كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

متغيمة غيماً مطبقاً وقد بدأت ترش رشاً ساكباً فنحن في أكمل نشاط وأحسن يوم إذ خرجت قيمة دار أبي عيسى فقالت يا سيدي قد جاءت عساليج فقال لتخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة الأدب في يدها عود فسلمت فأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست وغنى القوم حتى انتهى الدور إليها وظننا أنها لا تصنع شيئاً وخفنا أن تهابنا فتحصر فغنت غناء حسناً مطرباً متقناً ولم تدع أحداً من حضر إلا غنت صوتاً من صنعته وأدته على غاية الإحكام فطربنا واستحسنا غناءها وخاطبناها بالاستحسان وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر إليها فقال له أبو عيسى عشقتها وحياتي يا عبد الله قال لا والله يا سيدي وحياتك ما عشقتها ولكني استحسنت كل ما شاهدت منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء فقال له أبو عيسى فهذا والله هو العشق وسببه ورب جد جره اللعب وشربنا فلما غلب النبيذ على عبد الله غنى أهزاجاً قديمة وحديثة وغنى فيما غنى بينهما هزجاً في شعر قاله فيها لوقته فما فطن له إلا أبو عيسى وهو
صوت
( نَطَق السُّكْرُ بسِرِّي فبَدَا ... كم يُرَى المَكْتُومُ يَخفى لا يَضِحْ )
( سِحْرُ عَيْنَيك إذا مارنَتَا ... لم يَدعْ ذا صَبْوة أو يَفْتَضِحْ )
( مَلَكَتْ قلباً فأمسى غَلِقاً ... عندها صَبّاً بها لم يَسْتَرحْ )
( بجَمالٍ وغنِاءٍ حسنٍ ... جلّ عن أن يَنْتَقيه المُقْتَرِحْ )
( أورثَ القلبَ هُموماً ولقد ... كنتُ مسروراً بمرآه فَرِحْ )
( ولَكم مُغْتَبِقٍ هَمَّاً وقد ... بَكَر اللَّهْو بُكورَ المُصْطَبُحْ )
الغناء لعبد الله بن العباس هزج فقال له أبو عيسى فعلتها والله يا عبد الله وطار طرباً وشرب على الصوت وقال له صح والله قولي لك في عساليج وأنت

تكابرني حتى فضحك السكر فجحد وقال هذا غناء كنت أرويه فحلف أبو عيسى أنه ما قاله ولا غناه إلا في يومه وقال له احلف بحياتي أن الأمر ليس هو كذلك فلم يفعل فقال له أبو عيسى والله لوكانت لي لوهبتها لك ولكنها لآل يحيى بن معاذ والله لئن باعوها لأملكنك إياها ولو بكل ما أملك ووحياتي لتنصرفن قبلك إلى منزلك ثم دعا بحافظتها وخادم من خدمه فوجه بها معهما إلى منزله والتوى عبد الله قليلاً وتجلد وجاحدنا أمره ثم انصرف
واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقية بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ وكانت عندهم حتى ماتت
فحدثني جعفر بن قدامة بن زياد عن بعض شيوخه سقط عني اسمه قال قالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس قد بلغني أنك عشقت جارية يقال لها عساليج فاعرضها علي فإما أن عذرتك وإما أن عذلتك فوجه إليها فحضرت وقال لبذل هذه هي ياستي فانظري واسمعي ثم مريني بما شئت أطعك فأقبلت عليه عساليج وقالت يا عبد الله أتشاور في فو الله ما شاورت فيك لما صاحبتك فنعرت بذل وصاحت إيه أحسنت والله يا صبية ولو لم تحسني شيئاً ولا كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة أحسنت والله ثم قالت لعبد الله ما ضيعت احتفظ بصاحبتك

عبد الله يغني الواثق فيجيزه
حدثني عمي قال حدثني محمد بن المرزبان عن أبيه عن عبد الله بن العباس قال
دعانا الواثق في يوم نوروز فلما دخلت عليه غنيته في شعر قلته وصنعت فيه لحناً وهو

( هيّ للنّيروزِ جامَا ... ومُداماً ونَدامَى )
( يَحْمدون الله والواثِقَ ... هارون الإماما )
( ما رَأَى كِسْرى أنوشِرْ ... وانَ مِثْلَ العامِ عامَا )
( نَرْجِساً غَضَّا ووَرْداً ... وبَهاراً وخُزامَى )
قال فطرب واستحسن الغناء وشرب عليه حتى سكر وأمر لي بثلاثين ألف درهم
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن هشام قال
ألقت متيم على جوارينا هذا اللحن وزعمت أنها أخذته من عبد الله بن العباس والصنعة له

صوت
( إني اتّخذت عدُوَّةً ... فسَقَى الإِلهُ عدُوَّتِي )
( وفديتُها بأقاربي ... وبأُسرَتِي وبجيرتِي )
( واستيقَنت أنّ الفؤاد ... يُحبُّها فأدَلَّت )
قال ثم حدثتنا متيم أن عبد الله بن العباس كان يتعشق مصابيح جارية الأحدب المقين وأنه قال هذا الشعر فيها وغنى فيه هذا اللَّحن بحضرتها فأخذته عنه هكذا ذكر شيبة بن هشام من أمر مصابيح وهي مشهورة من جواري

آل يحيى بن معاذ ولعلها كانت لهذا المقين قبل أن يملكها آل يحيى وقبل أن تصل إلى رقية بنت الفضل بن الربيع
وحدثنا أيضاً عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان عن شيبة بن هشام قال
كان عبد الله بن العباس يتعشق جارية الأحدب المقين ولم يسمها في هذا الخبر فغاضبها في شيء بلغه عنها ثم رام بعد ذلك أن يترضاها فأبت وكتب إليها رقعة يحلف لها على بطلان ما أنكرته ويدعو الله على من ظلم فلم تجبه عن شيء مما كتب به ووقعت تحت دعائه آمين ولم تجب عن شيء مما تضمنته الرقعة بغير ذلك فكتب إليها
( أمَّا سُرورِي بالكتاب ... فليس يَفنى ما بَقينا )
( وأَتى الكتابُ وفيه لي ... آمين ربَّ العالمينا )
قال وزارته في ليلة من ليالي شهر رمضان وأقامت عنده ساعة ثم انصرفت وأبت أن تبيت وتقيم ليلتها عنده فقال هذا الشعر وغنى فيه هزجاً وهو مشهور من أغانيه وهو
صوت
( يا مَنْ لِهمٍّ أمسى يُؤرِّقُني ... حتى مضى شَطرُ لَيْلَةِ الجُهَنِي )
( عَنِّي ولم أدرِ أنَّها حضرت ... كذاك مَنْ كان حُزْنه حُزنِي )
( إنّي سَقِيمٌ مُوَلَّه دَنِفٌ ... أسقَمني حُسْنُ وَجْهِكِ الحَسَنِ )
( جُودِي له بالشفاء مُنْيَتَه ... لا تَهجُرِي هائماً عليك ضَنِي )
قال وليلة الجهني ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قال رجل من جهينة إنه رأى فيها ليلة القدر فيما يرى النائم فسميت ليلة الجهني
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن هشام

قال دعانا محمد بن حماد بن دنقش وكان له ستارة في نهاية الوصف وحضر معنا عبد الله بن العباس فقال عبد الله وغنى فيه
( دَعْ عنك لومي فإِنّي غيرُ مُنقادِ ... إلى المَلام وإن أحببتَ إرْشادِي )
( فلستُ أعرِفُ لي يوماً سُرِرْتُ به ... كمِثل يَوْمِيَ في دارِ ابنِ حَمَّادِ )
أخبرني يحي بن علي بن يحي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن عبد الله بن العباس قال لما صنعت لحني في شعري

صوت
( يا لَيلةً ليس لها صُبْحُ ... وموعِداً ليس له نُجْحُ )
( من شادنٍ مرّ على وعده الميلادُ ... والسُّلاَّقُ والذّبحُ )
هذه أعياد النصارى غنيته الواثق فقال ويلْكم أدركوا هذا لا يتنصر وتمام هذا الشعر
( وفي السَّعَانِين لو أنيِّ بهِ ... وكان أقْصَى المَوعِد الفصْحُ )
( فالله أستَعْدِي على ظالمٍ ... لم يُغْنِ عنه الجُودُ والشُّحُّ )
نسخت من كتاب أبي سعد السكري قال أبو العتاهية وفيه لعبد الله بن العباس غناء حسن
( أنا عَبدٌ لها مُقِرٌّ وما يَمْلِك ... لي غيرُها من الناس رِقّا )
( ناصحٌ مُشفِقٌ وإن كنت ما أُرزَق ... منها والحمدُ لله عِتْقا )
( ومن الحَيْن والشّقاء تعلَّقُتُ ... مِليكاً مُسْتَكْبراً حين يُلْقَى )
( إن شكوتُ الذي لَقِيتُ إليه ... صَدَّ عَنِّي وقال بُعداً وسُحْقا )
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل قال

دخلت يوماً إلى عبد الله بن العباس الربيعي وخادم له يسقيه وبيده عوده وهو يغني هذا الصوت
( إذا اصطَبحْتُ ثَلاَثاً ... وكان عُودِي نَدِيمِي )
( والكأسُ تُغْرِب ضَحكاً ... من كفِّ ظَبْيٍ رَخيمِ )
( فما عليَّ طريقٌ ... لطارقاتِ الهُمومِ )
قال فما رأيت أحسن مما حكى حاله في غنائه ولا سمعت أحسن مما غنى
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني دوسر الخراساني قال
اشترى حزام خادم المعتصم خادماً نظيفاً كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يتعشقه فسأله هبته له أو بيعه منه فأبى فقال عبد الله أبياتاً وصنع فيها غناء وهي قوله
( يومُ سَبْتٍ فصَرِّفا لِي المُدامَا ... واسقِياني لعلَّني أن أَنامَا )
( شرَّد النومَ حُبُّ ظَبْيٍ غريرٍ ... ما أراه يرَى الحرَام حَرامَا )
( اشتراه يوماً بعُلْفةِ يوم ... أصبحَت عنده الدوابُ صيامَا )
فاتصلت الأبيات وخبرها بحزام فخشي أن تشتهر ويسمعها المعتصم فيأتي عليه فبعث بالغلام إلى عبد الله وسأله أن يمسك عن الأبيات ففعل
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحي قال قلت لعبد الله بن العباس إنه بلغني لك خبر مع الرشيد أول ما شهرت بالغناء فحدثني به قال نعم أول صوت صنعته
( أتاني يؤامِرُني في الصبوح ... ليلاً فقلتُ له غادِها )

فلما تأتى لي وضربت عليه بالكنكلة عرضته على جارية لنا يقال لها راحة فاستحسنته وأخذته عني وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلي فسمعها يوماً تغنيه وتناغي به جارية من جواريه فاستعادها إياه وأعادته عليه فقال لها لمن هذا فقالت صوت قديم فقال لها كذبت لو كان قديماً لعرفته وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له بأنه من صنعتي فعجب من ذلك ثم غناه يوماً بحضرة الرشيد فقال له لمن هذا اللحن يا إبراهيم فأمسك عن الجواب وخشي أن يكذبه فينمى الخبر إليه من غيره وخاف من جدي أن يصدقه فقال له مالك لا تجيبني فقال لا يمكنني يا أمير المؤمنين فاستراب بالقصة ثم قال والله وتربة المهدي لئن لم تصدقني لأعاقبنك عقوبة موجعة وتوهم أنه لعلية أو لبعض حرمه فاستطير غضبا فلما رأى إبراهيم الجد منه صدقه فيما بينه وبينه سراً فدعا لوقته الفضل بن الربيع ثم قال له أيصنع ولدك غناء ويرويه الناس ولا تعرفني فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا في وقته ذلك فقال له ابن ابنك عبد الله بن العباس أحضرنيه الساعة فقال أنا أمضي وأمتحنه فإن كان يصلح للخدمة أحضرته وإلا كان أمير المؤمنين أولى من ستر عورتنا فقال لا بد من إحضاره فجاء جدي فأحضرني وتغيظ علي فاعتذرت وحلفت له أن هذا شيء ما تعمدته وإنما غنيت لنفسي وما أدري من أين خرج فأمر بإحضار عود فأحضر وأمرني فغنيته الصوت فقال قد عظمت مصيبتي فيك يا بني فحلفت له بالطلاق والعتاق ألا أقبل على الغناء رفداً أبداً

ولا أغني إلا خليفة أو ولي عهد ومن لعله أن يكون حاضراً مجالسهم فطابت نفسه فأحضرني فغنيت الرشيد الصوت فطرب وضرب عليه أقداحاً وأمرني بالملازمة مع الجلساء وجعل لي نوبة وأمر بحمل عشرة آلاف دينار إلى جدي وأمره أن يبتاع ضيعة لي بها فابتاع لي ضيعتي بالأهواز ولم أزل ملازماً للرشيد حتى خرج إلى خراسان وتأخرت عنه وفرق الموت بيننا
الواثق يقترض مالاً ليعطيه له
قال ابن المرزبان فكان عبد الله بن العباس سبباً لمعرفة أولياء العهود برأي الخلفاء فيهم فكان منهم الواثق فإنه أحب أن يعرف هل يوليه المعتصم العهد بعده أم لا فقال له عبد الله أنا أدلك على وجه تعرف به ذلك فقال وما هو فقال تسأل أمير المؤمنين أن يأذن للجلساء والمغنين أن يصيروا إليك فإذا فعل ذلك فاخلع عليهم وعلي معهم فإني لا أقبل خلعتك لليمين التي علي ألا أقبل رفداً إلا من خليفة أو ولي عهد فقعد الواثق ذات يوم وبعث إلى المعتصم وسأله الإذن إلى الجلساء فأذن لهم فقال له عبد الله بن العباس قد علم أمير المؤمنين يميني فقال له أمض إليه فإنك لا تحنث فمضى إليه وأخبره الخبر فلم يصدقه وظن أنه يطيب نفسه فخلع عليه وعلى الجماعة فلم يقبل عبد الله خلعته وكتب إلى المعتصم يشكوه فبعث إليه اقبل الخلعة فإنه ولي عهدي ونمى إليه الخبر أن هذا كان حيلة من عبد الله فنذر دمه ثم عفا عنه
وسر الواثق بما جرى وأمر إبراهيم بن رياح فاقترض له ثلثمائة ألف درهم فغرقها على الجلساء ثم عرف غضب المعتصم على عبد الله بن العباس واطراحه إياه فاطرحه هو أيضاً فلما ولي الخلافة استمر على جفائه فقال عبد الله
( مالي جُفِيتُ وكنتُ لا أُجفَى ... أيام أرهبُ سطوةَ السَّيْفِ )
( أدعُو إلِهي أن أراكَ خليفةً ... بين المقام ومَسجد الخَيْفِ )

ودس من غناه الواثق فلما سمعه سأل عنه فعرف قائله فتذمم ودعا عبد الله فبسطه ونادمه إلى أن مات
وذكر العتابي عن ابن الكلبي أن الواثق كان يشتهي على عبد الله بن العباس
( أَيُّها العاذِلُ جَهْلاً تلومً ... قبل أن يَنْجاب عنه الصَّريمُ )
وأنه غناه يوماً فأمر بأن يخلع عليه خلعة فلم يقبلها ليمينه فشكاه إلى المعتصم فكاتبه في الوقت فكتب إليه مع مسرور سمانة اقبل خلع هارون فإنك لا تحنث فقبلها وعرف الواثق أنه ولي عهد
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن هشام قال كان عبد الله بن العباس يهوى جارية نصرانية لم يكن يصل إليها ولا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة فخرجنا يوماً معه إلى السعانين فوقف حتى إذا جاءت فرآها ثم أنشدنا لنفسه وغنى فيه بعد ذلك

صوت
( إن كنتَ ذا طِبٍّ فداوِينِي ... ولا تَلُم فاللَّوم يُغرِيني )
( يا نظرة أبقَتْ جَوىً قائِلاً ... من شادنٍ يومَ السَّعانينِ )
( ونظرةً من رَبْربٍ عِينِ ... خرجْنَ في أحسَن تَزْيِينِ )
( خرجن يَمْشين إلى نُزْهةٍ ... عَواتِقاً بين البَساتِيِنِ )

( مُزَنَّراتٌ بهَمايينها ... والعَيشُ ما تَحْت الهَمايينِ )
لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر هزج
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمر الجرجاني ومحمد بن حماد كاتب راشد قالا
كتب عبد الله بن العباس الربيعي في يوم نيروز واتفق في يوم الشك بين شهري رمضان وشعبان إلى محمد بن الحارث بن بسخنر يقول
( اسْقِنْي صفراءَ صافيةً ... ليلةَ النَّيروزِ والأحَدِ )
( حَرَّم الصَّومُ اصطِباحَكما ... فتزَوَّدْ شُربَها لغَدِ )
( وأْتِنَا أو فادْعُنا عَجِلاً ... نَشْتَرك في عِيشَةٍ رَغَدِ )
قال فجاءه محمد بن الحارث بن بسخنر فشربا ليلتهما
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا أحمد بن المكي قال حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي قال
جمع الواثق يوماً المغنين ليصطبح فقال بحياتي إلا صنعت هزجاً حتى أدخل وأخرج إليكم الساعة ودخل إلى جواريه فقلت هذه الأبيات وغنيت فيها هزجاً قبل أن يخرج وهي
صوت
( بأبي زَورٌ أتاني بالغَلَسْ ... قُمْتُ إِجلالاً له حتى جَلَسْ )
( فتعانَقْنا جميعاً ساعةً ... كادَتِ الأَرواحُ فيها تُختَلَسْ )

( قلتُ يا سُؤْلي ويا بدرَ الدُّجَى ... في ظَلامِ اللَّيل ماخِفتَ العَسَسْ )
( قال قد خِفْتُ ولكنّ الهَوَى ... آخذٌ بالرُّوح منّي والنَّفَسْ )
( زارني يَخْطِر في مِشيْتِه ... حوله من نُور خَدّيْه قَبَسْ )
قال فلما خرج من دار الحرم قال لي يا عبد الله ما صنعت فاندفعت فغنيته فشرب حتى سكر وأمر لي بخمسة آلاف درهم وأمرني بطرحه على الجواري فطرحته عليهن
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن حماد قال من مليح صنعة عبد الله بن العباس الربيعي والشعر ليوسف بن الصيقل ولحنه هزج

صوت
( أبعدَ المواثيق لي ... وبعد السؤال الحَفِي )
( وبَعْد اليَمِين التي ... حلَفْتِ على المُصحَفِ )
( تركتِ الهوَى بينَنا ... كضوء سراجٍ طُفِي )
( فليتكِ إذ لم تَفِي ... بوعدك لم تُخْلِفي )
حدثني الصولي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
كان الواثق قد غضب على فريدة لكلام أخفته إياه فأغضبته وعرفنا ذلك وجلس في تلك الأيام للصبوح فغناه عبد الله بن العباس
صوت
( لا تأمني الصَّرْم مِنّي أن ترَيْ كَلَفي ... وإن مَضَى لصفاء الوُدِّ أَعصارُ )

( ما سُمِّيَ القَلْبُ إلا من تَقَلُّبه ... والرأيُ يُصرَفُ والأهواءُ أطوارُ )
( كم مِنْ ذَوِي مِقَةٍ قَبْلي وقَبْلَكمُ ... خانوا فأَضحوا إلى الهِجْران قد صارُوا )
فاستعاده الواثق مراراً وشرب عليه وأعجب به وأمر لعبد الله بألف دينار وخلع عليه
الشعر للأحوص والغناء لعبد الله بن العباس هزج بالوسطى عن عمرو

المتوكل يفضله على سائر المغنين
وأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
( غنّيتُ المُتوكِّل ذاتَ يوم ... )
( أحبّ إلينا منك دَلاًّ وما يَرى ... له عند فِعْلي من ثَوابٍ ولا أَجْرِ )
فطرب وقال أحسنت والله يا عبد الله أما والله لو رآك الناس كلهم كما أراك لما ذكروا مغنياً سواك أبدا
نسخت من كتاب لأبي العباس بن ثوابة بخطه حدثني أحمد بن إسماعيل

ابن حاتم قال قال لي عبد الله بن العباس الربيعي
دخلت على المعتصم أودعه وأنا أريد الحج فقبلت يده وودعته فقال يا عبد الله إن فيك لخصالاً تعجبني كثر الله في موالي مثلك فقبلت رجله والأرض بين يديه وأحسن محمد بن عبد الملك الزيات محضري وقال له إن له يا أمير المؤمنين أدباً حسناً وشعراً جيداً فلما خرجت قلت له أيها الوزير ما شعري أنا في الشعر تستحسنه وتشيد بذكره بين يدي الخليفة فقال دعنا منك تنتفي من الشعر وأنت الذي تقول
( يا شادِياً مرَّ إذا رامَ ... في السَّعانِين قَتْلي )
( يَقولُ لي كيف أصبحْتَ ... كيْف يُصبِح مِثْلي )
أحسنت والله في هذا ولو لم تقل غير هذا لكنت شاعراً
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان قال قال أبي قال عبد الله ابن العباس الربيعي
لقيني سوار بن عبد الله القاضي وهو سوار الأصغر فأصغى إلي وقال إن لي إليك حاجة فأتني في خفي فجئته فقال لي إليك حاجة قد أنست بك فيها لأنك لي كالولدفإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك فقلت ذلك للقاضي علي شرط واجب فقال إني قلت أبياتاً في جارية لي أميل إليها وقد قلتني وهجرتني وأحببت أن تصنع فيها ولحنا وتسمعينه وإن أظهرته وغنيته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري فلست أبالي أتفعل ذلك قلت نعم حباً وكرامة فأنشدني

صوت
( سَلَبْتُ عِظامي لحمَها فتركْتِها ... عَوارِيَ في أجلادِها تَتَكَسَّرُ )
( وأخلَيتِ منها مُخَّها فكأنّها ... أنابيبُ في أجوافِها الرِّيح تصفِرُ )
( إذا سَمِعتْ باسْم الفِراق ترعَّدَت ... مفاصِلُها من هَوْل ما تتحذَّرُ )
( خُذِي بيدي ثم اكْشِفي الثوبَ فانظُري ... بِلَى جَسَدِي لكِنني أتَسَتَّرُ )
( وليس الذي يجَرْي من العين ماؤُها ... ولكِنّها رُوحٌ تَذُوبُ فَتَقْطُرُ )
اللحن الذي صنعه عبد الله بن العباس في هذا الشعر ثقيل أول قال عبد الله فصنعت فيه لحناً ثم عرفته خبره في رقعة كتبتها إليه وسألته وعداً يعدني به للمصير إليه فكتب إلي نظرت في القصة فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم علي حضورك وسماعي إياك وأسأل الله أن يسرك ويبقيك فغنيت الصوت وظهر حتى تغنى به الناس فلقيني سوار يوماً فقال لي يا بن أخي قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنا لم نعرف القصة فيه وجعلنا جميعاً نضحك
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال
كان بشر خادم صالح بن عجيف عليلاً ثم برِئَ فدخل إلى عبد الله بن العباس فلما رآه فتلقاه وأجلسه وشرب سروراً بعافيته وصنع لحناً من الثقيل الأول هو من جيد صنعته
صوت
( مَوْلاَي ليس لِعَيشٍ لستَ حاضره ... قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عندي ولا ثَمَنُ )
( ولا فَقَدتُ من الدُّنيا ولذَّتِها ... شَيئاً إذا كان عندي وَجْهُك الحَسَنُ )
حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي قال

جمعنا الواثق يوماً بعقب علة غليظة كان فيها فعوفي وصح جسمه فدخلت إليه مع المغنين وعودي في يدي فلما وقعت عيني عليه من بعيد وصرت بحيث يسمع صوتي ضربت وغنيت في شعر قلته في طريقي إليه وصنعت فيه لحناً وهو

صوت
( اسْلَمْ وعَمَّرك الإله لأُمَّةٍ ... بك أصبَحْت قَهَرتْ ذَوِي الإلحادِ )
( لو تَسْتَطِيعُ وَقَتك كُلَّ أَذِيَّةٍ ... بالنّفْسِ والأموَال والأولادِ )
فضحك وسر وقال أحسنت يا عبد الله وسررتني وتيمنت بابتدائك ادن مني فدنوت منه حتى كنت أقرب المغنين إليه ثم استعادني الصوت فأعدته ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أقداح وأمر لي بعشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال
كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يهوى جارية نصرانية فجاءته يوماً تودعه فأعلمته أن أباها يريد الانحدار إلى بغداد والمضي بها معه فقال في ذلك وغنى فيه
صوت
( أفدِي التي قُلتُ لها ... والبَينُ منّا قد دَنَا )
( فَقدُكِ قد أَنحلَ جِسْمِي ... وأَذاب البَدَنا )
( قالت فماذا حِيلَتي ... كذاك قد ذبتُ أنا )
( باليَأْس بعدِي فاقتنع ... قلت إذاً قَلّ الغَنَا )
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني علي بن عيسى ابن جعفر الهاشمي قال

دخل علي عبد الله بن العباس في يوم النصف من شعبان وهو يوم سبت وقد عزمت على الصوم فأخد بعضادتي باب مجلسي ثم قال يا أميري
( تُصْبِحُ في السّبت غَيْرَ نشوانِ ... وقد مَضى عنك نِصفُ شعبان )
فقلت قد عزمتُ على الصوم فقال أفعليك وزر إن أفطرت اليوم لمكاني وسررتني بمساعدتك لي وصمت غداً وتصدقت مكان إفطارك فقلت أفعل فدعوت بالطعام فأكلت وبالنبيذ فشربنا وأصبح من غد عندي فاصطبح وساعدته فلما كان اليوم الثالث انتبهت سحراً وقد قال هذا الشعر وغنى فيه
( شعبانُ لم يبقَ منه ... إلا ثَلاثٌ وعَشْرُ )
( فباكِر الرّاحَ صِرْفاً ... لا يَسْبِقَنّكَ فَجْرُ )
( فإن بَغُتكَ اصَطِباحٌ ... فلا يفوتَنْك سُكرُ )
( ولا تُنادِم فتىً وقتُ ... شُربه الدَّهْرَ عَصرُ )
قال فأطربني واصطبحت معه في اليوم الثالث فلما كان من آخر النهار سكر وانصرف وما شربنا يومنا كله إلى على هذا الصوت
حدثني عمي قال حدثني ابن دهقانة النديم قال
دخل عبد الله بن العباس إلى المتوكل في آخر شعبان فأنشده
( عَلِّلاني نَعِمْتُما بُمدَامِ ... واسْقِياني من قَبْل شَهْر الصِّيامِ )
( حرَّم اللهُ في الصِّيام التَّصابي ... فتركناه طاعةً للإمامِ )
( أظهر العَدْلَ فاسْتَنار به الدِّينُ ... وأحيا شرائِعَ الإسلامَ ... )
فأمر المتوكل بالطعام فأحضر وبالنديم وبالجلساء فأتي بذلك فاصطبح وغناه عبد الله في هذه الأبيات فأمر له بعشرة آلاف درهم

قصته مع المرابين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني عبد الله بن العباس قال
كنت مقيماً بسر من رأى وقد ركبني دين ثقيل أكثر عينة ورباً فقلت في المتوكل
( أسقِياني سَحَراً بالكُبّرةْ ... ما قَضى اللهُ فَغِيِهِ الخِيَرَهْ )
( أكرَم اللهُ الإمامَ المرتَضَى ... وأطال اللهُ فينا عُمُرَهْ )
( إن أَكُن أٌقْعِدْتُ عنه هكذا ... قدّرَ الله رَضِينا قَدَرَهْ )
( سرِّه اللهُ وأَبقاه لنا ... ألفَ عام وكَفَانَا الفَجَرَهْ )
وبعثت بالأبيات إليه وكنت مستتراً من الغرماء فقال لعبيد الله بن يحيى وقع إليه من هؤلاء الفجرة الذين استكفيت الله شرهم فقلت المغنيون الذين قد ركبني لهم أكثر مما أخذت منهم من الدين بالربا فأمر عبيد الله أن يقضي ديني وأن يحتسب لهم رؤوس أموالهم ويسقط الفضل وينادي بذلك في سُرَّ من رأى حتى لا يقضي أحدُ أحداً إلا رأس ماله وسقط عني وعن الناس من الأرباح زهاء مائة ألف دينار كانت أبياتي هذه سببها

حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني أبي قال مرض عبد الله بن العباس بسر من رأى في قدمة قدمها إليها فتأخر عنه من كان يثق به فكتب إليهم
( ألا قُلْ لمن بالجانِبَين بأَنَّنْي ... مريضٌ عداني عن زِيارَتهم مابِي )
( فَلَو بهم بعضُ الذي بي لزُرتُهم ... وحاشَ لهم من طُولِ سُقْمِي وأَوصابِي )
( وإِن أقشَعت عني سَحابَةُ عِلَّتي ... تَطاوَل عَتْبِي إن تأخّر إعتابي )
قال فما بقي أحد من إخوانه إلا جاءه عائداً معتذراً
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن موسى قال
سمعت عبد الله بن العباس يغني ونحن مجتمعون عند علوية بشعر في النصرانية التي كان يهواها والصنعة له

صوت
( إنَّ في القَلْب من الظَّبْي كُلومْ ... فَدع اللَّومَ فإِن اللَّوْمَ لُومْ )
( حبَّذا يومُ السَّعانين وما ... نِلْتُ فيه من نَعيمٍ لو يَدُومْ )
( إن يَكُن أَعظمتَ أَنْ هِمتْ به ... فالذي تَرْكَب من عَذْلي عَظِيمْ )
( لم أكُن أوّلَ مَنْ سَنَّ الهَوَى ... فدَعِ اللَّومَ فذا دَاءٌ قديمْ )
الغناء لعبد الله هزج بالوسطى

حدثي أبو بكر الربيعي قال حدثتني عمتي وكانت ربيت في دار عمها عبد الله بن العباس قالت كان عبد الله لا يفارق الصبوح أبداً إلا في يوم جمعة أو شهر رمضان وإذا حج وكانت له وصيفة يقال لها هيلانة قد رباها وعلمها الغناء فأذكره يوماً وقد اصطبح وأنا في حجره جالسة والقدح في يده اليمنى وهو يلقي على الصبية صوتاً أوله
( صدعَ البينُ الفُؤادَا ... إذ به الصائحُ نَادَى )
فهو يردده ويومىء بجميع أعضائه إليها يفهمها نغمه ويوقع بيده على كتفي مرة وعلى فخذي أخرىوهو لا يدري حتى أوجعني فبكيت وقلت قد أوجعتني مما تضربني وهيلانة لا تأخذ الصوت وتضربني أنا فضحك حتى استلقى واستملح قولي فوهب لي ثوب قصب أصفر وثلاثة دنانير جدداً فما أنسى فرحي بذلك وقيامي به إلى أمي وأنا أعدو إليها وأضحك فرحاً به

نسبة هذا الصوت
صوت
( صدَع البَينُ الفُؤادَا ... إذ به الصائِحُ نادَى )
( بيْنما الأحبابُ مَجُموعون ... إذ صَاروا فُرَادَى )
( فأتى بعضٌ بِلاداً ... وأتى بعضٌ بلادَا )
( كُلَّما قُلْتُ تَناهَى ... حَدَثَانُ الدَّهر عادا )
والشعر والغناء لعبد الله هزج بالوسطى عن عمرو
صوت
( حضر الرحيل وشُدَّت الأحداجُ ... وغدا بهنّ مُشمِّرٌ مِزعاجُ )

للشوق نيرانٌ قَدَحْنَ بقلبه ... حتى استمرّ به الهَوى المِلجاجُ )
( أزعج هواكَ إلى الّذين تحبُّهمْ ... إن المحبَّ يسوقُه الإزعاجُ )
( لن يدنينَّك للحبيب ووصله ... إلاّ السُّرَى والبازلُ الهَجهَاجُ )
الشعر لسلم الخاسر والغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى

أخبار سلم الخاسر ونسبه
سلم بن عمر ومولى بن تيمْ بن مرة ثم مولى أبي بكر الصديق رضوان الله عليه بصري شاعر مطبوع متصرف في فنون الشعر من شعراء الدولة العباسية
وهو راوية بشار بن برد وتلميذه وعنه أخذ ومن بحره اغترف وعلى مذهبه ونمطه قال الشعر
ولقب سلم بالخاسر فيما تعال لأنه ورث من أبيه مصحفاً فباعه واشترى بثمنه طنبوراً وقيل بل خلف له أبوه مالا فأنفقه على الأدب والشعر فقال له بعض أهله إنك لخاسرُ الصفقة فلقب بذلك
وكان صديقاً لإبراهيم الموصلي ولأبي العتاهية خاصة من الشعراء والمغنين ثم فسد ما بينه وبين أبي العتاهية وكان سلم منقطعاً إلى البرامكة وإلى الفضل بن يحي خصوصاً من بينهم وفيه يقول أبو العتاهية
( إنما الفضل لِسَلْمٍ وحدَه ... ليس فيه لسوى سَلْمٍ دَرَكْ )
وكان هذا أحد الأسباب في فساد ما بينه وبين أبي العتاهية ولسلم يقول أبو العتاهية وقد حج مع عتبة
( واللهِ واللهِ ما أُبالي متى ... مامتُّ يا سَلْمُ بعْدَ ذا السفَرِ )

أليس قد طُفْتُ حيث طافت وَقّبلتُ ... الذي قبلَتْ من الحجر
وله يقول أبو العتاهية وقد حبس إبراهيم الموصلي
( سَلْمُ يا سلم ليس دونك سْرُّ ... حُبس الموصليُّ فالعيش مُرُّ )
( ما استطاب اللذاتِ مذ سَكَن المُطبقَ ... رأْسُ اللذات واللهِ حُرّ )
( تَرَكَ الموصليُّ مَن خَلَق اللهُ ... جميعاً وعيشهم مُقْشعِرّ )

سلم ولقبه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الواسطي قال حدثني أبو عمرو سعيد بن الحسن الباهلي الشاعر قال
لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه فوقع في قسط سلم مصحف فرده وأخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه فلقب الخاسر بذلك
أخبرني الحسن قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال ورث سلم الخاسر أباه مائة ألف درهم فأنفقها على الأدب وبقي لا شيء عنده فلقبه الجيران ومن يعرفه بسلم الخاسر وقالوا أنفق ماله على ما لا ينفعه ثم مدح المهدي أو الرشيد وقد كان بلغه اللقب الذي لقب به فأمر له بمائة ألف درهم وقال له كذب بهذا المال جيرانك فجاءهم بها وقال لهم هذه المائة الألف التي أنفقتها وربحت الأدب فأنا سلم الرابح لا سلم الخاسر
باع مصحفه ليشتري طنبورا
ً
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال

إنما لقب سلم الخاسر لأنه ورث عن أبيه مصحفاً فباعه واشترى بثمنه طنبوراً
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمر الفضل قال
قال لي الجماز سلم الخاسر خالي لحاً فسألته لم لقب الخاسر فضحك ثم قال إنه قد كان نسك مدة يسيرة ثم رجع إلى أقبح ما كان عليه وباع مصحفاً له ورثه عن أبيه وكان لجده قبله واشترى بثمنه طنبوراً فشاع خبره وافتضح فكان يقال له ويلك هل فعل أحد ما فعلت فقال لم أجد شيئاً أتوسل به إلى إبليس هو أقر لعينه من هذا
أخبرني عمي قال أنبأنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن صالح المؤدب وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني أبي عن أحمد بن صالح قال قال بشار بن برد

صوت
( لا خَيْرَ في العيشِ إن دُمنا كذا أبداً ... لا نلتقي وسبيلُ المُلْتَقَى نَهَجُ )
( قالوا حَرامٌ تلاقِينا فقلتُ لهمْ ... ما في التَّلاقي ولا في غيرِه حرَجُ )
( مَنْ راقَبَ الناسَ لم يظفَرْ بحاجتِه ... وفاز بالطيّباتِ الفاتُك اللهِجُ )
قال فقال سلم الخاسر أبياتاً ثم أخذ معنى هذا البيت فسلخه وجعله في قوله
( مَن راقب الناسَ مات غماً ... وفاز باللذة الجَسورُ )
سرق معنى بيت لبشار فغضب عليه
فبلغ بيته بشاراً فغضب واستشاط وحلف ألا يدخل إليه ولا يفيده ولا

