كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( فغيِّر - أمير المؤمنين - فإنها ... يمانيةٌ حَمْقاءُ وأنت هشامُها )
( أرى مُضَرَ المِضْرين قد ذَلَّ نصرُها ... ولَكنْ عسى أن لا يَذِلّ شآمُها )
( فَمنْ مُبلغٍ بالشام قيساً وخِندِفاً ... أحاديثَ ما يُشْفَى ببرءٍ سَقامُها )
( أحاديثَ منا نشتكيها إليهمُ ... ومظلمةً يغشى الوجوهَ قتامُها )
( فإن مَنْ بها لم يُنكرِ الضّيمَ منهمُ ... فيغضبَ منها كهلُها وغلامُها )
( نمَتْ مثلُها من مثلِهم وتُنكِّلوا ... فيعلمَ أهلُ الجَوْر كيف انتقامُها )
( بغلباءَ من جُمهورنا مضريَّةٍ ... يُزايل فيها أذرعَ القوم هامُها )
( وبيْضٍ على هام الرجال كأنّها ... كواكب يحلوها لسار ظلامُها )
( غضِبنا لكم يا آل مروان فاغضبوا ... عسى أنَّ أرواحا يسوغُ طَعامها )
( ولا تقطعوا الأرحامَ منا فإنها ... ذُنوبٌ من الأعمال يُخشى أَثامُها )
( ألم تكُ في الأرحامِ منّا ومنكمُ ... حواجزُ أيام عزيزٍ مَرامُها )
( فترعى قريشٌ من تميمٍ قرابةً ... ونَجْزي بأيامٍ كريمٍ مَقامها )
( لقد علمَتْ أبناءُ خِندف أننا ... ذُراها وأنا عزُّهَا وسَنامها )
( وقد علم الأحياء من كل موطن ... إذا عُدَّت الأحياء أنّا كرامها )
( وأنّا إذا الحربُ العَوانُ تضرَّمت ... نَلِيها إذا ما الحرب شُبَّ ضِرامُها )
( قِوامُ قُوَى الإِسلام والأمرِ كلِّه ... وهل طاعة إلا تميم قوامها )

( تميمُ التي تخشى معدٌّ وغيرُها ... إذا ما أبى أن يستقيم همامها )
( إلى الله تشكو عزَّنا الأرضُ فوقَها ... وتعلم أنا ثِقْلُها وغَرامها )
( شكتنا إلى الله العزيز فأسمعتْ ... قريباً وأعيا مَنْ سِواه كلامُها )
( نَصولُ بحول الله في الأمرِ كلِّه ... إذا خِيف من مصدوعةٍ ما التآمها )
فأعانته القيسية وقالوا كلما كان ناب من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد وقال الفرزدق أبياتا كتب بها إلى سعيد بن الوليد الأبرش وكلم له هشاما
( إلى الأبرشِ الكلبيّ أسندتُ حاجةً ... تواكلَها حَيّا تميمٍ ووائلِ )
( على حين أن زلت بي النعل زَلَّةً ... فَأَخلفَ ظنّي كُلُّ حافٍ وناعل )
( فدونكها يا بن الوليد فإنها ... مفضِّلة أصحابَها في المحافل )
( ودونكها يا بن الوليد فقم بها ... قيام امرىء في قومه غيرِ خامل )
فكلم هشاما وأمر بتخليته فقال يمدح الأبرش
( لقد وثب الكلبيُّ وَثبةَ حازمٍ ... الى خير خلقِ الله نفساً وعُنصرا )
( إلى خير أبناء الخليفة لم يجد ... لحاجته من دونها مُتَأَخّرا )
( أبَى حِلْفُ كلبٍ في تميمٍ وعقدُها ... كما سنَّت الآباء أن يتغيَّرا )
وكان هذا الحلف حلفا قديما بين تيمم وكلب في الجاهلية وذلك قول جرير بن الخطفى في الحلف
( تميمٌ إلى كلبٍ وكلبٌ إليهمُ ... أحقُّ وأدنى من صُداءَ وحِميرَا )
وقال الفرزدق

( أشدُّ حبالٍ بين حيَّين مِرّةً ... حبالٌ أُمِرَّت من تميمٍ ومن كلبِ )
( وليس قُضاعيٌّ لدينا بخائفٍ ... ولو أصبَحتْ تغلي القدورُ من الحرب )
وقال أيضا
( ألم كر قيساً قَيسَ عَيلاَن شمَّرتْ ... لنَصرِي وحاطتني هناك قُرومُها )
( فقد حالفتْ قيسٌ على النأي كلُّهم ... تميماً فهم منها ومنها تَميمُها )
( وعادتْ عَدوّي إن قيساً لأسرتي ... وقومي إذا ما الناس عُدَّ صميمُها )

خبره مع الشرطيين
أخبرني ابن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
بينما الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ إذ مر به رجلان من قومه كانا في الشرطة وهما راكبان فقال أحدهما لصاحبه هل لك أن أفزعه - وكان جبانا - فحركا دابتيهما نحوه فأدبر موليا فعثر في طرف برده فشقه وانقطع شسع نعله وانصرفا عنه وعرف أنهما هزئا منه فقال
( لقد خار إذ يُجري عليّ حمَارَه ... ضِرارُ الخنا والعنبريُّ بن أخوقَا )
( وما كنتُ لو خَوَّفتماني كلاكما ... بأُمَّيكُما عُرْيَانَتَيْن لأفرَقا )
( ولكنما خَوّفتُماني بخادر ... شَتيمِ إذا ما صادف القِرن مزَّقا )

نزل بدار ليلى الأخيلية والتقى توبة بن الحمير
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا القحذمي عن بعض ولد قتيبة بن مسلم عن ابن زالان المازني قال حدثني الفرزدق قال
لما طردني زياد أتيت المدينة وعليها مروان بن الحكم فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال فليس يكلمه أحد ولا يجالسه أحد ولم أكن عرفت خبره فأرسل إلي مروان فقال أتدري ما مثلك حديث تحدث به العرب أن ضبعا مرت بحي قوم وقد رحلوا فوجدت مرآة فنظرت وجهها فيها فلما نظرت قبح وجهها ألقتها وقالت من شر ما أطرحك أهلك ولكن من شر ما اطرحك أميرك فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام قال فخرجت أريد اليمن حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي - وهو طريق اليمن من البصرة - فإذا رجل مقبل فقلت من أين أوضع الراكب قال من البصرة قلت فما الخبر وراءك قال أتانا أن زيادا مات بالكوفة قال فنزلت عن راحلتي فسجدت وقلت لو رجعت فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان بن الحكم فقلت
( وقفتُ بأعلى ذي قسِيٍّ مطيّتي ... أمثِّل في مروانَ وابنِ زيادِ )
( فقلت عُبَيْدُ الله خَيرهما لنا ... وأدناهما من رأفةٍ وَسَداد )
ومضيت لوجهي حتى وطئت بلاد بني عقيل فوردت ما بين مياههم فإذا بيت عظيم وإذا فيه امرأة سافرة لم أر كحسنها وهيئتها قط فدنوت فقلت أتأذنين في الظل قالت انزل فلك الظل والقرى فأنخت وجلست إليها قال فدعت جارية لها سوداء كالراعية فقالت ألطفيه شيئا واسعي إلى الراعي فردي علي شاة فاذبحيها له وأخرجت إلي تمرا وزبدا قال

وحادثتها فوالله ما رأيت مثلها قط ما أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه قال فأعجبني المجلس والحديث إذ أقبل رجل بين بردين فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلس وأقبلت عليه بوجهها وحديثها فدخلني من ذلك غيظ فقلت للحين هل لك في الصراع فقال سوأة لك إن الرجل لا يصارع ضيفه قال فألححت عليه فقالت له ما عليك لو لاعبت ابن عمك فقام وقمت فلما رمى ببرده إذا خلق عجيب فقلت هلكت ورب الكعبة فقبض على يدي ثم اختلجني إليه فصرت في صدره ثم حملني قال فوالله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كبدي وجلس على صدري فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة قال وثرت إلى جملي فقال أنشدك الله فقالت المرأة عافاك الله الظل والقرى فقلت أخزى الله ظلكم وقراكم ومضيت فبينا أسير إذ لحقني الفتى على نجيب يجنب بخيتا برحله وزمامه وكان رحله من أحسن الرحال فقال يا هذا والله ما سرني ما كان وقد أراك أبدعت أي كلت ركابك فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه فقد والله اعطيت به مائتي دينار قلت نعم آخذه ولكن أخبرني من أنت ومن هذه المرأة قال أنا توبة بن الحمير وتلك ليلى الأخيلية

خبر آخر عن لقائه بليلى وتوبة
وقد أخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال حدثني أحمد بن عبيد عن الأصمعي قال
كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها فجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه ودخل إليها فأقبلت عليه بحديثها وتركت الفرزدق فغاظه ذلك فقال للرجل أتصارعني قال ذلك إليك فقام إليه الرجل فلم يلبث أن أخذ الفرزدق مثل الكرة فصرعه وجلس على صدره فضرط الفرزدق فوثب عنه الرجل خجلا وقال له الرجل يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك والله ما أردت بك ما جرى فقال ويحك أن بي ما صرعتني ولكن كأني بابن الأتان جرير وقد بلغه خبري هذا فقال يهجوني
( جلستَ إلى ليلى لتحظَى بقُربها ... فخانك دُبْرٌ لا يزال يَخونُ )
( فلو كنتَ ذا حزمٍ شددتَ وكاءهَا ... كما شدَّ خَرْتاً للدِّلاص قُيونُ )
قالوا فوالله ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين
يومه كيوم امرىء القيس بدارة جلجل
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن زالان التميمي راوية

الفرزدق أن الفرزدق قال أصابنا بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية فظننت قوما قد خرجوا لنزهة فقلت خليق أن تكون معهم سفرة وشراب فقصصت أثرهم حتى وقفت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأعذذت السير نحو الغدير فإذا نسوة مستنقعات في الماء فقلت لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل وانصرفت مستحييا منهن فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن فقلن بالله إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل فقلت إن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة فطلبها زمانا فلم يصل إليها وكان في طلب غرة من أهلها ليزورها فلم يقض له حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل وذلك أن الحي احتملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعدما سار مع قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء فإذا فتيات وفيهن عنيزة فلما وردن الغدير قلن لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال فنزلن إليه ونحين العبيد عنهن ثم تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة فأتاهن امرؤ القيس

محتالا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل فأخذ ثيابهن فجمعها - ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن فجمعها ووضعها على صدره - وقال لهن كما أقول لكن والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة قال الفرزدق فقالت إحداهن وكان أمجنهن ذلك كان عاشقا لابنة عمه أفعاشق أنت لبعضنا قال لا والله ما أعشق منكن واحدة ولكن أشتهيكن قال فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما تحب قال الفرزدق في حديث امرىء القيس فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار ثم خشين أن يقصرن دون المنزل الذي أردنه فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فأخذته فلبسته ثم تتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها فقال دعينا منك فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة فوضع لها ثوبها فأخذته وأقبلن عليه يلمنه ويعذلنه ويقلن عريتنا وحبستنا وجوعتنا قال فإن نحرت لكن مطيتي أتأكلن منها قلن نعم فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا فأجج نارا عظيمة ثم جعل يقطع لهن من سنامها وأطايبها وكبدها فيلقيها على الجمر فيأكلن ويأكل معهن ويشرب من ركوة كانت معه ويغنيهن وينبذ إلى العبيد والخدم من الكباب حتى شبعن وطربن فلما أراد الرحيل قالت إحداهن أنا أحمل طنفسته وقالت الأخرى أنا أحمل رحله وقالت الأخرى أنا أحمل حشيته

وأنساعه فتقسمن متاع راحلته بينهن وبقيت عنيزة لم يحملها شيئا فقال لها امرؤ القيس يا بنة الكرام لا بد لك أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي فحملته على غارب بعيرها فكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول يا امرؤ القيس عقرت بعيري فانزل فذلك قوله
( تقول وقد مال الغَبيطُ بنا معاً ... عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ )
فلما فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة قاتلك الله ما أحسن حديثك ما فتى وأظرفك فمن أنت قال قلت من مضر قالت ومن أيها فقلت من تميم قالت ومن أيها قلت إلى ههنا انتهى الكلام قالت إخالك والله الفرزدق قلت الفرزدق شاعر وأنا رواية قالت دعنا من توريتك على نسبك أسألك بالله أنت هو قال أنا هو والله قالت فإن كنت أنت هو فلا أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا قلت أجل قالت فاصرف وجهك عنا ساعة وهمست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه فغططن في الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفيها طينا وجعلن يتعادين نحوي فضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وملأن عيني وثيابي فوقعت على وجهي فصرت مشغولا بعيني وما فيها وشددن على ثيابهن فأخذنها وركبت الماجنة بغلتي وتركتني منبطحا بأسوأ حال وأخزاها وهي تقول زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا فما زلت من ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول لهن

قل له تقول لك أخواتك طلبت منا ما لم يمكننا وقد وجهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك وهذا كسر درهم لحمامك إذا أصبحت فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول ما منيت بمثلهن

يهجو مسكينا الدارمي
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم الحراني قال حدثني الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال
لما مات زياد رثاه مسكين الدارمي فقال الفرزدق
( أَمسكينُ أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلال دمعُها إذ تحدَّرَا )
( بكيتَ امرأ من آل مَيْسانَ كافراً ... ككِسرى على عِدَّانِه أو كقيصرا )
( أقول له لمّا أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصَّريمة أعفرا )
هجا ومدح آل المهلب
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم الحراني قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال
لما أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة لقي الفرزدق جريرا فقال

له يا أبا فراس هل لك أن تكلم المهلب حتى يضع عني البحث وأعطيك ألف درهم فكلم المهلب فأجابه فلامه جذيع رجل من عشيرته وشكا ذلك إلى خيرة امرأة المهلب وقال لها لا يزال الآن الرجل يجيء فيسأل في عشيرته وصديقه فلامته خيرة بنت ضمرة القشيرية فقال المهلب إنما اشتريت عرضي منه فبلغ ذلك الفرزدق فقال يهجو جذيعا
( إن تَبْن دَارَكَ يا جُذَيع فما بنى ... لك يا جذيع أبوك من بُنْيانِ )
( وأبوك ملتزم السفينة عاقدٌ ... خَصْيَيْه فوق بنائق التُّبّان )
( ويظلّ يدفَع باستِه متقاعِساً ... في البحر معتمداً على السُّكّان )
( لا تحسبنّ دراهماً جمَّعتَها ... تمحو مَخازِيَك التي بِعُمان )
وقال يهجو خيرة
( ألاَ قشَر الإِلهُ بني قَشُيرٍ ... كقَشْر عصا المنقِّح من مُعَال )
( أرى رهطاً لخيرة لم يَؤُوبوا ... بسهم في اليمين ولا الشمال )
( إذا رُهِزَت رأيت بني قُشَيْرٍ ... من الخُيَلاء مُنتفِشي السِّبالِ )
فغضب بنو المهلب لما هجا جذيعا وخيرة فنالوا منه فهجاهم فقال
( وكَائِن للمهلّب من نَسِيبٍ ... يُرى بلَبانه أَثرُ الزِّيار )
( بِخارَكَ لم يقُد فرساً ولكن ... يقود السّاج بالمسَد المغار )

( عمِيٌّ بالتَّنَائف حين يُضحى ... دَليلَ اللّيل في اللجج الغِمار )
( وما لِله يسجُد إذ يصلّي ... ولكن يسجدون لكل نارِ )
فلما ولي يزيد بن المهلب خراسان والعراق بعد أبيه ولاه سليمان بن عبد الملك خاف الفرزدق من بني المهلب فقال يمدحهم
( فلأَمدحنَّ بنِي المهلَّب مِدحةً ... غَرّاءَ قاهرة على الأشعارِ )
( مثل النجوم أمامها قَمْراؤها ... تجلو العَمى وتضيء ليلَ السَّاري )
( ورِثوا الطّعان عن المهلّب والقِرى ... وخلائقاً كتدفُّقِ الأنهارِ )
( كان المهلّب للعراق وقايةً ... وحَيَا الرَّبيعِ ومَعقِل الفُرَّار )
( وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتَهم ... خضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصار )
( ما زال مُذ شَدّ الإزار بكفه ... ودنا فأدرك خمسة الأشبار )
( أيزيدُ إنك للمهلب أدركت ... كفَّاك خيرَ خَلائقِ الأخيار )
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
لما قدم يزيد بن المهلب واسطا قال لأمية بن الجعد وكان صديق الفرزدق إني لأحب أن تأتيني بالفرزدق فقال للفرزدق ماذا فاتك من يزيد أعظم الناس عفوا وأسخى الناس كفا قال صدقت ولكن أخشى أن آتيه فأجد العمانية ببابه فيقوم إلي رجل منهم فيقول هذا الفرزدق الذي هجانا فيضرب عنقي فيبعث إليه يزيد فيضرب عنقه ويبعث إلى أهلي

ديتي فإذا يزيد قد صار أوفى العرب وإذ الفرزدق فيما بين ذلك قد ذهب قال لا والله لا أفعل فأخبر يزيد بما قال فقال أما إذ قد وقع هذا بنفسه فدعه لعنه الله

خبره مع الماجن الذي أراده
قال ابن حبيب وحدثنا يعقوب بن محمد الزهري عن أبيه عن جده قال
دخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة يتبردون فيها ومعهم ابن أبي علقمة الماجن فجعل يتفلت إلى الفرزدق فيقول دعوني أنكحه حتى لا يهجونا أبدا وكان الفرزدق من أجبن الناس فجعل يستغيث ويقول ويلكم لا يمس جلده جلدي فيبلغ ذلك جريرا فيوجب على أنه قد كان منه الذي يقول فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه
أخبرني عبيد الله قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق فقدمها وكان من أشد خلق الله عصبية على نوار فقال لبطة بن الفرزدق فلبس أبي من صالح ثيابه وخرج يريد السلام عليه فقلت له يا أبت إن هذا الرجل يماني وفيه من العصبية ما قد علمت فلو دخلت إليه فأنشدته مدائحك أهل اليمن لعل الله أن يأتيك منه بخير فإنك قد كبرت على الرحلة فجعل لا يرد علي شيئا حتى دفعنا إلى البواب فأذن له فدخل وسلم فاستجلسه ثم قال إيه يا أبا فراس أنشدنا مما أحدثت فأنشدته
( يختلف الناسُ ما لم نجتمعْ لهمُ ... ولا خلاف إذا ما أجمعت مُضرُ )
( فينا الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها ... فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصر )

( ولا نحالف غيرَ الله من أحد ... إلا السيوفَ إذا ما اغرَوْرَقَ النظر )
( ومن يَملْ يُملِ المأثورُ قُلَّتَه ... بحيث يَلقى حِفَافَيْ رأسه الشعر )
( أما الملوكُ فإنا لا نلين لهم ... حتى يلينَ لضرس الماضِغ الحجرُ )
ثم قام فخرجنا قلت أهكذا أوصيتك قال اسكت لا أم لك فما كنت قط أملأ لقلبه مني الساعة

يفحم المنذر بن الجارود
أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب عن موسى بن طلحة قال
كان الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع وفيها المنذر بن الجارود العبدي فقال المنذر من الذي يقول
( وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقُّ الخيلِ بالركضِ المعارُ )
فقال الفرزدق يا أبا الحكم هو الذي يقول
( أشاربُ قهوةٍ وخدينُ زِيرٍ ... وعَبْديٌّ لفَسْوَته بُخارُ )
( وجَدنا الخيلَ في أبناء بكرٍ ... وأفضلُ خيلهم خشبٌ وقار )
قال فخجل المنذر حتى ما قدر على الكلام
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال

دخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء فأنشأ يقول
( ما حمِلَتْ ناقةٌ من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفَّتْنِي على الكُورِ )
( أعزَّ قوماً وأوفى عند مكرمةٍ ... لمعْظَمٍ من دماء القوم مهجورِ )
فقال له إيه فقال
( إلاّ قُريشاً فإنّ الله فضَّلها ... على البرِيّةِ بالإِسلامِ والخيرِ )
( تلقى وجوهَ بني مرْوانَ تحسبُها ... عند اللقاء مشُوفاتِ الدَّنانير )
ففضله عليهم ووصله

يمدح عيسى بن حصيلة لأنه أعانه على الفرار
قال ابن حبيب وكان الفرزدق يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم فأرفث بهم فاستعدوا عليه زيادا فحدثني جابر بن جندل قال فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر بن خالد السلمي ثم من بني بهز فقال يا أبا حصيلة إن هذا الرجل قد أخافني وقد لفظني جميع من كنت أرجو قال فمرحبا بك يا أبا فراس فكان عنده ليالي ثم قال إني أريد أن ألحق بالشام قال إن أقمت ففي الرحب والسعة وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها وألف درهم فركب الناقة وخرج من عنده ليلا

فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث فقال يمدحه
( كفاني بها البَهْزيُّ حُملانَ منْ أبى ... من الناس والجاني تُخاف جرائمُهْ )
( فتى الجودِ عيسى والمكارمِ والعُلا ... إذا المال لم ينفَع بخيلاً كرائمه )
( ومن كان يا عيسى يُؤنّب ضَيْفَهُ ... فَضَيْفُكَ يا عيسى هنيءٌ مطاعمُه )
( وقال تَعلَّمْ أنها أرحبِيَّةٌ ... وأنَّ لك الليلَ الذي أنت جاشِمُه )
( فأَصْبَحْتُ والمُلْقَى ورائي وحنبَلٌ ... وما صَدَرَتْ حتى علا النجمَ عاتمه )
( تَزاوَر في آل الحقيق كأنها ... ظليمٌ تبارى جُنح ليل نعائمه )
( رأت دون عينيها ثويَّة فانجلى ... لها الصبح عن صَعْلٍ أسيلٍ مخاطمه )
وقال
( تدارَكني أسبابُ عيسى من الرَّدَى ... ومن يَكُ مولاه فليس بواحدِ )
( نمتْه النواصي من سُليْمٍ إلى العلا ... وأعراقُ صدق بين نَصْر وخالد )
( سأُثنِي بما أولَيْتَني وأَرُبُّه ... إذا القوم عدُّوا فضْلَهم في المشاهد )
فلما بلغ زيادا شخوصه أتبعه علي بن زهدم الفقيمي أحد بني مؤلة فلم يلحقه فقال الفرزدق
( فإنك لو لاقيتَني يابنَ زهدمٍ ... لأبت شعاعيًّا على غير تمثال )

يلجأ إلى بكر بن وائل
فأتى بكر بن وائل فجاورهم فأمن فقال
( وقد مَثلت أين المسيرُ فلم تجد ... لعَوذَتها كالحيّ بكر بن وائل )
( وسارت إلى الأجفان خمساً فأصبحت ... مكان الثريا من يد المتناول )
( وما ضرها إذ جاورت في بلادها ... بني الحصِن ما كان اختلاف القَبائل )
الحصن بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة
وهرب الفرزدق من زياد فأتى سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي ابن أمية وهو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فأمنه سعيد فبلغ الفرزدق أن زيادا قال لو أتاني أمنته وأعطيته فقال في كلمة له
( دعاني زياد للعطاءِ ولم أكُنْ ... لآتِيَهُ ما ساق ذو حسبٍ وَقْرا )
( وَعند زيادٍ لو أراد عطاءهَم ... رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهمُ فقرا )
( قعودٌ لدى الأَبواب طلاَّبُ حاجة ... عوانٍ من الحاجات أو حاجة بكرا )
( فلما خشيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا )
( نميْتُ إلى حَرْف أضرَّ بنَيِّها ... سُرَى اللَّيل واستعراضُها البلد القفْرا )

فلما اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة قال
( ألا مَنْ مبلغٌ عنّي زِياداً ... مُغلغلةً يخُبُّ بها البَريدُ )
( بأنّي قد فررتُ إلى سعيدٍ ... ولا يُسْطَاعُ ما يَحْمِي سعيد )
( فررتُ إليه من ليثٍ هِزَبْرٍ ... تفادى عن فريسته الأُسود )
( فإن شئتُ انتميْت إلى النصارى ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ اليهودُ )
( وإن شئت انتسبت إلى فُقَيْمٍ ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ القرود )
( وَأبغضُهم إليَّ بَنُو فُقيم ... وَلكن سوف آتي ما تُرِيد )
فأقام الفرزدق بالمدينة فكان يدخل بها على القيان فقال
( إذا شئتُ غنَّاني من العاج قاصفٌ ... على معصم ريّان لم يتخدَّدِ )
( لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِش ... ببؤس ولم تتبعْ حُمولة مُجْحد )
( وقامت تُخشيِّينيَ زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُردَيْ يمانٍ وَمُجسَد )
( فقلتُ دعيني من زياد فإنَّني ... أَرى الموت وَقَّاعاً على كل مَرْصَدِ )

ملاحاة بينه وبين مسكين الدارمي
فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي بن عدس بن عبد الله بن دارم فقال
( رأيت زيادة الإسلام وَلَّت ... جهاراً حين فارقها زِيادُ )
فبلغ ذلك الفرزدق فقال

( أمسكينُ أبكى الله عينيك إنَّما ... جرى في ضلالٍ دَمعُها فتحدَّرا )
( أتبكي امرأً من آل مَيسَان كافراً ... ككسرى على عِدَّانه أو كقيصرا )
( أقول له لما أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصّرِيمة أعفرا )
فقال مسكين
( ألا أيها المرءُ الذي لَسْتُ قائماً ... ولا قاعداً في القوم إلاَّ انبرى لِيَا )
( فجِئْنِي بعَمٍّ مثل عَمِّي أَو أَبٍ ... كمثلِ أبي أو خالِ صدقٍ كخاليَا )
( بعَمرو بن عمرو أو زرارةَ ذي النّدى ... سموتُ به حتى فَرعتُ الرّوابيا )
فأمسك الفرزدق عنه وكان يقول نجوت من أن يهجوني مسكين فإن أجبته ذهب بشطر فخري وإن أمسكت عنه كانت وصمة على مدى الدهر
أخبرني أبو خليفة فقال أخبرنا ابن سلام قال حدثني الحكم بن محمد المازني قال كان تميم بن زيد القضاعي ثم أحد بني القين بن جسر غزا الهند في جيش فجمرهم وفي جيشه رجل يقال له حبيش فلما طالت غيبته على أمه اشتاقته فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل ابنها فقيل لها عليك بالفرزدق فاستجيري بقبر أبيه فأتت قبر غالب بكاظمة حتى علم الفرزدق مكانها
ثم أتته وطلبت إليه حاجتها فكتب إلى تميم بن زيد هذه الأبيات
( هَبْ لي حُبَيشاً واتخذ فيه مِنّةً ... لغُصَّةِ أَمٍّ ما يَسوغُ شرابُها )
( أَتتني فعَاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليها تُرابُها )
( تَميمُ بن زَيدٍ لا تكوننَّ حاجتي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابها )

فلما أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش فأخرج ديوانه وأقفل كل حبيش وحنيش في جيشه وهم عدة وأنفذهم إلى الفرزدق

قبر أبيه معاذ الناس
قال أبو خليفة قال ابن سلام وحدثني أبو يحيى الضبي قال
ضرب مكاتب لبني منقر بساطا على قبر غالب أبي الفرزدق فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه
ثم قدم عليه فقال
( بقبر ابن لَيْلَى غالب عُذْتُ بعدما ... خَشِيت الرَّدَى أو أن أُرَدَّ عَلَى قَسْر )
( فأخبرني قبرُ ابنِ لَيْلَى فقال لي ... فِكاككَ أن تأتي الفرزدقَ بالمِصْرِ )
فقال الفرزدق صدق أبي أنخ ثم طاف له في الناس حتى جمع له مكاتبته وفضلا
وكان نفيع ذو الأهدام أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا فهجاه الفرزدق فاستجارت أمه بقبر غالب وعاذت من هجاء الفرزدق فقال
( ونُبّئْتُ ذا الأَهدام يعوي ودونه ... من الشَّام زُرَّاعاتُها وَقُصُورُها )
( على حينَ لم أتركْ عَلَى الأَرْض حيَّةً ... ولا نابِحاً إلا استقرّ عقورُها )
( كلابٌ نَبَحن الحيّ من كل جانبٍ ... فعاد عُواءً بعد نَبْحٍ هريرُها )
( عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالبٍ ... فلا والذي عاذت به لا أضيرُها )

( لئن نافعٌ لم يرع أرحامَ أُمِّه ... وَكَانت كدَلوٍ لا يزال يعيرُها )
( لبئس دمُ المولود بلَّ ثَيابَها ... عشيَّةَ نادى بالغلام بشيرُها )
( وإنِّي على إشفاقها من مخافتي ... وَإن عَقّهَا بي نافعٌ لمجيرِها )
( وَلو أنَّ أمَّ الناس حوّاءَ جاوَرت ... تميمَ بن مُرٍّ لم تجد من يجيرها )
وهذا البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر عن الأصمعي قال
كان عبد الله بن عطية راوية الفرزدق وجرير قال فدعاني الفرزدق يوما فقال إني قلت بيت شعر والنوار طالق إن نقضه ابن المراغة قلت ما هو قال قلت
( فإني أنا الموتُ الذي هو نازلٌ ... بنفسك فانظر كيف أنت تُحاوله )
ارحل إليه بالبيت قال فرحلت إلى اليمامة قال ولقيت جريرا بفناء بيته يعبث بالرمل فقلت إن الفرزدق قال بيتا وحلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه قال هيه أظن والله ذلك ما هو ويلك فأنشدته إياه فجعل يتمرغ في الرمل ويحثوه على رأسه وصدره حتى كادت الشمس تغرب ثم قال أنا أبو حزرة طلقت امرأة الفاسق وقال
( أنا الدهرُ يفنى الموتُ والدهر خالدٌ ... فجئني بمثل الدهرِ شيئاً يطاوله )
ارحل إلى الفاسق قال فقدمت على الفرزدق فأنشدته إياه وأعملته بما قال فقال أقسمت عليك لما سترت هذا الحديث
أخبرني عبد الله قال أخبرني محمد بن حبيب قال حدثنا الأصمعي وأبو عبيدة قال

دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة فضحكوا فقال يا أبا فراس أتدري مم ضحكوا قال لا قال من جفائك قال أصلح الله الأمير حججت فإذا أنا برجل منهم على عاتقه الأيمن صبي وعلى عاتقه الأيسر صبي وإذا امرأة آخذة بمئزره وهو يقول
( أنت وهبت زائداً ومزْيَدا ... وكهلةً أُولجُ فيها الأجردا )
والمرأة تقول من خلفه إذا شئت فسألت ممن هو فقيل من الأشعريين أفأنا أجفى أم ذلك فقال بلال لا حياك الله قد علمت أنهم لن يفلتوا منك
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثنا موسى بن طلحة عن أبي زيد الأنصاري قال
ركب الفرزدق بغلته فمر بنسوة فلما حاذاهن لم تتمالك البغلة أن ضرطت فضحكن منه فالتفت إليهن فقال لا تضحكن فما حملتني أنثى إلا ضرطت فقالت له إحداهن ما حملتك أنثى أكثر من أمك فأراها قاست منك ضراطا كثيرا فحرك بغلته وهرب منهن وبهذا الإسناد قال
أتى الفرزدق الحسن البصري فقال إني قد هجوت إبليس فقال كيف تهجوه وعن لسانه تنطق
وبهذا الإسناد قال حمزة بن بيض للفرزدق يا أبا فراس أسألك عن مسألة قال سل عما أحببت قال أيما أحب إليك أتسبق الخير أم

يسبقك قال إن سبقني فاتني وإن سبقته فته ولكن نكون معا لا يسبقني ولا أسبقه ولكن أسألك عن مسألة قال ابن بيض سل قال أيما أحب إليك أن تنصرف إلى منزلك فتجد امرأتك قابضة على أير رجل أم تراه قابضا على هنها قال فتحير وكان قد نهي عنه فلم يقبل

هو وجرير لا يصطلحان أبدا
أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني الأصمعي قال
اجتمع الفرزدق وجرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى يتكافا فقال لهما ويحكما قد بلغتما من السن ما قد بلغتما وقربت آجالكما فلو اصطلحتما ووهب كل واحد منكما لصاحبه ذنبه فقال جرير أصلح الله الأمير إنه يظلمني ويتعدى علي فقال الفرزدق أصلح الله الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه فسلكت طريقهم في ظلمه فقال بشر عليكما لعنة الله لا تصطلحان والله أبدا
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال حدثنا الأصمعي قال الفرزدق
ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب دهقان مرة قال لي أنت الفرزدق الشاعر قلت نعم قال أفأموت إن هجوتني قلت لا قال أفتموت عيشونة ابنتي قلت لا قال فرجلي إلى عنقي في حر أمك قال قلت ويلك لم تركت رأسك قال حتى أنظر أي شيء تصنع
أخبرني عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال

مر الفرزدق بمأجل فيه ماء فأشرع بغلته فيه فقال له مجنون بالبصرة يقال له حربيش نح بغلتك جذ الله رجليك قال ولم ويلك قال لأنك كذوب الحنجرة زاني الكمرة فقال الفرزدق لبغلته عدس ومضى وكره أن يسمع قوله الناس

يؤثر القصائد القصار
أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل للفرزدق ما اختيارك في شعرك للقصار قال لأني رأيتها أثبت في الصدور وفي المحافل أجول قال وقيل للحطيئة ما بال قصارك أكثر من طوالك قال لأنها في الآذان أولج وفي أفواه الناس أعلق
أخبرني عبد الله بن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل لعقيل ابن علفة مالك تقصر في هجائك قال حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة
أخبرني عبد الله عن محمد بن علي بن سعيد الترمذي عن أحمد بن حاتم أبي نصر قال
قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق أما وجدت أمك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها قال والعرب تسمى خبز الفتوت الفرزدق فأقبل الفرزدق على قوم معه في المجلس فقال ما اسمه فلم يخبروه باسمه فقال والله لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم قال

الجهم بن سويد بن المنذر فقال الفرزدق أحق الناس ألا يتكلم في هذا أنت لأن اسمك اسم متاع المرأة واسم أبيك اسم الحمار واسم جدك اسم الكلب

بيتان لكثير يغيران لون وجهه
أخبرنا عبد الله بن مالك عن الزبير عن عمه عن بعض القرويين قال
قدم علينا الفرزدق فقلنا له قدم علينا جرير فأنشدنا قصيدة يمدح بها هؤلاء القوم ومضى يريدهم فقال أنشدونيها فأنشدناه قصيدة كثير التي يقول فيها
( وما زالت رُقاك تسُلُّ ضِغْنِي ... وتخرج من مكامنها ضِبابي )
( ويَرقيني لك الحاوون حتى ... أجابك حيّةٌ تحت الحِجاب )
قال فجعل وجهه يتغير وعندنا كانون ونحن في الشتاء فلما رأينا ما به قلنا هون عليك يا أبا فراس فإنما هي لابن أبي جمعة فانثنى سريعا ليسجد فأصاب ناحية الكانون وجهه فأدماه
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال أخبرني القحذمي قال
لقي الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم السادس من ذي الحجة فقال له الحسين صلوات الله عليه وآله ما وراءك قال يا بن رسول الله أنفس الناس معك وأيديهم عليك قال ويحك معي وقر بعير من كتبهم يدعونني ويناشدونني الله

