ... صَفْوَ المدامةِ فاسقِيها بني قَطَنِ )
ثم تحرك فضرط فقالت واسق هذه أيضا بني قطن
وهذا الصوت أعني
( أَقْوَى مِن آلِ ظُلَيْمةَ الحَزْمُ ... )

هو الصوت الذي أشخص الواثق له أبا عثمان المازني بسبب بيت منه اختلف في إعرابه بحضرته وهو قوله
( أظُلَيْمُ إنّ مُصابَكم رجلاً ... أَهْدَى السَّلامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ )
وقال آخرون رجل حدثني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا القاسم بن إسماعيل وعون بن محمد وعبد الواحد بن العباس بن عبد الواحد والطيب بن محمد الباهلي يزيد بعضهم على بعض قالوا حدثنا أبو عثمان المازني قال كان سبب طلب الواثق لي أن مخارقا غنى في مجلسه
( أظُلَيمُ إنّ مُصابَكم رجلاً ... أَهْدَى السَّلامَ تحيّةً ظلمُ )
فغناه مخارق رجل فتابعه بعض القوم وخالفه آخرون فسأل الواثق

عمن بقي من رؤساء النحويين فذكرت له فأمر بحملي فلما وصلت إليه قال ممن الرجل قلت من بني مازن قال أمن مازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة أم مازن اليمن قلت من مازن ربيعة فقال لي با اسمك يريد ما اسمك وهي لغة كثيرة في قومنا فقلت على القياس مكر أي بكر فضحك فقال اجلس واطبئن يريد واطمئن فجلست فسألني عن البيت فقلت إن مصابكم رجلا فقال أين خبر إن قلت ظلم وهو الحرف الذي في آخر البيت وقال الأخفش في خبره وقلت له إن معنى مصابكم إصابتكم مثل ما تقول إن قتلكم رجلا حياكم ظلم ثم قلت يا أمير المؤمنين إن البيت كله معلق لا معنى له حتى يتم بقوله ظلم ألا ترى أنه لو قال أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية لما احتيج إلى ظلم ولا كان له معنى إلا أن يجعل التحية بالسلام ظلما وذلك محال ويجب حينئذ أن يقول
( أَظُليمُ إن مُصابَكم رجلٌ ... أَهْدَى السَّلامَ تحيّةً ظُلْما )
ولا معنى لذلك ولا هو لو كان له وجه معنى قول الشاعر في شعره فقال صدقت ألك ولد قلت بنية لا غير قال فما قالت حين ودعتها قال قلت أنشدت شعر الأعشى
( تقول ابنتي حين جَدَّ الرَّحِيلُ ... أَرَانا سواءً ومَنْ قد يَتِمْ )
( أبانا فلا رِمْتَ من عندِنا ... فإنّا بخَيرٍ إذا لم تَرِمْ )
( أَرَانا إذا أضمرتْك البلادُ ... نُجْفَى وتُقْطَع منّا الرَّحِمْ )
قال فما قلت لها قال قلت لها قول جرير
( ثِقِي بالله ليس له شريكٌ ... ومِن عندِ الخليفةِ بالنَّجاحِ )
فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى إن ها هنا قوما يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم فمن كان منهم عالما ينتفع به ألزمناهم إياه ومن كان بغير هذه الصورة قطعناه عنهم فأمر فجمعوا إلي فامتحنتهم فما وجدت فيهم طائلا

وحذروا ناحيتي فقلت لا بأس على أحد فلما رجعت إليه قال كيف رأيتهم قلت يفضل بعضهم بعضا في علوم ويفضل الباقون في غيرها وكل يحتاج إليه فقال لي الواثق إني خاطبت منهم واحدا فكان في نهاية من الجهل في خطابه ونظره فقلت يا أمير المؤمنين أكثر من تقدم منهم بهذه الصفة ولقد أنشدت فيهم
( إنّ المعلِّمَ لا يزال مُضَعَّفاً ... ولو ابتنَى فوق السماء بناءَ )
( من علَّم الصبيانَ أضْنَوْا عقلَه ... مما يلاقي غُدْوةً ومَساء )
مضى الحديث
ومنها
صوت
( يومَ تُبْدِي لنا قُتَيْلةُ عن جِيد ... أَسيلٍ تَزِينُه الأطواقُ )
( وشَتِيتٍ كالأقْحُوانِ جَلاَه الطَّلُّ ... فيه عُذوبةٌ واتِّساق )
الشعر للأعشى والغناء لمعبد وذكر إسحاق أن لحنه خفيف ثقيل من أصوات قليلات الأشباه وذكر عمرو بن بانة أن لحنه من الثقيل الأول بالبنصر ولإسحاق لحن من الثقيل أيضا وهو مما عارض فيه معبدا فانتصف منه ومن أوائل أغانيه وصدورها
أخبرنا إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال ذكر الحسن بن عتبة اللهبي المعروف بفورك قال قال لي الوليد بن يزيد أريد الحج فما يمنعني منه إلا أن يلقاني أهل المدينة بقتيلات معبد وبقصره ونخله فأفتضح به طربا يعني ثلاثة أصوات لمعبد من شعر الأعشى في قتيلة هذه ونسبتها تأتي بعد ويعني بقصره ونخله لحنه

( القصرُ فالنخلُ فالجَمَّاء بينهما ... )
قال أبو زيد قال إسحاق وحدثني عبد الملك بن هلال وبلغني أن فتية من قريش دخلوا إلى قينة ومعهم روح بن حاتم المهلبي فتماروا فيما يختارونه من الغناء فقالت لهم أغني لكم صوتا يزيل الاختلاف ويوقع بينكم الاجتماع فرضوا بها فغنت
( يومَ تُبْدِي لنا قُتَيْلةُ عن جِيد ... أَسِيلٍ تَزِينُه الأطواقُ )
فرضوا به واتفقوا على أنه أحسن صوت يعرفونه وأقاموا عندها أسبوعا لا يسمعون غيره
نسبة أصوات معبد في قتيلة
منها
( أثَوَى وقَصَّر ليلَه ليُزَوَّدا ... فمضىَ وأُخْلِف من قُتَيْلَة مَوْعِدا )
( يَجْحَدْنَ دَيْني بالنَّهار وأقتضِي ... دَيْني إذا وقَذ النُّعاسُ الرُّقَّدا )
( وأرى الغوانيَ لا يُواصِلْنَ امرأً ... فقَد الشَّبابَ وقد يَصِلْنَ الأمردا )
الشعر للأعشى والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو شراعة في مجلس الرياشي قال حدثت أن رجلا نظر إلى الأعشى يدور بين البيوت ليلا فقال له يا أبا بصير إلى أين في هذا الوقت فقال
( يجحدن دَيْنِي بالنَّهار وأقتضِى ... دَيْني إذا وقَذ النُّعاسُ الرُّقَّدا )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني أبي قال غنيت بين يدي الرشيد وستارته منصوبة
( وأرى الغوانيَ لا يُواصلن امرأً ... فقَد الشبابَ وقد يَصلْنَ الأمردا )
فطرب واستعاده وأمر لي بمال فلما أردت أن أنصرف قال لي يا عاض كذا وكذا أتغني بهذا الصوت وجواري من وراء ستارة يسمعنه لولا حرمتك لضربت عنقك فتركته والله حتى أنسيته
ومنها

صوت
( أَلمَّ خيالٌ من قُتَيْلةَ بعد ما ... وهى حبلُها من حبالنا فَتَصرَّمَا )
( فبِتُّ كأنيِّ شاربٌ بعد هَجْعةٍ ... سُخَاميَّةً حمراءَ تُحْسَبُ عَنْدَمَا )
الشعر للأعشى والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وفيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عنه وعن ابن المكي

سبعة ابن سريج
فأما السبعة التي جعلت لابن سريج بإزاء سبعة معبد فإني قرأت خبرها في كتاب محمد بن الحسن قال حدثني الحسين بن أحمد الأكثمي عن أبيه قال ذكرنا عند إسحاق يوما أصوات معبد السبعة فقال والله ما سبعة ابن سريج بدونهن فقلنا له وأي سبعة فقال إن مغني المكيين لما سمعوا بسبعة معبد وشهرتها لحقتهم لذلك غيرة فاجتمعوا فاختاروا من غناء ابن سريج سبعة فجعلوها بإزاء سبعة معبد ثم خايروا أهل المدينة فانتصفوا منهم فسألوا إسحاق عن السبعة السريجية فقال منها
( تَشَكَّى الكُمَيْتُ الجَرْيَ لما جَهَدتُه ... )
وقد مضت نسبته في الثلاثة الأصوات المختارة
( و لقد حَبَّبت نُعْمٌ إِلينا بوجهها ... )
( و قَرَّب جِيرانُنا جِمالَهمُ ... )
( و أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المؤرِّقُ ... )
وقد مضى في أخبار الأعشى المذكورة في مدن معبد
( و بَيْنَا كذاك إذا عَجَاجةُ مَوْكِبٍ ... )
( و فلم أَرَ كالتَّجْمير منظَر ناظرٍ ... )
وقد مضى في الأرمال المختارة
( و تَضوَّع مِسْكاً بطنُ نَعْمَانَ إذ مشتْ ... )

وقد ذكر في المائة مع غيره في شعر النميري
( و إن جاء فلْيَأْتِ على بغلةٍ ... ) نسبة ما لم تمض نسبته من هذه الأصوات إذ كان بعضها قد مضى متقدما
فمنها

صوت
( لقد حَبَّبتْ نُعْمٌ إلينا بوجهِها ... مساكنَ ما بين الوَتَائر فالنَّقْع )
( ومن أَجْلِ ذاتِ الخال أَعْملتُ ناقتي ... أكلِّفها سَيْرَ الكَلاَلِ مع الظَّلْع )
عروضه من الطويل والشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر وذات الخال التي عناها هاهنا عمر امرأة من ولد أبي سفيان بن حرب كان عمر يكني عنها بذلك

حدثني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الزبيري والمسيبي ومحمد بن سلام والمدائني وأخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي ولم يتجاوزه أن عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق كانا جالسين بفناء الكعبة إذا مرت بهما امرأة من آل أبي سفيان فدعا عمر بكتف فكتب إليها وكنى عن اسمها
صوت
( أَلِمَّا بذاتِ الخالِ فاستطلِعا لنا ... على العهد باقٍ ودُّها أم تَصَرَّما )
( وقولاَ لها إنّ النَّوَى أجنبيّةٌ ... بنا وبكم قد خِفتُ أن تَتَيمَّما )
غناه ابن سريج خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق قال فقال له ابن أبي عتيق سبحان الله ما تريد إلى امرأة مسلمة محرمة أن تكتب إليها مثل هذا قال فكيف بما قد سيرته في الناس من قولي
( لقد حَبَّبتْ نُعْمٌ إلينا بوجهِها ... مساكنَ ما بين الوَتَائر و النَّقْع )
( ومن أَجْلِ ذاتِ الخال أَعْملتُ ناقتي ... أدًلِّفها سيْرَ الكَلاَلِ مع الظَّلْع )
( ومن أجل ذات الخال يومَ لقِيُتها ... بمُنْدَفَع الأخباب أَخْضلنِي دمعي )

( ومن أجل ذات الخال آلَفُ منزلاً ... أحُلُّ به لا ذا صديقٍ ولا زَرْع )
( ومن أجل ذات الخال عُدْتُ كأنني ... مُخَامَرُ سُقْمٍ داخلٍ أو أخو رَبْع )
( ألِمّا بذات الخال إن مُقَامَها ... لدى الباب زاد القلبَ صَدْعاً على صَدْع )
( وأُخرَى لَدَى البيت العَتيق نظرتُها ... إليها تَمشّتْ في عظامي وفي سمعي )
وقال الحرمي في خبره أما ترى ما سار لي من الشعر ما علم الله أني اطلعت حراما قط ثم انصرفنا فلما كان من الغد التقينا فقال عمر أشعرت أن ذلك الإنسان قد رد الجواب قال وما كان من رده قال كتب

صوت
( أمسى قَرِيضُك بالهوى نَمَّاما ... فارْبَعْ هُديتَ وكن له كَتَّاما )
( واعلم بأن الخال حين وصفتَه ... قعد العدوُّ به عليك وقاما )
( لا تحسَبنَّ الكاشحين عَدِمتَهم ... عما يسوءك غافلين نِياما )
( لا تمكننَّ من الدَّفِينة كاشحاً ... يتلو بها حفظاً عليك إماما )
غنى فيه سليم خفيف رمل بالبنصر عن عمرو قال وفيه لفريدة وإبراهيم لحنان وفي بعض النسخ لإسحاق فيه ثقيل أول غير منسوب وذكر حبش أن خفيف الرمل لفريدة
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا أبو أيوب المديني عن محمد ابن سلام قال وأخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام قال سألت عمر بن أبي خليفة العبدي وكان عابدا وكان يعجبه الغناء أي

القوم كان أحسن غناء قال ابن سريج إذا تمعبد يريد إذا غنى في مذهب معبد من الثقيل قلت مثل ماذا قال مثل صوته

صوت
( لقد حَبَّبتْ نُعْمٌ إلينا بوجهها ... مساكنَ ما بين الوَتَائر فالنَّقْع )
وقال حماد بن إسحاق حدثني أبي قال حدثني أبو محمد العامري قال جلس معبد والأبجر وجماعة من المغنين فتذاكروا ابن سريج وما اشتهاه الناس من غنائه فقالوا ما هو إلا من غناء الزطف والمخنثين فنمي الحديث إلى ابن سريج فغنى
( لقد حَبَّبتْ نعمٌ إلينا بوجهها ... )
فلما جاء معبد وأصحابه واجتمعوا غناهم إياه فلما سمعوه قاموا هاربين وجعل ابن سريج يصفق خلفهم ويقول إلى أين إنما هو ابن ليلته فكيف لو اختمر قال فقال معبد دعوه مع طرائقه الأول ولا تهيجوه على طرائقكم وإلا لم يدع لكم والله خبزا تأكلونه
قال الزبير في خبره عن عمه وعلق نعما هذه فقال فيها شعرا كثيرا ونحن نذكر هاهنا ما فيه غناء من ذلك فمنه قوله
صوت
( خَطَرتْ لذات الخال ذِكْرَى بعد ما ... سلَك المَطِيُّ بنا على الأنصابِ )

( أنصابِ عمرةَ والمَطِيُّ كأنَّها ... قِطَعُ القَطَا صدَرتْ عن الأَجْباب )
( فانْهَلّ دمعي في الرِّداء صَبابةً ... فسترتُه بالُبرْدِ عن أصحابي )
( فرأى سوابقَ دمعةٍ مسكوبةٍ ... بَكْرٌ فقال بكَى أبو الخَطّاب )
عروضه من الكامل بكر الذي ذكره هاهنا عمر هو ابن أبي عتيق وهو يسميه في شعره ببكر وبعتيق وإياه يعني بقوله
( لا تَلُمْنِي عَتِيقُ حَسْبِي الذي بي ... إنّ بي يا عَتيقُ ما قد كفاني )
الغناء في خطرت لذات الخال للغريض ولحنه ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن فيه ثقيلا أول بالبنصر لأبي سعيد مولى فائد
وأخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عمي أن عمر بن أبي ربيعة وافقها وهي تستلم الركن فقرب منها فلما رأته تأخرت وبعثت إليه جاريتها فقالت له تقول لك ابنة عمك إن هذا مقام لا بد منه كما ترى وأنا اعلم أنك ستقول في موقفنا هذا فلا تقولن هجرا فأرسل إليها لست أقول إلا خيرا ثم تعرض لها وهي ترمي الجمار فأعرضت عنه واستترت فقال
صوت
( دِينَ هذا القلبُ من نُعْمِ ... بسَقَامٍ ليس كالسُّقْمِ )
( إن نُعْماً أقصدتْ رجلاً ... آمِناً بالخَيْفِ إذ تَرْمي )
( اِسمعي منّا تَحَاوُرَنا ... واحكُمِي رُضِّيتُ بالحكم )
( بشَتيتٍ نبتُه رَتِلٍ ... طيِّبِ الأنياب والطَّعْم )

( يأتِكم منه بحُجَّته ... فله العُتْبَى ولا أَحْمي )
عروضه من المديد الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لمالك ثقيل أول من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق وفيه لابن سريج رمل بالبنصر عن حبش وفيه لابن مسجح ثقيل أول بالوسطى عن حبش أيضا وذكر الهشامي أن هذا الصوت مما يشك فيه أنه لمعبد أو غيره
قال وقال فيها أيضا

صوت
( أبِينِي اليومَ أيْ نُعْمُ ... أوَصْلٌ منكِ أم صُرْمُ )
( فإن يك صُرْمُ عاتبةٍ ... فقد نَغْنَى وهُو سَلْم )
( تَلُومكَ في الهوى نُعْمُ ... وليس لها به عِلْمُ )
( صحيحٌ لو رأى نُعْماً ... لخالط جسمَه سُقْمُ )
عروضه من الهزج غناه مالك ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لمتيم خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق وذكر أن فيه أيضا صنعة لابن سريج
ومما يغنى فيه مما قاله فيها وهو من قصيدة طويلة

صوت
( فقلتُ لَجنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ واشْتمِلْ ... عليه بحزمٍ وانظُر الشمس تَغْرُبِ )
( وأَسْرِجْ لنا الدَّهْمَاءَ واعجَلْ بمِمْطَرِي ... ولا تُعْلِمَنْ خَلْقاً من الناس مذهبي )
عروضه من الطويل غناه زرزور غلام المارقي خفيف ثقيل بالبنصر
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال قيل لعمر بن أبي ربيعة ما أحب شيء أصبته إليك قال بينا أنا في منزلي ذات ليلة إذ طرقني رسول مصعب بن الزبير بكتابه يقول إنه قد وقعت عندنا أثواب مما يشبهك وقد بعثت بها إليك وبدنانير ومسك وطيب وبغلة قال فإذا بثياب من وشي وخز العراق لم أر مثلها قط وأربعمائة دينار ومسك وطيب كثير وبغلة فلما أصبحت لبست بعض تلك الثياب وتطيبت وأحرزت الدنانير وركبت البغلة وأنا نشيط لا هم لي قد أحرزت نفقة سنتي فما أفدت فائدة كانت أحب إلي منها وقلت في ذلك
( ألاَ أَرْسلتْ نُعْمٌ إلينا أنِ ائْتِنا ... فأحْبِبْ بها من مُرسِلٍ مُتغَضِّبِ )
( فأرسلتُ أن لا أستطيعُ فأَرْسلتْ ... تؤكِّد أَيمانَ الحبيبِ المؤنِّبِ )
( فقلت لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتمِلْ ... عليه بحزمٍ وانظُرِ الشمسَ تَغْرُبِ )
( وأسْرِجْ ليَ الدَّهْمَاء واعجَلْ بمِمْطَرِي ... ولا تُعلِمَنْ خَلْقاً من الناس مذهبي )
( وموعدُك البَطْحَاءُ أو بَطْنُ يأجَجِ ... أو الشِّعْبُ بالمَمْرُوخ من بطن مُغْرِبِ )

( فلما التقنيا سَلَّمتْ وتبسَّمَتْ ... وقالت مقالَ المُعْرِض المُتَجَنِّب )
( أمِنْ أجلِ واشٍ كاشحٍ بنَميمةٍ ... مشَى بيننا صدَّقتَه لم تُكَذِّبِ )
( قطعتَ وصالَ الحبلِ منَّا ومن يُطِع ... بذِي ودِّه قولَ المحرِّش يُعْتِب )
( فبات وِسادِي ثِنْيَ كفٍّ مُخضَّبٍ ... مُعَاوِدَ عَذْبٍ لم يُكَدَّرْ بمَشْرَب )
( إذا مِلتُ مالتْ كالكَثيب رخيمةٌ ... مُنَعَّمَةٌ حُسَّانةُ المُتَجَلْبَب )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال بلغ عمر بن أبي ربيعة أن نعما اغتسلت في غدير فنزل عليه ولم يزل يشرب منه حتى نضب
قال الزبير قال عمي وقال فيها أيضا

صوت
( طال ليلِي وعادني اليومَ سُقْمُ ... وأصابت مقاتلَ القلب نُعْمُ )
( وأصابتْ مَقَاتلي بسهامٍ ... نافذاتٍ وما تَبَيَّن كَلْمُ )
( حُرَّةُ الوجه والشمائلِ والجوهر ... تكليمُها لمن نال غُنْمُ )
( هكذا وَصْفُ ما بدا لِي منها ... ليس لي بالذي تغيَّب عِلْمُ )
( غيرَ أني أرى الثيابَ مِلاءً ... في يَفَاعٍ يَزين ذلك جسمُ )
( وحديثٍ بمثله تَنْزِل العُصْمُ ... رَخيمٍ يشوب ذلك حِلْمُ )
عروضه من الخفيف غنى ابن سريج في الأربعة الأبيات لحنا ذكره إسحاق وأبو أيوب المديني في جامع غنائه ولم يجنسه وذكر حبش أنه خفيف رمل بالبنصر
إسحاق وإبراهيم بن المهدي ورأيهما في معبد وابن سريج
أخبرني عمي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال حدثني عمرو بن بانة قال كنت حاضرا مع إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند إبراهيم بن المهدي

فتفاوضنا حديث المغنين حتى انتهوا إلى أن حكى إسحاق قول عمر بن أبي خليفة إذا تمعبد ابن سريج كان أحسن الناس غناء فقال إبراهيم لإسحاق حاشاك يا أبا محمد أن تقول هذا فقد رفع الله علمك وقدر ابن سريج عن مثل هذا القول وأغنى ابن سريج بنفسه عن أن يقال له تمعبد وماكان معبد يضع نفسه هذا الموضع وكيف ذلك وهو إذا أحسن يقول أصبحت اليوم سريجيا وما قد أنصف أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي معبدا في هذا القول لأن معبدا وإن كان يعظم ابن سريج ويوفيه حقه فليس بدونه ولا هو بمرذول عنده وقد مضى في صدر الكتاب خبر ابن سريج لما قدم المدينة مع الغريض ليستمنحا أهلها فسمعاه وهو يصيد الطير يغني لحنه
( القَصْرُ فالنخل فالجَمَّاءُ بينهما ... )
فرجع ابن سريج ورد الغريض وقال لا خير لنا عند قوم هذا غناء غلام فيهم يصيد الطير فكيف بمن داخل الجونة
وأظرف من ذلك من أخباره وأدل على تعظيم ابن سريج معبدا ما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي قال التقى ابن سريج ومعبد ليلة بعد افتراق طويل وبعد عهد فتساءلا عما صنعا من الأغاني بعد افتراقهما فتغنى هذا وتغنى هذا ثم تغنى ابن سريج لحنه في
( أنا الهالكُ المسلوبُ مهجةَ نفسه ... إذا جاوزَتْ مَرًّا وعُسْفانَ عِيرُها )

فغناه مرسلا لا صيحة فيه فقال له معبد أفلا حسنته بصيحة قال فأين أضعها قال في
( غدتْ سافراً والشمسُ قد ذَرَّ قَرْنُها ... )
قال فصح أنت فيه حتى أسمع منك قال فصاح فيه معبد الصيحة التي يغنى بها فيه اليوم فاستعاده ابن سريج حتى أخذه فغنى صوته كما رسمه معبد فحسن به جدا وفي هذا دليل يبين فيه التحامل على معبد في الحكاية

صوت
( غَدَتْ سافِراً والشمسُ قد ذَرَّ قَرْنُها ... فأَغْشَى شُعَاع الشمس منها سفورُها )
( وقد علمتْ شمسُ النهار بأنّها ... إذا ما بدتْ يوماً سيذهب نورها )
( أنا الهالك المسلوبُ مهجةَ نفسِه ... إذا جاوزتْ مَرًّا وعُسْفانَ عيرُها )
( أهاجتك سلمى إذ أَجَدّ بُكورُها ... وهَجَّر يوماً للرَّواح بعيرها )
الشعر يقال إنه لطريف العنبري والغناء لابن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن ابن المكي وذكر عمرو أنه لسياط ولإبراهيم في الثالث والأول والرابع خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو وفيه لبسباسة ثقيل أول بالبنصر عن حبش وفيه لابن جامع لحن عن حبش من رواية أبي أيوب المديني
ومن سبعة ابن سريج
صوت
( قَرَّب جيرانُنا جِمالَهُمُ ... ليلاً فأَضْحَوْا معاً قد ارتفعوا )

( ما كنت أَدْرِي بوَشْكِ بينِهُم ... حتى رأيتُ الحُداة قد طلَعوا )
( على مِصَكَّيْنِ من جِمالهمُ ... وعَنْتَرِيسَيْن فيهما شَجَعُ )
( يا نفسُ صبراً فإنّه سَفَهٌ ... بالحُرِّ أن يستفزَّه الجَزَعُ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر حبش أن فيه للغريض ثقيلا أول بالبنصر وذكر ابن أبي حسان أن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي حدثه عن أبيه عن ابن جامع قال عيب على ابن سريج خفة غنائه فأخذ أبيات عمر بن أبي ربيعة
( قَرَّب جيرانُنا جِمالَهُم ... )
فغنى فيها في كل إيقاع لحنا فجميع ما فيها من الألحان له
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني منصور بن أبي مزاحم قال حدثني رزام أبو قيس مولى خالد بن عبد الله قال قال لي إسماعيل بن عبد الله يا أبا قيس أي رجل أنت لولا أنك تحب السماع
قلت أصلحك الله أما والله لو سمعت فلانة تغنيك
( قَرَّب جيرانُنا جِمالهُم ... ليلاً فأضحَوْا معاً قد ارتفعوا )
لعذرتني فقال يا أبا قيس لا عاتبتك بعد هذا أبدا
ومنها

صوت
( بَيْنَا كذلك إذا عَجَاجةُ مَوْكِبٍ ... رفَعوا ذَمِيلَ العِيسِ في الصحراءِ )

( قالت أبو الخَطّاب أعرِف زِيَّه ... ولباسَه لا شكَّ غيرَ خَفاء )
الشعر لابن أبي ربيعة والغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر وذكر الهشامي وأبو العبيس أنه لمعبد وليس الأمر كما ذكرا
ومنها
صوت
وهو الذي أوله
( إن جاء فَلْيَأْتِ على بغلةٍ ... )
( سَلْمَى عِديهِ سَرْحَتَيْ مالكٍ ... أو الرُّبَا دونَهما مَنْزِلاَ )
( إن جاء فلْيَأتِ على بغلهٍ ... إني أخاف المُهْرَ أن يَصْهَلا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج من رواية يحيى بن المكي والهشامي ثقيل أول بالبنصر وذكر يونس أنه للغريض وذكر إسحاق في أغاني الغريض ولم يجنسه

أغاني الخلفاء وأولادهم وأولاد أولادهم
قال مؤلف هذا الكتاب المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره لا سيما ما حكاه ابن خرداذبة فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر أنه تغنى في هذا البيت
( كأنّ راكبها غصنٌ بمَرْوَحةٍ ... )
ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحدا بعد واحد حتى كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة أو ركن من أركان الإمامة لا بد منه ولا معدل عنه يخبط خبط العشواء ويجمع جمع حاطب الليل فأما عمر بن الخطاب فلو جاز هذا أن يروى عن كل أحد لبعد عنه وإنما روي أنه تمثل بهذا البيت وقد ركب ناقة فاستوطأها لا أنه غنى به ولا كان الغناء العربي أيضا عرف في زمانه إلا ما كانت العرب تستعمله من النصب والحداء وذلك جار مجرى الإنشاد إلا أنه يقع بتطريب وترجيع يسير ورفع للصوت والذي صح من ذلك عن رواة هذا الشأن فأنا ذاكر منه ما كان متقن الصنعة لاحقا بجيد الغناء قريبا من صنعة الأوائل وسالكا مذاهبهم لا ما كان ضعيفا سخيفا وجامع منه ما

اتصل به خبر له يستحسن ويجري مجرى هذا الكتاب وما تضمنه
فأول من دونت له صنعة منه عمر بن عبد العزيز فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها كلها فبعضها عرفت الشاعر القائل له فذكرت خبره وبعضها لم أعرف قائله فأتيت به كما وقع إلي فإن مر بي بعد وقتي هذا أثبته في موضعه وشرحت من أخباره ما اتصل بي وإن لم يقع لي ووقع إلى بعض من كتب هذا الكتاب فمن أقل الحقوق عليه أن يتكلف إثباته ولا يستثقل تجشم هذا القليل فقد وصل إلى فوائد جمة تجشمناها له ولنظرائه في هذا الكتاب فحظي بها من غير نصب ولا كدح فإن جمال ذلك موفر عليه إذا نسب إليه وعيبه عنا ساقط مع اعتذارنا عنه إن شاء الله
ومن الناس من ينكر أن تكون لعمر بن عبد العزيز هذه الصنعة ويقول إنها أصوات محكمة العمل لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق الغناء ومهر فيه وتمكن منه ولم يوجد عمر بن عبد العزيز في وقت من الأوقات ولا حال من الحالات اشتهر بالغناء ولا عرف به ولا بمعاشرة أهله ولا جالس من ينقل ذلك عنه ويؤديه وإنما هو شيء يحسن المغنون نسبته إليه وروي من غير وجه خلاف لذلك وإثبات لصنعته إياها وهو أصح القولين لأن الذين أنكروا ذلك لم يأتوا على إنكارهم بحجة أكثر من هذا الظن والدعوى ومخالفوهم قد أيدتهم أخبار رويت
أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال حدثني أبي عن أبيه وعن إسماعيل بن جامع عن سياط عن يونس الكاتب عن شهدة أم عاتكة بنت شهدة عن كردم بن معبد عن أبيه

أن عمر بن عبد العزيز طارحه لحنه في
( أَلِمَّا صاحِبَيّ نَزُرْ سُعَادَا ... )
ونسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن الحسين الكاتب قال حدثني أبو يعلى زرقان غلام أبي الهذيل وصاحب أحمد بن أبي داود قال حدثني محمد ابن يونس قال حدثني هاتف أراه قال أم ولد المعتصم قالت حدثتني علية ابنة المهدي قالت حدثتني عاتكة بنت شهدة عن أمها شهدة عن كردم قال طرح علي عمر بن عبد العزيز لحنه
( عَلِقَ القلبُ سُعَادا ... عادتِ القلبَ فعادا )
( كلَّما عُوتبَ فيها ... أو نُهِي عنها تَمادَى )
( وهو مشغوف بسُعْدَى ... قد عصَى فيها وزادا )
قال كردم وكان عمر أحسن خلق الله صوتا وكان حسن القراءة للقرآن
ونسخت من كتاب ابن الكرنبي بخطه حدثني أحمد بن الفتح الحجاجي في مجلس حماد بن إسحاق قال أخبرني أحمد بن الحسين قال رأيت عمر بن عبد العزيز في النوم وعليه عمامة ورأيت الشجة في وجهه تدل على أنها ضربة حافر فسمعته يقول قال عمر بن الخطاب لا تعلموا نساءكم الخلع قال حدثني محمد بن الحسين فأقبلت عليه في نومي

فقلت له يا أمير المؤمنين

صوت
يزعم الناس أنك صنعته في شعر جرير
( أَلِمَّا صاحِبَيّ نَزُرْ سُعَادا ... لوَشْكِ فِرقها وذَرَا البِعادا )
( لَعَمْرُك إنَّ نفعَ سُعَاد عنِّي ... لمصروفٌ ونفعِي عن سعادا )
( إلى الفاروقِ يَنتسبُ ابنُ لَيْلَى ... ومروانَ الذي رفع العِمادا )
فتبسم عمر ولم يرد علي شيئا
نسبة هذين الصوتين
صوت
( أَلِمَّا صاحِبَيّ نَزُرْ سُعادا ... لوَشْكِ فِرقها وذَرَا البِعاد )
( لَعَمْرُك إنَّ نفعَ سُعَاد عنِّي ... لمصروفٌ ونفعي عن سعادا )
( إلى الفاروقِ يَنتسبُ ابنُ لَيْلَى ... ومروانَ الذي رفع العِمادا )
الشعر لجرير يمدح عمر بن عبد العزيز بن مروان والغناء لعمر بن عبد العزيز ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد
صوت
( عَلِقَ القلبُ سُعَادا ... عادتِ القلبَ فعادا )
( كلَّما عُوتِب فيها ... أو نُهِي عنها تَمادَى )
( وهو مشغوفٌ بِسُعْدَى ... قد عَصى فيها وزادا )
الغناء لعمر بن عبد العزيز خفيف ثقيل وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى الهذلي

ذكر عمر بن عبد العزيز وشيء من أخباره
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ويكنى أبا حفص وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يقال له أشج قريش لأنه كان في جبهته أثر يقال إنه ضربة حافر فذكر يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه أن عبد الملك بن مروان كان يؤثر عمر بن عبد العزيز ويرق عليه ويدنيه وإذا دخل عليه رفعه فوق ولده جميعا إلا الوليد فعاتبه بعض بنيه على ذلك فقال له أو ما تعلم لم فعلت ذلك قال لا قال إن هذا سيلي الخلافة يوما وهو أشج بني مروان الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن تملأ جورا فمالي لا أحبه وأدنيه
أخبرني محمد بن يزيد قال حدثنا الرياشي قال حدثنا سالم بن عجلان قال خرج عمر بن عبد العزيز يلعب فرمحته بغلة على جبينه فبلغ الخبر أمه أم عاصم فخرجت في خدمها واقبل عبد العزيز بن مروان إليها فقالت أما الكبير فيخدم وأما الصغير فيكرم وأما الوسط فيضيع لم لا تتخذ لابني حاضنا حتى أصابه ما ترى فجعل عبد العزيز بمسح الدم عن وجهه ثم نظر إليها وقال لها ويحك إن كان أشج بني مروان أو أشج بني أمية إنه لسعيد

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن أحمد المقدمي قال حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ضمرة قال سمعت ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال دخل عمر بن عبد العزيز وهو غلام إصطبل أبيه فضربه فرس على وجهه فأتي به أبوه يحمل فجعل أبوه يمسح الدم عن وجهه ويقول لئن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا مصعب الزبيري قال كانت بنت لعبيد الله بن عمر بن الخطاب تحت إبراهيم بن نعيم النحام فماتت فأخذ عاصم بن عمر بيده فأدخله منزله وأخرج إليه ابنتيه حفصة وأم عاصم فقال له اختر فاختار حفصة فزوجها إياه فقيل له تركت أم عاصم وهي أجملهما فقال رأيت جارية رائعة وبلغني أن آل مروان ذكروها فقلت علهم أن يصيبوا من دنياهم فتزوجها عبد العزيز بن مروان فولدت له أبا بكر وعمر وكانت عنده وقتل إبراهيم بن نعيم يوم الحرة وماتت أم عاصم عند عبد العزيز بن مروان فتزوج أختها حفصة بعدها