ينفعه مادام حيا فاستشفع إليه بكلِّ صديق له وكل من يثقل عليه رده فكلموه فيه فقال أدخلوه إلي فأدخلوه إليه فاستدناه ثم قال إيه يا سلم من الذي يقول
( من راقب الناسَ لم يظْفَر بَحاجته ... وفاز بالطّيبات الفاتكُ اللهِجُ )
قال أنت يا أبا معاذ قد جعلني الله فداءك قال فمن الذي يقول
( من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسورُ )
قال تلميذك وخريجك وعبدك يا أبا معاذ فاجتذبه إليه وقنعه بمخصَرة كانت في يده ثلاثاً وهو يقول لا أعود يا أبا معاذ إلى ما تنكره ولا آتي شيئا تذُمه إنما أنا عبدك وتلميذك وصَنيِعتك وهو يقول له يا فاسق أتجيء إلى معنى قد سهرت له عيني وتعب فيه فكري وسبقت الناس إليه فتسرقه ثم تختصره لفظاً تقربه به لتِزري علي وتذهب بيتي وهو يحلف له إلا يعود والجماعة يسألونه فبعد لأي وجهد ما شفعهم فيه وكف عن ضربه ثم رجع له ورضي عنه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني عبد الوهاب بن مرار قال حدثني أبو معاذ النميري رواية بشار قال
قد كان بشار قال قصيدة فيها هذا البيت
( من راقب الناس لم يضفَرْ بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتكُ اللهجُ )
قال فقلت له يا أبا معاذ قد قال سلم الخاسر بيتاً هو أحسن وأخف على الألسن من بيتك هذا قال وما هو فقلت

( من راقب الناسَ مات غمّاً ... وفاز باللذة الجسورُ )
( فقال بشار ذهب والله بيتنا أما والله لوددت أنه ينتمي في غير ولاء أبي بكر رضي الله عنه وأني مغرم ألف دينار محبة مني لهتك عرضه وأعراض مواليه قال فقلت له ما أخرج هذا القول منك إلا غم قال أجل فو الله لا طعمت اليوم طعاماً وصمت
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني ابن إسحاق بن محمد النخعي قال قال أبو معاذ النميري قال بشار قصيدة وقال فيها
( من راقب الناسَ لم يظفَرْ بحاجتِه ... وفاز بالطيبّاتِ الفاتكُ اللهجُ ) ... فعرفته أن سلماً قد قال
( من راقب الناسَ مات غَمّاُ ... وفاز باللذة الجسورُ )
فلما سمع بشار هذا البيت قال سار والله بيت سلم وخمل بيتنا قال وكان كذلك لهج الناس ببيت سلم ولم ينشد بيت بشار أحد
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو مالك محمد بن موسى اليماني قال
لما بنى صالح بن المنصور قصره بدجلة قال فيه سلم الخاسر
( يا صالحَ الجودِ الذي مجَدُه ... أفْسَدَ مجدَ الناسِ بالجودِ )
( بَنَيتَ قصراً مشْرفاً عالِياً ... بطائرَيْ سعدٍ ومسعودِ )
( كأنما يَرفعُ بنيانَه ... جِنُّ سليمانَ بنِ داودِ )
( لازلتَ مسروراً به سالماً ... على اختلاف البيضِ والسودِ )

يعني الأيام والليالي فأمر له صالح بألف درهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني بعض آل ولد حمدون بن إسماعيل وكان ينادم المتوكل عن أبيه قال كان سلم الخاسر من غلمان بشار فلما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء وهي التي يقول فيها
( إذا نبّهتْك صعابُ الأمورِ ... فنبَهّ لها عُمَراً ثم نَمْ )
( فَتىً لا يبيت على دِمْنَةٍ ... ولا يَشرب الماءَ إلا بِدَمْ )
بعث بها مع سلم الخاسر إلى عمر بن العلاء فوافاه فأنشده إياها فأمر لبشار بمائة ألف درهم فقال له سلم إن خادمك يعني نفسه قد قال في طريقه فيك قصيدة قال فإنك لهناك قال تسمع ثم تحكم ثم قال هات فأنشده

صوت
قد عزّني الداءُ فمالِي دَواءُ ... مِمّا أُلاقي مِن حِسانِ النساءْ )
( قَلْبٌ صحيحٌ كنت أسطو به ... أصبح مِن سَلْمى بِداء عَياءْ )
( أنفاسها مسك وفي طَرْفِها ... سِحر ومالي غيرها من دواءْ )
( وَعَدْتِنِي وَعْداً فأَوفِي به ... هل تَصْلُح الخمرة إلا بماءْ )
ويقول فيها
( كم كُرْبةٍ قد مسّني ضُرُّها ... نادَيتُ فيها عُمَر بن العلاءْ )
قال فأمر له بعشرة آلاف درهم فكانت أول عطية سنية وصلت إليه

سلم وعاصم بن عتبة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال وجدت في كتاب بخط الفضل بن مروان
وكان عاصم بن عتبة الغساني جد أبي السمراء الذي كان مع عبد الله بن طاهر صديقاً لسلم الخاسر كثير البر به والملاطفة له وفيه يقول سلم
( الجُود في قحطانٍ ... ما بَقِيتْ غسانُ )
( اسْلَمْ ولا أُبالي ... ما فَعَل الإخِوانُ )
ما ضَرّ مُرْتجيه ... ما فعل الزمانُ )
( مَن غاله مَخُوفٌ ... فعاصمٌ أمانٌ )
وكانت سبعين بيتاً فأعطاه عاصم سبعين ألف درهم وكان مبلغ ما وصل إلى سلم من عاصم خمسائة الف درهم فلما حضرته الوفاة دعا عاصماً فقال له إني ميِّت ولا ورثة لي وإن مالي مأخوذ فأنت أحق به فدفع إليه خمسائة ألف درهم ولم يكن لسلم وارث قال وكان عاصم هذا جواداً
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن طهمان قال أخبرني القاسم بن موسى بن مزيد

أن يزيد بن مزيد قال ما حسدت أحداُ قط على شعر مدح به إلا عاصم بن عتبة الغساني فإني حسدته على قول سلم الخاسر فيه
( لِعاصم سَماءٌ ... عارضُها تَهتانُ )
( أمطارُها اللجينُ ... والدر والعِقيان )
( ونارهُ تنادِي ... إذْ خَبَت النَّيرانُ )
( الجودُ في قحطان ... ما بقيت غسان )
( اسَلمْ ولا أُبالي ... ما فَعل الإخوان )
( صَلْتٌ له المعالي ... والسيف والسنان )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم عن محمد ابن القاسم بن مهرويه وأخبرني به الحسن بن علي عن أبن مهرويه عن الغريبي عن محمد بن عمر الجرجاني قال
كان سلم تلميذ بشار إلا أنه كان تباعد ما بينهما فكان سلم يقدم أبا العتاهية ويقول هو أشعر الجن والإنس إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلماً
( تعالَى اللهُ يا سلمَ بنَ عمرو ... أذلَّ الحرصُ أعناقَ الرجالِ )
( هَب الدّنيا تصيرُ إليك عَفْواً ... أليس مصيرُ ذاك إلى زوال )
قال وبلغ الرشيد هذا الشعر فاستحسنه وقال لعمري إن الحرص لمفسدة لأمر الدين والدنيا وما فتشت عن حريص قط مغيبه إلا انكشف لي عماً أذمه وبلغ ذلك سلماً فغضب على أبي العتاهية وقال ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق زعم أني حريص وقد كنز البدور وهو يطلب وأنا في ثوبي

هذين لا أملك غيرهما وانحرف عن أبي العتاهية بعد ذلك

خبره مع أبي العتاهية
أخبرني محمد بن يحيى الصولي حدثنا محمد بن موسى قال أخبرني محمد بن إسماعيل السدوسي قال حدثني جعفر العاصمي وأخبرني عمي عن أحمد بن أبي طاهر عن القاسم بن الحسن عن زكريا بن يحيى المدائني عن علي بن المبارك القضاعي عن سلم الخاسر
أن أبا العتاهية لما قال هذا الشعر فيه كتب إليه
( ما أَقبحَ التزهيدَ مِنْ واعظٍ ... يُزَهِّدُ الناسَ ولا يَزْهَدُ )
( لو كان في تزهيدِه صادقاً ... أَضحى وأَمسى بيتَه المسجدُ )
( ورفَضَ الدنيا ولم يَلْقَها ... ولم يكن يسعى ويسْتَرْفِدُ )
( يخاف أن تنفدَ أرزاقُه ... والرزقُ عند الله لا ينفَدُ )
( الرِّزقُ مقسوم على مَنْ تَرَى ... ينالُه الأبيض والأسودُ )
( كُلٌّ يُوفَّى رزقَه كاملاً ... مَنْ كفّ عن جهد وَمن يَجْهدُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو العسكر المسمعي وهو محمد بن سلميان قال حدثني العباس بن عبد الله بن سنان بن عبد الملك بن مسمع قال
كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وهو يومئذ أمير البصرة وعنده أبو العتاهية ينشده شعره في الزهد فقال لي قثم يا عباس اطلب لي الجماز الساعة حيث كان فجئني به ولك سبق فطلبته فوجدته جالساً ناحية عند ركن دار جعفر بن سليمان فقلت له أجب الأمير فقام معي حتى أتى قثم فجلس في

ناحية مجلسه وأبو العتاهية ينشده ثم قام إليه الجماز فواجهه وأنشد قول سلم الخاسر فيه
( ما أقبح التزهيدَ من واعظٍ ... يُزَهِّدُ الناسَ ولا يَزْهَدُ )
( لو كان في تزهيدِه صادقاً ... أضحى وأمسى بيتَه المسجدُ )
وذكر الأبيات كلها فقال أبو العتاهية من هذا أعز الله الأمير قال هذا الجماز وهو ابن أخت سلم الخاسر انتصر لخاله منك حيث قلت له
( تعالَى اللهُ يا سلم بنَ عمرو ... أذلّ الحرصُ أعناق الرجالِ )
قال فقال أبو العتاهية للجماز يا بن أخي إني لم أذهب في شعري الأول حيث ذهب خالك ولا أردتُ أن أهتف به ولا ذهبت أيضاً في حضوري وإنشادي حيث ذهبت من الحرص على الرزق والله يغفر لكما ثم قام فانصرف
أخبرني عمي عن أحمد بن أبي طاهر عن أبي هفان قال
وصل إلى سلم الخاسر من آل برمك خاصة سوى ما وصل إليه من غيرهم عشرون ألف دينار ووصل إليه من الرشيد مثلها
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عماي عبيد الله والفضل عن أبيهما عن أبي محمد اليزيدي
أنه حضر مجلس عيسى بن عمر وحضر سلم الخاسر فقال له يا أبا محمد اهجني على روي قصيدة امرىء القيس
( رُبَّ رامٍ مِنْ بَني ثُعَلٍ ... مُخْرجٌ كفيه في سُتَرِهْ )
قال فقلت له ما دعاك إلى هذا قال كذا أريد فقلت له يا هذا أنا وأنت أغنى الناس عما تستدعيه من الشر فلتسعك العافية فقال إنك لتحتجز

مني نهاية الإحتجاز وأراد أن يوهم عيسى أني مفحم عيبيُّ لا أقدر على ذلك فقال لي عيسى أسألك يا أبا محمد بحقي عليك إلا فعلت فقلت
( رُبّ مغمومٍ بِعَاقِبةٍ ... غَمَط النعمةَ من أَشَرِهْ )
( وامرىءٍ طالَت سلامتُه ... فرماه الدهرُ من غِيَرِهْ )
( بِسهامٍ غير مُشْوِيَةٍ ... نَقَضَت منه قُوى مِرَرِهْ )
( وكذاك الدهر منقلِبٌ ... بالفتى حالين من عُصُرِهْ )
( يَخْلِط العُسْرَ بِمَيْسَرةٍ ... ويَسارُ المرء في عُسُرِهْ )
( عَقَّ سلمٌ أُمه صِغَراً ... وأبا سَلْم عَلَى كِبَرِهْ )
( كلَّ يومٍ خلفَه رجُل ... رامحٌ يسعى عَلَى أثَرِهْ )
( يُولج الغُرْمولَ سَبَّتَه ... كَوُلوجِ الضَّبِّ في جُحُرِهْ )
قال فاغتم سلم وندم وقال هكذا تكون عاقبة البغي والتعرضِ للشر فضحك عيسى وقال له قد جهد الرجل أن تدعه وصيانته ودينه فأبيت إلا أن يدخلك في حر أمك

ترفهه عندما يأتي المهدي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يقول

كان المهدي يعطي مروان وسلماً الخاسر عطية واحدة فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفأره قيمته عشرة آلاف درهم بسرج ولجام مفضضين ولباسه الخز والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان ورائحة المسك والطيب والغالية تفوح منه ويجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو كبل وقميص كرابيس وعمامة كرابيس وخفاً كبل وكساء غليظ وهو منتن الرائحة وكان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلاً فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقال له قائل أراك لا تأكل إلا الرأس قال نعم أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا أشتري لحماً فيطبخه فيأكله منه والرأس آكل من ه ألواناً آكل منه عينيه لوناً ومن غلصمته لوناً ومن دماغه لوناً
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا يحيى بن الحسن الربيعي قال أخبرني أبي قال
كان سلم الخاسر قد بلي بالكيمياء فكان يذهب بكل شيء له باطلاً فلما أراد الله عز و جل أن يصنع له عرف أن بباب الشام صاحب كيمياء عجيباً وأنه لا يصل إليه أحد إلا ليلاً فسأل عنه فدلوه عليه
قال فدخلت إليه إلى موضع معور فدققت الباب فخرج إلي فقال

من أنت عافاك الله فقلت رجل معجب بهذا العلم قال فلا تشهرني فإني رجل مستور إنما أعمل للقوت قال قلت إني لا أشهرك إنما أقتبس منك قال فاكتم ذلك قال وبين يديه كوز شبه صغير فقال لي اقلع عروته فقَلعتها فقال اسبكها في البوطقة فسبكتها فأخرج شيئاً من تحت مصلاه فقال ذره عليه ففعلت فقال أفرغه فأفرغته فقال دعه معك فإذا أصبحت فاخرج فبعه وعد إلي فأخرجته إلى باب الشام فبعت المثقال بأحد وعشرين درهماً ورجعت إليه فأخبرته فقال اطلب الآن ما شئت قلت تفيدني قال بخمسمائة درهم على أن لا تعلمه أحداً فأعطيته وكتب لي صفة فامتحنتها فإذا هي باطلة فعدت إليه فقيل لي قد تحول وإذا عروة الكوز المشبه من ذهب مركبة عليه والكوز شبه ولذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلاً ليخفي عليه فانصرفت وعلمت أن الله عز و جل أراد بي خيراً وأن هذا كله باطل
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أبو مالك اليماني قال حدثني أبو كعب قال
لما ماتت البانوكة بنت المهدي رثاها سلم الخاسر بقوله
( أَودَى ببانوكَةّ ريبُ الزمانْ ... مُؤنْسةِ المهديِّ والخيزُرانْ )
( لم تَنْطو الأرض على مثِلها ... مولودةٌ حَنّ لها الوالدانْ )
( بانوكُ يا بنتَ إمام الهُدَى ... أَصبحْت من زينة أَهل الجنِانْ )
( بكتْ لك الأرضُ وسُكّانُها ... في كل أُفْق بين إِنسٍ وجانْ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال حدثني أبو المستهل الأسدي وهو عبد الله بن تميم بن

حمزة قال كان سلم الخاسر يهاجي والبة بن الحباب فأرسلني إليه سلم وقال قل له
( يا والبَ بنَ الحُبَابِ يا حَلَقي ... لَسْتَ من أَهل الزناء فانطلقِ )
( تُدخلُ فيه الغُرمولَ تولجه ... مثلَ وُلوج المِفتاح في الغَلقِ )
قال فأتيت والبة فقلت له ذلك فقال لي قل له يا بن الزانية سل عنك ريعان التميمي يعني أنه ناكه قال وكان ريعان لوطيا آفة من الآفات وكان علامة ظريفاً
قال فحدثني جعفر بن قدامة عن محمد العجلي عن أحمد بن معاوية الباهلي قال سمعت ريعان يقول نكت الهيثم بن عدي فمن ترونه يفلت مني بعده
وأخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثني أبو مالك محمد بن موسى اليماني قال
كان سلم الخاسر مدح بعض العلويين فبلغ ذلك المهدي فتوعده وهم به فقال سلم فيه
( إني أتتني على المهدي مَعْتَبةٌ ... تكاد من خوفِها الأحشاء تضطربُ )
( اسمعْ فداكَ بَنُو حواء كُلُّهمُ ... وقد يجوز برأْس الكاذب الكذبُ )

( فقد حَلفتُ يميناً غيرَ كاذبة ... يوم المَغِيبة لم يُقطَعْ لها سببُ )
( ألاّ يحالِفَ مدحي غَيرَكم أبداً ... ولو تلاقَى عليّ الغَرْضُ والحَقَبُ )
( ولو ملكتُ عنان الريح أصْرِفها ... في كلِّ ناحيةٍ ما فاتها الطلبُ )
( مولاك مولاك لا تُشمِت أعاديَه ... فما وراءك لي ذِكْرٌ ولا نسبُ ) فعفا عنه

سلم يحسن الرثاء لا المدح
وأخبرني أحمد بن العباس وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا العنزي قال حدثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان قال حدثني موسى بن عبد الله بن شهاب المسمعي قال
سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول كان سلم الخاسر لا يحسن أن يمدح ولكنه كان يحسن أن يرثي ويسأل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال حدثني أبو المستهل قال
دخلت يوماً على سلم الخاسر وإذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي وببعضها أم جعفر وبعضها جارية غير مسماة وببعضها أقواماً لم يموتوا وأم جعفر يومئذ باقية فقلت له ويحك ما هذا فقال تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها ويستعجلوننا ولا يجمل بنا أن نقول غير الجيد فنعد لهم هذا قبل كونه فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديماً على أنه قيل في الوقت

أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين قالا حدثنا الزبير بن بكار قال قال عبد الله بن الحسن الكاتب
أنشد المأمون قول أبي العتاهية
( تعالَى الله يا سلمَ بنَ عمرِو ... أَذلَّ الحرصُ أعناقَ الرجال )
فقال المأمون صدق لعمر الله إن الحرص لمفسدة للدين والمروءة والله ما رأيت من رجل قط حرصاً ولا شرها فرأيت فيه مصطنعاً فبلغ ذلك سلماً الخاسر فقال ويلي على ابن الفاعلة بياع الخزف كنز البدور بمثل ذلك الشعر المفكك الغث ثم تزهد بعد أن استغنى وهو دائباً يهتف بي وينسبني إلى الحرص وأنا لا أملك إلا ثوبي هذين

سلم وأبو الشمقمق
أخبرني عمّي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا زكريا بن مهران قال
طالب أبو الشمقمق سلماً الخاسر بأن يهب له شيئاً وقد خرجت لسلم جائزة فلم يفعل فقال أبو الشمقمق يهجوه
( يا أُمّ سَلم هداكِ اللهُ زُورِيَنا ... كيما نَنِيكَكِ فَرْداً أو تَنْيكِينا )

( ما إن ذَكَرْتُكِ إلاّ هاج لي شَبَقٌ ... ومثلُ ذِكْراكِ أُمَّ السلم يُشِجِينا )
قال فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير وقال أحب أن تعفيني من استتزارتك أمي وتأخذ هذه الدنانير فتنفقها
أخبرني الحسن بنُ عليّ قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني محمد بن القاسم بن الربيع عن أبيه قال
دخل الربيع على المهدي وأبو عبيد الله جالس يعرض كتباً فقال له أبو عبيد الله مر هذا أن يتنحى يعني الربيع فقال له المهدي تنح فقال لا أفعل فقال كأنك تراني بالعين الأولى فقال لا بل أراك بالعين التي أنت بها قال فلم لا تتنحى إذ أمرتك فقال له أنت ركن الإسلام وقد قتلت ابن هذا فلا آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها فقام المهدي مذعوراً وأمر بتفتيشه فوجدوا بين جوربه وخفه سكيناً فردت الأمور كلها إلى الربيع وعزل أبو عبيد الله وولي يعقوب بن داود فقال سلم الخاسر فيه
( يَعقُوبُ يَنظُر في الأمورِ ... وأنت تَنظر ناحِيهْ )
( أدخلتَه فعلاً عليك ... كذاك شؤم الناصيهْ )
قال وكان بلغ المهدي من جهة الربيع أن ابن عبيد الله زنديق فقال له المهدي هذا حسد منك فقال افحص عن هذا فإن كنت مبطلاً بلغت مني الذي يلزم من كذبك فأتى بابن عبيد الله فقرره تقريراً خفياً فأقر بذلك فاستتابه فأبى أن يتوب فقال لأبيه اقتله فقال لا تطيب نفسي بذلك فقتله وصلبه على باب أبي عبيد الله

قال وكان ابن أبي عبيد الله هذا من أحمق الناس وهب له المهدي وصيفة ثم سأله بعد ذلك عنها فقال ما وضعت بيني وبين الأرض حشية قط أوطأ منها حاشاً سامع فقال المهدي لأبيه أتراه يعنيني أو يعنيك قال بل يَعْني أمه الزانية لا يكني
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني يحيى بن الحسن قال حدثني أبي قال
كنت أنا والربيع نسير قريباً من محمل المنصور حين قال للربيع رأيت كأن الكعبة تصدعت وكأن رجلاً جاء بحبل أسود فشددها فقال له الربيع من الرجل فلم يُجبه حتى إذا اعتل قال للربيع أنت الرجل الذي رأيته في نومي شدد الكعبة فأي شيء تعمل بعدي قال ما كنت أعمل في حياتك فكان من أمره في أخذ البيعة للمهدي ما كان فقال سلم الخاسر في الفضل بن الربيع
( يا بن الذي جَبَر الإِسلامَ يومَ وهى ... واستنقَذَ الناسَ مِن عَمْياءَ صَيْخودِ )
( قالت قريشٌ غَداةَ انهاض مُلْكُهُمُ ... أين الربيع وأعطَوْا بالمَقاليدِ )
( فقام بالأمر مئناسٌ بوَحْدَتِه ... مَاضِي العزيمِة ضرّابُ القَماحيد )
( إن الأمورَ إِذا ضاقَتْ مَسالِكُها ... حَلَّت يدُ الفضلِ مِنها كلَّ مَعقودِ )
( إِنّ الربيع وإِن الفضلَ قد بَنَيا ... رواقَ مجدٍ على العبَّاس ممدودِ )
قال فوهب له الفضلُ خمسة آلاف دينار
أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال حدثني سعيد أبو هريم وأبو دعامة قالا لما قال سلم الخاسر في الرشيد حين عقد لابنه محمد الأمين

( قد بايع الثَّقلانِ في مَهْد الهُدَى ... لمحمد بن زُبَيْدةَ ابنةِ جعفرِ )
( ولّيته عَهَدَ الأنام وأمْرَهُمْ ... فدمَغْتَ بالمعروف رأسَ المنكرِ )
أعطته زبيدة مائة ألف درهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني أحمد بن علي الخراساني عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق عن أبيه قال
قال سلم الخاسر في المهدي قصيدته التي يقول فيها
( له شِيمَةٌ عند بَذْل العَطاء ... لا يَعْرِفُ الناسُ مقدارَها )
( ومَهْديُّ أُمتِنا والذي ... حماها وأَدرَك أوتارَها )
فأمر له المهدي بخمسمائة ألف درهم
أخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الله بن سليمان قال حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال شهدت المهدي وقد أمر لمروان بن أبي حفصة بأربعين ألف درهم وفرض له على أهل بيته وجلسائه ثلاثين ألف درهم وأمر الرشيد بعد ذلك لما ولى الخلافة لسلم الخاسر وقد مدحه بسبعين ألف درهم فقال له يا أمير المؤمنين إنّ أكثر ما أعطى المهدي مروان ألف درهم فزدني وفضلني عليه ففعل ذلك وأعطاه تتمة ثمانين ألف درهم فقال سلم
( أَلا قُلَ لمروانٍ أَتتْكَ رسالةٌ ... لها نَبَأٌ لا يَنْثني عن لِقائكا )
( حَبانِي أَميرُ المؤمنين بنَفْحَةٍ ... مُشَهَّرَةٍ قد طأْطأَتْ من حِبَائكا )
( ثمانين ألفاً حُزْتُ من صُلبِ ماله ... ولم يك قَسْماً من أُولى وأولائكا )

فأجابه مروان فقال
( أَسَلْمَ بنَ عمرو قد تَعاطَيْتَ غايةً ... تُقَصّرُ عنها بعد طُول عنائكا )
( فأُقسِم لولا ابنُ الربيع ورِفْدُه ... لما ابْتَلّت الدّلوُ التي في رشائكا )
( وما نِلْت مُذْ صُوِّرتَ إلا عطيّةً ... تَقُوم بها مَصرورةً في ردائكا )

مات سلم فوهب الرشيد تركته
حدثني وسواسة بن الموصلي وهو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثني حماد عن أبيه قال
استوهب أبي من الرشيد تركة سلم الخاسر وكان قد مات عن غير وارث فوهبها له قبل أن يتسلمها صاحب المواريث فحصل منها خمسين ألف دينار
أخبرني عمي قال حدثني أبو هفان عن سعيد بن هديم وأبي دعامة أنه رفع إلى الرشيد أن سلماً الخاسر قد توفي وخلف مما أخذه منه خاصة ومن زبيدة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم سوى ما خلفه من عقار وغيره مما اعتقده قديما فقبضه الرشيد وتظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه فقال هذا خادمي ونديمي والذي خلفه من مالي فأنا أحق به فلم يعطهم إلا شيئاً يسيراً من قديم أملاكه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال كان مالك وشهاب ابنا عبد الملك بن مسمع ومعن بن زائدةمتواخين لا يكادون يفترقون وكان سلم الخاسر ينادمهم ويمدحهم ويفضلون عليه ولا يحوجونه إلى غيرهم فتوفي مالك ثم أخوه ثم معن في مدة متقاربة فقال سلم يرثيهم

( عَيْنُ جُودِي بِعَبْرةٍ تَهْتَانِ ... وانْدُبِي من أصابَ ريْبُ الزمانِ )
( وإذا ما بَكَيتِ قَوماً كِراماً ... فَعَلى مالكٍ أبي غَسّانِ )
( أَينَ معنٌ أبو الوليدِ ومن كان ... غِياثاً لِلْهالِك الحيرانِ )
( طَرَقْتك المنونُ لا واهِيَ مثلُ الحبلِ ... ولا عاقِداً بِحِلْف يمَانِ )
( وشهابٌ وأين مثلُ شهابٍ ... عند بَذلِ النّدَى وحَرِّ الطِّعانِ )
( رُبّ خِرْقٍ رُزِئْتُه منْ بَني قيسٍ وخِرقٍ رُزِئتُ من شيبانِ )
( دَرَّ دَرُّ الأيام ماذا أجَنَّتْ ... منْهُمُ في لفائف الكتانِ )
( ذاك معنٌ ثَوى ببست رهيناً ... وشهابٌ ثَوى بأرضِ عُمانِ )
( وهُما ما هُما لِبَذْلِ العطايا ... ولِلَفِّ الأقران بالأقرانِ )
( يَسْبقان المنونَ طَعناً وضرباًً ... ويَفُكَّانِ كُلّ كبْل وَعانِ )
أخبرني وكيع قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال
لما أنشد سلم الخاسر الرشيد قصيدته فيه
( حَضَر الرَّحِيلُ وَشُدَّت الأحْداجُ ... )
أمر له بمائة ألف درهم
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال

دخل سلم الخاسر على الفضل بن يحي في يوم نيروز والهدايا بين يديه فأنشده
( أَمِنْ رَبْعٍ تسائلهُ ... وقَدْ أقْوَتْ منازلُهُ )
( بقَلْبِي مِنْ هَوَى الأصلالِ ... حُبٌّ ما يُزْايِلُهُ )
( رُوَيدَكُمُ عن المَشْغوفِ ... إنَّ الحُبَّ قاتلُهُ )
( بَلابِلُ صَدره تَسْرى ... وقد نامت عواذِلُهُ )
( أحقُّ الناسِ بالتفضيلِ ... مَن تُرْجَى فَوَاضِلُهُ )
( رأيتُ مكارمَ الأخْلاقِ ... ما ضَنَّت حَمائلُهُ )
( فلست أرَى فتَىً في الناس ... إلا الفَضْلُ فاضِلُهُ )
( يقولِ لِسانُه خَيْراً ... فَتَفْعلُه أناملُهُ )
( ومهما يُرْجَ مِنْ خيرٍ ... فإن الفضل فاعلُهُ )
وكان إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق حاضرين فقال لإبراهيم كيف ترى وتسمع قال أحسن مرئي ومسموع وفضل الأمير أكثر منه فقال خُذوا جميع ما أهدي إلي اليوم فاقتسموه بينكم أثلاثاً إلا ذلك التمثال فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير ثم قال لا والله ما هكذا تفعل الأحرار يقوم وندفع إليهم ثمنه ثم نهديه فقوم بألفي دينار فحملها إلى القوم من بيت ماله واقتسموا جميع الهدايا بينهم

أخبرني هاشم بن محمد الخُزاعي قال حدثني عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني القحذمي قال
قيل لمعن بن زائدة ما أحسن ما مدحت به من الشعر عندك قال قول سلم الخاسر
( أبْلِغ الفِتْيانَ مأْلُكةً ... أنَّ خيرَ الوُدّ ما نَفَعا )
( أنَّ قَرْماً من بَني مَطَرٍ ... أتلَفَتْ كفّاه ما جَمعا )
( كُلّما عُدْنا لنائِله ... عاد في معروفه جَذَعا )
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة وأخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه عن أبي توبة قال حدث في أيام الرشيد أمر فاحتاج فيه إلى الرأي فأشكل وكان الفضل بن يحي غائباً فورد في ذلك الوقت فأخبروه بالقصة فأشار بالرأي في وقته وأنفذ الأمر على مشورته فحمد ما جرى فيه فدخل عليه سلم الخاسر فأنشده
( بَدِيهَتُه وَفِكْرتُه سواءٌ ... إذا ما نَابَهُ الخَطْبُ الكبيرُ )
( وَأحَزَمُ ما يكونُ الدَّهرَ رأياً ... إِذا عيّ المُشَاوِرُ والمُشير )
فأمر له بعشرة آلاف درهم

اشترى سكوت أبي الشمقمق عن هجائه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال حدثني الجماز أن أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه فقال له اسمع إذا ما قلته وأنشده

( حَدَّثُوني أنّ سَلماً ... يَشْتَكي جارةَ أيْرِهْ )
( فَهْو لا يَحْسُدُ شيئاً ... غيرَ أيْرٍ في أست غيرِهْ )
( وإِذا سرَّك يَوْماً ... يا خليلي نيْلَ خَيرِهْ )
( قُمْ فَمُرْ راهِبَك الأصْلَعَ ... يقرع بابَ ديْرِهْ )
فضحك سلم وأعطاه خمسة دنانير وقال له أحب جعلت فداك أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال حدثني أبو دعامة قال
دخل سلم الخاسر على الرشيد فأنشده
( حَيِّ الأحِبَّةَ بالسلام ... )
قال الرشيد
( حياهُم اللهُ بالسلامِ ... )
فقال
( عَلَى وَداع أم مُقام ... )
فقال الرشيد حياهم الله على أي ذلك كان فأنشده
( لَمْ يَبقَ منكَ ومِنْهُم ... غيرُ الجلودِ على الطعام )
فقال له الرشيد بل منك وأمر بإخراجه وتطير منه ومن قوله فلم يسمع منه باقي الشعر ولا أثابه بشيء
( أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال أتت وفاة المهدي إلى موسى الهادي وهو بجرجان فبويع له هناك فدخل عليه

سلم الخاسر مع المهنئين فهنأه بخلافة الله ثم أنشده
( لَمَّا أتتْ خيرَ بَني هاشمٍ ... خلافةُ الله بجُرْجانِ )
( شَمَّر لِلْحزمِ سَرابيلَه ... بِرَأْي لاغَمْرٍ ولا وانِ )
( لم يُدخِل الشُّورَى على رأْيه ... والحزْمُ لا يُمضيه رأيانِ ) أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني صالح بن عبد الرحمن عن أبيه قال
دخل سلم الخاسر على الرشيد وعنده العباس بن محمد وجعفر بن يحي فأنشده قوله فيه
( حَضَرَ الرّحيلُ وشدت الأحداجُ ... )
فلما انتهى إلى قوله
( إن المنايا في السيوف كَوامِنٌ ... حتى يُهَيِّجَها فتىً هَيّاجُ )
فقال الرشيد كان ذلك معن بن زائدة فقال صدق أمير المؤمنين ثم أنشد حتى انتهى إلى قوله
( ومُدَجَّجٍ يَغْشَى المَضِيقَ بسَيْفه ... حتى يكونَ بسيفِهِ الإفراجُ )
فقال الرشيد ذلك يزيد بن مزيد فقال صدق أمير المؤمنين فاغتاظ

جعفر بن يحي وكان يزيد بن مزيد عدوا للبرامكة مصافياً للفضل بن الربيع فلما انتهى إلى قوله
( نَزَلَتْ نُجومُ الليلِ فَوَق رؤوسِهمْ ... ولِكلِّ قومٍ كوكبٌ وهّاجُ )
قال له جعفر بن يحي من قلة الشعر حتى تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره هذا لبشار في فلان التميمي فقال الرشيد ما تقول يا سلم قال صدق يا سيدي وهل أنا إلا جزء من محاسن بشار وهل أنطق إلا بفضل منطقه وحياتك يا سيدي إني لأروي له تسعة آلاف بيت ما يعرف أحد غيري منها شيئاً فضحك الرشيد وقال ما أحسن الصدق امض في شعرك وأمر له بمائة ألف درهم ثم قال للفضل بن الربيع هل قال أحد غير سلم في طينا المنازل شيئاً وكان الرشيد قد انصرف من الحج وطوى المنازل فوصف ذلك فقال الفضل نعم يا أمير المؤمنين النمري فأمر سلماً أن يثبت قائماً حتى يفرغ النمري من إنشاده فأنشده النمري قوله
( تَخَرّق سِرْبالُ الشبابِ مع البُرْد ... وحالَتْ لنا أُمُّ الوليد عن العهد )
فقال الرشيد للعباس بن محمد أيهما أشعر عندك يا عم قال كلاهما شاعر ولو كان كلام يستفحل لجودته حتى يؤخذ منه نسل لاستفحلت كلام النمري فأمر له بمائة ألف درهم أخرى
أخبرني عمي قال أنشدني أحمد بن أبي طاهر لأشجع السلمي يرثي سلماً ومات سلم قبله
( يا سَلمُ إن أصبَحْت في حُفرةٍ ... موسَّداً تُرْباً وأحجارا )

( فَرُبُّ بيتٍ حسنٍ قُلتَه ... خَلّفتَه في الناس سيّاراً )
( قَلّدتَه ربّاً وَسَيّرتَه ... فكان فخراً منك أو عاراً )
( لو نطق الشعر بكى بعده ... عليه إعلاناً وإسراراً )

صوت
( يا ويحَ من لعب الهَوى بحياته ... فأماته من قبلِ حينَ مماته )
( مَنْ ذا كذا كان الشقي بشادن ... هاروت بين لسانه ولَهاتِه )
( وحياة من أهوَى فإِنّي لم أكن ... يوماً لأحلف كاذباً بحياته )
( لأخالِفَنَّ عَواذِلي في لذّتِي ... ولأُسْعِدَنّ أخي عَلَى لذّاته )
الشعر لبعض شعراء الحجازيين ولم يقع إلينا اسمه والغناء لأبي صدقة رمل بالبنصر

أخبار أبي صدقة
اسمه مسكين بن صدقة من أهل المدينة مولى لقريش وكان مليح الغناء طيب الصوت كثير الرواية صالح الصنعة من أكثر الناس نادرة وأخفهم روحاً وأشدهم طمعاُ وألحهم في مسألة وكان له ابن يقال له صدقة يغني وليس من المعدودين وابن ابنه أحمد بن صدقة الطنبوري أحد المحسنين من الطنبوريين وله صنعة جيدة وكان أشبه الناس بجده في المزح والنوادر وأخباره تذكر بعد أخبار جده وأبو صدقة من المغنين الذي أقدمهم هارون الرشيد من الحجاز في أيامه
أخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن عبد الله قال
قيل لأبي صدقة ما : أكثر سؤالك وأشد إلحاحك فقال وما يمنعني من ذلك واسمي مسكين وكنيتي أبو صدقة وامرأتي فاقة وابني صدقة
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن الرشيد قال للحارث بن بسخنر قد اشتهيت أن أرى ندمائي ومن يحضر مجلسي من المغنين جميعا في مجلس واحد يأكلون ويشربون ويتبذلون منبسطين على غير هيبة ولا احتشام بل يفعلون ما يفعلون في منازلهم وعند نظرائهم وهذا لا يتم إلا بأن أكون بحيث لا يرونني عن غير علم منهم برؤيتي إياهم فأعد لي مكاناً أجلس فيه أنا وعمي سليمان وإخوتي إبراهيم بن المهدي وعيسى بن جعفر وجعفر بني يحيى