قال فلما قتل الحسين صلوات الله عليه قال الفرزدق انظروا فإن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها وإن صبرت عليه ولم تتغير لم يزدها الله إلا ذلا إلى آخر الدهر وأنشد في ذلك
( فإن أنتُم لم تثأَروا لابن خيركم ... فألقوا السلاح واغزِلوا بالمغازِل )
أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرني أبو مسلم قال حدثني الأصمعي قال أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد فقال له الفرزدق أعيدها عليك لقد أتى علي زمان ولو سمعت ببيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهب عني
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني ابو مسلم الحراني عن الأصمعي قال
تغدى الفرزدق عند صديق له ثم انصرف فمر ببني أسد فحدثهم ساعة ثم استسقى ماء فقال فتى منهم أو لبنا فقال لبنا فقام إلى عس فصب فيه رطلا من خمر ثم حلب وناوله إياه فلما كرع فيه انتفخت أوداجه واحمر وجهه ثم رد العس وقال جزاك الله خيرا فإني ما علمتك تحب أن تحفي صديقك وتخفي معروفك ثم مضى

قصته مع المرأة الشريفة وزوجته النوار
وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن القحذمي قال

كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها فامتنعت عليه وتهددها بالهجاء والفضيحة فاستغاثت بالنوار امرأته وقصت عليها القصة فقالت لها واعديه ليلة ثم أعلميني ففعلت وجاءت النوار فدخلت الحجلة مع المراة فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية فأطفأت السراج وغادرت المرأة الحجلة واتبعها الفرزدق فصار إلى الحجلة وقد انسلت المرأة خلف الحجلة وبقيت النوار فيها فوقع بالنوار وهو لا يشك أنها صاحبته فلما فرغ قالت له يا عدو الله يا فاسق فعرف نغمتها وأنه خدع فقال لها وأنت هي يا سبحان الله ما أطيبك حراما وأرداك حلالا

يهجو ابن سبرة لأنه منعه عن جارية
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال
استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب إليه الخيار
( كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظتَ من بلدٍ بعيد )
فأجابه الفرزدق
( ألا قال الخيارُ وكان جهلا ... قد استهدى الفرزدقُ من بعيد )
( فلولا أن أمك كان عمِّي ... أباها كنت أخرس بالنشيد )
( وأَنّ أبي لَعَمُّ أبيك لحًّا ... وأنك حين أغضبُ من أسودي )

( إذاً لشددتُ شدَّةَ أعوجيٍّ ... يدقّ شكيمَ مجدول الحديد )
أخبرنا عبد الله بن مالك عن الأصمعي قال
سمع الفرزدق رجلا يقرأ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جراء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم فقال لا ينبغي أن يكون هذا هكذا قال فقيل له إنما هو ( عزيز حكيم ) قال هكذا ينبغي أن يكون

يمدح أسماء بن خارجة
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي قال
مر أسماء بن خارجة الفزاري على الفرزدق وهو يهنأ بعيرا له بنقسه فقال له أسماء يا فرزدق كسد شعرك واطرحتك الملوك فصرت إلى مهنة إبلك فقد أمرت لك بمائة بعير فقال الفرزدق فيه يمدحه
( إنَّ السّماحَ الذي في الناس كلّهمُ ... قد حازه اللهُ للمفضَال أسماءِ )
( يُعطي الجزيلَ بلا مَنٍّ يكدِّره ... عفواً ويُتبع آلاءَ بنعماءِ )
( ما ضَرَّ قوماً إذا أمسى يجاورهم ... ألاّ يكونوا ذوي إبلٍ ولا شاءِ )
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة

دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها
( فإن أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه يُمْنَى للهدى وشِمالُها )
فقال ابن أبي بردة هلكت والله يا أبا فراس فارتاع الشيخ وقال كيف ذاك قال ذهب شعرك أين مثل شعرك في سعيد وفي العباس بن الوليد وسمى قوما فقال جئني بحسب مثل أحسابهم حتى أقول فيك كقولي فيهم فغضب بلال حتى درت أوداجه ودعي له بطست فيه ماء بارد فوضع يده فيها حتى سكن فكلمه فيه جلساؤه وقالوا قد كفاك الشيخ نفسه وقل ما يبقى حتى يموت فلم يحل عليه الحول حتى مات

اغتلم فاحتال على قابلة
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن سعيد بن همام اليمامي قال
شرب الفرزدق شرابا باليمامة وهو يريد العراق فقال لصاحب له إن الغلمة قد آذتني فأكسبني بغيا قال من أين أصيب لك ها هنا بغيا قال فلا بد لك من أن تحتال قال فمضى الرجل إلى القرية وترك الفرزدق ناحية فقال هل من امرأة تقبل فإن معي امرأتي وقد أخذها الطلق فبعثوا معه امرأة فأدخلها على الفرزدق وقد غطاه فلما دنت منه واثبها ثم ارتحل مبادرا وقال كأني بابن الخبيثة يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال

( وكنتَ إذا حللتَ بدار قومٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عارا )
قال فبلغ جريرا الخبر فهجاه بهذا الشعر
وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال قال أبو نهشل حدثنا بعض أصحابنا قال
وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له فمر هذا البيت في بعض قوله
( وما بين مَن لم يعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين جرير غير حزِّ الحلاقم )
فقال الفرزدق يا شمردل لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه لا بارك الله لك فيه فهو في قصيدته التي ذكر فيها قتيبة بن مسلم وهي التي أولها قوله
( تحنُّ إلى زورا اليمامة ناقتي ... حنينَ عجولٍ تبتغي البوَّ رائمِ )

امرأة تستعيذ بقبر أبيه
أخبرنا عبدالله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال
جاءت امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق فضربت عليه فسطاطا فأتاها فسألها عن أمرها فقالت إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي قال لها وما هو قد ضمنت خلاصك منه قالت إن ابنا لي أغزي إلى السند

مع تميم بن زيد وهو واحدي قال انصرفي فعلي انصرافه إليك إن شاء الله قال وكتب من وقته إلى تميم بقوله
( تميم بنَ زيد لا تكوننَّ حاجتِي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابُها )
( وهب لي حُبيْشاً واتَّخِذْ فيه مِنَّةً ... لحرْمة أمٍّ ما يسوغُ شَرَابُهَا )
( أتتنِي فعاذت يا تَمِيمُ بغَالبٍ ... ويالحفْرة السّاقي عليها ترابُهَا )
قال فعرض تميم جميع من معه من الجند فلم يدع أحدا اسمه حبيش ولا حنيش إلا وصله وأذن له في الانصراف إلى أهله
أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال
مر الفرزدق بصديق له فقال له ما تشتهي يا أبا فراس قال أشتهي شوا ء رشراشا ونبيذا سعيرا وغناء يفتق السمع
الرشراش الرطب والسعير الكثير
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني السعدي عن أبي مالك الزبيدي قال
أتينا الفرزدق لنسمع منه شيئا فجلسنا ببابه ننتظر إذ خرج علينا في ملحفة فقال لنا يا أعداء الله ما اجتماعكم ببابي والله لو أردت أن أزني ما قدرت
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم قال
قال الفرزدق قد علم الناس أني فحل الشعراء وربما أتت علي

الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت شعر
كان الفرزدق بن مالك عن أبي مسلم عن الأصمعي قال
كان الفرزدق وأبو شقفل راويته في المسجد فدخلت امرأة فسألت عن مسألة وتوسمت فرأت هيئة أبي شقفل فسألته عن مسألتها فقال الفرزدق
( أبو شَقْفَل شيخ عن الحق جائرٌ ... بباب الهدى والرّشد غيرُ بصير )
فقالت المرأة سبحان الله أتقول هذا لمثل هذا الشيخ فقال أبو شقفل دعيه فهو أعلم بي

سكينة بنت الحسين تكذب ادعاءاته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال
خرج الفرزدق حاجا فمر بالمدينة فأتى سكينة بنت الحسين صلوات الله عليه وآله فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ وَمَنْ زِيارتُه لِمَامُ )
( وَمن أُمسِي وَأُصبِح لا أراه ... وَيطرُقني إذا هجعَ النيامُ )

فقال والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه فقالت أقيموه فأخرج ثم عاد إليها في اليوم الثاني فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ ... وَلزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ )
( لا يلبث القُرفاءُ أن يتفرّقوا ... ليلٌ بكرّ عليهمُ ونهارُ )
( كانت إذا هجر الضجيعُ فراشها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفّت الأسرار )
قال أفأسمعك أحسن منه قالت اخرج
ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها جارية كأنها ظبية فاشتد عجبه بها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( إنّ العيونَ التي في طَرفِها مَرَضٌ ... قتَلْننا ثم لم يُحيين قَتْلانَا )
( يَصرعْن ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ له ... وهُنَّ أضعفُ خَلْقِ الله أَركانا )
ثم قالت قم فاخرج فقال لها يا بنت رسول الله إن لي عليك لحقا إذ كنت إنما جئت مسلما عليك فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردت أن أسمعك شيئا من شعري ما ضاق به صدري والمنايا تغدو وتروح ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت فإن مت فمري من يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من ثيابها وأمرت له بالجارية وقالت أحسن صحبتها فقد

آثرتك بها على نفسي قال فخرج وهو آخذ بريطتها

يطالب معاوية بتراث عمه
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال
وفد الحتات عم الفرزدق على معاوية فخرجت جوائزهم فانصرفوا ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات فأمر معاوية بماله فأدخل بيت المال فخرج الفرزدق إلى معاوية وهو غلام فلما أذن للناس دخل بين السماطين ومثل بين يدي معاوية فقال
( أبوك وعمّي يا معاويَ ورَّثا ... تراثاً فيحتازُ التّراثَ أَقاربُه )
( فما بال ميراثِ الحتات أكلتَهُ ... وميراثُ حرب جامدٌ ليَ ذائبه )
( فلو كان هذا الأمرُ في جاهليَّةٍ ... علمتَ مَن المولى القليلُ حلائبُه )
( ولو كان هذا الأمر في مِلك غيركم ... لأدّاه لي أو غصّ بالماء شاربه )
فقال له معاوية من أنت قال أنا الفرزدق قال ادفعوا إليه ميراث عمه الحتات وكان ألف دينار فدفع إليه
امرأة ترجز به فيذكرها بشعر فاحش
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي حمزة الأنصاري قال أخبرنا أبو زيد قال قال أبو عبيدة

انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة باردة وأمر بجزور فنحرت ثم قسمت فأغفل امرأة من بني فقيم نسيها فرجزت به فقالت
( فيْشلةٌ هدْلاءُ ذات شِقْشِقِ ... مشرفةُ اليافوخِ والمحوَّقِ )
( مُدمَجةٌ ذاتُ حِفافٍ أخلقِ ... نِيطت بحَقْوَيْ قَطِمٍ عشَنَّق )
( أولجتها في سَبّة الفرزدق ... )
قال أبو عبيدة فبلغني أنه هرب منها فدخل في بيت حماد بن الهيثم ثم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك
( قتلتُ قتيلاً لم ير الناسُ مثلَه ... أُقلِّبه ذا تَوْمَتين مُسَوَّرا )
( حملتُ عليه حملتين بطعنةٍ ... فغَادرتُه فوق الحشَايا مكوّرا )
( ترى جرحَه من بعد ما قد طعنته ... يفوح كمثل المسك خالطَ عنبرا )
( وما هو يوم الزحف بارزَ قِرنَه ... ولا هو ولّى يوم لاقى فأدبرا )
( بني دارم ما تأمرون بشاعرٍ ... برود الثّنَايَا ما يزال مزعفرا )
( إذا ما هو استلقى رأيت جهَازه ... كمقطع عُنق الناب أسود أحمرا )
( وكيف أُهَاجي شاعراً رمحُهُ استُه ... أعدَّ ليوم الروع دِرْعاً وَمَجْمرا )

فقالت المرأة ألا لا أرى الرجال يذكرون مني هذا وعاهدت الله ألا تقول شعرا
أخبرنا عبد الله بن مالك بن مسلم عن الأصمعي قال
مر الفرزدق يوما في الأزد فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه وأعانه على ذلك سفهاؤهم فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهى منهم فصاحوا بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء فقال لهم ابن أبي علقمة ويلكم أطيعوني اليوم واعصوني الدهر هذا شاعر مضر ولسانها قد شتم أعراضكم وهجا ساداتكم والله لا تنالون من مضر مثلها أبدا فحالوا بينه وبينه فكان الفرزدق يقول بعد ذلك قاتله الله أي والله لقد كان أشار عليهم بالرأي

رجل من الأنصار يتحداه بشاعرهم حسان بن ثابت
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال قال الكلبي قال إبراهيم بن محمد بن سعيد بن أبي وقاص وأخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي والأخفش جميعا عن السكري عن ابن حبيب عن أبي عبيدة والكلبي قال وأخبرنا به إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قالوا جميعا
قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان فأتى الفرزدق وكثير عزة فبينا هما يتناشدان الأشعار إذ طلع عليهما غلام شخت رقيق الأدمة في ثوبين ممصرين فقصد نحونا فلم يسلم وقال أيكم الفرزدق فقلت مخافة أن يكون من قريش أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها فقال لو كان

كذلك لم أقل هذا فقال له الفرزدق من أنت لا أم لك قال رجل من الأنصار ثم من بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب وتزعمه مضر وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا فأردت أن أعرضه عليك وأؤجلك سنة فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب كما قيل وإلا فأنت منتحل كذاب ثم أنشده
( ألم تسألِ الرّبع الجديدَ التكلُّما ... )
حتى بلغ إلى قوله
( وأبقى لنا مَرُّ الحروب ورزؤُها ... سيوفاً وأدراعاً وجمًّا عرمرما )
( متى ما تُرِدْنا من مَعَدٍّ عِصابةٌ ... وغسانَ نمنعْ حوضنا أن يُهدَّما )
( لنا حاضر فعْمٌ وبادٍ كأنه ... شماريخُ رَضْوَى عِزةً وتكرُّما )
( أبى فِعلُنَا المعروفَ أن ننطق الخنا ... وقائلُنا بالعُرف إلا تَكلُّما )
( بكل فتىً عاري الأشاجع لاحَه ... قِراعُ الكماة يرشح المِسكَ والدّما )
( ولدنا بني العنقاء وابنَيْ محرِّقٍ ... فأكرم بذا خالاً وأكرم بذا ابْنما )
( يُسَوِّدُ ذا المالِ القليل إذا بدت ... مروءتُه فينا وإن كان مُعدِما )
( وإنا لنَقْرِي الضيفَ إن جاء طارقاً ... من الشحم ما أمسى صحيحا مُسلَّما )
( لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يلمَعنَ بالضّحى ... وأسيافُنا يقطُرن من نجدةٍ دَمَا )
فأنشده القصيدة وهي نيف وثلاثون بيتا وقال له قد أجلتك في

جوابها حولا فانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه وما يدري أية طرقه حتى خرج من المسجد فأقبل على كثير فقال له قاتل الله الأنصار ما أفصح لهجتهم وأوضح حجتهم وأجود شعرهم فلم نزل في حديث الأنصار والفرزدق بقية يومنا حتى إذا كان من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس فأتى كثير فجلس معي وأنا لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما صنع إذ طلع علينا في حلة أفواف قد أرخى غديرته حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل الأنصاري فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله الله ما منيت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقته وأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم لم أقل شعرا قط حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا وهو جبل بالمدينة ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم يعني شيطانه فجاش صدري كما يجيش المرجل فعقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما عتمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا فبينا هو ينشد إذ طلع الأنصاري حتى إذا انتهى إلينا سلم علينا ثم قال إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك أيش صنعت فقال اجلس وأنشده قوله
( عزفتَ بأعشاشٍ وما كنت تعزفُ ... وأنكرتَ من حدراءَ ما كنت تعرف )
( ولجّ بك الهجرانُ حتى كأنما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف )

في رواية ابن حبيب تيلف حتى بلغ إلى قوله
( تَرى الناسَ ما سِرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا )
وأنشدها الفرزدق حتى بلغ إلى آخرها فقام الأنصاري كئيبا فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن حزم في مشيخة من الأنصار فسلموا عليه وقالوا يا أبا فراس قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك فنسألك بحق الله وحق رسوله لما حفظت فينا وصية رسول الله ووهبتنا له ولم تفضحنا
قال محمد بن إبراهيم فأقبلت عليه أكلمه فلما أكثرنا عليه قال اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي
قال سليمان بن عبد الملك للفزردق أنشدني أجود شعر عملته فأنشده
( عزفتَ بأَعشاش وما كدت تعزف ... )
فقال زدني فأنشده
( ثلاثٌ واثنتان فتلك خمس ... وواحدة تميل إلى الشِّمام )
( فبِتْنَ بجانبيّ مصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق الخِتَامِ )
فقال له سليمان ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة أقررت بالزنى عندي وأنا إمام ولا تريد مني إقامة الحد عليك فقال إن أخذت في بقول الله عز و جل لم تفعل قال وما قال قال قال الله تبارك وتعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون )

سليمان وقال تلافيتها ودرأت عنك الحد وخلع عليه وأجازه

يجتمع هو وجرير بالشام
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قدم الفرزدق الشام وبها جرير بن الخطفي فقال له جرير ما ظننتك تقدم بلدا أنا فيه فقال له الفرزدق إني طالما أخلفت ظن العاجز
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو مخنف
كان الفرزدق لعنة أي يتلعن به كأنه لعنة على قوم وكان جرير شهابا من شهب النار
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا الأزدي قال حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال قال أبو عمرو بن العلاء
مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود وهو على ناقة فقال له غدني قال ما يحضرني غداء قال فاسقني سويقا قال ما هو عندي قال فاسقني نبيذا قال أو صاحب نبيذ عهدتني قال فما يقعدك في الظل قال فما أصنع قال أطل وجهك بدبس ثم تحول إلى الشمس واقعد فيها حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه قال أبو عمرو فما زال ولد محمد يسبون بذلك من قول الفرزدق انتهى
أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن موسى بن طلحة عن

أبي عبيدة عن أبي العلاء قال أخبرني هاشم بن القاسم العنزي أنه قال
جمعني والفرزدق مجلس فتجاهلت عليه فقلت له من أنت قال أما تعرفني قلت لا قال فأنا أبو فراس قلت ومن أبو فراس قال أنا الفرزدق قلت ومن الفرزدق قال أو ما تعرف الفرزدق قلت أعرف الفرزدق أنه شيء يتخذه النساء عندنا يتسمن به وهو الفتوت فضحك وقال الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن النضر بن حديد قال
مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا فأخذوه وكان جبانا فقالوا والله لتلقين منا ما تكره أو لتنكحن هذه الأتان وأتوه بأتان فقال ويلكم اتقوا الله فإنه شيء ما فعلته قط فقالوا إنه لا ينجيك والله إلا الفعل قال أما إذا أبيتم فأتوني بالصخرة التي يقوم عليها عطية فضحكوا وقالوا اذهب لا صحبك الله

فتى اسود يستخف به
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال
دخل الفرزدق على قوم يشربون عند رجل بالبصرة وفي صدر مجلسهم فتى أسود وعلى رأسه إكليل فلم يحفل بالفرزدق ولم يحف به تهاونا فغضب الفرزدق من ذلك وقال
( جلوسُك في صدر الفراش مَذَلَّةٌ ... ورأسك في الإكليل إحدى الكبائر )
( وما نَطَفَتْ كأسٌ ولا لذَّ طعمُها ... ضربْتُ على حافاتها بالمشافِر )

أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال
لما مات وكيع بن أبي سود أقبل الفرزدق حين أخرج وعليه قميص أسود وقد شقه إلى سرته وهو يقول
( فمات ولم يوتر وما من قبيلة ... من الناس إلا قد أباءت على وتر )
( وإنّ الذي لاقى وكيعاً وناله ... تناول صِدّيق النبيّ أبا بكر )
قال فعلق الناس الشعر فجعلوا ينشدونه حتى دفن وتركوا الاستغفار له

ميميته المشهورة في مدح زين العابدين
أخبرنا عبد الله بن علي بن الحسن الهاشمي عن حيان بن علي العنزي عن مجالد عن الشعبي قال
حج الفرزدق بعد ما كبر وقد أتت له سبعون سنة وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى علي بن الحسين في غمار الناس في الطواف فقال من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآه صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها فقالوا هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم فقال الفرزدق
( هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطأَتَه ... والبَيْتُ يَعْرِفُه والحِلُّ والحرمُ )
( هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم ... هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ )
( هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلهُ ... بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِمُوا )

( وليس قولُك مَن هذا بضائرِه ... العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم )
( إذا رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ )
( يُغْضِي حياءً ويُغْضى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إلا حين يَيْتَسِمُ )
( بكَفّه خيزُرانٌ رِيحُها عَبِقٌ ... من كفّ أروعَ في عِرْنينه شمم )
( يكاد يُمسكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم )
( الله شرَّفه قِدْماً وعَظّمه ... جَرَى بذاك له في لوحِه القلم )
( أيُّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأَوَّلِيَّه هذا أولَهُ نِعَمُ )
( مَنْ يشكرِ الله يشكرْ أَوّليَّة ذا ... فالدِّين من بيت هذا ناله الأمم )
( يَنْمِي إلى ذِروة الدين التي قَصُرت ... عنها الأكفُّ وعن إدراكها القَدَمُ )
( مَنْ جَدُّه دان فَضْلُ الأنبياء له ... وفَضْلُ أمَّته دانت له الأمم )
( مُشتقَّةٌ من رسول الله نَبعتُه ... طابت مغارسُه والخِيمُ والشِّيَمُ )
( ينشقُّ ثَوبُ الدُّجى عن نُور غُرَّته ... كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلم )
( مِنْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصِمُ )
( مُقَدَّمٌ بعد ذكر الله ذِكرُهُم ... في كلِّ بدْء ومختومٌ به الكَلِم )
( إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم ... أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيلَ همُ )
( لا يستطيع جوادٌ كنهَ جودهمُ ... ولا يدانيهمُ قومٌ وإن كرموا )
( يُسْتَدْفَع الشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ ... ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَمُ )
وقد حدثني بهذا الخبر أحمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن القاسم البرتي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي فذكر أن هشاما حج في حياة

أبيه فرأى علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم يطوف بالبيت والناس يفرجون له فقال من هذا فقال الأبرش الكلبي ما أعرفه فقال الفرزدق ولكني أعرفه فقال من هو فقال
( هذا الذي تعرِف البطحاء وطأته ... )
وذكر الأبيات . . . الخ
قال فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فقال
( أتَحبِسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يَهْوى مُنِيبُها )
( يقلِّبُ رأساً لم يكن رأس سيِّد ... وعيناً له حولاء بادٍ عيوبُها )
فبلغ شعره هشاما فوجه فأطلقه

يعجب بشعر لحائك
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن الهيثم بن عدي قال أخبرنا أبو روح الراسبي قال
لما ولي خالد بن عبد الله العراق ولى مالك بن المنذر شرطة البصرة فقال الفرزدق
( يُبَغِّض فينا شرطةَ المصر أنني ... رأيتُ عليها مالكاً عَقِبَ الكلبِ )
قال فقال مالك علي به فمضوا به إليه فقال
( أقول لنفسي إذ تَغَصُّ بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مَالِكِ )

قال فسمع قوله حائك يطلع من طرازه فقال
( لها عنده أن يَرجعَ اللهُ ريقها ... إليها وتنجُو من عظيم المهالك )
فقال الفرزدق هذا أشعر الناس وليعودن مجنونا يصيح الصبيان في أثره فقال فرأوه بعد ذلك مجنونا يصيح الصبيان في أثره
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن علي بن سعيد قال حدثنا القحذمي قال
فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال هيه عقب الكلب قال ليس هذا هكذا قلت وإنما قلت
( ألم ترني ناديتُ بالصوت مالكاً ... ليسمع لما غصَّ من ريقه الفمُ )
( أعوذ بقبرٍ فيه أكفانُ مُنْذرٍ ... فهن لأيدي المستجيرين مَحْرَم )
قال قد عذت بمعاذ وخلى سبيله

خالد القسري يأمر مالك بن المنذر بطلب الفرزدق
أخبرنا عبد الله قال حدثني محمد بن موسى قال
كتب خالد القسري إلى مالك بن المنذر يأمره بطلب الفرزدق ويذكر أنه بلغه أنه هجاه وهجا نهره المبارك وهو النهر الذي بواسط الذي كان

حفره فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم فأخذه وحبسه ومروا به على بني مجاشع فقال يا قوم اشهدوا أنه لا خاتم بيدي وذلك أنه أخذ عمر بن يزيد بن أسيد ثم أمر به فلويت عنقه ثم أخرجوه ليلا إلى السجن فجعل رأسه يتقلب والأعوان يقولون له قوم رأسك فلما أتوا به السجان قال لا أتسلمه منكم ميتا فأخذوا المفاتيح منه وأدخلوه الحبس وأصبح ميتا فسمعوا أنه مص خاتمه وكان فيه سم فمات وتكلم الناس في أمره فدخل لبطة بن الفرزدق على ابيه فقال يا نبي هل كان من خبر قال نعم عمر بن يزيد مص خاتمه في الحبس وكان فيه سم فمات فقال الفرزدق والله يا بني لئن لم تلحق بواسط ليمص أبوك خاتمه وقال في ذلك
( ألم يَكُ قَتْلُ عبد الله ظُلما ... أبا حفص من الحُرَم العظامِ )
( قتيلُ عداوةٍ لم يجنِ ذنباً ... يُقطّعُ وهو يهتف للإِمامِ )
قال وكان عمر عارض خالدا وهو يصف لهشام طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم فصفق عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى حتى سمع له في الإيوان دوي ثم قال كذب والله يا أمير المؤمنين ما أطاعت اليمانية ولا نصحت أليس هم أعداؤك وأصحاب يزيد بن المهلب وابن الأشعث والله ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه فاحذرهم يا أمير المؤمنين قال فتبين ذلك في وجه هشام ووثب رجل من بني أمية فقال لعمرو بن يزيد وصل الله رحمك وأحسن جزاءك فلقد شددت من أنفس قومك وانتهزت الفرصة في وقتها ولكن أحسب هذا الرجل سيلي العراق وهو منكر حسود وليس يخار لك إن ولي فلم يرتدع عمر بقوله وظن أنه

لا يقدم عليه فلما ولي لم تكن له همة غيره حتى قتله قال

شفاعة جرير له
ثم إن مالكا وجه الفرزدق إلى خالد فلما قدم عليه وجده قد حج واستخلف أخاه أسد بن عبد الله على العراق فحبسه أسد ووافق عنده جريرا فوثب يشفع له وقال إن رأى الأمير أن يهبه لي فقال أسد أتشفع له يا جرير فقال إن ذلك أذل له أصلحك الله وكلم أسد ابنه المنذر فخلى سبيله فقال الفرزدق في ذلك
( لا فضلَ إلا فضلُ أمٍّ على ابنها ... كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق )
( تداركني من هُوَّةٍ دون قعرِها ... ثمانون باعاً للطُّوال العَشَنَّقِ )
وقال جرير يذكر شفاعته له
( وهل لك في عان وليس بشاكرٍ ... فتطلقَ عنه عضَّ مَسِّ الحدائدِ )
( يعودُ وكان الخُبْثُ منه سجيّةً ... وإن قال إني مُنْتَهٍ غَيْرُ عائد )
هجاؤه بني فقيم
أخبرني عبيد الله عن محمد بن موسى عن القحذمي قال
كان سبب هرب الفرزدق من زياد وهو على العراق أنه كان هجا بني فقيم فقال فيهم أبياتا منها
( وآب الوفدُ وفدُ بني فُقَيْمٍ ... بأخبث ما تؤوب به الوفودُ )

( أَتَوْنا بالقرود مُعادليها ... فصار الجَدُّ للجدِّ السعيدُ )
وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيمي والأشهب بن رميلة بأبيات منها قوله
( تمنّى ابنُ مسعودٍ لقائي سفاهةً ... لقد قال مَيْناً يوم ذاك ومنكرا )
( غناءٌ قَلِيلٌ عن فُقَيمٍ ونهْشلٍ ... مَقامُ هَجينٍ ساعةً ثم أَدْبرا )
يعني الأشهب بن رميلة وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردوه وقالوا له اهج الفرزدق حتى نزوجك فرجز به الأشهب فقال
( يا عجبا هل يركبُ القَيْنُ الفرسْ ... وَعَرَقُ القيْنِ على الخيل نَجَسْ )
( وإنما سلاحُه إذا جَلَسْ ... الكَلْبَتان والعَلاةُ والقَبَسْ )

يهرب من زياد
فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه فأرفث له وألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء فشكوه إلى زياد وكان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد فطلبه زياد فهرب فأتى بكر بن وائل فأجاروه فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات
( إني وإن كانت تميمٌ عِمارتِي ... وكنتُ إلى القُرْمُوسِ منها القُماقمُ )
( لمُثْنٍ على أبناء بكرِ بن وائلٍ ... ثناءً يوافي ركبهم في المواسم )

( همو يوم ذي قار أناخوا فجالدوا ... برأسٍ به تَدْمَى رؤوسُ الصّلادم )
وهرب حتى أتى سعيد بن العاصي فأقام بالمدينة يشرب ويدخل إلى القيان وقال
( إذا شئتُ غَنَّاني من العاج قاصف ... على معصم ريّانَ لم يتخدّدِ )
( لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِشْ ... ببؤس ولم تتبعْ حمولة مُجْحَد )
( وقامت تخشِّيني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُرْدٍ يمانٍ ومَجْسَد )
( فقلتُ دعيني من زيادٍ فإنّني ... أرى الموت وقَّافاً على كلِّ مَرْصَدِ )

مروان يتوعده ويؤجله ثلاثا
فبلغ شعره مروان فدعاه وتوعده وأجله ثلاثا وقال اخرج عني فأنشأ يقول الفرزدق
( دعانا ثم أجلنا ثلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمَهْلَكِها ثمودُ )
قال مروان قولوا له عني إني أجبته فقلت
( قل للفرزدق والسّفاهةُ كاسْمِها ... إن كنت تاركَ ما أمرتُك فاجلِس )
( ودعِ المدينةَ إنها محظورةٌ ... والحَقْ بمكةَ أو ببيتِ المقدِسِ )
قال وعزم على الشخوص إلى مكة فكتب له مروان إلى بعض عماله

ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار فارتاب بكتاب مروان فجاء به إليه وقال
( مروانُ إنّ مطيتي معقولةٌ ... ترجو الحباءَ وربُّها لم ييأسِ )
( آتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... يُخشَى عليَّ بها حِباءُ النّقرس )
( ألقِ الصحيفةَ يا فرزدق لا تكن ... نكراء مثلَ صحيفةِ المُتَلَمِّسِ )
قال ورمى بها إلى مروان فضحك وقال ويحك إنك أمي لا تقرأ فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم ردها حتى أختمها فذهب بها فلما قرئت إذا فيها جائزة قال فردها إلى مروان فختمها وأمر له الحسين بن علي عليهما السلام بمائتي دينار قال ولما بلغ جريرا أنه أخرج عن المدينة قال
( إذا حلّ المدينةَ فارجُمُوهُ ... ولا تدْنوهُ من جَدَث الرسول )
( فما يُحْمَى عليه شرابُ حدٍّ ... ولا وَرْهاءُ غائبةُ الحليل )
فأجابه الفرزدق فقال
( نعتْ لنا من الورْهاء نَعْتاً ... قعدتُ به لأمك بالسبيلِ )
( فلا تبْغي إذا ما غاب عنها ... عطيةُ غيرَ نَعْتِك من حَليل )

مرضه وموته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا أبو

عكرمة الضبي عن أبي حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال أبو عكرمة وحكي لنا عن لبطة بن الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته
قال ووصف له أن يشرب النفط الأبيض فجعلناه له في قدح وسقيناه إياه فقال يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار فقلت له يا ابت قل لا إله إلا الله فجعلت أكررها عليه مرارا فنظر إلي وجعل يقول
( فَظلَّتْ تعالى باليَفاع كأنها ... رماح نحاها وِجْهة الرّيح راكز )
فكان ذا هجيراه حتى مات
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر قال
دخل بلال بن ابي بردة على الفرزدق في مرضه الذي مات فيه وهو يقول
( أروني مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطاب )
البيتين فقال بلال إلى الله إلى الله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال
كان الفرزدق قد دبر عبيدا له وأوصى بعتقهم بعد موته ويدفع شيء من ماله إليهم فلما احتضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول
( أروني مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطاب )

( إلى مَن تفزعون إذا حَثَوْتم ... بأيديكم عليَّ من التُّرابِ )
فقال له بعض عبيده الذين أمر بعتقهم إلى الله فأمر ببيعه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه والله أعلم
أخبرني الحسن بن علي عن بشر بن مروان عن الحميدي عن سفيان عن لبطة بن الفرزدق قال
لما احتضر أبو فراس قال أي لبطة أبغني كتابا أكتب فيه وصيتي فأتيته بكتاب فكتب وصيته
( أروني من يقوم لكم مقامي ... )
البيتين فقالت مولاة له قد كان أوصى لها بوصية إلى الله عز و جل فقال يا لبطة امحها من الوصية
قال سفيان نعم ما قالت وبئس ام قال أبو فراس

وصيته شعرا
وقال عوانة قيل للفرزدق في مرضه الذي مات فيه أوص فقال
( أوصيِّ تميماً إن قضاعةَ ساقها ... نَدَى الغيث عن دارٍ بدومةَ أَو جدْبِ )
( فإنكم الأكفاءُ والغيث دولةٌ ... يكون بشرق من بلاد ومن غَرْب )
( إذا انتجعت كلْبٌ عليكم فوسِّعوا ... لها الدارَ في سهل المقَامَة والرَّحب )
( فأعظمُ من أَحلام عاد حُلومُهم ... وأَكثرهم عند العديد من التُّرْب )
( أشدُّ حبالٍ بعد حَيَّيْن مِرَّةً ... حِبالٌ أُمِرّت من تميم ومن كلب )

قال وتوفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام وصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال
( وما نَحْن إلا مِثلُهم غير أَنَّنا ... أَقَمنا قليلاً بعدهم وَتَقَدَّمُوا )
قال فلم يلبث إلا أياما حتى مات

شعره عند موته
وقال المدائني قال لبطة أغمي على أبي فيكينا ففتح عينيه وقال أعلي تبكون قلنا نعم أفعلى ابن المراغة نبكي فقال ويحكم أهذا موضع ذكره وقال
( إذا ما دبَّت الأنقاءُ فوقي ... وصاح صدىً عليَّ مع الظلامِ )
( فقد شَمِتَتْ أعاديكم وقالت ... أدانيكم مِنَ أينَ لنا المحامي )
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو العراف قال
نعي الفرزدق لجرير وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة فقال
( مات الفرزدقُ بعدما جرَّعتُهُه ... ليْتَ الفزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس ما قلت أتهجو ابن عمك بعد ما مات ولو رثيته كان أحسن بك فقال والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل وأن نجمي لموافق لنجمه أفلا أرثيه قال أبعد ما قيل لك ألو كنت بكيته ما نسيتك العرب

قال أبو خليفة قال ابن سلام فأنشدني معاوية بن عمرو قال أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق بأبيات منها
( فلا ولَدَتْ بعد الفرزدق حاملٌ ... ولا ذاتُ بعل من نِفاسٍ تعَلَّتِ )
( هو الوافد المأمونُ والرَّاتِقُ الثَّأَى ... إذا النعلُ يوماً بالعشيرة زَلَّتِ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة بخبر جرير لما بلغه وفاة الفرزدق وهو عند المهاجر فذكر نحوا مما ذكره ابن سلام وزاد فيه قال
ثم قام وبكى وندم وقال ما تقارب رجلان في أمر قط فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه

الاختلاف في سنة وفاته
قال أبو زيد مات الحسن وابن سيرين والفرزدق وجرير في سنة عشر ومائة فقبر الفرزدق بالبصرة وقبر جرير وايوب السختياني ومالك بن دينار باليمامة في موضع واحد
وهذا غلط من أبي زيد عمر بن شبة لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة ومائة وقد قال فيه الفرزدق شعرا وذكره في مواضع من قصائده ويقوي ذلك ما أخبرنا به وكيع قال
حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح عن المدائني عن أبي اليقظان وأبي همام المجاشعي
أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة ومائة
قال أبو عبيدة

جرير يرثي نفسه ويرثيه
حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي وأمه ابنة جرير بن عطية قال
بينا جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل فقال له جرير من أين وضح الراكب قال من البصرة فسأل عن الخبر فأخبره بموت الفرزدق فقال
( مات الفرزدقُ بعد ما جرّعتُه ... ليْتَ الفزدقَ كان عاش قليلا )
ثم سكت ساعة فظنناه يقول شعرا فدمعت عيناه فقال القوم سبحان الله أتبكي على الفرزدق فقال والله ما أبكي إلا على نفسي أما والله إن بقائي خلافه لقليل إنه قل ما كان مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا ثم أنشأ يقول
( فُجِعنا بحمَّالِ الدِّيات ابنِ غالبٍ ... وحامي تميمٍ كلِّها والبَراجِم )
( بكيناكَ حِدْثَانَ الفِراق وإِنَّما ... بكَيناك شجْواً للأمور العظائم )
( فلا حَملَت بعدَ ابنِ ليلى مَهيرَةٌ ... ولا شُدَّ أنساعُ المطيِّ الرَّواسِمِ )
وقال البلاذري حدثنا أبو عدنان عن أبي اليقظان قال
أسن الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة وهو بالبادية فقدم إلى البصرة فأتي برجل من بني قيس متطبب فأشار بأن يكوى ويشرب النفط

فقال أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا وجعل يقول
( أروني مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطابِ )

أبو ليلى المجاشعي يرثيه
وقال أبو ليلى المجاشعي يرثي الفرزدق
( لعمري لقد أشجى تميماً وهَدَّها ... على نكباتِ الدهر موتُ الفرزدق )
( عشيَّةَ قُدْنَا للفرزدق نعشَه ... الى جَدَثٍ في هُوّة الأرض مُعْمَق )
( لقد غيّبوا في اللَّحد مَنْ كان ينتمي ... الى كل بدر في السماء مُحَلِّقِِ )
( ثَوَى حاملُ الأثقال عن كل مُثقلِ ... ودفَّاعُ سلطانِ الغشوم السَّمَلَّقِ )
( لسانُ تميمٍ كلِّها وعِمَادُها ... وناطقُها المعروف عند المُخَنَّق )
( فمن لتميمٍ بعد موت ابن غالبٍ ... إذا حلَّ يومٌ مظلمٌ غَيرُ مُشرِق )
( لتبكِ النِّساءُ المعْوِلاتُ ابنَ غالبٍ ... لجانٍ وعانٍ في السلاسل مُوثق )
وقال ابن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال
مات الفرزدق وجرير في سنة عشرة ومائة ومات جرير بعده بستة أشهر ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن سيرين قال
فقالت امرأة من اهل البصرة كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة ونسبت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومه إليها من اليمامة وقبر جرير باليمامة وبها مات وقبر الأعشى أيضا باليمامة أعشى بني قيس بن ثعلبة وقبر الفرزدق بالبصرة في مقابر بني تميم

وقال جرير لما بلغه موت الفرزدق قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به
وثاهما جماعة فمنهم أبو ليلى الأبيض من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما
( لعمري لئنْ قَرْما تَميمٍ تتابعا ... مُجيبِيْن للدّاعي الذي قد دَعَاهُما )
( لرُبّ عَدُوٍّ فرّق الدهرُ بينه ... وَبيْنهما لم تُشْوِه ضَغمْتَاهما )
أخبرني ابن عمار عن يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي عن جرير يعني أبا حازم قال
رئي الفرزدق وجرير في النوم فرثي الفرزدق بخير وجرير معلق
قال قعنب وأخبرني الأصمعي عن روح الطائي قال
رئي الفرزدق في النوم فذكر أنه غفر له بتكبيرة كبرها في المقبرة عند قبر غالب
قال قعنب وأخبرني أبو عبيدة النحوي وكيسان بن المعروف النحوي عن لبطة بن الفرزدق قال
رأيت أبي فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال نفعتني الكلمة التي نازعنيها الحسن على القبر

هو والحسن البصري في جنازة النوار
أخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل الحساني عن علي بن عاصم عن سفيان بن الحسن وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام والرواية قريب

بعضها من بعض أن النوار لما حضرها الموت أوصت الفرزدق وهو ابن عمها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره الفرزدق فقال إذا فرغتم منها فأعلمني وأخرجت وجاءها الحسن وسبقهما الناس فانتظروهما فأقبلا والناس ينتظرون فقال الحسن ما للناس فقال ينتظرون خير الناس وشر الناس فقال إني لست بخيرهم ولست بشرهم وقال له الحسن على قبرها ما أعددت لهذا المضطجع فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة
هذا لفظ محمد بن سلام وقال وكيع في خبره فتشاغل الفرزدق بدفنها وجلس الحسن يعظ الناس فلما فرغ الفرزدق وقف على حلقة الحسن وقال
( لقد خاب من أولاد آدمَ مَنْ مَشَى ... إلى النار مغلولَ القِلادةِ أزرقا )
( أخاف وراءَ القبر إن لم يُعافِني ... أشدَّ من القبر التهاباً وأضيقا )
( إذا جاءني يومَ القيامة قائدٌ ... عَنِيفٌ وسَوَّاقٌ يَقُود الفرزدقا )
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن هلال قال حدثنا خالد بن الحر قال
رأيت الحسن في جنازة أبي رجاء العطاردي فقال للفرزدق ما أعددت لهذا اليوم فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ بضع وتسعين سنة قال إذا تنجو إن صدقت قال وقال الفرزدق في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس فقال الحسن لست بخير الناس ولست بشرهم

يذكر ذنوبه ويبكي
أخبرنا ابن عمار عن أحمد بن إسرائيل عن عبيد الله بن محمد القرشي بطوس قال
حدثني يزيد بن هاشم العبدي قال حدثنا أبي قال حدثنا فضيل الرقاشي قال
خرجت في ليلة باردة فدخلت المسجد فسمعت نشيجا وبكاء كثيرا فلم أعلم من صاحب ذلك إلى أن أسفر الصبح فإذا الفرزدق فقلت يا أبا فراس تركت النوار وهي لينة الدثار دفئة الشعار قال إني والله ذكرت ذنوبي فأقلقتني ففزعت إلى الله عز و جل
أخبرني وكيع عن ابي العباس مسعود بن عمرو بن مسعود الجحدري قال حدثني هلال بن يحيى الرازي قال حدثني شيخ كان ينزل سكة قريش قال
رأيت الفرزدق في النوم فقلت يا أبا فراس ما فعل الله بك قال غفر لي بإخلاصي يوم الحسن وقال لولا شيبتك لعذبنك بالنار
أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه قال
لقيت الحسين بن علي صلوات الله عليهما وأصحابه بالصفاح وقد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل متقلدين السيوف متنكبين القسي عليهم يلامق من الديباج فسلمت عليه وقلت أين تريد قال العراق فكيف

تركت الناس قال تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك والدنيا مطلوبة وهي في أيدي بني أمية والأمر إلى الله عز و جل والقضاء ينزل من السماء بما شاء
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قال حدثني هارون بن عمر عن ضمرة بن شوذب قال
قيل لأبي هريرة هذا الفرزدق قال هذا الذي يقذف المحصنات ثم قال له إني أرى عظمك رقيقا وعرقك دقيقا ولا طاقة لك بالنار فتب فإن التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه
أخبرني هاشم بن محمد عن الرياشي عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة عن صالح المري عن حبيب بن أبي محمد قال
رأيت الفرزدق بالشام فقال قال لي أبو هريرة إنه سيأتيك قوم يوئسونك من رحمة الله فلا تيأس

موازنة بينه وبين جرير والأخطل
قال أبو الفرج والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل ومحله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول أو يدل على مكانه بوصف لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف وقد تكلم الناس في هذا قديما وحديثا وتعصبوا واحتجوا بما لا مزيد فيه واختلفوا بعد اجتماعهم على

هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر ولا له مثل ما لهما من فنونه ولا تصرف كتصرفهما في سائره وزعموا أن ربيعة أفرطت فيه حتى ألحقته بهما وهم في ذلك طبقتان أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال سمعت يونس بن حبيب يقول
ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه الفرزدق وجرير فاجتمع أهل ذلك المجلس على أحدهما قال ابن سلام وكان يونس يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط وكان المفضل يقدمه تقدمة شديدة
قال ابن سلام وقال ابن دأب وسئل عنهما فقال الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة
أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن العلاء بن الفضل قال قال لي أبو البيداء يا أبا الهذيل أيهما أشعر أجرير أم الفرزدق قال قلت ذاك إليك ثم قال ألم تسمعه يقول
( ما حُمِّلت ناقةٌ من معشرٍ رجلاً ... مثلي إذا الريح لفّتني على الكُورِ )
( إلا قريشاً فإن الله فضّلها ... مع النبوّة بالإِسلام والخِيرِ )
ويقول جرير
( لا تحسبَنَّ مِرَاسَ الحرب إذ لَقِحَتْ ... شُرْبَ الكسِيس وأكلَ الخبز بالصِّير )

سلح والله أبو حزرة
أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال
سمعت يونس يقول لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب
أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي غسان عن أبي عبيدة قال قال يونس أبو البيداء قال الفرزدق
كنت أهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان بن عفان فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ ووفد بي أبي إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عام الجمل فقال له إن ابني هذا يقول الشعر فقال علمه القرآن فهو خير له

يمضي خمسا وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف
قال أبو عبيدة ومات الفرزدق في سنة عشر ومائة وقد نيف على التسعين سنة كان منها خمسة وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف فيغضهم ما ثبت له أحد منهم قط إلا جريرا
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثنا ابن الرازي عن خالد بن كلثوم قال
قيل للفرزدق مالك وللشعر فوالله ما كان أبوك غالب شاعرا ولا كان صعصعة شاعرا فمن أين لك هذا قال من قبل خالي قيل أي أخوالك قال خالي العلاء بن قرظة الذي يقول

( إذا ما الدهر جرّ على أُناسٍ ... بكلكله أناخ بآخرينا )
( فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا )

يرد على قوم من بني ضبة
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وأخبرني هاشم الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال
دخل قوم من بني ضبة على الفرزدق فقالوا له قبحك الله من ابن أخت قد عرضتنا لهذا الكلب السفيه يعنون جريرا حتى يشتم أعراضنا ويذكر نساءنا فغضب الفرزدق وقال بل قبحكم الله من أخوال فوالله لقد شرفكم من فخري أكثر مما غضكم من هجاء جرير أفأنا ويلكم عرضتكم لسويد بن أبي كاهل حيث يقول
( لقد زَرِقتْ عيناك يابن مُكَعْبَرٍ ... كما كلُّ ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرقُ )
( ترى اللؤمَ فيهم لائحاً في وجوههم ... كما لاح في خيل الحلائب أبلق )
أو أنا عرضتكم للأغلب العجلي حيث يقول
( لن تجد الضَّبِّيَّ إلاّ فَلاّ ... عبداً إِذانا ولقومٍ ذَلاَّ )

( مثل قَفا المُدية أو أَكَلاَّ ... حتى يكون الأَلأَمَ الأقلاَّ )
أو أنا عرضتكم له حيث يقول
( إذا رأَيتَ رجلاً من ضبَّهْ ... فنكه عمداً في سَوَاء السَّبَّهْ )
( إنَّ اليَمانِيَّ عِقَاصُ الزّبًّهْ ... )
أو أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث يقول
( ولو يُذبَح الضَّبِّيُّ بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضّبّيّ لحماً ولا دما )
والله لما ذكرت من شرفكم وأظهرت من أيامكم أكثر ألست القائل
( وأنا ابنُ حنظلةَ الأغرُّ وإنني ... في آل ضبَّة للمُعِمُّ المُخْوِلُ )
( فرعان قد بلغ السّماءَ ذُرَاهما ... وإليهما من كل خوف يُعْقَلُ )

بنو حرام يخشون معرة لسانه
أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام عن أبي بكر محمد بن واسع وعبد القاهر قالا
كان فتى في بني حرام بن سماك شويعر قد هجا الفرزدق فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هو بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق لا عدوى عليك ولا قصاص فخلى عنه وقال

( فمن يكُ خائفاً لأذاة قولِي ... فقد أَمِنَ الهِجاءَ بنو حَرامِ )
( همُ قادوا سفيهَهُمُ وخافوا ... قلائدَ مثلَ أطواق الحمَامِ )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني الحكم بن محمد قال كان رجل من قضاعة ثم من بني القين على السند وفي حبسه رجل يقال له حبيش - أو خنيس - وطالت غيبته عن أهله فأتت أمه قبر غالب بكاظمة فأقامت عليه حتى علم الفرزدق بمكانها ثم إنها أتت فطلبت إليه في أمر ابنها فكتب إلى تميم القضاعي
( هَب لي خُنَيْساً واتّخذْ فيه منّةً ... لُغصَّة أُمٍّ ما يَسوغ شرابُها )
( أَتَتْني فعاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السَّافي عليه ترابها )
( تميمُ بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي ... بظهرٍ فلا يخفَى عليَّ جوابُها )
فلما أتاه الكتاب لم يدر أخنيس أم حبيش فأطلقهما جميعا
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر خيما على قبر غالب فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه ثم قدم عليه وهو بالمربد فقال
( بقبرِ ابن ليلى غالبٍ عُذْتُ بعدما ... خشيتُ الرَّدَى أَو أَن أُردَّ على قسرِ )
( فخاطبني قبرُ ابن ليلى وقال لي ... فَكَاكُك أن تَلْقَى الفرزدقَ بالمِصْر )
فقال له الفرزدق صدق أبي أنخ أنخ ثم طاف في الناس حتى جمع كتابته وفضلا

يناقض نفسه في شعره
أخبرني ابن خلف وكيع عن هارون بن الزيات عن أحمد بن حماد ابن الجميل قال حدثنا القحذمي عن ابن عياش قال
لقيت الفرزدق فقلت له يا أبا فراس أنت الذي تقول
( فليتَ الأكفَّ الدافناتِ ابنَ يوسفٍ ... يُقطَّعْن إذ غيَّبْن تحت السقائفِ )
فقال نعم أنا فقلت له ثم قلت بعد ذلك له
( لئن نفرُ الحجّاج آلُ مُعَتِّبٍ ... لَقُوادوْلةً كان العدوُّ يُدالُها )
( لقد أصبح الأحياءُ منهم اذلةً ... وفي الناس موتاهم كلوحاً سِبالُها )
قال فقال الفرزدق نعم نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه فإذا تخلى منه انقلبنا عليه
أخبرنا هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن بعض أشياخه قال
شهد الفرزدق عند إياس بن معاوية فقال أجزنا شهادة الفرزدق أبي فراس وزيدونا شهودا فقام الفرزدق فرحا فقيل له أما والله ما أجاز شهادتك قال بلى قد سمعته يقول قد قبلنا شهادة أبي فراس قالوا أفما سمعته يستزيد شاهدا آخر فقال وما يمنعه ألا يقبل شهادتي وقد قذفت ألف محصنة
أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال
كان عطية بن جعال الغداني صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن

رجلا من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفح له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال
( أبني غُدانة إنني حَرّرتكم ... فوهبتكم لعطيةَ بنِ جُعال )
( لولا عطيةُ لاجتَدعْتُ أنوفكم ... من بين ألأم أعين وسبال )
فبلغ ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها الله من هبة ممنونة مرتجعة

خبر آخر عن المجنون الذي أراده
أخبرني وكيع عن هارون بن محمد قال حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي عن المدائني عن محمد بن النضر
أن الفرزدق مر بباب المفضل بن المهلب فأرسل إليه غلمة فاحتملوه حتى أدخل إليه بواسط وقد خرج من تيار ماء كان فيه فأمر به فألقي فيه بثيابه وعنده ابن أبي علقمة اليحمدي المجنون فسعى إلى الفرزدق فقال له المفضل ما تريد قال أريد أن أنيكه وأفضحه فوالله لا يهجو بعدها أحدا من الأزد فصاح الفرزدق الله الله أيها الأمير في أنا في جوارك وذمتك فمنع عنه ابن أبي علقمة فلما خرج قال قاتل الله مجنونهم والله لو مس ثوبه ثوبي لقام بها جرير وقعد وفضحني في العرب فلم يبق لي فيهم باقية
وأخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبي عن ابن شبة عن محمد بن يحيى عن عبد الحميد عن أبيه عن جده قال أبو زيد وأخبرني أبو

عاصم عن الحسن بن دينار قال قال لي الفرزدق
ما مر بي يوم قط أشد علي من يوم دخلت فيه على أبي عيينة بن المهلب - وكان يوما شديد الحر - فما منا أحد إلا جلس في أبزن فقلنا له إن أردت أن تنفعنا فابعث إلى ابن أبي علقمة فقال لا تريدوه فإنه يكدر علينا مجلسنا فقلنا لا بد منه فأرسل إليه فلما دخل فرآني قال الفرزدق والله ووثب إلي وقد أنعظ أيره وجعل يصيح والله لأنيكنه فقلت لأبي عيينة الله الله في أنا في جوارك فوالله لئن دنا إلي لا تبقى لي باقية مع جرير فلم يتكلم أبو عيينة ولم تكن لي همة إلا أن عدوت حتى صعدت إلى السطح فاقتحمت الحائط فقيل له ولا يوم زياد كان مثل يومئذ فقال ولا مثل يوم زياد

عمر بن عبد العزيز يجيزه ثم ينفيه
أخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن إسحاق بن مروان مولى جهينة وكان يقال له كوزا الراوية قال أحمد بن عمر وأخبرني عثمان بن خالد العثماني
أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصاء فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا له أيها الأمير إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعرا فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح ولا هجاء فبعث إليه عمر إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة وليس عند أحد ما يعطيه شاعرا وقد

أمرت لك بأربعة آلاف درهم فخذها ولا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء فأخذها الفرزدق ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره وعليه مطرف خز أحمر وجبة خز أحمر فوقف عليه وقال
( أَعبد الله أَنت أَحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجماهير الكبارِ )
( نما الفاروقُ أُمَّك وابنُ أَروَى ... أَبوك فأَنت مَنصَدَعُ النّهارِ )
( هما قَمَرَا السماء وأَنتَ نجمٌ ... به في الليل يُدْلج كُلُّ سارِ )
فخلع عليه الجبة والعمامة والمطرف وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج رجل كان حضر عبد الله والفرزدق عنده ورأى ما أعطاه إياه وسمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد فدخل إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره فبعث إليه عمر ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء أخرج فقد أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك فخرج وهو يقول
( فأجّلني وواعدني ثلاثاً ... كما وُعِدَت لمهْلكِها ثَمُودُ )
قال وقال جرير فيه
( نفَاك الأغرُّ ابنُ عبد العزيزِ ... ومثلُك يُنفَى من المسجدِ )
( وَشبَّهْتَ نفسَكَ أشقى ثَمُودَ ... فقالوا ضلَلتَ ولم تهْتَدِ )

يهجو ابن عفراء لأنه استكثر عليه الجائزة
أخبرني حبيب المهلبي عن ابن أبي سعد عن صباح عن النوفلي بن خاقان عن يونس النحوي قال

مدح الفرزدق عمر بن مسلم الباهلي فأمر له بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقا لعمر فلامه وقال أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه عشرون درهما فبلغه ذلك فقال
( نهيتُ ابنَ عِفْرَى أن يعفِّر أمَّهُ ... كعَفْر السَّلا إذ جرّرَتْه ثعَالبُه )
( وإنّ امرأً يَغْتابني لم أَطَأ له ... حريماً فلا ينهَاهُ عنِّي أَقاربُه )
( كمحتطبٍ يوماً أَساودَ هضْبةٍ ... أَتاه بها في ظلمة الليل حاطبه )
( ألَمّاَ استوى ناباي وابيضَّ مِسْحَلي ... وأطرقَ إطراقَ الكرى مَنْ أحاربُه )
( فلو كان ضَبيَّاً صفحتُ ولو سرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه )
( ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحَوْرانَ يعصِرْنَ السّليطَ قرائبه )

صوت
( ومقالها بالنَّعف نعف مُحَسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا )
( ذاك الذي أعطى مواثقَ عَهدِه ... ألاّ يخونَ وخِلتُ أن لن يَنْقُضا )
( فلئن ظفرتُ بمثْلِها من مثلِه ... يوماً ليَعترفَنَّ ما قد أقْرَضا )
الشعر لخالد القسري والناس ينسبونه إلى عمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش وقبل أن أذكر أخباره ونسبه فإني أذكر الرواية في أن هذا الشعر له
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد الواحد بن سعيد قال حدثني أبو بشر محمد بن خالد البجلي قال حدثني أبو الخطاب بن يزيد بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يحدث قال حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجلي قال

ركب خالد بن عبد الله وهو أمير العراق وهو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال لها المكرخة وهي من الكوفة على أربعة فراسخ وركبت معه في زورق فقال لي نشدتك الله يابن جحوش هل سمعت غريض مكة يتغنى
( ومقالها بالنَّعفِ نعفِ مُحَسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا )
قال قلت نعم قال الشعر والله لي والغناء لغريض مكة وما وجدت هذا الشعر في شيء من دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيون والمكيون وإنما يوجد في الكتب المحدثة والإسنادات المنقطعة ثم نرجع الآن إلى ذكره

بسم الله الرحمن الرحيم

أخبار خالد بن عبد الله
نسبه
هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبد الله بن عبد شمس بن غمغمة بن جرير بن شق بن صعب وشق بن صعب هذا هو الكاهن المشهور بن يشكر بن رهم بن أقزل وهو سعد الصبح بن زيد بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن لحيان بن الغوث بن القرز ويقال الفرز بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
فأما غلبة بجيلة على هذا النسب في شهرته بها فإن بجيلة ليست برجل إنما هي امرأة قد اختلف في نسبها فقال ابن الكلبي يقال لها بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة تزوجها أنمار بن إراش فولدت له الغوث ووداعة وصهيبة وجذيمة وأشهل وشهلاء وطريفا والحارث ومالكا وفهما وشيبة
قال ابن الكلبي ويقال إن بجيلة إمرأة حبشية كانت قد حضنت بني أنمار جميعا غير خثعم فإنه انفرد فصار قبيلة على حدته ولم تحضنه بجيلة واحتج من قال هذا القول بقول شاعرهم

( وما قَرُبت بجِيلةُ منك دوني ... بشيء غيرِ ما دُعِيت بجيَلةْ )
( وما لِلغوثِ عندك أن نُسِبْنَا ... علينا في القرابة من فضيلةْ )
( ولكَنَّا وإيَّاكم كثُرنا ... فصِرنا في المحلِّ على جَدِيلةْ )
جديلة ها هنا موضع لا قبيلة وهم أهل بيت شرف في بجيلة لولا ما يقال في عبد الله بن أسد فإن أصحاب المثالب ينفونه عن أبيه ويقولون فيه أقوالا أنا ذاكرها في موضعها من أخبار خالد المذمومة في هذا الموضع من كتابنا إن شاء الله وعلى ما قيل فيه أيضا فقد كان له ولابنه خالد سؤدد وشرف وجود
وكان يقال لكرز كرز الأعنة وإياه عنى قيس بن الخطيم بقوله لما خرج يطلب النصر على الخزرج
( فإِن تنْزِلْ بذي النَّجدَاتِ كُرْزٍ ... تُلاقِ لديه شَرْباً غيرَ نَزْرِ )
( له سَجْلان سَجْلٌ من صريحٍ ... وسجلُ رثيئةٍ بعتيق خمر )
( ويمنعُ مَن أراد ولا يُعايا ... مُقاماً في المحلَة وسطَ قسر )
وكان أسد بن كرز يدعى في الجاهلية رب بجيلة وكان ممن حرم

الخمر في جاهليته تنزها عنها وله يقول القتال السحمي
( فأَبلِغ ربَّنا أَسَدَ بن كُرْزٍ ... بأنّ النأيَ لم يك عن تَقالي )
وله يقول القتال يعتذر
( فأَبلغ ربَّنا أسدَ بنَ كُرْزٍ ... بأنّي قد ضَلَلْت وما اهتديْتُ )
وله يقول تأبط شرا
( وجدتُ ابنَ كُرْز تستهلُّ يمينُه ... ويُطلق أَغلالَ الأسير المكَبَّل )
وكان قوم من سحمة عرضوا لجار الأسد بن كرز فأطردوا إبلا له فأوقع بهم أسد وقعة عظيمة في الجاهلية وتتبعهم حتى عاذوا به فقال القتال فيه عدة قصائد يعتذر إليه لقومه ويستقيله فعلهم بجاره ولم أذكرها ههنا لطولها وأن ذلك ليس من الغرض المطلوب في هذا الكتاب وإنما نذكرها هنا لمعا وسائره مذكور في جمهرة أنساب العرب الذي جمعت فيه أنسابها وأخبارها وسميته -

كتاب التعديل والانتضاف
- ولبني سحمة يقول أسد بن كرز في هذه القصة وكان شاعرا فاتكا مغوارا
( ألا أبلِغا أبناءَ سُحْمَةَ كُلِّها ... بني خثعمٍ عنّي وذَلٌّ لخثعم )
( فما أنتُم منّي ولا أنا منكم ... فراش حريقِ العَرْفَجِ المتضرِّم )

( فلستُ كمن تُزري المقالةُ عِرضَه ... دنيئاً كعود الدوحةِ المترنِّم )
( وما جارُ بيتي بالذليل فَتُرْتَجى ... ظُلامَتُه يوماً ولا المتهضَّم )
( وَأَقْزَلُ آبائي وقسرٌ عَمارتي ... هما ردَّياني عِزَّتي وتكرُّمي )
( وأحمسُ يوماً إن دعوتُ أجابني ... عرانينُ منهم أهل أيدٍ وأنعم )
( فمن جار موْلىً يدفع الضيمَ جارُهُ ... إذا ضاع جاري يا أميمةُ أوْ دمي )
( وكيف يخاف الضيمَ من كان جاره ... مع الشمس ما إن يستطاع بسلم )
وهي قصيدة طويلة
ولأسد أشعار كثيرة ذكرت هذه منها ها هنا لأن تعلم إعراقهم في العلم والشعر وسائرها يذكر في كتاب النسب مع أخبار شعراء القبائل إن شاء الله تعالى

جده وابنه أدركا الإسلام
وأدرك أسد بن كرز الإسلام هو وابنه يزيد بن أسد فأسلما فأما أسد فلا أعلمه روى عن رسول الله وآله رواية كثيرة بل ما روى شيئا
وأما يزيد ابنه فروى عنه رواية يسيرة وذكر جرير بن عبد الله خبر إسلامه حدث بذلك عنه خالد بن يزيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال
أسلم أسد بن كرز ومعه رجل من ثقيف فأهدى إلى النبي

قوسا فقال له يا أسد من أين لك هذه النبعة فقال يا رسول الله تنبت بجبلنا بالسراة فقال الثقفي يا رسول الله الجبل لنا أم لهم فقال بل الجبل جبل قسر به سمي أبوهم قسر عبقر فقال أسد يا رسول الله ادع لي فقال اللهم اجعل نصرك ونصر دينك في عقب أسد بن كرز وما أدري ما أقول في هذا الحديث وأكره أن أكذب بما روي عن رسول الله ولكن ظاهر الأمر يوجب أنه لو كان رسول الله دعا له بهذا الدعاء لم يكن ابنه مع معاوية بصفين على علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ولا كان ابن ابنه خالد يلعنه على المنبر
ويتجاوز ذلك إلى ما ساء ذكره من شنيع أخباره قبحه الله ولعنه إلا أني أذكر الشيء كما روي ومن قال على رسول الله وآله ما لم يقل فقد تبوأ مقعده من النار كما وعده
وكان جرير بن عبد الله نافر قضاعة فبلغ ذلك أسد بن عبد الله وكان بينه وبينه أعني جريرا تباعد فأقبل في فوارس من قومه ناصرا لجرير ومعاونا له ومنجدا فزعموا أن أسدا لما أقبل في أصحابه فرآه جرير ورأى أصحابه في السلاح ارتاع وخافه فقيل له هذا أسد جاءك ناصرا لك فقال جرير ليت لي بكل بلد ابن عم عاقا مثل أسد فقال جعدة بن عبد الله الخزاعي يذكر ذلك من فعل أسد
( تدارك رَكْضُ المرء من آل عبقر ... جريراً وقد رانت عليه حلائبُه )
( فنفَّسَ واسترخى به العَقْدُ بعد ما ... تغشَّاه يوم لا تَوارى كواكبه )

( وقاك ابن كُرْزٍ ذو الفَعَال بنفسه ... وما كنتَ وَصَّالاً له إذ تحاربُهْ )
( إلى أسدٍ يأوِي الذليلُ ببيتِه ... ويلجَأ إذ أعيت عليه مذاهبهُ )
( فتى لا يزال الدهرُ يحمل مُعْظَماً ... إذا المجتدَى المسؤول ضَنَّت رواجِبُه )

خبر على لسان جده يزيد
وأما يزيد بن أسد فقد ذكرت إسلامه وقدومه مع أبيه على النبي وقد روى عنه أيضا حديثا ذكره هشيم بن بشر الواسطي عن سنان بن أبي الحكم قال سمعت خالد بن عبد الله القسري وهو على المنبر يقول
حدثني أبي عن جدي يزيد بن أسد قال قال رسول الله يا يزيد أحبب للناس ما تحبه لنفسك وخرج يزيد بن أسد في أيام عمر بن الخطاب في بعوث المسلمين إلى الشام فكان بها وكان مطاعا في اليمن عظيم الشأن
ولما كتب عثمان إلى معاوية حين حصر يستنجده بعث معاوية إليه بيزيد بن أسد في أربعة آلاف من أهل الشام فوجد عثمان قد قتل فانصرف إلى معاوية ولم يحدث شيئا ولما كان يوم صفين قام في الناس فخطب خطبة مذكورة حرضهم فيها فذكر من روى عنه خبره في ذلك الموضع أنه قام وعليه عمامة خز سوداء وهو متكئ على قائم سيفه فقال بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه وقد كان من قضاء الله جل وعز أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض والله يعلم أني كنت لذلك

كارها ولكنهم لم يبلعونا ريقنا ولم يدعونا نرتاد لديننا وننظر لمعادنا حتى نزلوا في حريمنا وبيضتنا وقد علمنا أن بالقوم حلماء وطغاما
فلسنا نأمن طغاهم على ذرارينا ونسائنا وقد كنا لا نحب أن نقاتل أهل ديننا فأحرجونا حتى صارت الأمور إلى أن يصير غدا قتالنا حمية فإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين والذي بعث محمدا بالحق لوددت أني مت قبل هذا ولكن الله تبارك وتعالى إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده فنستعين بالله العظيم ثم انكفأ

تخنثه في حداثته
ولم تكن لعبد الله بن يزيد نباهة من ذكرت من آبائه وأهل المثالب يقولون إنه دعي وكان مع عمرو بن سعيد الأشدق على شرطته أيام خلافة عبد الملك بن مروان فلما قتل عمرو هرب حتى سألت اليمانية عبد الملك فيه لما أمن الناس عام الجماعة فأمنه ونشأ خالد بن عبد الله بالمدينة وكان في حداثته يتخنث ويتتبع المغنين والمخنثين ويمشي بين عمر بن أبي ربيعة وبين النساء في رسائلهن إليه وفي رسائله إليهن وكان يقال له خالد الخريت فقال مصعب الزبيري كل ما ذكره عمر بن

أبي ربيعة في شعره فقال أرسلت الخريت أو قال أرسلت الجري فإنما يعني خالدا القسري وكان يترسل بينه وبين النساء
أخبرني بذلك الحرمي ومحمد بن مزيد وغيرهما عن الزبير عن عمه وأخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال
كان صديقا لعمر بن أبي ربيعة
بينما عمر بن أبي ربيعة ذات يوم يمشي ومعه خالد بن عبد الله القسري وهو خالد الخزاعي الذي يذكره في شعره إذا هما بأسماء وهند اللتين كان عمر يشبب بهما وهما يتماشيان فقصداهما وجلسا معهما مليا فأخذتهم السماء ومطروا فقام خالد وجاريتان للمرأتين فظللوا عليهم بمطرفة وبردين له حتى كف المطر وتفرقوا وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة
( أفي رسم دارٍ دمعُكَ المترقرقُ ... سفَاهاً وما استِنطاق ما ليس ينطِق )
( بحيث التقى جَمعٌ ومُفْضَى مُحسِّرٍ ... معالمُ قد كادت على الدهر تَخْلُق )

( ذكرتُ بها ما قد مضى من زماننا ... وذكرُك رسمَ الدّار مما يشوِّق )
( مُقاماً لنا عند العشاء ومَجْلساً ... لنا لم يكدِّره علينا مُعوّق )
( وممشَى فتاةٍ بالكساء يَكُنُّها ... به تحت عينٍ برقُها يتأَلَّق )
( يُبلُّ أَعالِي الثوب قطرٌ وتحته ... شُعاعٌ بدا يُعشِي العيونَ ويُشرِقُ )
( فأَحسنُ شيء بدءُ أولِ ليلةٍ ... وآخرُها حُزْنٌ إذا نَتَفرق )
الغناء في هذه الأبيات لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي وذكر الهشامي أنه منحول
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس المروزي قال حدثنا ابن عائشة قال
حضر ابن أبي عتيق عمر بن أبي ربيعة يوما وهو ينشد قوله
( ومن كان محروباً لإهْراق دمعة ... وَهَى غربُها فليأتنا نَبْكِه غدا )
( نُعنِه على الإثكال إن كان ثاكلاً ... وإن كان محزوناً وإن كان مُقْصَدا )
قال فلما أصبح ابن أبي عتيق أخذ معه خالدا الخريت وقال قم بنا إلى عمر فمضينا إليه فقال له ابن أبي عتيق قد جئنا لموعدك قال وأي موعد بيننا قال قولك فليأتنا نبكه غدا

قد جئناك لموعدك والله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا في قولك أو ننصرف على أنك غير صادق ثم مضى وتركه
قال ابن عائشة خالد الخريت هو خالد القسري
أخبرنا علي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق وأخبرنا محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن الحزامي والمثنى ومحمد بن سلام قالوا
خرجت هند والرباب إلى متنزه لهما بالعقيق في نسوة فجلستا هناك تتحدثان مليا ثم أقبل إليهما خالد القسري وهو يومئذ غلام مؤنث يصحب المغنين والمخنثين ويترسل بين عمر بن أبي ربيعة وبين النساء
فجلس إليهما فذكرتا عمر بن أبي ربيعة وتشوقتاه فقالتا لخالد يا خريت وكان يعرف بذلك لك عندنا حكمك إن جئتنا بعمر بن أبي ربيعة من غير أن يعلم أنا بعثنا بك إليه فقال أفعل فكيف تريان أن أقول له قالتا تؤذنه بنا وتعلمه أنا خرجنا في سر منه ومره أن يتنكر ويلبس لبسة الاعراب ليرانا في أحسن صورة ونراه في أسوإ حال فنمزح بذلك معه فجاء خالد إلى عمر فقال له هل لك في هند والرباب وصواحبات لهما قد خرجن إلى العقيق على حال حذر منك وكتمان لك أمرهما قال والله إني إلى لقائهن لمشتاق قال فتنكر والبس لبسة الاعراب وهلم نمض إليهن ففعل ذلك عمر ولبس ثيابا جافية وتعمم عمة الأعراب وركب قعودا له على رحل غير جيد وصار إليهن فوقف منهن قريبا وسلم