فحملت إليه بمصر فمرت بأيلة وبها مخنث أو معتوه وقد كان أهدى لأم عاصم حين مرت به فأثابته فلما مرت به حفصة أهدى لها فلم تثبه فقال ليست حفصة من رجال أم عاصم فذهبت مثلا
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أبو بكر الرمادي وسليمان ابن أبي شيخ قالا حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال حدثني الليث قال لما ولي عمر بن عبد العزيز بدأ بلحمته وأهل بيته فأخذ ما كان في أيديهم وسمى أعمالهم المظالم ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته فأرسلت إليه إنه قد عناني أمر لا بد من لقائك فيه فأتته ليلا فأنزلها عن دابتها فلما أخذت مجلسها قال يا عمة أنت أولى بالكلام لأن الحاجة لك فتكلمي قالت تكلم يا أمير المؤمنين فقال إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا رحمة لم يبعثه عذابا إلى الناس كافة ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه وترك لهم نهرا شربهم فيه سواء ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله ثم ولي عمر فعمل على عمل صاحبه فلما ولي عثمان اشتق من ذلك النهر نهرا ثم ولي معاوية فشق منه الأنهار ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم ولن يروى أصحاب النهر حتى يعود اليهم النهر الأعظم إلى ما كان عليه فقالت له قد أردت كلامك ومذاكرتك فأما إذ كانت هذه مقالتك فلست بذاكرة لك شيئا أبدا ورجعت اليهم فأبلغتهم كلامه
وقال سليمان بن أبي شيخ في خبره فلما رجعت إلى بني أمية قالت لهم ذوقوا مغبة أمركم في تزويجكم آل عمر بن الخطاب

كثير والأحوص ونصيب عند عمر بن عبد العزيز
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد الله بن دينار مولى بني نصر ابن معاوية قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهيل عن حماد الراوية وأخبرني محمد بن حسين الكندي خطيب القادسية قال حدثنا الرياشي قال حدثنا شيبان بن مالك قال حدثنا عبد الله بن إسماعيل الجحدري عن حماد الراوية والروايتان متقاربتان وأكثر اللفظ للرياشي قال دخلت المدينة ألتمس العلم فكان أول من لقيت كثير عزة فقلت يا أبا صخر ما عندك من بضاعتي قال عندي ما عند الأحوص ونصيب قلت وما هو قال هما أحق بإخبارك فقلت له إنا لم نحث المطي نحوكم شهرا نطلب ما عندكم إلا ليبقى لكم ذكر وقل من يفعل ذلك فأخبرني عما سألتك ليكون ما تخبرني به حديثا آخذه عنك فقال إنه لما كان من أمر عمر بن عبد العزيز ما كان قدمت أنا ونصيب والأحوص وكل واحد منا يدل بسابقته عند عبد العزيز وإخائه لعمر فكان أول من لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب وكل واحد منا ينظر في عطفيه لا يشك أنه شريك الخليفة في الخلافة فأحسن ضيافتنا وأكرم مثوانا ثم قال أما علمتم أن إمامكم لا يعطي الشعراء شيئا قلنا قد جئنا الآن فوجه لنا في هذا الأمر وجها فقال إن كان ذو دين من آل مروان قد ولي الخلافة فقد بقي من ذوي دنياهم من يقضي حوائجكم ويفعل بكم ما أنتم له أهل فأقمنا على بابه أربعة أشهر لا نصل إليه وجعل مسلمة يستأذن لنا فلا يؤذن فقلت لو أتيت المسجد يوم الجمعة فتحفظت من كلام عمر شيئا فأتيت المسجد فأنا أول من حفظ كلامه

سمعته يقول في خطبة له لكل سفر زاد لا محالة فتزودوا من الدنيا إلى الآخرة التقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه فعمل طلبا لهذا وخوفا من هذا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم واعلموا أنه إنما يطمئن بالدنيا من وثق بالنجاة من عذاب الله في الآخرة فأما من لا يداوي جرحا إلا أصابه جرح من ناحية أخرى فكيف يطمئن بالدنيا أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى نفسي عنه فتخسر صفقتي وتبدو عيلتي وتظهر مسكنتي يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق فارتج المسجد بالبكاء وبكى عمر حتى بل ثوبه حتى ظننا أنه قاض نحبه فبلغت إلى صاحبي فقلت جددا لعمر من الشعر غير ما أعددناه فليس الرجل بدنيوي ثم إن مسلمة استأذن لنا يوم جمعة بعدما أذن للعامة فدخلنا فسلمنا عليه بالخلافة فرد علينا فقلت له يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب فقال يا كثير أما سمعت إلى قول الله عز و جل في كتابه ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) أفمن هؤلاء أنت فقلت له وأنا ضاحك أنا ابن سبيل ومنقطع به قال أو لست ضيف أبي سعيد قلت بلى قال ما أحسب من كان ضيف أبي سعيد ابن سبيل ولا منقطعا به ثم استأذنه في الإنشاد فقال قل ولا تقل إلا حقا فإن الله سائلك فقلت
( وَلِيتَ فلم تَشْتُم عليًّا ولم تُخِفْ ... بَرًّيا ولم تتبَع مقالة مُجْرِمِ )
( وقلتَ فصدَّقتَ الذي قلت بالذي ... فعلتَ فأَضْحَى راضياً كلُّ مسلم )
( ألاَ إنّما يَكْفِي الفتى بعد زَيْغه ... من الأوَدِ الباقي ثِقَافُ المقَوِّم )
( لقد لبِستْ لبْس الهَلُوكِ ثيابَها ... وأَبْدتْ لك الدنيا بكفَ ومِعْصَم )

( وتُومِضُ أحياناً بعينٍ مَريضةٍ ... وَتَبْسِمُ عن مثل الجُمانِ المنظَّم )
( فأعرضتَ عنها مشمئزًّا كأنما ... سَقَتْكَ مَدُوفاً من سِمامٍ وعَلْقَم )
( وقد كُنتَ من أجبالها في مُمَنَّعٍ ... ومن بحرها في مُزْبِد الموج مُفْعَم )
( وما زلتَ سَبَّاقاً إلى كلّ غايةٍ ... صَعِدتَ بها أعلى البناء المقدَّم )
( فلما أتاك الملكُ عَفْواً ولم يكن ... لطالبِ دنيا بعده مِن تَكَلُّم )
( تركتَ الذي يَفْنَي وإن كان مُونِقاً ... وآثرتَ ما يبقى برأيٍ مصمِّم )
( فأضررْتَ بالفاني وشمَّرتَ للذي ... أمامَك في يومٍ من الهَوْلِ مُظلم )
( ومالك أن كُنتَ الخليفةَ مانعٌ ... سوى الله من مالٍ رَغيبٍ ولا دمِ )
( سَمَا لَكَ همٌّ في الفؤاد مؤرِّقٌ ... صَعِدْتَ به أعلى المعالي بسُلَّم )
( فما بين شرق الأرض والغرب كلِّها ... مُنَادٍ ينادِي من فصيح وأعجم )
( يقول أميرَ المؤمنين ظلمتَني ... بأخذٍ لدينارٍ ولا أخذِ درهم )
( ولا بسطِ كَفٍّ لامرِئٍ ظالمٍ له ... ولا السفكِ منه ظالماً مِلْءَ مِحْجَم )
( فلو يستطيع المسلمون تقسَّموا ... لك الشَّطْرَ من أعمارهم غيرَ نُدَّم )
( فعِشْتَ به ما حَجَّ لله راكبٌ ... مُغِذٌّ مُطِيفٌ بالمقام وَزَمْزِم )
( فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايِع ... وأعْظِمْ بها أَعْظِمْ بها ثم أعْظِم )
فقال لي يا كثير إن الله سائلك عن كل ما قلت ثم تقدم إليه الأحوص فاستأذنه فقال قل ولا تقل إلا حقا فإن الله سائلك فأنشده
( وما الشعرُ إلاّ خطبةٌ من مؤلِّفٍ ... بمنطقِ حقٍّ أو بمنطقِ باطلِ )
( فلا تَقْبَلَنْ إلاّ الذي وافق الرِّضا ... ولا تَرْجِعَنَّا كالنساء الأرامل )
( رأيناك لم تَعْدِلْ عن الحقّ يَمْنةً ... ولا يَسْرةً فعلَ الظَّلومِ المجادِلِ )
( ولكن اخذتَ القَصْدَ جهدَك كلَّه ... وتَقْفُو مثالَ الصالحين الأوائل )
( فقلنا ولم نَكْذِبْ بما قد بَدَا لنا ... وَمَنْ ذا يَرُدُّ الحقَّ من قول عاذلِ )

( ومَنْ ذا يردُّ السَّهمَ بعد مُروقِه ... على فُوقِه إن عارَ من نَزْع نابِل )
( ولولا الذي قد عودَّتْنا خلائفٌ ... غَطَارِيفُ كانت كالليوث البواسل )
( لما وَخَدَتْ شهراً بِرَحْلِيَ جَسْرةٌ ... تَفُلُّ مُتونَ البِيدِ بين الرَّواحل )
( ولكن رَجَوْنا منك مثلَ الذي به ... صُرِفنا قديماً من ذويكَ الأفاضل )
( فإن لم يكن للشعر عندك موضعٌ ... وإن كان مثلَ الدُّرِّ من قول قائِل )
( وكان مُصِيبا صادقاً لا يَعيبه ... سِوَى أنه يُبْنَى بناءَ المنازل )
( فإنّ لنا قُرْبَى ومَحْضَ مَوَدَّةٍ ... وميراثَ آباءٍ مَشَوْا بالمناصل )
( فذادُوا عدوَّ السَّلْم عن عُقْر دارهم ... وأَرْسَوْا عَمُودَ الدِّين بعد تَمَايُل )
( فقبلَك ما أعطَى الهُنيدةَ جِلَّةً ... على الشعر كَعْباً من سَديسٍ وبازل )
( رسولُ الإِله المصطفَى بِنُبُوَّةٍ ... عليه سلامٌ بالضُّحَى والأصائل )
( فكلّ الذي عدَّدتُ يَكْفِيكَ بعضُه ... ونَيْلُك خيرٌ من بحور السوائل )
فقال له عمر يا أحوص إن الله سائلك عن كل ما قلت ثم تقدم إليه نصيب فاستأذن في الإنشاد فأبى أن يأذن له وغضب غضبا شديدا وأمره باللحاق بدابق وأمر لي وللأحوص لكل واحد بمائة وخمسين درهما
وقال الرياشي في خبره فقال لنا ما عندي ما أعطيكم فانتظروا حتى يخرج عطائي فأواسيكم منه فانتظرناه حتى خرج فأمر لي وللأحوص بثلاثمائة

درهم وأمر لنصيب بمائة وخمسين درهما فما رأيت أعظم بركة من الثلاث المائة التي أعطاني ابتعت بها وصيفة فعلمتها الغناء فبعتها بألف دينار

عمر ودكين الراجز
أخبرني عمي عبد العزيز بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال دكين الراجز امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم فكرهت أن أرمي بهن الفجاج ولم تطب نفسي ببيعهن فقدمت علينا رفقة من مصر فسألتهم الصحبة فقالوا ذاك إليك ونحن نخرج الليلة فأتيته فودعته وعنده شيخان لا أعرفهما فقال لي يا دكين إن لي نفسا تواقة فإن صرت إلى أكثر مما أنا فيه فأتني ولك الإحسان قلت أشهد لي بذلك قال أشهد الله به قلت ومن خلقه قال هذين الشيخين فأقبلت على أحدهما فقلت من أنت أعرفك قال سالم بن عبد الله بن عمر فقلت له لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر من أنت قال أبو يحيى مولى الأمير فخرجت إلى بلدي بهن فرمى الله في أذنابهن بالبركة حتى اعتقدت منهن الإبل والعبيد فإني لبصحراء فلج إذا ناع ينعى سليمان قلت فمن القائم بعده قال عمر بن عبد العزيز فتوجهت نحوه فلقيني جرير منصرفا من عنده فقلت يا أبا حزرة من أين فقال من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء فانطلقت فإذا هو في عرصة دار وقد أحاط الناس به فلم أخلص اليه فناديت

( يا عُمَرَ الخيراتِ والمكَارِم ... وعُمَرَ الدَّسائِع العظائِمِ )
( إني امرؤٌ من قَطَنِ بن دارِم ... طلبتُ دَيْنِي من أخي مَكَارِم )
( إذ تَنْتَحِي والليلُ غيرُ نائم ... عند أبي يَحْيَى وعند سالم )
فقام أبو يحيى فقال يا أمير المؤمنين لهذا البدوي عندي شهادة عليك فقال أعرفها ادن يا دكين أنا كما ذكرت لك إن نفسي لم تنل شيئا قط إلا تاقت لما هو فوقه وقد نلت غاية الدنيا فنفسي تتوق إلى الآخرة والله ما رزأت من أموال الناس شيئا ولا عندي إلا ألف درهم فخذ نصفها قال فوالله ما رأيت ألفا كان أعظم بركة منه قال ودكين الذي يقول
( إذا المرءُ لم يَدْنَسْ من اللُّؤمِ عِرْضُه ... فكلُّ رِداءٍ يَرتديه جميلُ )
( وإن هو لم يَرْفَع عن اللؤم نفسَه ... فليس إلى حُسْنِ الثَّنَاء سبيلُ )

زهده وحبه آل البيت
أخبرني الحرمي عن الزبير عن هارون بن صالح عن أبيه قال كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب فيها يعني المسك قال ثم رأيت ثيابه بعد ذلك وقد ولي الخلافة فرأيت غير ما كنت أعرف
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن نافع بن أبي نعيم قال قدم عبد الله بن الحسن على عمر بن عبد العزيز فقال إنك لا تغنم أهلك شيئا خيرا من نفسك فارجع وأتبعه حوائجه

قال الرياشي وحدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أحمد محمد بن الزبير الأسدي عن سعيد بن أبان قال رأيت عمر بن عبد العزيز آخذا بسرة عبد الله بن حسن وقال اذكرها عندك تشفع لي يوم القيامة
حدثني أبو عبيد الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال حدثنا عبد الله بن عمر القواريري قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبان القرشي قال دخل عبد الله بن حسن على عمر بن عبد العزيز وهو حديث السن وله وفرة فرفع مجلسه وأقبل عليه وقضى حوائجه ثم أخذ عكنة من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال له اذكرها عندك للشفاعة فلما خرج لامه أهله وقالوا فعلت هذا بغلام حديث السن فقال إن الثقة حدثني حتى كأني أسمعه من في رسول الله قال إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بابنها قالوا فما معنى غمزك بطنه وقولك ما قلت قال إنه ليس أحد من بني هاشم إلا وله شفاعة فرجوت أن أكون في شفاعة هذا
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي قال أخبرني يزيد بن عيسى بن مورق قال كنت بالشام زمن ولي عمر بن عبد العزيز وكان بخناصرة وكان

يعطي الغرباء مائتي درهم قال فجئته فأجده متكئا على إزار وكساء من صوف فقال لي ممن أنت قلت من أهل الحجاز قال من أيهم قلت من أهل المدينة قال من أيهم قلت من قريش قال من أي قريش قلت من بني هاشم قال من أي بني هاشم قلت مولى علي قال من علي فسكت قال من فقلت ابن أبي طالب فجلس وطرح الكساء ثم وضع يده على صدره وقال وأنا والله مولى علي ثم قال أشهد على عدد ممن أدرك النبي يقول قال رسول الله من كنت مولاه فعلي مولاه أين مزاحم كم تعطي مثله قال مائتي درهم قال أعطه خمسين دينارا لولائه من علي ثم قال أفي فرض أنت قلت لا قال وافرض له ثم قال الحق بلادك فإنه سيأتيك إن شاء الله ما يأتي غيرك
قال أبو زيد فحدثني عيسى بن عبد الله قال حدثني أبي عن أبيه قال قال أبي ولد لي غلام يوم قام عمر بن عبد العزيز فغدوت عليه فقلت له ولد لي في هذه الليلة غلام فقال لي ممن قلت من التغلبية قال فهب لي اسمه قلت نعم قال قد سميته اسمي ونحلته غلامي مورقا وكان نوبيا فأعتقه عمر بن العزيز بعد ذلك فولده اليوم موالينا
أخبرني محمد بن العباس قال حدثنا عمر قال حدثنا عيسى بن عبد الله قال أخبرني موسى بن عبد الله بن حسن عن أبيه قال كان عمر بن عبد العزيز يراني إذا كانت لي حاجة أتردد إلى بابه فقال

لي ألم أقل لك إذا كانت لك حاجة فارفع بها إلي فوالله إني لأستحيي من الله أن يراك على بابي
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن العتبي عن أبيه قال لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة جمع ولده حوله فلما رآهم استعبر ثم قال بأبي وأمي من خلفتهم بعدي فقراء فقال له مسلمة بن عبد الملك يا أمير المؤمنين فتعقب فعلك وأغنهم فما يمنعك أحد في حياتك ولا يرتجعه الوالي بعدك فنظر إليه نظر مغضب متعجب فقال يا مسلمة منعتهم إياه في حياتي وأشقى به بعد وفاتي إن ولدي بين رجلين إما مطيع لله فالله مصلح له شأنه ورازقه ما يكفيه أو عاص له فما كنت لأعينه على معصيته يا مسلمة إني حضرت أباك لما دفن فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدت في ذلك طول حياتي وأرجو أن أفضي إلى عفو من الله وغفران قال مسلمة فلما دفن حضرت دفنه فلما فرغ من شأنه حتى حملتني عيني فرأيته فيما يرى النائم وهو في روضة خضراء نضرة فيحاء وأنهار مطردة وعليه ثياب بيض فأقبل علي فقال يا مسلمة لمثل هذا فليعمل العاملون هذا أو نحوه فإن الحكاية تزيد أو تنقص
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثنا عبد الله ابن أبي سعد قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن يحيى بن سعيد الأموي قال لما مات عمر بن عبد العزيز وقف مسلمة عليه بعد أن أدرج في كفنه فقال رحمك الله يا أمير المؤمنين فقد أورثت صالحينا بك اقتداء وهدى

وملأت قلوبنا بمواعظك وذكرك خشية وتقى وأثلت لنا بفضلك شرفا وفخرا وأبقيت لنا في الصالحين بعدك ذكرا

كتابه إلى أساري قسطنطينية
أخبرني الحسن قال أخبرنا الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأساري بقسطنطينية أما بعد فإنكم تعدون أنفسكم أسارى ولستم أسارى معاذ الله أنتم الحبساء في سبيل الله واعلموا أني لست أقسم شيئا بين رعيتي إلا خصصت أهلكم بأوفر ذلك وأطيبه وقد بعثت اليكم خمسة دنانير خمسة دنانير ولولا أني خشيت إن زدتكم أن يحبسه عنكم طاغية الروم لزدتكم وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم ذكركم وأنثاكم حركم ومملوككم بما يسأل فأبشروا ثم أبشروا
رده على كتاب الحسن البصري
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال زعم لنا سليمان بن أرقم قال كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز وكان يكاتبه فلما

استخلف كتب إليه من الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز فقيل له إن الرجل قد ولي وتغير فقال لو علمت أن غير ذلك أحب إليه لاتبعت محبته ثم كتب من الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل قال فمضيت إليه بالكتاب فقدمت عليه به فإني عنده أتوقع الجواب إذ خرج يوما غير يوم جمعة حتى صعد المنبر واجتمع الناس فلما كثروا قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم في أسلاب الماضين وسيرثكم الباقون حتى تصيروا إلى خير الوارثين كل يوم تجهزون غاديا إلى الله ورائحا قد حضر أجله وطوي عمله وعاين الحساب وخلع الأسلاب وسكن التراب ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد ثم وضع يديه على وجهه فبكى مليا ثم رفعهما فقال يا أيها الناس من وصل الينا منكم بحاجته لم نأله خيرا ومن عجز فوالله لوددت أنه وآل عمر في العجز سواء قال ثم نزل فأرسل إلي فدخلت إليه فكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإنك لست بأول من كتب عليه الموت وقد مات والسلام

آخر خطبة له
أخبرني ابن عمار قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا أبو مطرف المغيرة بن مطرف عن شعيب بن صفوان عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز خطب بخناصرة خطبة لم يخطب بعدها حمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى وإن لكم معادا يتولى الله فيه الحكم فيكم والفصل بينكم فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض

واعلموا أن الأمان غدا لمن حذر الله وخافه وباع قليلا بكثير ونافدا بباق وخوفا بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفها من بعدكم الباقون وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين ثم إنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا إلى الله ورائحا قد قضى نحبه وانقضى أجله ثم تضعونه في صدع من الأرض في بطن لحد ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسلاب وفارق الأحباب ووجه للحساب غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة ولا أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي وأستغفر الله لي ولكم وما يبلغنا أحد منكم حاجته يسعها ما عندنا إلا سددنا من حاجته ما قدرنا عليه ولا أحد يتسع له ما عندنا إلا وددت أنه بدئ بي وبلحمتي الذي يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم وايم الله لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به مني ناطقا ذلولا عالما بأسبابه ولكنه من الله عز و جل كتاب ناطق وسنة عادلة دل فيهما على طاعته ونهى فيهما عن معصيته ثم بكى فتلقى دموعه بطرف ردائه ثم نزل فلم ير على تلك الأعواد بعد حتى قبضه الله إليه رحمة الله عليه

شراؤه موضع قبره
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو سلمة المديني عن إبراهيم بن ميسرة أن عمر بن عبد العزيز اشترى موضع قبره بعشرة دنانير
أخبرني اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو سلمة المديني قال أخبرني ابن مسلمة بن عبد الملك قال حدثني أبي مسلمة قال كنا عند عمر في اليوم الذي توفي فيه أنا وفاطمة بنت عبد الملك فقلنا له يا أمير المؤمنين إنا نرى أنا قد منعناك النوم فلو تأخرنا عنك شيئا عسى أن تنام قال ما أبالي لو فعلتما قال فتنحيت أنا وهي وبيننا وبينه ستر قال فما

نشبنا أن سمعناه يقول حي الوجوه حي الوجوه فابتدرناه أنا وهي فجئناه وقد أغمض ميتا فإذا هاتف يهتف في البيت لا نراه ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
ومن أصوات عمر في سعاد

صوت
( ألاَ يا دِينَ قلُبك من سُلَيْمى ... كما قد دِينَ قلبُك من سُعَادَا )
( هما سَبَتَا الفؤادَ وأَصْبَتاه ... ولم يُدْرِك بذلك ما أراد )
( قِفَا نَعْرِفْ منازلَ من سُلَيْمَى ... دَوَارِسَ بين حَوْمَلَ أو عُرَادَا )
( ذكرتُ بها الشَّبابَ وآلَ لَيلَى ... فلم يَرُدِ الشبابُ بها مَرادا )
( فإن تَشِبِ الذُّؤابةُ أُمَّ زيدٍ ... فقد لاقيتُ أيّاماً شِدادا )
عروضه من الوافر الشعر لأشهب بن رميلة فيما ذكر ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني وحكى ابن الأعرابي أنه سمع بعض بني ضبة يذكر أنها لابن ابي رميلة الضبي والغناء لعمر بن عبد العزيز رمل بالوسطى عن الهشامي وحبش وغيرهما وفي نسخة عمرو بن بانة الثانية لخزرج رمل بالبنصر

نسب الأشهب بن رميلة وأخباره
رملية أمه وهي أمة لخالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم بن عمرو بن تميم وهو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد الدار بن جندل بن نشهل بن دارم في النسب قال أبو عمرو وولدها يزعمون أنها كانت سبية من سبايا العرب فولدت لثور بن أبي حارثة أربعة نفر وهم رباب وحجناء والأشهب وسويد فكانوا من أشد إخوة في العرب لسانا ويدا وأمنعهم جانبا وكثرت أموالهم في الإسلام وكان أبوهم ثور ابتاع رميلة في الجاهلية وولدتهم في الجاهلية فعزوا عزا عظيما حتى كانوا إذا وردوا ماء من مياه الصمان حظروا على الناس ما يريدون منه وكانت لرميلة قطيفة حمراء فكانوا يأخذون الهدب من تلك القطيفة فيلقونه على الماء أي قد سبقنا إلى هذا فلا يرده أحد لعزهم فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه ويدعون ما يستغنون عنه فوردوا في بعض السنين ماء من مياه الصمان وورد معهم ناس من بني قطن بن نهشل وكانت بنو قطن بن نهشل وبنو زيد بن نهشل وبنو مناف بن درام حلفاء وكانت الأعجاز حلفاء عليهم وهم جندل وجرول وصخر بنو نهشل فأورد بعضهم بعيره فأشرعه حوضا قد حظروا عليه وبلغهم ذلك فغضبوا منه واجتمعوا وأحلافهم واجتمعت الأحلاف عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا فضرب رباب بن رميلة رأس نسير بن صبيح المعروف بأبي بدال وأمه بنت أبي الحمام بن قراد بن مخزوم وقال رباب في ذلك

( ضربتُه عَشِيَّةَ الهِلالِ ... أوَّلَ يومٍ عُدَّ من شوّالِ )
( ضرباً على رأس أبي بَدَّال ... ثُمَّتَ ما أُبْتُ ولا أُباليِ )
( ألاّ يؤوبَ آخرَ اللَّياليِ ... )
فجمع كل واحد منهما لصاحبه فقالت بنو قطن يا بني جرول ويا بني صخر ويا بني مناف ضرب صاحبكم صاحبنا ضربة لا ندري أيموت منها أم يعيش فأنصفونا فأبى القوم أن يفعلوا فاقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل وكان أبي بن أشيم أخو بني جرول وهو سيدهم خرج في حاجة له فلقيه بعض بني قطن فأسره وأتى به أ صحابه فقال نهشل بن حري يا بني قطن أطيعوني اليوم واعصوني أبدا قالوا نعم فقل فقال إن هذا لم يشهد شركم ولا حربكم ولا يحل لكم دمه وإن قومه أحر من يقاتلكم وشوكتهم فخذوا عليه العهد أن يصرفهم عنكم وخلوا سبيله قالوا افعل ما رأيت فأتاه نهشل بن حري فقال له يا أبا أسماء إن قومك قد حالوا بيننا وبين حقنا وقاتلوا دونه وقد أمكننا الله منك وأنت والله أوفى دما عندنا من بني رميلة فوالله لأقتلنك أو تعطيني ما أسألك قال سل قال تجعل أن تصرف بني جرول جميعا فإن لم يطيعوك انصرفت ببني أشيم فإن لم يطيعوك أتيتنا قال نعم فخلي سبيله تحت الليل فأتاهم وهم بحيث يرى بعضهم بعضا فقال يا بني جرول انصرفوا أتعترضون على قوم يريدون حقهم ألا تتقون الله والله لقد أسرني القوم ولو أرادوا قتلى لكان فيه وفاء بحقهم ولكنهم يكرهون حربكم فلا تبغوا

عليهم فانصرف منهم أكثر من سبعين رجلا فلما رأى ذلك بنو صخر وبنو جرول قالوا والله إنا لنظلم قومنا إن قاتلناهم وانصرفوا وتخاذل القوم فلما رأى ذلك الأشهب بن رميلة قال ويلكم أفي ضربة من عصا لم تصنع شيئا تسفكون دماءكم والله ما به من بأس فأعطوا قومكم حقهم فقال حجناء ورباب والله لننصرفن فلنلحقن بغيركم ولا نعطي ما بأيدينا فجعل الأشهب ابن رميلة يقول ويلكم أتخربون دار قومكم في ضربة عصا لم تبلغ شيئا فلم يزل بهم حتى جاؤوا برباب فدفعوه إلى بني قطن وأخذوا منهم أبا بدال وهو المضروب فمات في تلك الليلة في أيديهم فكتموه وأرسلوا إلى عباد بن مسعود ومالك بن ربعي ومالك بن عوف والقعقاع بن معبد فعرضوا عليهم الدية فقالوا وما الدية وصاحبنا حي قالوا فإن صاحبكم ليس بحي فأمسكوا وقالوا ننظر ثم جاؤوا إلى رباب فقالوا أوصنا بما بدا لك قال دعوني أصلي قالوا صل فصلى ركعتين ثم قال أما والله إني إلى ربي لذو حاجة وما منعني أن أزيد في صلاتي إلا أن تروا أن ذلك فرق من الموت فليضربني منكم رجل شديد الساعد حديد السيف فدفعوه إلى أبي خزيمة بن نسير المكني بأبي بدال فضرب عنقه فدفنوه وذلك في الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفان فقال الأشهب يرثي أخاه ويلوم نفسه في دفعه إليهم لتسكن الحرب
( أَعَيْنَيَّ قَلَّتْ عَبْرةٌ من أخيكما ... بأن تسهرَا ليلَ التَّمام وتَجْزَعا )
( وباكيةٍ تَبْكي الرَّبابَ وقائلٍ ... جَزَى اللهُ خيراً ما أعفَّ وأمْنَعا )

( وأَضْرَبَ في الهَيْجا إذا حَمِس الوَغَى ... وأَطعَمَ إذ أَمْسىَ المَرَاضِيعُ جُوَّعا )
( إذا ما اعترضْنا من أخينا أخاهُم ... رَوِينا ولم نَشْفِ الغَلِيلَ فَيَنْقَعا )
( قَرَوْنا دماً والضَّيْف منتظِرُ القِرَى ... ودعوةِ داعٍ قد دعانا فأسمعا )
( مَرَدْنا وكانت هفوةً من حُلومنا ... بِثَدْيٍ إلى أولاد ضَمْرَة أَقْطعا )
( وقد لامنِي قومي ونفسي تَلُومُني ... بما فال رأيي في ربابٍ وضَيَّعا )
( فلو كان قلبي من حديدٍ أذابَه ... ولو كان من صُمِّ الصَّفَا لتصدَّعا )
مضى الحديث

اصوات عمر في سعاد
ونسخت من كتاب محمد بن الحسن الكاتب حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال لعمر بن عبد العزيز في سعاد سبعة ألحان
منها
( يا سُعادُ التي سَبَتْنِي فؤادي ... ورُقَادي هَبِي لعيني رُقادي )
ولحنه رمل مطلق
ومنها
( حظُّ عيني من سُعاد ... أبداً طولُ السُّهَاد )
ولحنه رمل بالسبابة في مجرى البنصر
ومنها
( سبحان ربيِّ بَرَا سُعادا ... لا تعرف الوصلَ والودادا )
ولحنه خفيف رمل

ومنها
( لعَمْرِي لئن كانت سعادُ هي المُنَى ... وجنَّةَ خُلْد لا يُمَلُّ خلودُها )
ولحنه ثقيل أول
ومنها
( أسُعادُ جُودِي لا شَقِيتِ سُعَادا ... واجْزِي مُحِبَّكِ رأفةً وودادَا )
ولحنه خفيف رمل
ومنها
( ألِمَّا صاحبيّ نَزُرْ سُعادَا ... )
ومنها
( ألاَ يا دِينَ قلبُكَ من سُلَيْمَى ... )
وقد ذكرت طريقتهما
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز حديث كثير وفقه وحمل عنه أهل العلم
أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا عمران بن بكار الكلاعي قال حدثنا خالد بن علي قال حدثنا بقية بن الوليد عن مبشر بن إسماعيل عن بشر ابن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عمر عن جده عبد العزيز عن معاوية بن أبي سفيان قال قال رسول الله من أحب أن تمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا حدثنا العنزي قال حدثني وزير بن محمد أبو هاشم الغساني قال حدثني محمد بن أيوب بن سعيد

السكري عن عمر بن عبد العزيز عن أمه عن أبيها عاصم بن عمر عن أبيه عمر ابن الخطاب قال قال رسول الله نعم الإدام الخل
وممن حكي عنه أنه صنع في شعره غناء يزيد بن عبد الملك ولم يأت ذلك برواية عمن يحصل قوله كما حكي عن عمر بن عبد العزيز وإنما وجد في الكتب أنه صنع لحنا في شعره وذكره من لا يوثق به ولم نروه عن أحد فلم نأت بأخباره هاهنا مشروحة وأتيت بها في أخبار ه مع حبابة بحيث يصلح وأما اللحن الذي ذكر أنه صنعه فهو

صوت
( أبلغْ حَبَابةَ أَسْقَى رَبْعَهَا المطرُ ... ما للفؤاد سِوى ذكراكُم وَطَرُ )
( إن سار صَحْبِيَ لم أمْلَلْ بذكركُم ... أو عرَّسوا فهمومُ النفسِ والفِكَرُ )
في هذين البيتين ثقيل أول يقال إنه ليزيد بن عبد الملك وذكر ابن المكي أنه لحبابة
وحكي عن الهيثم بن عدي أن يزيد بن عبد الملك لما رأى حبابة تعلقها ولم يقدر على ابتياعها خوفا من أخيه سليمان أو من عمر بن عبد العزيز وقال فيها هذين البيتين وهو راحل عن الحجاز وغناه فيهما معبد فوصله بعد ذلك بما كان يغنيه وأخذته حبابة وغيرها عنه وذكر الهشامي أنه مما لا يشك فيه من غناء معبد وقد مضت أخبار يزيد بن عبد الملك وحبابة في صدر هذا الكتاب فاستغني عن إعادتها هنا

وممن غنى منهم الوليد بن يزيد
وله أصوات صنعها مشهورة وقد كان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن الفطراني عن محمد بن جبر قال حدثني من سمع خالد صامة يقول كنت يوما عند الوليد بن يزيد وأنا أغنيه
( أَرانِي الله يا سَلْمَى حياتي ... )
وهو يشرب حتى سكر ثم قال لي هات العود فدفعته إليه فغناه أحسن غناء فنفست عليه إحسانه ودعوت بطبل فجعلت أوقع عليه وهو يضرب حتى دفع العود وأخذ الطبل فجعل يوقع به أحسن إيقاع ثم دعا بدف فأخذه ومشى به وجعل يغني أهزاج طويس حتى قلت قد عاش ثم جلس وقد انبهر فقلت يا سيدي كنت أرى أنك تأخذ عنا ونحن الآن نحتاج إلى الأخذ عنك فقال اسكت ويلك فوالله لئن سمع هذا منك أحد ما دمت حيا لأقتلنك فوالله ما حكيته عنه حتى قتل
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرنا أبو أيوب المديني قال ذكر أبو الحسن المدائني أن يحيى مولى العبلات المعروف بقيل وهو الذي غنى
( أَزْرَى بنا أننا شالتْ نَعامتُنا ... )
كان مقيما بمكة فلما قدمها الوليد بن يزيد سأل عن أحسن الناس غناء

وحكاية لابن سريج فقيل له فيل فدعاه وقال له امش لي بالدف ففعل ثم قال له الوليد هاته حتى أمشى به فإن أخطأت فقومني فمشى به أحسن من مشية فيل فقال له يحيى جعلت فداءك ايذن لي حتى أختلف إليك لأتعلم منك
فمن مشهور صنعته في شعره
( وَصَفْراءَ في الكأس كالزعفران ... سباها التُّجِيبيُّ من عَسْقَلانْ )
( تُريكَ القَذاةَ وعَرْضُ الإِ ناء ... سِتْر لها دون لمْسِ البنانْ )
لحنه فيه خفيف رمل وفيه لأبي كامل ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس ولعمر الوادي فيه ثقيل أول بالوسطى عن يونس والهشامي وقد مضت أخباره مشروحة في المائة الصوت المختارة
وممن دونت صنعته من خلفاء بني العباس الواثق بالله
ولم نعلمه حكي ذلك عن أحد منهم قبله إلا ما قدمنا سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبة فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء وأتى فيها بأشياء غثة لا يحسن لمحصل ذكرها