فإنا مغلسون عليك غداة غد واستزر أنت محمد بن خالد بن برمك وخالداً أخاً مهرويه والخضر بن جبريل وجميع المغنين وأجلسهم بحيث نراهم ولا يروننا وابسط الجميع وأظهر برهم واخلع عليهم ولا تدع من الإكرام شيئاً إلى فعلته بهم ففعل ذلك الحارث وقدم إليهم الطعام فأكلوا والرشيد ينظر إليهم ثم دعا لهم بالنبيذ فشربوا وأحضرت الخلع وكان ذلك اليوم يوماً شديد البرد فخلع على ابن جامع جبة خز طاروني مبطنة بسمور صيني وخلع على إبراهيم الموصلي جبة وشيءٍ كوفي مرتفع مبطنة بفنك وخلع على أبي صدقة دراعة ملحم خراساني محشوة بقز ثم تغنى ابن جامع وتغنى بعده إبراهيم وتلاهما أبو صدقة فغنى لابن سريج
( ومِنْ أجْلِ ذات الخال أعملْتُ ناقتي ... أُكلِّفها سَيَر الكَلالِ مع الظَّلْعِ )

فأجاده واستعاده الحارث ثلاثاً وهو يعيده فقال له الحارث أحسنت والله يا أبا صدقة قال له هذا غنائي وقد قرصني البرد فكيف تراه فديتك كان يكون لو كان تحت دراعتي هذه شعيرات يعني الوبر والرشيد يسمع ذلك فضحك فأمر بأن يخلع عليه دراعة ملحم مبطنة بفنك ففعلوا ثم تغنى الجماعة وغنى أبو صدقة لمعبد
( بان الخليط على بُزْلٍ مخيّسةٍ ... هُدْلِ المشافر أدنى سيرِها الرّمَلُ )
ثم تغنى بعده لمعبد أيضاً
( بانَ الخليطُ ولو طُووِعت ما بانا ... وقطّعوا من حِبال الوصلِ أقرانا )
فأقام فيهما جميعاً القيامة فطرب الرشيد حتى كاد أن يخرج إلى المجلس طرباً فقال له الحارث أحسنت والله يا أبا صدقة فديتك وأجملت فقال أبو صدقة فكيف ترى فديتك الحال تكون لو كانت على هذه الدراعة نقيطات يعني الوشي فضحك الرشيد حتى ظهر ضحكه وعلموا بموضعه وعرف علمهم بذلك فأمر بإدخالهم إليه وأمر بأن يخلع على أبي صدقة دراعة أخرى مبطنة فخلعت عليه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
سأل الحسن بن سليمان أخو عبيد الله بن سليمان الطفيلي الفضل وجعفراً

ابني يحي أن يقيما عنده يوماً فأجاباه فواعد عدة من المغنين فيهم أبو صدقة المدني فقال لأبي صدقة إنك تبرم بكثرة السؤال فصادرني على شيء أدفعه إليك ولا تسأل شيئاً غيره فصادره على شيء أعطاه إياه فلما جلسوا وغنوا أعجبوا بغناء أبي صدقة واقترحوا عليه أصواتاً من غناء ابن سريج ومعبد وابن محرز وغيرهم فغناهم ثم غنى والصنعة له رمل
( يا ويحَ مَن لعب الهَوى بحياتِه ... فأَماته مِنْ قَبْلِ حينِ مماتِه )
( مَنْ ذا كذا كان الشقيَّ بِشادِنٍ ... هاروتُ بين لسانِه ولهَاتِه )
وذكر الأبيات الأربعة المتقدم ذكرها قال فأجاد وأحسن ما شاء وطرب جعفر فقال له أحسنت وحياتي وكان عليه دواج خز مبطن بسمور جيد فلما قال له ذلك شرهت نفسه وعاد إلى طبعه فقال لو أحسنت ما كان هذا الدواج عليك ولتخلعنه علي فألقاه عليه ثم غنى أصواتاً من القديم والحديث وغنى بعدها من صناعته في الرمل
( لَمْ يَطُل العهدُ فتنساني ... ولَمْ أَغِبْ عنك فتنعاني )
( بَدّلتَ بي غيري وباهتَّني ... ولم تكن صاحبَ بُهتانِ )
( لا وَثِقَتْ نفسي بإنسانٍ ... بَعدك في سرٍّ وإِعلانِ )

( أعطيتني ما شئتُ من مَوْثِقٍ ... منك ومن عهدٍ وأيمانِ )
فقال له الفضل أحسنت وحياتي فقال لو أحسنت لخلعت علي جبة تكون شكلا لهذا الدواح فنزع جبته وخلعها عليه وسكروا وانصرفوا فوثب الحسن بن سليمان فقال له قد وافقتك على ما أرضاك ودفعته إليك على ألا تسأل أحداً شيئاً فلم تف وقد أخذت مالك والله لا تركت عليك شيئاً مما أخذته ثم انتزعته منه كرهاً وصرفه فشكاه أبو صدقة إلى الفضل وجعفر فضحكا منه وأخلفا عليه ما ارتجعه الطفيلي منه من خلعهما

نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الغناء
صوت
( بانَ الخليطُ على بُزْلٍ مُخَيَّسةٍ ... هُدْلِ المشافِرِ أدنى سيرِها الرملُ )
( مِنْ كل أعيَس نضَّاح القفا قَطِمٍ ... ينفِي الزمام إذا ما حنّت الإِبلُ )
الغناء لابن عائشة خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي وقال الهشامي خاصة فيه لابن محرز هزج ولإسحاق ثقيل أول ووافقه ابن المكي وما وجدت لمعبد فيه صنعة في شيء من الروايات إلا في المذكور
وأما
( بان الخليط ولو طووعت ما بانا ... )

فقد مضى في المائة المختارة ونسب هناك وذكرت أخباره

أسباب إلحاحه
أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال
كان أبو صدقة أسأل خلق الله وألحهم فقال له الرشيد ويلك ما أكثر سؤالك فقال وما يمنعني من ذلك واسمي مسكين وكنيتي أبو صدقة واسم أبني صدقة وكانت أمي تلقب فاقة واسم أبي صدقة فمن أحق مني بهذا
وكان الرشيد يعبث به عبثاً شديداً فقال ذات يوم لمسرور قل لابن جامع وإبراهيم الموصلي وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوصا وابن أبي مريم المديني إذا رأيتموني قد طابت نفسي فليسألني كل واحد منهم حاجة مقدارها مقدار صلته وذكر لكل واحد منهم مقدار ذلك وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة فقال لهم مسرور ما أمره به ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم فلما جلس قال له يا أبا صدقة قد أضجرتني بكثرة مسألتك وأنا في هذا اليوم ضجر وقد أحببت أن أتفرج وأفرح ولست آمن أن تنغص علي مجلسي بمسألتك فإما أن أعفيتني من أن تسألني اليوم حاجة وإلا فانصرف فقال له يا سيدي لست أسألك في هذا اليوم ولا إلى شهر حاجة فقال له الرشيد أما إذ شرطت لي هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هي ذه فخذها هنيئة

معجلة فإن سألتني شيئاً بعدها في هذا اليوم فلا لوم علي إن لم أصلك سنة بشيء فقال له نعم وسنتين فقال له الرشيد زدني في الوثيقة فقال قد جعلت أمر أم صدقة في يدك فطلقها متى شئت إن شئت واحدة وإن شئت ألفاً إن سألتك في يومي هذا حاجة وأشهد الله ومن حضر على ذلك فدفع إليه المال ثم أذن للجلساء والمغنين فحضروا وشرب القوم
فلما طابت نفس الرشيد قال له ابن جامع يا أمير المؤمنين قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيتي وكثر إحسانك إلي حتى كبت أعدائي وقتلتهم وليست لي بمكة دار تشبه حالي فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به داراً وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم فعل فقال وكم قدرت لذلك قال أربعة آلاف دينار فأمر له بها ثم قام إبراهيم الموصليّ فقال له قد ظهرت نعمتك علي وعلى أكابر ولدي وفي أصاغرهم من قد بلغ وأريد تزويجه ومن أصاغرهم من أحتاج إلى أن أطهره ومنهم صغار أحتاج إلى أن أتخذ لهم خدماً فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك فعل فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع وجعل كل واحد منهم يقول فيقول من الثناء ما يحضره ويسأل حاجة على قدر جائزته وأبو صدقة ينظر إليهم وإلى الأموال تفرق يميناً وشمالاً فوثب على رجليه قائماً وقال للرشيد يا سيدي أقلني أقال الله عثرتك فقال له الرشيد لا أفعل فجعل يستحلفه ويضطرب ويلح والرشيد يضحك ويقول ما إلى ذلك سبيل الشرط أملك
فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد وقال له هاكها قد رددتها عليك وزدتك فرج أم صدقة فطلقها إن شئت واحدة وإن شئت ألفاً وإن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد ابن الباردة عمرو الغزال وكانت صلته ألف دينار فضحك الرشيد حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف دينار معها وكان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات فانصرف يومئذ بألف وخمسمائة دينار

جعفر بن يحي والرشيد يعبثان به
أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثني يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق قال
مطرنا ونحن مع الرشيد بالرقة مطراً مع الفجر واتصل إلى غد ذلك اليوم وعرفنا خبر الرشيد وأنه مقيم عند أم ولده المسماة بسحر فتشاغلنا في منازلنا فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعاً وأقبل يسأل واحداً واحداً عن يومه الماضي ما صنع فيه فيخبره إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحي فسأله عن خبره فقال كان عندي أبو زكار الأعمى وأبو صدقة فكان أبو زكار كلما غنى صوتاً لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة فإذا انتهى الدور إليه أعاده وحكى أبا زكار فيه وفي شمائله وحركاته ويفطن أبو زكار لذلك فيجن ويموت غيظاً ويشتم أبا صدقة كل شتم حتى يضجر وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب وسئمنا من العبث به فقلت له دع هذا وغن غناءك فغنى رملاً ذكر أنه من صنعته طربت له والله يا أمير المؤمنين طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين هو
صوت
( فتَنْتَنِي بفاحمِ اللون جَعْدٍ ... وبِثَغر كأنه نظم دُرٍّ )
( وبِوجهٍ كأنه طلعة البدرِ ... وعَينٍ في طَرفها نَفْث سِحْرِ )
فقلت له أحسنت والله يا أبا صدقة فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي إني قد بنيت داراً حتى أنفقت عليها حريبتي وما أعددت لها فرشاً فافرشها لي نجد الله لك في الجنة ألف قصر فتغافلت عنه وعاود الغناء

فتعمدت أن قلت له أحسنت ليعاود مسألتي وأتغافل عنه فسألني وتغافلت فقال لي يا سيدي هذا التغافل متى حدث ذلك سألتك بالله وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم فأقبلت عليه وقلت له أنت والله بغيض اسكت يا بغيض واكفف عن هذه المسألة الملحة فوثب من بين يدي وظننت أنه خرج لحاجة وإذا هو قد نزع ثيابه وتجرد منها خوفاً من أن تبتل ووقف تحت السماء لا يواريه منها شيء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال يا رب أنت تعلم أني مله ولست نائحاً وعبدك هذا الذي رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي أحسنت لا يقول لي أسأت وأنا منذ جلست أقول له بنيت لم أقل هدمت فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض فاحكم بيني وبينه يا سيدي فأنت خير الحاكمين
فغلبني الضحك وأمرت به فتنحى وجهدت به أن يغني فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أني أفرش له داره وخدعته فلم أسم له ما أفرشها به فقال الرشيد طيب والله الآن تم لنا به اللهو وهو ذا أدعو به فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش لأنك حلفت له بحياتي فهو ينتجز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له فقل له أنا أفرشها لك بالبواري وحاكمه إليه ثم دعا به فأحضر فما استقر في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحي الفرش الذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري تقدم فيه فقال له جعفر اختر إن شئت فرشتها لك بالبواري وإن شئت بالبردي من الحصر فضج واضطرب
فقال له الرشيد وكيف كانت القصة فأخبره فقال له أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسم النوع ولا حددت القيمة فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبردي أو بما دون ذلك فقد وفى يمينه وإنما خدعك ولم تفطن له أنت ولا توثقت وضيعت حقك فسكت وقال نوفر البردي والبواري عليه أيضاً أعزه الله وغنى المغنون حتى انتهى إليه الدور فأخذ يغني غناء الملاحين والبنائين

والسقائين وما جرى مجراه من الغناء فقال له الرشيد أيش هذا الغناء ويلك قال من فرشت داره بالبواري والبردي فهذا الغناء كثير منه وكثير أيضاً لمن هذه صلته فضحك الرشيد والله وطرب وصفق ثم أمر له بألف دينار من ماله وقال له افرش دارك من هذه فقال وحياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني وإلا مت والله أسفاً لفوات ما حصل في طمعي ووعدت به فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار فقبلها جعفر وأمر له بها

سبب وصوله إلى السلطان
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أن أبي لما حج مر بالمدينة فاحتاج إلى قطع ثياب فالتمس خياطاً حاذقاً فدل على أبي صدقة ووصف له بالحذق في الخياطة والحذق في الغناء وخفة الروح فأحضره فقطع له ما أراد وخاطه وسمع غناءه فأعجبه وسأله عن حاله فشكا إليه الفقر فخلف لعياله نفقة سابغة لسنة ثم أخذه معه وخلطه بالسلطان
قال حماد فقال أبو صدقة يوماً لأبي قد اقتصرت بي على صنعة أبي إسحاق أبيك رحمه الله عندي وأنت لا رب ذلك بشيء فقال له هذه الصينية الفضة التي بين يدي لك إذا انصرفت فشكره وسر بذلك ولم يزل يغنيه بقية يومه فلما أخذ النبيذ فيه قام قومه ليبول فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنينته وقدحه فيها ورفع الصينية الفضة فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل ودفعها إلى غلامه وقال له بت الليلة عندي واصطبح غداً واردد دابتك فقال إني إذا لأحمق أدفع إلى غلامي صينية فضة فيأخذها ويطمع فيها أو يبيعها ويركب الدابة ويهرب ولكني أبيت عندك فإذا انصرفت غداً أخذتها معي وبات وأصبح عندنا مصطبحاً فلما كان وقت انصرافه أخذها

ومضى فلم يلبث من غد أن جاءنا والصينية معه فإذا هو قد وجه بها لتباع فعرفوه أنها رصاص فلما رآه أبي من بعيد ضحك وعرف القصة وتماسك فقال له أبو صدقة نعم الخلافة خلفت أباك وما أحسن ما فعلت بي قال وأي شيء فعلت بك قال أعطيتني صينية رصاص فقال له أبي سخنت عينك سخرت امرأتك بك وأنا من أين لي صينية رصاص فتشكك ساعة ثم قال أظن والله أن ذلك كذلك فقام فقال له أبي إلى أين قال أضع والله عليها السوط فأضربها به حتى ترد الصينية فلما رأى أبي الجد منه قال له اجلس يا أبا صدقة فإنما مزحت معك وأمر له بوزنها دراهم

صوت
( إنّ مَنْ يملِكُ رِقّي ... مالكٌ رقّ الرِّقابِ )
( لم يكن يا أحسن العالم ... هذا في حسابي )
الشعر لفضل الشاعرة والغناء لعريب خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المعتز

أخبار فضل الشاعرة
كانت فضل جارية مولدة من مولدات البصرة وكانت أمها من مولدات اليمامة بها ولدت ونشأت في دار رجل من عبد القيس وباعها بعد أن أدبها وخرجها فاشتريت وأهديت إلى المتوكل وكانت هي تزعم أن الذي باعها أخوها وأن أباها وطىء أمها فولدتها منه فأدبها وخرجها معترفاً بها وأن بنيه من غير أمها تواطأوا على بيعها وجحدها ولم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبدية وكانت حسنة الوجه والجسم والقوام أديبة فصيحة سريعة البديهة مطبوعة في قول الشعر ولم يكن في نساء زمانها أشعر منها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال كانت فضل الشاعرة لرجل من النخاسين بالكرخ يقال له حسنويه فاشتراها محمد بن الفرج أخو عمر بن الفرج الرخجي وأهداها إلى المتوكل فكانت تجلس للرجال ويأتيها الشعراء فألقى عليها أبو دلف القاسم بن عيسى
( قالوا عَشْقتَ صغيرةً فأجبتُهمْ ... أشهى المَطيِّ إليّ ما لم يُرْكَبِ )

( كم بَيْنَ حبّة لؤلؤ مثقوبةٍ ... نُظِمتْ وحبةِ لؤلؤٍ لم تُثْقَبِ )
فقالت فضل مجيبة له
( إن المطية لا يَلَذُّ رُكوبُها ... ما لم تُذَلَّلْ بالزِّمام وتُركَبِ )
( والدُّرُّ ليس بنافعٍ أصحابَه ... حتى يُؤلَّف للنِّظامِ بمِثْقَبِ )

شعرها في المتوكل
حدثني عمي ومحمد بن خلف قالا حدثنا أبو العيناء قال لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها أشاعرة أنت قالت كذا زعم من باعني واشتراني فضحك وقال أنشدينا شيئا من شعرك فأنشدته
( استقبل الملكَ إِمامُ الهدى ... عامَ ثلاثٍ وثلاثينا )
تعني سنة ثلاث وثلاثين ومائتين من سني الهجرة
( خِلافةُ أفْضَت إلى جعفر ... وهو ابنُ سبع بعْدَ عِشرينا )
( إنّا لنَرجو يا إمام الهدى ... أن تَمْلِكَ الناس ثمانينا )
( لا قدَّسَ اللهُ امرأً لم يَقُلْ ... عندَ دُعائي لك آمينا )
فاستحسن الأبيات وأمر لها بخمسة آلاف درهم وأمر عريب فغنت فيها
حدثني عمي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال عرضت على المعتمد جارية تباع في خلافة المتوكل وهو يومئذ حديث السن فاشتط مولاها في السوم فلم يشترها وخرج بها إلى ابن الأغلب فبيعت هناك فلما

ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها وقد ذكرها فأعلم أنها بيعت وأولدها مولاها فقال لفضل الشاعرة قولي فيها شيئاً فقالت
( عَلَم الجمَالِ تركْتني ... في الحُبّ أشهرَ مِن عَلَمْ )
( وَنَصَبْتَنِي يا مُنْيَتي ... غَرَضَ المَظِنَّةِ والتُّهمْ )
( فارقتنِي بعدَ الدّنوّ ... فصِرْتِ عندي كالحُلُمْ )
( فَلَوَ أن نَفْسي فارَقَتْ ... جسمي لِفَقدكٍ لم تُلَمْ )
( ما كان ضرّكِ لو وَصَلْت ... فخف عن قَلبي الألمْ )
( بِرِسالةٍ تُهْدينها ... أو زَوْرَةٍ تحتَ الظُّلَمْ )
( أَوْلاَ فَطيفي في المنامِ ... فلا أقلَّ من الَّلمَم )
( صِلَةُ المحبِّ حَبِيبَه ... اللَّهُ يَعْلَمُه كَرَمْ )

نماذج من شعرها
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال كتب بعض أهلنا إلى فضل الشاعرة
( أصبحْتُ فَرْدا هائم العَقْل ... إلى غزال حَسَنِ الشكلِ )
( أَضْنَى فؤادي طولُ عهدي بِه ... وبُعْدُه منِّي ومِن وَصْلي )
( مُنْيةُ نفسي في هَوىَ فَضْل ... أنْ يجمعَ الَّلهُ بها شَمْلي )
( أهْواكِ يا فضلُ هوى خالصاً ... فما لِقَلْبي عنكِ من شُغْل )
قال فأجابته

صوت
( الصبرُ ينقص والسَّقامُ يَزيدُ ... والدارُ دانيةٌ وأنتَ بَعيدُ )
( أَشكُوكَ أَمْ أشكو إليكَ فإنه ... لا يَستطيعُ سواهما المجهودُ )
( إني أَعُوذ بحُرْمتي بكَ في الهَوى ... مِنْ أن يطاعَ لديكَ في حَسودُ )
في هذه الأبيات رمل طنبوري وأظنه لجحظة
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني الحسن بن عيسى الكوفي قال حدثنا أبو دهمان وأخبرني أيضاً به عبد الله بن نصر المروزي قالا
كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجهاً وخلقاً وخلقاً وأرقهم شعراً فكتب إليها بعض من كان يجمعه وإياها مجلس الخليفة ولا تطلعه على حبها له
( ألا ليتَ شِعري فيكِ هل تَذْكرينَنَي ... فذِكراكِ في الدنيا إليّ َحَبِيبُ )
( وهل لي نصيبٌ في فؤادِكِ ثابتٌ ... كما لكِ عندي في الفؤادِ نَصيبُ )
( ولستُ بمَوْصولٍ فأَحيا بِزَوْرَةٍ ... ولا النفسُ عند اليأس عنكِ تَطيب )
قال فكتبت إليه
( نَعَم وإِلهي إِنني بكَ صَبّةٌ ... فهل أنتَ يا مَن لا عَدِمتُ مُثيب )
( لِمَنْ أنتَ منه في الفؤادِ مصوَّر ... وفي العَيِنِ نُصْبَ العينِ حين تَغيب )
( فَثِقْ بودادٍ أنت مُظهرُ مثلِه ... عَلَى أنّ بي سُقْماً وأنتَ طبيب )
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني يحي بن علي بن يحي المنجم قال حدثني الفضل بن العباس الهاشمي قال حدثتني بنان الشاعرة قالت
اتكأ المتوكل على يدي ويد فضل الشاعرة وجعل يمشي بيننا ثم قال أجيزا لي قول الشاعر
( تعلمتُ أسباب الرضا خوفَ عَتْبها ... وعَلّمها حُبِّي لها كيف تَغضَب )

فقالت له فضل
( تَصُدُّ وأدنْو بالمودةِ جاهدا ... وتَبعُد عني بالوصال وأقرُب )
فقلت أنا
( وعندِي لها العُتبى على كلّ حالة ... فما مِنْه لي بدّ ولا عنه مذهب )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة
( ومستفتِحٍ بابَ البلاءِ بنَظْرةٍ ... تَزوَّدَ منها قلبُه حسْرةَ الدهْرِ )
فقالت
( فوالله ما يَدري أتَدْري بما جَنَت ... عَلَى قلبِه أو أهلكَتْه وما تَدْري )
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
ألقيت أنا على فضل الشاعرة
( عَلَمَ الجمالِ تركْتِني ... بهواكِ أشهرَ مِنْ عَلمْ )
فقالت على البديهة
( وأبحتَني يا سيِّدي ... سَقَماً يجلّ عن السقَمْ )
( وتَرَكْتَني غَرَضاً فَدَيْتُكَ ... للعوَاذِلِ والتُّهمْ )
( صلَةُ المحبِّ حبيبَه ... اللهُ يَعلَمُه كَرَم )
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن الوليد قال
سمعت علي بن الجهم يقول كنت يوماً عند فضل الشاعرة فلحظتها لحظة استرابت بها فقالت

( يارُبَّ رامٍ حَسَنٍ تَعرُّضُهْ ... يرمي ولا يُشعِر أني غرضُهْ )
فقلت
( أيُّ فتى لَحْظُكِ ليس يُمْرضُهْ ... وأيُّ عَقدٍ محكَمٍ لا يَنْقُضُهْ )
فضحكت وقالت خذ في غير هذا الحديث
حدثني عمي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال
كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيامَ كانت بينهما محبة وتواصل
( وعيشِك لَو حرّحتُ باسمِك في الهوى ... لأ قَصَرْتُ عن أشياءَ في الهْزل والجِدِّ )
( ولكنني أُبدِي لهذا مَوَدَّتي ... وذاك وأَخلو فيكَ بالبَثَّ والوَجْد )
( مخافَة أن يُغْرِي بنا قولُ كاشحٍ ... عدُوّاً فيسَعى بالوِصالِ إلى الصدِّ )
فكتب إليها سعيد
( تنامِين عن لَيْلى وأسهَرُه وحدي ... وأنهَى جفوني أن تبُثَّك ما عِنْدي )
( فإنْ كنتِ لا تَدْرين ما قد فعلْتِه ... بنا فانظُري ماذا على قاتِلِ العمدِ )

قال عمي هكذا ذكر ابن مهرويه
وحدثني به علي بن الحسين بن عبد الأعلى فذكر أن بيتي سعيد كانا الابتداء وأن أبيات فضل كانت الجواب وذكر لهما خبراً في عتاب عاتبها به ولم أحفظه وإنما سمعته يذكره ثم أخرج إلي كتاباً بعد ذلك فيه أخبار عن علي ابن الحسين فوجدت هذا الخبر فيه فقرأته عليه
قال علي بن الحسين بن عبد الأعلى
حضر سعيد بن حميد مجلساً حضرته فضل الشاعرة وبنان وكان سعيد يهواها وتظهر له هوى ويتهمها مع ذلك ببنان فرأى فيها إقبالاً شديداً على بنانٍ فغضب وانصرف فكتبت إليه فضل بالأبيات الأول وأجابها بالبيتين الآخرين فاتفقت رواية ابن مهرويه وعلي بن الحسين في هذا الخبر
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو يوسف بن الدقاق الضرير قال
صرت أنا وأبو منصور الباخرزي إلى منزل فضل الشاعرة فحجبنا عنها وانصرفنا وما علمت بنا ثم بلغها مجيئنا وانصرافنا فكرهت ذلك وغمها فكتبت إلينا تعتذر
( وما كنْت أَخشى أَن تَروْا ليَ زَلّةً ... ولكنّ أَمْرَ اللهِ ما عَنْه مَذْهبُ )
( أَعُوذ بحُسنِ الصفحِ منكمْ وقَبْلَنا ... بِصفْحٍ وعفوٍ ما تعوّذ مُذْنب )
فكتب إليها أبو منصور الباخرزي
( لَئن أُهدِيَت عُتباكِ لي ولإخوتي ... فمِثلُك يا فضلَ الفضائلِ يُعتبُ )
( إذا اعتذر الجانِي محا العذرُ ذنبَه ... وكلُّ امرئ لا يَقْبل العُذْرَ مذنِبُ )
حدثني علي بن هارون بن علي بن يحي المنجم قال حدثني عمي عن جدي قال

قال لي المتوكل يوماً وفضل واقفة بين يديه يا علي كان بيني وبين فضل موعد فشربت شرباً فيه فضل فسكرت ونمت وجاءتني للموعد فحركتني بكل ما ينتبه به النائم من قَرص وتحريك وغمز وكلام فلم أنتبه فلما علمت أنه لا حيلة لها في كتبت رقعة ووضعتها على مخدتي فانتبهت فقرأتها فإذا فيها
( قد بَدا شِبْهك يا مولايَ ... يَحْدُو بالظلامِ )
( قُمْ بِنا نَقْضِ لُبناتِ ... التزامٍ والتثامِ )
( قَبْل أنْ تَفْضَحنا عَوْدةُ ... أرواحِ النِّيامِ )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
كانت فضل الشاعرة تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف وكانت شاعرة وكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلاً عليها ويهجوها مع فضل وكان القصيدي والحفصي يعينان خنساء على فضل وأبي شبل فقال أبو شبل على لسان فضل
( خنساءُ طِيري بجَنَاحَيْنِ ... أصبَحْتِ مَعْشوقَةَ نَذْلَيْن )
( مَن كان يهوَى عاشقاً واحداً ... فأنت تَهْوَيْنَ عَشيقَيْن )
( هذا القصيديّ وهذا الفتىالحفصي ... قد زاراكِ فَرْدَيْنِ )
( نَعِمْتِ من هذا وهذا كما ... يَنْعم خِنزير بحُشَّيْنِ )
فقالت خنساء تجيبها
( ماذا مَقالٌ لكِ يا فضلُ بَلْ ... مقالٌ خِنزيريْن فَرْدَينِ )
( يُكْنَى أبا الشبلِ ولو أبصَرَتْ ... عيناهُ شِبلاً راثَ كُرَّيْنِ )

وقالت فضل في خنساء
( إنّ خنساء لا جُعِلْتُ فِداها ... اشتراها الكَسَّارُ من مولاها )
( ولها نَكْهَةٌ يقول محاذيها ... أهذا حَدِيثها أم فُسَاها )
وقالت خنساء في فضل وأبي شبل
( تَقول له فضلٌ إذا ما تخوَّفتْ ... ركوبَ قبيح الذُلِّ في طلبِ الوصلِ )
( حِرُامْ فتىً لم يَلْقَ في الحبّ ذِلةُ ... فقلت لها لا بَلْ حِرُاَمِّ أبي الشبل )
وقالت خنساء تهجو أبا شبل
( ما يَنْقَضِي فِكْرِي وطولُ تَعجُّبي ... مِن نعجةٍ تُكْنَى أبَا الشبلِ )
( لَعِبَ الفحولُ بسُفْلها وعِجانها ... فتمرّدَت كتمرّدِْ الفحلِ )
( لما اكتَنْيتَ بما اكتنيتَ به ... وتَسَمَّتَ النقصانُ بالفضلِ )
( كادَتْ بِنا الدنيا تَمِيد ضحى ... ونَرَى السماء تَذُوبِ كالمُهْل )
قال فغضب أبو شبل لذلك ولم يجبها وقال يهجو مولاها هشاماً
( نِعْمَ مَأوَى العُزَّاب بَيتُ هشام ... حين يرمِي اللِّثامَ باغي اللثامِ )
( مَنْ أراد السرور عند حبيبٍ ... لِينالَ السرورَ تحت الظلامِ )
( فهشامٌ نَهارُه ودُجى الِليل ... سواءٌ نَفْسِي فِداءُ هشام )
( ذاك حرّ دواتُه ليس تخلو ... أبداً من تَخَرُّق الأقلام )

فضل وسعيد بن حميد
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال
زارت فضل الشاعرة سعيد بن حميد ليلة على موعد سبق بينهما فلما حصلت عنده جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها فقامت مبادرة فمضت فلما كان من غد كتب إليها سعيد
( ضَنَّ الزمانُ بها فلما نِلْتُها ... وَرَدَ الفِراقُ فكان أقبحَ وَارِدِ )
( والدّمعُ ينطق للضمير مصدِّقاً ... قولَ المُقرّ مكذِّباً للجاحدِ )
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثني ميسرة ابن محمد قال حدثني عبيد بن محمد قال
قلت لفضل الشاعرة للشاعرة ماذا نزل بكم البارحة قال وذلك في صبيحة قتل المنتصر المتوكل فقالت وهي تبكي
( إِنَّ الزمانَ بذحْلٍ كان يطلبنا ... ما كان أغفلَنا عنه وأسهانا )
( ما لي ولِلدهرِ قد أصبحْتُ هِمَّته ... ما لي ولِلدَّهرِ ما لِلدَّهْرِ لا كانا )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن الفضل قال حدثني أبو هفان قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال
خرجت قبيحة إلى المتوكل يوم نيروز وبيدها كأس بلور بشراب صاف فقال لها ما هذا فديتك قالت هديتي لك في هذا اليوم عرفك الله بركته فأخذه من يدها وإذا على خدها جعفر مكتوباً بالمسك فشرب الكأس وقبل خدها وكانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت

صوت
( وكاتِبةٍ بالمسك في الخَدِّ جعفرا ... بنَفْسي سواد المسكِ من حيثُ أثَّرا )
( لئن أثّرتْ بالمسك سطراً بِخَدِّها ... لقد أودعَتْ قلبي من الحزْن أسطُرا )
( فيا مَن مُناها في السريرة جعفرٌ ... سقى الله من سُقيا ثناياكِ جعفرا )
الغناء لعريب خفيف رمل قال وأمر عريب فغنت فيه وقالت فضل في ذلك أيضاً
( سُلافةٌ كالقمَر الباهرِ ... في قَدَح كالكوكب الزاهر )
( يُدِيرها خَشْفٌ كَبَدْرِ الدجَى ... فوق قضيبٍ أهيفٍ ناضرِ )
( على فتىً أروعَ من هاشم ... مثلِ الحسامِ المُرهَف الباتِرِ )
وقد رويت الأبيات الأول لمحبوبة شاعرة المتوكل ولها أخبار وأشعار كثيرة قد ذكرت بعضها في موضع آخر من هذا الكتاب
أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني أبو الفضل المروروذي قال كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد
( بَثَثْتُ هواك في بَدَني ورُوحي ... فأَلَّف فيهما طمعاً بِيَاسِ )
فأجابها سعيد في رقعتها
( كفانا اللهُ شرّ اليأس إني ... لِبُغض اليأس أُبغض كل آسي )
فضل وبنان
حدثني عمي قال حدثني ابن أبي المدور الوراق قال

كنت عند سعيد بن حميد وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل الشاعرة يتشعب وقد بلغه ميلها إلى بنان وهو بين المصدق والمكذب بذلك فأقبل على صديق له فقال أصبحت والله من أمر فضل في غرور أخادع نفسي بتكذيب العيان وأمنيها ما قد حيل دونه والله إن إرسالي إليها بعد ما قد لاح من تغيرها لذل وإن عدولي عنها وفي أمرها شبهه لعجز وإن تصبري عنها لمن دواعي التلف ولله در محمد بن أمية حيث يقول
( يا ليت شِعْريِ ما يكون جوابي ... أمَّا الرسُول فقد مضى بكتابي )
( وتعجّلتْ نفسي الظنونُ وأشْعِرَت ... طمعَ الحريصِ وخِيفَةَ المُرتْاب )
( وتروعني حركاتُ كلِّ محرِّك ... والبابُ يقرعه وليس ببابي )
( كَمْ نحوَ بابِ الدار لِي مِن وَثْبةٍ ... أرجو الرسولَ بمَطْمع كذّاب )
( والويلُ لي مِن بعدِ هذا كلِّه ... إن كان ما أخشاه ردَّ جوابي )
حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها فاعتذرت إليه فلم يقبل معذرتها فأنشدتني لنفسها في ذلك
( يا فضلُ صبراً إنها مِيتَةٌ ... يَجْرَعُها الكاذبُ والصادقُ )
( ظنَّ بُنانٌ أنني خُنتُه ... رُوحي إذاً مِن بَدَني طالقُ )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس المروزي قال
قال المتوكل لعلي بن الجهم قل بيتاً وطالب فضل الشاعرة بأن تجيزه فقال علي أجيزي يا فضل
( لاذَ بها يشتِكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا )
قال فأطرقت هنيهة ثم قالت

( فلم يزل ضارعاً إليها ... تَهْطِل أجفانُه رَذَاذَا )
( فعاتَبوه فزاد عِشقا ... فمات وجداً فكان ماذا )
فطرب المتوكل وقال أحسنت وحياتي يا فضل وأمر لها بمائتي دينار وأمر عريب فغنت في الأبيات
قال مؤلف هذا الكتاب أعرف في هذه الأبيات هزجاً لا أدري أهو هذا اللحن أم غيره ولم أره في أغاني عريب ولعله شذ عنها

صوت
( أُمامةُ لا أَراك اللّهُ ... ذل معيشة أَبداً )
( ألا تستصلحين فتى ... وقاك السوءَ قد فسدا )
( غلام كان أَهلُك مرّة ... يدعونه ولَداً )
الشعر لعبد الله بن محمد بن سالم الخياط والغناء للرطاب الجدي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وأحمد بن المكي
وذكر عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام عن قلم الصالحية

أنها أخذت اللحن المنسوب إلى الرطاب عن تينة وسألته عن صانعه فأخبرها أنه له

بسم الله الرحمن الرحيم
نسب ابن الخياط وأخباره
هو عبد الله بن محمد بن سالم بن يونس بن سالم ذكر الزبير بن بكار أنه مولى لقريش وذكر غيره أنه مولى لهذيل
وهو شاعر ظريف ماجن خليع هجّاء خبيث مخضرم من شعراء الدولة الأموية والعباسية وكان منقطعاً إلى آل الزبير بن العوام مدّاحاً لهم وقدم على المهدي مع عبد الله بن مصعب فأوصله إليه وتوصل له إلى أن سمع شعره وأحسن صلته