فعرفنه فقلن هلم إلينا يا أعرابي فجاءهن وأناخ قعوده وجعل يحدثهن وينشدهن فقلن له يا أعرابي ما أظرفك وأحسن إنشادك فما جاء بك إلى هذه الناحية قال جئت أنشد ضالة لي فقالت له هند أنزل إلينا واحسر عمامتك عن وجهك فقد عرفنا ضالتك وأنت الآن تقدر انك قد احتلت علينا ونحن والله احتلنا عليك وبعثنا إليك بخالد الخريت حتى قال لك ما قال فجئتنا على أسوأ حالاتك وأقبح ملابسك فضحك عمر ونزل إليهن فتحدث معهن حتى أمسوا ثم إنهم تفرقوا ففي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة

صوت
( ألم تعرفِ الأطلالَ والمتربَّعا ... ببطن حُليَّات دوارس بلقعا )
( إلى السّرْح من وادي المغمَّس بُدِّلَت ... معالمُه وبلا ونكباءَ زعزعا )
( فيَبْخلْنَ أو يُخبرن بالعلم بعد ما ... نَكَأْنَ فؤاداً كان قِدْماً مفجَّعا )
( لهندٍ وأَتْرابٍ لهند إذ الهوى ... جميعٌ وإِذْ لم نَخْشَ أن يتصدّعا )
في هذه الأبيات ثقيل أول لمعبد
( تبالهنَ بالعِرفان لمّا رأينني ... وقُلْنَ امرؤ باغٍ أَكلَّ وأوضعَا )
( وقرّبن أسبابَ الهوى لمتيّمٍ ... يقيس ذِراعاً كلّما قِسْنَ إِصْبعا )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن

المدائني وذكر مثل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى
أن كرز بن عامر جد خالد بن عبد الله عبد كان آبقا عن مواليه عبد القيس من هجر ويقال إن أصله من يهود تيماء وكان أبق فظفرت به عبد شمس فكان فيهم عند غمغمة بن شق الكاهن ثم وهبوه لقوم من بني طهية فكان عندهم حتى أدرك وهرب فأخذته بنو أسد بن خزيمة فكان فيهم وتزوج مولاة لهم يقال لها زرنب ويقال إنها كانت بغيا فأصابها فولدت له أسد بن كرز سماه باسم أسد بن خزيمة لرقة كانت فيهم ثم أعتقوه ثم إن نفرا من أهل هجر مروا به فعرفوه فلما رجعوا إلى هجر اخذوا فداءه وصاروا إلى مواليه فاشتروه وابنه فلم يزل فيهم حتى خرج معهم في تجارة إلى الطائف فلما رأى دار بجيلة أعجبته فاشترى نفسه وابنه فجاء فنزل فيهم فأقام مدة ثم ادعى إليهم وعاونه على ذلك حي من أحمس يقال لهم بنو منبة فنفاهم أبو عامر ذو الرقعة سمي بذلك لأن عينه أصيبت فكان يغطيها بخرقة وهو ابن عبد شمس بن جوين بن شق فنزل كرز في بني سحمة هاربا من ذي الرقعة ثم وثب على ابن عم للقتال بن مالك السحمي فقتله وهرب إلى البحرين مع التجار فأقام مدة ثم مات ونشأ ابنه يزيد بن أسد يدعي في بجيلة ولا تلحقه إلى أن مات ونشأ ابنه عبد الله بن يزيد ثم مضى إلى حبيب بن مسلمة الفهري وكتب له وكان كاتبا مفوها وذلك في إمارة عثمان بن

عفان فنال حظا وشرفا وكان يقال له خطيب الشيطان ووسم خيله القسري ثم تدسس ليملك خيلا في بلاد قسر فمنعته بجيلة ذلك أشد المنع فلم يقدر عليه حتى عظم أمره ونشأ ابنه خالد ومات هو فكان خالد في مرتبته ثم ولي العراق وقال قيس بن القتال له في هذا المعنى
( ومن سَمَّاك باسمك يا بن كرز ... وأين المولد المعروف تدري )
وقال بجير بن ربيعة السحمي
( نفته من الشِّعبين قَسرٌ بِعزّها ... إلى دار عبد القيس نَفْي المُزَنَّم )

أبوه وابن نصير في حضرة عبد الملك بن مروان
قال أبو عبيدة وكان بين عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز وبين أبي موسى بن نصير كلام عند عبد الملك بن مروان فقال له عبد الله إنما أنت عبد لعبد القيس فقال اسكت فقد عرفناك إن لم تعرف نفسك فقال له عبد الله أنا ابن أسد بن كرز نحن الذين نضمن الشهر ونطعم الدهر فقال له تلك قسر ولست منهم وإنما أنت عبد آبق قد كنت أراك تروم مثل ذلك فلا تقدر عليه ثم نفاه جرير بن عبد الله إلى الشام فأقام بها مدة ثم مضى إلى حبيب فقال له دع ذكر البحرين لفرارك أتراك منهم وأنت عبد واهلك من يهود تيماء فأسكتهما عبد الملك ولم يسره ما قال عبد الله لأبي موسى بن نصير لأنه كان على شرطه عمرو بن سعيد يوم قتله فقال في ذلك أبو موسى بن نصير

( جاريت غيرَ سَؤُومٍ في مطاولة ... يا بن الوشائط من أبناء ذي هجر )
( لا من نزارٍ ولا قحطان تعرفكم ... سوى عبيدٍ لعبد القيس أو مُضر )

عرفت أسرته بالكذب
وقال أبو عبيدة فأخبرني عبد الله بن عمر بن زيد الحكمي قال
كان يزيد بن أسد يلقب خطيب الشيطان وكان أكذب الناس في كل شيء معروفا بذلك ثم نشأ ابنه عبد الله فسلك منهاجه في الكذب ثم نشأ خالد ففاق الجماعة إلا أن رياسة وسخاء كانا فيه سترا ذلك من أمره
قال عمر بن زيد فإني لجالس على باب هشام بن عبد الملك إذ قدم إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بخبر المغيرة بن سعد وخروجه بالكوفة فجعل يأتي بأحاديث أنكرها فقلت له من أنت يا بن أخي قال إسماعيل بن عبد الله بن يزيد القسري فقلت يا بن أخي لقد أنكرت ما جرى حتى عرفت نسبك فجعل يضحك
أخبرني اليزيدي عن سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم وذكره أبو عبيدة واللفظ له قالا
كان خالد بن عبد الله من أجبن الناس فلما خرج عليه المغيرة عرف ذلك وهو على المنبر فدهش وتحير فقال أطعموني ماء فقال الكميت في ذلك ومدح يوسف بن عمر

( خرجتَ لهم تمشي البَراحَ ولم تكن ... كمن حِصْنُه فيه الرِّتَاحُ المُضَبَّبُ )
( وما خالدٌ يستطعم الماءَ فاغرا ... بِعدْلِكَ والداعي إلى الموت ينعَبُ )
وقال ابن الكلبي أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله سألني عن جدته أم كرز وكانت أمة بغيا لبني أسد يقال لها زرنب فقلت له هي زينب بنت عرعرة بن جذيمة بن نصر بن قعين فسر بذلك ووصلني

بنو أسد يتبرؤون منه
قال قال خالد ذات يوم لمحمد بن منظور الأسدي يا أبا الصباح قد ولدتمونا فقال ما أعرف فينا ولادة لكم وإن هذا لكذب فقيل له لو أقررت للأمير بولادة ما ضرك قال أأفسد وأستنبط ما ليس مني وأقر بالكذب على قومي فأمر خالد خداشا الكندي وكان عامله بضرب مولى لعباد بن إياس الأسدي فقتله فرفع إلى خالد فلم يقده فوثب عباد على خداش فقتله وقال
( لعمرِي لئن جارتْ قضيةُ خالدٍ ... عن القصد ما جارت سيوف بني نصر )
فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن سحيم بن حصين قال
قتل خداش الكندي رجلا من بني أسد وكان الكندي عاملا لخالد

القسري فطولب بالقود وهو على دهلك فقال والله لئن أقدت من عاملي لأقيدن من نفسي ولئن أقدت من نفسي ليقيدن أمير المؤمنين من نفسه ولئن أقاد أمير المؤمنين من نفسه ليقيدن رسول الله من نفسه ولئن أقاد رسول الله من نفسه هاه هاه يعرض بالله عز و جل لعنة الله على خالد

أعشى همدان يهجوه ويهجو أمه
أخبرني الحسن قال حدثنا الخراز عن المدائني عن عيسى بن يزيد وابن جعدبة وأبي اليقظان قالوا
كانت أم خالد رومية نصرانية فبنى لها كنيسة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة فكان إذا أراد المؤذن في المسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم
فقال أعشى همدان يهجوه ويعيره بأمه وكان الناس بالكوفة إذا ذكروه في ذلك الوقت قالوا ابن البظراء فأنف من ذلك فيقال إنه ختن أمه وهي كارهة فعيره الأعشى بذلك حين يقول
( لعمرُكَ ما أدري وإِني لسائلٌ ... أبظراءُ أم مختونةٌ أمُّ خالد )

( فإن كانت الموسى جرت فوق بَظرها ... فما خُتِنت إلا وَمَصَّانُ قاعد )
( يرى سوأة من حيث أطلع رأسه ... تمرّ عليها مرهفاتُ الحدائِد )
وقال أيضا فيه يرميه باللواط
( ألم تَرَ خالداً يَختار ميماً ... ويترك في النِّكاح مَشَقَّ صادِ )
( ويُبغِض كلَّ آنسةٍ لعوبِ ... ويَنكِح كلَّ عبدٍ مستقاد )
( ألا لعن الإلهُ بني كُرَيْزٍ ... فكرزٌ من خنازير السواد )
قال المدائني في خبره وأخبرني ابن شهاب بن عبد الله قال قال لي خالد بن عبد الله القسري
اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر فمكثت فيه أياما ثم أتيته فقال ما صنعت فقلت بدأت بنسب مضر وما أتممته فقال اقطعه قطعه الله مع أصولهم واكتب لي السيرة فقلت له فإنه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فأذكره فقال لا إلا أن تراه في قعر الجحيم لعن الله خالدا ومن ولاه وقبحهم وصلوات الله على أمير المؤمنين

أخبار عن زندقته
وقال أبو عبيدة حدثني أبو الهذيل العلاف قال
صعد خالد القسري المنبر فقال إلى كم يغلب باطلنا حقكم أما آن لربكم أن يغضب لكم وكان زنديقا أمه نصرانية فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين ويأمرهم بامتهانهم وضربهم وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئونهن فيطلق لهم ذلك ولا يغير عليهم
وقال المدائني كان خالد يقول لو أمرني أمير المؤمنين نقضت الكعبة حجرا حجرا ونقلتها إلى الشام
قال ودخل عليه فراس بن جعدة بن هبيرة وبين يديه نبق فقال له العن علي بن أبي طالب ولك بكل نبقة دينار ففعل فأعطاه بكل نبقة دينارا
قال المدائني وكان له عامل يقال له خالد بن أمي وكان يقول والله لخالد بن أمي أفضل أمانة من علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
وقال له يوما أيما أعظم ركيتنا أم زمزم فقال له أيها الأمير من يجعل الماء العذب النقاخ مثل الملح الأجاج وكان يسمى زمزم أم الجعلان

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
أتى الفرزدق خالد بن عبد الله القسري يستحمله في ديات حملها فقال له إيه يا فرزدق كأني بك قد قلت آتي الحائك بن الحائك فأخدعه عن ماله إن أعطاني أو أذمه إن منعني
فأنا حائك بن حائك
ولست أعطيك شيئا فاذممني كيف شئت فهجاه الفرزدق بأشعار كثيرة منها
( ليتني من بَجيلةِ اللؤم حتى ... يُعْزلَ العاملُ الذي بالعراق )
( فإذا عامل العراقين ولَّى ... عدت في أسرة الكرام العتاق )
قال وإنما أراد خالد بقوله الحائك بن الحائك تصحيح نسبه في اليمن والانتفاء من العبودية لأهل هجر

تطاوله على الخلافة والنبوة
كان خالد شديد العصبية على مضر
وبلغ هشاما أنه قال ما ابني يزيد بن خالد بدون مسلمة بن هشام فكان ذلك سبب عزله إياه عن العراق
قال وخطب بمكة وقد أخذ بعض التابعين فحبسه في دور آل الحضرمي فأعظم الناس ذلك وأنكروه فقال قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه والله لو أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرًا حجراً لنقضتها والله لأمير المؤمنين أكرم على الله من أنبيائه عليهم السلام ولعن الله تعالى خالدا وأخزاه

أخبرني أبو عبيدة الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني عبيد الله بن حباب قال حدثني عطاء بن مسلم قال قال خالد بن عبد الله وذكر النبي فقال
أيما أكرم عندكم على الرجل رسوله في حاجته أو خليفته في أهله يعرض بأن هشاما خير من النبي
قال أبو عبيدة خطب خالد يوما فقال إن إبراهيم خليل الله استسقى ماء فسقاه الله ملحا أجاجا وإن أمير المؤمنين استسقى الله ماء فسقاه الله عذبا نقاخا وكان الوليد حفر بئرا بين ثنية ذي طوى وثنية الحجون فكان خالد ينقل ماءها فيوضع في حوض إلى جنب زمزم ليرى الناس فضلها
قال فغارت تلك البئر فلا يدرى أين هي إلى اليوم

كرهه لعلي بن أبي طالب
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العباس بن ميمون طايع عن ابن عائشة قال
كان خالد بن عبد الله زنديقا وكانت أمه رومية نصرانية وهبها عبد الملك لأبيه فرأى يوما عكرمة مولى ابن عباس وعلى رأسه عمامة سوداء فقال إنه بلغني أن هذا العبد يشبه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه وإني لأرجو أن يسود الله وجهه كما سود وجه ذاك

قال حدثني من سمعه وقد لعن عليا صلوات الله عليه وسلامه فقال في ذكره علي بن أبي طالب بن عم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وزوج ابنته فاطمة وأبو الحسن والحسين هل كنيت اللهم العن خالدا واخزه وجدد على روحه العذاب
وقال أبو عبيدة ذكر إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري بني أمية عند أبي العباس السفاح في دولة بني هاشم فذمهم وسبهم وقال له حماس الشاعر مولى عثمان بن عفان يا أمير المؤمنين أيسب بني عمك وعمالهم وعماتك رجل اجتمع هو والخريت في نسب أن بني أمية لحمك ودمك فكلهم ولا تؤكلهم فقال له صدقت وأمسك إسماعيل فلم يحر جوابا

سليمان أمر له بمائة سوط
وقال ابن الكلبي كان خالد بن عبد الله أميرا على مكة فأمر رأس الحجبة أن يفتح له الباب وهو ينظر فأبى فضربه مائة سوط فخرج الشيبي إلى سليمان بن عبد الملك يشكوه فصادف الفرزدق بالباب فاسترفده فلما أذن للناس ودخلا شكا الشيبي ما لحقه من خالد ووثب الفرزدق فأنشأ يقول
( سلُوا خالداً لا أكرم الله خالداً ... متى ولِيَتْ قسرٌ قريشاً تَدينُها )
( أَقْبلَ رسول الله أم ذاك بعدَه ... فتلك قريشٌ قد أغثَّ سمينُها )

( رَجَونا هُدَاه لا هدَى الله خالداً ... فما أمُّه بالأم يُهْدَى جنِينُها )
فحمي سليمان وأمر بقطع يد خالد وكان يزيد بن المهلب عنده فما زال يفديه ويقبل يده حتى أمر بضربه مائة سوط ويعفى عن يمينه فقال الفرزدق في ذلك
( لعمري لقد صُبَّتْ على ظهر خالد ... شآبيبُ ما استَهْللْنَ من سَبَل القَطر )
( أيُضْرَبُ في العِصيان من كان طائعاً ... ويَعصِي أميرَ المؤمنين أخو قَسْرِ )
( فنفسَك لُمْ فيما أتيتَ فإنما ... جُزِيت جزاءً بالمُحَدْرَجَةِ السُّمرِ )
( وأنتَ ابنُ نصرانيَّةٍ طال بَظْرها ... غَذَتْك بأولاد الخنازير والخمر )
( فلولا يزيدُ بن المهلَّب حَلَّقَتْ ... بكفك فتخاءٌ إلى الفرخ في الوكرِ )
( لَعمرِي لقد صالَ ابنُ شيبةَ صولةً ... أرتْك نجومَ الليل ظاهرةً تسري )

هجو الفرزدق له
فحقدها خالد على الفرزدق فلما وُلِّي وحفر نهر العراق بواسط قال فيه الفرزدق أبياتا يهجوه منها
( وأهلكتَ مَالَ الله في غير حقِّهِ ... على النَّهر المشؤوم غيرِ المباركِ )
( وتضرب أقواماً صِحاحاً ظُهورُهم ... وتتْركُ حقَّ الله في ظهر مالِك )

وقال ويقال إنها للمفرج بن المرقع
( كأنك بالمبارك بعد شهرٍ ... يخوض غمارَهُ نَقْعُ الكلاب )
( كذبت خليفةَ الرحمن عنه ... وكيف يرى الكذوبُ جَزا الكِذاب )
فأخذ خالد الفرزدق فحبسه واعتل عليه بهجائه إياه في حفر المبارك فقال الفرزدق في السجن
( أَبلغْ أميرَ المؤمنين رسالةً ... فعجَّل هداكَ الله نزعَك خالدَا )
( بَنَى بِيعةً فيها الصَّليبُ لأمّهِ ... وهدَّم من بغض الإله المساجدَا )
فبعث هشام إلى خالد بن سويد يأمره بإطلاق الفرزدق فأطلقه فقال الفرزدق يهجو خالدا القسري
( أَلا لَعن الرحمنُ ظهرَ مطيةٍ ... أّتتْنَا تَخَطَّى من بعيد بخالد )
( وكيف يؤمُّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد )
أخبرنا الحسن قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني قال
شتم عبد الله بن عياش الهمذاني خالد بن عبد الله في أيام منصور بن جمهور فسمعه رجل من لخم فقدمه إلى منصور واستعداه عليه فقال له منصور ما تريد فقال ابن عياش أمرنا أيها الأمير برقية العقرب وفيه عجب لخمي يستنصر كلبيا على همذاني لبجلي دعي

وقال المدائني في خبره كان خالد بن عبد الله قريبا من هشام بن عبد الملك مكينا عنده فأدل وتمرغ عليه حتى إنه التفت يوما إلى ابنه يزيد بن خالد عند هشام فقال له كيف بك يا بني إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين قال أواسيهم ولو في قميصي فتبين الغضب في وجه هشام واحتملها

لقب هشاما بابن الحمقاء
قال المدائني حدثني بذلك عبد الكريم مولى هشام إنه كان واقفا على رأس هشام فسمع هذا من خالد قال وكان إذا ذكر هشام قال له ابن الحمقاء فسمعها رجل من أهل الشام فقال لهشام إن هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة أبيك وإخوتك يذكرك بأسوأ الذكر فقال ماذا يقول لعله يقول الأحول قال لا والله ولكن مالا تنشق به الشفتان قال فلعله قال ابن الحمقاء فأمسك الشامي فقال قد بلغني كل ذلك عنه
واتخذ خالد ضياعا كثيرة حتى بلغت غلته عشرة آلاف ألف درهم فدخل عليه دهقان كان يأنس به فقال له إن الناس يحبون جسمك وأنا أحب جسمك وروحك قد بلغت غلة ابنك أكثر من عشرة آلاف ألف سوى غلتك وإن الخلفاء لا يصبرون على هذا فاحذر فقال له خالد إن أخي أسد بن عبد الله قد كلمني بمثل هذا أفأنت أمرته قال نعم قال ويحك دعه فرب يوم كان يطلب فيه الدرهم فلا يجده

عرف ببخله الشديد
وقال المدائني في خبره كان خالد بن عبد الله بخيلا على الطعام فوفد إليه رجل له به حرمة فأمر أن يكتب له بعشرة آلاف درهم وحضر الطعام فأتي به فأكل أكلا منكرا فأغضبه وقال للخازن لا تعرض علي صكه فعرفه الخازن ذلك فقال له ويحك فما الحيلة قال تشتري غدا كل ما يحتاج إليه في مطبخه وتهب الطباخ دراهم حتى لا يشتري شيئًا وتسأله إذا أكل خالد أن يقول له إنك اليوم في ضيافة فلان فاشترى كل ما أراد حتى الحطب فبلغ خمسمائة درهم فأكل خالد فاستطاب ما صنع له
فقال له الطباخ إنك كنت اليوم في ضيافة فلان قال له وكيف ذاك فأخبره فاستحيا خالد ودعا بصكه فصيره ثلاثين ألفا ووقع فيه وأمر الخازن بتسليمها إليه
قال وكان لبعض التجار على رجل دين فأراد استعداء خالد عليه فلاذ الرجل ببواب خالد وبره فقال له سأحتال لك في أمر هذا بحيلة لا يدخله عليه أبدا قال فافعل فلما جلس خالد للأكل أذن البواب للتاجر فدخل وخالد يأكل سمكا فجعل يأكل أكلا شنيعا كثيرا فغاظ ذلك خالدا فلما خرج قال لبوابه فيم أتاني هذا قال يستعدي على فلان في دين يدعيه عليه قال والله إني لأعلم أنه كاذب فلا يدخلن علي وتقدم إلى صاحب الشرطة بقبض يده عن صاحبه
كان يلحن في خطبه
وقال المدائني في خبره

كان خالد يوما يخطب على المنبر وكان لحنة وكان له مؤدب يقال له الحسين بن رهمة الكلبي وكان يجلس بإزائه فإذا شك في شيء أومأ إليه وكان لخالد صديق من تغلب زنديق يقال له زمزم فلما قام يخطب على المنبر قام إليه التغلبي في وسط خطبته وقال قد حضرتني مسألة قال ويحك أما ترى الشيطان عينه في عيني يعني حسينا قال لا بد والله منها قال هاتها قال أخبرني قلمسان إذا ساف ثم رفع رأسه وكرف أي شيء يقول قال أراه يقول ما أطيبه يا رباه قال صدقت ما كان ليستشهد على هذا سوى ربه
قال المدائني وقال خالد يوما على المنبر هذا كما قال الله عز و جل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم أرتج عليه فقال للتغلبي قم فافتح علي يا أبا زمزم سورة كذا وكذا فقال خفض عليك أيها الأمير لا يهولنك ذلك فما رأيت قط عاقلا حفظ القرآن وإنما يحفظه الحمقى من الرجال قال صدقت يرحمك الله
وقال المدائني حدثني أبو يعقوب الثقفي قال
قال خالد بن عبد الله للعريان يا عريان أعجزت عن الشرط حتى أولي غيرك فإن الغناء قد فشا وظهر قال لم أعجز وإن شئت فاعزلني فقال له خذ لي المغنيات فأحضره خمسا منهن أو ستا فأدخلهن إليه فنظر

إلى واحدة منهن بيضاء دعجاء كأنها أشربت ماء الذهب فدعا لها بكرسي فجلست ثم قال لها أين البربط الذي كانت تضرب به فأحضر ثم سوته فغنت
( إلى خالدٍ حتّى أنخنَ بخالدٍ ... فنعم الفتى يُرجَى ونعم المؤمّلُ )
فقال اعدلي عن هذا إلى غيره فغنت
( أروحُ إلى القصَّاص كل عَشيَّةٍ ... أرجِّي ثوابَ الله في عدد الخُطَا )
قال وأقبل قاص المصر فقال له خالد أكانت هذه تروح إليك قال لا وما مثلها يروح إلي قال خذ بيدها فهي لك ومولاها بالباب فسأل عنها فقيل وهبها للقاص فتحمل عليه بأشراف الكوفة فلم يرددها حتى اشتراها منه بمائتي دينار
وقال المدائني قال خالد في خطبته والله ما إمارة العراق مما يشرفني فبلغ ذلك هشاما فغاظه جدا وكتب إليه
بلغني يا بن النصرانية أنك تقول إن إمارة العراق ليست مما يشرفك صدقت والله ما شيء يشرفك وكيف تشرف وأنت دعي إلى بجيلة القبيلة القليلة الذليلة أما والله إني لأظن أن أول ما يأتيك ضغن من قيس فيشد يديك إلى عنقك

هشام يعزله ويعذبه
وقال المدائني حدثني شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم

قال لم تزل أفعال خالد به حتى عزله هشام وعذبه وقتل ابنه يزيد بن خالد فرأيت في رجله شريطا قد شد به والصبيان يجرونه فدخلت إلى هشام يوما فحدثته وأطلت فتنفس ثم قال يا خالد رب خالد كان أحب إلي قربا وألذ عندي حديثا منك قال يعني خالدا القسري فانتهزتها ورجوت أن أشفع له فتكون لي عند خالد يد فقلت يا أمير المؤمنين فما يمنعك من استئناف الصنيعة عنده فقد أدبته بما فرط منه فقال هيهات إن خالدا أوجف فأعجف وأدل فأمل وأفرط في الإساءة فأفرطنا في المكافأة فحلم الأديم ونغل الجرح وبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين فلم يبق فيه مستصلح ولا للصنيعة عنده موضع عد إلى حديثك

أخباره مع عمر بن أبي ربيعة
فأما أخباره في تخنثه وإرسال عمر بن أبي ربيعة إياه إلى النساء فأخبرني به علي بن صالح بن الهيثم عن أبي هفان عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الحارث بن سعد السعيدي عن إبراهيم بن قدامة الحاطبي عن أبيه واللفظ لعلي بن صالح في خبره قالا قال الحاطبي

أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين فانتظرته في مجلس قومه حتى إذا تفرق القوم دنوت منه ومعي صاحب لي فقال لي صاحبي هل لك في أن تريغه عن الغزل فننظر هل بقي منه شيء عنده فقلت له دونك فقال يا أبا الخطاب أحسن والله ريسان العذري قاتله الله قال وفيم أحسن قلت حيث يقول
( لو جُزَّ بالسيف رأسِي في مودّتها ... لمالَ لا شك يَهوِي نحوَها راسي )
فقال نعم أحسن فقلت يا أبا الخطاب وأحسن والله تحية بن جنادة العذري قال في ماذا قلت حيث يقول
( سرت لعينيك سَلْمى بعد مغفاها ... فبِتَّ مستوهناً من بَعْدِ مسراها )
( فقلت أهلاً وسهلاً من هَدَاكِ لنا ... إن كنتِ تمثالَها أو كنتِ إِيَّاها )
وفي رواية الزبير خاصة
( تأتي الرياحُ التي من نَحْوِ أرضكم ... حتى أقولُ دنَتْ منّا برَيّاها )
( وقد تراخت بها عنّا نوىً قَذَفٌ ... هيهاتَ مُصْبحُها من بعدِ مُمْساها )
( مِنْ حُبِّها أتمنّى أنْ يلاقِيَني ... من نحو بلدتها ناعٍ فينعاها )
( كيما أقولَ فِراقٌ لا لقاء له ... وتُضمرَ اليأسَ نفسِي ثم تَسْلاها )
( ولو تموت لراعتْنِي وقلتُ لها ... يا بؤسَ للدهر ليت الدهرَ أبقاها )
ويروي
( لراعتني منِيَّتُها وقلتُ يا بؤس ليت الدهرَ أبقاها )
فضحك عمر ثم قال يا ويحه أحسن والله لقد هيجتما علي ما

كان ساكنا مني فلأحدثنكما حديثا حلوا بينا أنا أول أعوامي جالس إذا بخالد الخريت قال مررت بأربع نسوة قبيل يردن ناحية كذا وكذا من مكة لم أر مثلهن قط فيهن هند فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من حديثهن ولا يعلمن فقلت وكيف لي بأن يخفى ذلك قال تلبس لبسة الأعراب ثم تقعد على قعود كأنك تنشد ضالة فلا يشعرن حتى تهجم عليهن قال فجلست على قعود ثم أتيتهن فسلمت عليهن فآنسنني وسألنني أن أنشدهن فأنشدتهن لكثير وجميل وغيرهما وقلن يا أعرابي ما أملحك لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا فإذا أمسيت انصرفت فأنخت قعودي وجلست معهن فحدثتهن وأنشدتهن فدنت هند فمدت يدها فجذبت عمامتي فألقتها عن رأسي ثم قالت تالله لظننت أنك خدعتنا نحن والله خدعناك أرسلنا إليك خالدا الخريت في إتياننا بك على أقبح هيئتك ونحن على أحسن هيئتنا ثم أخذن بنا في الحديث فقالت إحداهن يا سيدي لو رأيتني منذ أيام وأصبحت عند أهلي فأدخلت رأسي في جيبي فنظرت إلى حري فرأيته ملء العس والقس فصحت يا عمراه فصحت لبيك لبيك ولم أزل معهن في أحسن وقت إلى أن أمسينا فتفرقنا عن أنعم عيش فذلك حين أقول
( أَلم تعرفِ الأطلالَ والمتربَّعا ... ببطن حُلَيّات دَوارسَ بَلْقعا )

وذكر الأبيات
انقضت أخبار خالد لعنة الله عليه أبدا

صوت
( أنائلُ ما رؤيا زعمتِ رأيْتِها ... لنا عجبٌ لو أَنَّ رؤياكِ تَصْدُقُ )
( أنائلُ ما للعيش بعدك لذةٌ ... ولا مشربٌ نلقاه إلا مُرَنَّق )
( أنائلُ إنِّي والذي أَنا عبدُه ... لقد جعلتْ نفسي من البين تُشفِق )
( لعمرُك إن البين منك يشوقني ... وبعضُ بُعادِ البين والنأي أشوقُ )
الشعر لصخر بن الجعد الخضري
أخبرنا بذلك محمد بن مزيد عن الزبير بن بكار أن عمه أنشده هذه القصيدة لصخر بن الجعد الخضري وأنا أذكرها بعقب أخبار صخر ومن الناس من يروي هذه الأبيات لجميل ولم يأت ذلك من وجه يصح والزبير أعلم بأشعار الحجازيين
والغناء لعريب خفيف ثقيل عن الهشامي وفيه لابن المكي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو

أخبار صخر بن الجعد ونسبه
صخر بن الجعد الخضري والخضر ولد مالك بن طريف بن محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وصخر أحد بني جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف قال وسمي ولد مالك بن طريف الخضر لسوادهم وكان مالك شديد الأدمة وخرج ولده إليه فقيل لهم الخضر والعرب تسمي الأسود الأخضر
وهو شاعر فصيح من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وقد كان يعرض لابن ميادة لما انقضى ما بينه وبين حكم الخضري من المهاجاة ورام أن يهاجيه فترفع ابن ميادة عنه
خبره مع محبوبته كأس
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن الزبير بن بكار مجموعا وأخبرني بأخبار له متفرقة

الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار
وحدثني بها غيرهما من غير رواية الزبير فذكرت كل شيء من ذلك مفردا ونسبته إلى راويه
قال الزبير فيما رواه هارون عنه
حدثني من أثق به عن عبد الرحمن بن الأحول بن الجون قال
كان صخر بن الجعد مغرما بكأس بنت بجير بن جندب وكان يشبب بها فلقيه أخوها وقاص وكان شجاعا فقال له يا صخر إنك تتسبب بابنة عمك وشهرتها ولعمري ما بها عنك مذهب ولا لنا عنك مرغب فإن كانت لك فيها حاجة فهلم أزوجكها وإن لم تكن لك فيها حاجة فلا أعلمن ما عرضت لها بذكر ولا أسمعنه منك فأقسم بالله لئن فعلت ذلك ليخالطنك سيفي فقال له بل والله إن لي لأشد الحاجة إليها فوعده موعدا وخرج صخر لموعده حتى نزل بأبيات القوم فنزل منزل الضيف فقام وقاص فذبح وجمع أصحابه
وأبطأ صخر عنهم فلما رأى ذلك وقاص بعث إليه أن هلم لحاجتك فأبطأ ورجع الرسول فقال مثل قوله فغضب
وعمد إلى رجل من الحي ليس يعدل بصخر يقال له حصن وهو مغضب لما صنع فحمد الله وأثنى عليه وزوجه كأس وافترق القوم ومروا بصخر فأعلموه تزويج كأس بحصن فرحل عنهم من تحت الليل واندفع يهجوها بالأبيات التي قذفها فيها فيما قذفها وذلك قوله حين يقول

( وأنكحَها حصناً لَيَطْمِسَ حَملَها ... وقد حملَتْ من قبلِ حصنٍ وجرَّتِ )
أي زادت على تسعة أشهر قال وترافع القوم إلى المدينة وأميرها يومئذ طارق مولى عثمان قال فتنازعوا إليه ومعهم يومئذ رجل يقال له حزم وكان من أشد الناس على صخر شراًّ قال وفيه يقول صخر
( كفى حَزَناً لو يعلمُ النّاسُ أنّني ... أدافعُ كأساً عند أبوابِ طارقِ )
( أَتنسيْنَ أياماً لنا بسُويْقَةٍ ... وأيامَنا بالجِزع جِزْع الخلائقِ )
( لياليَ لا نخشى انصِداعاً من الهوى ... وأيامَ حزمٌ عندنا غيرُ لائِق )
( إذا قلت لا تَفْشِي حديثي تعجرفَت ... زياداً لِوُدِّها هنا غيرِ صادق )
قال فأقاموا عليه البينة بقذف كأس فضرب الحد وعاد إلى قومه وأسف على ما فاته من تزويج كأس فطفق يقول فيها الشعر

قصيدته في كأس
قال الزبير فأنشدني عمي وغيره لصخر قوله
( لقد عاود النمسَ الشقيَّةَ عِيدُها ... نعم إِنَّهُ قد عاد نحساً سُعودُها )

( وَعاوَدَهُ من حُبِّ كأسٍ ضَمانةٌ ... على النأْيِ كانت هيضةً تستقيدها )
( وَأنى ترجِّيها وأصبحَ وصلُها ... ضعيفاً وأمست هَمَّه لا يكيدها )
( وقد مَرَّ عَصْرٌ وهْي لا تستزيدُني ... لما استُوْدِعتْ عندي ولا أستزيدها )
( فما زلتَ حتى زلَّتِ النعلُ زَلَّة ... برجلك في زوراءَ وعثٍ صعودها )
( ألا قل لكأْسٍ إن عرضتَ لبيتِها ... فأَين بُكا عيني وأين قصيدُها )
( لعل البُكا يا كأسُ إن نفع البكا ... يُقرِّب دنيانا لنا فيعيدُها )
( وكانتْ تناهتْ لوعةُ الودِّ بيننا ... فقد أصبَحَتْ يُبْساً وأُذبل عودُها )
ويروى وقد ذاء عودها يقال ذبل وذأى وذوى بمعنى واحد
( لياليَ ذاتُ الرمْسِ لا زال هيْجُها ... جنوباً ولا زالت سحابٌ تجودُها )
( وعيشٌ لنا في الدهر إذ كان قَلبُه ... يطيب لديه بُخْلُ كأسٍ وجودُها )
( تذكَّرتُ كأساً إذ سَمِعْتُ حمامةً ... بكت في ذُرَا نخل طِوالٍ جريدُها )
( دعت ساقَ حُرٍّ فاستَجبتُ لصوتها ... مولَّهَةً لم يبقَ إلا شريدُها )
( فيا نفسُ صبراً كلُّ أَسبابِ واصلٍ ... ستنمِي لها أسباب هَجْرٍ تُبيدُها )
قال أبو الحسن الأخفش
ستنمي لها أسباب صرم تبيدها أجود
( وليلٍ بَدَتْ للعين نارٌ كأنها ... سنا كوكبٍ للمستبين خُمودها )