وأخبرني يحيى بن محمد الصولي قال حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخلت يوما دار الواثق بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا فسمعت صوت عود من بيت وترنما لم أسمع أحسن منه قط فأطلع خادم رأسه ثم رده وصاح بي فدخلت فإذا الواثق فقال أي شيء سمعت فقلت الطلاق لازم لي وكل مملوك لي حر لقد سمعت ما لم أسمع مثله قط حسنا فضحك فقال وما هو إنما هذه فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله ورحمهم والتابعون بعدهم وكثر في حرم الله ومهاجر رسول الله أتحب أن تسمعه مني قلت إي والذي شرفني بخطابك وجميل رأيك فقال يا غلام هات العود وأعط إسحاق رطلا فدفع الرطل إلي وضرب وغنى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه
( أضحتْ قبورهُم من بعد عِزِّهمُ ... تَسْفِي عليها الصَّبا والحَرْجَف السَّمَلُ )
( لا يَدْفَعون هَوَاماً عن وجوههمُ ... كأنهمْ خَشَبٌ بالقاع مُنْجَدِلُ )
فشربت الرطل ثم قمت فدعوت له فأجلسني وقال أتشتهي أن تسمعه

ثانية فقلت إي والله فغنانيه ودعا لي برطل ففعلت كما فعلت ثانية ثم ثالثة وصاح ببعض خدمه وقال له احمل إلى إسحاق ثلثمائة ألف درهم ثم قال يا إسحاق قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلثمائة ألف درهم فانصرف إلى أهلك ليسروا بسرورك فانصرفت بالدراهم
أخبرني محمد قال سمعت أحمد بن محمد بن الفرات يقول سمعت عريب تقول

الواثق له صنعة جيدة في الغناء
صنع الواثق مائة صوت ما فيها صوت ساقط ولقد صنع في هذا الشعر
( هل تعلمين وراء الحبِّ منزلةً ... تُدْنِي إليكِ فإنّ الحبَّ أقصاني )
( هذا كتابُ فتًى طالتْ بَلِيَّتُه ... يقول يا مُشْتَكَى بَثى وأحزاني )
لحنا من الرمل تشبه فيه بصنعة الأوائل
نسبة هذا الصوت
الشعر ليعقوب بن إسحاق الربعي المخزومي والغناء للواثق رمل بالوسطى من رواية الهشامي
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي والحرمي بن أبي العلاء وعلي بن سليمان الأخفش قالوا حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال قال الزبير بن بكار كتب ابن أبي مسرة المكي إلى أهل المدينة ببيتين وهما
( هذا كتابُ فتًى طالتْ بَلِيَّتُه ... يقول يا مُشْتَكَى بَثِّي وأحزاني )
( هل تعلمين وراءَ الحبِّ منزلةً ... تُدني إليكِ فإنّ الحبّ أقصاني )
قال الزبير وكنت غائبا فلما قدمت قال لي أهل المدينة ذلك فقلت

لهم أيكتب إليكم صاحبكم يعاتبكم فلا تجيبونه
أنشدني يعقوب بن إسحاق الربعي المخزومي لنفسه
( قال الوُشاةُ لهندٍ عن تَصَارُمِنَا ... ولستُ أنسَى هوى هندٍ وتنساني )
( يعقوبُ ليس بمتبولٍ ولا كَلِفٍ ... وَيْحَ الوُشاةِ فإنّ الداء أضناني )
( ما بي سوى الحبِّ من هندٍ وإن بَخِلْت ... حُبِّي لهندٍ برى جسمي وأبلاني )
( قد قلتُ حين بدا لي بُخْلُ سيِّدتي ... وقد تتابع بي بَثِّي وأحزاني )
( هل تعلمين وراء الحبِّ منزلةً ... تُدْنِي إليكِ فإنّ الحبَّ أقصاني )
( قالت نعم قلتُ ما ذاكم أسيِّدتي ... وطاعةُ الحبِّ تَنفي كلَّ عِصْيان )
( قالت فدَعْنا بلا صُرْمٍ ولا صِلَةٍ ... ولا صدودٍ ولا في حال هِجران )
( حتى يَشُكَّ وُشاةٌ قد رَمَوْك بنا ... وأعلنوا بك فينا أيَّ إعلان )
ومن غناء الواثق بالله

صوت
( خليليَّ عُوجَا من صدور الرَّواحِل ... بجَرْعاءِ حُزْوى وابكيا في المنازِل )
( لعلّ انحدارَ الدمع يُعْقب راحةً ... من الوَجْدِ أو يَشْفِي نَجِي البَلابِل )

الشعر لذي الرمة والغناء للواثق بالله رمل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي ولإسحاق فيهما رمل بالسبابة في مجرى البنصر ولحن الواثق منهما الذي أوله البيت الثاني وهو اللحن المحثوث المسجح وله ردة في لعل ولحن إسحاق أوله البيت الأول ثم الثاني وهو أشدهما إمساكا وفيه صياح
أخبرنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهري وقد كان تكلم له في حاجة فقضيت فقال له أعطاك الله أيها الأمير ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة قال فاشتهى هذا الكلام فاستعاده فأعدته قال ثم مكثنا ما شاء الله وأرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإشخاصي إليه في الصوت الذي أمرني أن أتغنى فيه وهو
( لقد بَخِلت حتى لَوَ أنِّي سألتُها ... )
فأمر لي بمائة ألف درهم فأقمت ما شاء الله ليس أحد من مغنيهم يقدر على أن يأخذ هذا الصوت مني فلما طال مقامي قلت يا أمير المؤمنين ليس أحد من هؤلاء المغنين يقدر على أن يأخذ هذا الغناء مني فقال لي ولم ويحك قلت لأني لا أصححه ولا تسخو نفسي لهم به فما فعلت يا

أمير المؤمنين في الجارية التي أخذتها مني يعني شجا وهي التي كان أهداها إلى الواثق وعمل لها المصنف الذي في أيدي الناس لإسحاق قال وكيف فقلت لأنها تأخذه مني وأطيب به لها نفسا وهم يأخذونه منها قال فأمر بها فأخرجت وأخذته على المكان فأمر لي بمائة ألف درهم أخرى وأذن لي في الانصراف وكان إسحاق بن إبراهيم الطاهري حاضرا عنده فقلت له عند وداعي إياه أعطاك الله يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة فالتفت إلي إسحاق بن إبراهيم فقال لي ويحك يا إسحاق تعيد الدعاء فقلت إي والله أعيده قاص أنا أو مغن فانصرفت إلى بغداد وأقمت حتى قدم إسحاق فجئته مسلما فقال ويلك يا إسحاق أتدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده قلت لا أيها الأمير قال قال لي ويحك كنا أغنى الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا فيفسده علينا هذه رواية أبي أيوب
قال أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى وأخبرني أبي رحمه الله عن إسحاق أنه قال لما صنعت لحني في
( خليلي عُوجَا من صدور الرواحل ... )
غنيته الواثق فاستحسنه وعجب من صحة قسمته ومكث صوته أياما ثم قال لي يا إسحاق قد صنعت لحنا في صوتك وفي إيقاعه وأمر فغنيت به فقلت يا أمير المؤمنين بغضت إلي لحني وسمجته عندي وقد كنت استأذنته مرات في الانحدار إلى بغداد بعد أن ألقيت اللحن الذي كان أمرني بصنعه في
( لقد بَخِلت حتى لَوَ اني سألتها ... )
فمنعني ودافعني بذلك فلما صنع لحنه الرمل في
( خليليّ عُوجَا من صدور الرّواحل ... )

قلت له يا أمير المؤمنين قد والله اقتصصت وزدت فأذن لي بعد ذلك قال أبو الحسن علي بن يحيى قلت لإسحاق فأيهما أجود الآن لحنك فيه أو لحنه فقال لحني أجود قسمة وأكثر عملا ولحنه أظرف لأنه جعل ردته من نفس قسمته فليس يقدر على أدائه إلا متمكن من نفسه قال أبو الحسن فتأملت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق قال وقال لي إسحاق ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بالغناء
فأما نسبة هذين الصوتين فإن أحدهما قد مضى ومضت نسبته والآخر
صوت
( أيا مُنْشِرَ الموتى أقِدْني من التي ... بها نَهِلتْ نفسي سَقاماً وعَلَّتِ )
( لقد بَخِلتْ حتى لَوَ أنّي سألتُها ... قَذَى العين من ضاحِي الترُّاب لضَنَّتِ )
الشعر لأعرابي رواه إسحاق عنه ولم يذكر اسمه والناس يغلطون فينسبونه إلى كثير ويظنونه من قصيدته التي أولها
( خليليَّ هذا رَسْمُ عَزّةَ فاعْقِلاَ ... قَلُوصَيْكما ثم ابكيا حيث حَلَّتِ )
وهذا خطأ ممن قال ذلك والغناء للواثق ثاني ثقيل بالوسطى ولإسحاق في البيت الثاني وبعده بيت ألحقه به ليس من الشعر ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى والبيت الذي ألحقه إسحاق به من شعره
( فإن بَخِلتْ فالبخلُ منها سَجِيةٌ ... وإن بَذَلتْ أعطتْ قليلاً وأكْدَتِ )
أخبرني عمي رحمه الله قال حدثني أبو جعفر بن الدهقانة النديم قال كان الواثق إذا أراد أن يعرض صنعته على إسحاق نسبها إلى غيره وقال وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز ما سمعه أحد ويأمر من يغنيه إياه وكان إسحاق يأخذ نفسه في ذلك بقول الحق أشد أخذ فإن كان جيدا من

صناعته قرظه ووصفه واستحسنه وإن كان مطرحا أو فاسدا أو متوسطا ذكر ما فيه فربما كان للواثق فيه هوى فيسأله عن تقويمه وإصلاح فساده وربما اطرحه بقول إسحاق فيه إلى أن صنع لحنا في قول الشاعر
( لقد بَخِلت حتى لو أنّي سألتها ... قَذَى العين من ضاحِي التراب لضَنَّتِ )
فأعجب به واستحسنه وأمر المغنين فغنوا فيه وأمر بإشخاص إسحاق إليه من بغداد ليسمعه فكاده مخارق عنده وقال يا أمير المؤمنين إن إسحاق شيطان خبيث داهية وإن قولك له فيما تصنعه هذا صوت وقع إلينا لا يخفى عليه به أن الصوت لك ومن صنعتك ولا يوقع في فهمه أنه قديم فيقول لك وبحضرتك ما يقارب هواك فإذا خرج عن حضرتك قال لنا ضد ذلك فأحفظ الواثق قوله وغاظه وقال له أريد على هذا القول منك دليلا قال أنا أقيم عليه الدليل إذا حضر فلما قدم به وجلس في أول مجلس اندفع مخارق يغني لحن الواثق
( لقد بَخِلتْ حتَّى لَوَ انّي سألتُها ... )
فزاد فيه زوائد أفسدت قسمته فسادا شديدا وخفيت على الواثق لكثرة زوائد مخارق في غنائه فسأله الواثق عنه فقال هذا غناء فاسد غير مرضي عندي فغضب الواثق وأمر بإسحاق فسحب حتى أخرج من المجلس فلما كان من الغد قالت فريدة للواثق يا أمير المؤمنين إن إسحاق رجل يأخذ نفسه بقوله الحق في صناعته على كل حال ساءته أو سرته لا يخاف في ذلك ضررا ولا يرجو نفعا وما لك منه عوض وقد كاده مخارق عندك فزاد في صدر الصوت من زوائده التي تعرف وتركه في المصراع الثاني على حاله ونقص من البيت الثاني وقد تبينت ذلك وأنا أعرضه على إسحاق وأغنيه إياه على صحته واسمع ما يقول وما زالت تلطف للواثق حتى رضي عنه وأمر بإحضاره فغنته إياه فريدة كما صنعه الواثق فلما سمعه قال هذا صوت صحيح الصنعة والقسمة والتجزئة وما هكذا سمعته في المرة الأولى ثم

أخبر الواثق عن مواضع فساده حينئذ وأبان ذلك له بما فهمه وغنته فريدة عدة أصوات من القديم والحديث كلها يقول فيها بما عنده من مدح لبعضها وطعن على بعض فاستحسن الواثق ذلك وأجازه يومئذ وحباه وجفا مخارقا مدة لما فعله به

منزلة إسحاق عنده
أخبرني جحظة قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال كان الواثق إذا صنع شيئا من الغناء أخبر إسحاق به وعرضه عليه حتى يصلح ما فيه ثم يظهره
وقد أخبرني الحسن بن علي عن يزيد بن محمد المهلبي بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكرته ها ههنا وفي ألفاظه اختلاف وقد تقدم ذكره وابتدأناه في أخبار إسحاق والأبيات الثانية التي غنى فيها الواثق وإسحاق أنشدنيها علي بن سليمان الأخفش وعلي بن هارون بن علي بن يحيى جميعا عن هارون بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق لأعرابي وأنشدناها محمد بن العباس اليزيدي قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لبعض الأعراب
( ألاَ قاتل اللهُ الحمامةَ غُدْوةً ... على الغصن ماذا هَيَّجَتْ حين غَنَّتِ )
( فغَنَّتْ بصوتٍ أعجميٍّ فهيَّجتْ ... هَوايَ الذي كانت ضُلوعي أكَنَّتِ )
( فلو قَطَرتْ عين امرِئ من صَبابةٍ ... دَماً قطَرتْ عيني دماً وألَمَّتِ )
( فما سكتتْ حتى أوَيتُ لصوتها ... وقلتُ أرى هذِي الحمامةَ جُنَّتِ )
( ولي زَفَراتٌ لو يَدُمْنَ قتْلنَنِي ... بشوقٍ إلى نادي التي قد تَولَّتِ )
( إذا قلتُ هذِي زفرةُ اليوم قد مضتْ ... فمَنْ لي بأُخرَى في غدٍ قد أَظلَّتِ )
( أيا مُنْشِرَ الموتَى أعِنِّي على التي ... بها نَهِلَتْ نفسي سَقاماً وعَلَّت )
( لقد بَخِلَتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... قَذَى العين من سَافِي الترابِ لضَنَّتِ )
( فقلتُ ارْحَلاَ يا صاحبَيَّ فليتنِي ... أرى كلَّ نفس أُعطِيَتْ ما تمنَّت )

( حلَفتُ لها بالله ما أُمُّ واحدِ ... إذا ذكرتْه آخرَ الليل أَنَّتِ )
( وما وَجْدُ أعرابيّةٍ قَذَفتْ بها ... صُروفُ النَّوَى من حيثُ لم تَكُ ظَنَّت )
( إذا ذكرتْ ماءَ العِضَاهِ وطِيبَه ... وبطن الحَصَى من بطن خَبْت أَرَنَّتِ )
( بأعظمَ من وجدي بها غيرَ أنني ... أُجَمْجِمُ أحشائي على ما أجَنَّت )
أخبرني جحظة وابن أبي الأزهر ويحيى بن علي والحسين بن يحيى قالوا جميعا أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه وقد جمعت روايتهم في هذا الخبر وزدت فيه ما نقصه كل واحد منهم حتى كملت ألفاظه قال ما وصلني أحد من الخلفاء بمثل ما وصلني به الواثق وما كان أحد منهم يكرمني إكرامه ولقد غنيته لحني
( لعلَّكَ إن طالتْ حياتُك أن تَرى ... بِلاداً بها مَبْدًى لليلَى ومَحْضَرُ )
فاستعاده مني ليلة لا يشرب على غيره ثم وصلني بثلثمائة ألف درهم ولقد قدمت عليه في بعض قدماتي فقال لي ويحك يا إسحاق أما اشتقت إلي فقلت بلى والله يا سيدي وقلت في ذلك أبياتا إن أمرتني أنشدتها قال هات فأنشدته
( أشكو إلى الله بُعْدِي عن خليفتِه ... وما أقاسيه من هَمٍّ ومن كِبَرِ )
( لا أستطيع رَحيلاً إن هَمَمتُ به ... يوماً إليه ولا أقوَى على السفر )
( أنوي الرحيلَ إليه ثم يمنَعني ... ما أَحْدثَ الدهرُ والأيّامُ في بصري )
ثم استأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها
( لمّا أمرتَ بإشخاصي إليك هَوَى ... قلبي حَنيناً إلى أهلي وأولادي )

( ثم اعتزمتُ فلم أَحْفلْ ببَيْنِهُمُ ... وطابت النفسُ عن فَضْلٍ وحَمّاد )
( كم نعمةٍ لأبيك الخَيْرِ أفردني ... بها وخَصَّ بأخْرَى بعد إفرادي )
( فلو شكرتُ أيادِيكم وأَنْعُمَكم ... لَمَا أحاط بها وصفي وتَعْدادي )
( لأشكرنَّك ما غار النجومُ وما ... حَدَا على الصُّبْحِ في إثر الدُّجَى حاد )
قال علي بن يحيى خاصة في خبره فقال لي أحمد بن إبراهيم يا أبا الحسن أخبرني لو قال الخليفة لإسحاق أحضر لي فضلا وحمادا أليس كان يفتضح إسحاق يعني من دمامة خلقتهما وتخلف شاهدهما

الواثق وإسحاق في طريقهما إلى النجف
قال إسحاق ثم انحدرت مع الواثق إلى النجف فقلت يا أمير المؤمنين قد قلت في النجف قصيدة فقال هاتها فأنشدته قولي
( يا راكبَ العِيسِ لا تَعْجَلْ بنا وِقفِ ... نُحَيِّ داراً لسُعْدَي ثم ننصرِف )
( لم يَنْزِلِ الناسُ في سهلٍ ولا جبلٍ ... أَصْفَى هواءً ولا أَغْذَى من النَّجَفِ )
( حُفَّتْ ببرٍّ وبحرٍ في جوانبها ... فالبَرُّ في طَرَفٍ والبحرُ في طَرَفِ )
( ما إن يزال نسيمٌ من يَمانِيةٍ ... يأتيك منها بَريَّا رَوْضةٍ أُنُفِ )
حتى انتهيت إلى مديحه فقلت وقد انتهيت إلى قولي فيه
( لا يَحْسَبُ الجودَ يُفنِي مالَه أبداً ... ولا يرى بَذْلَ ما يَحْوِي من السَّرَفِ )
فقال لي أحسنت يا أبا محمد فكناني وأمر لي بألف درهم وانحدرنا إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس

( فالصالحيّةُ من أكناف كَلْواذا ... )
وذكرت الصبيان وبغداد فقلت
( أتَبْكِي على بغدادَ وهي قريبةٌ ... فكيف إذا ما ازددتَ منها غداً بُعدا )
( لَعَمْرُك ما فارقتُ بغدادَ عن قِلًى ... لَوَ انّا وجدنا من فِراقٍ لها بُدّا )
( إذا ذَكرتْ بغدادَ نفسي تَقَطَّعتْ ... من الشوقِ أو كادت تموت بها وجدا )
( كفى حَزَناً أن رُحْتَ لم تستطع لها ... وَدَاعاً ولم تُحْدِثْ لساكنها عهدا )
فقالت لي يا موصلي لقد اشتقت إلى بغداد فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ولكني اشتقت إلى الصبيان وقد حضرني بيتان فقال هاتهما فقلت
( حَنَنتَ إلى الأُصَيْبيةِ الصِّغار ... وشاقكَ منهمُ قُرْبُ المَزَارِ )
( وكلُّ مُفارِقٍ يزداد شوقاً ... إذا دنت الدِّيار من الديار )
فقال لي يا إسحاق سر إلى بغداد فأقم شهرا مع صبيانك ثم عد إلينا وقد أمرت لك بمائة ألف درهم
أخبرني جحظة عن ابن حمدون أن إسحاق كان يحضر مجالس الخلفاء إذا جلسوا للشرب في جملة المغنين وعوده معه إلى أيام الواثق فإنه كان إذا قدم عليه يحضر مع الجلساء بغير عود ويدنيه الواثق ولا يغني حتى

يقول له غن فإذا قال له غن جاؤوه بعود فغنى به وإذا فرغ رفع العود من بين يديه إكراما من الواثق له
أخبرني الحسين بن يحيى عن وسواسة بن الموصلي عن حماد بن إسحاق قال كتب حمدون بن إسماعيل إلى أبي إن أمير المؤمنين الواثق يأمرك أن تصنع لحنا في هذا الشعر
( لقد بَخِلَتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... )
وقد كان الواثق غنى فيه غناء أعجبه فغنى فيه أبي فلما سمعه الواثق قال أفسد علينا إسحاق ما كنا أعجبنا به من غنائنا قال حماد ثم لم أعلم أن أبي صنع بعده غناء حتى مات
ومن مشهور أغاني الواثق

صوت
( سقَى العَلَمَ الفردَ الذي في ظِلاَلِه ... غزالان مكحولانِ مؤتلِفانِ )
( أرَغْتُهما خَتْلاً فلم أستطعهما ... ورَمْياً ففاتاني وقد رَمَياني )
ولحنه فيه من الثقيل الأول ولإسحاق فيه رمل
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال أخبرني محمد بن منصور بن علية القرشي قال أخبرني جعفر بن عبيد الله بن جعفر الهاشمي عن إسحاق بن سليمان بن علي قال

لقيت أعرابيا بالسمية فصيحا فاستخففته وتأملته فإذا هو مصفر شاحب ناحل الجسم فاستنشدته فأنشدني الشيء بعد الشيء على استكراه مني له فقلت له ما بالك فوالله إنك لفصيح فقال أما ترى الجبلين قلت بلى قال في ظلالهما والله ما يمنعني من إنشادك ويشغلني ويذهلني عن الناس قلت وما ذاك قال بنت عم لي قد تيمتني وذهبت بعقلي والله إنه لتأتي علي ساعات ما أدري أفي السماء أنا أم في الأرض ولا أزال ثابت العقل ما لم يخامر ذكرها قلبي فإذا خامره بطلت حواسي وعزب عني لبي قلت فما يمنعك منها أقلة ما في يدك قال والله ما يمنعني منها غير ذلك قلت وكم مهرها قال مائة ناقة قلت فأنا أدفعها إليك إذا لتدفعها إليهم قال والله لئن فعلت ذلك إنك لأعظم الناس علي منة فوعدته بذلك واستنشدته ما قال فيها فأنشدني أشياء كثيرة منها قوله
( سقى العَلَمَ الفردَ الذي في ظلاله ... غَزَالانِ مكحولانِ مؤتلفانِ )
البيتان فقلت له يا أعرابي والله لقد قتلتني بقولك ففاتاني وقد قتلاني وأنا برئ من العباس إن لم أقم بأمرك ثم دعوت بمركوب فركبته وحملت معي الأعرابي فصرنا إلى أبي الجارية في جماعة من أهلي وموالي حتى زوجته إياها وضمنت عنه الصداق واشتريت له مائة ناقة فسقتها عنه وأقمت عندهم ثلاثا ونحرت لهم ثلاثين جزورا ووهبت للأعرابي عشرة آلاف درهم وللجارية مثلها وقلت استعينا بهذا على اتصالكما وانصرفت فكان الأعرابي يطرقنا في كل سنة وامرأته معه فأهب له وأصله وينصرف

غناؤه في شعر حسان
ومن أغانيه أخبرني به ذكاء وجه الرزة عن أحمد بن أبي العلاء عن مخارق وأنه أخذه عنه

صوت
( إنّ التي عاطيتَها فرَدَدْتُها ... قُتِلتْ قُتِلْتَ فهاتِها لم تُقْتَلِ )
( كلتاهما حَلَبُ العَصير فعاطِني ... بزجاجةٍ أرخاهما للمَفْصِل )
يروى كلتاهما جلب العصير وحلب العصير ويروى للمفصل وللمفصل والمفصل الواحد من المفاصل والمفصل هو اللسان ذكر ذلك علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي
الشعر لحسان بن ثابت والغناء للواثق خفيف رمل بالبنصر وفيه لإبراهيم الموصلي رمل مطلق في مجرى الوسطى وهذه الأبيات من قصيدة حسان المشهورة التي يمدح بها بني جفنة وأولها
( أسألتَ رسمَ الدار أم لم تسألِ ... )
وهي من فاخر المديح منها قوله
( أولادُ جَفْنةَ عند قبر أبيهمُ ... قبرِ ابن ماريَةَ الكريمِ المُفْضِلِ )
( يَسْقُون مَنْ ورَد البَرِيصَ عليهمُ ... بَرَدَى يُصفَّق بالرَّحيق السَّلْسَلِ )
( بِيضُ الوجوهِ كريمةٌ أنسابُهم ... شُمُّ الأنوفِ من الطَّرازِ الأوّلِ )
( يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كِلابُهم ... لا يَسألون عن السَّواد المُقْبِلِ )
نسخت من كتاب الشاهيني حدثني ابن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن عبد الملك بن أبي السمال السعدي قال حدثني أبو ظبيان الحماني قال اجتمعت جماعة من الحي على شراب لهم فتغنى رجل منهم بشعر حسان

( إنّ التي عاطيتَني فرددتُها ... قُتِلَتْ قُتِلْتَ فهاتها لم تُقتَلِ )
( كلتاهما حَلَبُ العَصير فعاطِني ... بزجاجةٍ أرخاهما للمَفْصِل )
فقال رجل من القوم ما معنى قوله إن التي عاطيتني فجعلها واحدة ثم قال كلتاهما حلب العصير فجعلهما ثنتين فلم يعلم أحد منا الجواب فقال رجل من القوم امرأته طالق ثلاثا إن بات أو يسأل القاضي عبيد الله بن الحسن عن تفسير هذا الشعر قال أبو ظبيان فحدثني بعض أصحابنا السعديين قال فأتيناه نتخطى إليه الأحياء حتى أتيناه وهو في مسجده يصلي بين العشاءين فلما سمع حسنا أوجز في صلاته ثم أقبل علينا وقال ما حاجتكم فبدأ رجل منا كان أحسننا بقية فقال نحن أعز الله القاضي قوم نزعنا إليك من طرف البصرة في حاجة مهمة فيها بعض الشيء فإن أذنت لنا قلنا قال قولوا فذكر يمين الرجل والشعر فقال أما قوله إن التي ناولتني هي الخمرة وقوله قتلت يعني مزجت بالماء وقوله كلتاهما حلب العصير يعني به الخمر ومزاجها فالخمر عصير العنب والماء عصير السحاب قال الله عز و جل ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) انصرفوا إذا شئتم
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال غنى مخارق يوما بحضرة الواثق
( حتى إذا الليلُ خَبا ضوءهُ ... وغابتِ الجَوْزاءُ والمِرْزَمُ )

( خرجتُ والوطءُ خَفِيٌّ كما ... ينسابُ من مَكْمَنه الأرقمُ )
فاستملح الواثق الشعر واللحن فصنع في نحوه
( قالت إذا الليلُ دَجَا فأْتِنا ... فجئتُها حين دجا الليلُ )
( خَفِيَّ وطءِ الرِّجلِ من حارسٍ ... ولو درَى حلَّ بيَ الويل )
ولحنه فيه من الرمل وصنع فيه الناس ألحانا بعده منها لعريب خفيف رمل ومنها ثقيل أول لا أعلم لمن هو وسمعت ذكاء ومحمد بن إبراهيم قريضا يغنيانه وذكرا أنهما أخذاه عن أحمد بن أبي العلاء ولا أدري لمن هو
حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال سرت إلى سر من رأى بعد قدومي من الحج فدخلت إلى الواثق فقال بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم فقلت يا أمير المؤمنين جلس إلي فتى من الأعراب في بعض المنازل فحادثني فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وأدبا فاستنشدته فأنشدني
( سقَى العَلَمَ الفَرْدَ الذي في ظِلاله ... غزالان مكحولان مؤتلِفان )
( إذا أمِنَا التفّا بجِيدَيْ تَواصُلٍ ... وطَرْفاهما للرَّيْب مُسترِقان )
( أرغْتُهما خَتْلاً فلم أستطعهما ... ورمياً ففاتاني وقد قتلاني )
ثم تنفس تنفسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه فقلت مالك بأبي أنت

فقال إن لي وراء هذين الجبلين شجنا وقد حيل بيني وبين المرور به ونذروا دمي وأنا أتمتع بالنظر إلى الجبلين تعللا بهما إذا قدم الحاج ثم يحال بيني وبين ذلك فقلت له زدني مما قلت في ذلك فأنشدني
( إذا ما وردتَ الماءَ في بعض أهله ... حَضُورُ فعرِّض بي كأنّك مازحُ )
( فإنْ سألتْ عنّي حَضُورُ فقُلْ لها ... به غُبَّرٌ من دائه وهو صالح )
فأمرني الواثق فكتبت له الشعرين فلما كان بعد أيام دعاني فقال قد صنع بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحنا فاسمعه فإن ارتضيته أظهرناه وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحته فغني لنا من وراء الستار فكان في نهاية الجودة وكذلك كان يفعل إذا صنع شيئا فقلت له أحسن والله صانعه يا أمير المؤمنين ما شاء فقال بحياتي فقلت وحياتك وحلفت له بما وثق به وأمر لي برطل فشربته ثم أخذ العود فغناه ثلاث مرات وسقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم فلما كان بعد أيام دعاني فقال قد صنع أيضا عندنا في الشعر الآخر وأمر فغني به فكانت حالي فيه مثل الحال في الأول فلما استحسنته وحلفت له على جودته ثلاث مرات سقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم ثم قال لي هل قضيت حق هديتك فقلت نعم يا أمير المؤمنين فأطال الله بقاءك وتمم نعمتك ولا أفقدنيها منك وبك ثم قال لكنك لم تقض حق جليسك الأعرابي ولا سألتني معونته على أمره وقد سبقت مسألتك وكتبت بخبره إلى صاحب الحجاز وأمرته بإحضاره وخطبت المرأة له وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالي فقبلت يده وقلت السبق إلى المكارم لك وأنت أولى بها من عبدك ومن سائر الناس

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني
منها الصوتان اللذان في الأخبار المتقدمة

شوت
( حتى إذا الليلُ خَبَا ضوءهُ ... وغابتِ الجَوْزاءُ والمِرْزَمُ )
( أقبلتُ والوطءُ خَفِيٌّ كما ... ينساب من مَكْمَنة الأرقَمُ )
ذكر يحيى المكي أن اللحن لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر وذكر الهشامي أنه منحول
طرب شيخ فرمى بنفسه في الفرات
فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وإسماعيل بن يونس وغيرهما قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن ابن كناسة قال
اصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات ومعهم مغنية فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ معنا جارية لبعضنا وهي مغنية فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك فإن أذنت لنا فعلنا قال أنا أصعد إلى طلل السفينة فاصنعوا أنتم ما شئتم فصعد وأخذت الجارية عودها فغنت
( حتى إذا الصبحُ بدا ضوءهُ ... وغابت الجَوْزاءُ والمِرْزَمُ )
( أقبلتُ والوطءُ خفيٌّ كما ... ينساب من مَكْمَنه الأرقم )
فطرب الشيخ وصاح ثم رمى بنفسه بثيابه في الفرات وجعل يغوص في الفرات ويطفو ويقول أنا الأرقم أنا الأرقم فألقوا أنفسهم خلفه فبعد لأي ما استخرجوه وقالوا له يا شيخ ما حملك على ما صنعت فقال إليكم عني فإني والله أعرف من معاني الشعر ما لا تعرفون وقال إسماعيل في خبره فقلت له ما أصابك فقال دب شيء من قدمي إلى رأسي كدبيب النمل ونزل في رأسي مثله فلما وردا على قلبي لم أعقل ما عملت
وأما ما في الخبر من الصنعة في قالت إذا الليل دجا فإن لحن الواثق

هو المشهور وما وجدت في كتب الأغاني غيره بل سمعت محمد بن إبراهيم المعروف بقريض وذكاء وجه الرزة يغنيان فيه لحنا من الثقيل الأول المذموم فسألتهما عن صانعه فلم يعرفاه وذكرا جميعا أنهما أخذاه عن أحمد بن أبي العلاء

الواثق أعلم الخلفاء بالغناء
وأخبرني الصولي عن أحمد بن محمد بن إسحاق عن حماد بن إسحاق قال كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء وبلغت صنعته مائة صوت وكان أحذق من غنى بضرب العود قال ثم ذكرها فعد منها
( يفرَح الناسُ بالسَّماع وأبكى ... أنا حُزْناً إذا سمعتُ السَّماعا )
( ولها في الفؤاد صَدْعٌ مُقيمٌ ... مثُل صَدْع الزُّجاج أَعْيا الصَّنَاعا )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للواثق خفي ثقيل وفيه لأبي دلف خفيف رمل
ومنها
( ألاَ أيُّها النفسُ التي كادها الهوى ... أفآنتِ إذا رمتُ السُلُوَّ غَريمي )

( أَفِيقي فقد أفنيتِ صبري أو اصبري ... لِما قد لقَيتيه عليَّ ودُومي )
الشعر والغناء للواثق خفيف رمل
ومنها
( سَقَى العَلَمَ الفردَ الذي في ظلاله ... غزالانِ مكحولان مؤتلِفان )
( أرغتُهما خَتْلاً فلم أستطعْهما ... ورمياً ففاتاني وقد قتلاني )
الغناء للواثق ثقيل أول وفيه لإسحاق رمل وهو من غريب صنعته يقال إنه صنعه بالرقة
ومنها
( كلَّ يومٍ قَطيعةٌ وعِتابُ ... ينقضي دهرُنا ونحن غِضابُ )
( ليت شعري أنَا خُصِصْتُ بهذا ... دون ذا الخلقِ أم كذا الأحبابُ )
( فاصبِر النفسَ لا تكونَنْ جَزُوعاً ... إنما الحبّ حَسْرةٌ وعذاب )
فيه للواثق رمل ولزرزور ثقيل أول ولعريب هزج
ومنها
( ولم أر لَيْلَى بعد موقف ساعةٍ ... بخَيْفِ مِنىً ترمي جِمارَ المحصَّب )
( ويُبْدِي الحَصَى منها إذا قذَفتْ به ... من البُرْد أطرافَ البَنان المُخَضَّب )
( فأصبحتُ من ليلَى الغَدَاةَ كناظرٍ ... مع الصبح في أَعْقاب نجم مغرِّب )
( ألاَ إنما غادرِتِ يا أمَّ مالكٍ ... صَدىً أينما تذهبْ به الريحُ يَذْهب )
الصنعة في هذا الشعر ثقيل أول وهو لحن الواثق فيما أرى ونسبه