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يونس بن عبد الله بن سالم الخياط قال
دخل أبي على المهدي فمدحه فأمر له بخمسين ألف درهم فقال يمدحه
( أخذتُ بكفِّي كفه أبتغِي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعدي )
( فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أَفدتُ وأعداني فأتلفت ما عندي )
قال فبلغ المهديَّ خبره فأضعف جائزته وأمر بحملها إليه إلى منزله
قال الزبير بن بكار سرق ابن الخياط هذا المعنى من ابن هرمة
أخبرني الحسن بن علي الخفّاف قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثني مصعب بن عبد الله قال سمعت أبي يقول
لم يبرح هذه الثنية قطُّ أحد يقذف أعراض الناس ويهجوهم قلت مثل من قال الحزين الكناني والحكم بن عكرمة الدّؤلي وعبد الله بن يونس الخياط وابنه يونس وأبو الشدائد

عقوق ابنه يونس
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال

كان يونس بن الخياط عاقَّا لأبيه فقال أبوه فيه
( يونُس قلبي عليك يلتهفُ ... والعين عبرى دموعها تكِفُ )
( تُلحِفني كسوة العقوق فلا ... بَرِحَت منها ما عشتَ تلتحف )
( أُمرتَ بالخفضِ للجناح وبالرفق ... فأمسى يعُوقك الأنَف )
( وتلك والله من زبانية ... إن سُلِّطوا في عذابهم عَنُفوا )
فأجابه ابنُه يونس فقال
( أصبح شيخي يُزرِي به الخَرَف ... ما إن له حرمة ولا نَصَفُ )
( صِفاتنا في العقوق واحدة ... ما خلتُنا في العقوق نختلف )
( لحَفتَه سالفاً أَباك فقد ... أَصبحتَ مني كذاك تلتحف )
أخبرني محمد بن خلفٍ وكيع قال حدثني طلحةُ بن عبد الله قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال
مرّ ابن الخياط بدار رجل كان يعرفه قبل ذلك بالضعة وخساسة الحال وقد شيّد بابها وطرمح بناءها فقال
( أطِله فما طول البناء بنافع ... إذا كان فرع الوالدَين قصيرا )
أخبرني وكيع قال أخبرني إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن صالح قال أخبرني العامري قال

هجا ابن الخياط موسى بن طلحة بن بلال التيمي فقال
( عجب الناس لِلعجيب المُحالِ ... حاض موسى بنُ طلحةَ بنِ بلالِ )
( زعموه يحيض في كلّ شهر ... ويَرَى صُفرة لكل هلال )
قال فلقيه موسى فقال يا هذا وأي شيء عليك نعم حضت وحملت وولدت وأرضعت فقال له ابن الخياط أنشدك الله ألا يسمع هذا منك أحد فيجترئ على شعري الناس فلا يكون شيئاً ولن يبلغك عني ما تكره بعد هذا فتكافا
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني مصعب بن عثمان قال
ما رأيت بريق صلع الأشراف في سوق الرقيق أكثر منها يوم رحب القتيلية جارية إبراهيم بن أبي قتيلة وكان يعشقها وبيعت في دين عليه فبلغت خمسمائة دينار فقال المغيرة بن عبد الله لابن أبي قتيلة ويحك اعتقها فتقوم عليك فتتزوجها ففعل فرفع ذلك إلى أبي عمران وهو القاضي يومئذٍ فقال أخطأ الذي أشار عليه في الحكومة أما نحن في الحكومة فقد عرفنا أن قد بلغت خمسمائة دينار فاذهبوا فقوموها فإن بلغت القيمة أكثر من هذا ألزمناه وإلا فخذوا منه خمسمائة دينار فاستحسن هذا الرأي وليس عليه الناس قبلنا فقال ابن الخياط يذكر ذلك من أمر ابن أبي قتيلةوما كان من أمر جاريته
( يا معشر العشّاق مَن لم يكن ... مثل القُتَيليّ فلا يعشَقِ )
( لما رأى السُّوّام قد أحدقوا ... وصيح في المغرب والمَشرقِ )
( واجتمع الناس على دُرَّة ... نظيرها في الخَلْق لم يُخلَقِ )
( وأَبدَت الأموال أعناقها ... وطاحت العسرةُ للمملِق )

( قلَّب فيه الرأْي في نفسه ... يدير ما يأتي وما يتَّقي )
( أعتقها والنفس في شِدقها ... للمعتَق المَنّ على المُعْتِق )
( وقال للحاكم في أمرها ... إن افترقْنَا فمتى نلتقي )
وأخبرني بهذا الخبر وكيع قال قال الزبير بن بكار وذكر مثل ما ذكره الحرمي وزاد فيه
فكان فيهم يعني فيمن حضر لابتياعها موسى بن جعفر بن محمد ومحمد بن زيد بن علي والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر وغيرهم قال فرأيتهم قياماً في الشمس يتزايدون فيها وقال في خبره ابن أبي قتيلة بالتاء
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يونس بن عبد الله بن سالم الخياط قال
كنت ذات عشية في مسجد رسول الله وقت العصر في أيام الحاج فإذا أنا برجل جميل عليه مقطعات خز وإذا معه جماعة فوقف إلى جنبي فصلى ركعتين ثم أقبل علي وكان ذلك من أسباب الرزق فقال يا فتى أتعرف عبد الله بن سالم الخياط فقلت نعم فلما صلينا قال امض بنا إليه فمضيت به فاستخرجت له أبي من منزله فقال الرجل بلغني أنك قلت شعراً في أمر العصبية فقال له أبي ومن أنت بأبي أنت وأمي فقال أنا خزيم بن أبي الهيذام فقال له أبي نعم قد قلته وأنشده
( اسقياني من صِرف هذي المدام ... ودعاني وأقصرا من ملامي )

( واشربا حيث شئتما إن قيساً ... قد علا عزُّها فروعَ الأنام )
( ليس والله بالشآم يمانٍ ... فيه رُوح ولابغير الشآم )
( يَطعم النوم حين تَكتحل الأعين ... بالنوم عند وقت المنام )
( حَذراً من سيوف ضِرغامةٍ عادٍ ... على الهَول باسلٍ مقدام )
( من بَني مُرةَ الأطايبِ يكنى ... عند دَسر الرماح بالهَيذام )

يونس ينافس أباه على جائزة
قال فأشرع الفتى يده إليه بشيء وجزاه خيراً قال يونس فبادرت فأخذت بيد المري وقلت له لا تعجل فإني قد قلت شعراً أجود من شعره قال أبي ويلك يا يونس يا عاض بظر أمه تحرمني فقلت دع هذا عنك فوالله لا تجوع امرأتي وتشبع امرأتك فقلت ليونس ومن كانت امرأة أبيك يومئذٍ فقال أمي وجمعت والله عقوقهما فقال لي المري أنشد فأنشدته
( اسقياني يا صاحبيّ اسقياني ... ودعاني من الملام دعاني )
( اسقياني هُديتما من كُميتٍ ... بنْتِ عَشْرِ مشمولةٍ اسقياني )
( فُضّ عنها خِتامُها إذ سباها ... واضِحُ الخَد من بني عدنان )
( نَتَحايا بالكأْس أربعة في الدّور ... هذان ناعمان وذان )
( ذا لهذا رَيحانة مثل هذاك ... لهذا من طَيّب الريحان )

( فنهضنا لموعد كان منا ... إذ سمعنا تجاوب البُكْمان )
( فنعِمنا حولَين بَهْراً وعشنا ... بين دف ومسمع ودنان )
( ثم هِجنا للحرب إذ شبت الحرب ... ففرزنا فيها بسبق الرهان )
( إن قيسا في كل شرق وغرب ... خارج سَهمُها على السُّهمان )
( منع الله ضيمَنا بأَبي الهيذام ... حِلْفِ السماح والإحسان )
( واليمانون يفخرون أما يدرون ... أن النبيّ غيرُ يمان )
قال فقال الفتى لأبي قد وجب علينا من حقه مثلُ ما وجب علينا من معك يا شيخ واستظرف ما جرى بيني وبين أبي وقسم الدنانير بيننا وكانت خمسين ديناراً
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني الزبير قال
مر رجل بيونس بن عبد الله بن الخياط وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقاً به فقال له ويلك أتفعل هذا بأبيك وخلصه من يده ثم أقبل على الأب يعزيه ويسكن منه فقال له الأب يا أخي لا تلمه واعلم أنه ابني حقا والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه فانصرف عنه الرجل وهو يضحك

يشكو حاله إلى محمد بن سعيد
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن عمه عيسى قال
شكا عبد الله بن يونس الخياط إلى محمد بن سعيد بن المغيرة بن

نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حاله وضيقاً قد ناله فأمر له بدنانير وكسوة وتمر فقال يمدحه
( يا بن سعيد يا عَقيدَ الندى ... يا بارع الفضل على المُفضِلِ )
( حللتَ في الذَروة من هاشم ... وفي يَفاعٍ من بني نَوْفَل )
( فطاب في الفرعين هذا وذا ... ما اعتمّ من منصِبك الأطول )
( قد قلتُ للدهر وقد نالني ... بالناب والمِخلب والكَلكل )
( قد عذت من ضُرّك مستعصِماً ... بهاشمِيَّ ماجدٍ نوفلي )
( فقال لي أهلاً وسهلاُ معاً ... فُزْتَ ولم يمنع ولم يبَخل )
( الدهر شِقّان فيتقٌ له ... لين وشقٌ خَشِن المنزل )
( وأخشن الشقِّين عنِّي نفَى ... وشقُّه الألين ما عاش لي )
( فقال لهذا الدهر ما عاش لا ... تُبقِ ولا تَرُع ولا تأتلي )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال
أخذ أبي لما ولي الحجاز عبد الله بن يونس الخياط بأن يصلي الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد رسول الله فجاءني هو ومحمد بن الضحاك وجعفر بن الحسين اللهبي فوقف بين يدي ثم أنشدني
( قل للأمير يا كريم الجِنس ... يا خير من بالغَور أو بالجَلْس )
( وعُدّتي لولدي ونفسي ... شغلْتَني بالصلوات الخمس )

فقلت له ويلك أتريد أن أستعفيه لك من الصلاة والله ما يعفيك وإن ذلك ليبعثه على اللجاج في أمرك ثم يضرك عنده فمضى وقال نصبر إذن حتى يفرج الله تعالى
أخبرني محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا يونس بن الخياط قال
كان لأبي صديق وكان يدعوه ليشرب معه فإذا سكر خلع عليه قميصه فإذا صحا من غد بعث إليه فأخذه منه فقال أبي فيه
( كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزِعُه مني إذا كان صاحيا )
( فَلِي فَرحة في سُكره بقميصه ... وروعاته في الصحو حَصَّت شَواتيا )
( فيا ليت حظي من سروري وروعتي ... تكون كَفافاً لا عليَّ ولا ليا )

العقوق المتبادل
أخبرنا وكيعُ قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال
قال يونس بن عبد الله الخياط لأبيه وكان عاقا به
( مازال بي مازال بي ... طعنُ أبي في النسب )
( حتى تريّبْت وحتى ... ساء ظني بأبي )
قال ونشأ ليونس ابن يقال له دحيم فكان أعق الناس به فقال يونس فيه
( جلا دحيم عَماية الرِّيب ... والشكَّ مني والطعن في النسب )
( ما زال بي الظّنّ والتشكُّك حتى ... عقَّني مثلَ ما عقَقتُ أبي )

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يونس بن الخياط قال
أنشدت سعيد بن عمرو الزبيري
( لو فاح ريح حبيبةٍ من حِبِّها ... فاحت رياح حبيبتي من ريحي )
قال فقال لي سعيد بن عمرو والله إني لأقول النسيب فلا أقدر على مثل هذا فقلت له ومن أين تقدر على مثل هذا يا أبا عثمان لا تقدر والله على مثله حتى يسوء الثناء عليك
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني يونس بن الخياط قال
لما أعطي المهدي المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث شاء جاءه أبي عبد الله بن سالم وقال له
( ألف تدور على يدٍ لِمُمَدَّحٍ ... ما سُوقُ مادِحِه لديه بكاسد )
( الظنُّ مني لو فرضتَ لواحد ... في الأعجمين خصصتَني بالواحد )
قال فقال له المغيرة أَيهما أحب إليك أَأَفرض لك أم لابنك يونس فقال له أنا شيخ كبير هامةُ اليومُ أو غدٍ افرض لابني يونس ففرض لي في خمسين ديناراً فلما خرجت الأعطية الثلاثة في زمن الرشيد على يدي بكار بن عبد الله قال لي خليفته وخليفة أيوب بن أبي سمير وهما يعرضان أهل ديوان العطاء أنت من هذيل ونراك قد صرت من آل الزبير فنردك إلى فرائض هذيل خمسة عشر ديناراً فقال لهما بكار إنما جعلتما لتتبعا ولا

تبتدعا أمضياه فأعطياني مائة وخمسين ديناراً
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثنا ابن أبي قباحة الزهري قال
لما عزل ابن عمران وهو عبد الله بن محمد بن عمران التيمي عن القضاء واستعمل هشام بن عبد الله بن عكرمة المخزومي جزع ابن عمران من ذلك فقال بعض أصحابه ليونس بن عبد الله الخياط اهج هشاماً بما يغض منه فقال
( كم تَغنَّى لي هشام ... ذلك الجِلف الطويلُ )
( بعد وهْن وهو في المجلس ... سكرانُ يميلُ )
( هَل إلى نار بسَلْعٍ ... آخِرَ الدهْر سَبِيلُ )
( قلت للنَّدمان لما ... دارت الراحُ الشَمولُ )
( بأبي مالَ هِشامٌ ... فكما مال فمِيلُوا )
قال وشهرها في الناس وبلغ ذلك هشاماً فقال لعنه الله إن كان لكاذباً فقال ابن أبي قباحة فقلت لابن الخياط كذبت أما والله إنه لأمر من ذلك
أخبرنا وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال قال يونس بن عبد الله بن الخياط

جئت يوما إلى أبي وهو جالس وعنده أصحاب له فوقفت عليهم لأغيظه وقلت ألا أُنشِدكم شعراً قلته بالأمس قالوا بلى فأَنشدتهم
( يا سائِلي مَن أنَا أو من يناسبني ... أنا الذي ما لَه أصل ولا نسبُ )
( الكلب يختال فخراً حين يُبصرني ... والكلب أكرمُ مني حين ينَتسب )
( لو قال لي الناس طُرّاً أنت ألأمنا ... ما وَهِم الناس في ذاكمْ ولا كذبوا )
قال فوثب إليّ ليضربني وعدوت من بين يديه فجعل يشتمني وأصحابه يضحكون

عبد الله بن الخياط يجلد الحد
ّ
أخبرني وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود
أن مالك بن أنس جلد يونس بن عبد الله بن سالم الخياط حدّا في الشراب قال وولي ابن سعيد القضاء بالمدينة فقال يونس فيه
( بكَتْنِيَ النَّاسُ لأِنْ ... جُلِدتُ وسْط الرحَبَهْ )
( وأنني أزني وقدْ ... غنّيتُ في المجتسِبهْ )

( أعزِف فيهم بِعصا ... مالكٍ المقتضَبَهْ )
( فقلت لما أكثروا ... عليَّ فيم الجلبه )
( ذا ابن سعيد قد قضى ... وحالنا مقترِبه )
( لا بل له التفضيل فيما ... لم أنل والغلبه )
( بحُسن صوت مُطرب ... وزوجةٍ مَغْتَصَبَه )
أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء ووكيع قال الحرمي قال الزبير وقال وكيع قال الزبير بن بكار
أرسل إلي ابن الخياط يقول إني عليل منذ كذا وكذا ومنزلي على طريقك إذا صدرت إلى الثنية وأنا أحب أن أجدد بك عهداً قال فجعلته على طريقي فوجدته على فرش مضربة وحوله وسائد وهو مسجى فكشف ابنه الثوب عن وجهه وقال له فديتك هذا أبو عبد الله فقال له أجلسني فأجلسه وأسنده إلى صدره فجعل يقول بنفس منقطع بأبي أنت وأمي أموت منذ بضع عشرة ليلة ما دخل علي قرشي غيرك وغير الزبير بن هشام وإبراهيم بن المنذر ومحمد بن عبد الله البكري ولا والله ما أعلم أحداً أحب قريشاً كحبي قال زبير وذكر رجلاً كان بيني وبينه خلاف فقال لو كنت شاباً لفعلت بأمه كذا وكذا لا يكنى ثم قال
( والله لو عادَت بني مُصعَب ... حلِيلَتي قلت لَها بيني )
( أو ولدي عن حبِّسهم قصّروا ... ضَغطتهم بالرَّغم والهُون )
( أو نظرَتْ عيني خلافاً لهمْ ... فقأتها عَمداً بسكين )
ثم أقبل على ابنه فقَال يا بنّي أقول لك في أبي عبد الله مَا قَال ابن

هرمه لابنه في الحسن بن زيد
( الله جارُعُتيَّ دعوةً شفقَا ... من الزمَان وشرِّ الأقرب الوالي )
( من كل أحيدَ عنه لا يُقرِّبه ... وسْط النجيّ ولا في المجلس الخالي )
قال الزبير حدثني محمدُ بنُ عبد الله البكريّ
أنه دخل إليه بعدي في اليوم الذي مات فيه قال فقال لي يا أبا عبد الله أنا أجود بنفْسي منذ كذا وكذا ولا تخرج ما هكذا كانت نفْس عَبِيد ولا لَبِيد ولا الحطيئة ما هي إلا نفس كلب قال فخرجتُ فما أبعدت حتى سمعت الواعية عليه

صوت
( بأبي مالَكَ عنّي ... مائلَ الطرف كليلاً )
( وأرى بِرّك نَزْراً ... وتَحفّيك قليلاً )
( وتُسمِّيني عدواً ... وأسميك خليلاً )
( أتعلمّتَ سلُوّاً ... أم تبدلْت بديلاً )
( أحمَد الله فما أغنى ... الرّجا فيك فَتيلا )
الشعر لعلي بن جبلة والغناء لزرزور غلام المارقي خفيف رمل

بالبنصر من روايتي الهشامي وعبد الله بن موسى وفيه لعريب هزج وفيه ثقيل أول من جيد الغناء ينسب إليها وإلى علويه وهو بغنائها أشبه منه بغناء علويه

أخبار علي بن جبلة
هو علي بن جبلة بن عبد الله الأبناوي ويكنى أبا الحسن ويلقب بالعكوك من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد وبها نشأ وولد بالحربية من الجانب الغربي
وكان ضريراً فذكر عطاء الملط أنه كان أكمه وهو الذي يولد ضريراً وزعم أهله أنه عمي بعد أن نشأ
وهو شاعر مطبوع عذب اللفظ جزله لطيف المعاني مداح حسن التصرف واستنفد شعره في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي وزاد في تفضيلهما وتفضيل أبي دلف خاصة فضل من أجله ربيعة على مضر وجاوز الحد في ذلك

فيقال إن المامون طلبه حتى ظفر به فسل لسانه من قفاه ويقال بل هرب ولم يزل متوارياً منه حتى مت ولم يقدر عليه وهذا هو الصحيح من القولين والآخر شاذ
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي قال حدثني الحسين بن عبد الله بن جبلة بن علي بن جبلة قال
كان لجدي أولاد وكان علي أصغرهم وكان الشيخ يرق عليه فجدر فذهبت إحدى عينيه في الجدري ثم نشأ فأسلم في الكتاب فحذق بعض ما يحذقه الصبيان فحمل على دابة ونثر عليه اللوز فوقعت على عينيه الصحيحة لوزة فذهبت فقال الشيخ لولده أنتم لكم أرزاق من السلطان فإن أعنتموني على هذا الصبي وإلا صرفت بعض أرزاقكم إليه
فقلنا وما تريد قال تختلفون به إلى مجالس الذب قال فكنا نأتي به مجالس العلم ونتشاغل نحن بما يلعب به الصبيان فما أتى عليه الحول حتى برع وحتى كان العالم إذا رآه قال لمن حوله أوسعوا للبغوي وكان ذكياً مطبوعاً فقال الشعر وبلغه أن الناس يقصدون أبا دلف لجوده وما كان يعطي الشعراء فقصده وكان يسمى العكوك فامتدحه بقصيدته التي أولها
( ذاد وِرْدَ الغيَّ عن صدره ... وارعوى واللهوُ من وَطَره )
يقول فيها في مدحه
( يا دواءَ الأرض إن فسدَت ... ومُديلَ اليُسر من عُسُره )
( كلّ مَن في الأرض من عَرَب ... بين باديه إلى حَضَره )
( مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يومَ مُفتَخَره )

( إنما الدنيا أبو دُلف ... بين مَبْداه ومحتضَره )
( فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولّت الدنيا على أَثَره )

امتحنوه فقال قصيدة في وصف الفرس
فلما وصل إلى أبي دلف وعنده من الشعراء وهم لا يعرفونه استرابوه بها فقال له قائده إنهم قد اتهموك وظنوا أن الشعر لغيرك فقال أيها الأمير إن المحنة تزيل هذا قال صدقت فامتحنوه فقالوا له صف فرس الأمير وقد أجلناك ثلاثاً قال فاجعلوا معي رجلاً تثقون به يكتب ما أقول فجعلوا معه رجلاً فقال هذه القصيدة في ليلته وهي
( رِيعت لمنشور على مَفرِقهِ ... ذمّ لها عهد الصِّبا حين انتسبْ )
( أهدابُ شَيبٍ جُددٌ في رأْسه ... مكروهةُ الجِدّة أنضاء العُقَب )
( أشرقن في أسوَدَ أزرايْن بِه ... كانَ دُجاه لهوى البِيض سبب )
( واعتقن أيامَ الغواني والصِّبا ... عن ميِّت مطلبُه حيُّ الأدبْ )
( لم يزدجٍر مُرْعوياً حين ارعوى ... لكنْ يدٌ لم تتصل بمطّلب )
( لم أَرَ كالشيب وقاراً يُجتَوَى ... وكالشبَّاب الغضّ ظِلاَّ يُسْتلَب )
( فنازلٌ لم يُبتَهج بِقُربه ... وذاهب أبقى جوىً حين ذهب )
( كان الشباب لِمّة أُزهَى بها ... وصاحباً حرّاً عزيز المصطَحَب )
( إذ أنا أجري سادراً في غيه ... لا أُعتب الدهر إذا الدهر عتب )

( أُبْعِدُ شأوَ اللهو في إجرائه ... وأقصد الخَودَ وراء المحتَجب )
( وأذعَرُ الرَّبربَ عن أطفاله ... بأعوجيِّ دُلَفِيّ المنتسَب )
( تحسبه من مَرَح العزِّ به ... مستنفَراً بروعة أو ملتهِب )
( مُرتَهِج يرتجُّ من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب )
( تحسبه أُقعد في استقباله ... حتى إذا استدبرته قلتَ أكبُّ )
( وهْو على إرهاقه وطيه ... يقصر عنه المِحزَمان واللّبْب )
( تقول فيه حَنبٌ إذا انثنى ... وهو كمتن القِدح ما فيه حَنب )
( يخطو على عُوج تناهبن الثرى ... لم يتواكل عن شظىً ولا عصب )
( تَحسِبها ناتئة إذا خطت ... كأنها واطئة على الرُّكَب )
( شَتَا وقاظ بُرْهَتَيْهِ عندنا ... لم يؤتَ من بِرٍّ به ولا حدَب )
( يصان عصرَى حرِّه وقُرّه ... وتُقصَرُ الخُور عليه بالحَلَب )
( حتى إذا تمَّت له أعضاؤه ... لم تنحبس واحدة على عتَب )

( رُمنا به الصيد فرادَينا بِه ... أوابد الوحش فأَجدى واكتسَب )
( مُجَذّم الجري يباري ظلَّه ... ويُعرِق الأحقبَ في شوط الخبب )
( إذا تظنينا به صدقنا ... وإن تظنى فوته العير كذب )
( لا يبلغ الجهد به راكبُه ... ويَبلُغ الريحَ به حيث طَلب ) (
لا يَبلُغ الجهدَ به ركبُه ... ويَبلُغ الريحَ به حيث طَلب )
( ثم انقضى ذاك كأن لم يَعنِه ... وكلّ بقيا فإلى يومِ عطَب )
( وخلفَ الدهرُ على أبنائه ... بالقَدْح فيهم وارتجاع ما وهب )
( فحَمِّل الدهر ابن عيسى قاسماً ... ينهضْ به أبلجُ فرّاجُ الكرَب )
( كرونق السيف انبلاجاً بِالندى ... وكغِرارَيه على أهل الرِّيَب )
( ما وسِنت عين رأت طلعَتَهُ ... فاستيقظت بنَوْبة من النُّوبَ )
( لولا ابنُ عيسى القَرْمُ كنّا همَلاً ... لم يؤتَثلْ مجد ولم يُرعَ حسب )
( ولم يقم في يوم بأْس وندىً ... ولا تلاقى سبب إلى سبب )
( تكاد تبدي الأرض ما تضمره ... إذا تداعَت خيله هَلاَ وهَب )
( ويستَهِلُّ أملاً وخيفة ... جانبُها إذا استهلَّ أو قَطب )
( وهْو وإن كان ابن فرعَيْ وائل ... فبِسماعيه يوافي في الحسب )
( وبعُلاه وعُلا آبائه ... تُحوى غداة السبق أخطارُ القصب )

( يا زهرة الدنيا ويا باب الندى ... ويا مجير الرُّعب من يوم الرَّهب )
( لولاك ما كان سدىً ولا ندى ... ولا قريش عُرفَت ولا العرب )
( خذها إليك من مليء بالثنا ... لكنه غير مليء بالنَشَب )
( فاثْوِ في الأرض أو استفزز بها ... أنت عليها الرأس والناس الذنب )
قال فلما غدا عليه بالقصيدة وأنشده إياها استحسنها مَن حضر وقالوا نشهد أن قائل هذه قائل تلك فأعطاه ثلاثين ألف درهم
وقد قيل إن أبا دلف أعطاه مائة ألف درهم ولكن أراها في دفعات لأنه قصده مراراً كثيرة ومدحه بعدة قصائد

قصيدته في أبي دلف
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال قال عبد الله بن مالك
قال المأمون يوماً لبعض جلسائه أقسم على من حضر ممن يحفظ قصيدة علي بن جبلة الأعمى في القاسم بن عيسى إلا أنشدنيها فقال له بعض الجلساء قد أقسم أمير المؤمنين ولا بد من إبرار قسمه وما أحفظها ولكنها مكتوبة عندي
قال قم فجئني بها فمضى وأتاه بها فأنشده إياها وهي
( ذاد وِرْد الغيّ عن صدَرِهْ ... وارعوى واللهو مِن وَطرهْ )

( وأبت إلا البكاءَ له ... ضحكات الشيب في شعَره )
( نَدمِي أن الشباب مضى ... لم أُبلّغه مدى أَشَره )
( وانقضت أيامه سَلَماً ... لم أجِد حَوْلاً على غِيره )
( حَسَرت عني بشاشتُه ... وذوَى المحمود من ثمره )
( ودَمٍ أهدرْتُ من رَشاءٍ ... لم يُرِد عَقلاً على هدَره )
( فأتت دون الصّبا هنةٌ ... فليت فُوقي على وتره )
( جارتا ليس الشباب لمن ... راح محنيَّا على كبره )
( ذهبَت أشياء كنت لها ... صارَها حِلمي إلى صَوره )
( دع جَدا قحطان أو مُضرٍ ... في يمانيه وفي مضره )
( وامتدح من وائل رجلاً ... عَصَرُ الآفاق في عَصَره )
( المنايا في مناقبه ... والعطايا في ذَرا حُجَره )
( ملِك تَندَى أنامله ... كانبلاج النَّوء من مطره )
( مستهِلّ عن مواهبه ... كابتسام الروض عن زَهَره )
( جبَلٌ عزّت مناكبه ... أمِنتْ عدنان في ثَغَره )
( إنما الدنيا أبو دُلف ... بين مَبداه و محتضَره )
( فإذا ولّى أبو دُلف ... ولّت الدنيا علَى أثره )

( لست أدري ما أقول له ... غير أن الأرض في خَفَره )
( يا دواءَ الأرض إن فسدَت ... ومُديل اليُسر من عسُره )
( كلّ من في الأرض من عربٍ ... بين باديه إلى حضره )
( مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخَره )
يقول فيها
( وزَحوف في صواهله ... كصياح الحشر في أثره )
( قُدْتَه والموت مكتمِنٌ ... في مذاكيه ومشتجَره )
( فرمَت جيلويه منه يد ... طوت المنشور من نظره )
( زرتَه والخيل عابسة ... تحمل البؤس عَلَى عُقَره )
( خارجات تحت رايتها ... كخروج الطير من وُكَره )
( وعَلَى النعمان عُجتَ به ... عَوجةً ذادته عن صَدره )
( غمَط النعمان صفوتها ... فَرددتَ الصفو في كدره )
( ولقُرقورٍ أدرتَ رحاً ... لم تكن ترتد في فِكرَه )
( قد تأنيتَ البقاءَ له ... فأبَى المحتومُ من قدَره )
( وطغى حتى رَفَعت له ... خطة شنعاء من ذُكَره )
قال فغضب المأمون واغتاظ وقال لست لأبي إن لم أقطع لسانه أو أسفك دمه
قال ابن أبي فنن وهذه القصيدة قالها علي بن جبلة وقصد بها أبا دلف بعد قتله الصعلوك المعروف بقرقور وكان من أشد الناس بأساً وأعظمهم

فكان يقطع هو وغلمانه على القوافل وعلى القرى وأبو دلف يجتهد في أمره فلا يقدر عليه فبينا أبو دلف خرج ذات يوم يتصيد وقد أمعن في طلب الصيد وحده إذا بقرقور قد طلع عليه وهو راكب فرساً يشق الأرض بجريه فأيقن أبو دلف بالهلاك وخاف أن يُولي عنه فيهلك فحمل عليه وصاح يا فتيان يمنة يمنة يوهمه أن معه خيلاً قد كمنها له فخافه قرقور وعطف على يساره هارباً ولحقه أبو دلف فوضع رمحه بين كتفيه فأخرجه من صدره ونزل فاحتز رأسه وحمله على رمحه حتى أدخله الكرج
قال فحدثني من رأى رمح قرقور وقد أدخل بين يديه يحمله أربعة نفر فلما أنشده علي بن جبلة هذه القصيدة استحسنها وسر بها وأمر له بمائة ألف درهم
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي

قال أخبرني إبراهيم بن خلف قال
بينا أبو دلف يسير مع أخيه معقل وهما إذ ذاك بالعراق إذ مرّاً بأمرأتين تتماشيان فقالت إحداهما لصاحبتها هذا أبو دلف قالت ومن أبو دلف قالت الذي يقول فيه الشاعر
( إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين باديه ومحتضَره )
( فإذا ولّى أبو دُلَف ... ولّت الدنيا عَلَى أثره )
قال فاستعبر أبو دلف حتى جرى دمعه قال له معقل مالك يا أخي تبكي قال لأني لم أقض حق علي بن جبلة قال أو لم تعطه مائة ألف درهم لهذه القصيدة قال والله يا أخي ما في قلبي حسرة تقارب حسرتي على أني لم أكن أعطيته مائة ألف دينار والله لو فعلت ذلك لما كنت قاضياً حقه
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال
أنشدت أبا تمام قصيدة علي بن جبلة البائية فلما بلغت إلى قوله
( وردّ البِيضَ والبِيضَ ... إلى الأغْماد والحُجُب )
اهتز أبو تمام من فرقه إلى قدمه ثم قال أحسن والله لوددت أن لي هذا البيت بثلاث قصائد من شعري يتخيرها وينتخبها مكانه
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو نزار

الضبي الشاعر قال
قال لي علي بن جبلة قلت لحميد بن عبد الحميد الطوسي يا أبا غانم إني قد مدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض فاذكرني له قال فأنشدني فأنشدته قال أشهد أنك صادق ما يحسن أحد أن يقول هكذا وأخذ المديح فأدخله إلى المأمون فقال له يا حميد الجواب في هذا واضح إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثواباً لمديحه وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف وبين شعره فينا فإن كان الذي قاله فيكما أجود ضربنا ظهره وأطلنا حبسه وإن كان الذي قاله فينا أجود أعطيناه لكل بيت ألف درهم وإن شاء أقلناه
فقلت له يا سيدي ومن أنا ومن أبو دلف حتى يمدحنا بأجود من مديحك فقال ليس هذا الكلام من الجواب في شيء فاعرض ما قلت لك على الرجل
فقال أفعل
قال علي بن جبلة فقال لي حميد ما ترى فقلت الإقالة أحب إلي فأخبر المأمون بذلك
فقال هو أعلم ثم قال لي حميد يا أبا الحسن أي شيء يعني من مدائحك لي ولأبي دلف فقلت قولي فيك
( لولا حُمَيدٌ لم يكن ... حسب يُعَد ولا نسبْ )
( يا واحد العَرب الذي ... عَزَّت بعزّته العرب )
وقولي في أبي دلف
( إنما الدنيا أبو دُلَف ... بين بادية ومحتضَره )
( فإذا ولّى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
قال فأطرق حُميد ثم قال لقد انتقد عليك أمير المؤمنين فأجاد وأمر لي بعشرة الآف درهم وخلعة وفرس وخادم وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية وكان ذلك في ستر منهما ما علم به أحد خوفاً من المأمون حتى حدثتك به يا أبا نزار

أبو دلف يبره ويفرط
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني علي بن القاسم قال قال لي علي بن جبلة
زرت أبا دلف فكنت لا أدخل إليه إلا تلقاني ببره وأفرط فلما أكثر قعدت عنه حياء منه فبعث إلي بمعقل أخيه فأتاني فقال لي يقول لك الأمير لم هجرتنا لعلك استبطأت بعض ما كان مني فإن كان الأمر كذلك فإني زائد فيما كنت أفعله حتى ترضى فدعوت من كتب لي وأمللت عليه هذه الأبيات ثم دفعتها إلى معقل وسألته أن يوصلها وهي
( هجَرْتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يُرتجَى نَيل الزيادة بالكفر )
( ولكنني لما أتيتُك زائراً ... فأَفرطت في بِري عجزت عن الشكر )
( فهأنا لا آتيك إلا مسلّماً ... أزورك في الشهرين يوماً وفي الشهر )
( فإن زدتني براً تزايدت جَفوة ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشر )
قال فلما سمعها معقل استحسنها جداً وقال جودت والله أما أن الأمير ليعجب بمثل هذه الأبيات فلما أوصلها إلى أبي دلف قال لله دره ما أشعره وما أرق معانيه ثم دعا بدواة فكتب إلي
( ألا ربّ ضيفٍ طارق قد بسطتُه ... وآنستُه قبل الضيافة بالبِشر )
( أتاني يرجِّيني فما حال دونه ... ودون القرى من نَائلي عنده سِتري )
( وجَدتُ له فضلاً عليَّ بقصده ... إليَّ وبِرّاً يستحق به شكري )
( فلم أعدُ أن أدنيتُه وابتدأْتهُ ... ببشر وإكرام وبرٍّ علي بِرِّ )
( وزوّدتُه مالاً قليل بقاؤه ... وزوّدني مدحاً يدوم على الدهر )
ثم وجّه بهذه الأبيات مع وصيف يحمل كيساً فيه ألف دينار فذلك حيث قلت له

( إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين باديه ومحتضَره )
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أمد بن القاسم قال حدثني نادر مولانا
أن علي بن جبلة خرج إلى عبد الله بن طاهر والي خراسان وقد امتدحه فلما وصل إليه قال له ألست القائل
( إنما الدنيا أبو دُلَف ... بين بادية ومحتضَره )
( فإذا ولَّى أبو دُلَف ... ولّت الدنيَا على أثره )
قال بلى قال فما الذي جاء بك إلينا وعدل بك عن الدنيا التي زعمت أرجع من حيث جئت فارتحل ومر بأبي دُلَف وأعلمه الخبر فأعطاه حتى أرضاه قال نادر فرأيته عند مولاي القاسم بن يوسف وقد سأله عن خبره فقال
( أبو دلف إن تلقه تلقَ مَاجداً ... جواداً كريماً راجح الحلم سيدا )
( أبو دُلَف الخَيراتِ أنداهُمُ يداً ... وأبسط معروفاً وأكرم محتِدا )

( تراث أبيه عن أبيه وجدَّه ... وكلّ امرىءٍ يجري على ما تعودا )
( ولست بِشَاكٍ غيره لنقيصة ... ولكنما الممدوح من كان أمجداً )