( فقلت عساها نارُ كأسٍ وعلَّها ... تَشكَّى فأَمْضِي نحوَها وأعودُها )
( فتسمع قولي قبل حتف يَصِيدُني ... تُسَرُّ بِه أو قّبْلَ حتفٍ يصيدها )
( كأن لم نكُنْ يا كأس إلْفَى مَودةٍ ... إذِ الناسُ والأيامُ تُرْعَى عهودُها )
أخبرني عبد الله بن مالك النحوي قال حدثنا محمد بن حبيب قال
لما ضرب صخر بن الجعد الحد لكأس وصارت إلى زوجها ندم على ما فرط منه واستحيا من الناس للحد الذي ضربه فلحق بالشام فطالت غيبته بها ثم عاد فمر بنخل كان لأهله ولأهل كأس فباعوه وانتقلوا إلى الشام فمر بها صخر ورأى المبتاعين لها يصرمونها فبكى عند ذلك بكاء شديدا وأنشأ يقول
( مررتُ على خَيماتِ كأسٍ فأَسبلتْ ... مدامعُ عيني والرياحُ تُميلُها )
( وفي دارهمْ قومٌ سواهم فأَسبلتْ ... دموعٌ من الأجفان فاض مسيلُها )
( كذاكَ الليالي ليسَ فيها بسالمٍ ... صديقٌ ولا يبقى عليها خَليلُها )
وقال وهو بالشام
( ألا ليتَ شعري هل تغيَّرَ بَعدَنا ... عن العهدِ أم أَمْسَى على حاله نجدُ )
( وعهدِي بنجدٍ منذ عشرين حِجَّةً ... ونحن بُدنيا ثَمَّ لمْ نَلْقَها بعدُ )
( به الخوصَةُ الدهماءُ تحت ظلالها ... رياضٌ بها الحَوْذان والنَّفَل الجعد )

قال ومر على غدير كانت كأس تشرب منه ويحضره أهلها ويجتمعون عليه فوقف طويلا عليه يبكي وكان يقال لذلك الغدير جنان فقال صخر
( بَلِيتُ كما يَبْلَى الرّداءُ ولا أَرَى ... جَناناً ولا أكنافَ ذِرْوَةَ تَخْلُقُ )
( أُلَوِّي حيازيمي بِهِنَّ صبابةً ... كما تتلوَّى الحيَّةُ المُتَشَرِّقُ )

شعره في رثاء كأس
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب قال قال السعيدي حدثني سبرة مولى يزيد بن العوام قال
كان صخر بن الجعد المحاربي خدنا لعوام بن عقبة وكان عوام يهوى امرأة من قومه يقال لها سوداء فماتت فرثاها فلما سمع صخر بن الجعد المرثية قال وددت أن أعيش حتى تموت كأس فأرثيها فماتت كأس فقال
( على أُمّ داودَ السلامُ ورحمةٌ ... من الله يجري كلَّ يوم بشيرُها )
( غداة غدا الغادون عنها وغُودِرَتْ ... بلمَاعَةِ القِيعان يستنُّ مورُها )
( وغيِّبتُ عنها يوم ذاك وليْتَني ... شهِدت فيحوي مَنْكِبيَّ سريرُها )
ويروى فيعلو منكبي

( نزَت كبدِي لما أتاني نِعيُّها ... فقلت أدانٍ صدعُها فمُطيرُها )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني خالد بن الوضاح قال
قال عبد الأعلى بن عبيد بن محمد بن صفوان الجمحي لعبد الله بن مصعب سألني أمير المؤمنين اليوم في موكبه من الذي يقول
( ألا يا كأسُ قد أَفنيتُ شِعْري ... فلستُ بقائلٍ إلا رجيعا )
ولم أدر لمن الشعر فقال عبد الله بن مصعب هو لصخر الخضري وأنشد باقي الأبيات وهي
( تُرجِّي أَنْ تلاقيَ آلَ كأسٍ ... كما يرْجو أَخو السَّنةِ الربيعا )
( فلستَ بنائمٍ إلا بحُزْنٍ ... ولا مستيقظاً إلا مَرُوعا )
( فإنَّكَ لو نظرتَ إذا التقينا ... إلى كبدِي رأَيتَ بها صُدوعا )

ندمه بعد أن تزوجت كأس
قال ابن حبيب في رواية عبد الله بن مالك لما زوجت كأس جزع صخر بن الجعد لما فرط منه وندم وأسف وقال في ذلك
( هنيئاً لكأسٍ قطعُها الحبلَ بعدما ... عقدْنا لكأس موثِقاٌ لا نخونُها )
( وإِشْماتُهَا الأعداءَ لمّا تأَلَّبوا ... حواليَّ واشتدَّت عليَّ ضُغُونُها )
( فإن حَراماً أنْ أخونَك ما دعا ... بِيلْيَلَ قُمْرِيُّ الحمام وجُونها )

( وقد أَيْقَنَتْ نفسي لقد حِيل دونها ... ودونكَ لو يأتي بيأسٍ يَقينُها )
( ولكن أَبَتْ لا تستفيقُ ولاَ تَرى ... عَزَاءً ولا مجلودَ صَبْرٍ يُعينها )
( لو أنَّا إذ الدّنيا لَنا مطمئنَّةٌ ... دَحَا ظِلُّها ثم ارجحنَّت غُصونها )
( لهونا ولكنا بغرَّة عيشِنا ... عجِبنَا لدُنيانَا فكِدنا نُعنيها )
( وكنا إذا نحن التقيْنا وما نُرى ... لعينين إلا من حجابٍ يَصونها )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وأَوساطِها حتى تُمَلّ فنونها )
قال ابن حبيب أرسلت كأس بعد أن زوجت إلى صخر بن الجعد تخبره أنها رأته فيما يرى النائم كأنه يلبسها خمارا وأن ذلك جدد لها شوقا إليه وصبابة فقال صخر
( أنائلُ ما رؤيا زعمتِ رأَيتِها ... لنا عجَب لو أنّ رؤياكِ تَصْدُق )
( أنائِلُ لولا الودُّ ما كان بينُنَا ... نضاً مثل ما ينضو الخضابُ فيخلُق )

خبره مع سيار التاجر
أخبرنا حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني محمد بن عبد الله البكري قال
قدم صخر بن الجعد الخضري المدينة فأتى تاجرا من تجارها يقال له سيار فابتاع منه برا وعطرا وقال تأتينا غدوة فأقضيك وركب من تحت

ليلته فخرج إلى البادية فلما أصبح سيار سأل عنه فعرف خبره فركب في جماعة من أصحابه في طلبه حتى أتوا بئر مطلب وهي على سبعة أميال من المدينة وقد جهدوا من الحر فنزلوا عليها فأكلوا تمرا كان معهم وأراحوا دوابهم وسقوها حتى إذ برد النهار انصرفوا راجعين وبلغ الخبر صخر بن الجعد فقال
( أَهْوِنْ عليًّ بسيّارٍ وصفوته ... إذا جعلتُ صِراراً دون سيَّار )
( إنّ القضاءَ سيأْتِي دونه زمن ... فاطوِ الصّحيفةَ واحفَظهَا من العار )
( يسائل الناسَ هل أحْسَسْتُمُ جَلباً ... محاربياًّ أتى من نحو أظفارِ )
( وما جَلَبْتُ إليهمْ غيرَ راحلة ... وغيرَ رحل وسيف جَفنة عار )
( وما أُرِيتُ لهم إلا لأدفعهم ... عني ويخرجُني نقضي وإمراري )
( حتى استغاثُوا بأوْرَى بئرِ مُطّلِب ... وقد تحرَّق منهم كلُّ تَمّار )
( وقال أوّلُهم نُصحاً لآخرهم ... ألا ارجِعُوا واتركوا الأَعْرابَ في النار )

جاريته سمحاء توقع به وتخدعه
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب قال حدثنا ابن

الأعرابي قال
كان الجعد المحاربي أبو صخر بن الجعد قد عمر حتى خرف وكان يكنى أبا الصموت وكانت له وليدة يقال لها سمحاء فقالت له يوما يا أبا الصموت زعم بنوك أنك إن مت قتلوني قال ولم قالت مالي إليهم ذنب غير حبي لك فأعتقها على أن تكون معه فمكثت يسيرا ثم قالت له يا أبا الصموت هذا عرابة من أهل المعدن يخطبني قال أين هذا مما قلت لي قالت إنه ذو مال وإنما أردت ماله لك قال فأتني به فأتته فزوجه إياها فولدت له أولادا وقوته بما كانت تصيبه من الجعد وكانت تأتي الجعد في أيام فتخضب رأسه ثم قطعته فأنشأ الجعد يقول
( أمْسَى عَرابةُ ذا مال وذا ولدٍ ... من مالِ جَعْدٍ وجعدٌ غيرُ محمود )
( تظل تُنْشِقُه الكافورَ متكئاً ... على السرير وتعطيني على العُود )
قال والجعد هو القائل لامرأته
( تُعالجنِي أُمّ الصَّموت كأنما ... تُدَاوِي حِصاناً أوهنَ العظمَ كاسِرُه )
( فلا تعجبي أُمَّ الصَّموت فإنَّه ... لكل جواد مَعْثَرٌ هو عاثِره )
( وقد كنتُ أصطاد الظباءَ مُوَطَّئاً ... وأضربُ رأْسَ القِرن والرمحُ شاجِره )
( فأَصْبَحْتُ مثل العشّ طارَت فراخُه ... وغودر في رأْس الهشيمة سائره )

أولاده يتخلون عنه ويقتسمون أمواله
فلما كبر حمله بنوه فأتوا به مكة وقالوا له تعبد ها هنا ثم اقتسموا المال وتركوا له منه ما يصلحه فقال
( ألا أبلغ بني جَعْدٍ رسولا ... وإن حالت جبالُ الغَوْرِ دُوني )
( فلم أَرَ مَعْشَراً تركوا أَباهُم ... من الآفاق حيث تركتموني )
( فإني والرَّوافِض حول جَمْعٍ ... ومَحْطِمُهُنّ من حَصْبا الحجون )
( لو أني ذو مدافعةٍ وحولي ... كما قد كنت أحياناً كمُوني )
( إذاً لمَنَعْتُكُمْ مالِي ونفسِي ... بنصلِ السّيف أَو لقتلتُمونِي )
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان البكري عن عروة بن زيد الخضري عن أبيه قال
كنت في ركب فيهم صخر بن الجعد ودرن مولى الخضريين معنا ونحن نريد خيبر فنزلنا منزلا تعشينا فيه فهيجنا إبل صخر فلما ركبنا ساق بنا واندفع يرجز ويقول
( لقد بعثت حاديا قراصِفا ... )

فردده قطعا من الليل لا ينفده ولا يقول غيره ثم قال لنا إني نسيت عقالا فرجع يطلبه في المتعشى ونزل درن يسوق بالقوم فارتجز درن ببيت صخر وقال
( لقد بعثتُ حادياً قُراصِفَا ... من منزلٍ رَحَلْتُ عنه آنفا )
( يسوق خُوصاً رجَّفاً حواجفا ... مثلَ القِسيّ تقذف المقاذفا )
( حتى ترى الرَّباعِيَ العُتارِفا ... من شدة السير يُزَجَّى واجفا )
قال فأدركه صخر وهو في ذلك فقال له يا بن الخبيثة أتجترئ على أن تنفذ بيتا أعياني فقاتله فضربه حتى نزلنا ففرقنا بينهما

صوت
( إِذا سَرَّها أمر وفيه مَساءتي ... قضيتُ لها فيما تُحِبُّ على نفسي )
( وما مرَّ يومٌ أرتجي منه راحَةً ... فأَذكره إلا بكيت على أمسي )
الشعر لأبي حفص الشطرنجي والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو

أخبار أبي حفص الشطرنجي ونسبه
أبو حفص عمر بن عبد العزيز مولى بني العباس وكان أبوه من موالي المنصور فيما يقال وكان اسمه اسما أعجميا فلما نشأ أبو حفص وتأدب غيره وسماه عبد العزيز
أخبرني بذلك عمي عن أحمد بن الطيب عن جماعة من موالي المهدي
ونشأ أبو حفص في دار المهدي ومع أولاد مواليه وكان كأحدهم وتأدب وكان لاعبا بالشطرنج مشغوفا به فلقب به لغلبته عليه
انقطاعه إلى علية بنت المهدي
فلما مات المهدي انقطع إلى عليه وخرج معها لما زوجت وعاد معها لما عادت إلى القصر وكان يقول لها الأشعار فيما تريده من الأمور بينها وبين إخوتها وبني أخيها من الخلفاء فتنتحل بعض ذلك وتترك بعضه

ومما ينسب إليها من شعره ولها فيه غناء وقد ذكرنا ذلك في أغانيها وأخبارها
( تَحَبَّبْ فإن الحبَّ داعيةُ الحب ... )
وهو

صوت
مشهور لها
حدثني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثني الكندي عن محمد بن الجهم البرمكي قال
رأيت أبا حفص الشطرنجي الشاعر فرأيت منه إنسانا يلهيك حضوره عن كل غائب وتسليك مجالسته عن هموم المصائب قربة عرس وحديثه أنس جده لعب ولعبه جد دين ماجد إن لبسته على ظاهره لبست موموقا لا تمله وإن تتبعته لتستبطن خبرته وقفت على مروة لا تطير الفواحش بجنباتها وكان فيما علمته أقل ما فيه الشعر وهو الذي يقول
صوت
( تَحبَّبْ فإِن الحُبَّ داعيةُ الحبِّ ... وكم من بعيدِ الدار مُسْتَوْجِب القُرب )
( إذا لم يكن في الحب عَتبٌ ولا رضاً ... فأين حلاوات الرسائل والكُتب )
( تفكَّرْ فإن حُدِّثتَ أنَّ أخَا هوًى ... نجا سالماً فارجُ النّجاة من الكرب )
( وأَطيبُ أيامِ الهوى يومُك الذي ... تُرَوَّعُ بالتّحريش فيه وبالعَتْب )
قال وفي هذه الأبيات غناء لعلية بنت المهدي وكانت تأمره أن يقول الشعر في المعاني التي تريدها فيقولها وتغني فيها
قال وأنشدني لأبي حفص أيضا

صوت
( عَرِّضَنْ للذي تُحِبّ بحبًّ ... ثم دَعْهُ يَرُوضُهُ إبليسُ )
( فلعَلَّ الزّمانَ يُدْنيك منه ... إن هذا الهوى جليلٌ نفيسُ )
( صابِر الحبَّ لا يُصرِّفْكَ فيه ... من حبيب تجهُّمٌ وعبوس )
( وأَقِلَّ اللَّجاجَ واصبر على الجهد ... فإن الهوى نعيمٌ وبُوس )
في هذه الأبيات للمسدود هزج ذكره لي جحظة وغيره عنه
وأما قوله
( تحبَّب فإن الحبّ داعية الحبّ ... )
فقد مضت نسبته في أخبار علية
ماردة الجارية تأمره أن يجيب الرشيد على رسالته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس الكاتب قال
كان الرشيد يحب ماردة جاريته وكان خلفها بالرقة فلما قدم إلى مدينة السلام اشتاقها فكتب إليها
صوت
( سلامٌ على النازح المغتربْ ... تحيةَ صَبٍّ به مكتئبْ )

( غَزالٌ مراتعُه بالبليخِ ... إلى دَيْرِ زكّى فقَصِر الخشبْ )
( أيا مَنْ أعان على نفسه ... بتخليفه طائعاً مَنْ أحبْ )
( سأستر والسَّترُ من شيمتي ... هوى من أُحِبُّ بمَنْ لا أُحبْ )
فلما ورد كتابه عليها أمرت أبا حفص الشطرنجي صاحب علية فأجاب الرشيد عنها بهذه الأبيات فقال
( أتاني كتابُك يا سيدي ... وفيه العجائبُ كلّ العجَبْ )
( أتزعمُ أنّك لي عاشقٌ ... وأَنك بي مُستهامٌ وصبّ )
( فلو كان هذا كذا لم تكن ... لتتركني نُهْزَةً للكُرَبْ )
( وأنت ببغدادَ ترعى بها ... نباتَ اللَّذاذةِ مَعْ مَنْ تُحِبّ )
( فيا مَن جفاني ولم أجفُه ... ويا مَن شجاني بما في الكتب )
( كتابُك قد زادني صَبوةً ... وأَسْعَرَ قلبي بحَرّ اللّهب )
( فهَبنِي نَعَمْ قد كتمتُ الهوى ... فكيف بكتمانِ دَمْعٍ سَرَب )
( ولولا اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي النّاجيات النُّجُب )
فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادما على البريد حتى حدرها

إلى بغداد في الفرات وأمر المغنيين جميعا فغنوا في شعره
قال الأصبهاني فممن غنى فيه إبراهيم الموصلي غنى فيه لحنين أحدهما ماخوري والآخر ثاني ثقيل عن الهشامي وغنى يحيى بن سعد بن بكر بن صغير العين فيه رملا ولابن جامع فيه رمل بالبنصر ولفليح بن العوراء ثاني ثقيل بالوسطى وللمعلى خفيف رمل بالوسطى ولحسين بن محرز هزج بالوسطى ولأبي زكار الأعمى هزج بالبنصر هذه الحكايات كلها عن الهشامي وقال كان المختار في هذه الألحان كلها عند الرشيد الذي اشتهاه منها وارتضاه لحن سليم
أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال
حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثني جماعة من كتاب السلطان
أن الرشيد غضب على علية بنت المهدي فأمرت أبا حفص الشطرنجي شاعرها أن يقول شعرا يعتذر فيه عنها إلى الرشيد ويسأله الرضا عنها فيستعطفه لها فقال
صوت
( لو كان يمنعُ حسنُ العقل صاحِبَه ... من أن يكون له ذنبٌ إلى أحدِ )
( كانت عُلَيَّةُ أبرأ الناس كلَّهمُ ... من أن تُكافَا بسوءِ آخرَ الأبد )
( مالي إذا غِبتُ لم أُذكَر بواحدةٍ ... وإن سَقِمْتُ فطال السُّقْمُ لم أُعَدِ )
( ما أعجبَ الشيءَ ترجوه فتُحْرَمُه ... قد كنتُ أحسبُ أنِّي قد ملأَتُ يدِي )

فأَتاها بالأبيات فاستحسنتها وغنت فيها وألقت الغناء على جماعة من جواري الرشيد فغنينه إياه في أول مجلس فيه معهن فطرب طربا شديدا وسألهن عن القصة فأخبرنه بها فبعث إليها فحضرت فقبل رأسها واعتذرت فقبل عذرها وسألها إعادة الصوت فأعادته عليه فبكى وقال لا جرم أني لا أغضب أبدا عليك ما عشت

قال في دنانير بيتين فاستحق مائتي دينار
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى عن عمرو بن بانة قال
دخل أبو حفص الشطرنجي على يحيى بن خالد وعنده ابن جامع وهو يلقي على دنانير صوتا أمره يحيى بإلقائه عليها وقال لأبي حفص قل في دنانير بيتين يغني فيهما ابن جامع ولك بكل بيت مائة دينار إن جاءت كما أريد فقال أبو حفص
صوت
( أشبهَكِ المسكُ وأشبهتِه ... قائمةً في لونه قاعده )
( لا شكَّ إذْ لونُكما واحدٌ ... أنكما من طينةٍ واحدَه )
قال فأمر له يحيى بمائة دينار وغنى فيهما ابن جامع
قال الأصبهاني لحن ابن جامع في هذين البيتين هزج
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
عتابه ابن الرشيد لأنه لم يعده في مرضه
كان أبو حفص الشطرنجي ينادم أبا عيسى بن الرشيد ويقول له الشعر

فينتحله ويفعل مثل ذلك بأخيه صالح وأخته وكذلك بعلية عمتهم وكان بنو الرشيد جميعا يزورونه ويأنسون به فمرض فعادوه جميعا سوى أبي عيسى فكتب إليه
( إِخَاءُ أبي عيسى إخاء ابنِ ضَرَّةٍ ... ووُدِّيَ وُدٌّ لابنِ أُمًّ ووالدِ )
( ألم يأْته أنّ التأَدَّبَ نِسبةٌ ... تلاصق أهواءَ الرجالِ الأَباعدِ )
( فمَا بالُه مُستعذِباً من جفائِنَا ... مواردَ لم تَعذُبْ لنا من موارِدِ )
( أقمتُ ثلاثاً حِلْفَ حُمَّى مُضِرَّةٍ ... فلم أرَه في أهل ودّي وعائدي )
( سلام هي الدنيا قروضٌ وإنما ... أخوك مُديمُ الوصلِ عند الشدائد )
حدثني جعفر بن الحسين قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثنا أبي عن أبي حفص الشطرنجي قال
قال لي الرشيد يوما يا حبيبي لقد أحسنت ما شئت في بيتين قلتهما قلت ما هما يا سيدي فمن شرفهما استحسانك لهما فقال قولك

صوت
( لم أَلْقَ ذا شَجَن يبوح بحُبِّه ... إلا حَسِبتُك ذلك المحبوبَا )
( حذراً عليكِ وإنني بكِ واثقٌ ... ألاَّ ينالَ سوايَ منكِ نصيبا )
فقلت يا أمير المؤمنين ليسا لي هما للعباس بن الأحنف فقال

صدقك والله أعجب إلي وأحسن منهما بيتاك حيث تقول
( إذا سرَّها أمرٌ وفيه مساءتي ... قضيْتُ لها فيما تريد على نفسِي )
( وما مرَّ يوم أرتجِي فيه راحةً ... فأذْكُرَه إلا بكيتُ على أَمْسِي )
في البيتين الأولين اللذين للعباس بن الأحنف ثقيل لإبراهيم الموصلي وفيهما لابن جامع رمل عن الهشامي الروايتان جميعا لعبد الرحمن وفي أبيات أبي حفص الأخيرة لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس

رثى نفسه قبل أن يموت
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني عبد الله بن الفضل قال
دخلت على أبي حفص الشطرنجي شاعر علية بنت المهدي أعوده في علته التي مات فيها قال فجلست عنده فأنشدني لنفسه
صوت
( نعَى لك ظلَّ الشَّبابِ المشيبُ ... ونَادَتك باسمٍ سِواكَ الخطوبُ )
( فكُن مستعِداًّ لداعي الفناءِ ... فإن الذي هو آتٍ قريبُ )
( ألسنا نرى شهواتِ النفوس ... تَفْنَى وتبقى عليها الذنوبُ )
( وقبلَك داوى المريضَ الطبيبُ ... فعاش المريضُ ومات الطبيبُ )
( يخاف على نفسه مَن يتوبُ ... فكيف ترى حال من لا يتوب )
غنى في الأول والثاني إبراهيم هزجاً

انقضت أخباره
صوت
( أَبَى لَيْلِيَ أن يذهبْ ... ونِيطَ الطرْفُ بالكوكبْ )
( ونجمٍ دونه النَّسران ... بين الدَّلْوِ والعقرَبْ )
( وهذا الصُّبحُ لا يأتي ... ولا يدنو ولا يَقْرُبْ )
الشعر لأميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف والغناء لأسحاق هزج بالوسطى

دمن الجارية تسرق لحنا من إسحاق وهو سكران
أخبرنا محمد بن يحيى ومحمد بن جعفر النحوي قالا حدثنا محمد بن حماد قال
التقيت مع دمن جارية إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما فقلت لها أسمعيني شيئا أخذته من إسحاق فقالت والله ما أحد من جواريه أخذ منه صوتا قط ولا ألقى علينا شيئا قط وإنما كان يأمر من أخذ منه من الرجال مثل مخارق وعلويه ووجه القرعة الخزاعي وجواري الحارث بن بسخنر أن يلقوا علينا ما يختارون من أغانيهم وأما عنه فما أخذت شيئا قط إلا ليلة فإنه انصرف من عند المعتصم وهو سكران فقال للخادم القيم على حرمة جئني بدمن فجاءني الخادم فدعاني فخرجت معه فإذا هو في البيت الذي ينام فيه وهو يصنع في هذا الشعر

( أَبَى لَيْلِيَ أن يَذْهَبْ ... ونِيط الطَّرْفُ بالكوكبْ )
وهو يتزايد فيه ويقومه حتى استوى له ثم قام إلى عود مصلح معلق كان يكون في بيت منامه فأخذه فغنى الصوت حتى صح له واستقام عليه وأخذته عنه فلما فرغ منه قال أين دمن فقلت هو ذا أنا ها هنا فارتاع وقال مذ كم أنت ها هنا قلت مذ بدأت بالصوت وقد أخذته بغير حمدك فقال خذي العود فغنيه فأخذته فغنيته حتى فرغت منه وهو يكاد أن يتميز غيظا ثم قال قد بقي عليك فيه شيء كثير وأنا أصلحه لك فقلت أنا مستغنية عن إصلاحك فأصلحه لنفسك فاضطجع في فراشه ونام وانصرفت فمكث أياما إذا رآني قطب وجهه
وهذا الشعر تقوله أميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف ترثي به من قتل في حروب الفجار من قريش

ذكر الخبر في حروب الفجار وحروب عكاظ
ونسب أميمة بنت عبد شمس
أميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف وأمها تفخر بنت عبيد بن رواس بن كلاب وكان عند حارثة بن الأوقص بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي فولدت له أمية بن حارثة
وكانت هذه الحرب بين قريش وقيس عيلان في أربعة أعوام متواليات ولم يكن لقريش في أولها مدخل ثم التحقت بها
فأما الفجار الأول فكانت الحرب فيه ثلاثة أيام ولم تسم باسم لشهرتها
وأما الفجار الثاني فإنه كان أعظمهما لأنهم استحلوا فيه الحرم وكانت أيامه يوم نخلة وهو الذي لم يشهده رسول الله منها وشهد سائرها وكان الرؤساء فيه حرب بن أمية في القلب وعبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين ثم يوم شمطة ثم يوم

العبلاء ثم يوم عكاظ ثم يوم الحرة

أول أمر الفجار
قال أبو عبيدة كان أول أمر الفجار أن بدر بن معشر الغفاري أحد بني غفار بن مالك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناه بن كنانة كان رجلا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ فاتخذ مجلسا بسوق عكاظ وقعد فيه وجعل يبذخ على الناس ويقول
( نحن بنو مدركةَ بنِ خِنْدِف ... مَن يطعنوا في عينه لا يَطْرِف )
( ومَنْ يكونوا قومه يُغطرِف ... كأنهم لُجَّةُ بحرٍ مُسدِفِ )
وبدر بن معشر باسط رجليه يقول أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني فوثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له الأحمر بن مازن بن أوس بن النابغة فضربه بالسيف على ركبته فأندرها ثم قال خذها إليك أيها المخندف وهو ماسك سيفه وقام أيضا رجل من هوازن فقال
( أنا ابن هَمْدَانَ ذوي التَّغطرفِ ... بحرُ بحورٍ زاخرٌ لم يُنزَفِ )

( نحن ضَربنا ركبة المخندِف ... أذ مدّها في أشهر المُعَرّفِ )
وفي هذه الضربة أشعار لقيس كثيرة لا معنى لذكرها

اليوم الثاني من أيام الفجار الأولى
ثم كان اليوم الثاني من أيام الفجار الأول وكان السبب في ذلك أن شبابا من قريش وبني كنانة كانوا ذوي غرام فرأوا امرأة من بني عامر جميلة وسيمة وهي جالسة بسوق عكاظ في درع وهي فضل عليها برقع لها وقد اكتنفها شباب من العرب وهي تحدثهم فجاء الشباب من بني كنانة وقريش فأطافوا بها وسألوها أن تسفر فأبت فقام أحدهم فجلس خلفها وحل طرف ردائها وشده إلى فوق حجزتها بشوكة وهي لا تعلم فلما قامت انكشف درعها عن دبرها فضحكوا وقالوا منعتنا النظر إلى وجهك وجدت لنا بالنظر إلى دبرك فنادت يا آل عامر فثاروا وحملوا السلاح وحملته كنانة واقتتلوا قتالا شديدا ووقعت بينهم دماء فتوسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر من مثلة صاحبتهم
اليوم الثالث من أيام الفجار الأولى
ثم كان اليوم الثالث من الفجار الأول وكان سببه أنه كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن دين على رجل من بني كنانة فلواه به وطال

اقتضاؤه إياه فلم يعطه شيئا فلما أعياه وافاه الجشمي في سوق عكاظ بقرد ثم جعل ينادي من يبيعني مثل هذا الرباح بما لي على فلان بن فلان الكناني من يعطيني مثل هذا بما لي على فلان بن فلان الكناني رافعا صوته بذلك فلما طال نداؤه بذلك وتعييره به كنانة مر به رجل منهم فضرب القرد بسيفه فقتله فهتف به الجشمي يا آل هوازن وهتف الكناني يا آل كنانة فتجمع الحيان فاقتتلوا حتى تحاجزوا ولم يكن بينهم قتلى ثم كفوا وقالوا أفي رباح تريقون دماءكم وتقتلون أنفسكم وحمل ابن جدعان ذلك في ماله بين الفريقين

اليوم الأول من أيام الفجار الثاني
قال ثم كان يوم الفجار الثاني وأول يوم حروبه يوم نخلة وبينه وبين مبعث النبي ست وعشرون سنة وشهد النبي ذلك اليوم مع قومه وله أربع عشرة سنة وكان يناول عمومته النبل هذا قول أبي عبيدة
وقال غيره بل شهدها وهو ابن ثمان وعشرين سنة
قال أبو عبيدة كان الذي هاج هذه الحرب يوم الفجار الآخر أن البراض بن قيس بن رافع أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة كان سكيرا فاسقا خلعه قومه وتبرؤوا منه فشرب في بني الديل فخلعوه فأتى مكة وأتى قريشا فنزل على حرب بن أمية فحالفه فأحسن حرب جواره وشرب بمكة حتى هم حرب أن يخلعه فقال لحرب إنه لم يبق أحد ممن يعرفني إلا خلعني سواك وإنك إن خلعتني لم ينظر إلي أحد بعدك فدعني على حلفك وأنا خارج عنك فتركه وخرج فلحق بالنعمان بن المنذر بالحيرة

وكان النعمان يبعث إلى سوق عكاظ في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر فتباع ويشترى له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني وكانت سوق عكاظ في أول ذي القعدة فلا تزال قائمة يباع فيها ويشترى إلى حضور الحج وكان قيامها فيما بين النخلة والطائف عشرة أميال وبها نخل وأموال لثقيف فجهز النعمان لطيمة له وقال من يجيزها فقال البراض أنا أجيزها على بني كنانة فقال النعمان إنما أريد رجلا يجيزها على أهل نجد فقال عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ رجل من هوازن أنا أجيزها أبيت اللعن فقال له البراض من بني كنانة تجيزها يا عروة قال نعم وعلى الناس جميعا أفكلب خليع يجيزها
قال ثم شخص بها وشخص البراض وعروة يرى مكانه لا يخشاه على ما صنع حتى إذا كان بين ظهري غطفان إلى جانب فدك بأرض يقال لها أوارة قريب من الوادي الذي يقال له تيمن نام عروة في ظل شجرة ووجد البراض غفلته فقتله وهرب في عضاريط الركاب فاستاق الركاب وقال البراض في ذلك
( وداهيةٍ يُهال الناسُ منها ... شددتُ لها بني بكر ضلوعي )

( هتكتُ بها بيوتَ بني كلاب ... وأرضعتُ الموالي بالضروع )
( جمعت لها يديَّ بنصل سيفٍ ... أَفلّ فَخرَّ كالجِذْع الصّريع )
وقال أيضا في ذلك
( نقَمْتُ على المرء الكلابيّ فخرَه ... وكنت قديماً لا اُقِزُّ فَخارا )
( علوتُ بحدّ السيف مفرِقَ رأْسه ... فأسمع أهلَ الواديين خُوارا )
قال وأم عروة الرحال نفيرة بنت أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة فقال لبيد بن ربيعة يحض على الطلب بدمه
( فأبلغْ إن عرضتَ بني نُمَيْرٍ ... وأخوالَ القتيل بني هِلال )
( بأنَّ الوافدَ الرحَّال أضحى ... مقيماً عند تَيْمَنَ ذي الظِّلال )
قال أبو عبيدة فحدثني أبو عمرو بن العلاء قال لقي البراض بشر بن أبي خازم فقال له هذه القلائص لك على أن تأتي حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشاما والوليد ابني المغيرة فتخبرهم أن البراض قتل عروة فإني أخاف أن يسبق الخبر إلى قيس أن يكتموه حتى يقتلوا به رجلا من قومك عظيما فقال له وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل قال إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها رجلا خليعا طريدا من بني ضمرة قال ومر بهما الحليس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش من

بني كنانة والأحابيش من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو نفاثة بن الديل وبنو لحيان من خزاعة والقارة وهو أثيع بن الهون بن خزيمة وعضل بن دمس بن ملحم بن عائذ بن أثيع بن الهون كانوا تحالفوا على سائر بني بكر بن عبد مناة فقال لهم الحليس مالي أراكم نجيا فأخبروه الخبر ثم ارتحلوا وكتموا الخبر على اتفاق منهم
قال وكانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا وكان سيدا حكيما مثريا من المال
فجاءه القوم فأخبروه خبر البراض وقتله عروة وأخبروا حرب بن أمية وهشاما والوليد ابني المغيرة فجاء حرب إلى عبد الله بن جدعان فقال له احتبس قبلك سلاح هوازن فقال له ابن جدعان أبالغدر تأمرني يا حرب والله لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف في مالي تستعينون بها ثم صاح ابن جدعان في الناس من كان له قبلي سلاح فليأت وليأخذه فأخذ الناس أسلحتهم
وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد إلى أبي براء إنه قد كان بعد خروجنا حرب وقد خفنا تفاقم الأمر فلا تنكروا خروجنا وساروا

راجعين إلى مكة فلما كان آخر النهار بلغ أبا براء قتل البراض عروة فقال خدعني حرب وابن جدعان وركب فيمن حضر عكاظ من هوازن في أثر القوم فأدركوهم بنخلة فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم وجن عليهم الليل فكفوا ونادى الأدرم بن شعيب أحد بني عامر بن ربيعة بن صعصعة يا معشر قريش ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل بعكاظ وكان يومئذ رؤساء قريش حرب بن أمية في القلب وابن جدعان في إحدى المجنبتين وهشام بن المغيرة في الأخرى وكان رؤساء قيس عامر بن مالك ملاعب الأسنة على بني عامر وكدام بن عمير على فهم وعدوان ومسعود بن سهم على ثقيف وسبيع بن ربيعة النصري علي بني نصر بن معاوية والصمة بن الحارث وهو أبو دريد بن الصمة علي بني جشم وكانت الراية مع حرب بن أمية وهي راية قصي التي يقال لها العقاب
فقال في ذلك خداش بن زهير
( يا شَدَّةً ما شددْنا غيرَ كاذبةً ... على سَخِينَةَ لولا الليلُ والحَرَم )

( إذ يَتَّقِينَا هشامٌ بالوليد ولو ... أنَّا ثَقِفنا هشاماً شالت الخَدَم )
( بين الأراكِ وبين المرج تبطحُهم ... زُرقُ الأسِنَّة في أطرافها السُهُم )
( فإن سمعتم بجيش سالكٍ سَرفاً ... وبطنَ مُرّ فأخفوا الجرس واكْتَتِمُوا )
وزعموا أن عبد الملك بن مروان استنشد رجلا من قيس هذه الكلمة فجعل يحيد عن قوله سخينة فقال عبد الملك إنا قوم لم يزل يعجبنا السخن فهات فلما فرغ قال يا أخا قيس ما أرى صاحبك زاد على التمني والاستنشاء
قال وقدم البراض باللطيمة مكة وكان يأكلها وكان عامر بن يزيد بن الملوح بن يعمر الكناني نازلا في أخواله من بني نمير بن عامر وكان ناكحا فيهم فهمت بنو كلاب بقتله فمنعته بنو نمير ثم شخصوا به حتى نزل في قومه واستغوت كنانة بني أسد وبني نمير واستغاثوا بهم فلم تغثهم ولم يشهد الفجار أحد من هذين الحيين