حبش وهو قليل التحصيل إلى ابن محرز في موضع وإلى سليم في موضع آخر وإلى معبد في موضع ثالث
ومنها
( أمستْ وُشَاتُكِ قد دَبَّتْ عقاربُها ... وقد رَمَوْكِ بعين الغِشّ وابتَدروا )
( تُرِيكِ أعيُنهم ما في صدورهم ... إنّ الصدور يؤدِّي غيبَها النظر )
الشعر للمجنون والغناء للواثق ثاني ثقيل وفيه لمتيم ثقيل أول وقد نسب لحن كل واحد منهما إلى الآخر
ومنها
( عجبتُ لِسَعْي الدهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكَن الدهرُ )
( فيا هجَرَ لَيْلَى قد بلغتَ بي المَدَى ... وزدتَ على ما لم يكن بلَغ الهجر )
الغناء للواثق رمل وفيه لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى ولابن سريج ثقيل أول بالبنصر ولعريب ثقيل أول آخر
ومنها
( كأنّ شخصي وشخصه حَكَيا ... نظامَ نِسْرِينَتَيْنِ في غُصُنِ )
( فليت لَيْلىِ وليلَه أبداً ... دام ودُمْنا به فلم نَبِن )
الشعر أظنه لعلي بن هشام أو لمراد ولحن الواثق فيه ثقيل أول وفيه لعريب ثقيل أول آخر وفيه لأبي عيسى بن الرشيد ولمتيم لحنان لم يقع إلي جنسهما
ومنها
( اهابُكِ إجلالاً وما بِكِ قدرةٌ ... عليّ ولكن ملءُ عينٍ حَبيبُها )

( وما فارقتْكِ النفسُ يا ليلُ أنها ... قَلَتْكِ ولكن قَلَّ منكِ نصيبُها )
لحن الواثق فيه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وفيه لغيره لحن
ومنها
( في فمي ماءٌ وهل يَنطِق ... مَنْ في فيه ماءُ )
( أنا مملوكٌ لمملوكٍ ... عليه الرُّقَباءُ )
( كنت حُرًّا هاشميًّا ... فاسترقَّتْني الإِماءُ )
( وسباني مَنْ له كان ... على الكُرْه السِّباءُ )
( أَحْمَد اللهَ على ما ... ساقه نَحْوِي القضاءُ )
( ما بعينيَّ دموعٌ ... أنفد الدمعَ البكاء )
الغناء للواثق رمل
ومنها
( أيُّ عَوْنٍ على الهموم ثلاثُ ... مُتْرَعاتٌ من بعدهنَّ ثلاثُ )
( بعدها أربعٌ تَتِمةُ عَشْرٍ ... لا بطاءٌ لكنهنَّ حِثَاثُ )
فيه رمل ينسب إلى الواثق وإلى متيم
ومنها
( أيا عَبْرة العينين قد ظَمِئ الحدُّ ... فما لكما من أن تُلِمَّا به بُدُّ )
( ويا مُقْلةً قد صار يُبْغضها الكَرَى ... كأن لم يكن من قبلُ بينهما وُدّ )
( لئن كان طولُ العهد أحدث سَلْوةً ... فموعدُ بينِ العينِ والعَبْرة الوُجْد )
( وما أنا إلاّ كالذين تُخُرِّموا ... على أنّ قلبي من قلوبهمُ فَرْد )
الشعر والغناء للواثق رمل وفيه لأبي حشيشة هزج ذكر ذلك الهشامي

الملقب بالمسك وأخبرني جحظة أنه للمسدود وأخبرني جحظة أن من صنعة أبي حشيشة في شعر الواثق خفيف رمل وهو
( سألتُه حُوَيْجةً فأعرضا ... وعَلقِ القلبُ به وَمَرِضَا )
( فاستَلَّ منّي سيفَ عزمٍ مُنْتضى ... فكان ما كان وكابرْنا القَضَا )
قال وفي هذا الشعر أيضا بعينه للواثق رمل ولقلم الصالحية فيه هزج وقد غلط جحظة في هذا الشعر وهو لسعيد بن حميد مشهور وله فيه خبر قد ذكرناه في موضعه
أخبرني عمي عن علي بن محمد بن نصر عن جده ابن حمدون عن أبيه حمدون بن إسماعيل قال كان الواثق يحب خادما له كان أهدي إليه من مصر فغاضبه يوما وهجره فسمع الخادم يحدث صاحبا له بحديث أغضبه عليه إلى أن قال له والله إنه ليجهد منذ أمس على أن أصالحه فما أفعل فقال الواثق في ذلك
( يا ذا الذي بعذابي ظلَّ مفتخرَا ... هل أنت إلاّ مليكٌ جار إذ قَدَرَا )
( لولا الهوى لتجازَيْنا على قَدَرٍ ... وإن أَفِقْ مَرّةً منه فسوف تَرَى )
قال وغنى الواثق وعلويه فيه لحنين ذكر الهشامي أن لحن الواثق خفيف ثقيل وفي أغاني علويه لحنه في هذا الشعر خفيف رمل

حدثني الصولي قال حدثني ابن أبي العيناء عن أبيه عن إبراهيم بن الحسن ابن سهل قال كنا وقوفا على رأس الواثق في أول مجالسه التي جلسها لما ولي الخلافة فقال من ينشدنا شعرا قصيرا مليحا فحرصت على أن أعمل شيئا فلم يجئني فأنشدته لعلي بن الجهم
( لو تنصَّلتَ إلينا ... لَوَهَبْنا لكَ ذَنْبَكْ )
( ليتني أملِك قلبي ... مثلَما تملِك قلبَكْ )
( أيُّها الواثق بالله ... لقد ناصحتَ رَبَّكْ )
( سيِّدي ما أبغض العيشَ ... إذا فارقتُ قُربَكْ )
( أصبحتْ حُجَّتُك العُلْيا ... وحِزْبُ الله حِزْبَكْ )
فاستحسنها وقال لمن هذه فقلت لعبدك علي بن الجهم فقال خذ ألف دينار لك وله وصنع فيها لحنا كنا نغني به بعد ذلك
أخبرني محمد بني يحيى بن أبي عباد قال حدثني أبي قال لما خرج المعتصم إلى عمورية استخلف الواثق بسر من رأى فكانت أموره كلها كأمور أبيه فوجه إلى الجلساء والمغنين أن يبكروا إليه يوما حدد لهم

ووجه إلى إسحاق فحضر الجميع فقال لهم الواثق إني عزمت على الصبوح ولست أجلس على سرير حتى أختلط بكم ونكون كالشيء الواحد فاجلسوا معي حلقة وليكن كل جليس إلى جانبه مغن فجلسوا كذلك فقال الواثق أنا أبدأ فأخذ عودا فغنى وشربوا وغنى من بعده حتى انتهى إلى إسحاق فأعطي العود فلم يأخذه فقال دعوه ثم غنوا دورا آخر فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغن وفعل هذا ثلاث مرات فوثب الواثق فجلس على سريره وأمر بالناس فأدخلوا فما قال لأحد منهم اجلس ثم قال علي بإسحاق فلما رآه قال يا خوزي يا كلب أتنزل لك وأغني وترتفع عني أترى لو أني قتلتك كان المعتصم يقيدني بك أبطحوه فبطح فضرب ثلاثين مقرعة ضربا خفيفا وحلف ألا يغني سائر يومه سواه فاعتذر وتكلمت الجماعة فيه فأخذ العود وما زال يغني حتى انقضى ذلك اليوم وعاد الواثق إلى مجلسه
وجدت في بعض الكتب عن ابن المعتز قال كان الواثق يهوى خادما له فقال فيه
( سأمنع قلبي من مودَّةِ غادر ... تعبَّدني خُبْثاً بمكرِ مُكاشِرِ )
( خطبتُ إليه الوصل خِطْبةَ راغبٍ ... فَلاَحَظَنِي زَهْواً بِطَرْفِ مُهَاجِر )
قال أبو العباس عبد الله بن المعتز وللواثق في هذا الشعر لحن من الثقيل الأول
أخبرني محمد بني يحيى قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال حدثني عبد أم غلام الواثق قال

دعا بنا الواثق مع صلاة الغداة وهو يستاك فقال خذوا هذا الصوت ونحن عشرون غلاما كلنا يغني ويضرب ثم ألقى علينا
( أشكو إلى الله ما ألقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بربيِّ فلا أشكو إلى أحدِ )
فما زال يردده حتى أخذنا عنه
نسبة هذا الصوت
( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بربيِّ فلا أشكو إلى أحد )
( أين الزمانُ الذي قد كنت ناعمةً ... مُهِلَّةً بدُنُوِّي منك يا سَنَدي )
( وأسألُ الله يوماً منكِ يُفْرِحُني ... فقد كَحَلْتِ جُفونَ العين بالسَّهَد )
( شوقاً إليكِ وما تَدْرِين ما لقيتْ ... نفسي عليكِ وما بالقلب من كَمَد )
الغناء للواثق ثقيل أول بالبنصر وفيه لعريب أيضا ثقيل أول بالوسطى
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال كان الواثق يعرض صنعته على إسحاق فيصلح الشيء بعد الشيء مما يخفى على الواثق فإذا صححه أخرجه إلينا وسمعناه
حدثنا جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق قال حدثني مخارق قال لما صنع الواثق لحنه في
( حَوْراءُ مَمْكورَةٌ مُنَعَّمةٌ ... كأنما شَفّ وجهَها نُزُفُ )

وصنع لحنه في سأذكر سربا طال ما كنت فيهم أمرني وعلويه وعريب أن نعارض صنعته فيهما ففعلنا واجتهدنا ثم غنيناه فضحك فقال أمنا معكم أن نجد من يبغض إلينا صنعتنا كما بغض إسحاق إلينا أيا منشر الموتى قال حماد هذا آخر لحن صنعه أبي يعني الذي عارض به لحن الواثق في أيا منشر الموتى
أخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخلت يوما إلى الواثق وهو مصطبح فقال لي غنني يا إسحاق بحياتي عليك صوتا غريبا لم أسمعه منك حتى أسر به بقية يومي فكأن الله أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت
( يا دارُ إن كان البِلَى قد مَحَاكْ ... فإنه يُعْجبني أن أراكْ )
( أَبْكِي الذي قد كان لي مَأْلَفاً ... فِيكِ فأتِي الدارَ من أجل ذاكْ )
والغناء في هذا اللحن للأبجر رمل بالوسطى عن ابن المكي وهو الصواب وذكر عمرو بن بانة أنه لسليم قال فتبينت الكراهية في وجهه وندمت على ما فرط مني وتجلد فشرب رطلا كان في يده وعدلت عن الصوت إلى غيره فكان والله ذلك اليوم آخر جلوسي معه
وممن حكي عنه أنه صنع في شعره وشعر غيره المنتصر فإني ذكرت ماروي عنه أنه غنى فيه على سوء العهدة في ذلك وضعف

الصنعة لئلا يشذ عن الكتاب شيء قد روي وقد تداوله الناس فمما ذكر عنه أنه غنى فيه

صوت
( سُقِيتُ كأساً كَشَفَتْ ... عن ناظريَّ الخُمُرَا )
( فنَشَّطَتْنِي ولقد ... كنتُ حزينا خاثِرا )
الشعر للمنتصر وهو شعر ضعيف ركيك إلا أنه يغني فيه
المنتصر متخلف في قول الشعر
وحدثني الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال كان طبع المنتصر متخلفا في قول الشعر وكان متقدما في كل شيء غيره فكان إذا قال شعرا صنع فيه وأمر المغنين بإظهاره وكان حسن العلم بالغناء فلما ولي الخلافة قطع ذلك وأمر بستر ما تقدم منه من ذلك صنعته في شعره وهو من الثقيل الأول المذموم
( سُقِيتُ كأساً كَشَفَتْ ... عن ناظريَّ الخُمُرَا )
قال ومن شعره الذي غنى فيه ولحنه ثاني ثقيل
صوت
( متى تَرْفَعُ الأيّامُ مَنْ قد وضعْنَه ... وينقادُ لي دهرٌ عليّ جَموحُ )
( أُعَلِّل نفسي بالرجاء وإنني ... لأغدو على ما ساءني وأروحُ )
قال وكان أبي يستجيد هذين البيتين ويستحسنهما ونذكر هاهنا شيئا من أخبار المنتصر في هذا المعنى دون غيره أسوة ما فعلنا في نظرائه

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني أبي قال أراد المنتصر أن يشرب في الزقاق فوافى الناس من كل وجه ليروه ويخدموه فوقف على شاطئ دجلة وأقبل على الناس فقال
( لَعَمْرِي لقد أَصْحرتْ خيلُنا ... بأكناف دِجْلَةَ لِلمَلْعَبِ )
والشعر بأكناف دجلة للمصعب ولكنه غيره لأنه تطير من ذكر المصعب
( فمَنْ يَكُ مِنّا يَبِتْ آمِناً ... وَمَنْ يَكُ من غيرنا يهرُبِ )
قال فعلم أنه يريد الخلوة بالندماء والمغنين فانصرفوا فلم يبق معه إلا من يصلح للأنس والخدمة
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال كان أبي أخص الناس بالمنتصر وكان يجالسه قبل مجالسته المتوكل فدخل المتوكل يوما على المنتصر على غفلة فسمع كلامه فاستحسنه فأخذه إليه وجعله في جلسائه وكان المنتصر يريد منه أن يلازمه كما كان فلم يقدر على ذلك لملازمته أباه فعتب عليه لتأخره عنه على ثقة بمودة وأنس به فلما أفضت إليه الخلافة استأذن عليه فحجبه وأمر بأن يعتقل في الدار فحبس أكثر يومه ثم أذن له فدخل وسلم وقبل الأرض بين يديه ثم قبل يده فأمره بالجلوس ثم التفت إلى بنان ابن عمرو وقال له غن وكان العود في يده
( غَدَرْتَ ولم أغدِر وخُنْتَ ولم أَخُنْ ... ورُمْتَ بَدِيلاً بي ولم أَتَبَدَّلِ )
قال والشعر للمنتصر فغناه بنان وعلم أبي أنه أراده بذلك فقام فقال والله ما اخترت خدمة غيرك ولا صرت إليها إلا بعد إذنك فقال صدقت إنما قلت هذا مازحا أتراني أتجاوز بك حكم الله عز و جل إذ يقول

( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ) ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده
( أَلاَ يا قَوْمِ قد بَرِح الخفاء ... وبان الصبرُ منَّي والعزاءُ )
( تَعَجَّبَ صاحبي لضياع مثلي ... وليس لداء محروم دواء )
( جفاني سَيّدٌ قد كان بَرًّا ... ولم أُذْنِبْ فما هذا الجفاء )
( حَلَلْتُ بداره وعلمتُ أنِّي ... بدار لا يَخيبُ بها الرجاء )
( فلمّا شاب رأسي في ذَرَاه ... حُجِبتُ بعُقْبِ ما بَعُد اللِّقاء )
( فإن تَنْأَى سُتورُ الإِذن عنّا ... فما نأتِ المحبّةُ والثناء )
( وإن يَكُ كادني ظلماً عَدُوٌّ ... فعند البحث يَنكشف الغِطاء )
( ألم تر أنّ بالآفاق منّا ... جَماجِمَ حَشْوُ أقْبُرِها الوفاء )
( وقد وَصَف الزمانَ لنا زِيادٌ ... وقال مقالةً فيها شفاء )
( ألاَ يا رُبَّ مغمومٍ سيَحْظَى ... بدولتنا ومسرورٍ يُساء )
( أمنتصِر الخَلائِف جُدْتَ فينا ... كما جادت على الأرض السماء )

( وَسِعْتَ الناسَ عدلاً فاستقاموا ... بأحكامٍ عليهنّ الضياء )
( وليس يفوتنا ما عِشْتَ خيرٌ ... كفانا أن يطول لك البقاء )
قال فقال له المنتصر والله إنك لمن ذوي ثقتي وموضع اختياري ولك عندي الزلفى فطب نفسا قال ووصلني بثلاثة آلاف دينار

من شعر حسين بن الضحاك في المنتصر
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال لما ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحاك فهنأه بالخلافة وأنشده
( تجدَّدتِ الدنيا بِمُلْكِ محمدِ ... فأَهْلاً وسَهْلاً بالزمان المجدَّدِ )
( هي الدولة الغَرّاءُ راحتْ وبَكّرتْ ... مُشَهرةً بالرُّشْد في كل مَشْهَد )
( لَعَمْرِي لقد شَدَّتْ عُرَا الدِّين بَيْعةٌ ... أعزَّ بها الرحمنُ كلَّ موحِّد )
( هَنَتْكَ أميرَ المؤمنين خلافةٌ ... جَمَعْتَ بها أهواءَ أُمّة أحمد )
قال فأظهر إكرامه والسرور به وقال له إن في بقائك بهاء للملك وقد ضعفت عن الحركة فكاتبني بحاجاتك ولا تحمل على نفسك بكثرة الحركة ووصله بثلاثة آلاف دينار ليقضي بها دينا بلغة أنه عليه
قال وقال الحسين بن الضحاك فيه وقد ركب الظهور وراء الناس وهو آخر شعر قاله
( أَلاَ ليتَ شعري أَبَدْرٌ بَدَا ... نهاراً أم المَلِكُ المنتصرْ )
( إمامٌ تَضَمَّنُ أثوابُه ... على سَرْجه قمراً من بشرْ )
( حَمى اللهُ دولةَ سلطانِه ... بجُنْدِ القضاء وجُنْد القَدَر )
( فلا زال ما بَقِيتْ مدّةٌ ... يروح بها الدهرُ أو يَبْتَكِرْ )
قال وغنى فيه بنان وعريب

حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال أول قصيدة أنشدها أبي في المنتصر بعد أن ولي الخلافة
( لَيَهْنِكَ مُلْكٌ بالسعادة طائرُهْ ... مَوَارِدُه محمودةٌ وَمَصَادِرُهْ )
( فأنت الذي كنّا نُرَجِّي فلم نَخِبْ ... كَما يُرتَجَى من واقع الغيث باكره )
( بمنتصرٍ بالله تَمّتْ أمورُنا ... وَمَنْ ينتصرْ بالله فاللهُ ناصره )
فأمر المنتصر عريب أن تغني نشيدا في أول الأبيات وتجعل البسيط في البيت الأخير فعملته وغنته به
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد قال صلى المنتصر بالناس في الأضحى سنة سبع وأربعين ومائتين فأنشده أبي لما انصرف
( ما استشرف الناسُ عيداً مثلَ عِيدِهم ... مع الإِمامِ الذي بالله ينتصرُ )
( غَدَا بِجَمْعٍ كجُنْحِ الليل يقدمُه ... وجهٌ أغرُّ كما يجلو الدُّجَى القمرُ )
( يَؤُمُّهم صادعٌ بالحق أَحْكَمه ... حزمٌ وعلمٌ بما يأتي وما يَذَرُ )
( لو خُيِّر الناسُ فاختاروا لأنفسهم ... أحظَّ منك لِما نالوه ما قدَروا )
قال فأمر له بألف دينار وتقدم إلى ابن المكي أن يغني في الأبيات
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني بنان بن عمرو المغني قال غنيت يوما بين يدي المنتصر
( هل تَطْمِسون من السماء نجوَمتها ... بأكُفِّكم أو تستُرون هِلالَها )
فقال لي إياك وأن تغني بحضرتي هذا الصوت وأشباهه فما أحب أن أغنى إلا في أشعار آل أبي حفصة خاصة
وممن هذه سبيله في صنعة الغناء المعتز بالله فإني لم أجد له منها شيئا إلا ما ذكره الصولي في أخباره فأتيت بما حكاه

للعلة التي قدمتها من أني كرهت أن يخل الكتاب بشيء قد دونه الناس وتعارفوه فمما ذكر أنه غنى فيه

صوت
( لَعَمْرِي لقد أَصْحرتْ خيلُنا ... بأكناف دجْلَةَ للمُصْعَبِ )
( فمَنْ يَكُ مِنّا يَبِتْ آمناً ... ومن يَكُ من غيرنا يَهرُبِ )
الشعر لعدي بن الرقاع والغناء للمعتز خفيف رمل وهذه الأبيات من قصيدة لعدي يقولها في الوقعة التي كانت بين عبد الملك بن مروان والمصعب ابن الزبير بطسوج مسكن فقتل فيها مصعب بقرية من مسكن يقال لها دير الجاثليق وذكرته الشعراء في هذه الأبيات
( لَعَمْرِي لقد أَصْحرتْ خيلُنا ... بأكناف دِجْلَةَ للمُصْعَبِ )

( يهزُّون كلَّ طويل القناةِ ... لَدْنٍ ومعتدلِ الثَّعْلَبِ )
( فِداؤك أُمِّي وأبناؤُها ... وإن شئتَ زدتُ عليها أبي )
( وما قلتُها رهبةً إنما ... يَحُلّ العقابُ على المذْنِب )
( إذا شئتُ نازلتُ مُسْتقتِلاً ... أُزاحِمُ كالجمل الأجربِ )
( فمن يَكُ منّا يَبِتْ آمِناً ... ومن يَكُ من غيرنا يهرُبِ )

أخبار عدي بن الرقاع ونسبه
هو عدي بن زيد بن مالك بن عدي بن الرقاع بن عصر بن عك بن شعل بن معاوية بن الحارث وهو عاملة بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد وأم معاوية بن الحارث عاملة بنت وديعة من قضاعة وبها سموا عاملة ونسبه الناس إلى الرقاع وهو جد جده لشهرته أخبرني بذلك أبو خليفة عن محمد بن سلام
طبقته بين الشعراء
وكان شاعرا مقدما عند بني أمية مداحا لهم خاصا بالوليد بن عبد الملك وله بنت شاعرة يقال لها سلمى ذكر ذلك ابن النطاح وجعله محمد بن سلام في الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام وكان منزله بدمشق وهو من حاضرة الشعراء لا من باديتهم وقد تعرض لجرير وناقضه في مجلس الوليد بن عبد الملك ثم لم تتم بينهما مهاجاة إلا أن جريرا قد هجاه تعريضا في قصيدته
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذات الموَاعِيسِ ... )

ولم يصرح لأن الوليد حلف إن هو هجاه أسرجه وألجمه وحمله على ظهره فلم يصرح بهجائه
أخبرني أبو خليفة إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو الغراف قال دخل جرير على الوليد بن عبد الملك وهو خليفة وعنده عدي بن الرقاع العاملي فقال الوليد لجرير أتعرف هذا قال لا يا أمير المؤمنين فقال الوليد هذا عدي بن الرقاع فقال جرير فشر الثياب الرقاع قال ممن هو قال العاملي فقال جرير هي التي يقول فيها الله عز و جل ( عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) ثم قال
( يُقَصِّر باعُ العامليِّ عن النَّدَى ... ولكنَّ أَيْرَ العماملِّي طويلُ )
فقال له عدي بن الرقاع
( أَأُمُّكَ كانت أخبرتْك بطُوله ... أَمَ أنت امرؤٌ لم تَدْرِ كيف تقول )
فقال لا بل أدري كيف أقول فوثب العاملي إلى رجل الوليد فقبلها وقال أجرني منه فقال الوليد لجرير لئن شتمته لأسرجنك ولألجمنك حتى يركبك فيعيرك الشعراء بذلك فكنى جرير عن اسمه فقال
( إني إذا الشاعر المغرورُ حرّبني ... جارٌ لقبرٍ على مَرَّانَ مَرْمُوس )
( قد كان أشْوَسَ آباءٍ فورَّثنا ... شَغْباً على الناس في أبنائه الشَّوس )

( أَقْصِرْ فإنّ نِزاراً لن يفاضلَها ... فرعٌ لئيمٌ وأصلٌ غيرُ مغروس )
( وابن اللَّبُون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَستطِعْ صَوْلةَ البُزْلِ القَنَاعِيس )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة
دخل جرير على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي فقال له الوليد أتعرف هذا قال لا فمن هو قال هذا ابن الرقاع قال فشر الثياب الرقاع فممن هو قال من عاملة قال أمن التي قال الله تعالى فيها ( عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) فقال الوليد والله ليركبنك لشاعرنا ومادحنا والراثي لأمواتنا تقول هذه المقالة يا غلام علي بإكاف ولجام فقام إليه عمر بن الوليد فسأله أن يعفيه فأعفاه فقال والله لئن هجوته لأفعلن ولأفعلن فلم يصرح بهجائه وعرض فقال قصيدته التي أوليها
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذاتِ الموَاعِيسِ ... )
وقال فيها يعرض به
( قد جَرَّبَتْ عَرْكَتِي في كلِّ مُعْتَرَكٍ ... غُلْبُ الأُسودِ فما بالُ الضَّغَابِيسِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال ذكر كثير وعدي بن الرقاع العاملي في مجلس بعض خلفاء بني أمية فامتروا فيهما أيهما أشعر وفي المجلس جرير فقال جرير لقد قال كثير بيتا هو أشهر وأعرف في الناس من عدي بن الرقاع نفسه ثم أنشد قول كثير

( أأن زُمَّ أجمالٌ وفارق جِيرةٌ ... وصاح غرابُ البين أنت حزينُ )
قال فحلف الخليفة لئن كان عدي بن الرقاع أعرف في الناس من بيت كثير ليسرجن جريرا وليلجمنه وليركبن عدي بن الرقاع على ظهره فكتب إلى واليه بالمدينة إذا فرغت من خطبتك فسل الناس من الذي يقول
( أأن زُمَّ أجمالٌ وفارق جِيرةٌ ... وصاح غرابُ البين أنت حزينُ )
وعن نسب ابن الرقاع فلما فرغ الوالي من خطبته قال إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أسألكم من الذي يقول
( أأن زُمَّ أجمالٌ وفارق جِيرةٌ ... )
قال فابتدروا من كل وجه يقولون كثير كثير ثم قال وأمرني أن أسأل عن نسب ابن الرقاع فقالوا لا ندري حتى قام أعرابي من مؤخر المسجد فقال هو من عاملة
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال قال لي محمد بن المنجم ما أحد ذكر لي فأحببت أن أراه فإذا رأيته أمرت بصفعه إلا عدي بن الرقاع قلت ولم ذلك قال لقوله
( وعلمتُ حتى ما أُسائل عالماً ... عن علم واحدةٍ لكي أزدَادَها )
فكنت أعرض عليه أصناف العلوم فكلما مر به شيء لا يحسنه أمرت بصفعه
حدثني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال

كان عدي بن الرقاع ينزل بالشام وكانت له بنت تقول الشعر فأتاه ناس من الشعراء ليماتنوه وكان غائبا فسمعت بنته وهي صغيرة لم تبلغ دور وعيدهم فخرجت إليهم وأنشأت تقول
( تجمّعتُمُ من كل أوْبٍ وبَلْدةٍ ... على واحدٍ لا زلتُم قِرْنَ واحِدِ )
فأفحمتهم

عدي بن الرقاع شاعر المطية
وقال عبد الله بن مسلم وما ينفرد به ويقدم فيه وصف المطية فإنه كان من أوصف الشعراء لها
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال كنت عند أبي عمرو أعرض أو يعرض عليه رجل بحضرتي من شعر عدي ابن الرقاع وقرأت أو قرأ هذه الأبيات
( لولا الحياءُ وأنّ رأسيَ قد عَسَا ... فيه المشِيبُ لزُرْتُ أمَّ القاسمِ )
( وكأنها وَسْطَ النساء أعارَها ... عينيه أَحْورُ من جآذِرِ جاسِم )
( وَسْنانُ أَقْصدَه النُّعاسُ فَرَنَّقتْ ... في عِينه سِنَةٌ وليس بنائم )
فقال أبو عمرو أحسن والله فقال رجل كان يحضر مجلسه أعرابي كأنه مدني أما والله لو رأيته مشبوحا بين أربعة وقضبان الدفلى تأخذه لكنت أشد له استحسانا يعني إذا كان يغنى به على العود
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن علي بن المغيرة قال

كان أبو عبيدة يستحسن بيت عدي بن الرقاع
( وَسْنانُ أَقْصدَه النُّعاسُ فَرَنَّقتْ ... في عِينه سِنَةٌ وليس بنائم )
جدا ويقول ما قال أحد في مثل هذا المعنى أحسن منه في هذا الشعر وفي هذا الشعر غناء نسبته

صوت
( لولا الحياءُ وأنّ رأسيَ قد عَسَا ... فيه المشِيبُ لزُرْتُ أمَّ القاسِم )
( وكأنّها وَسْطَ النساء أعارَها ... عينيه أَحْورُ من جآذِرِ جاسِم )
( وَسْنانُ أَقْصدَه النُّعاسُ فَرَنَّقتْ ... في عِينه سِنَةٌ وليس بنائم )
( أَلْمِمْ على طَلَلٍ عَفَا مُتَقادِمِ ... بين الذُّؤَيْبِ وبين غَيْب النَّاعِم )
عروضه من الكامل الجآذر جمع جؤذر وهي أولاد البقر الوحشية وجاسم موضع ويروى في هذا الشعر عاسم مكان جاسم والوسنان النائم والوسن النوم الواحدة منه سنة والترنيق الدنو من الشيء يريد أن يفعله يقال رنقت العقاب لصيدها إذا دنت منه وترنيقها أيضا أن تقصر عن الخفقان بجناحيها ويقال طير مرنقة إذا جاءت تطير ثم أرادت الوقوع ومدت أجنحتها فلم تخفق وترجحت ويقال للقوم إذا قصروا في سيرهم وللسابح إذا قصر في الخفق بيديه ورجليه قد رنقوا ترنيقا الشعر لعدي بن الرقاع والغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه ثقيل أول بالبنصر ينسب إليه أيضا وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى بن المكي إليه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو قال

كنت عند أبي ورجل يقرأ عليه شعر عدي بن الرقاع فلما قرأ عليه القصيدة التي يقول فيها
( لولا الحياءُ وأنّ رأسيَ قد عَسَا ... فيه المشيبُ لزرتُ أمَّ القاسم )
قال أبي أحسن والله عدي بن الرقاع قال وعنده شيخ مدني جالس فقال الشيخ والله لئن كان عدي أحسن لما أساء أبو عباد قال أبي ومن هو أبو عباد قال معبد والله لو سمعت لحنه في هذا الشعر لكان طربك أشد واستحسانك له أكثر فجعل أبي يضحك
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن جرير عن محمد بن سلام قال عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الرحمن عن الأردن وضربه وحلقه وأقامه للناس وقال للمتوكلين به من أتاه متوجعا وأثنى عليه فأتوني به فأتى عدي بن الرقاع وكان عبيدة إليه محسنا فوقف عليه وأنشأ يقول
( فما عزَلوك مسبوقاً ولكن ... إلى الخيرات سَبَّاقاً جَوَادَا )
( وكنتَ أخي وما ولدتْك أُمِّي ... وَصْولاً باذلاً لي مسترادا )
( وقد هِيضتْ لِنَكْبتك القُدَامَى ... كذاك الله يفعل ما أراد )
فوثب المتوكلون به إليه فأدخلوه إلى الوليد وأخبروه بما جرى فتغيظ عليه الوليد وقال له أتمدح رجلا قد فعلت به ما فعلت فقال يا أمير المؤمنين إنه كان إلي محسنا ولي مؤثرا وبي برا ففي أي وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم فقال صدقت وكرمت فقد عفوت عنك وعنه لك فخذه وانصرف فانصرف به إلى منزله

رأي جرير فيه
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال قال نوح بن جرير لأبيه يا أبت من أنسب الشعراء قال له أتعني ما

قلت قال إني لست أريد من شعرك إنما أريد من شعر غيرك قال ابن الرقاع في قوله
( لولا الحياء وأنّ رأسيَ قد عَسَا ... فيه المَشِيب لزُرْتُ أُمَّ القاسم )
الثلاثة الأبيات ثم قال لي ما كان يبالي أن لم يقل بعدها شيئا
أخبرني الحسن بن علي عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال جرير سمعت عدي بن الرقاع ينشد
( تُزْجِي أَغَنَّ كأنّ إبرةَ رَوْقِه ... )
فرحمته من هذا التشبيه فقلت بأي شيء يشبهه ترى فلما قال
( قلمٌ أصاب من الدَّواةِ مِدادَها ... )
رحمت نفسي منه
أخبرني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن أبي عبيدة قال مال روح بن زنباع الجذامي إلى يزيد بن معاوية لما فصل بين الخطبتين فقال يا أمير المؤمنين ألحقنا بإخوتنا من معد فإنا معديون والله ما نحن من قصب الشأم و من زعاف اليمن فقال يزيد إن أجمع قومك على ذلك جعلناك حيث شئت فبلغ ذلك عدي بن الرقاع فقال
( إنَّا رَضِينا وإن غابت جماعتُنا ... ما قال سيِّدُنا رَوْح بن زِنْباع )
( يرعَى ثمانين ألفاً كان مثلُهُمُ ... مّما يُخالفِ أحياناً على الرّاعي )
قال فبلغ ناتل بن قيس الجذامي فجاء يركض فرسه حتى دخل

المقصورة في الجمعة الثانية فلما قام يزيد على المنبر وثب فقال أين الغادر الكاذب روح بن زنباع فأشاروا إلى مجلسه فأقبل عليه وعلى يزيد ثم قال يا أمير المؤمنين قد بلغني ما قال لك هذا وما نعرف شيئا منه ولا نقر به ولكنا قوم من قحطان يسعنا ما يسعهم ويعجز عنا ما يعجز عنهم فأمسك روح ورجع عن رأيه فقال عدي بن الرقاع في ذلك
( أضلالُ ليلٍ ساقطٍ أكنافُه ... في الناس أعْذَرُ أم ضلالُ نهارِ )
( قَحْطانُ والدُنا الذي نُدْعَى له ... وأبو خُزَيْمةَ خِنْدِفُ بن نِزار )
( أنبيع والدَنا الذي نُدْعَى له ... بأبي مَعَاشِرَ غائبٍ مُتوارِي )
( تلك التجارةُ لا زَكَاءَ لمثلها ... ذهبٌ يباع بآنُكٍ وإبار )
فقال له يزيد غيرت يابن الرقاع قال إن ناتلا والله علي أعزهما سخطا وأنصحهما لي ولعشيرتي قال أبو عبيدة الإبار جمع إبرة

عدي بن الرقاع وابن سريج في حضرة الوليد
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم أن الأحوص وابن سريج قدما المدينة فنزلا في بعض الخانات ليصلحا من شأنهما وقد قدم عدي بن الرقاع وكانت هذه حاله فنزل عليهما فلماكان في بعض الليل أفاضوا في الأحاديث فقال عدي بن الرقاع لابن سريج والله لخروجنا كان إلى أمير المؤمنين أجدى علينا من المقام معك يا مولى بن نوفل قال وكيف ذلك قال لأنك توشك أن تلهينا فتشغلنا عما قصدنا له فقال له ابن سريج أو قلة شكر أيضا فغضب عدي وقال إنك لتمن علينا أن نزلنا