علي بن جبلة وحميد الطوسي
قال مؤلف هذا الكتاب والأبيات التي فيها الغناء المذكورة بذكرها أخبار أبي الحسن علي بن جبلة من قصيدة له مدح بها حميداً الطوسي ووصف قصره على دجلة وقال فيها بعد الأبيات التي فيها الغناء
( ليس لي ذنب سوى أنّي ... أسميك خليلا )
( وأُناديك عزيزاً ... وتناديني ذليلا )
( أنا أهواك وحاليَك ... صَروماً ووَصولاً )
( ثِق بوُدَّ ليس يفنى ... وبعهدٍ لن يحولا )
( جعل الله حُميداً ... لبني الدنيا كفيلا )
( ملِك لم يجعل الله ... فيهم عديلا )
( فأقاموا في ذَراه ... مطمئنين حُلولا )
( لا ترى فيهم مُقِلاَّ ... يسأل المُثري فُضولا )
( جاد بالأموال حتى ... علّم الجود البخيلا )
( وبنَى الفخر على الفخر ... بناء مستطيلا )
( صار للخائف أمناً ... وعلى الجُود دليلا )
ولما مات حميد الطوسي رثاه بقصيدته العينية المشهورة وهي من نادر الشعر وبديعه وفي أولها غناء من الثقيل الأول يقال إنه لأبي العبيس ويقال إنه للقاسم بن زرزور

( ألِلدهر تبكي أم على الدهر تجزع ... وما صاحب الأيام إلا مفجّعُ )
( ولو سَهَّلَت عنك الأُسا كان في الأُسا ... عزاءُ مُعَزَّ للبيب ومقنَعُ )
( تعرَّ بما عزَّيتَ غيرك إنها ... سهام المنايا حائمات ووُقّع )
( أصبنا بيوم في حُمَيدٍ لو أنه ... أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع )
( وأدَّبَنا ما أدب الناسَ قبلنا ... ولكنه لم يَبْقَ للصبر موضع )
( ألم تر للأَيام كيف تصرَّمت ... به وبه كانت تُذادُ وتُدْفع )
( وكيف التقى مثوىً من الأرض ضيق ... على جبل كانت به الأرض تُمنع )
( ولما انقضَت أيامه انقضت العلا ... وأضحى به أنف النَدى وهو أجدع )
( وراح عدوّ الدِّين جَذلان ينتحي ... أمانيّ كانت في حَشاه تقطع )
( وكان حُمَيد معقِلاً ركَعت به ... قواعدُ ما كانت على الضيم تَركع )
( وكنتُ أراه كالرزايا رُزِئْتُها ... ولم أدْرِ أن الخلق يبكيه أجمع )
( حِمام رماه من مواضع أمنه ... حِمامٌ كذاك الخطب بالخطب يُقدع )
( وليس بِغَزْوٍ أن تصيب منية ... حِمى أختها أو أ ن يذلّ المُمنَّع )
لقد أدركت فينا المنايا بثارها ... وحلّت بخطب وَهْيُه ليس يُرقَع )
( نَعاءِ حُمَيداً للسرايا إذا غدت ... تذاد بأطراف الرماح وتوزع )
( وللمُرهَق المكروبِ ضاقت بأمره ... فلم يَدر في حَوماتها كيف يصنع )

( وللبِيض خلَّتها البُعول ولم يَدع ... لها غيرَه داعي الصباح المفزَّع )
( كأن حُمَيداً لم يُقد جيش عسكر ... إلى عسكر أشياعه لا تُروَّع )
( ولم يبعث الخيل المغيرة بالضحا ... مِراحاً ولم يرجع بها وهي ظُلَّع )
( رواجع يحملن النِّهَاب ولم تكن ... كتائبه إلا على النهب ترجع )
( هوَى جبلُ الدنيا المنيعُ وغيثها المَريع ... وحاميها الكميّ المشيع )
( وسيفُ أمير المؤمنين ورمحه ... ومفتاح باب الخطب والخطب أفظع )
( فأقنعه من مُلكه ورِباعه ... ونائِله قفر من الأرض بلقَع )
( على أيّ شجو تشتكي النفس بعده ... إلى شجوه أو يَذخَر الدمعَ مَدمع )
( ألم تر أن الشمس حال ضياؤها ... عليه وأضحى لونها وهو أسفع )
( وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها ... وأجدب مرعاها الذي كان يَمرَع )
( وقد كانت الدنيا به مطمئنة ... فقد جعلت أوتادها تتقلع )
( بكى فقدَه رَوح الحياة كما بكى ... نَداة الندَى وابنُ السبيل المدفّع )
( وفارقت البيضُ الخدور وأبرزت ... عواطل حسرَى بعده لا تَقنّع )
( وأيقظ أجفاناً وكان لها الكرى ... ونامت عيون لم تكن قبلُ تَهجع )
( ولكنه مقدار يوم ثوى به ... لكل امرىء منه نِهال ومَشرَع )
( وقد رأَب الله المَلا بمحمد ... وبالأصل ينَمِي فرعُه المتفرع )
( أغرّ على أسيافه ورماحه ... تُقسَّم أنفال الخميس وتُجمع )

( حوى عن أبيه بذلَ راحته الندى ... وطعن الكُلى والزاعبية شرّع )
وإنما ذكرت هذه القصيدة على طولها لجودتها وكثرة نادرتها وقد أخذ البحتريّ أكثر معانيها فسلخه وجعله في قصيدتيه اللتين رثى بهما أبا سعيد الثغري
( انظر إلى العلياء كيف تضام ... )
( بأي أسى تثني الدموع الهوامل ... )
وقد أخذ الطائي أيضاً بعض معانيها ولولا كراهة الإطالة لشرحتُ المواضع المأخوذة وإذا تأمل ذلك منتقد بصير عرفه
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو وائلة قال قال رجل لعلي بن جبلة
ما بلغت في مديح أحد ما بلغته في مديحك حميداً الطوسي
فقال وكيف لا أفعل وأدنى ما وصل إلي منه أني أهديت له قصيدة في يوم نيروز فسر بها وأمر أن يحمل إلي كل ما أهدي له فحمل إلي ما قيمته مائتا ألف درهم وأهديت له قصيدة في يوم عيد فبعث إلي بمثل ذلك قال أبو وائلة
وقد كان حميد ركب يوم عيد في جيش عظيم لم ير مثله فقال علي بن جبلة يصف ذلك

( غدا بأمير المؤمنين ويُمْنِه ... أبو غانم غَدْوَ الندى والسحائِب )
( وضَاقت فِجَاج الأرض عن كل موكب ... أحَاط به مستعلياً للمواكب )
( كأن سُموّ النَّقع والبَيضُ فوقهم ... سماوة ليل فُرّنَت بالكواكب )
فكانَ لأهل العِيد عيد بُنُسكهم ... وكان حُمَيد عيدَهم بالمواهب )
( ولولا حُمَيد لم تَبَلَّج عن الندى ... يمين ولم يدرك غنى كسب كاسب )
( ولو ملك الدنيا لما كان سائل ... ولا اعتام فيها صاحب فضل صاحب )
( له ضِحكة تستغرق المال بالندى ... على عبسةٍ تُشجي القنا بالترائب )
( ذهبَت بأيام العلا فَارداً بهَا ... وصرَّمتَ عن مسعَاك شأو المطَالِب )
( وعَدَّلت مَيل الأرض حتى تعدلت ... فلم يَنأ منهَا جانب فوق جانِب )
( بَلغت بأدنى الحزم أبعد قُطرُهَا ... كأنك منَها شَاهد كلَّ غائِب )
قال والتي أهداهَا له يوم النيروز قصيدته التي فيها
( حُمَيدُ يا قاسِمَ الدنَيا بِنَائله ... وسَيفِه بين أهل النَّكث وَالدِّينِ )
( أنت الزمَان الذي يجري تصرّفه ... على الأنَام بتشديد وَتَليين )
( لو لم تكن كانت الأَيَّام قد فَنِيت ... والمكرمَاتُ وَمَاتَ المجد مُذ حين )
( صورَّك الله من مجد ومن كرم ... وصوَّر النَّاس من مَاء وَمن طين )
نسخت من كتاب بخط محمد بن العباس اليزيديّ

قال أحمد بن إسماعيل الخصيب الكاتب دخل علي بن جبلة يوماً إلى أبي دلف فقال له هات يا علي ما معك
فقال إنه قليل فقال هاته فكم من قليل أجود من كثير فأنشده
( الله أجرى من الأرزاق أكثرَها ... على يديك فشكراً يا أبا دُلفِ )
( أعطى أبو دُلَف والريح عاصفة ... حتى إذا وَقَفَت أعطى ولم يقف )
قال فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما كان بعد مدة دخل إليه فقال له هات ما معك فأنشده
( مِن مَلَكَ الموت إلى قاسم ... رسالةُ في بطن قِرطاس )
( يا فارس الفُرسان يوم الوغى ... مُرْني بمن شئتَ من الناس )
قال فأمر له بألفي درهم وكان قد تطير من ابتدائه في هذا الشعر فقال ليست هذه من عطاياك أيها الأمير فقال بلغ بها هذا المقدارَ ارتياعنا من تحمّلك رسالةَ ملك الموت إلينا
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثني علي بن جبلة العكوك المروزي قال
جاءني أبو يعقوب الخزيمي فقال لي إن لي إليك حاجة قلت وما هي قال تهجو لي الهيثم بن عدي
فقلت ومالك أنت لا تهجوه وأنت

شاعر فقال قد فعلت فما جاءني شيء كما أريد فقلت له كيف أهجو رجلاً لم يتقدم إلي منه إساءة ولا له إلي جرم يحفظني فقال تقرضني فإني ملي بالقضاء قلت نعم فأمهلني اليوم فمضى وغدوت عليه فأنشدته
( لِلهَيثم بنِ عديٍّ نِسبة جمعت ... آباءه فأراحتنا من العدد )
( أعدُد عدِيًّا فلو مدّ البقاء له ... ما عُمِّر الناسُ لم يَنقص ولم يزد )
( نفسي فداء بني عبد المدان وقد تلَّثوه للوجه واستعلَوْه بالعمد )
( حتى أزالوه كرهاً عن كريمتهم ... وعرّفوه بدُلٍّ أين أصل عدي )
( يا بنَ الخبيثة من أهجو فأَفضحَه ... إذا هجوتُ وما تُنمى إلى أحد )
قال وكان الهيثم قد تزوج إلى بني الحارث بن كعب فركب محمد بن زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي أخو يحيى بن زياد ومعه جماعة من أصحاب الحارثيين إلى الرشيد فسألوه أن يفرق بينهما فقال الرشيد أليس هو الذي يقول فيه الشاعر

( إذا نسبتَ عدياً في بني ثُعلٍ ... فقدّم الدال قبل العين في النسب )
قالوا بلى يا أمير المؤمنين قال فهذا الشعر من قاله قالوا هو لرجل من أهل الكوفة من بني شيبان يقال له ذهل بن ثعلبة فأمر الرشيد داود بن يزيد أن يفرق بينهما فأخذوه فأدخلوه داراً وضربوه بالعصي حتى طلقها

علي بن جبلة وعبد الله بن طاهر
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن الحسن بن الخصيب قال
شخص علي بن جبلة إلى عبد الله بن طاهر والي خراسان وقد مدحه فأجزل صلته واستأذنه في الرجوع فسأله أن يقيم عنده وكان بره يتصل عنده فلما طال مقامه اشتاق إلى أهله فأنشده
( راعه الشيبُ إذ نزلْ ... وكفاه من العذَلْ )
( وانقضت مدة الصبا ... فانقضى اللهو والغزل )
( قد لعمري دَمَلْتُه ... بخضاب فما اندمل )
( فابك للشيب إذ بدا ... لا على الرَّبع والطلل )
( وصَلَ الله للأمير ... عُرا الملك فاتصل )
( ملك عزْمه الزمان ... وأفعاله الدولْ )
( كِسرويّ بمَجده ... يَضرب الضاربُ المثل )
( وإلى ظِلّ عزّه ... يلجأُ الخائف الوجِل )
( كلُّ خَلق سوى الإمام ... لإنعامه خوَل )
( ليته حين جاد لي ... بالغنى جاد بالقَفَل )
قال فضحك وقال أبيت إلا أن توحشنا وأجزل صلته وأذن له

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو وائلة السدوسي قال
دخل علي بن جبلة العكوك على حميد الطوسي في أول يوم من شهر رمضان فأنشده
( جعل الله مَدخل الصوم فوزاً ... لحميد ومتعة في البقاءِ )
( فهْو شهرُ الربيع للقُرّاء ... وفراقُ النّدمان والصهباءِ )
( وأَنا الضامنُ المليُّ لمَن عاقرها ... مفطراً بطول الظَّماءِ )
( وكأني أَرى النَّدامَى على الخسف ... يُرجّون صبحهم بالمساء )
( قد طَوى بعضُهم زيارة بعض ... واستعاضوا مصاحفاً بالغناء )
يقول فيها
( بِحُميد وأين مثلُ حميد ... فخرَت طيّئٌ على الأحياء )
( جوده أظهر السماحة في الأرضِ ... وأغنى المُقوِي عن الإقواء )
( ملِك يأمُل العباد نداه ... مثلَ ما يأمُلون قَطْر السماء )
( صاغه الله مطعِمَ الناس في الأرض ... وصاغ السحاب للإسقاء )
قال فأمر له بخمسة آلاف درهم وقال استعن بهذه على نفقة صومك ثم دخل إليه ثاني شوال فأنشده
( علّلاني بصفو ما في الدّنان ... واتركا ما يقوله العاذلان )
( واسبقا فاجع المنيّة بالعيش ... فكلُّ على الجَديدين فاني )

( عللاني بشَربةٍ تُذهب الهَمّ ... وتنفي طوارق الأحزان )
( وانفُثا في مسامعٍ سدّها الصوم ... رُقى الموصليّ أو دَحْمان )
( قد أتانا شوال فاقتبل العيش ... وأَعدَى قسراً على رمضان )
( نِعم عون الفتى على نوَب الدهر ... سماعُ القيان والعِيدان )
( وكؤوسٌ تجري بماء كُروم ... ومطيُّ الكؤوس أيدي القيان )
( من عُقار تُميت كلُّ احتشامٍ ... وتَسُرّ النَّدمان بالنَّدمان )
( وكأنَّ المِزاج يقدح منها ... شراراً في سبائك العِقيان )
( فاشرب الرِاح واعصِ مَنْ لام فيها ... إنها نعم عُدة الفِتيان )
( واصحب الدهر بارتحال وحَلّ ... لا تخف ما يجُرّه الحادثان )
( حسْب مستظهِرعلى الدهر ركناً ... بِحُميد رِداءاً من الحِدثان )
( مِلك يقتني المكارم كنزاً ... وتراه من أكرم الفتيان )
( خُلقت راحتاه للجود والبأس ... وأموالُه لشكر اللسان )
( ملّكتْه على العباد معدّ ... وأقرّت له بنو قحطان )
( أريحيُّ الندى جميل المحيّا ... يده والسماح معتَقدان )
( وجْهه مشرق إلى معتَفيه ... ويداه بالغيث تنفجران )
( جَعل الدهر بين يوميه قسمين ... بِعُرف جزل وحَرِّ طعان )

( فإذا سار بالخميس لحرب ... كَلَّ عن نصّ جَرْيه الخافقان )
( وإذا ما هززتَه لنوال ... ضاق عن رحب صدره الأفقان )
( غَيث جدب إذا أقام ربيع ... يتغشى بالسِّيب كلّ مكان )
( يا أبا غانم بقيتَ على الدهر ... وخُلّدتَ ما جرى العصران )
( ما نُبالي إذا عدَت المنايا ... مَن أصابت بكَلْكَل وجِران )
( قد جعلنا إليك بعث المطايا ... هرَباً من زماننا الخوّان )
( وحملنا الحاجات فوق عتاق ... ضامنات حوائج الرُّكبان )
( ليس جُودُ وراء جودك يُنتاب ... ولا يَعتَفِي لغيرك عاني )
فأمر له بعشرة آلاف درهم وقال تلك كانت للصوم فخفّفت وخففنا وهذه للفطر فقد زدتنا وزدناك
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثنا ابن أخي علي بن جبلة العكوك قال أحمد وكان علي جارنا بالربض هو وأهله وكان أعمى وبه وضح
وكان يهوى جارية أديبة ظريفة شاعرة وكانت تحبه هي أيضاً على قبح وجهه وما به من الوضح حدثني بذلك عمرو بن بحر الجاحظ
قال عمرو وحدثني العكوك أن هذه الجارية زارته يوماً وأمكنته من نفسها حتى افتضّها قال وذلك عنيت في قولي
( ودمٍ أهدرت من رشإٍ ... لم يُرِد عقلاً على هَدَره )

وهي القصيدة التي مدح بها أبا دلف يعني بالدم دم البضع قال ثم قصدت حميداً بقصيدتي التي مدحته بها فلما استؤذن لي عليه أبى أن يأذن لي وقل قولوا له أي شيء أبقيت لي بعد قولك في أبي دلف
( إنما الدنيا أبو دَُلف ... بين مَبْداه ومحتضره )
( فإذا ولّى أبو دُلَف ... ولت الدنيا على أثره )
فقلت للحاجب قل له الذي قلت فيك أحسن من هذا فإن وصَّلتَني سمعته فأمر بإيصالي فأنشدت قولي فيه
( إنما الدنيا حُميد ... وأياديه الجسامُ )
( فإذا ولّى حُمَيد ... فعلى الدنيا السلام )
فأمر لي بمائتي دينار فنثرتها في حجر عشيقتي ثم جئته بقصيدتي التي أقول فيها
( دجلة تسقي وأبو غانم ... يُطعم مَن تسقي من الناسِ )
فأمر لي بمائتي دينار
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب قال حدثني ابن أخي علي بن جبلة أيضاً
أن عمه علياً كان يهوى جارية وهي هذه القينة وكانت له مساعدة ثم غضبت عليه وأعرضت عنه فقال فيها
( تُسيء ولا تستنكر السوء إنها ... تُدلّ لما تبلوه عندي وتَعرف )
( فمِن أين ما استعطفتها لم ترقَّ لي ... ومن أين ما جربتُ صبريَ يضعف )

أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال
تذاكرنا يوماً أقبح ما هجي به الناس في ترك الضيافة وإضاعة الضيف فأنشدنا علي بن جبلة لنفسه
( أقاموا الدّيدَبان على يَفاعٍ ... وقالوا لا تنَم للدّيدَبان )
( فإن آنست شخصاً من بعيد ... فصفّق بالبنان على البنان )
( تراهم خشية الأضياف خُرساً ... ويأتون الصلاة بلا أذان )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبي قال حدثني وهب بن سعيد المَرْوزي كاتب حميد الطوسي قال
جئت حْميَداً في أول يوم من شهر رمضان فدفع إلي كيساً فيه ألف دينار وقال تصدقوا بهذه وجاءه ابنه أصرم فسلم عليه ودعا له ثم قال له خادمك علي بن جبلة بالباب فقال وما أصنع به جئتني به يا بني تقابلني بوجهه في أول يوم من هذا الشهر فقال إنه يجيد فيك القول قال فأنشدني بيتاً مما تستجيد له فأنشده قوله
( حِيدي حَيادِ فإنّ غزوة جيشه ... ضمنت لجائلة السباع عِيالها )
فقال أحسن ائذنوا له فدخل فسلّم ثم أنشده قوله

( إن أبا غانم حُمَيداً ... غيث على المعتفين هامي )
( صوَّره الله سيفَ حَتف ... وباب رزق على الأنام )
( يا مانع الأرض بالعوالي ... والنَّعم الجمة العظام )
( ليس من السّوء في مَعاذ ... من لم يكن منك في ذِمام )
( وما تعمّدتُ فيك وصفاً ... إلا تقدَّمْته أمامي )
( فقد تناهت بِك المعالي ... وانقطعت مدة الكلام )
( أَجِدَّ شهراً وأبلِ شهراً ... واسلم على الدهر ألف عام )
قال فالتفت إلي حميد وقال أعطه ذلك الألف الدينار حتى يخرج للصدقة غيره
حدثني عمي قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو سهيل بن سالم مولى حميد الطوسي قال
جاء علي بن جبلة إلى حميد الطوسيّ مستشفعا به إلى أبي دلف وقد كان غضب عليه وجفاه فركب إلى أبي دلف شافعاً وسأله في أمره فأجابه واتصل الحديث بينهما وعلي بن جبلة محجوب فأقبل على رجل إلى جانبه وقال اكتب ما أقول لك فكتب
( لا تتركنَّي بباب الدار مطّرَحاً ... فالحرُ ليس عن الأحرار يحتجب )
( هبنا بلا شافع جئنا ولا سبب ... ألستَ أنت إلى معروفك السبب )
قال فأمر بإيصاله إليه ورضي عنه ووصله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن مروان قال حدثني أبو سعيد المخزومي قال
دخلت على حميد الطوسي فأنشدته قصيدة مدحته بها وبين يديه رجل

ضرير فجعل لا يمر ببيت إلا قال أحسن قاتله الله أحسن ويحه أحسن لله أبوه أحسن أيها الأمير
فأمر لي حميد ببدرة فلما خرجت قام إلي البوابون فقلت كم أنتم عرفوني أولاً من هذا المكفوف الذي رأيته بين يدي الأمير فقالوا علي بن جبلة العكوك فارفضضت عرقا
ً ولو علمت أنه علي بن جبلة لما جسرت على الإنشاد بين يديه

المأمون يدخل علي ولكن بشرط
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال
كلم حميد الطوسي المأمون في أن يدخل عليه علي بن جبلة فيسمع منه مديحاً مدحه به فقال وأي شيء يقوله في بعد قوله في أبي دلف
( إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين مغزاه ومحتضره )
( فإذا ولّى أبو دُلَف ... ولَّت الدنيا على أثره )
وبعد قوله فيك
( يا واحد العرَب الذي ... عزّت بعزتِه العَرَبْ )
أحسن أحواله أن يقول فيَّ مثل ما قاله في أبي دُلف فيجعلَني نظيراً له هذا إن قدر على ذلك ولم يقصر عنه فخيروه بين أن أسمع منه فإن كان مدحه إياي أفضل من مدحه أبا دلف وصلته وإلا ضربت عنقه أو قطعت لسانه وبين أن أقيله وأعفيه من هذا وذا
فخيروه بذلك فاختار الإقالة ثم مدح حميداً الطوسي فقال له وما عساك أن تقول في بعدما قلته في أبي دُلف فقال قد قلت فيك خيراً من ذلك قال هات فأنشده

( دجلة تَسقِي وأبو غانمٍ ... يُطعم مَن تسقي من ا لنَّاسِ )
( النَّاس جسم وإمام الهدى ... رأْس وأنت العين في الراس )
فقال له حميد قد أجدت ولكن ليس هذا مثل ذلك ووصله
قال أحمد بن عبيد ثم مات حميد الطوسي فرثاه علي بن جبلة فلقيته فقلت له أنشدني مرثيتك حميداً فأنشدني
( نَعاءِ حُمَيداً للسرايا إذا غدَتْ ... تُذاد بأطراف الرماح وتوزع )
حتى أتى على آخرها فقُلت له ما ذهب على النحو الذي نحوتَه يا أبا الحسن وقد قاربته وما بَلغته فقال وما هو فقلت أردت قول الخريمي في مرثيته أبا الهيذام
( وأعددتُه ذخراً لكل مُلمة ... وسهم المَنايا بالذخائر مُولع )
فقال صدقت والله أما والله لقد نحوته وأنا لا أطمع في اللحاق به لا والله ولا أمرؤ القيس لو طلبه وأراده ما كان يطمع أن يقاربه في هذه القصيدة

هروبه من المأمون
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني ابن أبي حرب الزعفراني قال
لما بلغ المأمون قول علي بن جبلة لأبي دلف
( كلُّ من في الأرض من عرَب ... بين باديه إلى حضره )
( مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخَره )
غضب من ذلك وقال اطلبوه حيث كان فطلب فلم يقدر عليه

وذلك أنه كان بالجبل فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق في طلبه فهرب من الجزيرة أيضاً وتوسط الشام فظفروا به فأخذوه وحملوه إلى المأمون فلما صارإليه قال له يابن اللَّخناء أنت القائل للقاسم بن عيسى
( كلُّ من في الأرض من عرَب ... بين باديه إلى حضره )
( مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخَرة )
جعلتنا ممن يستعير المكارم منه فقال له يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم أحد لأن الله جل وعز فضلكم على خلقه واختاركم لنفسه وإنما عنيت بقولي في القاسم أشكال القاسم وأقرانه فقال والله ما استثنيت أحداً عن الكلّ سلوا لسانه من قفاه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال وحدثني أحمد بن أبي فنن
أن المأمون لما أدخل عليه علي بن جبلة قال له إني لست استحل دمك لتفضيلك أبا دلف على العرب كلها وإدخالك في ذلك قريشاً وهم آل رسول الله وعترته ولكني أستحله بقولك في شعرك وكفرك حيث تقول القول الذي أشركت فيه
( أنت الذي تنزل الأيامَ منزلها ... وتَنقل الدهرَ من حال إلى حال )
( وما مددْتَ مدَى طَرف إلى أحد ... إلا قضيتَ بأرزاق وآجال )

كذبت يا ماص بظر أمه ما يقدر على ذلك أحد إلا الله عز و جل الملك الواحد القهار سلوا لسانه من قفاه

صوت
( لا بد من سكرة على طَرَبِ ... لعل رَوْحاً يُدال من كُرَبِ )
ويروى
( لعل روحاً يُديل من كرب ... )
وهو أصوب
( فعاطنيها صهباء صافية ... تَضحك من لؤلؤ على ذهب )
( خليفةَ الله أنت منتخَب ... لِخير أُمَّ من هاشم وأَب )
( أَكرِمْ بأصلين أنت فرعهما ... من الإمام المنصور في النسب )
الشعر للتيميّ والغناء لسليم بن سلام خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وفيها لنظم العمياء خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي

أخبار التيميّ ونسبه
هو عبد الله بن أيوب ويكنى أبا محمد مولى بني تيم ثم مولى بني سليم ذكر ذلك ابن النطاح وكان له أخ يقال له أبو التيجان وكلاهما كان شاعراً وهما من أهل الكوفة وهما من شعراء الدولة العباسية أحد الخلعاء المجان الوصافين للخمر وكان صديقاً لإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ونديماً لهما ثم اتصل بالبرامكة ومدحهم واتصل بيزيد بن مزيد فلم يزل منقطعاً إليه حتى مات يزيد واستنفذ شعره أو أكثره في وصفه الخمر وهو الذي يقول

( شَربتُ من الخمر يوم الخميس ... بالكأس والطاس والقَنْقَلِ )
( فما زالت الكأس تغتالنا ... وتَذهب بالأول الأول )
( إلى أن توافت صلاة العشا ... ونحن من السكر لم نعقل )
( فمن كان يعرف حق الخميس ... وحق المدام فلا يجهل )
( وما إن جرت بيننا مَزحة ... تهيج مِراء على السلسل )
وهو القائل
( ولن أنتهي عن طيِّب الراح أو يَرى ... بَوادي عظامي في ضريحيَ لاحدُ )
( أضعتُ شبابي في الشراب تلذّذاً ... وكنت امرأ غِرّ الشباب أكابدُ )
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو العيناء عن محمد بن عمر قال أبو محمد التيمي اسمه عبد الله بن أيوب مولى بني تيم
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن داود بن الجراح قال قال دعبل
كان للتيمي أبي محمد ابن يقال له حبان مات وهو حديث السن فجزع عليه وقال يرثيه

صوت
( أودى بحَبّانَ ما لم يترك الناسا ... فامنح فؤادَك من أحبابك الياسا )
( لما رَمته المنايا إذ قصدن له ... أصبن مني سواد القلب والراسا )
( وإذ يقول لي العُوَّاد إذ حضروا ... لاتأس أبشر أبا حبان لا تاسَى )

( فبت أرعى نجوم الليل مكتئباً ... إخال سُنَّته في الليل قرطاسا )
غنى في الأول والرابع من هذه الأبيات حكم الوادي ولحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وأول هذه القصيدة
( يا دَير هند لقد أصبحت لي انَساً ... وما عهدتك لي يا دَير مِئْناسا )
وهي مشهورة من شعره
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال قلت
( وُصف الصدُّ لمن أهوَى فَصَدّ ... )
ثم أجبلت فمكثت عدة ليال لا يستوي لي تمامه فدخل علي التيمي فرآني مفكراً فقال ما قصتك فأخبرته فقال

( وبدا يمزح بالهجر فجَدّ ... )
ثم أتممتها فقلت
( ما له يعدل عني وجهَه ... وهو لا يعدِله عندي أحدْ )
وخرجت إلى مدح الفضل بن الربيع فقلت
( قد أرادوا غِرّة الفضل وهل ... تُطلب الغِرّة في خِيس الأسدْ )
( ملِك ندفَع ما نخشى به ... وبه يَصلح منّا ما فسد )
( يفعل الناسُ إذا ما وعدوا ... وإذا ما فعل الفضل وعد )
لإسحاق في هذا الشعر صنعة ونسبتها
صوت
( وُصف الصدُّ لِمن نهوَى فصدْ ... وبدا يمزح بالهجر فجَدْ )
( ما له يَعدل عني وجهَه ... وهو لا يعدله عندي أحد )
الشعر والغناء لإسحاق خفيف رمل بالبنصر وله فيه أيضاً ثقيل أول وفيه لزكريا بن يحيي بن معاذ هزج بالبنصر عن الهشامي وغيره قال الهشامي وقيل إن الهزج لإسحاق وخفيف الرمل لزكريا
أخبرني جحظة عن علي بن يحيي المنجم عن إسحاق قال

اشتركت أنا وأبو محمد التيمي في هذا الشعر
( وُصف الصد لمن نهوى فصد ... )
وذكر البيتين

الرشيد يطلب سماع قصيدته في رثاء يزيد بن مزيد
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان قال حدثني محمد الراوية الذي يقال له البيذق وكان يقرأ شعر المحدثين على الرشيد قال
قال لي الرشيد يوماً أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة التي يقول فيها
( كأن الشمس يوم أُصيب معنٌ ... من الإظلام مُلْبَسه جِلالا )
( هو الجبل الذي كانت معدّ ... تَهُدّ من العَدُوّ به الجبالا )

( أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مُقاماً لا نريد به زيالاً )
( وقلنا أين نذهب بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالاً )
قال فأنشدته إياها ثم قال لي أنشدني قصيدة أبي موسى التيميّ في مرثية يزيدَ بن مَزْيد فهي والله أحب إليَّ من هذه فأنشدته
( أحقٌ أنه أودَى يَزِيدُ ... تبيّن أيها الناعي المُشيد )
( أتدري مَن نعيتَ وكيف فاهت ... به شفتاك كان بِك الصعيد )
( أَحامي المجد والإسلام أودى ... فما للأرض ويحكَ لا تميد )
( تأمل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد )
( وهل شِيمت سيوف بني نزار ... وهل وُضعَتْ عن الخيل اللُّبود )
( وهل تسقِي البلادَ عِشار مُزن ... بِدرّتها وهل يخضرّ عود )
( أما هُدت لمِصرَعه نِزارٌ ... بَلَى وتقوّض المجد المَشيد )
( وحلّ ضريحَه إذ حلَّ فيه ... طريفُ المجد والحسبُ التليد )
( أَمَا والله ما تنفك عَيني ... عليك بدمعها أبداً تجود )
( فإن تجمُد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جُمود )
( أبعد يزيد تَخْتَزن البواكي ... دموعاً أو تصَانُ لها خدود )
( لِتبكِك قبةُ الإسلام لما ... وهت أطنَابها ووهَى العمود )

( ويبكك شاعرٌ لم يُبق دهرُ ... له نَشَباً وقد كسَد القِصيد )
( فمَنْ يدعو الإمامُ لكل خطب ... ينوب وكلِّ معضِلة تؤود )
( ومن يحمي الخميسَ إذا تعايا ... بحيلة نفسه البطلُ النجيد )
( فإن يهلك يزيد فكلّ حيٍّ ... فَريسٌ للمنية أو طريد )
( ألم تعجب له أن المنايا ... فتكْن به وهُنَّ له جنود )
( قصدن له وهنّ يحِدن عنه ... إذا ما الحرب شبَّ لها وقود )
( لقد عزَّى ربيعةَ أن يوماً ... عليها مثلَ يومك لا يعود )
قال فبكى هارون الرشيد بكاء اتسع فيه حتى لو كانت بين يديه سكرجة لملأها من دموعه
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا محمد بن عمر قال
( خرج كوثر خادم محمد الأمين ليرى الحرب فأصابته رجمة في وجهه فجلس يبكي فوجه محمد من جاءه به وجعل يمسح الدم عن وجهه وقال

( ضربوا قُرة عيني ... ومن أجلي ضربوهُ )
( أخذ الله لِقلبي ... من أناس أحرقوه )
قال وأراد زيادة في الأبيات فلم يواته فقال للفضل بن الربيع من ها هنا من الشعراء فقال الساعة رأيت عبد الله بن أيوب التيمي فقال علي به فلما أدخل أنشده محمد هذين البيتين وقال أجزهما فقال
( ما لِمن أهوى شبيهُ ... فبِه الدنيا تتيهُ )
( وصْلُه حلو ولكن ... هجره مُرّكريه )
( مَن رأَى الناسُ له الفضلَ ... عليهم حسدوه )
( مثلَ ما قد حسد القائمَ ... بالملك أخوه ) فقال محمد أحسنت هذا والله خير مما أردنا بحياتي عليك يا عباسي إلا نظرت فإن جاء على الظهر ملأت أحمال ظهره دراهم وإن كان جاء في زورق ملأته فأوقرتُ له ثلاثةُ أبغل دراهم

الفضل بن سهل يتوسط له فيعفو عنه المأمون
قال محمد بن يحيي فحدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن إدريس قال
لما قتل محمد الأمين خرج أبو محمد التيمي إلى المأمون وامتدحه فلم يأذن له فصار إلى الفضل بن سهل ولجأ إليه وامتدحه فأوصله إلى

المأمون فلما سلم عليه قال له المأمون إيه يا تيمي
( مثلَ ما قد حسد القائمَ ... بالملك أخوه )
فقال التيمي بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين
( نُصر المأمون عبدُالله ... لما ظلموه )
( نقضوا العهد الذي كانوا ... قديماً أكَّدوه )
( لم يعامله أخوه ... بالذي أوصى أبوه )
ثم أنشده قصيدة له امتدحه بها أولها
( جزِعتَ ابنَ تيم أن أتاك مشيبُ ... وبان الشباب والشباب حبيب )
قال فلما أنشده إياها وفرغ منها قال قد وهبتك لله عز و جل ولأخي العباسي يعني الفضل بن سهل وأمرت لك بعشرة آلاف درهم
أخبرني محمد بن يحيي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني عباد بن محمد الكاتب عن أبي محمد التيمي الشاعر قال
أنشدت الأمين محمداً أول ما ولي الخلافة قولي
( لا بدَّ من سَكرة على طرب ... لعل رَوحاً يُديل من كُرب )
الأبيات المذكورة في الغناء قال فأمر لي بمائتي ألف درهم صالحوني منها على مائة ألف درهم
وأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن يحيي المنجم قال وحدثني حسين بن الضحاك قال قال لي أبو محمد التيمي

دخلت على محمد الأمين أول ما ولي الخلافة فقال يا تيمي وددت أنه قيل في مثل قول طريح بن إسماعيل في الوليد بن يزيد
( طوبى لفرعَيك من هنا وهنا ... طوبى لأعراقك التي تَشجُ )
فإني والله أحق بذلك منه فقلت أنا أقول ذلك يا أمير المؤمنين ثم دخلت إليه من غد فأنشدته قصيدتي
( لا بد من سكرة على طربِ ... لعل رَوحا يُديل من كُرب )
حتى انتهيت إلى قولي
( أَكرِمْ بفرعين يَجريان به ... إلى الإمام المنصور في النسب )
فتبسَّم ثم قال لي يا تيمي قد أحسنت ولكنه كما قيل مرعى ولا كالسَّعدان ثم التفت إلى الفضل بن الربيع فقال بحياتي أوقر له زورقه مالاً فقال نعم يا سيدي
فلما خرجت طالبت الفضل بذلك فقال أنت مجنون من أين لنا ما يملأ زورقك ثم صالحني على مائة ألف درهم