اليوم الثاني من أيام الفجار الثاني
ثم كان اليوم الثاني من الفجار الثاني وهو يوم شمطة فتجمعت كنانة وقريش بأسرها وبنو عبد مناة والأحابيش وأعطت قريش رؤوس القبائل أسلحة تامة وأعطى عبدالله بن جدعان خاصة من ماله مائة رجل من كنانة أسلحة تامة وأداة وجمعت هوازن وخرجت فلم تخرج معهم كلاب ولا كعب ولا شهد هذان البطنان من أيام الفجار إلا يوم نخلة مع أبي براء عامر بن مالك وكان القوم جميعا متساندين على كل قبيلة سيدهم
فكان على بني هاشم وبني المطلب ولفهم الزبير بن عبد المطلب ومعهم النبي إلا أن بني المطلب وإن كانوا مع بني هاشم كان يرأسهم الزبير بن عبد المطلب بن هاشم ورجل منهم وهو عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف وأم الزبير الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف وكان على بني عبد شمس ولفها حرب بن أمية ومعه أخواه أبو سفين وسفيان ومعهم بنو نوفل بن عبد مناف يرأسهم بعد حرب مطعم بن عدي بن نوفل وكان على بني عبد الدار ولفها خويلد بن أسد وعثمان بن الحويرث وكان على بني زهرة ولفها مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة وأخوه صفوان وكان على بني تيم بن مرة ولفها عبد الله بن جدعان وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة وعلى بني سهم العاصي بن وائل وعلى بني جمح ولفها أمية بن خلف وعلى بني عدي زيد بن عمرو بن نفيل والخطاب بن نفيل عمه وعلى بني عامر بن لؤي عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أبو سهل بن عمرو وعلى بني الحارث بن فهر عبد الله بن الجراح أبو أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح وعلى بني

بكر بلعاء بن قيس ومات في تلك الأيام وكان جثامة بن قيس أخوه مكانه وعلى الأحابيش الحليس بن يزيد
وكانت هوازن متساندين كذلك وكان عطية بن عفيف النصري على بني نصر بن معاوية وقيل بل كان عليهم أبو أسماء بن الضريبة وكان الخنيسق الجشمي على بني جشم وسعد ابني بكر وكان وهب بن معتب على ثقيف ومعه أخوه مسعود وكان على بني عامر بن ربيعة وحلفائهم من بني جسر بن محارب سلمة بن إسماعيل أحد بني البكاء ومعه خالد بن هوذة أحد بني الحارث بن ربيعة وعلى بني هلال بن عامر بن صعصعة ربيعة بن أبي ظبيان بن ربيعة بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر
قال فسبقت هوازن قريشا فنزلت شمطة من عكاظ وظنوا أن كنانة لم توافهم وأقبلت قريش فنزلت من دون المسيل وجعل حرب بني كنانة في بطن الوادي وقال لهم لا تبرحوا مكانكم ولو أبيحت قريش فكانت هوازن من وراء المسيل
قال أبو عبيدة فحدثني أبو عمرو بن العلاء قال
كان ابن جدعان في إحدى المجنبتين وفي الأخرى هشام بن المغيرة وحرب في القلب وكانت الدائرة في أول النهار لكنانة فلما كان آخر النهار تداعت هوازن وصبروا واستحر القتل في قريش فلما رأى ذلك بنو الحارث بن كنانة وهم في بطن الوادي مالوا إلى قريش وتركوا مكانهم فلما استحر القتل بهم قال أبو مساحق بلعاء بن قيس لقومه

ألحقو برخم وهو جبل ففعلوا وانهزم الناس
وكان رسول الله لا يصير في فئة إلا انهزم من يحاذيها فقال حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان ألا ترون إلى هذا الغلام ما يحمل على فئة إلا انهزمت
وفي ذلك يقول خداش بن زهير في كلمة له
( فأبلغ إن عرضْتَ بنا هِشاما ... وعبدَ الله أبلغْ والوَليدا )
( أولئك إن يكن في الناس خيرٌ ... فإن لديهمُ حَسَباً وجُودا )
( همُ خير المعاشرِ من قريشٍ ... وأَوْرَاها إذا قُدِحت زنودا )
( بأنّا يومَ شَمطةَ قد أقمنا ... عمودَ المجدِ إنَّ له عمودا )
( جلَبنا الخيلَ ساهمةً إليهم ... عوابسَ يَدَّرِعْنَ النقَع قودا )
( فبِتنا نعقِدُ السِّيَما وباتوا ... وقلنا صبَّحوا الإنسَ الحديدا )
( فجاؤوا عارضاً بَرِداً وجئنا ... كما أضرمتَ في الغاب الوقودا )
( ونادوا يا لعمروٍ لا تفِرّوا ... فقلنا لا فِرارَ ولا صُدُودَا )
قوله نعقد السيما أي العلامات
( فَعاركْنا الكُماةَ وعاركونا ... عِراكَ النُّمْر عاركتِ الأسودا )

( فولَّوْا نضْربُ الهاماتِ منهم ... بما انتهكوا المحارِمَ والحُدودا )
( تركنا بطن شَمْطَةَ من علاءٍ ... كأَنّ خلالها معَزاً شريدا )
( ولم أرَ مثلَهم هُزِموا وفُلُّوا ... ولا كذِيادِنَا عَنَقاً مذودا )
قوله يا لعمرو يعني عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة

اليوم الثالث من أيام الفجار وهو يوم العبلاء
ثم كان اليوم الثالث من أيام الفجار وهو يوم العبلاء فجمع القوم بعضهم لبعض والتقوا على قرن الحول بالعبلاء وهو موضع قريب من عكاظ ورؤساؤهم يومئذ على ما كانوا عليه يوم شمطة وكذلك من كان على المجنبتين فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت كنانة فقال خداش بن زهير في ذلك
( ألم يَبلغْك بالعبلاء أنّا ... ضَرَبْنا خِنْدِفاً حتى استقادوا )
( نُبَنِّي بالمنازل عِزَّ قيسٍ ... وودُّوا لو تَسِيخُ بنا البلادُ )
وقال أيضا
( ألم يبلغْك ما لاقَتْ قريشٌ ... وحيُّ بني كنانة إذ أُثيرُوا )
( دهمناهم بأرعَنَ مكفهرٍّ ... فظلَّ لنا بعَقْوَتِهم زئير )

( نقوِّمُ مارِنَ الخطِّيّ فيهم ... يجيء على أسنّتِنا الجزير )

اليوم الرابع من أيام الفجار وهو يوم عكاظ
ثم كان اليوم الرابع من أيامهم يوم عكاظ فالتقوا في هذه المواضع على رأس الحول وقد جمع بعضهم لبعض واحتشدوا والرؤساء بحالهم وحمل عبد الله بن جدعان يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير
وخشيت قريش أن يجري عليها مثل ما جرى يوم العبلاء فقيد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم وقالوا لا نبرح حتى نموت مكاننا وعلى أبي سفيان يومئذ درعان قد ظاهر بينهما وزعم أبو عمرو بن العلاء أن أبا سفيان بن أمية خاصة قيد نفسه فسمي هؤلاء الثلاثة يومئذ العنابس وهي الأسود واحدها عنبسة فاقتتل الناس يومئذ قتالا شديدا وثبت الفريقان حتى همت بنو بكر بن عبد مناة وسائر بطون كنانة بالهرب وكانت بنو مخزوم تلي كنانة فحافظت حفاظا شديدا وكان أشدهم يومئذ بنو المغيرة فإنهم صبروا وأبلوا بلاء حسنا فلما رأت ذلك بنو عبد مناة من كنانة تذامروا فرجعوا وحمل بلعاء بن قيس وهو يقول
( إِنَّ عُكاظَ مأوانا فخلُّوهْ ... وذا المجاز بعد أن تَحُلوهْ )
وخرج الحليس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو رئيس الأحابيش يومئذ فدعا إلى المبارزة فبرز إليه الحدثان بن سعد

النصري فطعنه الحدثان فدق عضده وتحاجزا
واقتتل القوم قتالا شديدا وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه فانهزمت قيس كلها إلا بني نصر فإنهم صبروا ثم هربت بنو نصر وثبت بنو دهمان فلم يغنوا شيئا فانهزموا وكان عليهم سبيع بن أبي ربيعة أحد بني دهمان فعقل نفسه ونادى يا آل هوازن يا آل هوازن يا آل نصر فلم يعرج عليه أحد وأجفلوا منهزمين فكر بنو أمية خاصة في بني دهمان ومعهم الخنيسق وقشعة الجشميان فقاتلوا فلم يغنوا شيئا فانهزموا
وكان مسعود بن معتب الثقفي قد ضرب على امرأته سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف خباء وقال لها من دخله من قريش فهو آمن فجعلت توصل في خبائها ليتسع فقال لها لا يتجاوزني خباؤك فإني لا أمضي لك إلا من أحاط به الخباء فأحفظها فقالت أما والله إني لأظن أنك ستود أن لو زدت في توسعته فلما انهزمت قيس دخلوا خباءها مستجيرين بها فأجار لها حرب بن أمية جيرانها وقال لها يا عمة من تمسك بأطناب خبائك أو دار حوله فهو آمن فنادت بذلك فاستدارت قيس بخبائها حتى كثروا جدا فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها فقيل لذلك الموضع مدار قيس وكان يضرب به المثل فتغضب قيس منه وكان زوجها مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس وهو من ثقيف قد أخرج معه يومئذ بنيه من سبيعة وهم عروة ولوحة ونويرة والأسود

فكانوا يدورون وهم غلمان في قيس يأخذون بأيديهم إلى خباء أمهم ليجيروهم فيسودوا بذلك أمرتهم أمهم أن يفعلوا
فأخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الحسن عن المحرز بن جعفر وغيره
أن كنانة وقيسا لما توافوا من العام المقبل من مقتل عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب ضرب مسعود الثقفي على امرأته سبيعة بنت عبد شمس أم بنيه خباء فرآها تبكي حين تدانى الناس فقال لها ما يبكيك فقالت لما يصاب غدا من قومي فقال لها من دخل خباءك فهو آمن فجعلت توصل فيه القطعة بعد القطعة والخرقة والشيء ليتسع فخرج وهب بن معتب حتى وقف عليها وقال لها لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربطت به رجلا من بني كنانة فلما صف القوم بعضهم لبعض خرجت سبيعة فنادت بأعلى صوتها إن وهبا يأتلي ويحلف ألا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلا من كنانة فالجد الجد فلما هزمت قيس لجأ نفر منهم إلى خباء سبيعة بنت عبد شمس فأجارهم حرب بن أمية
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
لما هزمت قيس لجأت إلى خباء سبيعة حتى أخرجوها منه فخرجت فنادت من تعلق بطنب من أطناب بيتي فهو آمن من ذمتي فداروا بخبائها حتى صاروا حلقة فأمضى ذلك كله حرب بن أمية لعمته فكان يضرب في الجاهلية بمدار قيس المثل ويعيرون بمدارهم يومئذ بخباء سبيعة بنت عبد شمس قال

وقال ضرار بن الخطاب الفهري قوله
( ألم تسألِ الناسَ عن شأننا ... ولم يُثبتِ الأمرَ كالخابرِ )
( غداةَ عُكاظ إذا استكملَتْ ... هوازنُ في كفِّها الحاضر )
( وجاءت سُلَيمٌ تَهزّ القَنا ... على كل سَلْهَبةٍ ضامر )
( وجئنا إليهم على المضمراتِ ... بأرْعَنَ ذي لَجبٍ زَاخِرِ )
( فلما التقينا أذقناهمُ ... طِعاناً بِسُمْرِ القنا العائر )
( ففرّت سُلَيمٌ ولم يصبروا ... وطارت شَعَاعاً بنو عامر )
( وفرت ثقيفً إلى لاَتِها ... بمُنقَلب الخائبِ الخاسرِ )
( وقاتلت العَنْسُ شَطْرَ النها ... رثم تولّت مع الصادر )
( على أن دُهمانَها حافظت ... أخيراً لدى دارةِ الدائرِ )
وقال خداش بن زهير
( أتتنا قريش حافلين بجمعهم ... عليهم من الرحمن واقٍ وناصرُ )
( فلما دنونا للقِبابِ وأهلِها ... أُتيحَ لنا ريبٌ مع الليل ناجرُ )

( أُتيحت لنا بكرٌ وحول لوائها ... كتائبُ يخشاها العزيز المكاثر )
( جئت دونهم بكرٌ فلم تستطعهمُ ... كأنهمُ بالمشرفيَّة سامر )
( وما برحت خيلٌ تثور وتُدَّعى ... ويَلْحقُ منهم أولون وآخر )
( لدن غدوة حتى أتى وانجلى لنا ... عَمايَةُ يومٍ شرُّه متظاهر )
( وما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت ... هوازنُ وارفضَّت سُلَيمٌ وعامر )
( وكانت قريشٌ يَفْلِقُ الصخرَ حدُّها ... إذا أوهن الناسَ الجدودُ العواثرُ )

اليوم الخامس من حرب الفجار وهو يوم حريرة
ثم كان اليوم الخامس وهو يوم الحريرة وهي حرة إلى جانب عكاظ والرؤساء بحالهم إلا بلعاء بن قيس فإنه قد مات فصار أخوه مكانه على عشيرته فاقتتلوا فانهزمت كنانة وقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية وثمانية رهط من بني كنانة قتلهم عثمان بن أسد من بني عمرو بن عامر بن ربيعة وقتل ورقاء بن الحارث أحد بني عمرو بن عامر من بني كنانة وخمسة نفر
وقال خداش بن زهير في ذلك
( لَقد بَلَوْكُمْ فأبلَوْكمْ بلاءهم ... يوم الحُرَيرة ضرباً غيرَ تكذيبِ )
( إن تُوعدوني فإني لاَبْنُ عمِّكمُ ... وقد أصابوكمُ منه بشُؤْبوب )
( وإن ورقاءَ قد أردَى أبا كنَفٍ ... وابَنيْ إياسٍ وعمراً وابنَ أيّوب )

( وإن عثمانَ قد أردى ثمانيةً ... منكم وأنتم على خُبْرٍ وتجريب )
ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل والرجلان يلقيان الرجلين فيقتل بعضهم بعضا فلقى ابن محمية بن عبد الله الديلي زهير بن ربيعة أبا خداش فقال زهير إني حرام جئت معتمرا فقال له ما تلقى طوال الدهر إلا قلت أنا معتمر ثم قتله فقال الشويعر الليثي واسمه ربيعة بن علس
( تركنا ثاوياً يزقو صداهُ ... زهيراً بالعوالي والصِّفاحِ )
( أُتيح له ابنُ مَحميَةَ بنِ عبدٍ ... فأعجله التسوُّم بالبطاح )
ثم تداعوا إلى الصلح على أن يدي من عليه فضل في القتلى الفضل إلى أهله فأبى ذلك وهب بن معتب وخالف قومه واندس إلى هوازن حتى أغارت على بني كنانة فكان منهم بنو عمرو بن عامر بن ربيعة عليهم سلمة بن سعدي البكائي وبنو هلال عليهم ربيعة بن أبي ظبيان الهلالي وبنو نصر بن معاوية عليهم مالك بن عوف وهو يومئذ أمرد فأغاروا على بني ليث بن بكر بصحراء الغميم فكانت لبني ليث أول النهار فقتلوا عبيد بن عوف البكائي قتله بنو مدلج وسبيع بن المؤمل الجسري حليف بني عامر ثم كانت على بني ليث آخر النهار فانهزموا

واستحر القتل في بني الملوح بن يعمر بن ليث وأصابوا نعما ونساء حينئذ فكان ممن قتل في حروب الفجار من قريش العوام بن خويلد قتله مرة بن معتب وقتل حزام بن خويلد وأحيحة بن أبي أحيحة ومعمر بن حبيب الجمحي وجرح حرب بن أمية وقتل من قيس الصمة أبو دريد بن الصمة قتله جعفر بن الأحنف

اجتماع القبائل على الصلح
ثم تراضوا بأن يعدوا القتلى فيدوا من فضل فكان الفضل لقيس على قريش وكنانة فاجتمعت القبائل على الصلح وتعاقدوا ألا يعرض بعضهم لبعض فرهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان بن حرب ورهن الحارث بن كلدة العبدي ابنه النصر ورهن سفيان بن عوف أحد بني الحارث بن عبد مناة ابنه الحارث حتى وديت الفضول ويقال إن عتبة بن ربيعة تقدم يومئذ فقال يا معشر قريش هلموا إلى صلة الأرحام والصلح قالوا وما صلحكم هنا فإنا موتورون فقال على أن ندي قتلاكم ونتصدق عليكم بقتلانا فرضوا بذلك وساد عتبة مذ يومئذ قال فلما رأت هوازن رهائن قريش بأيديهم رغبوا في العفو فأطلقوهم
النبي شهد الفجار إلا يوم نحلة
قال أبو عبيدة ولم يشهد الفجار من بني هاشم غير الزبير بن عبد المطلب وشهد النبي وآله سائر الأيام إلا يوم نخلة وكان يناول عمه وأهله النبل قال وشهدها وهو ابن عشرين سنة وطعن النبي وآله أبا براء ملاعب الأسنة وسئل وآله عن مشهده

يومئذ فقال ما سرني أني لم أشهده إنهم تعدوا على قومي عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا
قال وكان الفضل عشرين قتيلا من هوازن فوادهم حرب بن أمية فيما تروي قريش وبنو كنانة تزعم أن القتلى الفاضلين قتلاهم وأنهم هم ودوهم
وزعم قوم من قريش أن أبا طالب وحمزة والعباس بني عبد المطلب عليهما السلام شهدوا هذه الحروب ولم يرد ذلك أهل العلم بأخبار العرب
قال أبو عبيدة ولما انهزمت قيس خرج مسعود بن معتب لا يعرج على شيء حتى أتى سبيعة بنت عبد شمس زوجته فجعل أنفه بين ثدييها وقال أنا بالله وبك فقالت كلا زعمت أنك ستملأ بيتي من أسرى قومي اجلس فأنت آمن

أميمة ترثي قومها
وقالت أميمة بنت عبد شمس ترثي ابن أخيها أبا سفيان بن أمية ومن قتل من قومها والأبيات التي فيها الغناء منها
( أبى لَيلُكَ لا يذهبْ ... ونِيط الطَّرفُ بالكوكبْ )
( ونجم دونه الأهْوال ... ُ بين الدَّلو والعقربْ )
( وهذا الصبحُ لا يأتي ... ولا يدنو ولا يقربْ )
( بعَقرِ عشيرةٍ منّا ... كرام الخِيم والمنصِبْ )

( أَحالَ عليهمُ دهرٌ ... حديدُ النّاب والمِخلبْ )
( فحلَّ بهم وقد أمِنوا ... ولم يُقْصرْ ولم يَشْطُبْ )
( وما عَنْهُ إذا ما حلّ ... من مَنجًى ولا مَهربْ )
( ألا يا عينُ فابكيِهم ... بدمعٍ منك مستغْرِبْ )
( فإن أبكِ فهم عِزّي ... وهم ركني وهم مَنكِبْ )
( وهم أصلي وهم فرعي ... وهم نسبي إذا أُنْسَبْ )
( وهم مجدِي وهم شرفِي ... وهم حِصنِي إذا أرْهَبْ )
( وهم رُمحِي وهم تُرسي ... وهم سيفي إذا أغضبْ )
( فكم من قائلٍ منهم ... إذا ما قال لا يكذِبْ )
( وكم من ناطقٍ فيهم ... خطيبٍ مِصقَعٍ مُعْرِبْ )
( وكم من فارسٍ فيهم ... كمِيٍّ مُعْلَمٍ مِحْرَب )
( وكم من مِدرَةٍ فيهم ... أريبٍ حُوَّل قُلَّبْ )
( وكم من جَحفلٍ فيهم ... عظيمِ النّار والموكِبْ )
( وكم من خِضْرمٍ فيهم ... نجيبٍ ماجد مُنجِبْ )

صوت
( أُحِبُّ هبوطَ الواديين وإنني ... لمشتهرٌ بالواديين غريبُ )
( أحقاًّ عبادَ الله أَنْ لستُ خارجاً ... ولا والجاً إلا عليّ رقيبُ )

( ولا زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مُرِيبُ )
( وهل ريبةٌ في أن تحِنَّ نَجِيبةٌ ... إلى إلفها أو أن يَحِنّ نَجيبُ )
الشعر فيما ذكره أبو عمرو الشيباني في أشعار بني جعدة وذكره أبو الحسن المدائني في أخبار رواها لمالك بن الصمصامة الجعدي ومن الناس من يرويه لابن الدمينة ويدخله في قصيدته التي على هذه القافية والروي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر عن عمرو

أخبار مالك ونسبه
هو مالك بن الصمصامة بن سعد بن مالك أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة شاعر بدوي مقل
كان يهوى جنوب بنت محصن الجعدية
أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا
أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني ونسخت خبره أيضا من كتاب أبي عمرو الشيباني قالوا
كان مالك بن الصمصامة الجعدي فارسا شجاعا جوادا جميل الوجه وكان يهوى جنوب بنت محصن الجعدية وكان أخوها الأصبغ بن محصن من فرسان العرب وشجعانهم وأهل النجدة والبأس منهم فنمى إليه نبذ من خبر مالك فآلى يمينا جزما لئن بلغه أنه عرض لها أوزارها ليقتلنه ولئن بلغه أنه ذكرها في شعر أو عرض بها ليأسرنه ولا يطلقه إلا أن يجز ناصيته في نادي قومه فبلغ ذلك مالك بن الصمصامة فقال

( إذا شئتَ فاقرِنِّي إلى جَنْب عيهبٍ ... أجبَّ ونِضوي للقلوص جنيب )
( فما الحلْق بعد الأسر شرٌّ بَقِيةً ... من الصَّدّ والهِجران وهي قريب )
( ألا أيها الساقي الذي بلّ دَلوَه ... بقُريان يَسْقِي هل عليك رقيبُ )
( إذا أنتَ لم تشرب بقُريان شربةً ... وحانيةِ الجدران ظَلْتَ تَلوب )
( أحبّ هبوطَ الواديين وإنني ... لمشتهر بالواديين غريب )
( أحقًّا عِبادَ الله أنْ لستُ خارجاً ... ولا والجا إلا عليَّ رقيب )
( ولا زائراً وحدي ولا في جماعةٍ ... من الناس إلا قيل أنتَ مُريبُ )
( وهل ريبة في أن تَحِنَّ نجيبةٌ ... إلى إلفها أو أن يحِنَّ نجيب )

كان يراها ولا يستطيع مخاطبتها
وقال أبو عمرو خاصة حدثنا فتيان من بني جعدة أنها أقبلت ذات يوم وهو جالس في مجلس فيه أخوها فلما رآها عرفها ولم يقدر على الكلام بسبب أخيها فأغمي عليه وفطن أخوها لما به فتغافل عنه وأسنده بعض فتيان العشيرة إلى صدره فما تحرك ولا أحار جوابا ساعة من نهاره وانصرف أخوها كالخجل فلما أفاق قال
( ألَمَّتْ فما حيّت وعاجتْ فأسرعت ... إلى جرعة بين المخارم فالنّحر )

( خليليَّ قد حانَتْ وفاتِيَ فاحفِروا ... برابيةٍ بين المخافر والبُتر )
( لكيما تقول العبدليَّةُ كلما ... رأت جدثي سُقِّيت يا قبرُ من قبر )
وقال المدائني في خبره انتجع أهل بيت جنوب ناحية حسي والحمى وقد أصابها الغيث فأمرعت فلما أرادوا الرحيل وقف لهم مالك بن الصمصامة حتى إذا بلغته جنوب أخذ بخطام بعيرها ثم أنشأ يقول
( أَريْتُكِ إن أزمعتمُ اليوم نِيَّةً ... وغالكِ مُصطافُ الحِمى ومرابعُه )
( أترعَيْن ما استُودِعْتِ أم أنتِ كالذي ... إذا ما نأى هانت عليه ودَائعُهُ )
فبكت وقالت بل أرعى والله ما استودعت ولا أكون كمن هانت عليه ودائعه فأرسل بعيرها وبكى حتى سقط مغشيا عليه وهي واقفة ثم أفاق وقام فانصرف وهو يقول
( ألاَ إنَّ حِسْياً دونه قُلَّةُ الحِمى ... مُنَى النفس لو كانت تُنال شرائعهُ )
( وكيف ومِن دونِ الورودِ عوائقٌ ... وأصبغُ حامي ما أُحِبُّ ومانعُه )
( فلا أنا فيما صدَّني عنه طامعٌ ... ولا أرتجي وصلَ الذي هو قاطعه )

صوت
( يا دارَ هنْدٍ عفاها كلُّ هطّالِ ... بالخَبتِ مثلُ سحيقِ اليَمْنَة البَالي )
( أربَّ فيها وليٌّ ما يغَيِّرها ... والريحُ مما تعفِّيها بأذيال )
( دارٌ وقفتُ بها صَحبيِ أُسائلها ... والدمع قد بلَّ مني جّيْبَ سِرْبالي )
( شوقاً إلى الحيِّ أيامَ الجميعُ بها ... وكيف يطربُ أو يشتاق أمثالي )
قوله أرب فيها أي أقام فيها وثبت والولي الثاني من أمطار السنة أولها الوسمي والثاني الولي ويروى
( جرت عليها رياح الصيف فاطَّرقت ... )
واطرقت تلبدت
الشعر لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم هزج بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن جامع رمل بالوسطى وقد نسب لحنه هذا إلى إبراهيم ولحن إبراهيم إليه

أخبار عبيد بن الأبرص ونسبه
قال أبو عمرو الشيباني هو عبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر شاعر فحل فصيح من شعراء الجاهلية وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
عبيد بن الأبرص قديم الذكر عظيم الشهرة وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله في كلمته
( أَقْفَرَ من أَهْلِهِ مَلْحُوبُ )

ولا أدري ما بعد ذلك

اتهم بأخته ماوية
أخبرنا عبد الله بن مالك النحوي الضرير قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني قالا
كان من حديث عبيد بن الأبرص أنه كان رجلا محتاجا ولم يكن له مال فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له ومعه أخته ماوية ليوردا غنمها الماء فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهه فانطلق حزينا مهموما للذي صنع به المالكي حتى أتى شجرات فاستظل تحتهن فنام هو وأخته فزعموا أن المالكي نظر إليه وأخته إلى جنبه فقال
( ذاك عبيدٌ قد أصاب مَيّا ... يا ليتَه ألقحها صبيًّا )
( فحملت فوضعت ضاوياًّ ... )
فسمعه عبيد فرفع يديه ثم ابتهل فقال اللهم إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه أي اجعل لي منه دولة وانصرني عليه ووضع رأسه فنام ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر
فذكر أنه أتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه ثم قال قم فقام وهو يرتجز يعني بني مالك وكان يقال لهم بنو الزنية

يقول
( أيا بني الزِّنْية ما غرّكمُ ... فلكُم الويلُ بسربال حَجَرْ )
ثم استمر بعد ذلك في الشعر وكان شاعر بني أسد غير مدافع

امرؤ القيس يرفض دية أبيه ويهدد بني أسد فينشد عبيد بن الأبرص
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
اجتمعت بنو أسد بعد قتلهم حجر بن عمرو والد امرئ القيس إلى امرئ القيس ابنه على أن يعطوه ألف بعير دية أبيه أو يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد أو يمهلهم حولا فقال أما الدية فما ظننت أنكم تعرضونها على مثلي وأما القود فلو قيد إلي ألف من بني أسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفؤا لحجر وأما النظرة فلكم ثم ستعرفونني في فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة حتى أشفي نفسي وأنال ثأري فقال عبيد بن الأبرص في ذلك
صوت
( يا ذا المُخوِّفُنا بقتل ... ِ أبيه إذلالا وحَيْنا )

( أزعمتَ أنك قد قَتلْتَ ... سَراتنا كذِباً وميْنا )
( هلاَّ على حُجْرِ ابن أمم ... ِ قطامِ تبكي لا علينا )
( إنَّا إذا عَضَّ الثِّقاف ... ُ برأس صَعْدتِنا لَوَيْنا )
( نحمي حقيقتنا وبعضُ ... الناس يسقط بين بينا )
( هلاَّ سألتَ جموع كِندةَ ... يوم وَلَّوْا أين أينا )
الغناء لحنين رمل في مجرى الوسطى مطلق عن الهشامي وفيه ليحيى المكي خفيف ثقيل
قال وتمام هذه الأبيات
( أيامَ نضربُ هامَهم ... ببواترٍ حتى انحنينا )
( وجموعَ غسَّانَ الملوك ... أتينَهم وقد انطويْنا )
( لُحُقاً أياطِلُهنّ قد ... عالجن أسفاراً وأينا )
والأياطل الخواصر أي هن ضوامرها
( نحن الأُلَى فاجمع جمو ... عَك ثم وجِّههم إلينا )
( واعلمْ بأنّ جِيادَنا ... آليْنَ لا يقضِين دينا )

( ولقد أبَحْنَا ما حَميتَ ... ولا مُبيحَ لما حَمينا )
( هذا ولو قَدَرَتْ عليكَ ... رماحُ قومي ما انتهينا )
( حتى تنوشَك نَوْشَةً ... عاداتِهنَّ إذا انتويْنا )
( نُغْلي السِّباءَ بكل عاتقة ... ٍ شمولٍ ما صَحْونا )
( ونُهِينُ في لذّاتنا ... عُظْمَ التّلاد إذا انتشينا )
( لا يبلُغ الباني ولو ... رفعَ الدّعائمَ ما بَنَيْنا )
( كم من رئيسٍ قد قتلناهُ ... وضَيمٍ قدْ أبينا )
( ولربَّ سَيِّدِ معشرٍ ... ضخمِ الدّسيعة قد رمينا )
( عِقْبانُه بظلالِ عِقبانٍ ... تُتَمِّمُ ما نوينا )
( حتى تركنا شِلوَه ... جَزَرَ السّباع وقد مضينا )
( إنّا لعمرُك ما يُضامُ ... حليفُنا أبداً لدينا )
( وأوانِس مثلِ الدُّمى ... حُورِ العيون قد استبينا )

وفاء ثعبان له
وقرأت في بعض الكتب عن ابن الكلبي عن أبيه وهو خبر مصنوع يتبين التوليد فيه
أنَّ عبيدَ بن الأبرص سافر في ركب من بني أسد فبيناهم يسيرون إذا

هم بشجاع يتمعك على الرمضاء فاتحا فاه من العطش وكانت مع عبيد فضلة من ماء ليس معه ماء غيرها فنزل فسقاه الشجاع عن آخره حتى روي وانتعش فأنساب في الرمل فلما كان من الليل ونام القوم ندت رواحلهم فلم ير لشيء منها أثر فقام كل واحد يطلب راحلته فتفرقوا فبينا عبيد كذلك وقد أيقن بالهلكة والموت إذا هو بهاتف يهتف به
( يا أَيُّها الساري المضِلُّ مذهبُهْ ... دونكَ هذا البَكَر منّا فاركبه )
( وبكْرُكَ الشارد أيضاً فاجنبُهْ ... حتى إذا الليلُ تَجَلّى غيهبه )
( فَحُطّ عنه رحلَه وسَيّبُه ... )
فقال له عبيد يا هذا المخاطب نشدتك الله إلا أخبرتني من أنت فأنشأ يقول
( أنا الشّجاع الذي ألفيْتَه رَمِضاً ... في قفرةٍ بين أحجارٍ وأعقادِ )
( فَجُدْتَ بالماء لما ضَنَّ حامُله ... وزِدتَ فيه ولم تبخل بإِنكادِ )
( الخيرُ يبقى وإن طال الزمانُ به ... والشرُّ أخبثُ ما أوْعيتَ من زادِ )
فركب البكر وجنب بكره وسار فبلغ أهله مع الصبح فنزل عنه وحل رحله وخلاه فغاب عن عينه وجاء من سلم من القوم بعد ثلاث

كان للمنذر بن ماء السماء يومان
أخبرني محمد بن عمران المؤدب وعمي قالا حدثنا محمد بن عبيد قال حدثني محمد بن يزيد بن زياد الكلبي عن الشرقي بن القطامي قال
كان المنذر بن ماء السماء قد نادمه رجلان من بني أسد أحدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة فأغضباه في بعض المنطق فأمر بأن يحفر لكل واحد حفيرة بظهر الحيرة ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفرتين ففعل ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما فندم على ذلك وغمه وفي عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل الأسديين يقول شاعر بني أسد
( يا قبرُ بينَ بيوتٍ آل محرِّقٍ ... جادت عليك رواعدٌ وبروقُ )
( أمّا البكاءُ فقلَّ عنك كثيرُه ... ولئن بُكِيتَ فَللْبُكاء خَليق )
ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما فبنيا عليهما وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين يسمى أحدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل شوما أي سودا وأول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه

رأس ظربان أسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان فلبث بذلك برهة من دهره

عبيد يقتل في يوم البؤس
ثم إن عبيد بن الأبرص كان أول من أشرف عليه في يوم بؤسه فقال هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد فقال أتتك بحائن رجلاه فأرسلها مثلا فقال له المنذر أو أجل بلغ إناه فقال له المنذر أنشدني فقد كان شعرك يعجبني فقال عبيد حال الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطبيين فأرسلها مثلا فقال له النعمان أسمعني فقال المنايا على الحوايا فأرسلها مثلا فقال له آخر ما أشد جزعك من الموت فقال لا يرحل رحلك من ليس معك فأرسلها مثلا فقال له المنذر قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك فقال عبيد من عز بز فأرسلها مثلا فقال المنذر أنشدني قولك
( أقفرَ مِن أهله مَلحوبُ ... )
فقال عبيد
صوت
( أقفر من أهله عَبِيدُ ... فليس يُبدِي ولا يُعِيدُ )

( عَنتْ له عَنَّةٌ نكُودٌ ... وحان منها له ورودُ )
فقال له المنذر يا عبيد ويحك أنشدني قبل أن أذبحك فقال عبيد
( والله إن مِتُّ لما ضرّني ... وإن أعشْ ما عشتُ في واحدَه )
فقال المنذر إنه لا بد من الموت ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤس لذبحته فاختر إن شئت الأكحل وإن شئت الأبجل وإن شئت الوريد فقال عبيد ثلاث خصال كسحابات عاد واردها شر وراد وحاديها شر حاد ومعادها شر معاد ولا خير فيه لمرتاد وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت مفاصلي وذهلت لها ذواهلي فشأنك وما تريد فأمر المنذر بحاجته من الخمر حتى إذا أخذت منه وطابت نفسه دعا به المنذر ليقتله فلما مثل بين يديه أنشأ يقول
( وخيّرني ذُو البؤس في يوم بؤسه ... خِصالاً أرى في كلها الموتَ قد بَرَقْ )
( كما خُيِّرت عادٌ من الدهر مَرّةً ... سحائبَ ما فيها لذي خِيرة أنَقْ )
( سحائب ريح لم تُوكَّل ببلدةٍ ... فتتركها إلا كما ليلةِ الطَّلَق )