عليك وإني أعاهد الله ألا يظلني وإياك سقف إلا أن يكون بحضرة أمير المؤمنين وخرج من عندهما وقدم الوليد من باديته فأذن لهما فدخلا وبلغه خبر ابن الرقاع وماجرى بينه وبين ابن سريج فأمر بابن سريج فأخفي في بيت ودعا بعدي فأدخله فأنشده قصيدة امتدحه بها فلما فرغ أومأ إلى بعض الخدم فأمر ابن سريج فغنى في شعر عدي بن الرقاع يمدح الوليد
( عَرَف الديارَ تَوَهُّماً فاعتادها ... من بعدِ ما شَمِل البِلَى أبلادَها )
فطرب عدي وقال لا والله ما سمعت يا أمير المؤمنين بمثل هذا قط ولا ظننت أن يكون مثله طيبا وحسنا ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت طائف من الجن أيأذن لي أمير المؤمنين أن أقول قال قل قال مثل هذا عند أمير المؤمنين وهو يبعث إلى ابن سريج يتخطى به قبائل العرب فيقال ابن سريج المغني مولى بني نوفل بعث أمير المؤمنين إليه فضحك ثم قال للخادم أخرجه فخرج فلما رآه عدي أطرق خجلا ثم قال المعذرة إلى الله وإليك يا أخي فما ظننت أنك بهذه المنزلة وإنك لحقيق أن تحتمل على كل هفوة وخطيئة فأمر لهم الوليد بمال سوى بينهم فيه ونادمهم يومئذ إلى الليل
نسبة هذا الصوت المذكور في هذا الخبر وسائر ما مضى في أخبار عدي قبله من الأشعار التي فيها غناء

صوت
( عَرَف الديارَ تَوَهُّماً فاعتادها ... من بعدِ ما شَمِل البِلَى أبلادَها )
( إلاّ رَوَاكِدَ كلُّهن قد اصطَلى ... حمراءَ أَشْعل أهلُها إيقادَها )
عروضه من الكامل الشعر لعدي بن الرقاع والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال أنشد عدي بن الرقاع الوليد بن عبد الملك قصيدته التي أولها
( عرَف الديارَ تَوَهُّماً فاعتادها ... )
وعنده كثير وقد كان يبلغه عن عدي أنه يطعن على شعره ويقول هذا شعر حجازي مقرور إذا أصابه قر الشأم جمد وهلك فأنشده إياها حتى أتى على قوله
( وقصيدةٍ قد بِتُّ أجمع بينها ... حتى أقوِّمَ مَيْلَها وسِنَادَها )
فقال له كثير لو كنت مطبوعا أو فصيحا أو عالما لم تأت فيها بميل ولا سناد فتحتاج إلى أن تقومها ثم أنشد
( نَظَرَ المثقِّف في كُعوب قَنَاته ... حتى يُقِيمَ ثِقافُهُ مُنْآدَها )
فقال له كثير لا جرم أن الأيام إذا تطاولت عليها عادت عوجاء ولأن تكون مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف أجود لها ثم أنشد
( وعلمتُ حتى ما أُسائل واحداً ... عن علم واحدةٍ لكي أزدادَها )
فقال كثير كذبت ورب البيت الحرام فليمتحنك أمير المؤمنين بأن يسألك عن صغار الأمور دون كبارها حتى يتبين جهلك وما كنت قط أحمق منك الآن حيث تظن هذا بنفسك فضحك الوليد ومن حضر وقطع بعدي بن الرقاع حتى ما نطق

أخبار المعتز في الأغاني ومع المغنين وما جرى هذا المجرى
حدثني محمد بني يحيى الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني جدي حمدون بن إسماعيل قال اصطبح المعتز في يوم ثلاثاء ونحن بين يديه ثم وثب فدخل واعترضته جارية كان يحبها ولم يكن ذلك اليوم من أيامها فقبلها وخرج فحدثني بما كان وأنشدني لنفسه في ذلك
صوت
( إني قَمَرْتُكَ يا سؤلي ويا أَمَليِ ... أمراً مُطاعاً بلا مَطْلٍ ولا عِلَلِ )
( حتّى متى يا حبيبَ النفس تَمطُلني ... وقد قمرتك مَرّاتٍ فلم تَفِ لي )
( يومُ الثلاثاء يومٌ سوف أشكره ... إذ زارني فيه مَنْ أهوى على عَجَلِ )
( فلم أَنَلْ منه شيئاً غَيرَ قُبْلته ... وكان ذلك عندي أعظمَ النَّفَلِ )
قال وعمل فيه لحن خفيف وشربنا عليه سائر يومنا الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل عن الهشامي ولأبي العبيس في الثالث والرابع هزج
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال

كان المعتز يشرب على بستان مملوء من النمام وبين النمام شقائق النعمان فدخل إليه يونس بن بغا وعليه قباء أخضر فقال المعتز

صوت
( شبّهْتُ حُمرةَ خدّه في ثوبه ... بشقائق النُّعمان في النَّمّامِ )
ثم قال أجيزوا فابتدر بنان المغني وكان ربما عبث بالبيت بعد البيت فقال
( والقَدُّ منه إذا بدا في قَرْطَقٍ ... كالغصن في لِينٍ وحسن قَوامِ )
فقال له المعتز فغن فيه الآن فعمل فيه لحنا لحن بنان في هذين البيتين من خفيف الثقيل الثاني وهو الماخوري
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال شرب المعتز ويونس بن بغا بين يديه يسقيه والجلساء والمغنون بين يديه وقد أعد الخلع والجوائز إذ دخل بغا فقال يا أمير المؤمنين والدة عبدك يونس في الموت وهي تحب أن تراه فأذن له فخرج وفتر المعتز ونعس بعده وقام الجلساء وتفرق المغنون إلى أن صليت المغرب وعاد المعتز إلى مجلسه ودخل يونس وبين يديه الشموع فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه وسقى يونس رطلا وغناه المغنون وعاد المجلس أحسن ما كان فقال المعتز
صوت
( تَغِيبُ فلا أَفْرَحُ ... فليْتَك ما تَبْرَحُ )

( وإنْ جِئتَ عَذَّبتَني ... بأَنّك لا تَسْمح )
( فأصحبتُ ما بين ذَيْنِ ... لي كبد تُجْرَحُ )
( على ذاك يا سيِّدي ... دُنُوُّك لي أصلَحُ )
ثم قال غنوا فيه فجعلوا يفكرون فقال المعتز لسليمان بن القصار الطنبوري ويلك ألحان الطنبور أملح وأخف فغن فيه أنت فغنى فيه لحنا فدفع إليه دنانير الخريطة وهي مائة دينار مكية ومائتان مكتوب على كل دينار منها ضرب هذا الدينار بالجوسق بخريطة أمير المؤمنين المعتز بالله ثم دعا بالخلع والجوائز لسائر الناس فكان ذبلك المجلس من أحسن المجالس
لحن سليمان بن القصار في هذه الأبيات رمل مطلق
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن عبد السميع الهاشمي قال حدثني أبي قال لما قتل بغا دخلنا فهنأنا المعتز بالظفر فاصطبح ومعه يونس بن بغا وما رأينا قط وجهين اجتمعا أحسن من وجهيهما فما مضت ثلاث ساعات حتى سكر ثم خرج علينا المعتز فقال
( ما إنْ تَرَى مَنْظَراً إن شئتَه حسناً ... إلاّ صَريعاً يُهَادَى بين سُكْرَينِ )
( سُكْرِ الشراب وسكرٍ من هَوَى رَشَأٍ ... تخاله والذي يَهْواهُ عُصْنَين )

ثم أمر فتغنى فيه بعض المغنين
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق الخراساني قال حدثني الفضل بن العباس بن المأمون قال كنت مع المعتز في الصيد فانقطع عن الموكب وأنا ويونس بن بغا معه ونحن بقرب قنطرة وصيف وكان هناك دير فيه ديراني يعرفني وأعرفه نظيف ظريف مليح الأدب واللفظ فشكا المعتز العطش فقلت يا أمير المؤمنين في هذا الدير ديراني أعرفه خفيف الروح لا يخلو من ماء بارد أفترى أن نميل إليه قال نعم فجئناه فأخرج لنا ماء باردا وسألني عن المعتز ويونس فقلت فتيان من أبناء الجند فقال بل مفلتان من حور الجنة فقلت له هذا ليس في دينك فقال هو الآن في ديني فضحك المعتز فقال لي الديراني أتأكلون شيئا قلت نعم فأخرج شطيرات وخبزا وإداما نظيفا فأكلنا أطيب أكل وجاءنا بأطراف أشنان فاستظرفه المعتز وقال لي قل له فيما بينك وبينه من تحب أن يكون معك من هذين لا يفارقك فقلت له فقال كلاهما وتمرا فضحك المعتز حتى مال على حائط الدير فقلت للديراني لا بد من أن تختار فقال الاختيار والله في هذا دمار وماخلق الله عقلا يميز بين هذين ولحقهما الموكب فارتاع الديراني فقال له المعتز بحياتي لا تنقطع عما كنا فيه فإني لمن ثم مولى ولمن هاهنا صديق فمزحنا ساعة ثم أمر له بخمسمائة ألف درهم فقال والله ما أقبلها إلا على شرط قال وما هو قال يجيب أمير المؤمنين دعوتي مع من أراد قال ذلك لك فأتعدنا ليوم جئناه فيه فلم يبق غاية وأقام للموكب كله ما احتاج إليه وجاءنا بأولاد النصارى يخدموننا ووصله المعتز يومئذ صلة سنية ولم يزل يعتاده ويقيم عنده

ولي الخلافة وهو صغير
حدثني الصولي قال حدثنا عبد الله بن المعتز قال بويع للمعتز بالخلافة وله سبع عشرة سنة كاملة وأشهر فلما انقضت البيعة قال
( تَوَحَّدكَ الرحمنُ بالعز والعُلاَ ... فأنت على كل الأنام أميرُ )
هكذا ذكر الصولي في قافية الشعر ووجدته في أغاني بنان مرفوع القافية وله فيه صنعة ولعل المعتز قال البيت فأضاف بنان إليه آخر وجعل المخاطبة عن نفسه للمعتز فقال
صوت
( تَوَحَّدنِي الرحمنُ بالعِزِّ والعُلاَ ... فأصبحتُ فوق العالمين أميرَا )
( تُقاتِلُ عنك التُّرْكُ والخُزْرُ كلُّها ... كأنّهُم أُسْدٌ لهنّ زَئيرُ )
الغناء لبنان لحنان خفيف ثقيل وخفيف رمل ومما قاله المعتز وغنى فيه قوله ذكر الصولي أن عبد الله بن المعتز أنشده إياه لأبيه
صوت
( ألاَ حيِّ الحبيبَ فَدَتْه نفسي ... بكأسٍ من مُدامة خَانِقِينَا )
( فإنيّ قد بَقِيتُ مع الليالي ... أُقاسي الهَمَّ في يده سِنينا )
الغناء فيه لعريب خفيف رمل ولبنان هزج

وممن ذكر أن له صنعة من الخلفاء المعتمد
قال محمد بن يحيى الصولي ذكر عبد الله بن المعتز عن القاسم بن زرزور أن المعتمد ألقى عليه لحنا صنعه في هذا الشعر وهو
( ليس الشَّفِيعُ الذي يأتيكَ مُؤْتزِرا ... مثلَ الشَّفِيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا )
الشعر للفرزدق والغناء للمعتمد ولحنه فيه خفيف ثقيل هذه حكاية الصولي
وفي غناء عريب لها في هذا البيت خفيف ثقيل ولا أعلم لمن هو منهما على صحة إلا أن المشهور في أيدي الناس أنه لعريب ولم اسمع للمعتمد غناء إلا من هذه الجهة التي ذكرتها

ذكر أخبار الفرزدق في هذا الشعر خاصة دون غيره
لأن أخباره كثيرة جدا فكرهت أن أثبتها هاهنا في غناء مشكوك فيه فذكرت نسبه وخبره في هذا الشعر خاصة وأخباره تأتي بعد هذا في موضع مفرد يتسع لطول أحاديثه
الفرزدق لقب غلب عليه واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم
وهو وجرير والأخطل أشعر طبقات الإسلاميين والمقدم في الطبقة الأولى منهم وأخباره تذكر مفردة في موضع آخر يتسع لها ونذكر هاهنا خبره في هذا المعنى فأخبرني خبره في ذلك جماعة فممن أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني به أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي قال عمر بن شبة خاصة في خبره حدثني محمد بن يحيى قال حدثني أبي أن عبد الله بن الزبير تزوج تماضر بنت منظور بن زبان وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة فخاصم الفرزدق امرأته النوار إلى ابن الزبير هكذا ذكر محمد بن يحيى ولم يذكر السبب في الخصومة وذكرها عمر بن شبة ولم يروها عن أحد وذكرها ابن حبيب عن أصحابه وذكرها

أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة أن رجلا من بني أمية خطب النوار بنت أعين المجاشعية فرضيته وجعلت أمرها إلى الفرزدق فقال لها أشهدي لي بذلك على نفسك شهودا ففعلت واجتمع الناس لذلك فتكلم الفرزدق ثم قال اشهدوا أني قد تزوجتها وأصدقتها كذا وكذا فأنا ابن عمها وأحق بها فبلغ ذلك النوار فأبته واستترت من الفرزدق وجزعت ولجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري فقال فيها
( بَني عاصمٍ لا تُلْجِئوها فإنكم ... مَلاجيءُ للسَّوْءات دُسْمُ العمائِم )
( بني عاصمٍ لو كان حيًّا أبوكُم ... لَلاَمَ بَنِيه اليومَ قيسُ بن عاصم )
فقالوا والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة فنافرته إلى عبد الله بن الزبير وأرادت الخروج إليه فتحامى الناس كراءها ثم إن رجلا من بني عدي يقال له زهير بن ثعلبة وقوما يعرفون ببني أم النسير أكروها فقال الفرزدق
( ولولا أن تقول بنو عَدِيٍّ ... أليستْ أُمْ حَنْظَلةَ النّوارُ )
( أتتكم يا بني مِلْكانَ عنِّي ... قوافٍ لا تُقَسِّمها التِّجَارُ )
يعني بالنوار هاهنا بنت جل بن عدي بن عبد مناة وهي أم حنظلة بن مالك بن زيد مناة وهي إحدى جداته وقال فيها أيضا
( سَرَى بالنَّوَار عَوْهُجِيٌّ يَسُوقه ... عُبَيْدٌ قَصِيُر الشِّبْرِ نائي الأقاربِ )
( تؤمُّ بلادَ الأمن دائبةَ السُّرَى ... إلى خير والٍ من لُؤَيِّ بن غالب )
( فدونكَ عِرْسِي تبتغي نَقْضَ عُقْدتي ... وإبطالَ حقِّي باليمين الكواذب )

وقال أيضا
( ولولا أنّ أمِّي من عَدِيٍّ ... وأني كارِهٌ سُخْطَ الرِّباب )
( إذاً لأتَى الدواهِي من قَريبٍ ... جزاءً غيرَ مُنْصَرِف العِقاب )
( وصُلْتُ على بني مِلْكانَ منِّي ... بجيش غير مُنْتَظَر الإِياب )
وقال لزهير أيضا
( لبئس العِبْءُ يحمله زُهَيرٌ ... على أعجاز صِرْمته نَوارُ )
( لقد أَهْدتْ وليدتُنا إليكم ... عوائرَ لا تقسِّمها التِّجَار )
وقال لبني أم النسير
( لَعمْرِي لقد أَرْدَى النَّوارَ وساقها ... إلى الغَوْر أحلامٌ خِفافٌ عقولُها )
( أطاعت بنِي أُمِّ النُّسَير فأصبحتْ ... على قَتَبٍ يعلو الفَلاة دليلُها )
( وقد سَخِطتْ مِنِّي النَّوَارُ الذي ارتضَى ... به قبلها الأزواجُ خبابَ رَحِيلُها )
( وإن امرأً أمسى تحبَّبَ زوجتي ... كماش إلى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتبيلها )
( ومن دوِن أبوالِ الأسود بَسالةٌ ... وبَسْطةُ أيدٍ يمنَع الضَّيمَ طُولُها )
( وإنّ أمير المؤمنين لعالمٌ ... بتأويل ما أَوْصَى العبادَ رسولها )
( فدونكها يابن الزُّبَير فإنها ... مولَّعةٌ يُوهي الحجارةَ قِيلُها )
فلما قدمت مكة نزلت على بنت منظور بن زبان واستشفعت بها إلى

زوجها عبد الله وانضم الفرزدق إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير وأمه بنت منظور هذه ومدحه فقال
( أصبحتُ قد نزلت بحَمْزَة حاجتي ... إنّ المنوّه باسمِه الموثوقُ )
الأبيات وقال فيه أيضا
( يا حَمْزُ هل لك في ذي حاجة غَرِضتْ ... أنضاؤه بمكانٍ غير ممطورِ )
( فأنت أَحْرَى قريشٍ أن تكون لها ... وأنت بين أبي بَكْر ومنظور )
( بين الحَوَاريِّ والصِّدِّيقِ في شُعَبٍ ... نَبَتْنَ في طيِّب الإِسلامِ والخِير )
هذه الأبيات كلها من رواية أبي زيد خاصة قالوا جميعا وقال في النوار
( هَلُمِّي لابن عمِّك لا تكوني ... كمختارٍ على الفرسِ الحِمارا )
وقال فيها أيضا
( تُخاصمُني النَّوَارُ وغاب فيها ... كرأس الضَّبِّ يلتمس الجرادا )
قال أبو زيد في خبره خاصة فجعل أمر الفرزدق يضعف وأمر النوار يقوى وقال الفرزدق
( أمّا بَنُوه فلم تُقْبَلْ شفاعتهم ... وشفعت بنتَ منظورِ بنِ زَبَّانَا )

صوت
( ليس الشَّفِيعُ الذي يأتيكَ مُؤْتزِراً ... مثلَ الشَّفِيع الذي يأتيك عُرْيانَا )

غنت في هذا البيت عريب خفيف ثقيل أول بالبنصر فبلغ ابن الزبير هذا فدعا النوار فقال إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فقالت ما أريد واحدة منهما قال فإنه ابن عمك وهو فيك راغب أفأزوجه إياك قالت نعم فزوجه إياها فكان الفرزدق يقول خرجنا متباغضين ورجعنا متحابين
أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال قال عثمان بن سليمان
شهدت الفرزدق يوم نازع النوار فتوجه القضاء عليه فأشفق من ذلك وتعرض لابن الزبير بكلام أغضبه وكان ابن الزبير حديدا فقال له ابن الزبير أيا ألأم الناس وهل أنت وقومك إلا جالية العرب وأمر به فأقيم وأقبل علينا فقال إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه وأجمعت العرب عليها لما انتهكت ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة فلما كان في طائفة من ذلك اليوم لقيني الفرزدق فقال هيه أيعيرنا ابن الزبير جلاءنا عن البيت اسمع ثم قال
( فإن تَغْضَبْ قريشٌ ثم تغضبْ ... فإنّ الأرض ترعاها تميمُ )
( همُ عَدَدُ النجوم وكلُّ حيٍّ ... سواهم لا تُعَدُّ لهم نجوم )
( فلولا بنتُ مُرٍّ من نِزارٍ ... لَمَا صحَّ المنَابتُ والأديم )
( بها كثر العَديدُ وطاب منكم ... وغيركُم أحذُّ الرِّيشِ هِيم )
( فمهلاً عن تذلُّل مَنْ عَزَزْتُم ... بخُولَتِه وعَزَّ به الحَميم )
( أعبدَ الله مهلاً عن أَذَاتي ... فإنِّي لا الضعيف ولا السَّؤُوم )
( ولكنّي صَفاةٌ لم تُؤَبَّس ... تَزِلُّ الطيرُ عنها والعُصُوم )

( أنا ابن العاقرِ الخُورِ الصَّفَايَا ... بصَوأَرَ حيث فُتِّحت العُكوم )
وذكر الزبير بن بكار عن عمه أن عبد الله بن الزبير لما حكم على الفرزدق قال إنما حكمت علي بهذا لأفارقها فتثب عليها وأمر به فأقيم وقال له ما قال في بني تميم قال ثم خرج عبد الله بن الزبير إلى المسجد فرأى الفرزدق في بعض طرق مكة وقد بلغته أبياته التي قالها فقبض ابن الزبير على عنقه فكاد يدقها ثم قال
( لقد أصبحتْ عِرْسُ الفرزدق ناشِزاً ... ولو رضيتْ رَمْحَ استِه لاستقرّتِ )
قال الزبير وهذا الشعر لجعفر بن الزبير
أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا ابن سلام قال أخبرنا إبراهيم بن حبيب الشهيد قال قال ابن الزبير للفرزدق ما حاجتك بها وقد كرهتك كن لها أكره وخل سبيلها فخرج وهو يقول ما أمرني بطلاقها إلا ليثب عليها فبلغ ذلك ابن الزبير فخرج وقد استهل هلال ذي الحجة ولبس ثياب الإحرام يريد البيت الحرام فألفى الفرزدق بباب المسجد عند الباعة فأخذ بعنقه فغمزها حتى جعل رأسه بين ركبتيه وقال

( لقد أصبحتْ عِرْسُ الفرزدق ناشِزاً ... ولو رضيتْ رَمْحَ استِه لاستقرَّتِ )
قال الزبير وهذا البيت لجعفر بن الزبير
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى عن أبيه قال لما قال الفرزدق في ابن الزبير
( أمّا بنوه فلم تُقْبَل شفاعتُهم ... وشُفِّعتْ بنتُ منظورِ بن زَبَّانَا )
قال جعفر بن الزبير
( ألا تِلْكُمُ عِرْسُ الفرزدقِ جامِحاً ... ولو رضيتْ رمحَ استِه لاستقرَّتِ )
فقال عبد الله بن الزبير أتجزرنا كلبا من كلاب بني تميم لئن عدت لم أكلمك أبدا
قال وتماضر التي عناها الفرزدق أم خبيب وثابت ابني عبد الله بن الزبير وماتت عند عبد الله فتزوج أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا
قال وفي أم هاشم يقول الفرزدق يستعينها على ابن الزبير ويشكو طول مقامه
( تروَّحتِ الرُّكْبانُ يا أُمَّ هاشم ... وهُنَّ مُناخَاتٌ لهنَّ حَنِينُ )
( وخُيِّسْنَ حتى ليس فيهنّ نافِقٌ ... لبَيْعٍ ولا مركوبُهن سَمِينُ )
قال وهذا يدل على أن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتماضر
فلما أذنت النوار لعبد الله في تزويجها بالفرزدق حكم لها عليه بمهر

مثلها عشرة آلاف درهم فسأل هل بمكة أحد يعينه فدل على سلم بن زياد وكان ابن الزبير حبسه فقال فيه
( دَعِي مُغْلِقِي الأبوابِ دون فَعالهم ... ومُرِّي تَمَشَّيْ بي هُبِلْتِ إلى سَلْمِ )
( إلى من يَرى المعروفَ سَهْلاً سبيلُه ... ويفعل أفعال الكرام التي تَنْمي )
ثم دخل على سلم فأنشده فقال له هي لك ومثلها نفقتك ثم أمر له بعشرين ألفا فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاصي الثقفية أتعطي عشرين ألفا وأنت محبوس فقال
( ألاَ بَكرت عِرْسِي تَلُوم سَفاهةً ... على ما مضَى منِّي وتأمر بالبخل )
( فقلت لها والجودُ منِّي سَجِيّةٌ ... وهل يمنع المعروفَ سُؤَّاله مثلي )
( ذَرِيني فإنّي غير تارِكِ شِيمتِي ... ولا مُقْصِرٍ عن السَّماحةِ والبَذْل )
( ولا طاردٍ ضَيْفِي إذا جاء طارقاً ... فقد طرَق الأضيافُ شَيْخِيَ من قبلي )
( أأبخَل إنّ البخل ليس بمُخْلِدٍ ... ولا الجُود يُدْنِيني إلى الموت والقتل )
( أَبِيع بني حَرْبٍ بآل خُوَيْلِدٍ ... وما ذاكَ عند الله في البيع بالعدل )
( وأشْرِي ابنَ مروان الخليفةَ طائعا ... بنَجْل بني العَوَّام قُبِّح من نَجْل )
( فإن تُظْهِروا لي البخلَ آلَ خُوَيلدٍ ... فما دَلُّكم دَلِّي ولا شَكْلُكم شكلي )
( وإن تَقْهَروني حيث غابت عَشيرتي ... فمن عَجَبِ الأيام أن تَقْهَروا مثلي )

لم تحسن النوار عشرته فتزوج عليها
قال دماذ في خبره ثم اصطلحا ورضيت به وساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن تخرج من مكة ثم خرج بها وهما عديلان في محمل فكانت لا تزال تشاره وتخالفه لأنها كانت صالحة حسنة الدين وكانت تكره كثيرا من أمره فتزوج عليها حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فتزوجها على مائة من الإبل فقالت له النوار ويلك تزوجت أعرابية دقيقة الساقين بوالة على عقبيها على مائة بعير فقال الفرزدق يفضلها عليها ويعيرها أنها كانت تربيها أمة
( لَجاريةٌ بين السَّلِيل عُروقُها ... وبين أبي الصَّهْباء من آل خالد )
( أحقُّ بإغلاء المُهور من التي ... رَبَتْ وهي تَنْزَو في حُجور الولائد )
ومدحها أيضا فقال
( عَقِيلةٌ من بني شَيْبانَ ترفعها ... دَعائمٌ للعُلاَ من آل هَمّام )
( من آل مُرَّةَ بين المُستضاء بهم ... من رَهْطِ صيدٍ مَصَاليتٍ وحُكّام )
( بين الأحَاوِص من كَلبٍ مُرَكَّبُها ... وبين قيس بن مسعودٍ وبسْطام )
وقال أيضا يمدحها ويعرض بالنوار

( لعَمْري لأعرابيَّةٌ في مِظَلَّة ... تَظَلُّ بأعلى بيتها الرِّيحُ تَخْفُقُ )
( كأُمِّ غَزالٍ أو كَدُرَّةِ غائص ... إذا ما أتَتْ مثلَ الغَمامة تُشْرِق )
( أحبُّ إلينا من ضِنَاكٍ ضِفِنَّة ... إذا وُضِعتْ عنها المراوحُ تَعْرَق )
فقال بعض باهلة يجيبه
( أعوذ بالله من غُولٍ مُغَوِّلةٍ ... كأَنَّ حافرَها في الحدِّ ظُنْبُوبُ )
( تَسْتَرْوِحُ الشاةَ من مِيلٍ إذا ذُبِحْت ... حُبَّ اللِّحامِ كما يَسْتَرْوِحُ الذِّيبُ )
وأغضب الفرزدق النوار بمدحه إياها فقالت والله لأخزينك يا فاسق وبعثت إلى جرير فجاءها فقالت ألا ترى ما قال لي الفاسق وشكت إليه فقال
( فلا أنا مُعْطى الحُكْمِ عَن شِفِّ مَنْصِبٍ ... ولا عن بنات الحَنْظَلِيّين راغبُ )
( وهنّ كماء المُزْن يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاحاً غيرَهُنَّ المَشاربُ )
( لقد كنتَ أهلاً أن تَسُوقَ دِيَاتِكم ... إلى آل زِيق أن يَعِيبَك عائب )
( وما عَدَلتْ ذاتُ الصَّلِيب ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرِّدْفانِ منها وحاجب )
( ألاَ رُبَّما لم نُعْطِ زِيقاً بحُكْمِه ... وأدَّى إلينا الحُكْمَ والغُلُّ لازِبُ )

( حَوَيْنا أبا زِريقٍ وزِيقاً وعمَّه ... وجَدَّةُ زِيقٍ قد حوتْها المَقَانِبُ )
فأجابه الفرزدق بقصيدة منها
( ألستَ إذ القَعْساء أَنْسَلَ ظهرُها ... إلى آل بِسْطام بن قيس بخاطبِ )
( فنَلْ مثلَها من مثلهم ثم لُمْهمُ ... بملْكك من مالٍ مُرَاحٍ وعازِب )
( فلو كنتَ من أكفاء حَدْراءَ لم تَلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى وغالب )
( وإني لأخشى إن خطبتَ إليهمُ ... عليك التي لاقى يَسَارُ الكواعب )
يسار كان عبدا لبني ددانة فأراد مولاته على نفسها فنهته مرة بعد مرة وألح فوعدته فجاء فقالت له إني أريد أن أبخرك فإن رائحتك متغيرة فوضعت تحته مجمرة وقد أعدت له حديدة حادة فأدخلت يدها فقبضت على ذكره وهو يرى أن ذلك لشيء فقطعته بالموسى فقالت صبرا على مجامر الكرام فذهبت مثلا عاد الشعر
( ولو قَبِلوا منِّي عَطَّيةَ سُقْتُهُ ... إلى آلِ زِيقٍ من وَصيفٍ مُقَارِبِ )
( همُ زوَّجوا قبلي ضِراراً وأنْكَحوا ... لَقِيطاً وهم أكفاؤنا في المَناسب )
( ولو تُنكِح الشمسُ النجومَ بناتِها ... إذاً لنكحناهنّ قبل الكواكب )
وقال جرير
( يا زِيقُ أَنْكحتَ قَيْناً باستِه حَمَمٌ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ مَنْ أَنْكحتَ يا زِيقُ )
( غاب المثنَّى فلم يَشْهَدْ نَجِيَّكما ... والحَوْفَزانُ ولم يشهَدْك مفروق )

( أين الأُلَى أَنْزلوا النعمانَ مُقْتَسَراً ... أم أين أبناءُ شَيْبَانَ الغَرَانِيقُ )
( يا رُبَّ قائلةٍ بعد البِناء بها ... لا الصِّهْرُ راضٍ ولا ابنُ القَيْنِ معشوق )
وقال الفرزدق لجرير في هذا
( إن كان أنفُك قد أعْياكَ مَحْمَلُه ... فاركبْ أتانَك ثم اخطُبْ إلى زِيقِ )
قال ولامه الحجاج وقال أتزوجت ابنة نصراني على مائة ناقة قال وما هي في جود الأمير قال فاشترى الإبل وساقها فلما كان في بعض الطريق ومعه أوفى بن خنزير أحد بني التيم بن شيبان بن ثعلبة دليله رأى كبشا مذبوحا فقال يا أوفى هلكت والله حدراء قال مالك بذلك من علم فلما بلغ قال له بعض قومها هذا البيت فانزل وأما حدراء فهلكت وقد عرفنا الذي يصيبكم في دينكم من ميراثها وهو النصف فهو لك عندنا فقال لا والله لا أرزأ منه قطميرا وهذه صدقتها فاقبضوها فقال يا بني دارم والله ما صاهرنا أكرم منكم قال وفي هذه القصة يقول الفرزدق
( عجبتُ لحادِينا المقحِّمِ سيره ... بنا مُوجَفاتٍ من كَلاَل وظُلَّعَا )
( ليُدْنِيَنَا ممن إلينا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أَرَدْنَا لتجمَعا )
( ولو يعلم الغَيْبَ الذي مِنْ أمامِنا ... لكرَّ بنا حادِي المطِّي فأَسْرَعا )
( يقولون زُرْ حَدْراءَ والتُّرْبُ دونَها ... وكيف بشيءٍ وصلُه قد تقطَّعا )
( وما مات عند ابنِ المَرَاغة مثلُها ... ولا تبعتْه ظاعناً حيث ودّعا )
( يقول ابنُ خِنْزيرٍ بكيتَ ولم تكن ... على امرأةٍ عيَنا أخيك لتدْمَعا )
( وأهونُ رُزْءٍ لامرئٍ غيرِ جازعٍ ... رَزِيَّةُ مُرْتَجِّ الرَّوادِفِ أَفْرعا )

وقال ابن سلام فيما أخبرنا به أبو خليفة عنه قال حدثني حاجب بن زيد وأبو الغراف قالا تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس ابن خالد بن ذي الجدين وهو عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان على حكم أبيها فاحتكم مائة من الإبل فدخل علىالحجاج فعذله فقال أتزوجتها على حكمها وحكم أبيها مائة بعير وهي نصرانية وجئتنا متعرضا أن نسوقها عنك اخرج ما لك عندنا شيء فقال عنبسة بن سعيد بن العاصي وأراد نفعه أيها الأمير إنها من حواشي إبل الصدقة فأمر بها فوثب عليه جرير فقال
( يا زِيقُ قد كنتَ من شَيْبَان في حَسَبٍ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ مَنْ أَنْكحتَ يا زِيقُ )
( أَنْكحتَ وَيْحَكَ قَيْناً باستِه حَمَمٌ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ هل بارتْ بكَ السُّوقُ )
ثم ذكر باقي القصيدة بمثل رواية دماذ
قال ابن سلام وأراد الفرزدق أن تحمل فاعتلوا عليه وقالوا ماتت كراهة أن يهتك جرير أعراضهم فقال جرير
( وأقْسِم ما ماتتْ ولكنّه الْتوَى ... بحدْراءَ قومٌ لم يَرَوْك لها أهلاَ )
( رأوا أن صِهْرَ القَيْن عارٌ عليهمُ ... وأن لِبسطامٍ على غالبٍ فضلا )
( إذا هي حَلَّتْ مُسْحُلانَ وحاربتْ ... بشَيْبان لاقى القومُ من دونها شُغْلا )

وحدراء هذه هي التي ذكرها الفرزدق في أشعاره ومن ذلك قوله

صوت
( عَزَفْتَ بأَعْشاشٍ وما كِدْتَ تَعْزُفُ ... وأنكرتَ من حَدْراءَ ما كنتَ تعرِفُ )
( ولَجّ بك الهِجْرانُ حتى كأنَّما ... ترى الموتَ في البيت الذي كنتَ تألَفُ )
عروضه من الطويل عزفت عن الشيء انصرفت عنه عزف يعزف عزوفا الشعر للفرزدق والغناء لسلسل ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لحن للغريض من الثقيل الأول بالبنصر من رواية حبش
الفرزدق وابن أبي بكر بن حزم
أخبرني علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب وأبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال قال اليربوعي قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان قال فإني والفرزدق وكثيرا لجلوس في

المسجد نتناشد الأشعار إذ طلع علينا غلام شخت آدم في ثوبين ممصرين أي مصبوغين بصفرة غير شديدة ثم قصد نحونا حتى جاء إلينا فلم يسلم فقال أيكم الفرزدق فقلت مخافة أن يكون من قريش أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها فقال لو كان كذلك لم أقل هذا له فقال له الفرزدق ومن أنت لا أم لك قال رجل من بني الأنصار ثم من بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب وتزعم مضر ذلك لك وقد قال صاحبنا حسان شعرا فأردت أن أعرضه عليك وأؤجلك سنة فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب وإلا فأنت كذاب منتحل ثم أنشده قول حسان
( لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَمَا )
( مَتَى ما تَزُرْنا من مَعَدٍّ عِصابةٌ ... وغسّانَ نَمْنَع حَوْضَنا أن يُهَدَّما )
قيل إن قوله وغسان هاهنا قسم أقسم به لأن غسان لم تكن تغزوهم مع معد
( أبَى فعلُنا المعروفَ أن نَنْطق الخَنَا ... وقائلنا بالعُرْف إلاّ تكَلُّما )
( ولَدْنا بني العَنْقاءِ وابنَيْ مُحَرِّقٍ ... فأَكْرِمْ بنا خالاً وأَكْرِمْ بنا ابنَمَا )
فأنشده القصيدة إلى آخرها وقال له إني قد أجلتك بها حولا ثم انصرف وانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه ما يدري أي طريق يسلك حتى خرج من المسجد قال فأقبل كثير علي فقال قاتل الله الأنصاري ما أفصح لهجته وأوضح حجته وأجود شعره قال فلم نزل في حديث الفرزدق والأنصاري بقية يومنا حتى إذا كان الغد خرجت من منزلي إلى مجلسي الذي كنت فيه بالأمس وأتاني كثير فجلس معي فإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما فعل إذ طلع علينا في حلة أفواف