التيمي يمدح الفضل بن يحيى
أخبرني وكيع قال حدثني ابن اسحاق قال حدثني أبي قال
( كنت على باب الفضل بن يحيى فأتاني التيمي الشاعر بقصيدة في قرطاس وسألني أن أوصلها إلى الفضل فنظرت فيها ثم خرقت القرطاس فغضب أبو محمد وقال لي أما كفاك أن استخففت بحاجتي منعتني أن أدفعها إلى غيرك فقلت له أنا خير لك من القرطاس ثم دخلت إلى الفضل فلما تحدثنا قلت له معي هدية وصاحبها بالباب وأنشدته فقال كيف حفظتها قلت الساعة دفعها إلي على الباب فحفظتها فقال دع ذا الآن فقلت له فأدخله فأدخل فسأله عن القصة فأخبره فقال أنشدني شيئاُ من شعرك ففعل وجعلت أردد أبياته وجعلت أشيعها بالاستحسان ثم خرج التيمي فقلت خذ في حاجة الرجل فقال أما إذ عنيت به فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم فقلت له أما إذ أقللتها فعجلها فأمر بها فأحضرت فقلت له أليس لإعناتك إياي ثمن قال نعم قلت فهاته قال لا أبلغ بك في الإعنات ما بلغت بالشاعر في المديح فقلت فهات ما شئت فأمر بثلاثة آلاف درهم فضممتها إلى الخمسة الآلاف ووجهت بها إليه
وذكر أحمد بن طاهر عن أبي هفان عن إسحاق قال كان التيمي

وأخوه أبو التيحان وابن عم له يقال له قبيصة يشربون في حانة حتى سكروا وانصرفوا من غد فقال التيمي يذكر ذلك ويتشوق مثله

صوت
( هل إلى سَكرة بناحية الحيرة ... شنعاءَ يا قَبيص سبِيلُ )
( وأبو التيَّحان في كَفَّه القرعة ... والرأس فوقه إكليل )
( وغرار كأنه بيذق الشَّطرنج ... يفتن فيه قالٌ وقيلُ )
الشعر للتيمي والغناء لمحمد بن الأشعث رمل بالوسطى
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أبو العيناء عن أبي العالية قال
أمر محمد الأمين لعبد الله بن أيوب بجائزة عشرة آلاف دينار ثواباً عن بعض مدائحه فاشترى بها ضيعة بالبصرة وقال بعد ابتياعه إياها
( إني اشتريتُ بما وهبتَ لِيَهْ ... أرضاً أمون بها قرابَتِيَه )
( فبحسن وجهك حين أسأل قل ... يابن الربيع احمل إليه مِيَهْ )
فغني بها الأمين فقال للفضل بحياتي يا عباسي أحمل إليه مائة ألف فدعا به فأعطاه خمسين ألفاً وقال له الخمسون الأخر لك علي إذا اتسعت أيدينا
أخبرني الحسن قال حدثني أبو العيناء عن أبي العالية قال
عشق التيمي جارية لبعض النخاسين فشكا وجده بها إلى أبي عيسى بن الرشيد فقال أبو عيسى للمأمون يا أمير المؤمنين إن التيمي يجد

بجارية لبعض النخاسين وقد كتب إلي بيتين يسألني فيهما ثمنها فقال وما هما فقال
( يا أبا عيسى إليك المُشتكَى ... وأخو الصبر إذا عيل شكا )
( ليس لي صبر على فقدانها ... وأعاف المَشربَ المشتركا )
قال فأمر له بثلاثين ألف درهم فاشتراها بها
أخبرني الحسن قال حدثني أبو العيناء عن أبي العالية قال دخل التيمي إلى الفضل بن الربيع في يوم عيد فأنشده
( ألا إنما آلُ الربيع ربيع ... وغيثُ حَياً للمرمِلين مَريع )
( إذا ما بدا آل الربيع رأيتَهم ... لهم دَرَج فوق العباد رفيع )
فأمر له بعشرة آلاف درهم
أخبرني عيسى بن الحسن قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا الزبير بن بكار قال
مدح أبو محمد التيمي الفضل بن يحيى بثلاث أبيات ودفعها إلى إسحاق الموصلي فعرضها على الفضل بن يحي فأمر له بثلاثة آلاف درهم والأبيات
( لعمرك ما الأشراف في كل بلدة ... وإن عُظموا للفضل إلا صَنائِعُ )
( تَرى عظماء الناس للفضل خُشَّعاً ... إذا ما بدا والفضل لله خاشع )
( تواضَع لمّا زاده الله رفعة ... وكلُّ جليل عنده متواضع )
أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيي المنجم قال حدثني إسحاق الموصلي عن محمد بن سلام قال

كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم إني قد نظرت في سني فإذا أنا ابن ثلاث وخمسين سنة وأنا وأنت لدة عام وإن امرأ قد سار إلى منهل خمسين سنة لقريب أن يرده والسلام
فسمع هذا أبو محمد التيمي مني فقال
( إذاذهب القَرْن الذي أنت فيهمُ ... وخُلِّفتَ في قَرن فأنت غريب )
( وإن امرأَ قد سار خمسين حِجة ... إلى منهل مِن وِرده لقريب )
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو دعامة علي بن يزيد قال حدثني التيمي أبو محمد قال
دخلت على الحسن بن سهل فأنشدته مديحا في المأمون ومديحا فيه وعنده طاهر بن الحسين فقال له طاهر هذا والله أيها الأمير الذي يقول في محمد المخلوع
( لا بُدَّ من سَكرة عَلَى طَرَبِ ... لعل رَوحاً يُديل من كُرَب )

( خليفةُ الله خير منتخَب ... لِخير أم من هاشم وأب )
( خلافة الله قد تَوارثها ... آباؤه في سوالف الكُتُب )
( فهْي له دونكم مورَّثة ... عن خاتم الأنبياء في الحِقب )
( يابن الذُّرا من ذوائب الشرف الأقدم ... أنتم دعائم العرب )
فقال الحسن عرض والله ابن اللخناء بأمير المؤمنين والله لأعلمنه
وقام إلى المأمون فأخبره فقال المأمون وما عليه في ذلك رجل أمل رجلاً فمدحه والله لقد أحسن بنا وأساء إليه إذا لم يتقرب إليه إلا بشرب الخمر ثم دعاني فخلع علي وحملني وأمر لي بخمسة آلاف درهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل البرجمي عن أبيه قال قال لي أبو محمد التيمي
أول شعر به فشاع فيه ذكري ووصلت به إلى الخليفة قولي
صوت
( طاف طَيفٌ في المنام ... بِمحبِّ مستهامِ )
( زَورة أبقت سَقاماً ... وشفت بعض السَّقام )
( لم يكن ما كان فيها ... من حرام بِحرام )
( لم تكن إلا فُواقاً ... وهْي في ليل التَّمام )
الغناء لإسحاق فقال فصنع فيها إسحاق لحنا وغنى به الرشيد فسأله عن قائل الشعر فقال له صديق لي شاعر ظريف يعرف بالتيمي فطلبت

وأمرت بالحضور فسألت عن السبب الذي دعيت له فعرفته فأتممت الشعر وجعلته قصيدة مدحت بها هارون ودخلت إليه فأنشدته إياها فأمر له بثلاثين ألف درهم وصرت في جملة من يدخل إليه بنوبة وأمر أن يدون شعري

التيمي وإسحاق الموصلي
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عمي طياب بن إبراهيم الموصلي قال حدثني أبو محمد التيمي الشاعر قال
اجتزت يوما بأخيك إسحاق فقال ادخل حتى أطعمك طعاماً صرفاًوأسقيك شراباً صرفاً وأغنيك غناء صرفاً فدخلت إليه فأطعمني لحماً مكبّباً وشواء حارّاً وبارداً مبزّراً وأسقاني شراباً عتيقاً صدفا وغناني وحده مرتجلاً
( ولو أن أنفاسي أصابت بحرَّها ... حديداً إذاً كاد الحديد يذوبُ )
( ولو أن عيني أُطلقَت من وِكائها ... لما كان في عام الجُدوب جُدوب )
( ولو أن سلمى تطلع الشمس دونها ... وأُمسي وراء الشمس حين تغيب )
( لحدثت نفسي أن تَريع بها النوى ... وقلتُ لقلبي إنها لقريب )
فلم تزل تلك حالي حتى حملت من بيته سكران
أخبرني جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت يوماً على عمرو بن مسعدة فإذا أبو محمد التيمي واقف بين يديه

يستأذنه في الإنشاد فقال ذاك إلى أبي محمد يعنيني وكان على التيمي عاتباً فكره أن يمنعه لعلمه بما بيننا من المودة فقلت له أنشد إذ جعل الأمر إلي فأرجو أن يجعل أمر الجائزة أيضاً إلي فتبسم عمرو وأنشده التيمي
( يا أبا الفضل كيف تغفل عني ... أم تَخلَّى عند الشدائد منّي )
( أنسيت الإخاء والعهد والودّ ... حديثاً ما كان ذلك ظني )
( أنا مَن قد بلوتَ في سالف الدهر ... مضَت شِرّتي ولم تفنَ سني )
( فاصطنعني لما ينوب به الدهر ... فإني أجوز في كل فن )
( أنا ليث على عدوّك سِلْمٌ ... لك في الحرب فابتذلني وصِلْني )
( أنا سيف يوم الوغى وسنان ... ومجنٌ إن لم تَثق بمجن )
( أنا طَبّ في الرأْي في موضع الرأْي ... معين على الخصيم المعَنَّ )
( وأمينٌ على الودائع والسرّ ... إذا ما هوِِيت أن تأتمني )
قال فأقبل عليّ عمرو وهو يضحك وقال أتعلم هذا الغناء منك أم كان يعلمه قديماً فقلت له لم يكذب أعزك الله فقال أفي هذا وحده أو في الجميع فقلت أما في هذا فأنا أحق كذبة والله أعلم بالباقي ثم أنشده
( وإذا ما أردتَ حجّاً فرحّالٌ ... دليلٌ إن نام كلّ ضِفَنَّ )
فقال له إذا عزمنا على الحج امتحناك في هذا فإني أراك تصلح له ثم أنشده

( ولبيب على مقال أبي العباس ... إني أرى به مسّ جِنِّ )
فقال ما أراه أبعد فقال
( وهو الناصح الشفيق ولكن ... خاف هَيْج الزمان فازورّ عني )
( ظريف عند المزاح خفيف ... في الملاهي وفي الصبا متثن )
( كيف باعدتَ أو جفوتَ صديقاً ... لا ملولاً لالا ولا متجن )
( صرتُ بعد الإكرام والأنس أرضى ... منك بالترّهات ما لم تُهنِّي )
( لم تخُنِّي ولم أخنك ولا والله ... ربي لا خنت من لم يخني )
( إن أكن تُبتُ أو هجرت الملاهي ... وسُلافاً يَجنُها بطن دَنّ )
( فحديثي كالدر فُصِّل بالياقوت ... يجري في جيد ظبي أَغنّ )
فأمر له بخمسة آلاف درهم فقال له هذا شيء تطوعَت به فأين موضع حُكمي فقال مثلها فانصرف بعشرة آلاف درهم
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود قال حدثني علي بن عمرو قال مر التيمي بالحيرة على خمار كان يألفه وقد أسن التيمي وأرعش وترك النبيذ فقال له الخمار ويحك أبلغ بك الأمر إلى ما أرى فقال نعم والله لولا ذلك لأكثرت عندك ثم أنشأ يقول

صوت
( هل إلى سكرة بناحية الحيرة ... يوماً قبل الممات سبيل )
( وأبو التَّيَّحان في كفه القرعة ... والرأس فوقه الإكليل )
( وعَرارٌ كأنه بَيذق الشِّطرنج ... يفتنّ فيه قال وقيل )

في هذه الأبيات لمحمد بن الأشعث رمل بالوسطى عن الهشامي
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل قال
كان أبو محمد التيمي يهوى غلاماً وكان الغلام يهوى جارية من جواري القيان فكان بها مشغولاً عنه وكانت القينة تهوي الغلام أيضًا فلا تفارقه فقال التيمي
( ويلي على أَغيد ممكورِ ... وساحر ليس بمسحورِ )
( تؤثره ألحُور علينا كما ... نؤثره نحن على الحور )
( عُلّق من علّق فيه هوى ... منتظم الألفة مغمور )
( وكل من تهواه في أمره ... مقلِّبٌ صفقة مقمور )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني أحمد بن محمد الفارسي قال حدثنا غسان بن عبد الله عن أبي محمد التيمي قال
لما أنشدت الأمين قولي فيه
( خليفةُ الله خير منتخَبِ ... لِخير أم من هاشم وأبِ )
( أكرمْ بعِرقين يجريان به ... إلى الإمام المنصور في النسب )
طرب ثم قال للفضل بن الربيع بحياتي أوقر له زورقه دراهم فقال نعم يا سيدي فلما خرجنا طالبته بذلك فقال أمجنون أنت من أين لنا ما يملأ زورقك ثم صالحني على مائة ألف درهم فقبضتها
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني محمد بن عبد الله

المدني قال حدثني عبد الله بن أحمد التيمي ابن أخت أبي محمد التيمي الشاعر قال أنشدني خالي لنفسه قوله
( لا تخضعنّ لمخلوق على طمعٍ ... فإن ذاك مُضرٌّ منك بالديِّن )
( وارغب إلى الله مما في خزائنه ... فإنما هو بين الكاف والنون )
( أما ترى كلّ مَن ترجو وتأملُه ... من الخلائق مسكين ابن مسكين )
صوت
( ألم تَرَ أنني أفنيتُ عُمري ... بمَطلَبها ومطلبُها عسيرُ )
( فلما لم أجدْ سبباًإليها ... يُقرِّبني وأعيتني الأمور )
( حججت وقلت قد حجَّت جِنَان ... فيجمعُني وإياها المسير )
الشعر لأبي نواس والغناء للزبير بن دحمان رمل بالوسطى من رواية أحمد بن المكي وبذْل وغناني محمد بن إبراهيم قريض الجرحي رحمه الله فيه لحناً من خفيف الثقيل فسألته عن صانعه فلم يعرف

أخبار أبي نواس وجنان خاصة
إذا كانت أخباره قد أ فردت خاصة
كانت جنان هذه جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي المحدث الذي كان ابن مناذر يصحب ابنه عبد المجيد ورثاه بعد وفاته وقد مضت أخبارهما
وكانت حلوة جميلة المنظر أديبة ويقال إن أبا نواس لم يصدق في حبه امرأة غيرها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إسحاق بن محمد عن أبي هفان عن أصحاب أبي نواس قالوا
كانت جنان جارية حسناء أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي

الأشعار قال اليؤيؤ خاصة وكانت لبعض الثقفيين بالبصرة فرآها أبو نواس فاستحلاها وقال فيها أشعاراً كثيرة فقلت له يوماً إن جنان قد عزمت على الحج فكان هذا سبب حجه وقال أما والله لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها فظننته عابثاً مازحاً فسبقها والله إلى الخروج بعد أن علم أنها خارجة وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه له إلا خروجها وقال وقد حج وعاد
( ألم تَر أنني أفنيت عُمري ... بمطلَبِها ومطلبُها عسير )
( فلما لم أجدْ سبباً إليها ... يقرِّبني وأعيتني الأمور )
( حججْت وقلت قد حجَّت جِنان ... فيجمعُني وأياها المسير )
قال اليؤيؤ فحدثني من شهده لما حج مع جنان وقد أحرم فلما جنه الليل جعل يلبي بشعر ويحدو به ويطرب فغنى به كل من سمعه وهو قوله
( إلهنا ما أَعد لكْ ... مليك كلِّ من ملكْ )
( لبيَّك قد لبيتُ لك ... لبيّك إنَّ الحمدَ لك )
( والملكَ لا شريك لك ... والليلَ لما أن حلكَ )
( والسابحاتِ في الفلك ... على مجاري المُنْسَلَك )
( ما خاب عَبدٌ أمَّلك ... أنت له حيث سلك )
( لولاك يا ربِّ هلك ... كلُّ نبيّ وملَك )
( وكلُّ من أهلّ لك ... سبّح أو لبَّى فلَك )
( يا مخطئاً ما أغفلك ... عجِّل وبادرْ أجَلَك )
( واختمْ بخير عملك ... لبيك إن الملك لَكْ )
( والحمد والنعمة لك ... والعزَّ لاشريك لك ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري

قالا حدثنا عمر بن شبة قال
كانت جنان التي يذكرها أبو نواس جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وفيها يقول
( جَفنُ عيني قد كاد يَسْقُط ... من طُول ما اختلجْ )
( وفؤادي من حَرِّء حُبك ... والهجرِ قد نَضِج )
( خبِّريني فدَتك نفسي ... وأهلي متى الفرج )
( كان ميعادُنا خروجَ ... زياد فقد خرج )
( أنت مِن قتل عائذ ... بك في أضيق الحرج )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني الجماز قال ابن عمار وحدثني به قليب بن عيسى قال
كانت جنان قد شهدت عرساً في جوار أبي نواس فانصرفت منه وهو جالس معنا فرآها فأنشدنا بديها قوله
( شَهِدتْ جَلْوةَ العروس جِنانٌ ... فاستمالت بِحُسنِها النظارةْ )
( حسِبوها العَروسَ حين رأوها ... فإليها دون العَروس الإشارة )
( قال أهلُ العروسِ حينَ رأوها ... ما دهانا بها سواكِ عمارةْ )
قال وعمارة زوج عبد الرحمن الثقفي وهي مولاة جنان

أخبرني محمد بن يحيي الصولي ومحمد بن خلف قالا حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن محمد بن عمر قال
غضبت جنان من كلام كلمها به أبو نواس فأرسل يعتذر إليها فقالت للرسول قل له لا برح الهجران ربعك ولا بلغت أملك من أحبتك فرجع إليه فسأله عن جوابها فلم يخبره فقال
( فدَيتُك فيم عَتُبك مِن كلامٍ ... نَطقت به على وجهٍ جميل )
( وقولُك للرسول عليك غَيرِي ... فليس إلى التواصلِ من سبيل )
( فقدْ جاء الرسول له انكسارٌ ... وحال ما عليها من قَبول )
( ولو رَدّت جِنانُ مَردٌ خيرٍ ... تَبيّن ذاك في وجهِ الرسول )
قال أبو خالد يزيد بن محمد وكان أبو نواس صادقاً في محبته جنان من بين من كان ينسب به من النساء ويداعبه ورأيت أصحابنا جميعاً يصححون ذاك عنه وكان لها محباً ولم تكن تحبه فمما عاتبها به حتى استمالها بصحة حبه لها فصارت تحبه بعد نبوها عنه قوله
( جِنانُ إنْ جُدتِ يا منايَ بما ... آمل لم تَقطُر السماءُ دما )
( وإن تَمادَيْ ولا تَماديَت في ... منعِك أٌصبحْ بِقَفْرةٍِ رمَما )
( عَلِقْتُ من لو أتى على أنفُس الماضيين ... والغابرين ما نَدما )
( لو نظرَتْ عينُه إلى حجر ... وَلّد فيه فتُوُرها سَقَما )

أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني محمد بن القاسم عن أبي هفان عن الجماز و أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني الجماز قال
كنت عند أبي نواس جالساً إذ مرت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين فسألها عن جنان وألحف في المسألة واستقصى فأخبرته خبرها وقالت قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم أني أسمع ويحك قد آذاني هذا الفتى وأبرسني وأحرج صدري وضيق علي الطرق بحدة نظره وتهتكه فقد لهج قلبي بذكره والفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته ثم التفتت فأمسكت عن الكلام فسر أبو نواس بذلك فلما قامت المرأة أنشأ يقول
( يا ذا الذي عن جِنانٍ ظل يُخِبرنا ... بالله قٌل وأعِد يا طيَّبَ الخَبر )
( قال اشتَكتك وقالت ما ابتليت به ... أراه من حَيثُما أقبلتُ في أثَري )
( ويعمل الطرفَ نحوي إن مررتُ به ... حتى لَيُخجِلني من حِدّة النظرِ )
( وإن وقفْت له كيما يكلِّمني ... في الموضع الِخْلو لم ينطِقْ من الحَصَر )
( ما زال يفعل بي هذا ويُدْمِنه ... حتى لقد صار من همِّي ومن وَطري )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي وأحمد بن سليمان بن أبي شيخ قالا قال ابن عائشة وأخبرني الحسن بن علي وابن عمار عن الغلابي عن ابن عائشة قال ابن عمار وحدثت به عن

الجماز وذكره لي محمد بن داود الجراح عن إسحاق النخعي عن أحمد بن عمير
أن محمد بن حفص بن عمر التميمي وهو أبو ابن عائشة انصرف من المسجد وهو يتولى القضاء فرأى أبا نواس قد خلا بأمرأة يكلمها وقال أحمد بن عمير في خبره وكانت المرأة قد جاءته برسالة جنان جارية عمارة امرأة عبد الوهاب بن عبد المجيد فمر به عمر بن عثمان التيمي وهو قاضي البصرة هكذا ذكر أحمد بن عمير وحده وذكر الباقون جميعاً أنه محمد بن حفص
قال الجماز وكانت عليه ثياب بياض وعلى رأسه قلنسوة مضربة فقال له اتق الله قال إنها حرمتي قال فصنها عن هذا الموضع وانصرف عنه فكتب إليه أبو نواس

صوت
( إنّ التي أبصرْتَها ... بِكْراً أكلّمها رسولُ )
( أدَّت إليّ رسالةً ... كادت لها نَفْسي تسيل )
( من ساحر العينين يجذب ... خصرَه رِدْفٌ ثقيل )
( متقلِّد قَوسَ الصِّبا ... يَرْمي وليس له رسيل )
( فلو أنّ أُذْنَك بيننا ... حتى تَسمَّع ما تقول )
( لرأيت ما استقْبحتَ من ... أمري هو الأمر الجميل )
في هذه الأبيات لحنان من الرمل و خفيفه كلاهما لأبي العبيس بن حمدون

قال ابن عمير ثم وجه بها فألقيت في الرقاع بين يدي القاضي فلما رآها ضحك وقال إن كانت رسولاً فلا بأس
وقال ابن عائشة في خبره فجاءني برقعة فيها هذه الأبيات وقال لي ادفعها إلى أبيك فأوصلتها إليه ووضعتها بي يديه فلما قرأها ضحك وقال قل له إني لا أتعرض للشعراء
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال
كان أبو عثمان أخا مولى جنان وكان مولاها أبو مية زوج عمارة وهي مولاتها وكانت له بحكمان ضيعة كان ينزلها وهو ابن عم له يقال له أبو مية فقال أبو نواس فيه قوله
( أسأل القادِمَين من حَكَمانِ ... كيف خلَّفتما أبا عثمان )
( وأبا مَيَّة المهذَّب والماجدَ ... والمرتَجى لِرَيب الزمان )
( فيقولان لي جِنانٌ كما سرّكَ ... في حالها فَسَلْ عن جِنان )
( ما لَهمْ لا يباركُ اللهُ فيهمْ ... كيف لم يُغنِ عندهمْ كِتماني )

لم تكن جنان في موضع عشق
فأخبرني ابن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الملك بن مروان الكاتب قالا
كنت جالساً بسر من رأى في شارع أبي احمد فأنشدني قول أبي نواس

( أسألُ المقبِلَيْن من حَكَمانِ ... كيف خَلَّفتما أبا عثمانِ )
وإلى جانبي شيخ جالس فضحك فقلت له لقد ضحكت من أمر فقال أجل أنا أبو عثمان الذي قال أبو نواس فيه هذا الشعر وأبو مية ابن عمي وجنان جارية أخي ولم تكن في موضع عشق ولا كان مذهب أبي نواس النساء ولكنه عبث خرج منه
أخبرني علي بن سليمان قال قال لي أبو العباس محمد بن يزيد
قال النابغة الجعدي
( أكْنِي بِغَير اسمها وقد عَلِم الله ... خَفِياتِ كلِّ مُكْتَتمِ )
وهو سَبق الناسَ إلى هذا المعنى وأخذوه جميعاً منه وأحسنُ مَن أخذه أبو نواس حيث يقول
( أسألُ المُقبلَين من حكمانِ ... كيف خلّفُتُما أبا عثمانِ )
( فيقولان لِي جنانُ كما سرّك ... في حالِها فَسَلْ عن جنان )
( مالَهمْ لا يبارك الله فيهمْ ... كيف لم يُغنِ عندهمْ كِتماني )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أنشدني أحمد بن محمد بن صدقة الأنباري لأبي نواس يذكر مأتماً بالبصرة وحضرته جنان

( يا مًنسِي المأتم أشجانَه ... لمَّا أتاهمْ في المُعزِّينا )
( سَرَتْ قِناعَ الوشيِ عن صُورة ... ألبسها الله التّحاسينا )
( فاستفتنَتهنّ بتِمثالها ... فهنّ للتكليف يبكينا )
( حَقَّ لِذلك الوجهِ أن يزدهِي ... عن حزنِه مَنْ كان محزونا )
أخبرني عمي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثنا عبد الملك بن عمر بن أبان النخعي وكان صديقاً لأبي نواس
أن أبا نواس أشرف من دار على منزل عبد الوهاب الثقفي وقد مات بعض أهله وعندهم مأتم وجنان واقفة مع النساء تلطم وجهها وفي يدها خضاب فقال
( يا قمراً أرَزه مأتَمٌ ... يَندُب شجواً بين أترابِ )
( يَبكي فيُذرِي الدُّرَّ من عينِه ... ويَلطِم الوردَ بِعُنابِ )
( لا تبْكِ ميْتاً حلَّ في حُفرةٍ ... وابْكِ قتيلاً لَكَ بالبابِ )
( أبرَزه المأتمُ لي كارهاً ... بِرَغْم دايات وحجّاب )
( لا زال موتاً دَأبُ أحبابه ... ولا تَزَل رؤيتَه دابي )
فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم حدثني محمد بن عائشة قال
قال لي سفيان بن عيينة لقد أحسن بصريكم هذا أبو نواس حيث يقول وشدد الواو وفتح النون
( يا قَمَرا أبصرْتُ في مأتمٍ ... يَندُب شَجْواً بين أتراب )

( يَبكي فُيذرِي الدُّرَّ من عينِه ... ويلْطِم الوردَ بعُنّاب )
قال وجعل يعجب من قوله ويلطم الورد بعناب
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال حدثني حسين بن الضحاك قال
أنشد ابن عيينة قول أبي نواس
( يَبكي فُيذْري الدُّرَّ من طَرْفِه ... ويلطِمُ الوَرْدَ بعُنَّاب )
فعجبتُ منه وقال آمنت بالذي خلَقه وقد قيل إن أبا نواس قال هذا الشعر في غير جنان
أخبرني بذلك الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني بعض الصيارف بالكرخ وسماه قال
كان حارس درب عون يقال له المبارك وكان يلبس ثيابا نظيفة سرية ويركب حماراً فيطوف عليه السوق بالليل ويكريه بالنهار فإذا رآه من لا يعرفه ظن أنه من بعض التجار وكان يصل إليه في كل شهر من السوق ما يسعه ويفضل عنه وكانت له بنت من أجمل النساء فمات مبارك وحضره الناس فلما أخرجت جنازته خرجت بنته هذه حاسرة بين يديه فقال أبو نواس فيها
( يا قمراً أبزَزه مأْتمٌ ... يندُب شَجْواً بين أتراب )
وذكر الأبيات كلَّها
أخبرني محمد بن جعفر قال حدثني أحمد بن القاسم عن أبي هفان

عن الجماز واليؤيؤ وأصحاب أبي نواس أن جنان وجهت إليه قد شهرتني فاقطع زيارتك عني أياماً لينقطع بعض القالة ففعل وكتب إليها
( إنِّا أهتجرنا للناسِ إذ فَطِنوا ... وبينَنا حين نلتقي حَسَنُ )
( نُدافع الأمر وهْو مُقْتَبِلٌ ... فشبّ حتى عليه قد مَرنوا )
( فليس يُقذِي عيناً مُعايَنةٌ ... له وما إنْ لمُجّه أُذن )
( ويحَ ثَقيفٍ ماذا يضَرّهُمُ ... أنْ كان لي في ديارهمْ سكَنُ )
( أرْيَبُ ما بيننا الحديثُ فإن ... زِدنا فزيدوا وما لِذا ثَمن )
أخبرني الحسنُ بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني ابن أبي سعد قال بلغني أن أبا نواس كتب إلى جنان من بغداد
( كَفَى حَزناً ألاّ أرى وجهَ حِيلةٍ ... أزورُ بها الأحبابَ في حَكَمانِ )
( وأُقسِمُ لولا أن تَنال مَعاشرٌ ... جِناناً بما لا أشتهي لِجِنانِ )
( لأصبحتُ منها دانَي الدارِ لاصقاً ... ولكنّ ما أخشَى فُديِتِ عداني )
( فواحَزنَا حُزْناً يؤدّي إلى الردى ... فأصبحَ مأثوراً بكلِّ لِسان )
( أُراني انقَصَتْ أيامُ وصليَ منكُم ... وآذن فيكم بالوَداع زماني )
أخبرني الحسنُ قال حَدْثنا ابنُ مَهْرويْه عن يحيى بن محمد عن الخزيمي قال
بلغ أبا نواس أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر فقال

( وابِأبي مَنْ إذا ذُكرتُ له ... وطولُ وَجدي به تَنْقّصني )
( لوْ سألوه عن وَجهِ حُجّته ... في سبِّه لي لقال يَعشقني )
( نَعم إلى الحشرِ والتّنادِ نَعَمْ ... أعشقُه أو أُلفَّ في كفني )
( أصِيحُ جَهراً لا أسْتَسِرُّبه ... عَنَّفَني ... فيه مَن يُعنفني )
( يا معشرَ الناسِ فاسمعوه وعُوا ... أنَّ جِناناً صديقةُ الحَسَن )
فبلغها ذلك فهجرته وأطالت هجره فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالَحته فكتب إليها
( إذا التقى في النوم طَيفاناً ... عاد لنا الوصلُ كما كانا )
( يا قرَّة العينِ فما بالنا ... نَشقى ويلتذُّخيالانا )
( لو شئتِ إذ أحسنْتِ لي في الكرى ... أتمَمْتِ إحسانك يقطاناً )
( يا عاشقين اصطلَحا في الكرى ... وأصبَحا غَضبى وغضبانا )
( كذلك الأحلامُ غَدّارةٌ ... وربما تَصْدقُ أحياناً )
الغناء في هذه الأبيات لابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
وقال الخزيمي ورآها يوماً في ديار ثقيف فجبهته بما كره فغضب وهجرها مدة فأرسلت إليه رسولاً تصالحه فرده ولم يصالحها ورآها في النوم تطلب صلحه فقال
( دَسّتْ له طَيفها كيما تصالِحُه ... في النوم حين تأبَّى الصلحَ يقظانا )

( فلم يَجدْ عند طَيفي طَيفُها فَرَجاً ... ولا رثى لتشكَّيه ولا لانا )
( حَسبتِ أنّ خيالي لا يكون لِما ... أكون من أجلِه غضبانَ غضبانا )
( جِنانُ لا تَسأليني الصلحَ سُرعةَ ذا ... فلم يكن هِيِّناً منك الذي كانا )
وأنشدني علي بن سليمان الأخفش لأبي نواس في جنان
( أما يَفنى حديثُك عن جِنانِ ... ولا تُبقِي عَلَى هذا اللسانِ )
( أكُلَّ الدهرِ قلتُ لها وقالت ... فكَم هذا أما هذا بِفانِ )
( جعلْتَ الناسَ كلُّهُم سواءً ... إذا حدّثْتَ عنها في البيانِ )
( عدوُّك كالصديق وذا كهذا ... سواءٌ والأباعدُ كالأداني )
( إذا حدَّثتَ عن شأْنٍ توالت ... عجائبُه أتيتَهُم بشانِ )
( فلو مَوَّهت عنها باسمِ أُخرى ... علِمنا إذ كنَيت مَن أنت عانِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني يحي بن محمد السلمي قال جدثني أبو عكرمة الضبي
أن رجلاً قدم البصرة فاشترى جنان من مواليها ورحل بها فقال أبو نواس في ذلك
( أمَّا الديارُ فقلَّما لبثوا بها ... بين استياق العيس ِوالرُّكْبانِ )
( وضَعوا سِياطَ السّوْق في أعناقها ... حتى اطّلعْن بِهم على الأوطان )
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني أبو عثمان الأشنانداني قال كتب أبو نواس إلى جنان
( أكثري المَحْوَ في كتابك وامحيه ... إذا محَوْته باللسان )

( وأمري بالمحاء بين ثناياك ... العذابِ المُفلَّجات الحسان )
( إنني كلما مررتُ بِسَطرٍ ... فيه مَحوٌ لطعته بلِساني )
( تلك تَقبيلةٌ لكمْ من بَعيد ... أُهدِيتْ لي وما بَرِحتُ مكاني )

صوت
( تَجنَّى علينا آلُ مكتوبةَ الذَّنبا ... وكانوا لنا سلْماً فأضحَوْا لنا حَرْبا )
( يقولون عزِّ القلبَ بعد ذَهابه ... فقلت ألا طُوبايَ لو أن لي قلباً )
عروضه من الطويل الشعر لابن أبي عيينة والغناء لسليمان أخي جحظة رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة

نسب ابن أبي عيينة وأخباره
أبو عيينة فيما أخبرنا به علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد اسمه وكنيته أبو المنهال قال وكل من يدعى ابا عيينة من آل المهلب فأبو عيينة اسمه وكنيته أبو المنهال وكل من يدعى أبارهم من بني سدوس فكنيته أبو محمد
وابن أبي عيينة هو محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة وقال أبو خالد الأسلمي هو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة وهو الذي كان يهجو ابن عمه خالداً
واسم أبي صفرة ظالم بن سراق وقيل غالب بن إسراق بن صبح بن كندي بن عمرو بن عدي بن وائل بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن الوضاح بن عمرو بن مزيقياء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن زاد الراكب بن الأزد
هذا النسب الذي عليه آل المهلب وذكر غيرهم أن أصلهم من عجم عمان وأنهم تولوا الأزد فلما سار المهلب وشرف وعلا ذكره استلحقوه

وممن ذكر ذلك الهيثم بن عدي وأبو عبيدة وابن مزروع وابن الكلبي وسائر من جمع كتاباً في المثالب وهجتهم به الشعراء فأكثرت
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال أخبرني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان العدوي قال
أخبرني الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمذاني قال
وفد ابن الجلندى في الأزد أزد عمان ومواليهم وأحلافهم فكان فيمن وفد منهم أبو صفرة وكان يلقب بذلك لأنه كان يصفر لحيته فدخل على عمر مع ابن الجلندي ولحيته مخضوبة مصفرة فقال عمر لابن الجلندي أكل من معك عربي قال لا فينا العربي وفينا غير ذلك فالتفت عمر رحمه الله إلى أبي صفرة فقال له أعربي أنت قال لا أنا ممن من الله عليه بالإسلام
قال وقدم الحكم بن أبي العاص الثقفي أخو عثمان بأعلاج من شهرك في خلافة عمر قد أسلموا فأمر عمر عثمان بن أبي العاص

أن يختنهم وقد كان أبو صفرة حاضراً فقال ما لهؤلاء يطهرون ليصلوا قال إنهم يختنون
قال إنا والله هكذا مثلهم قال فسمع ذلك عثمان بن أبي العاص فأمر بأبي صفرة فأجلس على جفنة فختن وإنه لشيخ أشمط فكان بها من قال لسنا نشك في أن زوجته كذلك فأحضرت وهي عجوز أدماء فأمر بها القابلة فنظرت إليها وكشفتها وإذا هي غير مختونة وذلك منها قد أحشف فأمر بها فخفضت
وقال في ذلك زياد الأعجم وقد غضب على المهلب
( نحن قطعنا من أبي صُفرةٍ ... قُلْفَته كي يدخل البَصْرَهْ )
( لما رأى عُثمانُ غُر مولَه ... أتَنَّ عَلَى قُلْفَته الشّفْره )
وليس هذا من الأقوال المعول عليها لأن أصل المثالب زياد لعنه الله فإنه لما ادعي إلى أبي سفيان وعلم أن العرب لا تقر له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم عمل كتاب المثالب فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار وحق وباطل ثم بنى على ذلك الهيثم بن عدي وكان دعيا فأراد أن يعر أهل البيوتات تشفياً منهم وفعل ذلك أبو عبيدة معمر بن