فأمر به المنذر ففصد فلما مات غري بدمه الغريان

خبر الطائي الذي يرمز إلى وفاء العرب بالعهد
فلم يزل كذلك حتى مر به رجل من طيىء يقال له حنظلة بن أبي عفراء أو ابن أبي عفر فقال له أبيت اللعن والله ما أتيتك زائرا ولأهلي من خيرك مائرا فلا تكن ميرتهم قتلى فقال لا بد من ذلك فاسأل حاجة أقضينها لك فقال تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي وأحكم من أمرهم ما أريد ثم أصير إليك فأنفذ في حكمك فقال ومن يكفل بك حتى تعود فنظر في وجوه جلسائه فعرف منهم شريك بن عمرو أبا الحوفزان بن شريك فأنشد يقول
( يا شريكٌ يا بنَ عمروٍ ... ما من الموت مَحالَهْ )
( يا شريكٌ يا بنَ عمرو ... يا أخا من لا أخالهْ )
( يا أخا شَيْبان فُكَّ اليوم ... رهنا قد أناله )
( يا أخا كلِّ مُضافٍ ... وحيَا مَنْ لا حَيَا له )
( إنّ شَيْبانَ قبيلٌ ... أكرمَ اللهُ رجالَهْ )
( وأبوك الخيرُ عمروٌ ... وشراحيلُ الحَمَا لَهْ )
( رَقيَّاك اليوم في المجد ... وفي حُسنِ المقالَهْ )
فوثب شريك وقال أبيت اللعن يدي بيده ودمي بدمه إن لم يعد

إلى أجله فأطلقه المنذر فلما كان من القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة أن يأتيه فأبطأ عليه فأمر بشريك فقرب ليقتله
فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفنا متحنطا معه نادبته تندبه وقد قامت نادبة شريك تندبه فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما وأبطل تلك السنة

خبر آخر عن مقتل عبيد بن الأبرص
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن هشام بن الكلبي قال
كان من حديث عبيد بن الأبرص وقتله أن المنذر بن ماء السماء بنى الغريين فقيل له ما تريد إليهما وكان بناهما على قبري رجلين من بني أسد كانا نديميه أحدهما خالد بن المضلل الفقعسي والآخر عمرو بن مسعود فقال ما أنا بملك إن خالف الناس أمري لا يمرن أحد من وفود العرب إلا بينهما وكان له يومان في السنة يوم يسميه يوم النعيم ويوم يسميه يوم البؤس فإذا كان في يوم نعيمه أتي بأول من يطلع عليه فحباه وكساه ونادمه يومه وحمله فإذا كان يوم بؤسه أتي بأول من يطلع عليه فأعطاه رأس ظربان أسود ثم أمر به فذبح وغري بدمه الغريان فبينا هو جالس في يوم بؤسه إذ أشرف عليه عبيد فقال لرجل كان معه من هذا الشقي فقال له هذا عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر فأتي به فقال له الرجل الذي كان معه اتركه أبيت اللعن فإني أظن أن عنده من حسن القريض أفضل مما تدرك في قتله فاسمع منه فإن سمعت حسنا استزدته وإن لم يعجبك فما أقدرك على قتله فإذا نزلت فادع به قال

فنزل وطعم وشرب وبينه وبين الناس حجاب ستر يراهم منه ولا يرونه فدعا بعبيد من وراء الستر فقال له رديفه هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد فقال أتتك بحائن رجلاه فأرسلها مثلا فقال ما ترى يا عبيد قال أرى الحوايا عليها المنايا فقال فهل قلت شيئا فقال حال الجريض دون القريض فقال أنشدني
( أقفرَ من أهلِه مَلحوب ... )
فقال
( أقْفَرَ من أَهله عبيدُ ... فليس يُبدي ولا يعيدُ )
( عنَّت له خُطَّةٌ نكودُ ... وحان منها له ورودُ )
فقال أنشدنا
( هِيَ الخمر تُكنى بأمِّ الطِّلىَ ... كما الذئبُ يُكنى أبا جَعْدَه )
وأبى أن ينشدهم شيئا مما أرادوا فأمر به فقتل
فأما خبر عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل ومقتلهما فإنهما كانا نديمين للمنذر بن ماء السماء فيما ذكره خالد بن كلثوم فراجعاه بعض القول على سكره فغضب فأمر بقتلهما وقيل بل دفنهما حيين فلما أصبح سأل عنهما فأخبر خبرهما فندم على فعله فأمر بإبل فنحرت على قبريهما وغري بدمائها قبراهما إعظاما لهما وحزن عليهما وبنى الغريين فوق قبريهما وأمر فيهما بما قدمت ذكره من أخبارهما فقالت نادبة الأسديين
( ألا بَكرَ الناعي بخير بني أسدْ ... بعمرِو بن مسعودٍ وبالسيّد الصَّمَدْ )
وقال بعض شعراء بني أسد يرثي خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود وفيه غناء

صوت
( يا قبرُ بينَ بيوتِ آل مُحرّقٍ ... جادت عليك رواعدٌ وبروقُ )
( أمّا البُكاءُ فقلّ عنك كثيرُهُ ... ولئن بُكِيتَ فبِالبِكاء خليقُ )
الغناء لابن سريج ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من جامع أغانيه
ومما يغنى به أيضا من شعر عبيد
صوت
( طاف الخيال علينا ليلةَ الوادي ... من أمِّ عمرو ولم يُلْمِمْ لميعادِ )
( أنيَّ اهتديت لِركبٍ طال سيرهمُ ... في سَبْسَبٍ بين دَكْداكٍ وأعقاد )
( اذهب إليك فإني من بني أسد ... أهلِ القباب وأهل الجودِ والنَّادي )
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه ثقيل أول بالوسطى ذكر الهشامي أنه لأبي زكار الأعمى وذكر حبش أنه لابن سريج
وفي هذه القصيدة يقول يخاطب حجر بن الحارث أبا امرئ القيس وكان حجر يتوعده في شيء بلغه عنه ثم استصلحه فقال يخاطبه

( أبلغ أبَا كَرِبٍ عنّي وإخوتَه ... قولاً سيذهب غَوْراً بعد إنجادِ )
( لا أعرفنَّك بعد الموت تَندُبني ... وفي حياتيَ ما زودّتني زادي )
( إنَّ أمامَك يوماً أنتَ مدركُهُ ... لا حاضرٌ مفلِتٌ منه ولا بادي )
( فانظر إلى ظلّ مُلْكٍ أنْت تاركُهُ ... هل تُرسِيَنَّ أواخيه بأوتاد )
( الخيرُ يبقى وإن طال الزمانُ به ... والشَّرّ أخبث ما أوعيتَ من زاد )

عمر بن الخطاب يبكي مع نساء بني مخزوم خالد بن الوليد
أخبرنا عيسى بن الحسين قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاعي عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
سمع عمر بن الخطاب نساء بني مخزوم يبكين على خالد بن الوليد فبكى وقال ليقل نساء بني مخزوم في أبي سليمان ما شئن فإنهن لا يكذبن وعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي فقال له طلحة بن عبيد الله إنك وإياه لكما قال عبيد بن الأبرص
( لا أُلْفِيَنَّك بعدَ الموتِ تندُبني ... وفي حياتيَ ما زوّدتني زادي )
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله الغبدي قال حدثني سيف الكاتب قال
وليت ولاية فمررت بصديق لي في بعض المنازل فنزلت به قال فنلنا من الطعام والشراب ثم غلب علينا النبيذ فنمنا فانتبهت من نومي فإذا أنا بكلب قد دخل على كلب الرجل فجعل يبش به ويسلم

عليه لا أنكر من كلامهما شيئا ثم جعل الكلب الداخل عليه يخبره عن طريقه بطول سفره وقال له هل عندك شيء تطعمنيه قال نعم قد بقي لهم في موضع كذا وكذا طعام وليس عليه شيء فذهبا إليه فكأني أسمع ولوغهما في الإناء حتى أكلا ما كان هناك فيه ثم سأله نبيذا فقال نعم لهم نبيذ في إناء آخر ليس له غطاء فذهبا إليه فشربا
ثم قال له هل تطربني بشيء قل إي وعيشك

صوت
كان أبو يزيد يغنيه فيجيده ثم غناه في شعر عبيد بن الأبرص
صوت
( طاف الخيالُ علينا ليلةَ الوادي ... لآل أسماءَ لم يُلمِمْ لميعادِ )
( أنىَّ اهتديت لركبٍ طال سيرهُم ... في سَبسبٍ بين دكَدْاكٍ وأعقادِ )
قال فلم يزل يغنيه هذا الصوت ويشربان مليا حتى فني ذلك النبيذ ثم خرج الكلب الداخل فخفت والله على نفسي أن أذكر ذلك لصاحب المنزل فأمسكت وما أذكر أني سمعت أحسن من ذلك الغناء
ومما يغني فيه من شعره قوله
صوت
( لمن جِمالٌ قُبيلَ الصّبح مزمُومَه ... ميمِّماتٌ بلاداً غيرَ معلومه )
( فيهنّ هندٌ وقد هام الفؤاد بها ... بيضاءُ آنسةٌ بالحسن موسومهْ )
الغناء لابن سريج رمل عن يونس والهشامي وحبش
ومنها قوله

صوت
( دَرَّ دَرُّ الشباب والشعَرِ الأسود ... والضَّامراتِ تحت الرِّحالِ )
( فالخناذيذِ كالقداحِ من الشّوحط ... يحملن شِكّة الأبطال )
( ليس رسمٌ على الدّفين ببالٍ ... فَلِوَى ذرْوةٍ فَجَنْبيْ أُثَال )
( تلك عَرسي قد عيّرتني خِلالي ... ألِبينٍ تريد أم لدلالِ )
الغناء لطويس خفيف رمل لا شك فيه وفيه ثقيل أول ذكر علي بن يحيى أنه لطويس أيضا ووجدته في صنعة عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر وفي الثالث والرابع من الأبيات لدلال خفيف رمل بالبنصر عن عبد الله بن موسى والهشامي
صوت
( لمن الدّيارُ كأنها لم تُحْلَلِ ... بجنوبِ أسنمةٍ فَقُفِّ العُنْصُلِ )
( دَرَسَتْ معالُمها فباقي رَسْمِها ... خَلَقٌ كعنوان الكتاب المُحْولِ )

( دارٌ لسُعدي إذ سعادٌ كأنها ... رشأ غضيضُ الطّرف رَخْصُ المِفْصل )
عروضه من الكامل جنوب أسنمة أودية معروفة والقف الكثيب من الرمل ليس بالمشرف ولا الممتد والعنصل بصل معروف
الشعر لربيعة بن مقروم الضبي والغناء فيه لسياط هزج بالبنصر عن الهشامي

أخبار ربيعة بن مقروم ونسبه
هو ربيعة بن مقروم الضبي بن قيس بن جابر بن خالد بن عمرو بن عبد الله بن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار
شاعر إسلامي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان ممن أصفق عليه كسرى ثم عاش في الإسلام زمانا
هجوه ضابئ بن الحارث
قال أبو عمرو الشيباني
كان ربيعة بن مقروم باع عجرد بن عبد عمرو بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن درام لقحة إلى أجل فلما بايعه وجد ابن مقروم ضابئ بن الحارث عند عجرد وقد نهاه عن إنظاره بالثمن فقال ابن مقروم يعرض بضابئ إنه أعان عليه وكان ضلعه معه
( أَعَجْرُ ابن المليحة إنَّ همّي ... إذا ما لَجّ عُذاَّلي لَعَان )
قوله لعان أي عان من العناء عناني الشيء يعنيني وهو لي عان

( يَرى مالا أرى ويقول قولاً ... وليس على الأمور بمستعان )
( ويحلِف عند صاحبه لَشاةٌ ... أحبُّ إليَّ من تلك الثّمان )
( وحامل ضبّ ضِغنٍ لم يَضِرْني ... بعيدٍ قلبُه حلوِ اللسان )
( ولو أني أشاء نقَمتُ منه ... بِشَغْبٍ من لسانٍ تَيِّحان )
( ولكني وصلتُ الحبل منه ... مواصلة بحبلِ أبي بيان )
( ترفَّع في بني قَطَنٍ وحلّت ... بيوتَ المجد يبنيهن باني )
يعني حلت بنو قطن بيوت المجد
( وضَمرة إن ضمرةَ خيرُ جارٍ ... إلى قطن بأسبابِ مِتانِ )
( هجانُ الحيِّ كالذهب المصفّى ... صبيحةَ ديمةٍ يجنيه جان )
قال أبو عمرو الذهب في معدنه إذا جاءه المطر ليلا لاح من غد عند طلوع الشمس فيتتبع ويؤخذ

مدحه مسعود بن سالم الذي خلصه من الأسر
قال أبو عمرو وأسر ربيعة بن مقروم واستيق ماله فتخلصه مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ذبيان بن عامر بن ثعلبة بن ذؤيب بن السيد فقال ربيعة بن مقروم فيه قوله
( كَفَانِي أبو الأشوسِ المنكراتِ ... كفاهُ الإلهُ الذي يَجْذَرُ )
( أعزُّ من السِّيدِ في منصِبٍ ... إليه العَزازة والمفخرُ )
وقال يمدحه أيضا

( بَانَ الخليطُ فأمسى القلب معموداً ... وأخلفْتك ابنةُ الحرِّ المواعيدا )
( كأنها ظبيةٌ بِكْرٌ أطاع لها ... من حَوملٍ تَلعَاتُ الحيِّ أو أُودا )
( قامت تريك غداةَ البين مُنسدِلاً ... تجللت فوق متنيها العناقيدا )
( وبارداً طَيِّباً عذباً مَذاقتُه ... شربتُه مَزِجاً بالظلم مشهودا )
( وجَسْرةٍ أُجُد تَدمَى مناسمُهَا ... أعْمَلتُهَا بِيَ حَتى تَقطعَ البيدا )
( كلّفتُها فأتى حتماً تكلُّفها ... ظهيرةً كأجيج النار صَيخودا )
( في مهمةٍ قُذُفٍ يُخشَى الهلاكُ به ... أصداؤُه لا تَنِي بالليل تغريدا )
( لمّا تشكّت إليّ الأينَ قلتُ لها ... لا تستريحِنَّ ما لم ألق مسعودا )
( ما لم ألاقِ امرأً جَزْلاً مواهبُه ... رحبُ الفِنَاء كريمَ الفِعْل محمُودا )
( وقد سمعتُ بقوم يُحمَدون فلم ... أسمع بمثلِك لا حِلْماً ولا جودا )
( ولا عفافاً ولا صبراً لنائبة ... ولا أُخَبِّرُ عنك الباطلَ السِّيدا )

السيد قبيل الممدوح من آل ضبة
( لا حلمُك الحلمُ موجودٌ عليه ولا ... يُلْفَى عَطَاؤُك في الأقوام منكودا )
( وقد سبقتَ لغاياتِ الجواد وقد ... أشبهت آباءَك الشُّمَّ الصناديدا )
( هذا ثنائي بما أوليتَ من حسَنٍ ... لا زلتَ براًّ قريرَ العينِ محسودا )
قال أبو عمرو كان لضابئ بن الحارث البرجمي على عجرد بن عبد عمرو دين بايعه به نعما واستخار الله في ذلك وبايعه ربيعة بن مقروم ولم يستخر الله تعالى ثم خافه ضابئ فاستجار بربيعة بن مقروم في مطالبته إياه فضمن له جواره فوفى عجرد لضابئ ولم يف لربيعة فقال ربيعة
( أَعجْرِد إني من أمانيَّ بَاطلٍ ... وقولِ غِداً شيخٌ لذاك سؤوم )
( وإنّ اختلافي نصف حولٍ محرَّم ... إليكم بني هندٍ عليَّ عظيم )
( فلا أعرفنّي بعد حولٍ محرَّم ... وقولٍ خلا يُشكُونَنِي فألوم )
( ويلتمسوا وُدِّي وعطفيَ بعد ما ... تنَاشدَ قولي وائلٌ وتميمُ )
( وإن لم يكن إلا اختلافي إليكم ... فإني امرؤٌ عِرضي عليّ كريم )
( فلا تُفسِدوا ما كان بينِي وبينكم ... بني قَطَنٍ إنَّ المُليم مُليمُ )
فاجتمعت عشيرة عجرد عليه وأخذوه بإعطاء ربيعة ماله فأعطاه إياه

حماد الراوية ينشد الوليد بن يزيد شعر ربيعة بن مقروم
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن

الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال
دخلت على الوليد بن يزيد وهو مصطبح وبين يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل وحكم الوادي وعمر الوادي يغنونه وعلى رأسه وصيفة تسقيه لم أر مثلها تماما وكمالا وجمالا فقال لي يا حماد أمرت هؤلاء أن يغنوا صوتا يوافق صفة هذه الوصيفة وجعلتها لمن وافق صفتها نحلة
فما أتى أحد منهم بشيء فأنشدني أنت ما يوافق صفتها وهي لك فأنشدته قول ربيعة بن مقروم الضبي
( دارٌ لسُعْدِي إذ سُعاد كأنَّها ... رَشأٌ غريرُ الطّرفِ رخْص المِفْصَل )
( شَمَّاءُ واضحةُ العوارضِ طَفلةٌ ... كالبدر من خَلَل السحاب المنجِلي )
( وكأنما ريحُ القَرَنفُلِ نَشرُها ... أو حَنْوَةٌ خُلِطَتْ خزامى حَوْملِ )

( وكأَنّ فاها بعد ما طرَق الكرى ... كأسٌ تُصَفِّق بالرحيق السّلسل )
( لو أنها عرضت لأشْمَطَ راهبٍ ... في رأس مُشرفةِ الذُّرا متبتّل )
( جآر ساعات النيام لربه ... حتى تخدد لحمه مستعمل )
( لصَبَا لبهجتها وحُسنِ حَديِثها ... ولهمَّ من ناموسه بتَنَزُّل )
فقال الوليد أصبت وصفها فاخترها أو ألف دينار فاخترت الألف الدينار فأمرها فدخلت إلى حرمه وأخذت المال

مختارات من شعره
وهذه القصيدة من فاخر الشعر وجيده وحسنه فمن مختارها ونادرها قوله
صوت
( بل إنْ تَرَىْ شَمَطاً تفرَّغَ لِمّتي ... وحَنَا قناتي وارتقى في مِسْحَلي )
( ودَلَفْتُ من كَبرٍ كأنِّيَ خَاتلٌ ... قَنَصاً ومن يدْبِبْ لصيدٍ يخْتِلِ )
( فلقد أُرَى حَسنَ القَناة قويَمها ... كالنَّصْل أخلصه جَلاءُ الصّيقَلِ )
( أزمانَ اذْ أنا والجديدُ إلى بلىً ... تُصبي الغواني مَيْعَتي وتنقُّليِ )
غنى بذلك معبد ثقيلا أول

( ولقد شهِدْتُ الخيل يوم طِرَادها ... بِسَليمِ أَوظفةِ القوائم هَيكَل )
( متقَاذفٍ شَنِجِ النَّسا عَبْلِ الشَّوى ... سبَّاقِ أَندية الجياد عَمَيْثل )
( لولا أكفكِفه لكان إذا جرى ... منه العزيم يدقُّ فأسَ المِسحل )
( وإذا جرى منه الحميمُ رأيتَه ... يهوِي بفارسِه هُوِيَّ الأجدلِ )
( وإذا تَعلَّلُ بالسّياط جيادُها ... أعطاك نائيه ولم يتعلّل )
( ودعَوا نزالِ فكنتُ أولَ نازلٍ ... وعلامَ أركبُه إذا لم أنزل )
( ولقد جمعتُ المالَ من جَمْع امرئ ... ورفعتُ نفسِي عن لَئِيمِ المأكلِ )
( ودخلتُ أبنية الملوك عليهمُ ... ولَشَرُّ قولِ المرءِ ما لم يُفعَل )
( ولرُبّ ذي حَنَقٍ عليَّ كأنما ... تَغلِي عداوةُ صَدْرِهِ كالمِرْجل )
( أزْجَيْتُه عنّي فأبصرَ قصدَه ... وكويتُه فوق النَّواظر من عَلِ )
( وأخي مُحافظةٍ عَصَى عُذّاله ... وأطاع لذّته مُعِمٍّ مُخوِل )
( هشٍّ يُرَاحُ إلى النّدى نبّهتُه ... والصبحُ ساطِعُ لونِه لم يَنْجل )
( فأتيتُ حانوتا به فصبَحْته ... من عاتقٍ بمزاجها لم تُقتلِ )

( صهباءَ إلْياسِيَّةٍ أَغلى بها ... يَسرٌ كريمُ الخِيم غيرُ مُبخَّل )
( ومُعَرِّسٍ عُرْضِ الرداء عَرَسْتُهُ ... من بعد آخرَ مثلِه في المنزلِ )
( ولقد أصبتُ من المعيشة لينَها ... وأصابني منه الزمانُ بكلكل )
( فإذا وذاك كأنه ما لم يكن ... إلا تذكُّره لمن لم يجهل )
( ولقد أتتْ مائةٌ عليَّ أعدُّها ... حَوْلاً فحولا لا بَلاها مُبتلِ )
( فإذا الشّباب كمبْذَلٍ أنضيتُه ... والدهرُ يُبلِي كلَّ جِدَّةِ مِبْذل )
( هلاّ سألتِ وخُبْرُ قوم عندهم ... وشفاءُ غَيِّكِ خابرا أن تسأليِ )
( هل نُكرم الأضْيافَ إنْ نزلوا بنا ... ونسودُ بالمعروف غير تنحل )
( ونحل بالثغر المخوف عدوه ... ونرد حالَ العارض المتهلِّل )
( ونُعين غارمَنا ونمنع جارَنا ... ونَزينُ مولى ذِكْرِنا في المحفِل )
( وإذا امرؤٌ منا حَبا فكأنَّه ... مما يُخافُ على مناكب يَذْبُل )
( ومتى تَقُمْ عند اجتماع عشيرةٍ ... خطباؤنا بين العشيرة يُفْصَل )
( ويرى العدوُّ لنا دروءاً صعبةً ... عند النجوم منيعةَ المتأوّل )

( وإذا الحَمالةُ أثقلت حُمَّالَها ... فعلى سوائمنا ثقيلُ المحمِلِ )
( ونحُقُّ في أموالنا لحليفنا ... حقّاً يبوء به وإن لم يَسْأَلِ )
وهذه جملة جمعت فيها أغاني من أشعار اليهود إذ كانت نسبتهم وأخبارهم مختلطة فمن ذلك
صوت
( أَنَّى تَذَكَّر زينبَ القلبُ ... وطِلابُ وصلِ عزيزةٍ صَعْبُ )
( ما رَوْضَةٌ جاد الربيع لها ... موشيّةٌ ما حولها جدْبُ )
( بألذّ منها إذ تقول لنا ... سيراً قليلاً يَلْحقِ الركبُ )
الشعر لأوس بن ذبي القرظي والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وزعم عمرو أن فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى لمالك وأن فيه صنعة لابن محرز ولم يجنسها

أخبار أوس ونسب اليهود
النازلين بيثرب وأخبارهم
أوس بن ذبي اليهودي رجل من بني قريظة وبنو قريظة وبنو النضير يقال لهم الكاهنان وهم من ولد الكاهن بن هارون بن عمران أخي موسى بن عمران على محمد وآله وعليهما وكانوا نزولا بنواحي يثرب بعد وفاة موسى بن عمران عليه السلام وقبل تفرق الأزد عند انفجار سيل العرم ونزول الأوس والخزرج بيثرب
كان ساكنو المدينة يسمون العمالقة
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن جعفر بن محمد العاصي أبي المنهال عيينة بن المنهال المهلبي عن أبي سليمان جعفر بن سعد عن العماري قال
كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل قوما من الأمم الماضية يقال لهم العماليق وكانوا قد تفرقوا في البلاد وكانوا أهل عز وبغي شديد فكان ساكني المدينة منهم بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق وكان ملك الحجاز منهم رجل يقال له الأرقم ينزل ما بين تيماء

إلى فدك وكانوا قد ملأوا المدينة ولهم بها نخل كثير وزروع وكان موسى بن عمران عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم فبعث موسى عليه السلام إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل وأمرهم أن يقتلوهم جميعا إذا ظهروا عليهم ولا يستبقوا منهم أحدا فقدم الجيش الحجاز فأظهرهم الله عز و جل على العماليق فقتلوهم أجمعين إلا ابنا للأرقم فإنه كان وضيئا جميلا فضنوا به على القتل وقالوا نذهب به إلى موسى بن عمران فيرى فيه رأيه فرجعوا إلى الشام فوجدوا موسى عليه السلام قد توفي فقالت لهم بنو إسرائيل ما صنعتم فقالوا أظهرنا الله جل وعز عليهم فقتلناهم ولم يبق منهم أحد غير غلام كان شابا جميلا فنفسنا به عن القتل وقلنا نأتي به موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه فقالوا لهم هذه معصية قد أمرتم ألا تستبقوا منهم أحدا والله لا تدخلون علينا الشام أبدا

المدينة أول استيطان اليهود
فلما منعوا ذلك قالوا ما كان خيرا لنا من منازل القوم الذين قتلناهم بالحجاز نرجع إليهم فنقيم بها فرجعوا على حاميتهم حتى قدموا المدينة فنزلوها وكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود المدينة فانتشروا في نواحي المدينة كلها إلى العالية فاتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع ولبثوا بالمدينة زمانا طويلا

ثم ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا بالشام فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل هاربين منهم إلى من بالحجاز من بني إسرائيل لما غلبتهم الروم على الشام فلما فصلوا عنها بأهليهم بعث ملك الروم في طلبهم ليردهم فأعجزوه وكان ما بين الشام والحجاز مفاوز فلما بلغ طلب الروم التمر انقطعت أعناقهم عطشا فماتوا وسمي الموضع تمر الروم فهو اسمه إلى اليوم فلما قدم بنو النضير وبنو قريظة وبهدل المدينة نزلوا الغابة فوجدوها وبية فكرهوها وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا سواها فخرج حتى أتى العالية وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على تلاع أرض عذبة بها مياه عذبة تنبت حر الشجر فرجع إليهم فقال قد وجدت لكم بلدا طيبا نزها على حرة يصب فيها واديان على تلاع عذبة ومدرة طيبة في متأخر الحرة ومدافع الشرج قال فتحول القوم إليها من منزلهم ذلك فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان وكانت لهم إبل نواعم فاتخذوها أموالا ونزلت بنو قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور فكانت لهم تلاعه وما سقي من بعاث وسموات فكان ممن يسكن المدينة حين نزلها الأوس والخزرج من قبائل بني إسرائيل بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زغورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو

الفصيص فكان يسكن يثرب جماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود وكان بنو مرانة في موضع بني حارثة ولهم كان الأطم الذي يقال له الخال

كان مع بني إسرائيل بطون من العرب
وكان معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب منهم بنو الحرمان حي من اليمن وبنو مرثد حي من بلي وبنو أنيف من بلي أيضا وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحارث بن بهثة وبنو الشظية حي من غسان وكان يقال لبني قريظة وبني النضير خاصة من اليهود الكاهنان نسبوا بذلك إلى جدهم الذي يقال له الكاهن كما يقال العمران والحسنان والقمران قال كعب بن سعد القرظي
( بالكاهِنيْن قررتمْ في ديارِكُمُ ... جمًّا ثواكم ومن أجلاكم جَدُبا )
وقال العباس بن مرداس السلمي يرد على خوات بن جبير لما هجاهم
( هجوتَ صريحَ الكاهنَيْن وفيكمُ ... لهم نِعَمٌ كانت مدى الدهر تُرْتُبَا )
فلما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب وهم الأزد قام رائدهم

فقال من كان ذا جمل مفن ووطب مدن وقربة وشن فلينقلب عن بقرات النعم فهذا اليوم يوم هم وليلحق بالثني من شن قال وهو بالسراة فكان الذين نزلوه أزد شنوءة ثم قال لهم ومن كان ذا فاقة وفقر وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر فكان الذين سكنوه خزاعة ثم قال لهم من كان منكم يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير والديباج والحرير فليلحق ببصرى والحفير وهي من أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان ثم قال لهم ومن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان الجديد فكان الذين نزلوه أزد عمان ثم قال ومن كان يريد الراسخات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل

الأوس والخزرج أول من نزلوا المدينة
فكان الذين نزلوها الأوس والخزرج فلما توجهوا إلى المدينة ووردوها نزلوا في صرار ثم تفرقوا وكان منهم من لجأ إلى عفاء من أرض لا ساكن فيه فنزلوا به ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها فكانوا مع أهلها فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب إبل ولا شاة لأن المدينة ليست بلاد نعم وليسوا

بأصحاب نخل ولا زرع وليس للرجال منهم إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات والأموال لليهود فلبثت الأوس والخزرج بذلك حينا

أبو جبيلة أمر أن يمكر باليهود حتى يقتل رؤوسهم
ثم إن مالك بن العجلان وفد إلى جبيلة الغساني وهو يومئذ ملك غسان فسأله عن قومه وعن منزلهم فأخبره بحالهم وضيق معاشهم فقال له أبو جبيلة والله ما نزل قوم منا بلدا قط إلا غلبوا أهله عليه فما بالكم ثم أمره بالمضي إلى قومه وقال له أعلمهم أني سائر إليهم فرجع مالك بن العجلان فأخبرهم بأمر أبي جبيلة ثم قال لليهود
إن الملك يريد زيارتكم فأعدوا نزلا فأعدوه وأقبل أبو جبيلة سائرا من الشام في جمع كثيف حتى قدم المدينة فنزل بذي حرض ثم أرسل إلى الأوس والخزرج فذكر لهم الذي قدم له وأجمع أن يمكر باليهود حتى يقتل رؤوسهم وأشرافهم وخشي إن لم يمكر بهم أن يتحصنوا في آطامهم فيمنعوا منه حتى يطول حصاره إياهم فأمر ببنيان حائر واسع فبني ثم أرسل إلى اليهود أن أبا جبيلة الملك قد أحب أن تأتوه فلم يبق وجه من وجوه القوم إلا أتاه وجعل الرجل يأتي معه بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم فلما اجتمعوا ببابه أمر رجالا من جنده أن يدخلوا الحائر ويدخلوهم رجلا رجلا فلم يزل الحجاب يأذنون لهم كذلك ويقتلهم الجند الذين في الحائر حتى أتوا على آخرهم فقالت سارة القريظية ترثي من قتل منهم أبو

جبيلة تقول
( بنفسِي أمّةٌ لم تُغْنِ شيئاً ... بذي حُرُضٍ تُعفِّيها الرياحُ )
( كُهولٌ من قُريظة أتلفَتْها ... سيوفُ الخزرجيَّة والرّماحُ )
( رُزِئنا والرزيّة ذات ثِقْلٍ ... يَمُرُّ لأهلِها الماءُ القَراحُ )
( ولو أَرِبوُ بأمرهمُ لجالت ... هنالك دونهم جَأْوَا رَداحُ )

مدح الرمق لأبي جبيلة
وقال الرمق وهو عبيد بن سالم بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج يمدح أبا جبيلة الغساني
( لم يُقْضَ ديْنُك في الحسان ... ِ وقد غَنِيتَ وقد غَنِينا )
( الرّاشقاتِ المرشقاتِ ... الجازياتِ بما جُزِينا )
( أمثال غزلانِ الصرائِم ... ِ يأتزِرن ويرتدينا )
( الرَّيْطَ والدِّيباجَ ... والزَّردَ المضاعف والبُرِينا )
( وأبو جُبيْلة خيرُ من ... يمشي وأوفاهم يَمينا )
( وأَبَرُّه بِرًّا وأعْلَمُه ... بعلم الصالحينا )

( أبقت لنا الأيامُ والحَربُ المهمَّةُ تعترينا ... )
( كبشا لنا ذَكَراً يفُلُّ حسامُه الذكرَ السَّنِينا ... )
( ومعاقلا شُمًّا وأسيافا يَقُمن وينحنينا ... )
( ومحلّة زوراء تُرجِف ... بالرجال المُصلِتينا )
فلما أنشدوا أبا جبيلة ما قال الرمق أرسل إليه فجيء به وكان رجلا ضئيلا غير وضيء فلما رآه قال عسل طيب ووعاء سوء فذهبت مثلا وقال للأوس والخزرج إن لم تغلبوا على هذه البلاد بعد من قتلت من أشراف أهلها فلا خير فيكم ثم رحل إلى الشام

شعر للصامت بن أصرم يذكر فيه قتل أبي جبيلة
وقال الصامت بن أصرم النوفلي يذكر قتل أبي جبيلة اليهود
( سائل قُريظةَ مَن يُقَسِّم سبيها ... يوم العُرَيْض ومن أفاء المغنما )
( جاءتهمُ الملحاءُ يخفِق ظلُّها ... وكتيبةٌ خشناءُ تدعو أسلما )
( عمِّي الذي جلب الهمامَ لقومه ... حتى أحلّ على اليهود الصَّيْلَما )
يعني بقوله من يقسم سبيها نسوة سباهن أبو جبيلة من بني قريظة وكان رآهن فأعجبنه وأعطى مالك بن العجلان منهم امرأة

قال أبو المنهال أحد بني المعلَّى إنهم أقاموا زمنا بعد ما صنع ويهود تعترض عليهم وتناوئهم فقال مالك بن العجلان لقومه والله ما أثخنا يهود غلبة كما نريد فهل لكم أن أصنع لكم طعاما ثم أرسل في مائة من أشراف من بقي من اليهود فإذا جاؤوني فاقتلوهم جميعا فقالوا نفعل فلما جاءهم رسول مالك قالوا والله لا نأتيهم أبدا وقد قتل أبو جبيلة منا من قتل فقال لهم مالك إن ذلك كان على غير هوى منا وإنما أردنا أن نمحوه وتعلموا حالكم عندنا فأجابوه فجعل كلما دخل عليه رجل منهم أمر به مالك فقتل حتى قتل منهم بضعة وثمانين رجلا ثم إن رجلا منهم أقبل حتى قام على باب مالك فتسمع فلم يسمع صوتا فقال أرى أسرع ورد وأبعد صدر فرجع وحذر أصحابه الذين بقوا فلم يأت منهم أحد فقال رجل من اليهود لمالك بن العجلان
( فسَفَّهْتَ قَيْلَةَ أحلامَها ... ففيمَن بقيتَ وفيمن تَسودْ )
فقال مالك
( فإنّي امرؤ من بني سالم بْنِ ... عَوْفٍ وأنت امرءٌ من يهودْ )
قال وصورت اليهود مالكا في بيعهم وكنائسهم فكانوا يلعنونه كلما دخلوها فقال مالك بن العجلان في ذلك قوله
( تَحامِي اليهودِ بتَلْعانها ... تحامِي الحميرِ بأبوالها )
( فماذا عليَّ بأن يلْعَنوا ... وتأتي المنايا بأذلالها )

قال فلما قتل مالك من يهود من قتل ذلوا وقل امتناعهم وخافوا خوفا شديدا وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيقول إنما نحن جيرانكم ومواليكم فكان كل قوم من يهود قد لجأوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم
وذكر أبو عمرو الشيباني أن أوس بن ذبي القرظي كانت له امرأة من بني قريظة أسلمت وفارقته ثم نازعتها نفسها إليه فأتته وجعلت ترغبه في الإسلام فقال فيها
( دَعتْنِي إلى الإسلام يومَ لَقِيتُها ... فقلت لها لا بل تعالَيْ تهَّودِي )
( فنحن على توراة موسى ودينهِ ... ونِعم لعمري الدينُ دِينُ محمد )
( كلانا يرى أن الرّسالةَ دينُهُ ... ومن يُهْدَ أبوابَ المراشد يَرْشُدِ )
ومن الأغاني في أشعار اليهود