يمانية موشاة له غديرتان حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل الأنصاري قال فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله الله ما رميت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقتكما فأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فلكأني مفحم أو لم أقل قط شعرا حتى نادى المنادي بالفجر فرحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ذبابا ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أبا لبنى وقال سعدان أبا ليلى فجاش صدري كما يجيش المرجل ثم عقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتا فبينا هو ينشدنا إذ طلع علينا الأنصاري حتى انتهى إلينا فسلم ثم قال أما إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك عما صنعت فقال اجلس ثم أنشده
( عزَفْتَ بأَعْشاشٍ وما كِدْتَ تَعْزِفُ ... )
فلما فرغ الفرزدق من إنشاده قام الأنصاري كئيبا فلما توارى طلع أبوه وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في مشيخة من الأنصار فسلموا علينا وقالوا يا أبا فراس قد عرفت حللنا ومكاننا من رسول الله ووصيته بنا وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا تعرض لك فنسألك بالله لما حفظت فينا وصية النبي ووهبتنا له ولم تفضحنا قال إبراهيم بن محمد فأقبلت أكلمه أنا وكثير فلما أكثرنا عليه قال اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي قال وقد كان جرير قال
( ألاَ أيُّها القلبُ الطَّروبُ المُكَلَّفُ ... أفِقْ رُبّما ينأى هواكَ ويُسْعِفُ )
( ظَلِلتَ وقد خَبَّرْتَ أن لستَ جازعاً ... لِرَبْع بسُلْمَانَيْنِ عَيْنُك تَذْرفُ )
فجعل الفرزدق هذه القصيدة نقيضة لها

نسبة ما في هذا الخبر من الأصوات
صوت
منها
( لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دمَا )
( ولَدْنا بني العَنْقاءِ وابنَيْ مُحَرِّقٍ ... فأَكْرِمْ بنا خالاً وأَكْرِمْ بنا ابنَمَا )
عروضه من الطويل الشعر لحسان بن ثابت والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة
النابغة وحسان بسوق عكاظ
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثني محمد بن سعد الكراني عن أبي عبد الرحمن الثقفي وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة أن نابغة بني ذبيان كان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده شعره وأنشدته الخنساء قولها
( قَذىً بعينِك أم بالعين عُوّارُ ... ) حتى انتهت إلى قولها
( وإنّ صخراً لتأْتمُّ الهُداةُ به ... كأنه عَلَمٌ في رأسه نار )
( وإنّ صخراً لمولانا وسيِّدُنا ... وإن صخراً إذا نَشْتُو لَنحّار )
فقال لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس أنت

والله أشعر من كل ذات مثانة قالت الله ومن كل ذي خصيتين فقال حسان أنا والله أشعر منك ومنها قال حيث تقول ماذا قال حيث أقول
( لنا الجَفَناتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَمَا )
( ولَدْنا بني العَنْقاءِ وابنَيْ مُحَرِّقٍ ... فأَكْرِمْ بنا خالاً وأَكْرِمْ بنا ابنَمَا )
فقال إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك وفي رواية أخرى فقال له إنك قلت الجفنات فقللت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر وقلت يلمعن في الضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقا وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم وفخرت بمن ولت ولم تفخر بمن ولدك فقام حسان منكسرا منقطعا
مما يغنى فيه من قصيدة الفرزدق الفائية قوله

صوت
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسِيُرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
فيه رمل بالوسطى يقال إنه لابن سريج وذكر الهشامي أنه من منحول يحي المكي
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو مسلمة موهوب بن رشيد الكلابي قال وقف الفرزدق على جميل والناس مجتمعون عليه وهو ينشد
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسيُرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأنا إلى الناس وَقَّفُوا )
فأشرع إليه رأسه من وراء الناس وقال أنا أحق بهذا البيت منك قال أنشدك الله يا أبا فراس فمضى الفرزدق وانتحله

الفرزدق وكثير والبيت المسروق
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني أبي عن جدي أن الفرزدق لقي كثيرا فقال له ما أشعرك يا كثير في قولك
( أُريد لأنسَى ذكرَها فكأنّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلّ سبيل )
فعرض له بسرقته إياه من جميل
( أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى على كلِّ مَرْقَبِ )
فقال له كثير أنت يا فرزدق أشعر مني في قولك
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسِيُرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأنا إلى الناس وَقَّفوا )
قال وهذا البيت لجميل سرقه الفرزدق فقال الفرزدق لكثير هل كانت أمك ترد البصرة قال لا ولكن أبي كان نزيلا لأمك
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن ابن شهاب عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال لقي الفرزدق كثيرا بقارعة البلاط وأنا وهو نمشي فقال له الفرزدق يا أبا صخر أنت أنسب العرب حيث تقول
( أريد لأَنْسَى ذكرَها فكأنّما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ )
قال وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسِيُرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفوا )
قال عبد العزيز وهذان البيتان جميعا لجميل سرق أحدهما الفرزدق وسرق الآخر كثير فقال له الفرزدق يا أبا صخر هل كانت أمك

ترد البصرة قال لا ولكن أبي كان كثيرا يردها قال طلحة فوالذي نفسي بيده لقد تعجبت من كثير وجوابه وما رأيت أحدا قط أحمق منه لقد دخلت عليه يوما في نفر من قريش وكنا كثيرا نهزأ به وكان يتشيع تشيعا قبيحا فقلنا له كيف تجدك يا أبا صخر فقال بخير هل سمعتم الناس يقولون شيئا قلت نعم يتحدثون أنك الدجال قال والله إن قلت ذلك إني لأجد في عيني هذه ضعفا منذ أيام
ولجرير قصيدة يناقض بها هذه القصيدة في أولها غناء نسيته
( ألاَ أيُّها القلب الطَّرُوب المكلَّفُ ... أفِقْ رُبَّما يَنْأَى هواك ويُسعِفُ )
( ظَلِلْتَ وقد خَبَّرتَ أنْ لستَ جازعاً ... لرَبْعٍ بِسُلْمانَيْنِ عينُك تَذْرِفُ )
الشعر لجرير والغناء لمحمد بن الأشعث الكوفي ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة وقال حبش فيه ثقيل أول بالوسطى وليس ذلك بصحيح

رجع الحديث إلى سياقة حديث الفرزدق والنوار
قال دماذ وتزوج الفرزدق على النوار امرأة من اليرابيع وهم بطن من النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد القيني وقد انتسبوا فيهم فقالت له النوار وما عسى أن تكون القينية فقال
( أرتك نجومَ اللَّيلِ والشمسُ حيَّةٌ ... زِحامُ بناتِ الحارث بن عُبادا )
( نساءٌ أبوهنّ الأغرُّ ولم تكن ... من الحُتِّ في أجبالها وهَدَادِ )
( ولم يكن الجَوْفُ الغموضُ مَحَلَّها ... ولا في الهِجَاريِّين رَهْطِ زياد )
( أبوها الذي أدْنَى النَّعامةَ بعدما ... أبَتْ وائلٌ في الحرب غيرَ تَمَاد )
يعني بأبيها الذي أدنى النعامة الحارث بن عباد وأراد قوله
( قرِّبا مَرْبِطَ النَّعَامةِ منّي ... )

( عدلتُ بها مَيْلَ النَّوَار فأصبحتْ ... مُقارِبةً لي بعد طول بعادِ )
( وليست وإنْ أَنبأتُ أنِّي أحِبُّها ... إلى دَارِمِّيات النِّجار جيادِ )
وقال أبو عبيدة حدثني أعين بن لبطة قال تزوج الفرزدق مضارة للنوار امرأة يقال لها رهيمة بنت غنيم بن درهم من اليرابيع قوم من النمر بن قاسط في بني الحارث بن عباد وأمها الحميضة من بني الحارث فنافرته الحميضة فاستعدت عليه فأنكرها الفرزدق وقال أنا منها بريء وطلق ابنتها وقال
( إنّ الحميضة كانت لي ولابنتِها ... مثلَ الهَرَاسةِ بين النَّعل والقَدَمِ )
( إذا أتتْ أهلَها منِّي مُطَلَّقةً ... فلن أَرُدَّ عليها زَفْرَةَ النَّدمِ )
مضى الحديث ولم أجد لأحد من الخلفاء الذين ذكرتهم والذين لم أذكرهم بعد الواثق صنعة يعتد بها إلا المعتضد فإنه صنع صنعة متقنة عجيبة أبرت على صنعة سائر الخلفاء سوى الواثق وفضل فيها أكثر أهل الزمان الذي نشأ فيه وإنما ذكرت صنعة من بينهما لأنها قد رويت فأما حقيقة الغناء الجيد فليس بينهما مثلهما وذكر عبيد الله بن عبد الله بن طاهر صنعة المعتضد فقرظها وقال لم أجد لحنا قديما قد جمع من النغم ما جمعه لحن ابن محرز في شعر مسافر بن أبي عمرو وهو
( يا مَنْ لِقَلْبٍ مُقْصِرٍ ... تَرك المُنَى لفواتها )
فإنه جمع من النغم العشر ثمانيا ولحن ابن محرز أيضا في شعر كثير
( توهَّمتُ بالخَيْف رَسْماً مُحِيلاَ ... لِعزَّةَ تَعْرِفُ منه الطُّلُولا )
وهو أيضا يجمع ثمانيا من النغم وقد تلطف بعض من له دربة وحذق بهذه الصناعة حتى جمع النغم العشر في هذا الصوت الأخير متوالية وجمعها في صوت آخر غير متوالية وهو في شعر ابن هرمة

( فإنّكِ إذ أطمعتِني منكِ بالرضا ... وأيأستنِي من بعد ذلك بالغضبْ )
وأعجب من ذلك ما عمله أمير المؤمنين المعتضد بالله فإنه صنع في رجز دريد بن الصمة يا ليتني فيها جذع لحنا من الثقيل الأول يجمع النغم العشر فأتى به مستوفى الصنعة محكم البناء صحيح الأجزاء والقسمة مشبع المفاصل كثير الأدوار لاحقا بجيد صنعة الأوائل وإنما زاد فضله على من تقدمه لأنه عمله في ضرب من الرجز قصير جدا واستوفى فيه الصنعة كلها على ضيق الوزن فصار أعجب مما تقدمه إذ تلك عملت في أوزان تامة وأعاريض طوال يتمكن الصانع فيها من الصنعة ويقتدر على كثرة التصرف وليس هذا الوزن في تمكنه من ذلك فيه مثل تلك

نسبة هذا اللحن
صوت
( يا ليتني فيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ )
( أَقُود وَطْفاءَ الزَّمَعْ ... كأنها شاةٌ صَدَعْ )
الشعر لدريد بن الصمة والغناء للمعتضد ولحنه ثقيل أول يجمع النغم العشر

بسم الله الرحمن الرحيم

أخبار المنخل ونسبه
هو المنخل بن عمرو ويقال المنخل بن مسعود بن أفلت بن عمرو بن كعب بن سواءة بن غنم بن حبيب بن يشكر بن بكر بن وائل
وذكر أبو محلم النسابة أنه المنخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوءة بن مالك بن ثعلبة بن حبيب بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر وقال ابن الأعرابي هو المنخل بن الحارث بن قيس بن عمرو بن ثعلبة بن عدي بن جشم بن حبيب بن كعب بن يشكر
اتهمه النعمان بامرأته المتجردة فقتله
شاعر مقل من شعراء الجاهلية وكان النعمان بن المنذر قد اتهمه بامرأته المتجردة وقيل بل وجده معها وقيل بل سعي به إليه في أمرها فقتله وقيل بل حبسه ثم غمض خبره فلم تعلم له حقيقة إلى اليوم فيقال إنه دفنه حيا ويقال إنه غرقه والعرب تضرب به المثل كما تضربه بالقارظ العنزي

وأشباهه ممن هلك ولم يعلم له خبر وقال ذو الرمة
( تُقارِب حتى تُطمِعَ التابعَ الصّبا ... وليست بأدنى من إياب المنخّلِ )
وقال النمر بن تولب
( وقَوْلِي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... تلاقونه حتى يؤوبَ المنخّلُ )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أحمد بن زهير قال أخبرني عبد الله بن كريم قال أخبرني أبو عمرو الشيباني قال
كان سبب قتل المنخل أن المتجردة واسمها ملوية وقيل عند بنت المنذر بن الأسود الكلبية كانت عند ابن عمر لها يقال له حلم وهو الأسود بن المنذر بن حارثة الكلبي وكانت أجمل أهل زمانها فرآها المنذر بن المنذر الملك اللخمي فعشقها فجلس ذات يوم على شرابه ومعه حلم وامرأته المتجردة فقال المنذر لحلم إنه لقبيح بالرجل أن يقيم على المرأة زمانا طويلا حتى لا يبقى في رأسه ولا لحيته شعرة بيضاء إلا عرفتها فهل لك أن تطلق امرأتك المتجردة وأطلق امرأتي سلمى قال نعم فأخذ كل واحد منهما على صاحبه عهدا قال فطلق المنذر امرأته سلمى وطلق حلم امرأته المتجردة فتزوجها المنذر ولم يطلق لسلمى أن تتزوج حلما

وحجبها وهي أم ابنه النعمان بن المنذر فقال النابغة الذبياني يذكر ذلك
( قد خادعوا حُلماً عن حرّة خَرِدٍ ... حتى تبطَّنها الخدّاع ذو الحُلُمِ )
قال ثم مات المنذر بن المنذر فتزوجها بعده النعمان بن المنذر ابنه وكان قصيرا دميما أبرش وكان ممن يجالسه ويشرب معه النابغة الذبياني وكان جميلا عفيفا والمنخل اليشكري وكان جميلا وكان يتهم بالمتجردة
فأما النابغة فإن النعمان أمره بوصفها فقال قصيدته التي أولها
( مِن آل ميّةَ رائح أو مغتدي ... عجلانَ ذا زاد وغيرَ مزوَّد )
ووصفها فأفحش فقال
( وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدِفٍ ... رابي المَجسّة بالعَبير مُقَرمَدِ )
( وإذا نزعتَ نزعتَ عن مستحصِفٍ ... نزع الحَزَوّر بالرشاء المحصَدِ )
فغار المنخل من ذلك وقال هذه صفة معاين فهم النعمان بقتل النابغة حتى هرب منه وخلا المنخل بمجالسته وكان يهوى المتجردة وتهواه وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل وكانت العرب تقول إنهما منه
فخرج النعمان لبعض غزواته قال ابن الأعرابي بل خرج متصيدا فبعثت المتجردة إلى المنخل فأدخلته قبتها وجعلا يشربان فأخذت خلخالها وجعلته في رجله وأسدلت شعرها فشدت خلخالها إلى خلخاله الذي في رجله من شدة إعجابها به و
دخل النعمان بعقب ذلك فرآها

على تلك الحال فأخذه فدفعه إلى رجل من حرسه من تغلب يقال له عكب وأمره بقتله فعذبه حتى قتله فقال المنخل يحرض قومه عليه
( ألا مَن مبلِغ الحيين عنّي ... بأن القوم قد قتلوا أُبَيّا )
( فإن لم تثأروا لي من عِكَبٍّ ... فلا رَوّيتُمُ أبدا صَدِيا )
وقال أيضا
( ظلّ وسْط النديّ قتلَى بِلا جُرْم ... وقومي يُنتِّجون السِّخالا )
وقال في المتجردة
( دِيارٌ لِلّتي قتلتك غصباً ... بلا سيف يُعَدّ ولا نِبالِ )
( بطَرفٍ ميِّت في عين حَيٍّ ... له خَبَل يزيدُ على الخَبالِ )
وقال أيضا
( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدرَ في اليومِ المطيرِ )
( الكاعبِ الخنساء ترفُلَ ... في الدِّمَقْس وفي الحرير )
( دافعتُها فتدافَعتْ ... مَشْيَ القطاةِ إلى الغدير )
( ولثمتُها فتنفّست ... كتنفّس الظبي البَهير )
( ورَنَت وقالت يا مُنخّل ... هل بجسمك من فتور )

( ما مس جسمي غيرُ حُبّك ... فاهدئي عنِّي وسيري )
( يا هندُ هل من ناثلٍ ... يا هند للعاني الأسير )
( وأُحبّها وتُحبّني ... ويُحبّ ناقتَها بعيري )
( ولقد من شربتُ من المدامة ... بالكبير وبالصغير )
( فإذا سكرتُ فإنني ... ربُّ الخورنق والسدير )
( وإذا صحوتُ فإنني ... ربّ الشُّوَيهة والبعير )
( يا رُبَّ يومٍ للمنخّل ... قد لها فيه قصيرِ )

رواية أخرى عن علاقته بالمتجردة وشعره فيها
وأخبرني بخبر المنخل مع المتجردة أيضا علي بن سليمان الأخفش قال
أخبرني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كانت المتجردة امرأة النعمان فاجرة وكانت تتهم بالمنخل وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل فكان يقال إنهما منه وكان جميلا وسيما وكان النعمان أحمر أبرش قصيرا دميما
وكان للنعمان يوم يركب فيه فيطيل المكث وكان المنخل من ندمائه لا يفارقه وكان يأتي المتجردة في ذلك اليوم الذي يركب فيه النعمان فيطيل عندها حتى إذا جاء النعمان آذنتها بمجيئه وليدة لها موكلة بذلك فتخرجه
فركب النعمان ذات يوم وأتاها المنخل كما كان يأتيها فلاعبته وأخذت

قيدا فجعلت إحدى حلقتيه في رجله والأخرى في رجلها وغفلت الوليدة عن ترقب النعمان لأن الوقت الذي يجيء فيه لم يكن قرب بعد وأقبل النعمان حينئذ ولم يطل في مكثه كما كان يفعل فدخل إلى المتجردة فوجدها مع المنخل قد قيدت رجلها ورجله بالقيد فأخذه النعمان فدفعه إلى عكب صاحب سجنه ليعذبه وعكب رجل من لخم فعذبه حتى قتله
وقال المنخل قبل أن يموت هذه الأبيات وبعث بها إلى ابنيه
( ألا مَن مبلغ الحُرّين عنّي ... بأن القوم قد قتلوا أُبيا )
( وإن لم تثأروا لي من عِكَبٍّ ... فلا أَرويتما أبداً صَدِيّا )
( يُطوّف بي عِكبٌّ في معدٍّ ... ويطعن بالصُّملّة في قَفَيّا )
قال ابن حبيب وزعم ابن الجصاص أن عمرو بن هند هو قاتل المنخل والقول الأول أصح
وهذه القصيدة التي منها الغناء يقولها في المتجردة وأولها قوله
( إن كنتِ عاذلتي فسيري ... نحوَ العراق ولا تَحورِي )
( لا تسألي عن جُلّ ما ... لي واذكري كرَمي وخِيري )
( وإذا الرياح تناوحَتْ ... بجوانب البيت الكسير )
( ألفيتِني هشّ النديِّ ... بِمرّ قدِحي أو شجيري )
الشجير القدح الذي لم يصلح حسنا ويقال بل هو القدح العارية

( ونَهَى أبو أفعى فقلّدنِي ... أبو أفعى جريري )
( وجُلالة خطّارة ... هوجاءَ جائلةَ الضُّفور )
( تعدو بأشعثَ قد وهَى ... سِر بالُه باقي المسير )
( فُضُلا على ظهر الطريق ... إليك علقمةَ بنَ صير )
( الواهب الكومِ الصّفايا ... والأوانس في الخُدور )
( يُصفيك حين تجيئه ... بالعَصْب والحَلْي الكثير )
( وفوارسٍ كأْوار حرِّ ... النار أحلاسِ الذُّكور )
( شدُّوا دوابرَ بيضهم ... في كلّ محكمةِ الفتير )
( فاستلأموا وتَلبَّبُوا ... إن التلبّب للمغير )
( وعلى الجياد المضمَرات ... فوارسٌ مثل الصقور )
( يَخرجن من خَلَل الغبار ... يَجِفْن بالنَّعَم الكثير )
( فشفيتُ نفسي من أولئك ... والفوائح بالعبير )

( يرفُلن في المسك الذكيّ ... وصائكٍ كدَمِ النّحير )
( يعكُفن مثل أساود التَّنُّومِ ... لم تُعكَف لِزور )
( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخدرَ في اليوم المطير )
( الكاعبِ الخنساء ترفل في الدّمَقْس وفي الحرير )
( فدفَعتُها فتدافعتْ ... مشيَ القطاة إلى الغدير )
( ولثمتُها فنتفّسَتْ ... كتنفّس الظبي البَهير )
( فدنّتْ وقالت يا منخّل ... ما بجسمك من حَرور )
( ما شفّ جسمي غيرُ حبّك ... فاهدئي عنّي وسيري )
( ولقد شرِبتُ من المُدامة ... بالصغير وبالكبير )
( ولقد شرِبتُ الخمر بالخيل ... الإناث وبالذُّكور )
( ولقد شرِبتُ الخمر بالعبد الصحيح وبالأسير )
( فإذا سكِرتُ فإنني ... ربُّ الخَوَرْنَق والسدير )
( وإذا صحوتُ فإنني ... ربّ الشّوَيهة والبعير )
( يا رُبَّ يوم للمنخّل قد لها فيه قصير )
( يا هند هل من نائل ... يا هند للعاني الأسير )
ومن الناس من يزيد في هذه القصيدة
( وأُحبّها وتُحبّني ... ويحبّ ناقتَها بعيري )
ولم أجده في رواية صحيحة

صوت
( لِمَن شيخان قد نَشَدا كلابا ... كتابَ الله لو قَبِل الكتابا )
( أُناشده فيُعرِض في إباءٍ ... فلا وأَبِي كلابٍ ما أصابا )
الشعر لأمية بن الأسكر الليثي والغناء لعبد الله بن طاهر رمل بالوسطى
صنعه ونسبه إلى لميس جاريته وذكر الهشامي أن اللحن لها وذكره عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في جامع أغانيهم ووقع إلي فقال الغناء فيه للدار الكبيرة وكذلك كان يكني عن أبيه وعن إسحاق بن إبراهيم ابن مصعب وجواريهم ويكني عن نفسه وجاريته شاجي وما يصنع في دور إخوته بالدار الصغيرة

أخبار أمية بن الأسكر ونسبه
هو أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الموت بن زهرة ابن زبينة بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار
شاعر فارس مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان من سادات قومه وفرسانهم وله أيام مأثورة مذكورة
وكان له أخ يقال له أبو لاعق الدم وكان من فرسان قومه وشعرائهم وابنه كلاب بن أمية أيضا أدرك النبي فأسلم مع أبيه ثم هاجر إلى النبي فقال أبوه فيه شعرا ذكر أبو عمرو الشيباني أنه هذا الشعر وهو خطأ إنما خاطبه بهذا الشعر لما غزا مع أهل العراق لقتال الفرس وخبره في ذلك يذكر بعد هذا
قال أبو عمرو في خبره فأمره بصلة أبيه وملازمته طاعته
وكان عمر بن الخطاب استعمل كلابا على الأبلة فكان أبواه ينتابانه يأتيه أحدهما في كل سنة ثم أبطآ عليه وكبرا فضعفا عن لقائه فقال أبياتا وأنشدها عمر فرق له ورده إليهما فلم يلبث معهما إلا مدة حتى

نهشته أفعى فمات وهذا أيضا وهم من أبي عمرو وقد عاش كلاب حتى ولي لزياد الأبله ثم استعفى فأعفاه
وسأذكر خبره في ذلك وغيره ها هنا إن شاء الله تعالى

شعره لابنه كلاب لما طالت غيبته
فأما خبره مع عمر فإن الحسن بن علي أخبرني به قال حدثني الحارث بن محمد قال حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي عن الزبيري عن عروة بن الزبير قال
هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام فقالا الجهاد فسأل عمر فأغزاه في جيش وكان أبوه قد كبر وضعف فلما طالت غيبة كلاب عنه قال
( لِمَن شيخان قد نشدا كلابا ... كتابَ الله إن قَبِل الكتابا )
( أناديه فيُعرض في إباء ... فلا وأبي كلابٍ ما أصابا )
( إذا سجعَتْ حمامةُ بطنِ وادٍ ... إلى بَيْضاتها دعَوَا كلابا )
( أتاه مهاجران تكنّفاه ... ففارق شيخه خَطِئا وخابا )
( تركتَ أباك مُرعَشةً يداه ... وأُمَّك ما تُسيغ لها شرابا )
( تُمَسّح مُهره شفقَاً عليه ... وتجنبُه أبا عرَها الصعابا )

قال تجنبه وتجنبه واحد من قول الله عز و جل ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) قال
( فإنك قد تركت أباك شيخاً ... يطارق أينُقا شُزُبا طِرابا )
( فإنك والتماسَ الأجرِ بَعدي ... كباغي الماء يتّبع السرابا )

شعره في استرحام عمر لاسترداد ابنه
فبلغت أبياته عمر فلم يردد كلابا وطال مقامه فأهتر أميه وخلط جزعا عليه ثم أتاه يوما وهو في مسجد رسول الله وحوله المهاجرون والأنصار فوقف عليه ثم أنشأ يقول
( أعاذلَ قد عذَلْتِ بغير قدرٍ ... ولا تدرِين عاذلَ ما أُلاقي )
( فإمّا كنتِ عاذلتي فَرُدِّي ... كِلاباً إذ توجَّه للعراق )
( ولم أَقضِ اللُّبانة من كِلابٍ ... غداةَ غدٍ وأُذّن بالفِراق )
( فتى الفِتيان في عُسْرٍ ويُسرٍ ... شديدُ الرُّكن في يوم التلاقِي )
( فلا والله ما باليتَ وَجدي ... ولا شفقي عليكَ ولا اشتياقِي )
( وإبقائي عليكَ إذا شتَونا ... وضمَّك تحت بحري واعتناقي )
( فلو فَلق الفؤادَ شَدِيدُ وجْدٍ ... لهَمَّ سوادُ قلبي بانفلاق )
( سأَستعدي على الفاروق ربًّا ... له دُفِعَ الحجيجُ إلى بُساقِ )

( وأدعو الله مجتهداً عليه ... ببطن الأخشبَين إلى دُفاق )
( إنِ الفاروقُ لم يردد كلاباً ... إلى شيخين هامُهما زَواق )
قال فبكى عمر بكاء شديدا وكتب برد كلاب إلى المدينة فلما قدم دخل إليه فقال ما بلغ من برك بأبيك قال كنت أوثره وأكفيه أمره وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحتلب له فأسقيه
فبعث عمر إلى أمية من جاء به إليه فأدخله يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى
فقال له كيف أنت يا أبا كلاب قال كما تراني يا أمير المؤمنين
قال فهل لك من حاجة قال نعم أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت
فبكى عمر ثم قال ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى
ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها ففعل فناوله عمر الإناء وقال دونك هذا يا أبا كلاب
فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال لعمر والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء فبكى عمر وقال هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله وجعل عمر يبكي ومن حضره وقال لكلاب الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما وأمر له بعطائه وصرفه مع أبيه فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه

أصيبت ابله بالهيام فأخرجه قومه
ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري أن أمية كانت له إبل هائمة أي أصابها الهيام وهو داء يصيب الإبل من العطش فأخرجته بنو بكر مخافة أن يصيب إبلهم فقال لهم يا بني بكر إنما هي ثلاث ليال ليلة بالبقعاء وليلة بالفرع وليلة بلقف في سامر من بني بكر فلم ينفعه ذلك وأخرجوه فأتى مزينة فأجاروه وأقام عندهم إلى أن صحت إبله وسكنت فقال يمدح مزينة
( تكنّفها الهُيام وأخرجوها ... فما تأوي إلى إبل صِحاحِ )
( فكان إلى مُزَينةَ منتهاها ... على ما كان فيها من جُناح )
( وما يكن الجُناحُ فإنّ فيها ... خلائقَ ينتمين إلى صلاح )
( ويوما في بني ليث بن بكرٍ ... تُراعى تحت قعقعة الرماح )
( فإمّا أُصبِحَنْ شيخا كبيرا ... وراء الدار يُثقلنِي سلاحي )
( فقد آتي الصريخَ إذا دعاني ... على ذي مَنْعة عَتِدٍ وَقاح )
( وشرُّ أخي مؤامرةٍ خَذولٌ ... على ما كان مؤتِكلٌ ولاح )
عمر حتى خرف وسخر منه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي

عمرو الشيباني عن أبيه وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال عمر أمية بن الأسكر عمرا طويلا حتى خرف فكان ذات يوم جالسا في نادي قومه وهو يحدث نفسه إذ نظر إلى راعي ضأن لبعض قومه يتعجب منه فقام لينهض فسقط على وجهه فضحك الراعي منه واقبل ابناه إليه فلما رآهما أنشأ يقول
( يا بْنَي أمية إني عنكما غانِ ... وما الغنى غير أني مُرعَشٌ فانِ )
( يا بْني أمية إلاّ تحفظا كِبَري ... فإنما أنتما والثُّكلُ سِيّان )
( هل لكما في تُراثٍ تذهبان به ... إن التراث لِهَيّان بنِ بَيّان )
يقال هيان بن بيان وهي ترى للقريب والبعيد
( أصبحت هُزْءاً لراعي الضأن يَسخَر بِي ... ماذا يَربيك مِنِّي راعيَ الضّان )
( أعجَبْ لغيريَ إني تابع سلفي ... أعمامَ مجد وأجدادي وإخواني )
( وانعَقْ بضأنك في أرض تُطِيف بها ... بين الأَساف وأنتجها بِجلْذان )
جلذان موضع بالطائف
( ببلدة لا ينام الكالئان بها ... ولا يقَرُّ بها أصحابُ ألوان )

إعجاب الإمام علي بشعره
وهذه الأبيات تمثل بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في خطبة له على المنبر بالكوفة
حدثنا بها أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري

قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن أبي رجاء قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال قال عبد الله بن عدي بن الخيار
شهدت الحكمين ثم أتيت الكوفة وكانت لي إلى علي عليه السلام حاجة فدخلت عليه فلما رآني قال مرحبا بك يا ابن أم قتال أزائرا جئتنا أم لحاجة فقلت كل جاء بي جئت لحاجة وأحببت أن أجدد بك عهدا وسألته عن حديث فحدثني على ألا أحدث به واحدا
فبينا أنا يوما بالمسجد في الكوفة إذا علي صلوات الله عليه متنكب قرنا له فجعل يقول الصلاة جامعة
وجلس على المنبر فاجتمع الناس وجاء الأشعث بن قيس فجلس إلى جانب المنبر
فلما اجتمع الناس ورضي منهم قال فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم تزعمون أن عندي من رسول الله ما ليس عند الناس ألا وإنه ليس عندي إلا ما في قرني هذا ثم نكت كنانته فأخرج منها صحيفة فيها المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم
من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
فقال له الأشعث بن قيس هذه والله عليك لا لك دعها تترحل فخفض علي صلوات الله عليه إليه بصره وقال ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك ابن حائك منافق ابن منافق كافر ابن كافر
والله لقد

أسرك الإسلام مرة والكفر مرة فما فداك من واحد منهما حسبك ولا مالك ثم رفع إلي بصره فقال يا عبيد الله
( أصبحتُ قِنًّا لراعي الضأن يلعب بي ... ماذا يَريبك منِّي راعيَ الضان )
فقلت بأبي أنت وأمي قد كنت والله أحب أن أسمع هذا منك
قال هو والله ذلك قال
( فما قِيلَ لي من بعدها من مقالة ... ولا عَلِقتْ مني جديدا ولا دَرْسا )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث عن المدائني قال
لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة فكان يغزو مع المسلمين منها مغازيهم وشهد فتوحات كثيرة وبقي إلى أيام زياد فولاه الأبلة فسمع كلاب يوما عثمان بن أبي العاص يحدث أن داود نبي الله عليه السلام كان يجمع أهله في السحر فيقول ادعوا ربكم فإن في السحر ساعة لا يدعو فيها عبد مؤمن إلا غفر له إلا أن يكون عشار أو عريفا
فلما سمع ذلك كلاب كتب إلى زياد فاستعفاه من عمله فأعفاه
قال المدائني ولم يزل كلاب بالبصرة حتى مات والمربعة المعروفة بمربعة كلاب بالبصرة منسوبة إليه
وقال أبو عمرو الشيباني كان بين بني غفار قومه وبني ليث حرب فظفرت بنو ليث بغفار فحالف رحضة بن خزيمة بن خلاف بن حارثة بن

غفار وقومه جميعا بني أسلم بن أفصى بن خزاعة فقال أمية بن الأسكر في ذلك وكان سيد بني جندع بن ليث وفارسهم
( لقد طِبتَ نفساً عن مواليك يا رَحْضا ... وآثرتَ أذناب الشوائل والحمضا )
( تُعللنا بالنّصر في كل شتوة ... وكلّ ربيع أنت رافضنا رفضا )
( فلولا تأسّينا وحدُّ رماحنا ... لقد جلاّ قوم لحمنا تَرِباً قَضَّا )
القض والقضيض الحصا الصغار

تمثل عبد الله بن الزبير بشعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال
افتعل عمرو بن الزبير كتابا عن معاوية إلى مروان بن الحكم بأن يدفع إليه مالا فدفعه إليه فلما عرف معاوية خبره كتب إلى مروان بأن يحبس عمرا حتى يؤدي المال فحبسه مروان وبلغ الخبر عبد الله بن الزبير فجاء إلى مروان وسأله عن الخبر فحدثه به فقال مالكم في ذمتي فأطلق عمرا وأدى عبد الله المال عنه وقال والله إني لأؤديه عنه وإني لأعلم أنه غير شاكر ثم تمثل قول أمية بن الأسكر الليثي
( فلولا تأسّينا وحدّ رماحنا ... لقد جرّ قوم لحمنا تَرِبا قَضّا )
وقال ابن الكلبي حدثنا بعض بني الحارث بن كعب قال

سيدان يخطبان ابنة له جميلة
اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ فقدم أمية بن الأسكر ومعه بنت له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فقالت أم كلاب امرأة أمية من هذان الرجلان قال هذا ابن الديان وهذا عامر بن الطفيل
قالت أعرف ابن الديان ولا أعرف عامرا
قال هل سمعت بملاعب الأسنة قالت نعم والله
قال فهذا ابن أخيه
وأقبل يزيد فقال يا أمية أنا ابن الديان صاحب الكثيب ورئيس

مذحج ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا
قال أمية بخ بخ
فقال عامر جدي الأحزم وعمي أبو الأصبع وعمي ملاعب الأسنة وجدي الرحال وأبي فارس قرزل
قال أمية بخ بخ مرعى ولا كالسعدان فأرسلها
مثلا
فقال يزيد يا عامر هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحه إلى رجل من قومك قال لا قال فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدحهم إلى قومي قال نعم قال فهل لك نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان فقال لا قال فهل ملكناكم ولم تملكونا قال نعم فنهض يزيد وقام ثم قال
( أُميّ يا بنَ الأسكر بنِ مُدلج ... لا تجعلَنْ هوازنا كَمذحِجِ )
( إنك إن تلهج بأمر تلجَجِ ... ما لنّبع في مغرِسه كالعَوْسج )
( ولا الصّريحُ المحضُ كالممزَّج ... )
وقال مرة بن دودان العقيلي وكان عدوا لعامر بن الطفيل