المثنى وكان أصله يهودياً أسلم جده على يدي بعض آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فانتمى إلى ولاء بني تيم فجدد كتاب زياد وزاد فيه ثم نشأ غيلان الشعوبي لعنه الله وكان زنديقا ثنويا لا يشك فيه عرف في حياته بعض مذهبه وكان يورّى عنه في عوراته للإسلام بالتشعّب والعصبية ثم انكشف أمره بعد وفاته فأبدع كتاباً عمله لطاهر بن الحسين وكان شديد التشعّب والعصبية خارجاً عن الإسلام بأفاعيله فبدأ فيه بمثالب بني هاشم وذكر مناكحهم وأمهاتهم وصنائعهم وبدأ منهم بالطيب الطاهر رسول الله وذكره ثم والى بين أهل بيته الأذكياء النجباء عليهم السلام ثم ببطون قريش على الولاء ثم بسائر العرب فألصق بهم كل كذب وزور ووضع عليهم كل خبر باطل وأعطاه طاهر على ذلك مائتي ألف درهم فيما بلغني
وإنما جرّ هذا القول ذكر المهلب وما قيل فيه وأني ذكرته فلم أجد بداً من ذكر ما روي فيه وفيما مرّ على أهل النسب ثم قلت ما عندي

عبد الملك يأمر بإحراق كتاب المثالب
أخبرني حبيب بن نصر قال أخبرني عمر بن شبة قال حدثني

محمد بن يحيي أبو عثمان عن أبيه قال
دخل بعض الناس على عبد الملك بن مروان فقال له هل عندك كتاب زياد في المثالب فتلكأ فقال له لا بأس عليك وبحقي إلا جئتني به فمضى فجاء به فقال له اقرأ علي فقرأه وجعل عبد الملك يتغيظ ويعجب مما فيه من الأباطيل ثم تمثل قول الشاعر
( وأجرأْ مَنْ رأيتُ بظَهْر غَيْبٍ ... عَلَى عَيْب الرّجال أُولُو العُيُوب )
ثم أمر بالكتاب فأحرق

رجع الخبر إلى سياقه أخبار ابن أبي عيينة
وهو شاعر مطبوع ظريف غزل هجاءٌ وأنفد أكثر أشعاره في هجاء ابن عمه خالد وأخبارهما تذكر على أثر هذا الكلام وما يصلح تصدير أخباره به
وكان من شعراء الدولة العباسية من ساكني البصرة
حدثني عمي والصولي قالا حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال
أبو عيينة اسمه كنيته وهو ابن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة
وأخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثني أبو خالد الأسلمي قال
أبو عيينة الشاعر هو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة بن المهلب وكان محمد بن أبي عيينة أبو أبي عيينة الشاعر يتولى الري لأبي جعفر المنصور ثم قبض عليه وحبسه وغرمه

وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
قال وهب بن جرير رأيت في منامي كأن قائلاً يقول لي
( ما يلقى أبو حربِ ... تعالى الله من كرب ) فلم ألبث أن أخذ المنصور أبا حرب محمد بن أبي عيينة المهلبي فحبسه وكان ولاه الري فأقام بها سنين
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن يحيي الصولي وعمي قالوا حدثنا الحزنبل الأصبهاني قال حدثني الفيض بن مخلد مولى أبي عيينة بن المهلب قال
كان أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة يهوى فاطمة بنت عمر بن حفص الملقب هزار مرد وكانت امرأة نبيلة شريفة وكان يخاف أهلها أن يذكرها تصريحا ويرهب زوجها عيسى بن سليمان فكان يقول الشعر في جارية لها يقال لها دنيا وكانت قيمة دارها ووالية أمورها كلها وأنشدنا لابن أبي عيينة فيها ويكني باسم دنيا هذه
( ما لِقلْبي أرقَّ من كلِّ قلبِ ... ولِحُبِّي أشدَّ من كل حبّ )
( ولدنيا على جُنوني بدنيا ... أشتهي قُربَها وتكرهُ قُربي )

( نَزلَت بي بليّةٌ من هواها ... والبلايا تكون من كلِّ ضَرب )
( قل لدنيا إن لم تُجبك لِما بي ... رَطبةً مِن دموع عينَي كُتْبي )
( فعلام انتهرتِ بالله رسْلي ... وتهددِتهم بحبس وضرب )
( أيُّ ذنب أذنبتُه ليت شِعري ... كان هذا جزاءه أيُّ ذنب )
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال
كان أبو عيينة من أطبع الناس وأقربهم مأخذاً من غير أدب موصوف ولا رواية كثيرة وكان يقرب البعيد ويحذف الفضول ويقل التكلف وكان أصغر من أخيه عبد الله ومات قبله
وقيل لعبد الله أنت أشعر أم أخوك فقال لو كان له علمي لكان أشعر مني وكان يتعشق فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد التي تزوجها علي بن سليمان ويسر عشقها ويلقبها دنيا كتمانا لأمرها وكانت امرأة جليلة نبيلة سرية من النساء وكان أبوها من أشد الفرسان وشجعانهم فذكر عيسى بن جعفر أن عيسى بن موسى قال للمهلب بن المغيرة بن المهلب أكان يزيد بن خالد أشجع أم عمر بن حفص هزار مرد فقال المهلب لم أشهد من يزيد ما شهدته من عمر بن حفص وذلك أني رأيته يركض في طلب حمار وحشي حتى إذا حازاه جميع جراميزه وقفز فصار على ظهره فقمص الحمار وجعل عمر بن حفص يحز معرفته إما بسيف وإما بسكين معه حتى قتله
قال محمد بن يزيد وحدثت عن محمد بن المهلب أنه أنكر أن يكون

أبو عيينة يهوى فاطمة وقال إنما كان جندياً في عداد الشطار وكانت فاطمة من أنبل النساء وأسراهن وإنما كان يتعشق جارية لها وهذه الأبيات التي فيها الغناء من قصيدةٍ جيدة مشهورة من شعره يقولها في فاطمة هذه أو جاريتها ويكنى عنها بدنياً فمما اختير منها قوله
( وقالوا تَجَنّبْنَا فقلت أبْعد ما ... غَلَبتُمْ عن قلبي بسُلطانكم غصبا )
( غِضابٌ وقد مَلّوا وقوفي ببابهمْ ... ولكنّ دنيا لا ملولاً ولا غضبى )
( وقد أرسلَتْ في السرّ أني بريَّة ... ولم تَرَ لي فيما تَرى منهمُ ذَنباً )
( وقالت لكَ العُتبى وعِندي لك الرضا ... وما إن لهمْ عندي رضاءٌ ولا عُتبى )
( ونُبئتها تلهو إذا اشتد شوقُها ... بشعري كما تُلهي المغنِّيةُ الشَّربا )
( فأحببتُها حُبّاً يقَرّ بعينِها ... وحُبِّي أحببتُ لا يشبه الحبا )
( فيا حسرتا نَغّصتُ قُربَ ديارها ... فلا زُلفةً منها أرجّي ولا قُربا )
( لقد شَمِت الأعداء أن حيل بينها ... وبيني ألاَ للشامتين بنا العُقْبَى )
ومما قاله فيها وغني فيه

صوت
( ضيّعتِ عهدَ فتى لِعهدك حافظٍ ... في حفظِه عَجَبٌ وفي تضييعكِ )
( ونأيت عنه فما له من حِيلة ... إلا الوقوفُ إلى أوانِ رجوعكِ )
( متخشِّعاً يُذْري عليكِ دموعَهُ ... أسفاً ويَعجَب من جُمود دموعكِ )

( إن تقتليه وتذهبي بفؤاده ... فبِحُسن وجهك لا بحسن صنيعكِ )
عروضه من الكامل الغناء في هذه الأبيات من الثقيل الأول بالوسطى ذكر عمرو بن بانة أنه له وذكر الهشامي أنه لمحمد بن الحارث بن بسخنر وذكر عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام أنه لإبراهيم الموصلي
فذكر العتابي ومحمد بن الحسن جميعا أن محمد بن أحمد بن يحيي المكي حدثهما قال حدثني عمرو بن بانة قال
ركبت يوما إلى دار صالح بن الرشيد فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي وكان معاقراً للصبوح فألفيته في ذلك اليوم خالياً منه فسألته عن السبب في تعطيله إياه فقال نيران علي غضبى يعني جارية لبعض النخاسين ببغداد وكانت إحدى المحسنات وكانت بارعة الجمال ظريفة اللسان وكان قد أفرط في حبها حتى عرف به فقلت له فما تحب قال تجعل طريقك على مولاها فإنه يستخرجها إليك فإذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها ودفع إلي رقعة فيها
( ضيعتِ عهدَ فتىً لعهدِك حافظٍ ... في حفظِه عَجَب وفي تضييعك )
( إن سُمتِه أن تذهبي بِفؤاده ... فبِحُسن وجهِك لا بحسن صنيعك )
فقلت له نعم أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة على ما فيها حفظاً لروحك عليك فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر فأخذت الرقعة وجعلت طريقي على منزل النخاس فبعثت إلى الجارية أُخرجي فخرجت فدفعت إليها

الرقعة وأخبرتها بخبري فضحكت ورجعت إلى الموضع الذي أقبلت منه فجلست جلسة خفيفة ثم إذا بها قد وافتني ومعها رقعة فيها
صوت
( وما زلت تعصيني وتغُري بيَ الردى ... وتهجُرني حتى مَرنتَ على الهجر )
( وتَقطع أسبابي وتنسى مودتي ... فكيف تَرى يا مالِكي في الهوى صبري )
( فأصبحت لا أدري أيأساً تصبُّري ... على الهجر أم جٍدَّ البصيرة لا أدري )
غنّى في هذه الأبيات عمْرو بنُ بانةَ ولحنه ثقيل أولُ بالبِنصر و لِمقَّاسة بن ناصح فيها ثقيل آخر بالوُسطى لحن عمرو في الأول والثالث بغير نشيد
قال فأخذْت الرّقعة منها وأوصلْتها إليه وصرت إلى منزلي فصنَعْت في بَيتَي محمد بن جعفر لحناً وفي أبياتها لحناً ثم صرت إلى الأمير صالح بن الرشيد فعرفته ما كان من خبري وغنيته الصوتين فأمر بإسراج دوابه فأسرجت وركب فركبت معه إلى النخاس مولى نيران فما برحنا حتى اشتراها منه بثلاثة آلاف دينار وحملها إلى دار محمد بن جعفر فوهبها له فأقمنا يومنا عنده
أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
دخلت على الواثق يوماً وهو خليفة و رباب في حجره جالسة وهي

صبية وهو يلقي عليها قوله
( ضيّهتِ عهدَ فتى لِعهدك حافظٍ ... في حفظه عجَب وفي تَضييعك )
وهي تغنيه ويردده عليها فما سمعت غناء قط أحسن من غنائهما جميعاً وما زال يردده عليها حتى حفظته

رجع الخبر إلى حديث أبي عيينة
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة في فاطمة التي كان يشبب بها أخوه بنت عمر بن حفص لما تزوجها عيسى بن سليمان بن علي وكان عيسى مبخّلاً وكانت له محابس يحبس فيها البياح ويبيعه وكانت له ضيعة تعرف بدالية عيسى يبيع منها البقول والرياحين وكان أول من جمع السماد بالبصرة وباعه فقال فيه أبو الشمقمق
( إذا رزُق العبادُ فإنّ عيسى ... له رِزقٌ من أسْتاه العِبادِ )
فلما تزوجّ عيسى فاطمةَ بنتَ عُمرَ بنِ حفص قال عبد الله بن محمد بن أي عيينة في ذلك
( أفاطَم قد زُوِّجْتِ عيسى فأبشري ... لديه بِذُلٍّ عاجلٍ غير آجلِ )

( فإنكِ قد زوّجتِ عن غير خبرة ... فتىً من بني العباس ليس بعاقل )
( فإن قُلتِ مِن رَهط النبي فإنّه ... وإن كان حرَّ الأصلِ عبدُ الشمائل )
( وقد قال فيه جعفرٌ ومحمد ... أقاويل حتى قالها كلُّ قائل )
( وما قلتُ ما قالا لأنك أُختُنا ... وفي البيت منِّا والذُّرا والكواهل )
( ولعمري لقد أثبتِّه في نِصابه ... بأن صرْتِ منه في مَحلٍّ الحلائل )
( إذا ما بَنُو العباسِ يوماً تنازعوا ... عُرا المجد واختاروا كرامَ الخصائل )
( رأيتَ أبا العباس يسمو بِنفسِه ... إلى بَيع بَيّاحاته والمباقلِ )
قال مؤلف هذا الكتاب وكان عبد الله أخو أبي عيينة شاعراً وكان يقدم على أخيه فأخبرني جحظة قال
حدثني علي بن يحيى المنجم قال قال إسحاق الموصلي
شعر عبد الله بن أبي عيينة أحب إلي من شعر أبيه وأخيه قال وكان عبد الله صديقاً لإسحاق
قال محمد بن يزيد ومما قاله في فاطمة وصرح بذكر القرابة بينهما وحقق على نفسه أنه يعنيها قوله
( دعَوتُكِ بالقرابةِ والجِوار ... دعاءَ مصرِّحٍ بادي السِّرار )
( لأني عنكِ مشغولٌ بِنفسي ... ومحترِقٌ عليك بغيرِ نار )
( وأنت تَوقَّرين وليس عندي ... على نار الصبابةِ مِن وقار )

( فأنتِ لأن ما بكِ دونَ ما بي ... تُدارين العدوَّ ولا أداري )
( ولَوْ واللهِ تشتاقين شوقي ... جَمحْتِ إلى مُخالعة العِذار )
( ألا يا وهبُ فيمَ فضحْتَ دُنيا ... وبُحتَ بسِرِّها بين الجواري )
( أما والراقصات بكلِّ واد ... غوادٍ نحوَ مكةَ أو سَواري )
( لقد فضلتْكِ دنيا في فؤادي ... كفضل يَدِي اليمين عَلَى اليسار )
( فقُولي ما بدا لك أن تقولي ... فإني لا ألومك أن تضاري )
نماذج من جيّد شعره في فاطمة
قال وقال فيها وهو من ظريف أشعاره
( رَقَّ قلبي لكِ يا نورَ عَيني ... وأبى قلبُك لي أن يَرِقَّا )
( فأَراكِ الله موتي فإنِّي ... لستُ أرضى أن تموتي وأبقى )
( أنا مِن وجدٍِبدنيايَ منها ... ومِنَ العُذَّال فيها مُلَقَّى )

صوت
( زعموا أني صديقٌ لدُنيا ... ليت ذا الباطلَ قد صار حقّا )
في هذا البيت ثم الذي قبله ثم الأول لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى عن الهشامي
قال وقال فيها أيضاً في هذا الوزن وفيه غناء محدث رمل طنبوري
( عَيشُها حُلو وعيشُك مُرُّ ... ليس مسرورٌ كمن لا يُسَرُّ )
( كَمَدٌ في الحبّ تَسخُن فيه ... عينُه أكثرَ مما تَقَرُّ )

( قلتُ للاّئِم فيها الْه عنها ... لا يَقعْ بيني وبينك شَرُّ )
( أتُراني مُقْصراً عن هواها ... كلُّ مملوكٍ إذا ليَ حرُّ )
وقال فيها أيضاً وأنشدناه الأخفش عن المبرد وأنشدناه محمد بن العباس اليزيدي قال
أنشدني عمي عبيد الله لأبي عيينة
( حين قالت دنيا عَلامَ نهاراً ... زُرتَ هلا انتظرتَ وقت المساء )
( إن تكن مُعْجَباً برأيك لا تَفْرَق ... فاستحْي يا قليلَ الحياء )
( ذاك إذ رُوحها ورُوحي مِزاجان ... كأصفى خمرٍ بأعذَب ماء )
قال محمد بن يزيد وقد أخذ هذا المعنى غيره منه ولم يسمه وهو البحتري فقال

صوت
( جَعلتُ حبَّكِ من قلبي بمنزلة ... هي المصافاةُ بين الماء والراحِ )
( تهتزّ مثلَ اهتزاز الغصن حرّكه ... مرورُ غيثٍ من الوَسْميّ سَحّاح )
الغناء في هذين البيتين لرذاذثقيل أول مطلق في مجرى البنصر
ومما قاله أبو عيينة في فاطمة هذه وكنى فيه بدنيا قوله
صوت
( ألمْ تَنْهَ قلبَك أن يعشَقا ... ومالكَ والعشقَ لولا الشّقا )
( أمِن بَعدِ شُربِك كأسَ النُّهى ... وشَمِّك ريحانَ أهلِ التُّقى )

( عَشِقتَ فأصبحتَ في العالمين ... أشهرَ مِن فرسٍ أبلَغا )
( أدُنيايَ من غَمر بَحْر الهوى ... خذي بِيدي قبل أن أغرقَا
( أنا ابنُ المهلَّب ما مثله ... لو أنَّ الخلد لي مرتقى )
غنى فيه أبو العُبَيس بن حمدون ولحنه ثاني ثقيل مطلق وفيه لعريب ثقيل أول رواه أبو العببيس عنها
وهذه قصيدة طويلة يذكر فيها دنيا ويفخر بعقب النسيب بأبيه ويذكر مآثر المهلّب بالعراق ولكن مما قاله في دنيا منها قوله
( أدُنياي من غَمر بحرِ الهوى ... خُذي بِيدي قبل أن أغرَقا )
( أنا لكِ عبدٌ فكوني كمَن ... إذا سرّه بعدُه أعتقَا )
( ألم أخدعِ الناسَ عن وصلِها ... وقد يَخدعُ العاقلُ الأحمقَا )
( بلى فسبقتُهمُ إنني ... أُحبّ إلى الخيرِ أن أسبقَا )
( ويومَ الجنازةِ إذ أرسلَتْ ... على رُقعةٍ أن جُزِ الخَندقَا )
( وعُجْ ثَمَّ فانظر لنا مجلِساً ... برفق وإياك أن تَخرَقا )
( فجئنا كغُصنَين مِن بانةٍ ... قرِينَين خِدْنين قد أورقَا )
( فقالت لأختٍ لها استنشدِيه ... من شعرِه المحكم المنتقى )
( فقلْتُ أمرتِ بكتمانِه ... وحذَّرتِ إن شاعَ أن يسرَقَا )
( فقالت بِعيشِك قولي له ... تمنَّع لعلك أن تنفُقَا )
ومن مشهور قوله في دنيا وهو مما تهتك فيه وصرّح وأفحش وهي من جيد قوله قصيدته التي يقول فيها

( أنا الفارغُ المشغولُ والشوقُ آفتي ... فلا تسألوني عن فَراغي وعن شُغلي )
( عجبْتُ لِترك الحبّ دنيا خليةً ... وإعراضه عنها وإقباله قُبْلي )
( وما بالهُا لما كتْبتُ تهاونت ... بكُتْبي وقد أرسلْتُ فانتهزت رُسلي )
( وقد حلفَتْ ألاّ تَخطّ بكفّها ... إلى قابلٍ خطا إليّ ولا تُملي )
( أبخْلاً علينا كلُّ ذا وقطيعةً ... قضيتِ لدَينا بالقطيعة والبخل )
( سلُوا قلبَ دنيا كيف أطلقَه الهوى ... فقد كان في غُلٍّ وثيقٍ وفي كَبْل )
( فإن جَحَدَت فاذكر لها قصر مَعبَد ... بمَنْصَفِ ما بين الأُبُلّة والحبل )
( ومَلعَبنا في النهرِ والماءُ زاخر ... قَرينَين كالغصنَين فَرْعين في أصل )
( ومن حولِنَا الرّيحانُ غَضّاً وفوقَنا ... ظِلالٌ من الكَرْمِ المعرِّش والنخل )
( إذا شئتُ مالت بي إليها كأنني ... إلى غصن بانٍ بين دِغضَين من رَمل )
( لياليَ ألقاني الهوى فاستضفتهُا ... فكانت ثناياها بِلا حِشمة نُزلي )
( وكم لذّةٍ لي في هواها وشهوةٍ ... ورَكْضي إليها راكباً وعلى رِجل )
( وفي مأتمِ المهديّ زاحمْتُ ركنَهَا ... برُكنِي وقد وطَّنت نفسي على القتل )
( وبِتنَا عَلَى خوفٍ أُسكَن قلبها ... بِيُسراي واليمنى عضلَى قائم النَّصل )
( فيا طيبَ طعمِ العيش إذ هي جارةٌ ... وإذ نفسُها نفسي وإذ أهلُها أهلي )

( وإذ هي لا تعتلّ عني بِرقبَةٍ ... ولا خوفِ عينٍ من وُشاةٍولا بَعل )
( فقد عَفَت الأثارُ بيني وبينها ... وقد أوحشَت مني إلى دارها سُبْلي )
( ولما بلوتُ الحبَّ بعد فِراقها ... قضَيت عَلَى أم المحبين بالثُّكل )
( وأصبحْت معزولاً وقد كنت والياً ... وشتان ما بين الولاية والعزل )
ومما قاله فيها وفيه غناء
صوت
( ألا في سبيل اللهِ ما حلّ بي منكِ ... وصبرُكِ عني لا صبرَ لي عنكِ )
( وتركُك جِسمي بعد أخذكِ مهجتي ... ضئيلاً فهلاَّ كَان من قَبْل ذا تركي )
( فهل حاكِمٌ في الحب يَحكُم بيننا ... فيأْخذَ لي حقي ويُنصفَني منك )
لسليم في هذه الأبيات هزج مطلق في مجرى الوسطى وفي هذه القصيدة يقول يصف قصرا كانوا فيه وهي من عجيب شعره
( لقد كنتُ يومَ القَصر مما ظَننْت بي ... بريئاً كما أني بريءٌ من الشِّركِ )
( يذَكَّرني الفِردَوسَ طوراً فأرعَوِي ... وَطوراً يواتيني إلى القَصف والفتك )
( بِغَرسٍ كأبكار الجواري وتُرْبةٍ ... كأن ثراها ماءُ وَردٍ على مسك )
( وسِرْبٍ من الغِزلان يَرتعْن حولهَ ... كما استُلّ منظوم من الدُّر من سِلك )
( وورقاء تحكي المَوصِليّ إذا غَدت ... بِتغريدها أحبِبْ بها وَيمَن ولا تحكِي )
( فيا طِيبَ ذاك القصرِ قصراً ومنزلاً ... بأفيحِ سهلٍ غيرِ وَعْر ولا ضَنْك )
( كأن قصورَ القومِ ينظرن حولَه ... إلى مَلِكٍ مُوف عَلَى مٍنبر المُلك )
( يُدِلّ عليها مستطيلاً بِظِله ... فيَضحك منها وهي مُطرقةٌ تبكي )

الفضل بن الربيع إنه أشعر أهل زماننا
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن عمرو الأنصاري قال سمعت الأصمعي يذكر أن الفضل بن الربيع قال لجلسائه
من أشعر أهل عصرنا فقالوا فأكثروا فقال الفضل بن الربيع أشعر أهل زماننا الذي يقول في قصر عيسى بن جعفر بالخريبة يعني أبا عيينة
( زُرْ واديَ القَصْرُ والوادي ... وحبّذا أهلُه من حاضر بادي )
( تُرْفاً قَراقيرُه والعِيسُ واقفة ... والضبّ والنونُ والملاّح والحادي )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن مجمع قال تزوج

سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بنت سفيان بن معاوية بن المهلب وقد كان تزوجها قبله رجلان فدفنتهما فكتب إليه أبو عيينة
( رأيتَ أثاثهَا فرغبتَ فيه ... وكم نَصبتْ لغيرك بالأثاث )
( إلى دار المنون فجهّزتْهم ... تَحُثّهمُ بأربعةٍ حِثاث )
( فَصَيّرْ أمرَها بيدَيْ أبيها ... وعَيشِك من حِبالك بالثلاث )
( وإلا فالسلامُ عليك منّي ... سأبدأ من غدٍ لك بالمراثي )
أخبرني محمد بن مزيد الصولي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان علي بن هشام قد دعاني ودعا أبا عيينة وتأخرت عنه حتى اصطحبنا شديداً وتشاغلت برجل كان عندي من الأعراب وكان فصيحا لأكتب عنه وكان عنده بعض من يعاديني قال حماد كأنه يومئ بهذا القول إلى إبراهيم بن المهدي فسأل ابا عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلى الخلف فكتب إلى
( يا مليئاً بالوعد والخُلف والمَطْلِ ... بطيئاً عن دَعوة الأصحاب )
( لَهْجاً بالأعراب إنّ لدينا ... بعضَ من تشتهي من الأعراب )
( قد عرفنا الذي شُغلتَ به عنّا ... وإن كان غير ما في الكِتاب )

قال فكتبت إلى الذي حمل أبا عيينة على هذا يعني إبراهيم بن المهدي
( قد فهِمتُ الكتابَ أصلحك الله ... وعندي إليك ردُّ الجوابِ )
( ولَعَمري ما تُنصفون ولا كان ... الذي جاء منكمُ في حِسابي )
( لَسْتُ آتيك فاعلَمَنّ ولا لي ... فيك حظ مِن بَعْدِ هذا الكتاب )
أخبرني عيسى بن الحسين الوراقي قال حدثني عبد الله بن أبي سعدقال حدثني إبراهيم بن إسحاق العمري قال حدثنا أبو هاشم الإسكندراني عن ابن أبي لهيعة قال
( حفر حفرٌ في بعض أفنية مكة فوجد فيه حجر عليه منقوش
( ما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ ... أبداً وما هو كائنٌ فيكون )
( سيكون ما هو كائن في وقتِه ... وأخو الجهالةِ مُتَعب محزون )
( يَسعى القويُّ فلا يَنال بسعيه ... حظّاً ويحظى عاجزٌ ومَهين )
قال ابن أبي سعد هكذا في الحديث وقد أنشدني هذه الأبيات جماعة لأبي عيينة
حدثني عمي قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدثني علي بن عمروس الأنصاري عن الأصمعي قال
قال لي الفضل بن الربيع يا أصمعي من أشعر أهل زمانك فقلت أبو نواس قال حيث يقول ماذا قلت حيث يقول
( أما تَرَى الشمسَ حَلّت الحمَلا ... وقام وزنُ الزمان فاعتدلا )
فقال والله إنه لذهن فطن وأشعر عندي منه أبو عيينة
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي اليزيد عن إسحاق أنه أنشده لأبي

عيينة في دنيا التي كان يشبب لها وقد زوجت وبلغه أنها تهدى إلى زوجها وكان إسحاق يستحسن هذا الشعر ويستجيده
( أرى عهدَها كالورْد ليس بِدائمٍ ... ولا خيرَ فيمن لا يدوم له عهدُ )
( وعهدي لها كالآس حسناً وبهجة ... له نضرةٌ تبقى إذا ما انقضى الورد )
( فما وَجَد العُذريُّ إذ طال وَجدُه ... بعفراء حتى سَلَّ مهجتَه الوجد )
( كوَجدي غداة البين عند التفاتها ... وقد شفّ عنها دون أترابها البُرد )
( فقلْتُ لأصحابي هي الشمس ضوءها ... قريب ولكن في تناوُلِها بُعد )
( وإنّي لمن تُهدَى إليه لَحاسد ... جرى طائري نَحساً وطائره سعد )
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال
سألت أبي عن دنيا التي ذكرها أبو عيينة بن محمد بن أبي عينة في شعره وقلت إن قوماً يقولون إنها كانت أمة لبعض مغني البصرة فقال لا يا بني هي فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد بن عثمان قبيصة أخي المهلب وكان عيسى بن سليمان بن علي أخو جعفر ومحمد ابني سليمان

تزوجها وهجاه عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة فقال
( أفاطم قد زُوِّجتِ عيسى فأبشري ... لديه بِذُلٍّ عاجلٍ غير آجل )
( فإنكِ قد زُوِّجت عن غير خِبرة ... فتىً مِن بني العباسِ ليس بعاقل )
وذكر باقي الأبيات وقد مضَت متقدماً
قال أحمد بن يزيد ثم أنشدني أبي لأبي عيينة يصرح بنسبه الجامع له ولفاطمة من أبيات له
( ولأنْتِ إن متُّ المصابةُ بي ... فتجنَّبي قتلي بلا وِتر )
( فلئن هلكْتُ لَتَلْطِمِنْ جزعاً ... خدّيك قائمةً على قبري )
قال أحمد وأنشدني أبي أيضاً في تصديق ذلك وأنه كان يكني بدنيا عن غيرها
( ما لِدُنيا تجفوكَ والذنبُ منها ... إنَّ هذا منَها لَخَبُّ ومَكر )
( عرفَتْ ذنبَها إليّ فقالت ... ابدأوا القومَ با لصياح يَفرّوا )
( قد أمرْتُ الفؤادَ بالصبر عنها ... غَير أنْ ليس لي مع الحبّ أمر )
( وكتمْتُ اسمَها حِذاراً من الناس ... ومِن شرّهم وَفي الناس شرّ )
( ويقولون بُحْ لنا باسم دُنيَا ... واسمُ دنَيا سرٌّ على الناس ذخر )
( ثم قالوا ليعلموا ذات نفسي ... أَعوانٌ دنياك أم هيَ بِكر )
( فتنفسْت ثم قلت أبكر ... شَبّ يا إخوتي عن الطَّوق عمرو )

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو خالد الأسلمي قال كان ابن أبي عيينة المهلبي صديقي وهو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة فجاءه رجل من جيرانه كان يستثقله فسأله حاجة فقضاها ثم سأله أخرى فوعده بها ثم سأله ثالثة فقال
( خفِّف عَلَى إخوانك المُؤَنا ... إن شئت أن تَبْقَى لهم سكًناً )
( لا تُلحفنَّ إذا سألت ففي الإجحاف ... إجحاف بهم وعنَا )
فقام الرجل وانصرف

ابن أبي عيينة وأمير البصرة
أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد قال حدثني المبرد قال
وفد ابن أبي عيينة إلى طاهر بن الحسين يسأله أن يعزل أمير البصرة وكان من قبله فدافعه وعرض عليه عوضاً خطيراً من حاجته ووعده أن يستصلح له ذلك الأمير ويزيله عما كرهه فأبى عزله وأجزل صلته فقال ابن أبي عيينة فيه
( يا ذا اليمينَين قد أوقرتَني مِنَنا ... تَتَرى هي الغاية القصوى من المنَنِ )
( ولستُ أسطيع مِن شكر أجيء به ... إلا استطاعةَ ذي رُوح وذي بدن )
( لو كنتُ أعرف فوقَ الشكر منزلة ... أوفى مِن الشكر عند اللهِ في الثمنِ )

( أخلصْتُها لك من قلبي مهذَّبةً ... حَذْواً عَلَى مثل ما أوليتَ من حسن )
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن أبي عكرمة عامر بن عمران وأخبرني به عمي عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال
كان إسماعيل بن سليمان والياً على البصرة خليفة لطاهر بن الحسين فأساء مجاورة ابن أبي عيينة حتى تباعد بينهما وقبح وأظهر إسماعيل تنقصه وعيبه فخرج إلى طاهر ليشكو إسماعيل ويسعى في عزله عن البصرة فبعد ذلك عليه بعض البعد وسافر طاهر بن الحسين إلى وجه أمر بالخروج إليه فصحبه ابن أبي عيينة في سفره فتذمم من ذلك وأمر بإيصاله إليه فلما دخل ابن أبي عيينة إليه سأله عن حوائجه وأدناه وأمره برفعها فأنشده
( مَن أوحشَتْه البلادُ لم يُقِم ... فيها ومَن آنسَته لم يَرِم )
( ومَن يَبتْ والهمومُ قادحة ... في صدرِه بالزِّناد لم ينم )
( ومَن ير النقص من مواطئه ... يُزل عن النقص مَوطِىء القدم )
( والقرب ممن ينأى بجَانبه ... صدع عَلَى الشعب غير ملتئم )
( ورُبّ أمر يعيا اللبيبُ به ... يظلّ منه في حيرة الظُّلم )
( صَبرٌ عليه كَظْمٌ عَلَى مَضَض ... وَتَرْكهُ من مواقع الندم )
( ياذا اليمينَين لم أزرْك وَلم ... آتك من خَلّة ومن عَدَم )
( إني من الله في مَراح غِنى ... وَمُغتذىً واسعٍ وفي نِعم )
( زارتك بِي هِمةٌ مُنازِعة ... إلى العلا مِن كرائم اللهِمم )
( وإنني لِلجميل محتمِل ... فِي القَدْر من مَنصِبي ومن شيمي )
( وقد تعلَّقْت منك بالذمم الكبرى ... التي لا تَخيبُ في الذمم )
( فإن أنلْ بُغْيتي فأنت لها ... في الحق حقِّ الرجاء والرَّحم )

( وإن يَعُقْ عائقٌ فلستَ على ... جميلِ رأيٍ عندي بمتَّهَم )
( في قدَر اللهِ ما أحمَّلُه ... تعويق أمري في اللَّوح والقلم )
( لم يَضق الصبرُ والفِجاجُ على ... حُرّ كريمِ بالصبر معتصم )
( ماضٍ كحدّ السنان في طرفِ العاملِ ... أو حَدِّ مصلَت خَذِم )
( إذا ابتلاه الزمانُ كشّفه ... عن ثوب حُرّيةٍ وعن كرم )
( ما ساء ظني إلا بِواحدة ... في الصدر محصورةٍ عن الكلِم )
( ليَهْنَ قومٌ جُزْتَ المدى بهمُ ... ولم تقصّر فيهم ولم تُلم )
( وليس كلُّ الدّلاءِ راجعةً ... بالنِّصف من مَلئها إلى الوَذم )
( تَرجع بالحَمْأَة القليلة أحياناً ... ورَنْق الصّبابةِ الأمم )
( ما تُنبت الأرضُ كلَّ زَهرتها ... ولا تَعُمّ السماءُ بالدِّيَم )
( ما فيّ نَقص عن كلّ منزلة ... شريفةٍ والأمور بالقِسَم )
فأجابه طاهر
( مَن تستضفْه الهمومُ لم يَنَمِ ... إلاَّ كَنومِ المريض ذي السّقم )
( ولا يزَلْ قلبُه يكابِد ما ... تُولد فيه الهمومُ من ألم )
( وقد سمعْتُ الذي هتفْتَ به ... وما بأُذني عنك من صممِ )
( وقد عَلمنا أنْ لستَ تَصحبنا ... لِفَاقةٍ فيك لا ولا عَدم )
( إلا لِحقٍّ وحُرمةٍ وعلى ... مثلك رَعيُ الحقوق والحُرَمِ )
( أنتَ امرُؤٌ لا تزول عن كرمٍ ... إلا إلى مثلِه من الكرم )

( وأنت من أُسرةٍ جَحَا جة ... فازوا بحسنِ الفعال والشِّيم )
( فما تَرُمْ مِن جسيم منزلةٍ ... فالحكم فيه إليك فاحتكم )
( إن كنت مُستسقياً سَماحتنا ... منا تجُدْكَ اليدان بالدِّيم )
( أو تَرْمِ في بَحرنا بدَلوك لا ... نُعدمِك مَلئاً لها إلى الوَذم )
( إنا أُناس لنا صنائعُنا ... في العُرْب معروفةٌ وفي العجم )
( مغتَنِمو كسبِ كلَّ مَحْمَدةٍ ... والكسبُ لِلحمد غيرُ مغَتنم )
فاحتكم عليه أبو عُيَينة في عزْل إسماعيلَ بن جعفر عن البصرة فعزله عنها وأَمر له بمائة أَلفِ درهم فقال أبو عُيَينْة في عزْله إسماعيل بنَ جعفر عن إمارة البصرة
( لا تَعدَمِ العَزْل يا أبا الحسنِ ... ولا هُزَالاً في دولة السِّمَن )
( ولا انتقالاً من دارِ عافية ... إلى ديارِ البلاء والمِحن )
( أنا الذي إن كفرْتَ نِعمته ... أذاب ما في جنبَيك من عُكَن )
حدثني عيسى بن الحسين قال حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل الأصبهاني قال
كان ابن أبي عيينة قد هجا نزاراُ بقصيدة له مشهورة وفضل عليها قحطان فقال ابن زعبل يهجوه ويردد عليه واسمه عمرو بن زعبل
( بُنَيّ أبي عُيَيْنة ما ... نطقْتَ به من الَّلغط )
( على ما أنت ملتحِف ... من الأوجاع في الوسط )
( لِما في الدُّبْر من نَغَل ... وما في العِرْضِ من سَقط )