صوت
( أعاذلتي ألاَ لا تَعذلِيني ... فكم من أمرِ عاذلةٍ عَصَيْتُ )
( دَعيِني وارشُدي إن كنتُ أَغْوَى ... ولا تغوَيْ زعمتِ كما غوَيتُ )
( أعاذلَ قد أطلتِ اللّومَ حتّى ... لوَانّي مُنْتَهٍ لقد انتهيتُ )
( وحتى لو يكونُ فتَى أُناسٍ ... بكى من عَذل عاذلةٍ بكيْتُ )
( وصفراءَ المعاصِم قد دعتني ... إلى وصلٍ فقلت لها أبيْتُ )
( وزِقٍّ قد جررتُ إلى النَّدامى ... وزِقٍّ قد شَرِبت وقد سَقيتُ )

الشعر للسموأل بن عاديا فيما رواه السكري عن الطوسي ورواه أبو خليفة عن محمد بن سلام والغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق في الأول والثاني والرابع والخامس من الأبيات وزعم ابن المكي أنه لمعبد وزعم عمرو بن بانة أنه لمالك ولدحمان أيضا في الأول والثاني والخامس والسادس رمل بالوسطى وزعم ابن المكي أن هذا الرمل لابن سريج وفي الأول والثاني والسادس رمل بالوسطى لأبي عبيد مولى فائد ثاني ثقيل عن يحيى المكي وزعم الهشامي أن الرمل لعبد العزيز الدفاف

أخبار السموأل ونسبه
هو السموأل بن عريض بن عاديا بن حباء ذكر ذلك أبو خليفة عن محمد بن سلام والسكري عن الطوسي وابن حبيب وذكر أن الناس يدرجون عريضا في النسب وينسبونه إلى عاديا جده وقال عمر بن شبة هو السموأل بن عاديا ولم يذكر عريضا
وحكى عبد الله بن أبي سعد عن دارم بن عقال وهو من ولد السموأل أن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء وهذا عندي محال لأن الأعشى أدرك شريح بن السموأل وأدرك الإسلام وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة بل أكثر والله أعلم
يضرب به المثل في الوفاء
وقد قيل إن أمه كانت من غسان وكلهم قالوا إنه كان صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء المشهور بالوفاء وقيل بل هو من ولد الكاهن بن هارون بن عمران وكان هذا الحصن لجده عاديا واحتفر فيه بئر روية عذبة وقد ذكرته الشعراء في أشعارها قال السموأل

( فبِالأبلقِ الفَردِ بيتيِ به ... وبيتُ النضير سوى الأبلق )
وقال السموأل يذكر بناء جده الحصن
( بنى لي عاديا حِصناً حصيناً ... وماءً كلما شئتُ استقيْتُ )
وكانت العرب تنزل به فيضيفها وتمتار من حصنه وتقيم هناك سوقا
وبه يضرب المثل في الوفاء لإسلامه ابنه حتى قتل ولم يخن أمانته في أدراع أودعها

خبر امرئ القيس مع السموأل
وكان السبب في ذلك فيما ذكر لنا محمد بن السائب الكلبي أن امرأ القيس بن حجر لما سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموأل بن عاديا بحصنه الأبلق بعد إيقاعه ببني كنانة على أنهم بنو أسد وكراهة أصحابه لفعله وتفرقهم عنه حتى بقي وحده واحتاج إلى الهرب فطلبه المنذر بن ماء السماء ووجه في طلبه جيوشا من إياد وبهراء وتنوخ وجيشا من الأساورة أمده بهم أنو شروان وخذلته حمير وتفرقوا عنه فلجأ إلى السموأل ومعه أدراع كانت لأبيه خمسة الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وأم الذيول وكانت الملوك من بني آكل المرار يتوارثونها ملك عن ملك ومعه

بنته هند وابن عمه يزيد بن الحارث بن معاوية بن الحارث وسلاح ومال كان بقي معه ورجل من بني فزارة يقال له الربيع بن ضبع شاعر فقال له الفزاري قل في السموأل شعرا تمدحه به فإن الشعر يعجبه وأنشده الربيع شعرا مدحه به وهو يقول
( ولقد أتيتُ بني المُصاصِ مُفاخراً ... وإلى السموأل زرتهُ بالأبلقِ )
( فأتيتُ أفضلَ مَن تحمَّل حاجةً ... إنْ جئتَه في غارمٍ أو مُرهَقِ )
( عَرَفتْ له الأقوامُ كلَّ فضيلةٍ ... وحوى المكارمَ سابقاً لم يُسْبَقِ )
قال فقال امرؤ القيس فيه قصيدته
( طرقتْكَ هندٌ بعد طول تجنُّبٍ ... وَهْناً ولم تك قبل ذلك تطرُقُ )
قال وقال الفرازي إن السموأل يمنع منك حتى يرى ذات عينك وهو في حصن حصين ومال كثير فقدم به على السموأل وعرفه إياه وأنشداه الشعر فعرف لهما حقهما وضرب على هند قبة من أدم وأنزل القوم في مجلس له براح فكانت عنده ما شاء الله
ثم إن امرأ القيس سأله أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أن يوصله إلى قيصر ففعل واستصحب معه رجلا يدله على الطريق وأودع بنيه وماله وأدراعه السموأل ورحل إلى الشام وخلف ابن عمه يزيد بن الحارث مع ابنته هند قال ونزل الحارث بن ظالم في بعض غاراته بالأبلق ويقال بل الحارث بن أبي شمر الغساني ويقال بل كان المنذر وجه بالحارث بن ظالم في خيل وأمره بأخذ مال امرئ القيس من السموأل فلما

نزل به تحصن منه وكان له ابن قد يفع وخرج إلى قنص له فلما رجع أخذه الحارث بن ظالم ثم قال للسموأل أتعرف هذا قال نعم هذا ابني قال أفتسلم ما قبلك أم أقتله قال شأنك به فلست أخفر ذمتي ولا أسلم مال جاري فضرب الحارث وسط الغلام فقطعه قطعتين وانصرف عنه فقال السموأل في ذلك
( وفيْتُ بأدرُع الكِنديّ إني ... إذا ما ذُمَّ أقوامٌ وفيْتُ )
( وأوصَى عادياً يوماً بألاَّ ... تُهدّم يا سموأل ما بنيتُ )
( بنى لي عادياً حِصناً حَصيِناً ... وماءً كلّما شئتُ استقيتُ )

شريح بن السموأل يخطو خطى أبيه
وقال الأعشى يمدح السموأل ويستجير بابنه شريح بن السموأل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم ظفر به فأسره وهو لا يعرفه فنزل بشريح بن السموأل وأحسن ضيافته ومر بالأسرى فناداه الأعشى
( شُريحُ لا تُسْلِمنِّي اليومَ إذ علِقت ... حبالُك اليوم بعد القيد أظفاري )
( قد سرت ُما بين بلقاء إلى عدنٍ ... وطال في العُجم تَكراري وتَسياري )
( فكان أكرمَهم عهداً وأوثَقهم ... عَقْداً أبوك بعُرف غير إنكارِ )
( كالغيث ما استمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري )

( كُنْ كالسَّموأل إذ طاف الهمامُ به ... في جحفلٍ كسواد الليل جرّار )
( إذ سامه خُطَّتَيْ خسفٍ فقال له ... قل ما تشاء فإني سامعٌ حار )
( فقال غَدرٌ وثُكْلٌ أنت بينَهما ... فاختر وما فيهما حظٌّ لمختار )
( فشكَّ غيرَ طويلٍ ثم قال له ... اقتُل أسيرَك إنّي مانعٌ جاري )
( وسوف يُعقْبُنِيه إن ظفِرتَ به ... ربٌّ كريمٌ وبِيضٌ ذاتُ أطهار )
( لا سِرُّهُنّ لدينا ذاهبٌ هدّراً ... وحافظاتٌ إذا استُودِعْن أسرارِي )
( فاختار أَدْراعَه كَيْلا يُسبَّ بها ... ولم يكن وعْدُهُ فيها بختَّار )
فجاء شريح إلى الكلبي فقال له هب لي هذا الأسير المضرور فقال هو لك فأطلقه وقال له أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك فقال له الأعشى إن تمام إحسانك إلي أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة فأعطاه ناقة ناجية فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه فقال قد مضى فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه

سعية بن عريض
سعية بن عريض بن عاديا أخو السموأل شاعر فمن شعره الذي يغنى فيه قوله
صوت
( يا دارَ سُعْدَى بمَقْصَى تلعةِ النَّعم ... حُيِّيتِ داراً على الإقواءوالقِدَم )
( عُجْنا فما كلَّمتنا الدارُ إذ سُئِلت ... وما بها عن جوابٍ خِلتُ من صمم )
( وما بجزعكِ إلا الوحش ساكنة ... وهامدٌ من رماد القدر والحُمَم )
الشعر لسعية بن عريض والغناء لابن محرز ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل عن الهشامي وله فيه خفيف ثقيل عن الهشامي ويقال إنه لمالك وفيه لابن جؤذرة رمل عن الهشامي
وسعية بن عريض القائل وفيه غناء

صوت
( لُبابُ هلْ عندكِ من نائلِ ... لعاشقٍ ذي حاجةٍ سائلِ )
( عَلّلته منك بما لم يَنَلْ ... يا ربَّما عَلَّلتِ بالباطلِ )
الغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن الهربذ خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لمتيم رمل آخر من جامعها وفيه لحن ليونس غير مجنس وأول هذه القصيدة
( لُبابُ يا أختَ بَنِي مالكٍ ... لا تشتري العاجلَ بالآجلِ )
( لُبابُ داوِيني ولا تَقُتلي ... قد فُضِّل الشافي على القاتل )
( إن تسألي بي فاسألي خابراً ... والعِلْم قد يكفي لدى السائل )
( يُنْبيكِ من كان بنا عالماً ... عنَّا وما العالِمُ كالجاهلِ )
( أَنَّا إذا حارت دواعِي الهوى ... وأنصتَ السامع للقائل )
( واعتلج القومُ بألبابهم ... في المنطق الفاصل والنائل )
( لا نجعلُ الباطلَ حقَّاً ولا ... نَلُظُّ دون الحق بالباطل )
( نخاف أن تَسفَهَ أحلامُنا ... فنُخْملَ الدهرَ مع الخامل )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثني العمري عن العتبي قال
كان معاوية يتمثل كثيرا إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر

( إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل )
( لا نجعل الباطلَ حقّاً ولا ... نَلُظُّ دون الحق بالباطل )
( نخاف أن تسفَهَ أحلامُنا ... فَنُخْملَ الدهرَ مع الخامل )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز قال
أخبرني خالي يوسف بن الماجشون قال
كان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاء بين الناس أقام وصيفا على رأسه ينشده
( إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامعُ للقائل )
( واصْطرعَ القومُ بألبابهم ... نقضي بحُكْمٍ عادل فاصل )
( لا نجعلُ الباطل حقّاً ولا ... نُلِظُّ دون الحق بالباطل )
( نخاف أن تسفَه أحلامُنا ... فَنُخْملَ الدّهرَ مع الخامل )
ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين

إخوانه ينقطعون عنه في افتقاره ويعودون عند اغتنائه
أخبرني وكيع والحسن بن علي قالا حدثنا أبو قلابة قال حدثنا الأصمعي عن أبي الزناد عن أبيه عن رجال من الأنصار
أن سعية بن عربض أخا السموأل بن عاديا كان ينادم قوما من الأوس والخزرج ويأتونه فيقيمون عنده ويزورونه في أوقات قد ألف زيارتهم فيها فأغار عليه بعض ملوك اليمن فانتسف من ماله حتى افتقر ولم

يبق له مال فانقطع عنه إخوانه وجفوه فلما أخصب وعادت حاله وتراجعت راجعوه فقال في ذلك
( أرى الخُلاَّن لما قلّ مالي ... وأجحفَتِ النوائبُ وَدّعوني )
( فلما أن غَنِيتُ وعاد مالي ... أراهم لا أبالك راجعوني )
( وكان القوم خُلاّنا لمالي ... وإخواناً لما خُوَّلْتُ دوني )
( فلما مَرّ مالي باعدوني ... ولما عاد مالي عاودوني )
ومن أشعار اليهود ويغنى به

صوت
( هل تعرِف الدارَ خفَّ ساكنُها ... بالحِجْر فالمُسْتَوىَ إلى ثمد )
( دار لبهنانةٍ خَدَلَجَّةٍ ... تضحك عن مثل جامد البرَد )
( نِعمَ ضجيجُ الفتى إذا برد الليلُ ... وغارت كواكبُ الأسدِ )
( يا من لقلبٍ متيَّم سَدِمٍ ... عانٍ رهينٍ أُحِيط بالعُقَد )
( أزجرهُ وهْو غيرُ مُزدجرٍ ... عنها وطرفي مقارِنُ السُّهُد )

( تمشي الهوينا إذا مشت فُضُلاً ... مشى النزيف المبهور في صَعَد )
( تظل من زَوْرِ بَيْتِ جارتها ... واضعة كفها على الكبِد )
الشعر لأبي الزناد اليهودي العديمي والغناء لابن مسجح ثقيل أول بالوسطى في الثلاثة الأبيات الأول عن الهشامي ويحيى المكي وفيها لمعبد خفيف ثقيل أول عن الهشامي وقال أظنه من منحول يحيى بن المكي وقد نسب قوم هذا اللحن المنسوب إلى معبد إلى ابن مسجح ولابن محرز في يا من لقلب وما بعده خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر عمرو أن فيها لحنا لمعبد لم يذكر طريقته وذكر ذلك في -

كتاب عملة الواثق
- قديما غير مجنس وهذا الشعر يقوله أبو الزناد في أهل تيماء يرثيهم وذكر ذلك عمر بن شبة
ومن الغناء في أشعار اليهود من قريظة والنضير
صوت
( دورٌ عفَتْ بِقُرَى الخابور غيَّرَهَا ... بعدَ الأنيسِ سَوَافِي الرِّيح والمطرُ )

( إن تُمسِ دارك ممَّنْ كان ساكنَها ... وحشاً فَذَلِكَ صَرفُ الدهر والغِيرُ )
( وقد تحلُ بها بِيض ترائبُها ... كأنها بين كُثْبَانِ النَّقَا البقرُ )
الشعر للربيع بن أبي الحقيق روى ذلك السكري عن الطوسي وعن محمد بن حبيب والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وهو صوت مشهور ابتداؤه نشيد

أخبار الربيع بن أبي الحقيق
كان الربيع من شعراء اليهود من بني قريظة وهم وبنو النضير جميعا من ولد هارون بن عمران يقال لهما الكاهنان وكان الربيع أحد الرؤساء في يوم حرب بعاث وكان حليفا للخزرج هو وقومه فكانت رياسة بني قريظة للربيع ورياسة الخزرج لعمرو بن النعمان البياضي وكان رئيس بني النضير يومئذ سلام بن مشكم
لقاؤه بالنابغة الذبياني
أخبرني عمي ومحمد بن حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن الحسن الأنصاري قال حدثني الحسن بن موسى مولى بني مازن بن النجار عن أبي عبيدة قال
أقبل النابغة الذبياني يريد سوق بني قينقاع فلحقه الربيع بن أبي الحقيق نازلا من أطمة فلما أشرفا على السوق سمعا الضجة وكانت

سوقا عظيمة فحاصت بالنابغة ناقته فأنشأ يقول
( كادت تُهَال من الأصوات راحلتي ... )
ثم قال للربيع بن أبي الحقيق أجز يا ربيع فقال
( والنَّفْرُ منها إذا ما أوجَسَتْ خُلُق ... )
فقال النابغة ما رأيت كاليوم شعرا ثم قال
( لولاَ أُنَهْنِهُها بالسّوط لاجْتَذَبتْ ... )
أجز يا ربيع فقال
( منِّي الزمامَ وإنِّي راكبٌ لَبِق ... )
فقال النابغة
( قد ملَّتِ الحبْسَ في الآطام واسْتعَفتْ ... )
أجز يا ربيع فقال
( إلى مناهِلَها لو أَنَّهاَ طُلُق ... )
فقال النابغة أنت يا ربيع أشعر الناس

أبان بن عثمان يتمثل دائما بشعره
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الحزامي قال حدثني سعيد بن

محمد الزبيري قال حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال
قل ما جلست إلى أبان بن عثمان إلا سمعته يتمثل بأبيات ابن أبي الحقيق
( سئِمْتُ وأَمْسَيْتُ رهنَ الفِراشِ منْ جُرْمِ قومي ومن مَغْرمِ )
( ومن سَفَهِ الرّأيِ بعد النُّهى ... وغَيْبِ الرشادِ ولم يُفْهَم )
( فلوْ أَنَّ قومِي أطاعوا الحليمَ ... لم يتعَدَّوْا ولم نُظْلَم )
( لكنَّ قومي أطاعوا الغواة ... حتى تعكّص أهل الدم )
( فأودى السّفيهُ برأي الحليم ... وانْتَشَرَ الأمرُ لم يُبْرَم )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا معاذ عن أبي عبيدة قال قال الربيع بن أبي الحقيق يعاتب قوما من الأنصار في شيء بينهم وبينه
( رأيتُ بني العنقاء زَالوُا ومُلْكُهُمْ ... وآبُوا بأَنْفٍ في العشيرة مُرْغَم )
( فإن يُقْتَلوُا نَندمْ لذاك وإن بقُوا ... فلا بدَّ يوماً من عُقُوقٍ ومأتَم )
( وإنّا فُويقَ الرأس شؤبوبُ مُزْنَةٍ ... لها بَرَدٌ ما يغشَ مِ الأرضِ يَحْطِم )

صوت
( ولنا بئرٌ رَوَاءٌ جَمَّةٌ ... مَن يردْها بإناء يغتَرفْ )

( تُدْلَجُ الجونُ على أكنافها ... بدِلاءٍ ذاتِ أمراسٍ صُدُف )
( كلّ حاجاتيَ قَد قَضّيتها ... غيرُ حاجاتِيَ من بطن الجُرُف )
الشعر لكعب بن الأشرف اليهودي والغناء لمالك ثقيل أول عن يحيى المكي قال وفيه لابن عائشة خفيف ثقيل ولمعبد ثاني ثقيل قال يحيى في كتابه وقد خلط الرواة في ألحانهم ونسبوا لحن كل واحد منهم إلى صاحبه وذكر الهشامي أن فيه لابن جامع خفيف رمل بالبنصر وفيه لجعدب لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس

أخبار كعب ونسبه ومقتله
كعب بن الأشرف مختلف في نسبه فزعم ابن حبيب أنه من طيىء وأمه من بني النضير وأن أباه توفي وهو صغير فحملته أمه إلى أخواله فنشأ فيهم وساد وكبر أمره وقيل بل هو من بني النضير
وكان شاعرا فارسا وله مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج تذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى وهو شاعر من شعراء اليهود فحل فصيح وكان عدوا للنبي يهجوه ويهجو أصحابه ويخذل منه العرب فبعث النبي نفرا من أصحابه فقتلوه في داره
ذكر خبره في ذلك
كان كعب بن الأشرف يهجو النبي ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي قدم المدينة وهي أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة النبي ومنهم المشركون الذين يعبدون الأوثان ومنهم اليهود وهم أهل الحلقة والحصون وهم حلفاء الحيين الأوس

والخزرج فأراد النبي إذ قدم استصلاحهم كلهم وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشرك ويكون مسلما وأخوه مشرك وكان المشركون واليهود حين قدم النبي يؤذونه وأصحابه أشد الأذى فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم وأنزل في شأنهم ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) الآية وأنزل فيهم ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم ) إلى قوله ( واصفحوا ) فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي وأصحابه أمر النبي سعد بن معاذ أن يبعث إليه رهطا فيقتلوه فبعث إليه محمد بن مسلمة وأبا عبس بن جبير والحارث بن أخي سعد في خمسة رهط فأتوه عشية وهو في مجلس قومه بالعوالي فلما رآهم كعب أنكر شأنهم وكان يذعر منهم فقال لهم ما جاء بكم فقالوا جئنا لنبيعك أدراعا نستنفق أثمانها فقال والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم مذ نزل بكم هذا الرجل ثم واعدهم أن يأتوه عشاء حين تهدأ أعين الناس فجاؤوا فناداه رجل منهم فقام ليخرج فقالت امرأته ما طرقوك ساعتهم هذه بشيء مما تحب فقال بلى إنهم قد حدثوني حديثهم وخرج إليهم فاعتنقه أبو عبس وضربه محمد بن مسلمة بالسيف في خاصرته وانحنوا عليه حتى قتلوه فرعبت اليهود ومن كان معهم من المشركين وغدوا على النبي فقالوا قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من سادتنا فقتل فذكر لهم ما كان يؤذى به في أشعاره ودعاهم إلى أن يكتب بينهم وبين

المسلمين كتابا فكتبت الصحيفة بذلك في دار الحارث وكانت بعد النبي عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه

صوت
( هل بالديار التي بالقاع من أحدٍ ... باقٍ فيَسمَعَ صَوْت المُدْلج الساري )
( تلك المنازُل من صَفراء ليس بها ... نارٌ تضيء ولا أصوات سُمَّار )
ويروى ليس بها حي يجيب
الشعر لبيهس الجرمي والغناء لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وقال عمرو بن بانة فيه ثاني ثقيل بالبنصر يقال إنه لابن محرز وقال الهشامي فيه لحباب بن إبراهيم خفيف ثقيل وهو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء
( ارفع ضعيفكَ لا يَحُرْ بك ضعفُهُ ... )

أخبار بيهس ونسبه
بيهس بن صهيب بن عامر بن عبد الله بن نائل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعيد بن كثير بن غالب بن عدي بن بيهس بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة
ويكنى أبا المقدام شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة الأموية وكان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب وعذرة ويحضر إذا حضروا فيكون بأجناد الشام وكان مع المهلب بن أبي صفرة في حروبه للأزارقة وكانت له مواقف مشهورة وبلاء حسن وبعض أخباره في ذلك يذكر بعقب أخباره في هذا الشعر
اختلاف الرواة في أمر صفراء خليلته
وقد اختلف الرواة في أمر صفراء التي ذكرها في شعره هذا فذكر

القحذمي أنها كانت زوجته وولدت له ابنا ثم طلقها فتزوجت رجلا من بني أسد وماتت عنده فرثاها
وذكر أبو عمرو الشيباني أنها كانت بنت عمه دنية وأنه كان يهواها فلم يزوجها وخطبها الأسدي وكان موسرا فزوجها
قال أبو عمرو وكان بيهس بن صهيب الجرمي يهوى امرأة من قومه يقال لها صفراء بنت عبد الله بن عامر بن عبد الله بن نائل وهي بنت عمه دنية وكان يتحدث إليها ويجلس في بيتها ويكتم وجده بها ولا يظهره لأحد ولا يخطبها لأبيها لأنه كان صعلوكا لا مال له فكان ينتظر أن يثري وكان من أحسن الشباب وجها وشارة وحديثا وشعرا فكان نساء الحي يتعرضن له ويجلسن إليه ويتحدثن معه فمرت به صفراء فرأته جالسا مع فتاة منهن فهجرته زمانا لا تجيبه إذا دعاها ولا تخرج إليه إذا زارها وعرض له سفر فخرج إليه ثم عاد وقد زوجها أبوها رجلا من بني أسد فأخرجها وانتقل عن دارهم بها فقال بيهس بن صهيب
( سقَى دمنةً صفراءُ كانت تَحُّلها ... بنَوءِ الثُّريّا طلُّها وذِهَابُها )
( وصابَ عليها كلُّ أسحمَ هاطلٍ ... ولا زال مخضراًّ مَرِيعاً جنابُها )
( أَحَبُّ ثَرَى أرضٍ إليَّ وإن نأت ... مَحلُّكِ منها نَبْتُها وترابُها )
( على أَنهَا غضبى عليّ وحَبّذا ... رِضاها إذا ما أُرضِيَتْ وعتابها )
( وقد هاج لي حينا فراقُك غُدوَةً ... وسعيُك في فيفاءَ تعْوي ذئابُها )

( نظرتُ وقد زال الحمُولُ ووازنوا ... برِكوةَ والوادي وخفَّتْ رِكابُها )
( فقلتُ لأصحابي أبِالقرب منهمُ ... جرى الطيرُ أم نادى ببينٍ غرابُها )

رثاؤه صفراء
قال أبو عمرو ثم ماتت صفراء قبل أن يدخل بها زوجها فقال بيهس يرثيها
( هل بالديار التي بالقاعِ من أحدٍ ... باقٍ فيسمعَ صوتَ المُدلِجِ الساري )
( تلك المنازل من صفراءَ ليس بها ... نارٌ تضيء ولا أصواتُ سُمّار )
( عَفَّتْ معارفَها هُوجٌ مُغبَّرَةٌ ... تَسفي عليها ترابَ الأبْطَحِ الهاري )
( حتى تنكَّرتُ منها كلَّ مَعْرِفَةٍ ... إلا الرَّمادَ نخيلاً بين أحجار )
( طال الوقوفُ بها والعُين تسبِقُني ... فوقَ الرّداء بَوادي دَمْعِهَا الجاري )
( إن أُصْبحِ اليومَ لا أهلٌ ذوو لَطَفٍ ... أَلْهو لديهم ولا صفراءُ في الدار )
( أرعَى بعينِي نجومَ الليل مرتقباً ... يا طُولَ ذلك من هَمٍّ وإسهارِ )
( فقد يكونُ لِيَ الأهلُ الكِرامُ وقد ... ألْهُو بصفراءَ ذاتِ المنظر الواري )
( من المَواجدِ أَعْرَاقاً إذا نُسِبَتْ ... لا تَحْرِم المالَ عن ضَيفٍ وعن جارِ )
( لم تَلقَ بؤساً ولم يَضْرر بها عَوَزٌ ... ولم تُزخِّفْ مع الصّالي إلى النار )

( كذلك الدّهرُ إنّ الدّهر ذو غِيَرٍ ... على الأنام وذو نقضٍ وإِمْرار )
( قد كاد يعتادني من ذكرِها جَزَعٌ ... لولا الحياءُ ولولا رهبةُ العَارِ )
( سقى الإلهُ قبوراً في بني أسدٍ ... حول الربيعة غَيْثاً صوبَ مدرار )
( مَنِ الذي بعدكم أرضَى به بدلاً ... أو مَنْ أُحَدِّثُ حاجاتي وأَسْراري )

ينشد على قبرها
قال أبو عمرو واجتاز بيهس في بلاد بني أسد فمر بقبر صفراء وهو في موضع يقال له الأحض ومعه ركب من قومه وكانوا قد انتجعوا بلاد بني أسد فأوسعوا لهم وكان بينهم صهر وحلف فنزل بيهس على القبر فقال له أصحابه ألا ترحل فقال أما والله حتى أظل نهاري كله عنده وأقضي وطرا فنزلوا معه عند قبرها فأنشأ يقول وهو يبكي
( ألِمَّا على قَبرٍ لصفراءَ فاقرآ ... السّلام وقولاَ حَيِّنَا أيُّها القبرُ )
( وما كان شيئاً غير أن لست صابراً ... دعاءكَ قبراً دونه حِجَجٌ عَشْرُ )
( برابيةٍ فيها كِرامٌ أحبة ... على أنَّها إلا مضاجعَهم قَفرُ )
( عشيَّةَ قال الرَكب من غَرَضٍ بنا ... تروّحْ أبا المقدام قد جنَح العصرُ )
( فقلتُ لهمُ يومٌ قليلٌ وليلةٌ ... لصفراءَ قد طال التجنُّبُ والهَجرُ )

( وبِتُّ وبات الناسُ حَوليَ هُجّداً ... كأنَّ عليَّ اللّيلَ من طوله شهر )
( إذا قلتُ هذا حين أهجَع ساعة ... تطاول بي ليلٌ كواكبُه زُهر )
( أقولُ إذا ما الجنبُ مَلَّ مكانَه ... أشوكٌ يُجافِي الجَنْب أم تحته جمْرُ )
( فلو أنّ صَخْراً من عَمايةَ راسيا ... يقاسي الذي ألقى لقد مَلَّه الصخرُ )
قال وأما القحذمي فإنه ذكر فيما أخبرني به هاشم بن محمد الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل تينة عنه أنه كان تزوجها ثم طلقها بعد أن ولدت منه ابنا فتزوجها رجل من بني أسد فماتت عنده وذكر من شعره ومراثيه لها قريبا مما تقدم ذكره وذكر أن بيهس بن صهيب كان من فرسان العرب وكان مع المهلب بن أبي صفرة في حروبه للأزارقة وكان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب ويحضر إذا حضروا فيكون من أجناد الشام
قال أبو عمرو ولما هدأت الفتنة بعد مرج راهط وسكن الناس مر غلام من قيس بطوائف من جرم وعذرة وكلب وكانوا متجاورين على ماء لهم فيقال إن بعض أحداثهم نخس بيهس به ناقته فألقته فاندقت عنقه فمات فاستعدى قومه عليهم عبد الملك فبعث إلى تلك البطون من جاءه بوجوههم وذوي الأخطار منهم فحبسهم وهرب بيهس بن صهيب الجرمي وكان قد اتهم أنه هو الذي نخس به فنزل على محمد بن مروان

فعاذ به واستجاره فأجاره إلا من حد توجبه عليه شهادة فرضي بذلك وقال وهو متوار عند محمد
( لقد كانتْ حوادثُ معْضلاتٌ ... وأيامٌ أغصَّت بالشّراب )
( وما ذنبُ المعاشرِ في غلامٍ ... تقطّر بين أحواض الجِباب )
( على قَوْدَاء أفرطها جِلالٌ ... وغضّ فَهي باقيةُ الهباب )
( ترامت باليدين فأرهقته ... كما زلّ النَّطيح من القباب )
( فإني والعِقابَ وما أرجِّي ... لكالسَّاعي إلى وَضَحِ السّراب )
( فلمّا أن دنا فرجٌ بربِّي ... يكشِّف عن مُخفّقَةٍ يبابِ )
( من البُلدان ليس بها غَريبٌ ... تَخُبّ بأرضها زُلُّ الذّئاب )
( فظِنّي بالخليفة أنّ فيه ... أماناً للبريءِ وللمصاب )
( وأنّ محمداً سيعود يوماً ... ويرجعُ عن مُراجَعةِ العِتاب )
( فيجبر صِبْيَتي ويَحوط جاري ... ويُؤْمِن بعدها أبداً صِحَابي )
( هو الفرع الذي بُنِيَتْ عليه ... بُيُوتُ الأطيبين ذوي الحِجاب )
قال فلم يزل محمد بن مروان قائما وقاعدا في أمرهم مع أخيه حتى أمن بيهس بن صهيب وعشيرته واحتمل دية المقتول لقيس وأرضاهم

صوت
( نزل المشيبُ فما له تحويلُ ... ومضى الشّبابُ فما إليه سبيلُ )
( ولقد أُراني والشّبابُ يقودُني ... ورداؤه حسنٌ عليّ جميلُ )
الشعر للكميت بن معروف الأسدي والغناء لمعبد خفيف ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق

أخبار الكميت بن معروف ونسبه
هو الكميت بن معروف بن الكميت بن ثعلبة بن رباب بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طري بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر
شاعر من شعراء الإسلام بدوي أمه سعدة بنت فريد بن خيثمة بن نوفل بن نضلة
هو سليل أسرة من الشعراء
والكميت أحد المعرقين في الشعر أبوه معروف شاعر وأمه سعدة شاعرة وأخوه خيثمة أعشى بني أسد شاعر وابنه معروف الكميت شاعر
فأما أبوه فهو القائل لعبد الله بن المساور بن هند
( إنّ مُناخي أمسِ يا بنَ مُساورٍ ... إليك لَمِنْ شُرْب النُّقَاخ المُّصَرَّدِ )
( تباعدتَ فوق الحق من آل فقعسٍ ... ولم ترجُ فيهم رِدَّةَ اليومِ أو غدِ )
( وقلتَ غِنًى لا فقَر في العَيْش بعدَه ... وكلُّ فَتًى للنائبات بمرْصَدِ )

( كأنك لم تعلم محلَّ بُيوتِكم ... مع الحيّ بين الغور والمُتَنَجَّد )
( فلولا رجال من جَذيمة قَصْرةً ... عَدَدْت بلائي ثم قلت له عدُدِ )
وأمه سعدة القائلة له وقد تزوج بنت أبي مهوش على مراغمة لها وكراهة لذلك فغضبت سعدة وقالت فيه
( عليك بأنقاض العراق فقد عَلَتْ ... عليك بتَخدين النّساء الكرائم )
( لعمري لقد راش ابن سُعدَة نَفسَه ... بريش الذُّنَابَى لا بريش القَوادمِ )
( بنىَ لك معروفٌ بناءً هدمتَهُ ... ولِلشَّرف العاديِّ بانٍ وهادمُ )
وهي القائلة ترثي ابنها الكميت
( لأمِّ البلادِ الويلُ ماذا تضمَّنَت ... بأَكْناف طورى من عَفافٍ ونائل )
( ومن وَقَعَاتٍ بالرجال كأنها ... إذا عنَّت الأحداثُ وقْعُ المناصل )
( يُعزِّي المُعزّى عن كُمَيْتٍ فتنتهي ... مقالتُه والصَّدر جمُّ البَلابلِ )

أخوه يرثيه
وأعشى بني أسد أخو الكميت واسمه خيثمة الذي يقول يرثي الكميت وغيره من أهل بيته

( هوِّن عليك فإنّ الدهَر منجدبٌ ... كلُّ امرئٍ عن أخيه سوف ينْشَعِب )
( فلا يغُرَّنْكَ من دهرٍ تقلُّبُه ... إنّ اللّياليَ بالفتيان تنقلِبُ )
( نام الخليُّ وبتُّ الليلَ مُرتفِقا ... كما تزاور يخشى دفّه النَّكبُ )
( إذا رجعتُ إلى نفسي أُحدِّثُها ... عمّن تضمَّن من أصحابيَ القُلُب )
( من إخوةٍ وبني عمٍّ رُزِئتْهُمُ ... والدَّهرُ فيه على مستعتِبٍ عَتَب )
( عاودتُ وجداً على وجدٍ أكابِدُه ... حتى تكاد بناتُ الصَّدْر تلتهب )
( هل بعدَ صخرٍ وهل بعد الكميتِ أخٌ ... أم هل يعودُ لنا دهرٌ فنصطحبُ )
( لقد علمتُ ولو مُلَّيت بعدَهُم ... أني سأنهل بالشِّرب الذي شربوا )

وابنه يتغزل
ومعروف بن الكميت القائل
( قد كنت أحسبني جَلْداً فهيَّجني ... بالشيب منزِلةٌ من أمّ عمَّارِ )
( كانت منازلَ لا ورهاءَ جافيةٍ ... على الحدوج ولا عُطلاً بمقفار )
( وما تَجاوُرُنا إذ نخن نسكنها ... ولا تَفَرُّقُنا إلا بمقدار )

صوت
( أرقتُ لبرق دُونَه شَذَوانِ ... يمانٍ وأهوى البرَق كلَّ يماني )
( فليت القِلاصَ الأدْمَ قد وخدَت بنا ... بوادٍ يمانٍ ذي رُباً ومَجانِي )
الشعر ليعلى الأحول الأزدي وجدت ذلك بخط أبي العباس محمد بن يزيد المبرد في شعر الأزد وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه هي ليعلى الأحول كما روى غيره قال ويقال إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي من بني خنيس ويقال
إنها لجواس بن حيان من أزد عمان
وأول هذه القصيدة في رواية أبي عمرو أبيات فيها غناء أيضا وهي
صوت
( أويْحكما يا واشِيَيْ أمّ مَعْمَرٍ ... بمَن وإلى مَن جئْتما تَشيانِ )
( بمن لو أراه عانياَ لفدَيْتُهُ ... ومَن لو رآني عانياً لفَداني )
لعريب في هذين البيتين ثقيل أول ولعمرو بن بانة فيهما هزج بالوسطى من كتابه وجامع صنعته وقال ابن المكي لمحمد بن الحسن بن مصعب فيه هزج بالأصابع كلها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45