( يا ليت شعري عنك يا يزيدُ ... ماذا الذي من عامر تريدُ )
( لكلّ قوم فخرُهم عتيدُ ... أمُطلَقون نحن أم عبيدُ )
( لا بل عَبيدٌ زادُنا الهَبيد ... )
فزوج أمية يزيد فقال يزيد في ذلك
( يا لَلرجال لطارق الأحزان ... ولِعامر بن طفيلٍ الوسنانِ )
( كانت إتاوةُ قومه لمحرِّق ... زمنا وصارت بعدُ للنعمان )
( عَدّ الفوارسَ من هوازن كلّهَا ... كثَفْا عليّ وجئتُ بالديان )
( فإذا ليَ الفضلُ المبين بوالدٍ ... ضخمِ الدَّسِيعة أزأنيِّ ويمان )
( يا عامِ إنك فارسٌ متهوّرٌ ... غضُّ الشباب أخونَديً وقيان )
( واعلم بأنك يا بن فارس قرْزَل ... دون الذي تسمو له وتُداني )
( ليستْ فوارسُ عامر بمُقِرَّةٍ ... لك بالفضيلة في بني عَيْلان )
( فإذا لقيتَ بني الخميس ومالكا ... وبني الضِّباب وحيَّ آل قنان )
( فاسأل مَنِ المرءُ المُنَوَّه باسمه ... والدافعُ الأعداء عن نَجران )
( يُعطَى المَقادةَ في فوارس قومِه ... كرما لعمرك والكريم يمان )
فقال عامر بن الطفيل مجيبا له
( يا للرجال لطارق الأحزان ... ولِما يجيء به بنو الدّيانِ )
( فخروا عليَّ بِحَبْوة لمحَرِّق ... وإتاوة سلفت من النعمان )
( ما أنت وابنَ محرقٍ وقبيلَه ... وإتاوةَ اللخميِّ في عَيْلان )

( فاقصِد بذَرْعك قَصْد أمرك قصده ... ودعِ القبائل من بني قحطان )
( إذ كان سالفُنا الإتاوة فيهم ... أولى ففخرك فخر كل يمان )
( وافخر بَرِهط بني الحَماس ومالك ... وابن الضِّباب وزعبل وقيان )
( وأنا المنخل وابنُ فارس قُرْزُلٍ ... وأبو نزار زانني ونماني )
( وإذا تعاظمت الأمور موازنا ... كنتُ المنوَّهَ باسمه والثاني )
فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرة بن دودان وقالوا أنت شاعر بني عامر ولم تهج بني الديان فقال
( تكلّفني هوازنُ فخْرَ قومٍ ... يقولون الأنامُ لنا عبيدُ )
( أبوهم مَذْحِج وأبو أبيهم ... إذا ما عُدّت الآباءُ هودُ )
( وهل لي إن فخَرتُ بغير فخر ... مقالٌ والأنام له شهود )
( فإنّا لم نزل لهمُ قطينا ... تجيء إليهمُ منا الوفود )
( فإنّا نضرب الأحلام صفحا ... عن العلياء أو من ذا يكيد )
( فقولوا يا بني عَيلان كنا ... لكم قِنًّا وما عنكم محيد )
وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي والتوليد فيه بين وشعره شعر ركيك غث لا يشبه أشعار القوم
وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي

شعره في يوم المريسيع
وقال محمد بن حبيب فيما روى عنه أبو سعيد السكري ونسخته من كتابه قال أبو عمرو الشيباني
أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن رهط أمية بن

الأسكر يقال لهم بنو زبينة أصابهم أصحاب النبي يوم المريسيع في غزوته بني المصطلق وكانوا جيرانه يومئذ ومعهم ناس من بني لحيان من هذيل ومع بني جندع رجل من خزاعة يقال له طارق فاتهمه بنو ليث بهم وأنه دل عليهم
وكانت خزاعة مسلمها ومشركها يميلون إلى النبي على قريش
فقال أمية بن الأسكر لطارق الخزاعي
( لعمرك إني والخزاعيَّ طارقا ... كنَعجة عادٍ حتفَها تتحفّر )
( أثارت عليها شَفرةً بِكُراعها ... فظلّت بها من آخر الليل تجزَر )
( شَمِتَّ بِقومٍ هم صديقك أُهلِكوا ... أصابهمُ يوم من الدهر أعسر )
( كأنك لم تُنبأ بيوم ذُؤالة ... ويومٍ الرّجيع إذ تنحّر حبتر )
( فهلاّ أباكم في هذيل وعمَّكم ... ثأرتُمْ وهمْ أعدى قلوبا وأوتر )
( ويوم الأراك يوم أُردِف سبيكم ... صميمُ سَراة الدِّيل عبدٌ ويعمرُ )
( وسَعْد بن ليث إذ تُسَلُّ نساؤكم ... وكلب بن عوف نحرّوكم وعقّروا )
( عجبت لشيخ من ربيعةَ مُهْتَرٍ ... أُمِرّ له يومٌ من الدهر منكَر )
فأجابه طارق الخزاعي فقال
( لعمرك ما أدري وإني لقائل ... إلى أيِّ مَن يظُنّني أتعذَّر )

( أُعنَّف أَنْ كانت زبِينة أُهلكت ... ونال بني لحيانَ شرّ ونُفّروا )
وهذه الأبيات الابتداء والجواب تمثل بابتدائها ابن عباس في رسالة إلى معاوية وتمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها
حدثني بذلك أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي العطار بالكوفة قال حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال حدثنا زيد بن المعذل النمري قال حدثنا يحيى بن شعيب الخراز قال حدثنا أبو مخنف قال
لما بلغ معاوية مصاب أمير المؤمنين علي عليه السلام دس رجلا من بني القين إلى البصرة يتجسس الأخبار ويكتب بها إليه فدل على القيني بالبصرة في بني سليم فأخذ وقتل
وكتب ابن عباس من البصرة إلى معاوية
أما بعد فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال الشاعر
) لعمرك إني والخزاعيَّ طارقا ... كنعجة عاد حتفَها تتحفّر )
( أثارت عليها شَفرةً بكُراعها ... فظلّت بها من آخر الليل تُجزَر )
( شمِتَّ بقوم هم صديقك أُهُلكوا ... أصابهمُ يوم من الدهر أمعر )
فأجابه معاوية أما بعد فإن الحسن قد كتب إلي بنحو مما كتبت به وأنبني بما لم أجن ظنا وسوء رأي وإنك لم تصب مثلنا ولكن مثلنا ومثلكم كما قال طارق الخزاعي
( فوالله ما أدري وإني لصادق ... إلى أيِّ من يَظَّنني أتعذر )
( أُعَنّف أَن كانتَ زبينةُ أُهلِكت ... ونال بني لِحيان شرّ ونُفِّروا )

صوت
( أبُنيّ إني قد كبِرتُ ورابني ... بَصري وفيّ لمُصلح مستمتَعُ )
( فلئن كبِرتُ لقد دنوتُ من البلى ... اوحَلَّتْ لكم منَّي خَلائقُ أربع )
عروضه من الكامل والشعر لعبدة بن الطبيب والغناء لابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها عن إسحاق وفيه لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها عنه أيضا

نسب عبدة بن الطبيب وأخباره
هو فيما ذكر ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبو نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعي وأبي عمرو الشيباني وأبي فروة العكلي عبدة بن الطبيب والطبيب اسمه يزيد بن عمرو بن وعلة بن أنس بن عبد الله بن عبد تيم بن جشم بن عبد شمس
ويقال عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم
وقال ابن حبيب خاصة وقد أخبرني أبو عبيدة قال
تميم كلها كانت في الجاهلية يقال لها عبد تيم وتيم صنم كان لهم يعبدونه
أجاد الشعر ولم يكثر
وعبدة شاعر مجيد ليس بالمكثر وهو مخضرم أدرك الإسلام فأسلم وكان في جيش النعمان بن المقرن الذين حاربوا معه الفرس بالمدائن
وقد ذكر ذلك في قصيدته التي أولها
( هل حَبلُ خَوْلةَ بعد الهَجر موصولُ ... أم أنت عنها بَعيدُ الدار مشغولُ )

( حلّت خُويْلة في دارٍ مجاوِرةً ... أهلَ المدينة فيها الديك والفيل )
( يقارعون رؤوس العُجْم ضاحيةً ... منهم فوارس لا عُزْلٌ ولا مِيل )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطبيب
( فما كان قيس هُلْكهُ هُلكَ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما )
وتمام هذه الأبيات أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن السكري والمبرد والأحول لعبدة يرثي قيسا
( عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصم ... ورحمتُه ما شاء أن يترحّما )
( تحيةَ من أوليتَه منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ بلادَك سلَّما )
( وما كان قيس هُلكهُ هلكَ واحد ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما )

كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال
قال رجل لخالد بن صفوان كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال لا تقل ذاك فوالله ما أبى من عي ولكنه كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة كما يرى تركه مروءة وشرفا قال

( وأجرأ من رأيتُ بظَهْر غيبٍ ... على عيب الرجال أولو العيوب )
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه
أي المناديل أشرف فقال قائل منهم مناديل مصر كأنها غرقئ البيض وقال آخرون مناديل اليمن كأنها نور الربيع فقال عبد الملك مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطبيب قال
( لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخبيةٍ ... وفارَ لِلقوم باللحم المراجيلُ )
( وَرْدٌ وأشقرُ ما يؤنيه طابخهُ ... ما غيَّر الغليُ منه فهو مأكول )
( ثُمّتَ قمنا إلى جُرْد مُسوَّمةٍ ... أعرافُهنّ لأيدينا مناديل )
يعني بالمراجيل المراجل فزاد فيها الياء ضرورة

صوت
( إن الليالي أسرعَت في نقضي ... أخذن بعَضِي وتركن بعِضي )
( حَنَيْنَ طُولي وطَوَين عَرْضي ... أقعدْنني مِن بعد طول نهض )
عروضه من الرجز الشعر للأغلب العجلي والغناء لعمرو بن بانة هزج بالبنصر

أخبار الأغلب ونسبه
هو فيما ذكر ابن قتيبة الأغلب بن جشم بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
وهو أحد المعمرين عمر في الجاهلية عمرا طويلا وأدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه وهاجر ثم كان فيمن توجه إلى الكوفة مع سعد ابن أبي وقاص فنزلها واستشهد في وقعة بنهاوند فقبره هناك في قبور الشهداء
هو أول من رجز الأراجيز من العرب
ويقال إنه أول من رجز الأراجيز الطوال من العرب وإياه عنى الحجاج بقوله مفتخرا
( إني أنا الأغلب أَمسى قد نشد ... )

قال ابن حبيب كانت العرب تقول الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة وما جرى هذا المجرى فتأتِي منه بأبيات يسيرة فكان الأغلب أول من قصد الرجز ثم سلك الناس بعده طريقته
أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلينا قال أخبرنا محمد بن سلام قال حدثنا الأصمعي
وأخبرنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا معمر بن عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء قال
كانت للأغلب سرحة يصعد عليها ثم يرتجز
( قد عرَفَتْني سَرْحتي فأطَّتِ ... وقد شَمِطتُ بعدها واشمطَّتِ )
فاعترضه رجل من بني سعد ثم أحد بني الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعد فقال له

أنشد من شعر الجاهلية فأنقص عمر عطاءه
( قَبُحتَ من سالِفةٍ ومن قفا ... عبدٌ إذا ما رسب القوم طفا )
( كما شِرار الرِّعْي أطرافُ السّفَى ... )

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال حدثني نصر بن ناب عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال
كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن اشتنشد من قبلك من شعراء قومك ما قالوا في الإسلام فأرسل إلى الأغلب العجلي فاستنشده
فقال ( لقد سألتَ هيِّنا موجودا ... أرجَزاً تريد أم قصيدا )
ثم أرسل إلى لبيد فقال له إن شئت مما عفا الله عنه يعني الجاهلية فعلت
قال لا أنشدني ما قلت في الإسلام
فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة وقال أبدلني الله عز و جل بهذه في الإسلام مكان الشعر
فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص عمر من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد فكتب إلى عمر يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة
أخبرني محمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال

حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا علي بن القاسم عن الشعبي قال
دخل الأغلب على عمر فلما رآه قال هيه أنت القائل
( أرجزاً تريد أم قصيدَا ... لقد سألتَ هيّنا موجوداا )
فقال يا أمير المؤمنين إنما أطعتك فكتب عمر إلى المغيرة أن أردد عليه الخمس المائة وأقر الخمس المائة للبيد

شعره في سجاح حين تزوجت مسيلمة الكذاب
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال الأغلب العجلي في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب
( لقد لقيتْ سجاح من بعد العمى ... مُلَوَّحا في العين مجلود القَرا )
( مثل العَتيق في شبابٍ قد أتى ... من اللُّجَيْميّين أصحابِ القِرَى )
( ليس بذي واهنة ولا نَسا ... نشا بلحم وبخبز ما اشترى )

( حتى شتا يَنتح ذِفراه الندى ... خاظى البضيع لحمهُ خظابظا )
( كأنما جمَّع من لحم الخُصى ... إذا تمطَّى بين بُرديه صأى )
( كأنَّ عِرق أيره إذا ودى ... حَبلُ عجوز ضَفَّرت سبعَ قُوى )
( يمشي على قوائمٍ خمس زَكا ... يرفع وُسطاهنّ من بَرد النَّدى )
( قالت متى كنت أبا الخير متى ... قال حديثا لم يغيِّرني البِلى )
( ولم أفارق خُلَّة لي عن قِلَى ... فانتُسفَتْ فَيشتُه ذاتُ الشَّوى )
( كأن في أجلادها سبعَ كُلَى ... ما زال عنها بالحديث والمُنى )
( والخلُقِ السَّفسافِ يُردِي في الردى ... قال ألا تَرينَه قالت أرى )
( قال ألا أدخله قالت بلى ... فشام فيها مثلَ محراث الغضى )
( يقول لما غاب فيها واستوى ... لمِثلها كنتُ أُحسِّيك الحَسا )

من أخبار سجاح
وكان من خبر سجاح وادعائها النبوة وتزويج مسيلمة الكذاب إياها ما أخبرنا به إبراهيم بن النسوي يحيى عن أبيه عن شعيب عن سيف

أن سجاح التميمية ادعت النبوة بعد وفاة رسول الله واجتمعت عليها بنو تميم فكان فيما ادعت أنه أنزل عليها يأيها المؤمنون المتقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون
واجتمعت بنو تميم كلها إليها لتنصرها
وكان فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن بدر ووجوه تميم كلها
وكان مؤذنها شبيب بن ربعي الرياحي فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذاب وهو باليمامة وقالت يا معشر تميم اقصدوا اليمامة فاضربوا فيها كل هامة وأضرموا فيها نارا ملهامة حتى تتركوها سوداء كالحمامة
وقالت لبني تميم إن الله لم يجعل هذا الأمر في ربيعة وإنما جعله في مضر فاقصدوا هذا الجمع فإذا فضضتموه كررتم على قريش
فسارت في قومها وهم الدهم الداهم
وبلغ مسيلمة خبرها فضاق بها ذرعا وتحصن في حجر حصن اليمامة
وجاءت في جيوشها فأحاطت به فأرسل إلى وجوه قومه وقال ما ترون قالوا نرى أن نسلم هذا الأمر إليها وتدعنا فإن لم نفعل فهو البوار
وكان مسيلمة ذا دهاء فقال سأنظر في هذا الأمر
ثم بعث إليها إن الله تبارك وتعالى أنزل عليك وحيا وأنزل علي
فهلمي نجتمع فنتدارس ما أنزل الله علينا فمن عرف الحق تبعه واجتمعنا فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك

فبعثت إليه أفعل فأمر بقبة أدم فضربت وأمر بالعود المندلي فسجر فيها وقال أكثروا من الطيب والمجمر فإن المرأة إذا شمت رائحة الطيب ذكرت الباه ففعلوا ذلك
وجاءها رسوله يخبرها بأمر القبة المضروبة للاجتماع فأتته فقالت هات ما أنزل عليك
فقال ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نطفة تسعى بين صفاق وحشا من بين ذكر وأنثى وأموات وأحيا ثم إلى ربهم يكون المنتهى
قالت وماذا قال ألم تر أن الله خلقنا أفواجا وجعل النساء لنا أزواجا فنولج فيهن الغراميل إيلاجا ونخرجها منهن إذا شئن إخراجا
قالت فبأي شيء أمرك قال
( ألا قومي إلى النَّيكِ ... فقد هُيِّي لك المضجعْ )
( فإن شئتي ففي البيت ... وإن شئتي ففي المُخدعْ )
( وإن شئتي سلقناك ... وإن شئتي على أربعْ )
( وإن شئتي بثلثيه ... وإن شئتي به أجمعْ )
قال فقالت لا إلا به أجمع
قال فقال كذا أوحى الله إلي فواقعها
فلما قام عنها قالت إن مثلي لا يجري أمرها هكذا فيكون وصمة على قومي وعلي ولكني مسلمة النبوة إليك فاخطبني إلى أوليائي يزوجوك ثم أقود تميما معك

فخرج وخرجت معه فاجتمع الحيان من حنيفة وتميم فقالت لهم سجاح إنه قرأ علي ما أنزل عليه فوجدته حقا فاتبعته ثم خطبها فزوجوه إياها وسألوه عن المهر فقال قد وضعت عنكم صلاة العصر فبنو تميم إلى الآن بالرمل لا يصلونها ويقولون هذا حق لنا ومهر كريمة منا لا نرده
قال وقال شاعر من بني تميم يذكر أمر سجاح في كلمة له
( أضحَتْ نَبِيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياءُ الله ذُكْرانا )
قال وسمع الزبرقان بن بدر الأحنف يومئذ وقد ذكر مسيلمة وما تلاه عليهم فقال الأحنف والله ما رأيت أحمق من هذا النبي قط فقال الزبرقان والله لأخبرن بذلك مسيلمة
قال إذا والله أحلف أنك كذبت فيصدقني ويكذبك
قال فأمسك الزبرقان وعلم أنه قد صدق
قال وحدث الحسن البصري بهذا الحديث فقال أمن والله أبو بحر من نزول الوحي
قال فأسلمت سجاح بعد ذلك وبعد قتل مسيلمة وحسن إسلامها

صوت
( كم ليلةٍ فيكِ بِتُّ أسهرها ... ولوعةٍ من هواك أُضمِرُها )
( وحُرقةٍ والدموعُ تُطفئها ... ثم يعود الجوى فيُسعِرها )

( بيضاء رُود الشباب قد غُمسَت ... في خَجل دائب يعصفرها )
( الله جارٌ لها فما امتلأَت ... عيناي إلا من حيثُ أُبصرُها )
الشعر للبحتري والغناء لعريب رمل مطلق من مجموع أغانيها وهو لحن مشهور في أيدي الناس والله أعلم

أخبار البحتري ونسبه
هو الوليد بن عبيد الله بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عثمة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيىء بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
هجاؤه جيد على ندرته
ويكنى أبا عبادة شاعر فاضل فصيح حسن المذهب نقي الكلام مطبوع كان مشايخنا رحمة الله عليهم يختمون به الشعراء وله تصرف حسن فاضل نقي في ضروب الشعر سوى الهجاء فإن بضاعته فيه نزرة وجيده منه قليل
وكان ابنه أبو الغوث يزعم أن السبب في قلة بضاعته في هذا الفن أنه لما حضره الموت دعا به وقال له اجمع كل شيء قلته في الهجاء
ففعل فأمره بإحراقه ثم قال له يا بني هذا شيء قلته في وقت فشفيت به غيظي وكأفات به قبيحا فعل بي وقد انقضى أربي في ذلك وإن بقي روي وللناس أعقاب يورثونهم العداء والمودة

وأخشى أن يعود عليك من هذا شيء في نفسك أو معاشك لا فائدة لك ولي فيه قال فعلمت أنه قد نصحني وأشفق علي فأحرقته
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي الغوث
وهذا كما قال أبو الغوث لا فائدة لك ولا لي فيه لأن الذي وجدناه وبقي في أيدي الناس من هجائه أكثره ساقط مثل قوله في ابن شير زاد
( نفقْتَ نُفُوق الحمار الذّكَرْ ... وبان ضُراطُك عنا فمرْ )
ومثل قوله في علي بن الجهم
( ولو أعطاك ربُّك ما تمَنَّى ... لزادك منه في غِلَظ الأيورِ )
( عَلامَ طَفِقْت تهجوني مليًّا ... بما لفقّت من كذبٍ وزُورِ )
وأشباه لهذه الأبيات ومثلها لا يشاكل طبعه ولا تليق بمذهبه وتنبيء بركاكتها وغثاثة ألفاظها عن قلة حظه في الهجاء وما يعرف له هجاء جيد إلا قصيدتان إحداهما قوله في ابن أبي قماش
( مرّت على عَزْمِها ولم تقفِ ... مُبدِيةً للشِّنان والشَّنَفِ )
يقول فيها لابن أبي قماش

( قد كان في الواجب المُحقَّق أن ... تعرف ما في ضميرها النّطفِ )
( بما تَعاطيتَ في العيوب وما ... أُوتِيت من حكمة ومن لَطَفِ )
( أمَا رأيت المرّيخَ قد مازج الزّهرة في الجدّ منه والشّرَفِ )
( وأخبرتك النّحوسُ أنكما ... في حالتي ثابت ومُنْصَرَف )
( من أين أعلمت ذا وأنت على ... التَّقْويم والزِّيج جِدّ مُنْعكفِ )
( أما زجرتَ الطّير العلا أو تَعَيَّفْت ... المها اَو نظرت في الكَتِفِ )
( رذُلت في هذه الصناعةِ أو ... أكديتَ أو رمتَها على الخَرَفِ )
( لم تَخْطُ باب الدّهليز منصرِفاً ... إلا وخَلخالُها مع الشَّنَفِ )
وهي طويلة ولم يكن مذهبي ذكرها إلا للإخبار عن مذهبه في هذا الجنس وقصيدته في يعقوب بن الفرج النصراني فإنها وإن لم تكن في أسلوب هذه وطريقتها تجري مجرى التهكم باللفظ الطيب الخبيث المعاني وهي
( تظنّ شُجُونِيَ لم تَعْتَلِجْ ... وقد خلج البَيْنُ من قد خَلَجْ )
وكان البحتري يتشبه بأبي تمام في شعره ويحذو مذهبه وينحو نحوه في البديع الذي كان أبو تمام يستعمله ويراه صاحبا وإماما ويقدمه على نفسه ويقول في الفرق بينه وبينه قول منصف إن جيد أبي تمام خير من جيده ووسطه ورديئه خير من وسط أبي تمام ورديئه وكذا حكم هو على نفسه

من أشعر هو أو أبو تمام
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن علي الياقطاني قال
قلت للبحتري أيما أشعر أنت أو أبو تمام فقال جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني أبو الغوث يحيى بن البحتري قال
كان أبي يكنى أبا الحسن وأبا عبادة فأشير علي في أيام المتوكل بأن أقتصر على أبي عبادة فإنها أشهر فاقتصرت عليها
حدثني محمد قال
سمعت عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري وقد اجتمعنا في دار عبد الله بالخلد وعنده المبرد في سنة ست وسبعين ومائتين وقد أنشد البحتري شعرا لنفسه قد كان أبو تمام قال في مثله أنت والله أشعر من أبي تمام في هذا الشعر قال كلا والله إن أبا تمام للرئيس والأستاذ والله ما أكلت الخبز إلا به فقال له المبرد لله درك يا أبا الحسن فإنك تأبى إلا شرفا من جميع جوانبك
حدثني محمد قال حدثني الحسين بن إسحاق قال
قلت للبحتري إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام فقال والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت أن الأمر كان كما قالوا ولكني والله تابع له آخذ منه لائذ به نسيمي يركد عند هوائه وأرضي تنخفض عند سمائه
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني سوار بن أبي شراعة عن

البحتري قال وحدثني أبو عبد الله الألوسي عن علي بن يوسف عن البحتري قال
كان أول أمري في الشعر ونباهتي أني صرت إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم فأقبل علي وترك سائر من حضر فلما تفرقوا قال لي أنت أشعر من أنشدني فكيف بالله حالك فشكوت خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق بالشعر وشفع لي إليهم وقال امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم فكانت أول مال أصبته
وقال علي بن يوسف في خبره فكانت نسخة كتابه يصل كتابي هذا على يد الوليد أبي عبادة الطائي هو على بذاذته شاعر فأكرموه
حدثني جحظة قال سمعت البحتري يقول كنت أتعشق غلاما من أهل منبج يقال له شقران واتفق لي سفر فخرجت فيه فأطلت الغيبة ثم عدت وقد التحى فقلت فيه وكان أول شعر قلته
( نبَتَتْ لِحْيةُ شُقرانَ ... شَقِيقِ النَّفْسِ بَعْدِي )
( حُلِقت كيف أتته ... قبل أن يُنجِزَ وعدِي )

كيف تم التعارف بينه وبين أبي تمام
وقد روي في غير هذه الحكاية أن اسم الغلام شندان
حدثني علي بن سليمان قال حدثني أبو الغوث بن البحتري عن

أبيه وحدثني عمي قال حدثني علي بن العباس النوبختي عن البحتري وقد جمعت الحكايتين وهما قريبتان قال
أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي
( أأفاق صبٌّ من هَوًى فاُفِيقَا ... أو خان عهداً أو أطاع شفيقا )
فسر بها أبو سعيد وقال أحسنت والله يا فتى وأجدت قال وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه فوق كل من حضر عنده تكاد تمس ركبته ركبته فأقبل علي ثم قال يا فتى أما تستحي مني هذا شعر لي تنتحله وتنشده بحضرتي فقال له أبو سعيد أحقا تقول قال نعم وإنما علقه مني فسبقني به إليك وزاد فيه ثم اندفع فأنشد أكثر هذه القصيدة حتى شككني علم الله في نفسي وبقيت متحيرا فأقبل علي أبو سعيد فقال يا فتى قد كان في قرابتك منا وودك لنا ما يغنيك عن هذا فجعلت أحلف له بكل محرجة من الأيمان أن الشعر لي ما سبقني إليه أحد ولا سمعته منه ولا انتحلته فلم ينفع ذلك شيئا وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتى تمنيت أني سخت في الأرض فقمت منكسر البال أجر رجلي فخرجت فما هو إلا أن بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان فردوني فأقبل علي الرجل فقال الشعر لك يا بني والله ما قلته قط ولا سمعته إلا منك ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك ولوددت ألا تلد أبدا طائية إلا مثلك وجعل أبو سعيد يضحك ودعاني أبو تمام وضمني إليه وعانقني وأقبل

يقرظني ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به هذه رواية من ذكرت
وقد حدثني علي بن سليمان الأخفش أيضا قال حدثني عبد الله بن الحسين بن سند القطربلي
أن البحتري حدثه أنه دخل على أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري وقد مدحه بقصيدة وقصده بها فألفى عنده أبا تمام وقد أنشده قصيدة له فيه فاستأذنه البحتري في الإنشاد وهو يومئذ حديث السن فقال له يا غلام أتنشدني بحضرة أبي تمام فقال تأذن ويستمع فقام فأنشده إياها وأبو تمام يسمع ويهتز من قرنه إلى قدمه استحسانا لها فلما فرغ منها قال أحسنت والله يا غلام فممن أنت قال من طيء فطرب أبو تمام وقال من طيء الحمد لله على ذلك لوددت أن كل طائية تلد مثلك وقبل بين عينيه وضمه إليه وقال لمحمد بن يوسف قد جعلت له جائزتي فأمر محمد بها فضمت إلى مثلها ودفعت إلى البحتري وأعطى أبا تمام مثلها وخص به وكان مداحا له طول أيامه ولابنه بعده ورثاهما بعد مقتليهما فأجاد ومراثيه فيهما أجود من مدائحه وروي أنه قيل له في ذلك فقال من تمام الوفاء أن تفضل المراثي المدائح لا كما قال الآخر وقد سئل عن ضعف مراثيه فقال كنا نعمل للرجاء نحن نعمل اليوم للوفاء
وبينهما بعد
حدثني حكم بن يحيى الكنتحي قال

بعض من صفاته
كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة وأبخلهم على كل شيء وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا ويقول كلا أجاع الله أكبادكما وأعرى أجلادكما وأطال إجهادكما
قال حكم بن يحيى وأنشدته يوما من شعر أبي سهل بن نوبخت فجعل يحرك رأسه فقلت له ما تقول فيه فقال هو يشبه مضغ الماء ليس له طعم ولا معنى
وحدثني أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني الكاتب قال
دخلت على البحتري يوما فاحتبسني عنده ودعا بطعام له ودعاني إليه فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا أعرفه فدعاه إلى الطعام فتقدم وأكل معه أكلا عنيفا فغاظه ذلك والتفت إلي فقال لي أتعرف هذا الشيخ فقلت لا قال هذا شيخ من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر
( وبَنو الهُجَيْم قبيلةٌ مَلْعونةٌ ... حُصُّ اللِّحى مُتشابهو الأَلْوانِ )
( لو يسمعون بأكلة أو شَرْبة ... بعُمانَ أصبح جَمعُهم بُعمانِ )
قال فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك
وحدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال

اجتازت جارية بالمتوكل معها كوز ماء وهي أحسن من القمر فقال لها ما اسمك
قالت برهان قال ولمن هذا الماء قالت لستي قبيحة قال صبيه في حلقي فشربه عن آخره ثم قال للبحتري قل في هذا شيئا فقال البحتري
( ما شَرْبَةٌ من رَحِيق كأسُها ذَهَبٌ ... جاءت بها الحُورُ من جَنَّات رِضْوان )
( يوما بأطيبَ من ماءٍ بلا عَطَش ... شربتُه عبثاً من كف بُرْهان )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش وأحمد بن جعفر جحظة
قالا حدثنا أبو الغوث بن البحتري قال
كتبت إلى أبي يوما أطلب منه نبيذا فبعث إلي بنصف قنينة دردي وكتب إلي دونكها يا بني فإنها تكشف القحط وتضبط الرهط
قال الأخفش وتقيت الرهط

خبره مع أحمد بن علي الإسكافي
حدثني أبو الفضل عباس بن أحمد بن ثوابة قال
قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الإسكافي مادحا له فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدته عنده فهجاه بقصيدته التي يقول فيها
( ما كسبنا من أحمدَ بنِ عَلِيٍّ ... ومن النَّيلِ غيرَ حُمَّى النَّيلِ )

وهجاه بقصيدة أخرى أولها
( قِصَّةُ النّيلِ فاسمعوهَا عُجابَه ... )
فجمع إلى هجائه إياه هجاء أبي ثوابة وبلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم وثياب ودابة بسرجها ولجامها فرده إليه وقال قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول رفدكم فكتب إليه أبي أما الإساءة فمغفورة وأما المعذرة فمشكورة والحسنات يذهبن السيئات وما يأسو جراحك مثل يدك
ولقد رددت إليك ما رددته علي وأضعفته فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا
فقبل ما بعث به وكتب إليه كلامك والله أحسن من شعري وقد أسلفتني ما أخجلني وحملتني ما اثقلني وسيأتيك ثنائي
ثم غدا إليه بقصيدة أولها
( ضَلالٌ لها ماذا أرادت إلى الصّد ... )
وقال فيه بعد ذلك
( برقٌ أضاء العقيقَ من ضَرَمِه ... )
وقال فيه أيضا
( دانٍ دعا داعي الصَّبا فأجابَهْ )
قال ولم يزل أبي يصله بعد ذلك ويتابع بره لديه حتى افترقا

شعره في نسيم غلامه
أخبرني جحظة قال
كان نسيم غلام البحتري الذي يقول فيه

( دَعا عَبْرتي تجرِي على الجَور والقصد ... ظنُّ نسيماً قارفَ الهمَّ من بعدي )
( خلاَ ناظِري من طيفِه بعد شخصِه ... فيا عجبا للدَّهْر فقدٌ على فَقْدِ )
غلاما روميا ليس بحسن الوجه وكان قد جعله بابا من أبواب الحيل على الناس فكان يبيعه ويعتمد أن يصيره إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب فإذا حصل في ملكه شبب به وتشوقه ومدح مولاه حتى يهبه له فلم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم فكفي الناس أمره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال
كتب البحتري إلى أبي محمد بن علي القمي يستهديه نبيذا فبعث إليه نبيذا مع غلام له أمرد فجمشه البحتري فغضب الغلام غضبا شديدا دل البحتري على أنه سيخبر مولاه بما جرى فكتب إليه
( أبا جعفرٍ كان تَجْمِيشُنا ... غلامَك إحدى الهَنات الدَّنِيّهْ )
( بعثتَ إلينا بشمس المُدامِ ... تضيء لنا مع شمس البُرِيّهْ )
( فليت الهديّة كان الرّسول ... وليتَ الرسولَ إلينا الهَدِيّهْ )
فبعث إليه محمد بن علي الغلام هدية فانقطع البحتري عنه بعد ذلك مدة خجلا مما جرى فكتب إليه محمد بن علي
( هجرتَ كأنّ البِرّ أعقب حِشمَةً ... ولم أرَ وَصْلاً قبل ذا أعقب الهَجْرا )
فقال فيه قصيدته التي أولها

( فتى مَذْحج عَفْواً فتى مذحجٍ غُفْرا )
وهي طويلة
وقال فيه أيضا
( أمواهبٌ هاتيك أم أَنواءُ ... هُطُلٌ وأخذٌ ذَاكَ أم إعطاءُ )
( إن دَامَ ذا أو بَعضُ ذا من فعل ذا ... ذهب السخاءُ فلا يُعَدُّ سَخاءُ )
( ليس الذي حلّت تمِيمٌ وسْطَه الدّهناء ... لكن صدرُكَ الدهناءُ )
( ملك أغرّ لآل طَلحة مَجدُه ... كفّاه بحرُ سماحةٍ وسماءُ )
( وشريف أشراف إذا احتكَّت بهم ... جُرْبُ القبائل أحسنوا وأساءوا )
( أمحمدُ بنَ عليَّ اسمَعْ عُذْرَةً ... فيها شفاءٌ للمُسيء ودَاءُ )
( مالي إذا ذُكِر الكرامُ رأيتُني ... مالي مع النّفر الكرام وَفاءُ )
( يضفو عليَّ العَذْلُ وهو مُقاربٌ ... ويَضيق عني العُذْرُ وهْو فَضاءُ )
( إنّي هجرتُك إذ هجرتُك حِشْمةً ... لا العَوْدُ يُذهِبُها ولا الإِبداءُ )
( أخجلتَني بَنَدى يديْك فسَّودَت ... ما بيننا تلك اليدُ البَيضاءُ )
( وقطعَتني بالبرّ حتى إنّني ... متوهّم أن لا يكون لقاءُ )
( صِلَةٌ غَدَت في الناس وَهْي قطِيعَةٌ ... عجباً وبِرٌّ راح وَهْو جَفاء )
( ليواصِلنَّك رَكْبُ شِعريَ سائرا ... تُهدَى به في مدحك الأَعداءُ )
( حتى يتمّ لك الثّناءُ مُخَلَّداً ... أبداً كما دامت لك النّعماء )
( فتظلَّ تَحسُدك الملوكُ الصيدُ بي ... وأظَلَّ يحْسدُني بك الشُّعراء )

مات في السكتة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال سألني القاسم بن عبيد الله عن

خبر البحتري وقد كان أسكت ومات من تلك العلة فأخبرته بوفاته وأنه مات في تلك السكتة فقال ويحه رمي في أحسنه
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن علي الأنباري قال
سمعت البحتري يقول أنشدني أبو تمام يوما لنفسه
( وسابحٍ هطل التَّعداء هَتّان ... على الجراء أمِينٍ غير خوَّانِ )
( أظْمى الفصُوصِ ولم تظمأ قوائِمهُ ... فخلِّ عينيك في ظمآنَ رَيّانِ )
( فلو تراه مُشِيحا والحصى زِيَمٌ ... بين السّنابك من مثنًى وؤُحدان )
( أيقنتَ إنْ لم تثَبَّتْ أنّ حافَره ... من صَخْر تَدْمُر أو من وَجْه عثمان )
ثم قال لي ما هذا الشعر قلت لا أدري قال هذا هو المستطرد أو قال الاستطراد
قلت وما معنى ذلك قال يريك أنه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان وقد فعل البحتري ذلك فقال في صفة الفرس
( ما إن يَعافُ قَذًى ولو أوردتَه ... يوماً خلائقَ حَمْدَوَيْهِ الأَحول )
وكان حمدويه الأحول عدوا لمحمد بن علي القمي الممتدح بهذه القصيدة فهجاه في عرض مدحه محمدا
والله أعلم

رأي أبي تمام في شاعريته
حدثني علي بن سليمان الأخفش
قال حدثني أبو الغوث بن البحتري قال حدثني أبي قال قال لي أبو تمام بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا فيما مدحتهم به فأنشدني شيئا منه فأنشدته بعض ما قلته فيهم فقال لي كم أعطوك فقلت كذا وكذا فقال ظلموك والله ما وفوك حقك فلم استكثرت ما دفعوه إليك والله لبيت منها خير مما أخذت ثم أطرق قليلا ثم قال لعمري لقد استكثرت ذلك واستكثر لك لما مات الناس وذهب الكرام وغاضت المكارم فكسدت سوق الأدب أنت والله يا بني أمير الشعراء غدا بعدي فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه وقلت له والله لهذا القول أسر إلى قلبي وأقوى لنفسي مما وصل إلي من القوم
حدثني محمد بن يحيى عن الحسن بن علي الكاتب قال قال لي البحتري أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري فتمثل ببيت أوس بن حجر
( إذا مُقرَمٌ منا ذرا حدُّ نابِه ... تخمَّطَ فينا نابُ آخَر مُقرَمِ )
ثم قال لي نعيت والله إلي نفسي فقلت أعيذك بالله من هذا القول فقال إن عمري لن يطول وقد نشأ في طيء مثلك أما علمت أن خالد

ابن صفوان رأى شبيب بن شيبة وهو من رهطه يتكلم فقال يا بني لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قط إلا مات من قبله فقلت له بل يبقيك الله ويجعلني فداءك
قال ومات أبو تمام بعد سنة

شعره في المتوكل
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال كنت عند المتوكل والبحتري ينشده
( عن أيّ ثغر تبتَسِمْ ... وبأيّ طرفٍ تحتكمْ )
حتى بلغ إلى قوله
( قل للخلِيفَة جعفر المتوكّلِ ... بنِ المعتصم )
( المُبْتدِي للمُجْتَدِي ... والمنعِم بنِ المُنْتقِم )
( اسلَمْ لدِينِ محمدٍ ... فإذا سلمتَ فقد سَلِمْ )
قال وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا ومرة القهقرى ويهز رأسه مرة ومنكبيه أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت والله ثم يقبل على المستمعين فيقول ما لكم لا تقولون أحسنت هذا والله ما لا يحسن أحد

أن يقول مثله فضجر المتوكل من ذلك وأقبل علي وقال أما تسمع يا صيمري ما يقول فقلت بلى يا سيدي فمرني فيه بما أحببت فقال بحياتي اهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه فقلت تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول فدعا بدواة وقرطاس وحضرني على البديهة أن قلت

المتوكل يأمر الصيمري أن يهجوه
( أدخلتَ رأسك في الرّحم ... وعلمتَ أنّك تنهَزمْ )
( يا بحتريُّ حَذارِ وَيْحَك ... من قُضاقِضةٍ ضُغُم )
( فلقد أَسلْتَ بواديَيْك ... من الهِجا سَيْلَ العَرِمْ )
( فبأيِّ عِرْضٍ تَعتصمْ ... وبَهْتِكه جَفَّ القَلَمْ )
( والله حِلْفَةً صادقٍ ... وبقبرِ أحمد والحرَمْ )
( وبحقّ جعفرٍ الإمامِ ... ابن الإمام المعتَصِمْ )
( لأصَيّرنَّك شُهرةً ... بين المَسيِل إلى العَلَمْ )
( حَيّ الطّلول بذي سلَمْ ... حيث الأراكةُ والخِيَمْ )
( يا بنَ الثَّقِيلَة والثقيل ... على قُلوبِ ذَوِي النّعَم )
( وعلى الصغير مع الكبير ... من المَوالي والحَشَمْ )
( في أي سَلْح ترتطمْ ... وبأيّ كفّ تلتقِمْ )
( يا بنَ المُباحةِ للورَى ... أمن العفاف أم التُّهَم )
( إذ رَحْلُ أختك للعَجَم ... وفراشُ أمّك في الظُّلَم )

( وبباب دَارِك حانَةٌ ... في بَيْتِه يُؤْتَى الحَكَمْ )
قال فغضب وخرج يعدو وجعلت أصيح به
( أدخلت رأسك في الرّحِمْ ... وعلمتَ أنّك تَنْهَزِم )
والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عن عينه
هكذا حدثني جحظة عن أبي العنبس
ووجدت هذه الحكاية بعينها بخط الشاهيني حكاية عن أبي العنبس فرأيتها قريبة اللفظ موافقة المعنى لما ذكره جحظة والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس قال هذه الأبيات ارتجالا وكان واقفا خلف البحتري فلما ابتدأ وأنشد قصيدته
( عن ايّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْف تحتكِم )
صاح به أبو العنبس من خلفه
( في أيّ سَلْح ترتَطِم ... وبأيّ كَفٍّ تَلْتَقِمْ )
( أدخلتَ رأسَك في الرّحِم ... وعلمتَ أنك تنهزِمْ )
فغضب البحتري وخرج فضحك المتوكل حتى أكثر وأمر لأبي العنبس بعشرة آلاف درهم والله أعلم
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن يحيى الصولي وحدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون عن أبيه قال وحدثني يحيى بن علي عن أبيه
أن البحتري أنشد المتوكل وأبو العنبس الصيمري حاضر قصيدته
( عن أيّ ثَغْر تَبْتَسم ... وبأيّ طَرْف تحتكم )
إلى آخرها وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به فإذا فرغ من القصيدة رد البيت الأول فلما رده بعد فراغه منها
وقال

( عن أيّ ثغر تبتسم ... وبأيّ طرف تحتكم )
قال أبو العنبس وقد غمزه المتوكل أن يولع به
( في أي سَلْحٍ تَرْتَطِم ... وبأي كفٍّ تَلْتَقمْ )
( أدخلت رأسك في الرّحم ... وعلمتَ أنّك تَنْهَزِمْ )
فقال نصف البيت الثاني فلما سمع البحتري قوله ولى مغضبا فجعل أبو العنبس يصيح به
( وعلمتَ أنك تنهزم ... )
فضحك المتوكل من ذلك حتى غلب وأمر لأبي العنبس بالصلة التي أعدت للبحتري
قال أحمد بن زياد فحدثني أبي قال
جاءني البحتري فقال لي يا أبا خالد أنت عشيرتي وابن عمي وصديقي وقد رأيت ما جرى علي أفتأذن لي أن أخرج إلى منبج بغير إذن فقد ضاع العلم وهلك الأدب فقلت لا تفعل من هذا شيئا فإن الملوك تمزح بأعظم مما جرى ومضيت معه إلى الفتح فشكا إليه ذلك فقال له نحوا من قولي ووصله وخلع عليه فسكن إلى ذلك

الصيمري يصر على هجائه بعد موت المتوكل
حدثني جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال
لما قتل المتوكل قال أبو العنبس الصيمري

( يا وحشةَ الدنيا على جَعْفَرٍ ... على الهمام الملك الأزْهرِ )
( على قتيلٍ من بني هاشمٍ ... بين سرير المُلْك والمِنْبَرِ )
( واللّهِ ربّ البَيْتِ والمَشْعَر ... والله أن لو قُتِل البُحْتُرِي )
( لثارَ بالشّام له ثائِرٌ ... في ألف نَغْلٍ من بني عَضْ خَرى )
( يقدُمهم كُلُّ أخي ذِلّة ... على حمارٍ دابِرٍ أعورِ )
فشاعت الأبيات حتى بلغت البحتري فضحك ثم قال هذا الأحمق يرى أني أجيبه على مثل هذا فلو عاش امرؤ القيس فقال من كان يجيبه

ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة
منزلتها في الغناء والشعر والخط
كانت عريب مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب وإتقان الصنعة والمعرفة بالنعم والأوتار والرواية للشعر والأدب لم يتعلق بها أحد من نظرائها ولا رئي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن على قلة عددهن نظير لها وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في

قصور الخلافة وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه عيش الحجاز والنش بين العامة والعرب الجفاة ومن غلظ طبعه وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره
أخبرني محمد بن خلف وكيع عن حماد بن إسحاق قال قال لي أبي
ما رأيت امرأة أضرب من عريب ولاأحسن صنعة ولا أحسن وجها ولا أخف روحا ولا أحسن خطابا ولا أسرع جوابا ولا ألعب بالشطرنج والنرد ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها
قال حماد فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي فقال صدق أبو محمد هي كذلك قلت أفسمعتها قال نعم هناك يعني في دار المأمون قلت أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق فقال يحيى هذه مسألة الجواب فيها على أبيك فهو أعلم مني بها فأخبرت بذلك أبي فضحك ثم قال ما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي قال
قال لي إسحاق كانت عندي صناجة كنت بها معجبا واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذ أتاني إنسان يدق الباب دقا شديدا فقلت أنظروا من هذا فقالوا رسول أمير المؤمنين فقلت ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إلي فيها
فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مثخن فدخلت فسلمت فرد علي السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال لي اسكن فسكنت فقال

لي غن صوتا وقال لي أتدري لمن هو فقلت أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله ذلك فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت فإذا هي قد شبهته بالغناء القديم فقلت زدني معها عودا آخر فإنه أثبت لي فزادني عودا آخر فقلت هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة قال من أين قلت ذاك قلت لما سمعت لينه عرفت أنه محدث من غناء النساء ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه ثم طلبت عودا آخر فلم أشك فقال صدقت الغناء لعريب

عدت أصواتها فكانت ألفا
قال ابن المعتز وقال يحيى بن علي
أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فكتبته فكان ألف صوت
وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه
أنه سأل عريب عن صنعتها فقالت قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت
وحدثني محمد بن إبراهيم قريض أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز وأبي العبيس بن حمدون وما أخذه عن بدعة جاريتها التي أعطاها إياها بنو هاشم فقابل بعضه ببعض فكان ألفا ومائة وخمسة وعشرين صوتا
وذكر العتابي أن أحمد بن يحيى حدثه قال

سمعت أبا عبد الله الهشامي يقول وقد ذكرت صنعة عريب صنعتها مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول
( يا عينُ بَكى خالِدا ... أَلْفا ويُدعَى واحدَا )
يريد أن غناءها ألف صوت في معنى واحد فهي بمنزلة صوت واحد
وحكى عنه أيضا هذه الحكاية ابن المعتز
وهذا تحامل لا يحل ولعمري إن في صنعتها لأشياء مرذولة لينة وليس ذلك مما يضعها ولا عري كبير أحد من المغنين القدماء والمتأخرين من أن يكون في صنعته النادر والمتوسط سوى قوم معدودين مثل ابن محرز ومعبد في القدماء ومثل إسحاق وحده في المتأخرين وقد عيب بمثل هذا ابن سريج في محله فبلغه أن المغنين يقولون إنما يغني ابن سريج الأرمال والخفاف وغناؤه يصلح للأعراس والولائم فبلغه ذلك فتغنى بقوله
( لقد حبَّبَتْ نُعمٌ إلينا بوجهها ... مساكنَ ما بين الوتائِر فالنَّقْعِ )
ثم توفي بعدها وغناؤه يجري مجرى المعيب عليه
وهذا إسحاق يقول في أبيه على عظيم محله في هذه الصناعة وما كان إسحاق يشيد به من

ذكره وتفضيله على ابن جامع وغيره ولأبي ستمائة صوت منها مائتان تشبه فيها بالقديم وأتى بها في نهاية من الجودة ومائتان غناء وسط مثل أغاني سائر الناس ومائتان فلسية وددت أنه لم يظهرها وينسبها لنفسه فأسترها عليه فإذا كان هذا قول إسحاق في أبيه فمن يعتذر بعده من أن يكون له جيد ورديء وما عري أحد في صناعة من الصناعة من حال ينقصه عن الغاية لأن الكمال شيء تفرد الله العظيم به والنقصان جبلة طبع بني آدم عليها وليس ذلك إذا وجد في بعض أغاني عريب مما يدعو إلى إسقاط سائرها ويلزمه اسم الضعف واللين وحسب المحتج لها شهادة إسحاق بتفضيلها وقلما شهد لأحد أو سلم خلق وإن تقدم وأجمع على فضله من شينه إياه وطعنه عليه لنفاسته في هذه الصناعة واستصغاره أهلها فقد تقدم في أخباره مع علوية ومخارق وعمرو بن بانة وسليم بن سلام وحسين بن محرز ومن قبلهم ومن فوقهم مثل ابن جامع وإبراهيم بن المهدي وتهجينه إياهم وموافقته لهم على خطئهم فيما غنوه وصنعوه مما يستغنى به عن الإعادة في هذا الموضع فإذا انضاف فعله هذا بهم وتفضيله إياها كان ذلك أدل دليل على التحامل ممن طعن عليها وإبطاله فيما ذكرها به ولقائل ذلك وهو أبو عبد الله الهشامي سبب كان يصطنعه عليها فدعاه إلى ما قال نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى
ومما يدل على إبطاله أن المأمون أراد أن يمتحن إسحاق في المعرفة

بالغناء القديم والحديث فامتحنه بصوت من غنائها من صنعتها فكاد يجوز عليه لولا أنه أطال الفكر والتلوم واستثبت مع علمه بالمذاهب في الصنعة وتقدمه في معرفة النغم وعللها والإيقاعات ومجاريها
وأخبرنا بذلك يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي عن إسحاق
فأما السبب الذي كان من أجله يعاديها الهشامي فأخبرني به يحيى بن محمد بن عبد الله بن طاهر قال ذكر لأبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عمي أن الهشامي زعم أن أحسن صوت صنعته عريب
( صَاحِ قد لمتَ ظالما ... )
وأن غناءها بمنزلة قول أبي دلف في خالد
( يا عينُ بكى خالدا ... ألفاً ويُدعَى واحِدا )
فقال ليس الأمر كما ذكر ولعريب صنعة فاضلة متقدمة وإنما قال هذا فيها ظلما وحسدا وغمطها ما تستحقه من التفضيل بخبر لها معه طريف فسألناه عنه فقال أخرجت الهشامي معي إلى سر من رأى بعد وفاة أخي يعني أبا محمد بن عبد الله بن طاهر فأدخلته على المعتز وهو يشرب وعريب تغني فقال له يا بن هشام غن فقال تبت من الغناء مذ قتل سيدي المتوكل فقالت له عريب قد والله أحسنت حيث تبت فإن غناءك كان قليل المعنى لا متقن ولا صحيح ولا مطرب فأضحكت أهل المجلس جميعا منه فخجل فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها ويعيب

صنعتها ويقول هي ألف صوت في العدد وصوت واحد في المعنى
وليس الأمر كما قاله إن لها لصنعة تشبهت فيها بصنعة الأوائل وجودت وبرزت فيها منها
( أئن سكنت نَفْسِي وقلَّ عَويلُها ... )
ومنها
( تقول هَمِّي يومَ وَدَّعتها ... )
ومنها
( إذا أردت انتصافا كان ناصركم ... )
ومنها
( بأبي من هو دائي ... )
ومنها
( أسلموها في دمشقَ كما ... )
ومنها
( فلا تتعنّتي ظلما وزورا ... )
ومنها
( لقد لام ذا الشوق الخَلِيُّ من الهوى ... )
ونسخت ما أذكره من أخبارها فأنسبه إلى ابن المعتز من كتاب دفعه إلي محمد بن إبراهيم الجراحي المعروف بقريض وأخبرني أن عبد الله بن المعتز دفعه إليه من جمعه وتأليفه فذكرت منها ما استحسنته من أحاديثها إذ كان فيها حشو كثير وأضفت إليه ما سمعته ووقع إلي غير مسموع مجموعا ومتفرقا ونسبت كل رواية إلى راويها

نسبها
قال ابن المعتز حدثني الهشامي أبو عبد الله وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبة قالا
كانت عريب لعبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد وهو الذي رباها وأدبها وعلمها الغناء
قال ابن المعتز وحدثني غير الهشامي عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها بنت جعفر بن يحيى وأن البرامكة لما انتهبوا سرقت وهي صغيرة
قال فحدثني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب قال
حدثني من أثق به عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي أن أم عريب كانت تسمى فاطمة وكانت قيمة لأم عبد الله بن يحيى بن خالد وكانت صبية نظيفة فرآها جعفر بن يحيى فهويها وسأل أم عبد الله أن تزوجه إياها ففعلت وبلغ الخبر يحيى بن خالد فأنكره وقال له أتتزوج من لا تعرف لها أم ولا أب اشتر مكانها مائة جارية وأخرجها فأخرجها وأسكنها دارا في ناحية باب الأنبار سرا من أبيه
ووكل بها من يحفظها وكان يتردد إليها فولدت عريب في سنة إحدى وثمانين ومائة فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا وتسعين سنة قال وماتت أم عريب في حياة جعفر فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من سنبس النخاس فباعها من المراكبي

قال ابن المعتز وأخبرني يوسف بن يعقوب
أنه سمع الفضل بن مروان يقول كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى قال وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب فقال فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى
وأخبرني جحظة قال دخلت إلى عريب مع شروين المغني وأبي العبيس بن حمدون وأنا يومئذ غلام علي قباء ومنطقة فأنكرتني وسألت عني فاخبرها شروين وقال هذا فتى من أهلك هذا ابن جعفر بن موسى ابن يحيى بن خالد وهو يغني بالطنبور فأدنتني وقربت مجلسي ودعت بطنبور وأمرتني بأن أغني فغنيت أصواتا فقالت قد أحسنت يا بني ولتكونن مغنيا ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك بين عوديهما وأمرت لي بخمسين دينارا
قال ابن المعتز وحدثني ميمون بن هارون
قال
حدثتني عريب قالت بعث الرشيد إلى أهلها تعني البرامكة رسولا يسألهم عن حالهم وأمره ألا يعلمهم أنه من قبله قالت فصار إلى عمي الفضل فسأله فأنشأ عمي يقول

صوت
( سأَلُونا عن حالنا كيف أنتمُ ... مَنْ هَوَى نَجمهُ فكيفَ يكونُ )
( نحن قومٌ أصابنا عَنَتُ الدّهر ... فَظَلْنا لريبه نَسْتكينُ )

ذكرت عريب أن هذا الشعر للفضل بن يحيى ولها فيه لحنان ثاني ثقيل وخفيف ثقيل كلاهما بالوسطى وهذا غلط من عريب ولعله بلغها أن الفضل تمثل بشعر غير هذا فأنسيته وجعلت هذا مكانه
فأما هذا الشعر فللحسين بن الضحاك لا يشك فيه يرثي به محمدا الأمين بعد قوله
( نحن قوم أصابنا حادثُ الدَّهر ... فظلْنا لرَيْبه نَسْتكِينُ )
( نتمَنَّى من الأَمين إياباً ... كلَّ يوم وأينَ منّا الأَمينُ )
وهي قصيدة

هربت إلى معشوقها ومكثت عنده زمانا
قال ابن المعتز وحدثني الهشامي
أن مولاها خرج إلى البصرة وأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء فبرعت في ذلك كله وتزايدت حتى قالت الشعر وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان وقيل إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه ثم ركبه دين فاستتر عنده فمد عينه إلى عريب فكاتبها فأجابته وكانت المواصلة

بينهما وعشقته عريب فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلما من عقب وقيل من خيوط غلاظ وسترته حتى إذا همت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمدة وقد أعد لها موضعا لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل ودثرتها بدثارها ثم تسورت من الحائط حتى هربت فمضت إليه فمكثت عنده زمانا قال وبلغني أنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنيه به فأعاره عودها وهو لا يعلم أنها عنده ولا يتهمه بشيء من أمرها فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي وهو عيسى ابن زينب يهجو أباه ويعيره بها وكان كثيرا ما يهجوه
( قاتلَ الله عَرِيبَا ... فعَلت فِعْلاً عَجِيبَا )
( رَكِبت والليلُ دَاجٍ ... مركباً صَعْباً مهوبا )
( فارتقَت مُتّصِلا بالنَّجم ... أو منه قريبا )
( صبرت حتى إذا ما ... أقصد النّومُ الرَّقيبا )
( مَثَّلت بين حَشَايَا ... هالِكيلا تَسْترِيبَا )
( خَلفاً منها إذا نودِيَ ... لم يُلفَ مُجيبَا )
( ومضت يحملها الخوفُ ... قَضِيباً وكَثِيبا )
( مُحَّةً لو حُرّكت خِفْتَ ... عليها أن تَذوبا )
( فتدلّت لمُحِبّ ... فتلقّاها حَبِيبَا )
( جَذِلاً قد نال في الدُّنْيا ... من الدُّنيا نصِيبا )
( أيّها الظَّبْي الذي تَسْحَرُ ... عيناه القُلُوبَا )
( والذي يأكل بعضا ... بَعضُه حُسناً وطِيبا )

( كُنتَ نَهْباً لذئابٍ ... فَلَقَد أطعمْتَ ذِيَبا )
( وكذا الشاةُ إذا لم ... يَكُ راعيها لَبيبَا )
( لا يُبالِي وبَأَ المَرْعَى ... إذا كان خَصيبا )
( فلقد أصبح عبدُ الله ... كشخانَ حَريبَا )
( قد لعمري لَطَم الوَجهَ ... وقد شَقَّ الجُيوبَا )
( وجرت منه دُموعٌ ... بلّت الشَّعْر الخَضِيبا )
وقال ابن المعتز حدثنا محمد بن موسى بن يونس
أنها ملته بعد ذلك فهربت منه فكانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد وهي متسترة متخفية فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني فسمع غناءها فعرفه فبعث إلى عمه من وقته وأقام هو بمكانه فلم يبرح حتى جاء عمه فلببها وأخذها فضربها مائة مقرعة وهي تصيح يا هذا لم تقتلني أنا لست أصبر عليك أنا امرأة حرة إن كنت مملوكة فبعني لست أصبر على الضيقة فلما كان من غد ندم على فعله وصار إليها فقبل رأسها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها منه قال وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه فطلبها منه فلم يجبه إلى ما سأل وقبل ذلك ما كان طلب منه خادما عنده فاضطغن لذلك عليه فلما ولي الخلافة جاء المراكبي ومحمد راكب ليقبل يده فأمر بمنعه ودفعه ففعل ذلك الشاكري فضربه المراكبي وقال له أتمنعني من يد سيدي أن أقبلها فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه فدعا محمد بالمراكبي وأمر بضرب عنقه فسئل في أمره

فأعفاه وحبسه وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي فكانت عنده قال وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه ثم ملته فهربت منه وهي أبيات عدة هذان منها
( ورُشُّوا على وَجْهي من الماء واندُبُوا ... قتيلَ عَريبٍ لا قتيلَ حُروبِ )
( فليتكِ إن عجَّلتني فقتَلتِني ... تَكونِين ... من بعد الممات نصِيبي )
قال ابن المعتز وأما رواية إسماعيل بن الحسين خال المعتصم فإنها تخالف هذا وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحد قواد خراسان قال وكان أشقر أصهب الشعر أزرق وفيه تقول عريب ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس
( بأبي كلّ أزرقٍ ... أَصهبِ اللون أشقرِ )
( جُنّ قلبي به وليسَ ... جُنُوني بمُنْكَرِ )

تقول الشعر الفاحش
قال ابن المعتز وحدثني ابن المدبر قال
خرجت مع المأمون إلى أرض الروم أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق فكنا نسير مع العسكر فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم

في العماريات على الجمازات وكنا رفقة وكنا أترابا فقال لي أحدهم على بعض هذه الجمازات عريب فقلت من يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات وأنشد أبيات عيسى ابن زينب
( قاتل الله عرِيبَا ... فعلت فعلاً عجيبَا )
فراهنني بعضهم وعدل الرهنان وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها حتى أتممتها فإذا أنا بامرأة قد أخرجت رأسها فقالت يا فتى أنسيت أجود الشعر وأطيبه أنسيت قوله
( وعَرِيبٌ رَطْبةُ الشَّفْرَيْنِ ... قد نِيكت ضُروبا )
اذهب فخذ ما بايعت فيه ثم ألقت السجف فعلمت أنها عريب وبادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم

شعر في مظلومة رقيبة عريب
أخبرني إسماعيل بن يونس قال قال لنا عمر بن شبة
كانت للمراكبي جارية يقال لها مظلومة جميلة الوجه بارعة الحسن فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه فقال فيها بعض الشعراء وقد رآها عنده
( لقد ظلموكِ يا مظلومَ لمّا ... أقاموكِ الرَّقيبَ على عَريبِ )

( ولو أَوْلَوكِ إنصافاً وَعَدْلا ... لما أخلوْكِ أنت من الرّقيبِ )
( أتَنْهَين المُرِيبَ عن المعاصي ... فكيف وأنتِ من شأنِ المُريبِ )
( وكيف يُجانِبُ الجاني ذنوباً ... لديك وأنت داعِيَةُ الذُّنوبِ )
( فإن يَسْترقِبُوكِ على عَرِيبٍ ... فما رَقَبُوك من غيب القلوبِ )
وفي هذا المعنى وإن لم يكن من جنس ما ذكرته ما أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش في رقيبة مغنية استحسنت وأظنه للناشئ
( فديتُكِ لو أنهم أنصَفُوا ... لقد منعوا العينَ عن ناظرَيْكِ )
( ألم يقرءوا ويحهم ما يرون ... من وحي طَرْفك في مُقْلَتَيْكِ )
( وقد بعثوك رَقِيباً لنا ... فمن ذا يكون رَقِيباً عليكِ )
( تصُدّين أعْيُنَنا عن سواك ... وهل تنظر العينُ إلا إليكِ )

محمد الأمين يبعث في إحضارها وإحضار مولاها
قال ابن المعتز وحدثني عبد الواحد بن إبراهيم عن حماد بن إسحاق عن أبيه وعن محمد بن إسحاق البغوي عن إسحاق بن إبراهيم
أن خبر عريب لما نمي إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا وغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول
( لكلّ أُناسٍ جَوْهَر متنافسٌ ... وأنتِ طرازُ الآنساتِ المَلائح )
فطرب محمد واستعاد الصوت مرارا وقال لإبراهيم يا عم كيف سمعت قال يا سيدي سمعت حسنا وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا فقال للفضل بن الربيع خذها إليك وساوم بها ففعل فاشتط مولاها في السوم ثم أوجبها له بمائة ألف دينار وانتقض

أمر محمد وشغل عنها وشغلت عنه فلم يأمر لمولاها بثمنها حتى قتل بعد أن افتضها فرجعت إلى مولاها ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي وذكر باقي الخبر كما ذكره من تقدم
وقال في خبره إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد فأمر بإحضاره فأحضر فسأله عنها فأنكر فقال له المأمون كذبت قد سقط إلي خبرها
وأمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة ويضع عليه السياط حتى يردها فأخذه وبلغها الخبر فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرد ليضرب وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح أنا عريب إن كنت مملوكة فليبعني وإن كنت حرة فلا سبيل له علي فرفع خبرها إلى المأمون فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضي فعدلت عنده وتقدم إليه المراكبي مطالبا بها فسأله البينة على ملكه إياها فعاد متظلما إلى المأمون وقال قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق ولا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدا أو أمة
وتظلمت إليه زبيدة وقالت من أغلظ ما جرى علي بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبا منها
فقال المراكبي إنما أخذت ملكي لأنه لم ينقدني الثمن فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي فأخذها من قتيبة بن زياد فأمر ببيعها ساذجة فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم فذهبت به كل مذهب ميلا إليها ومحبة لها
قال ابن المعتز ولقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبل

في بعض الأيام رجلها قال فلما مات المأمون بيعت في ميراثه ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم وأعتقها فهي مولاته
وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنها لما هربت من دار محمد حين قتل تدلت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدي
وأخبرني جحظة عن ميمون بن هارون
أن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار ودعا بعبد الله بن إسماعيل فدفعها إليه وقال لولا أني حلفت ألا أشتري مملوكا بأكثر من هذا لزدتك ولكني سأوليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار وخلع عليه خلعا سنية فقال يا سيدي إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا وأما أنا فإني ميت لا محالة لأن هذه الجارية كانت حياتي وخرج عن حضرته فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يوما
قال ابن المعتز فحدثني علي بن يحيى قال حدثني كاتب الفضل بن مروان قال
حدثني إبراهيم بن رباح قال
كنت أتولى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها فاشتراها بمائة ألف درهم فأمرني المأمون بحملها وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى ففعلت ذلك ولم أدر كيف أثبتها فحكيت في الديوان أن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة والمائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلالها فجاء الفضل بن مروان إلى

المأمون وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه فقلت نعم هو ما رأيت فسأل المأمون عن ذلك وقال أوجب وهب لدلال وصائغ مائة ألف درهم وغلظ القصة فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه وأخبرته أن المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق وقلت أيما أصوب يا أمير المؤمنين ما فعلت أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية فضحك المأمون وقال الذي فعلت أصوب ثم قال للفضل بن مروان يا نبطي لا تعترض على كاتبي هذا في شيء

بعض من أخبارها
وقال ابن المكي حدثني أبي عن نحرير الخادم قال
دخلت يوما قصر الحرم فلمحت عريب جالسة على كرسي ناشرة شعرها تغتسل فسألت عنها فقيل هذه عريب دعا بها سيدها اليوم فافتضها
قال ابن المعتز فأخبرني ابن عبد الملك البصري
أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد وكانت قد عشقته وكاتبته بصوت قالته ثم احتالت في الخروج إليه وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حبلت منه وولدت بنتا وبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها
وأخبرنا إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه وحدثني به المظفر بن كيغلغ عن القاسم بن زرزور قال
لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة

صوف وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم ثم ذكرها فرق لها وأمر بإخراجها فلما فتح الباب عنها وأخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني
( حجبوه عن بصري فمُثِّل شَخصُه ... في القلب فهْو محجَّبٌ لا يُحَجَبُ )
فبلغ ذلك المأمون فعجب منها وقال لن تصلح هذه أبدا فزوجها إياه

نسبة هذا الصوت
صوت
( لو كان يَقدرُ أن يَبُثَّك ما به ... لرأيتَ أحسن عاتب يتعَتَّبُ )
( حجبوه عن بَصَري فمُثِّل شَخصُه ... في القَلْب فهو مُحجَّب لا يُحجبُ )
الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى
قال ابن المعتز وحدثني لؤلؤ صديق علي بن يحيى المنجم قال حدثني أحمد بن جعفر بن حامد قال
لما توفي عمي محمد بن حامد صار جدي إلى منزله فنظر إلى تركته وجعل يقلب ما خلف ويخرج إليه منها الشيء بعد الشيء إلى أن أخرج إليه سفط مختوم ففض الخاتم وجعل يفتحه فإذا فيه رقاع عريب إليه فجعل يتصفحها ويبتسم فوقعت في يده رقعة فقرأها ووضعها من يده وقام لحاجة فقرأتها فإذا فيها قوله

صوت
( وبلي عليكَ ومِنْكَا ... أوقعت في الحق شَكّا )
( زعمتَ أنّي خئونٌ ... جَوْراً عليّ وإِفْكَا )
( إن كان ما قلتَ حقّا ... أو كنت أزمعتُ تَرْكَا )
( فأبدلَ الله ما بي ... من ذِلَّة الحبّ نُسْكَا )
لعريب في هذه الأبيات رمل وهزج عن الهشامي والشعر لها

قصة بيت من الشعر
قال ابن المعتز وحدثني عبد الوهاب بن عيسى الخراساني عن يعقوب الرخامي قال
كنا مع العباس بن المأمون بالرقة وعلى شرطته هاشم رجل من أهل خراسان فخرج إلي وقال يا أبا يوسف ألقي إليك سرا لثقتي بك وهو عندك أمانة قلت هاته قال كنت واقفا على رأس الأمين وبي حر شديد فخرجت عريب فوقفت معي وهي تنظر في كتاب فما ملكت نفسي أن أومأت إليها بقبلة فقالت كحاشية البرد فوالله ما أدري ما أرادت فقلت قالت لك طعنة
قال وكيف ذاك قلت أرادت قول الشاعر
( رَمَى ضرعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم )
وحكى هذه القصة أحمد بن أبي طاهر عن بشر بن زيد عن عبد الله

ابن أيوب بن أبي شمر أنهم كانوا عند المأمون ومعهم محمد بن حامد وعريب تغنيهم فغنت تقول
( رمى ضَرع نابٍ فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم )
فقال لها المأمون من أشار إليك بقبلة فقلت له طعنة فقالت له يا سيدي من يشير إلي بقبلة في مجلسك فقال بحياتي عليك قالت محمد بن حامد فسكت

أحبت أميرا وتزوجت خادما
قال ابن المعتز وحدثني محمد بن موسى قال
اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنين وعريب معه على مصلاه فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة فاندفعت تغني ابتداء
( رَمَى ضَرْع نابٍ فاستَمرَّ بطَعْنةٍ ... كحاشية البرد اليمانيّ المسهّم )
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له طعنة فقال لها المأمون أمسكي فأمسكت ثم أقبل على الندماء فقال من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه فقام محمد فقال أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها والعفو أقرب للتقوى فقال قد عفوت
فقال كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك قال ابتدأت صوتا وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة فعلمت أنها أجابت بطعنة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45