( أتتنا الخَمسُ والمائتان ... بالنِّعماء والغِبَط )
( أمير من هلالٍ مستطيل ... الباع منبَسط )
( شريف ليس بالمدخول ... في عِرضٍ ولا رَهَط )
( أظنك مِن يديه واقعاًلا ... شك في وَرَط )
( ووالي الخَرجِ فياض اليَدَيْن ... بنائل سَبِط )
( له نِعَم حباك بها ... فلم تَحفظ ولم تَحُطِ )
( وقاضٍ من أمير المؤمنين ... يقوم بالقِسَط )
( يَسرُّكَ أنه من آل ... قحطانٍ على شحَط )
( وأنك إن ذُكرتَ يقال ... شيخٌ فاسقُ الشمَط )
( اعبدٌ من عَبيد عُمان ... عاب مناقب السّبط )
( وتهجو الغرّ من مُضر ... كفى هذا من الشّطط )
( تَيمّمْ في مُقَيَّرة ... مَسيراً غير مغتبط )
( مجوّفةٍ مزيَّنة ... بِوَدْع لاح كالرّقَط )
( بنُوك تَجرها بالقَلْس ... مؤتزرين بالفُوَط )
( متى غمسوا مَرادَيهمْ ... لِجدّ السير تَحتلط )
( وأنتَ بموضع السُّكان ... يُمسكِه بلا غلط )
( عليك عباءةُ مشكوكةٌ ... بالشوك لم تُخَطِ )
( فطيَّبَ ريحَ بلدتنا ... فِرارُك خيفةَ الشَّرَطِ )

( وأنك قد عُرفتَ بكثرة ... التخليط والغلط )
( ترى الخُسران إن لم تَزْنِ ... في يوم ولم تَلُط )
يفرّ إلى عمان خوفاً من المأمون
قال وكان ابن أبي عيينة لما هجا نزاراً بلغ شعرُه المأمون فنذر دمه فهرب من البصرة وركب البحر إلى عُمان فلم يزل بها متوارياً في نواحي الأزد حتى مات المأمون
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن مهرويه عن أبيه بقصة ابن أبي عيينة مع ابن زعبل فذكر نحو الخبر المتقدم
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال
كان ابن عيينة يشبب بوهبه جارية القروي وهي التي يقول فيها فروج الزنى قوله
( يا وهب لم يَبقَ لي شيء أُسَرّ به ... إلا الجلوس فتسقيني وأسقيكِ )
ثم عدل عن التشبيب بها إلى دنيا وذكرهما جميعاً في شعره فقال
( أرسلَتْ وَهبةُ لما رأتني ... بَعد سُقْم من هواها مُفيقاً )
( أتغيّرْت كأن لم تكن لي ... قبل أن تعرفَ دُنيا صديقاً )
( قد لَعَمري كان ذاك ولكن ... قَطعَتْ دُنيا عليك الطريقا )
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال
لما ولي عمر بن حفص هزار مرد البصرة قال ابن أبي عيينة في ذلك وفي دنيا يكنى بها عن فاطمة بنت عمر بن حفص صاحبته

( هنيئاً لِدنيا هنيئاً لها ... قدومُ أبيها على البَصْرهْ )
( على أنها أظهرَتْ نَخْوة ... وقالت لِيَ المُلكُ والقدرهْ )
( فيا نورَ عيني كذا عاجلاً ... عليّ تطاولْتِ بالإمرهْ )
قال وهذا دليل على أنه كان يكنى عن فاطمة بدنيا لا أنه يهوى جاريتها دنيا
قال أحمد بن يزيد وفيها يقول أيضاً
( يا حسنَها يومَ قالت لي مُودِّعة ... لا تنسَ ما قلت من فيها إلى أُذني )
( كأنني لم أصِلْ دنيا علانيةٌ ... ولم أزُر أهل دنيا زَورةَ الخَتَن )
( جِسمي معي غير أن الروحَ عندكُم ... فالرُّوحُ في وطنٍ والجسمُ في وطن )
( فلْيعجب الناسُ مني أنّ لي جسداً ... لا رُوحَ فيه ولي رُوحٌ بلا بدن )
وفي هذه الأبيات هزَج طُنبوريّ مُحدَث
أخبرني عمي قال حدثني أحمدُ بنُ يزيدَ عن أبيه قال
وَرد على ابنِ أبي عُيينة كتابٌ من بعض أهله بأن أخاه داودَ خرج إليه ببريد فمات بهمذان فقال ابنُ أبي عُيينة عند ذلك يرثيه
( أنائحةَ الحمَام قٍفي فنوحي ... على داودَ رَهنا في ضريح )
( لدى الأجيال من هَمذان راحت ... به الأيام للموت المُريح )
( لمَ يشهدْ جنازتَه البواكي ... فتبكيَه بمُنَهلٍّ سَفوح )
( وكُوني مثلَه إذ كان حياُ ... جواداُ بالغَبوقِ وبالَصَّبوح )
( أنائحةَ الحَمامِ فلا تشّحي ... عليه فليس بالرجل الشحيح )

( ولا بمُثمَّرٍ مالاً لِدُنيا ... ولا فيها بمِغمار طموح )
( يبيع كثير ما فيها بباق ... ثمين من عواقبه ربيح )
( ومن آل المهلّب في لُباب ... لُبابِ الخالص المحْضِ الصريح )
( همو أبناءُ آخرة ودنيا ... وأهدافُ المراثي والمديح )
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن يزيد عن أبيه قال
قدم أبو عيينة إلى الكوفة في بعض حوائجه فعاشره جماعة من وجوه أهلها وأقام بها مدة وألف فيها قينة كان يعاشرها وأحبها حباً شديداً فقال فيها
( لَعَمري لقد أُعطيتُ بالكوفة المُنى ... وفوق المُنى بالغانيات النَّواعم )
( ونادمْتُ أختَ الشمس حسناً فوافقت ... هواي ومثلي مثلَها فليُنادمِ )
( وأنشدْتُها شعري بِدُنيا فعر بَدَت ... وقالت مَلولٌ عهدُه غيرُ دائم )
( فقلْتُ لها يا ظبيَة الكوفة اغفِري ... فقد تبْتُ مما قلْتُ توبةَ نادم )
( فقالت قد استوجَبْتَ منا عقوبة ... ولكن سنَرعى فيك رُوحَ ابنِ حاتمِ )
( قال أحمد بن يزيد قال لي أبي
كان لابن أبي عيينة بستان وضيعةٌ في بعض قطائع المهلب بالبصرة فأوطنها وصيرها منزلة وأقام بها وفيها يقول
( يا جنةً فاقت الجِنان فما ... تَبلغُها قيمةٌ ولا ثمَنُ )
( ألِفتُها فاتخذْتُها وطناً ... إنّ فؤادي لأهلِها وطن )
( زُوِّج حيتانُها الضِّبَابَ بها ... فهذه كَنَّةُ وذا خَتن )

( فانظرْ وفكِّر فيما نطقْتُ به ... إنّ الأريبَ المفكِّر الفطن )
( مِن سفن كالنَّعامِ مُقبلة ... ومن نَعام كأنها سفن )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن أبا عيينة أنشده لنفسه

صوت
( لا يكن منكِ ما بدا لي بعينيكِ ... من اللحظِ حِيلةً واختداعا )
( إن يكن في الفؤاد شيء وإلاّ ... فدَعيني لا تقتليني ضَياعاً )
( فلَعلِّي إذا قربتُ تباعدْتِ ... وأظهرْتِ جَفوة وامتناعا )
( حين نفسي لا تستطيع لِما قد ... وقَعَت فيه مِن هواها ارتجاعا )
في هذه الأبيات رمل مطلق محدث
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد قال حدثني أبي قال
كان عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة شاعراً وهو القائل يعاتب محمد بن يحيى بن خالد البرمكي بأبيات رائية أولها
( اسلَمْ وإن كان فيك عنّي ... قَبْضٌ لِكفّيك وازورارُ )
( تَلحظني عابساً قطوباً ... كأنما بي إليك ثار )
( لو كان أمر عتبتَ فيه ... يجوز منه لِيَ اعتذار )

( أو كنتُ سآلة حريصاً ... لحانَ مِنّي لك الفِرار )
( أو كنتُ نَذلاً عَديمَ عقل ... لا مَنصِبٌ لي ولا نِجار )
( أوْ لم أكن حاملاً بِنفسي ... ما تحمل الأنفُس الكبار )
( وأنني من خِيار قومي ... وكلُّ أهلي فتى خيار )
( عذرْتُ إن نالني جفاء ... منك وإن نالني ضِرار )
( لكنّ ذنبي إليك أني ... قحطانُ لي الجَدّ لا نِزار )
( عليك مني السلام هذا ... أوانُ يَنأى بيَ المزار )
( ما كنت إلا كلَحم مَيْت ... دعا إلى أكله اضطرار )
( راحَت عَلَى الناسِ لابنِ يحيى ... محمدٍ دِيمةٌ غزِار )
( ولم يكن ما أنلْتُ منه ... بقدْر ما يَنجلي الغبار )
( قد أصبح الناسُ في زمان ... أعلامُه السِّفْلة الشِّرار )
( يستأخر السابقُ المُذَكّى ... فيه ويَستقدِم الحِمار )
( وليس لِلمرء ما تمنى ... يوماً وما إنْ له اختيار )
( ما قدّر اللهُ فهْو آت ... وفي مقاديره الخيار )

يهجو قبيصة بن روح المهلبي
أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال
كان ابن أبي عيينة قد قصد ربيعة بن قبيصة بن روح بن حاتم المهلبي واستماحه فلم يجد عنده ما قدر فيه فانصرف مغاضباً فوجه إليه داود بن مزيد بن حاتم بن قبيصة فترضاه وبلغ ما أحبه ورضيه من بره ومعونته فقال يمدحه ويهجو قبيصة

( أقَبيص لستً وإن جهدتَ بمُدرك ... سعيَ ابن عمك ذي العلا داود )
( شتان بينك يا قبيص وبينه ... إن المذمَّمَ ليس كالمحمود )
( اختار داودٌ بِناءَ محامد ... واخترت أكلَ شَبارق وثَريد )
( قد كان مَجدُ أبيك لو أحببته ... رَوْحٍ أبي خَلَف كَمَجد يزيدِ )
( لكن جرَى داود جَريَ مبرِّز ... فحوَى المَدى وجريتَ جريَ بليد )
( داودُ محمود وأنت مذمَّم ... عجباً لذاك وانتما من عود )
( ولرُبّ عُود قد يُشقّ لِمسجد ... نِصفاً وسائُره لِحُش يهود )
( فالحشّ أنت له وذاك لِمسجد ... كم بين موضع مَسْلحٍ وسجود )
( هذا جزاؤك يا قبيص لأنه ... جادت يداه وأنت قُفل حديد )
حدَّثني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق حدثني أبي قال
كانت لأبي حذيفة مولى جعفر بن سليمان جارية مغنية يقال لها بستان فبلغه أن أبا عيينة بن محمد بن عيينة ذكر لبعض إخوانه محبته لها ولاستماع غنائها فدعاه وسأله أن يطرح الحشمة بينه وبينه فأجابه إلى ذلك وقال لما سكر وانصرف من عنده في ذلك
( ألم تَرَني على كسَلِي وفَتري ... أجبت أبا حُذيفة إذ دعاني )
( وكنتُ إذا دُعيت إلى سماع ... أجبْتُ ولم يكن منِّي تواني )
( كأنّا من بشاشتِنا ظلِلنا ... بِيومٍ ليس من هذا الزمان )

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عثمان قال
كانت لعيسى بن موسى ضيعة إلى جانب ضيعة ابن أبي عيينة بالبصرة وكان له إلى جانب ضيعته سماد كثير فسأله أن يعطيه بعضه ليعمر ابن أبي عيينة به ضيعته فلم يفعل فقال فيه
( رأيت الناسَ هَمُّهم المعالي ... وعيسى همُّه جمع السّماد )
( ورِزق العالمين بِكَف ربيِّ ... وعيسى رزقُه في أسْتِ العباد )
هكذا ذكره ابن مهرويه وهذا بيت فاسد وإنما هو
( إذا رُزق العبادُ فإنّ عيسى ... له رِزق من استاه العباد )

أخباره مع ابن عمه خالد
ولابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد أخبار جمة اذكرها ها هنا والسبب الذي حمله على هجائه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش ببعضها عن محمد بن يزيد المبرد وببعضها عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه وقد جمعت روايتهما فيما اتفقا عليه ونسبت كل ما انفرد به أحدهما أو خالف فيه إليه وذكرت في فصول ذلك وخلاله ما لم يأتيا به مما كتبته عن الرواة قالا جميعاً

ولي خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب جرجان فسأل يزيد بن حاتم أبا عيينة أن يصحبه ويخرج معه ووعده الإحسان والولاية وأوسع له المواعيد وكان أبو عيينة جنديا فجرد اسمه في جريدته وأخرج رزقه معه فلما حصل لجرجان أعطاه رزقه لشهر واحد واقتصر على ذلك وتشاغل عنه وجفاه فبلغه أنه قد هجاه وطعن عليه وبسط لسانه فيه وذكره بكل قبيح عند أهل عمله ووجوه رعيته فلم يقدر على معاقبته لموضع أبيه وسنه ومحله في أهله فدعا به وقال له إنه قد بلغني أنك تريد أن تهرب فإما أن أقمت لي كفيلاً برزقك أو رددته فأتاه بكفيل فأعنته ولم يقبله ولم يزل يردده حتى ضجر فجاءه بما قبض من الرزق فأخذه ولجّ أبو عيينة في هجائه وأكثر فيه حتى فضحه فقال في هذا عن أحمد بن يزيد المهلبي
( دنيا دعوتك مسرْعاً فأجيبي ... وبما اصطفَيتُك في الهوى فأثيبي )
( دومي أَدُمْ لك بالصفاء على النوَى ... إني بِعهدكِ واثقٌ فثقي بي )
( ومِن الدليل على اشتياقي عَبْرتي ... ومَشيبُ رأسي قبلَ حينِ مشيبي )
( أبْكي إليك إذا الحمامةُ طَرّبت ... يا حسَن ذاك إليّ من تطريب )
( تبكي على فَنَنِ الغصونِ حزينةً ... حُزنَ الحبيبة من فِراق حبيب )
( وأنا الغريبُ فلا أُلامُ على البُكا ... إن البُكا حسَنٌ بِكلِّ غريب )
( أفلا يُنَادَى للقِفُول بِرحلة ... تَشفي جَوىً من أنفسٍ وقلوب )
( مالي اصطفَيت على التعسفِ خالداً ... واللهِ ما أنا بعدَها بأريب )
( تبّاً لصحبة خالدٍ من صحبة ... ولِخَالدِ بنِ يزيدَ من مصحوب )

( يا خالد بنَ قبِيصةٍ هيّجت بي ... حَرْباً فدُونك فاصطبر لحروبي )
( لما رأيت ضميرَ غِشك قد بدا ... وأبيْتَ غير تَجَهُّم وقُطوب )
( وعرفْت منك خلائقاً جرّبتها ... ظهَرَتْ فضائحُهَا على التجريب )
( خلّيتُ عنك مُفارقاً لك عن قِلىً ... ووهبْتُ للشيطان منك نصيبي )
( فلئن نظرْتُ إلى الرصافة مرة ... نظراً يُفَرجُ كُربةَ المكروب )
( لأمزّقنّك قائماً أو قاعداً ... ولأروينّ عليك كلّ عجيب )
( ولتأتينَّ أباك فيك قصائد ... حبَّرتها بتَشكُّر مقلوب )
( ولَيُنْشدَنّ بها الإمام قصيدة ... ولتُشْتَمَنّ وأنت غير مهيب )
( ولأوذِينّك مثلما آذيتني ... ولأُشليَنَّ على نعاجك ذيبي )
قال أحمد بن يزيد في خبره حدثني أبي قال
أعرس داود بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة بالبصرة وأخوه غائب يومئذٍ مع ابن عمه خالد بجرجان فكتب داود إلى أخيه يخبره بسلامته وسلامة أهل بيته وبخبرٍ نقله أهله إليه فقال أبو عيينة في ذلك
( ألا ما لِعَينِك معتلَّه ... وما لِدموعك منهلّهْ )
( وكيف يُجُرجان صبرُ امرئٍ ... وحيدٍ بها غيرِ ذِي خُلّهْ )
( وأَطْولْ بلَيْلِك أطْوِل به ... إذا عسكر القوم بالأثْلهْ )
( وراعَك مِن خيلِه حاشر ... مِن القومِ ليست له قِبله )
( يسوقك نحوهمُ مكرهاً ... وداودُ بالمِصر في غفله )

( عَروس ينعَّمُ مِن تحته ... سَرِيرٌ ومِن فوقه كِلَّه )
( وما مُدْنَفٌ بين عُوّاده ... ينادي وفي سمعه ثَقْله )
( بأوجعَ منّي إذا قيل لي ... تأهب إلى الريّ بالرِّحْلَهْ )
( ومالي وللرَّيّ لولا الشقاءُ ... إن كنتَ عنها لفي عُزله )
( أُكلَّف أجبَالها شاتياً ... على فَرَس أو على بَغْلهْ )
( وأهْونُ مِن ذَاك لو سهَّلوه ... ركوبُ القراقير في دجلهْ )
( تَروح إلينا بها طَرْبة ... رواحَ الندامى إلى دلّه )
( أخالدُ خذ من يدي لَطمة ... تَغيظ ومن قدَمِي رَكْله )
( جمعْتَ خصال الردَى جملة ... وبعْتَ خصال الندى جمله )
( فمالَك في الخير مِن خَلة ... وكم لك في الشر من خله )
( ولما تَناضَل أهلُ العلا ... نُضلْتَ فاذعنْتَ للنَّضله )
( فما لَكَ في المجد يا خالدٌ ... مُقَرْطَسة لا ولا خصله )
( وأسرعتَ في هدم ما قد بَنى ... أبوك وأشياخُه قبله )
( وكانت من النَّبْع عيدانُهم ... نُضاراً وعودُك من أثْله )

( فيا عجبا نَبْعةٌ انبتَت ... خِلافاً ورَيحانةٌ بقَله )
( ثيابُك لِلْعبد مطوية ... وعِرضك للشتم والبِذله )
( أجعْتَ بنيك وأعرَيْتَهم ... ولم تُؤتَ في ذاك من قِلّه )
( إذا ما دُعينا لِقبضِ العطاء ... وهيأت كيسَك للغلّةْ )
( وجُلَّةُ تًمْر تُغادَى بها ... فتأتي على آخر الجلّةْ )
( وتُقصِي بَنيك وهُم بالعراء ... نُزْلُهُمُ الملحُ والمُلّة )
( ولو كان خُبز وتًمر لَديك ... لَمَا طمِعوا منك في فَضلهْ )
( وتُصبح تَقْلِس عن تُخمة ... كأنّ جُشَاءكَ عن فُجْلهْ )
( إذا الحيّ راعَهُم رائع ... فأوهَنُ من غادة طَفلهْ )
( وليثُ يصول على قِرْنه ... إذا ما دُعيت إلى أكلهْ )
( فلله دَرّك عند الِخونِ ... مِن فارس صادقِ الحملهْ )
( وإن جاءك الناسُ في حاجة ... تفكرْتَ يومين في العِلهْ )
( وتلقاهُم أبداً كالِحاً ... كأنْ قد عضَضْتَ على بَصْلهْ )
( فهذا نصيبيَ من خالد ... لكم هَنة بَتّةً بتلهْ )
وإني لِصحبتهِ مبغض ... ولا خير في صحبة السِّفْلهْ )
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي قال حدثني أبو الحسن بن المنجم قال

رأيت مسلم بن الوليد الأنصاري يوماً عند أبي ثم خرج من عنده فلقيه ابن أبي عيينة فسلم عليه وتحفى به ثم قال له ما خبرك مع خالد قال الخبر الذي تعرفه ثم أنشده قوله فيه
( يا حفصُ عاطِ أخاك عاطِهْ ... كأساُ تُهيج من نشاطِهْ )
قال ومسلم يبتسم من هجائه إياه حتى مر فيها كلها ثم ختمها بقوله
( وإذا تطاولت الرؤوس ... ُ فغطِّ رأسَك ثم طاطِهْ )
فقال مسلم مه إنا لله هتكته والله وأخزيته وإنما كنت أظن أنك تمزح وتهزل إلى آخر قولك حتى ختمته بالجد القبيح وأفرطت فيما خرجت به إليه ثم مضى وهو يقول فضحته والله هتكته والله
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد قال حدثني أبي قال
لقي دعبل أبا عيينة فقال له
( ياحفصِ عاط أخاكَ عاطِهْ ... كأساً تُهيج من نشاطِهْ )
( صِرْفاً يعود لِوقعِها ... كالظبي أُطلق من رِباطه )
( صَبًّا طوَتْ عنه الهمومُ ... نَعيمه بعد انبساطه )
( فبكى وحقّ له البكا ... لشقائه بعد اغتباطه )

( جَزِعَ المخنَّثُ خالد ... لمّا وقعتُ على قِماطه )
( فانظر إلى نزواته ... من مَنطِقي وإلى اختلاطه )
( دَعني وإيّا خالدٍ ... فلأقطعنّ عُرَى نِياطه )
( إني وجدْتُ كلامَه ... فيه مَشابِهُ من ضُراطه )
( رجُلٌ يَعدّ لك الوعيد ... إذا وطئتَ عَلَى بساطه )
( وإذا انتظرْتَ غداءه ... فخَفِ البوادر من سياطهْ )
( يا خالِ صَدّ المجدُ عنك ... فلن تجوزَ عَلَى صراطه )
( وعَرِيتَ من حُلل الندَى ... عُرْيَ اليتيم ومن رياطه )
( فإذ تطاولَت الرؤوس ... فغطِّ رأْسك ثم طاطه )
فقال له دعبل أغرقت والله في النزع وأسرفت وهتكت ابن عمك وقتلته وغضضت منه وإنما استنشدتك وأنا أظن أنك قلت كما يقول الناس قولاً متوسطاً ولو علمت أنك بلغت به هذا كله لما استنشدتك
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسين بن السري قال
لقي دعبل أبا عيينة فقال له أنشدني بعض ما قلت في ابن عمك ثم ذكر الخبر مثل ما ذكره أحمد بن يزيد وقال فيه إنما ظننت أنك قلت فيه قولاً أبقيت معه عليه بعض الإبقاء ولو علمت أنك بلغت به هذا كله وأغرقت هذا الإغراق ما استنشدتك وجعل يعيد
( فغط رأسك ثم طاطه ... ) ويقول قتله والله

نماذج من هجائه في خالد
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال
ومن مختار ما قاله في خالد قوله
( قُل لِدُنيا باللهِ لا تقطعينا ... واذكرينا في بعضِ ما تذكرينا )
( لا تَخوني بالغيبِ عهدَ صديقٍ ... لم تخافيهِ ساعةً أن يخونا )
( واذكري عيشنا وإذ نَفَض الرَّيح ... علينا الخِيريّ والياسَمينا )
( إذ جعلْنا الشاهِسْفرام فِراشاً ... مِن أذى الأرض والظلالَ غصونا )
( حفِظ الله اخوتي حيث كانوا ... من بِلادٍ سارين أم مُدْلجينا )
( فِتيةٌ نازحون عن كلّ عَيب ... وهُم في المكارم الأولونا )
( وهو الأكثرون يَعلم ذاك الناسُ ... والأطيبون لِلأَطيبينا )
( أزعجَتْني الأقدار عنهم وقد كنتُ ... بقُربي منهم شحيحاً ضنيناً )
( وتَبدلْتُ خالداً لعنةُ الله ... عليه ولعنةُ اللاعنينا )
( رجل يَقهر اليتيمَ ولا يؤتي ... زكاةً ويَنهر المسكينا )
( ويصون الثيابَ والعِرضُ بالٍ ... ويرائي ويمنع الماعونا )
( نزع الله منه صالح ما أعطاه ... آمين عاجلاً آمينا )
( فلَعَمر المبادرِين إلى مكة ... وفداً غادين أو رائحينا )

( إن أضيافَ خالدٍ وبنيه ... ليَجوعون فوق مايشبعونا )
( وتراهمْ من غير نُسْك يصومون ... ومن غير عِلّة يحتمونا )
( يا بني خالدٍ دعُوه وفرُّوا ... كم على الجوع ويْحَكم تصبرونا )
قال محمد بن يزيد ومن مشهور شعره فيه قصيدته التي أولها
( ألا خبّروا إن كان عندكم خبَرْ ... أنقفُل أم نَثوي على الهمّ والضّجرَ )
( نفى النومَ عن عيني تعرُّض رحلة ... بها الهمُّ واستولى بها بعده السهر )
( فإن أشكُ من ليلِي بجُرجان طولَه ... لقد كنتُ أشكو فيه بالبصرة القِصر )
( فيا حبَّذا بطنُ الخَرير وظهرُه ... ويا حسن واديه إذا ماؤه زَخَر )
( ويا حبَّذا نهرُ الأبلَّةِ مَنْظراً ... إذا مَدَّ في إبانه النهرُ أو جَزَرْ )
( وفتيانُ صِدق همُّهم طلبُ العلا ... وسيماهمُ التحجيل في المجد والغَرَر )
( لَعمري لقد فارقتُهم غيرَ طائع ... ولا طيَّبٍ نفساً بذاك ولا مُقِر )
( وقائلةٍ ماذا نأى بك عنهُم ... فقلتُ لها لا عِلمَ لي فَسَلي القدر )
( فيا سَفَراً أودى بلَهوي ولذتي ... ونغصني عيشي عَدِمتك من سَفر )
( دعوني وإيّا خالدٍ بعد ساعة ... سيَحمله شِعري على الأبلق الأغرّ )
( كأني بِصدق القول لما لقيتُه ... وأعلمته ما فيه ألقمتُه الحجر )
( دنِيء به عن كل خير بَلادةٌ ... لِكلِّ قبيحٍ عن ذراعيه قد حَسَر )
( له منظر يحمِي العيون سماجة ... وإن يُختبَر يوماً فيا سوء مُختَبَر )

( أبوك لنا غيثٌ يعاش بوَبْله ... وأنت جَراد ليس يُبقي ولا يذر )
( له أثر في المكرمات يسرّنا ... وأنت تُعفّي دائماً ذلك الأثر )
( لقد قُنِّعتْ قَحطان خزياً بخالد ... فهل لكِ فيه يخزك الله يا مضر )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال أنشد الرشيد قول ابن أبي عيينة
( لقد قُنّعتْ قحطانُ خزياً بِخالد ... فهل لك فيه يخزك الله يا مضر )
فقال الرشيد بل يوقّرون ويشكرون
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال لنا أبو العباس محمد بن يزيد لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومديح أبيه كما اجتمع لابن أبي عيينة في قوله
( أبوك لنا غيثٌ نعيش بِوَبْلِه ... وأنت جراد ليس يبقي ولا يذر )
وقال محمد بن يزيد ومن جيد قوله أيضاً يهجو خالداً هذا
( على إخوتي مني السلامُ تحيةً ... تحيةَ مُثنٍ بِالأخُوِّةِ حامدِ )
( وقل لهمُ بعد التحية أنتمُ ... بِنفسي ومالي من طَريف وتالد )
( وعَزَّ عليهمْ أن أقيم ببَلدة ... أخا سَقَم فيها قليلَ العوائد )
( لئن ساءهم ما كان مِن فِعل خالد ... لقد سرهم ما قد فعلْتُ بخالد )
( وقد علموا أن ليس مني بِمفلت ... ولا يومُه المسكين مِني بواحد )

( أخالدُ لا زالت من الله لعنةٌ ... عليك وإن كنت ابن عمي وقائدي )
( أخالدُ كانت صحبَتيك ضلالةً ... عَصيتُ بها ربِّي وخالفْتُ والدي )
( وأرسل يَبغي الصلحَ لما تكنَّفت ... عوارضَ جنبَيه سياطُ القصائد )
( فأرسلتُ بعد الشرّ أني مسالم ... إلى غير مالا تشتهي غيرُ عائد )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال زعم القحذمي أن الرشيد قال للفضل بن الربيع من أهجى المحدثين عندك يا فضل في عصرنا هذا قال الذي يقول في ابن عمه
( لو كما يَنقص يزداد ... إذاً نال السماء )
( خالدُ لولا أبوه ... كان والكلبَ سواء )
( أنا ما عشتُ عليه ... أسوأُ الناس ثناء )
( إنّ مَنْ كان مسيئاً ... لحقيق أن يُساء )
فقال الرشيد هذا ابن أبي عيينة ولعمري لقد صدقت
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال
كان ابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد بجرجان فأساء به وجفاه وكان لابن أبي عيينة صديقان من جند خالد من أهل البصرة أحدهما مهلبي والآخر مولى للأزد وكلهم شاعر ظريف فكانوا يمدحون السراة من أهل جرجان فيصيبون منهم ما يقوتهم وولي موسى الهادي الخلافة فكتب ابن أبي عيينة إلى من كان في خدمة الخلفاء من أهله بهذه القصيدة

( كيف صَبري ومنزلي جُرْجانُ ... والعراق البلادُ والأوطانُ )
( نحن فيها ثلاثةٌ حُلفَاء ... ونَدامَى على الهوَى إخوانُ )
( نتساقى الهوَى ونَطرب للِذّكر ... كما تُطرِب النشاوَى القِيانُ )
( وإذا ما بكى الحمامُ بكَينا ... لِبُكاه كأننا صبيانُ )
( يا زماني الماضي بِبغدادَ عُدْ ... لي طالما قد سَررْتَني يا زمانُ )
( يا زماني المسيء أحسنْ فقِدْما ... كان عندي مِن فعلك الإحسانُ )
( ما يريد العُذّال مني أمَا يتُرك ... أيضاً بِغَمه الإنسان )
( ويقولون أملُك هواك وأقصِر ... قلت مالِي على الهوَى سلطانُ )
( أيها الكاتمُ الحديُثَ وقد طال ... به الأمرُ وانتهى الكتمانُ )
( قد لعَمري عرّضْتَ حيناً فَبيّنْ ... ليس بعد التعريض إلا البيانُ )
( واتخِذ خالداً عدوَّا مبيناً ... ما تعادَى الإنسان والشيطانُ )
( وإلهُ عنه فما يضرّك منه ... عَضُّ كلبٍ ليست له أسنانُ )
( ولعَمْري لولا أبوه لنالَته ... بسوء منّي يدٌ ولسانُ )
( قل لفِتياننا المقيمين بالبابِ ... ثِقوا بالنجاح يا فتيانُ )
( لا تخافوا الزمانَ قد قام موسى ... فَلكُمْ من ردَى الزمان أمانُ )
( أوَلم تأته الخلافةُ طوعاً ... طاعةً ليس بعدها عصيانُ )
( فهْي منقادة لموسى وفيها ... عن سواه تَقاعسٌ وحِرانُ )
( قل لموسى يا مالكَ المُلك طوعاً ... بِقياد وفي يديك العِنانُ )
( أنت بَحر لنا ورأيك فينا ... خيرُ رأيٍ رأى لنا سلطانُ )
( فاكفِنا خالداً فقد سامنا الخسفَ ... رماه لحتفه الرحمنُ )

( كَمْ إلى كم يُغضَى على الذّل منه ... وإلى كم يكون هذا الهوانُ )
قال فلما قرأ هذه القصيدة موسى الهادي أمر له بصلة وأعطاه ما فات من رزقه وأقفله من جيش خالد إليه

صوت
( أين مَحلّ الحيِّ يا وادي ... خبِّر سقاك الرائح الغادي )
( مُستصحِب لِلحرب خَيفانةً ... مثلَ عُقاب السَّرحة العادي )
( بين خُدور الظُّن محجوبةٌ ... حَدا بِقلبي معها الحادي )
( وأسْمراً في رأسه أزرق ... مِثلُ لِسان الحية الصادي )
الشعر لِدعبل بن علي الخزاعي والغناء لأحمد بن يحيى المكي خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن أبي عبد الله الهشامي

أخبار دعبل بن علي ونسبه
هو دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن مزيقيا ويكنى أبا علي
شاعر متقدم مطبوع هجاء خبيث اللسان لم يسلم عليه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن ولا أفلت منه كبير أحد
وكان شديد التعصب على النزارية للقحطانية وقال قصيدة يرد فيها على الكميت بن زيد ويناقضه في قصيدته المذهبة التي هجا بها قبائل اليمن
( ألا حُيِّيتِ عنا يا مرينا ... )
فرأى النبي في النوم فنهاه عن ذكر الكميت بسوء
وناقضه أبو سعد المخزومي في قصيدته وهاجاه وتطاول الشر بينهما

فخافت بنو مخزوم لسان دعبل وأن يعمهم بالهجاء فنفوا أبا سعد عن نسبهم وأشهدوا بذلك على أنفسهم

تشيع دعبل
وكان دعبل من الشيعة المشهورين بالميل إلى علي صلوات الله عليه وقصيدته
( مدارس آيات خلَت من تلاوة ... )
من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام وقصد بها أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام بخراسان فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه وخلع عليه خلعة من ثيابه فأعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف درهم فلم يبعها فقطعوا عليه الطريق فأخذوها فقال لهم إنها إنما تراد لله عز و جل وهي محرمة عليكم فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه فأعطوه فردكم فكان في أكفانه
وكتب قصيدته مدارس آيات فيما يقال على ثوب وأحرم فيه وأمر بأن يكون في أكفانه ولم يزل مرهوب اللسان وخائفاً من هجائه للخلفاء فهو دهره كله هارب متوار

حدثني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال
رأيت دعبل بن علي وسمعته يقول أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها
حدثني عمي قال حدثنا ميمون بن هرون قال قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولاً في دعبل يحرضه عليه فضحك المأمون وقال إنما تحرضني عليه لقوله فيك
( يا معشر الأجناد لا تَقنطوا ... وارضَوْا بما كان ولا تسخطوا )
( فسوف تعطَون حُنَيْنِيّة ... يلتذها الأمَرد والأشمط )
( والمَعْبَدِيّات لِقُوّادِكم ... لا تَدخلُ الكِيس ولا تربط )
( وهكذا يَرزق قُوّادَه ... خليفةٌ مصحفُه البَرْبَط )
فقال له إبراهيم فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين فقال دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا وضحك ثم دخل أبو عباد فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد فقال له وكأن أبا عباد أبسط يداً منك يا أمير المؤمنين قال لا ولكنه حديد جاهل لا يؤمن وأنا أحلم وأصفح والله ما رأيت أبا عباد مقبلاً إلا أضحكني قول دعبل فيه
( أوْلَى الأمور بضيعة وفساد ... أمرّ يدبِّره أبو عبّاد )

( وكأنه من دَير هِزْقَل مُفِلت ... حَرِدٌ يجرّ سلاسل الأقٌياد )
أخبرني الحسن بن علي الخَفّاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مَهْرويه قال حدثني أبي قال أخبرني دعبل بن علي قال قال لي أبي علي بن رزين ما قلت شيئاً من الشعر قط إلا هذه الأبيات
( خليلَيّ ماذا أرتجي مِن غد امرىء ... طوى الكشحَ عنّي اليومَ وهْو مكين )
( وإن امرأ قد ضَنّ منه بمَنطِق ... يُسَدّ به فقرُ امرىء لضنين )
وبيتين آخرين وهما
( أقول لمَّا رأيتُ الموتَ يطلبني ... يا ليتني دِرهم في كِيس ميّاح )
( فيا له درهماً طالت صيانته ... لا هالك ضَيعةً يوماً ولا ضاح )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الكاتب قال حدثني أبو هفان قال قال لي دعبل قال لي أبو زيد الأنصاري
مم اشتق دعبل قلت لا أدري قال الدعبل الناقة التي معها ولدها
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن أيوب قال
دعبل اسمه محمد وكنيته أبو جعفر ودعبل لقب لقب به

وحدثني بعض شيوخنا عن أبي عمرو الشيباني قال الدعبل البعير المسن
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال سمعت حذيفة بن محمد الطائي يقول الدعبل الشيء القديم قال ابن مهرويه سمعت أبي يقول ختم الشعر بدعبل قال وقال أبي كان أبو محلم يقول ختم الشعر بعمارة بن عقيل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال سمعت أبي يقول لم يزل دعبل عند الناس جليل القدر حتى رد على الكميت بن زيد
( ألا حُيِّيت عنا يا مرينا ... )
فكان ذلك مما وضعه قال وقال فيه أبو سعد المخزومي
( وأعجبُ ما سمعنا أو رأينا ... هجاءٌ قالَه حيّ لمَيْتِ )
( وهذا دِعبل كَلِفٌ مُعَنَّى ... بتسطير الأهاجي في الكُميت )

( وما يهجو الكميت وقد طواه الردى ... إلا ابن زانية بزيتت )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن زيد قال حدثني دعبل قال
كنت جالساً مع بعض أصحابنا ذات يوم فلما قمت سأل رجل لَمْ يعرفني أصحابنا عني فقالوا هذا دعبل فقال قولوا في جليسكم خيراً كأنه ظن اللقب شتماً
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني دعبل قال
صرع مجنون مرة فصحت في أذنه دعبل ثلاث مرات فأفاق
وأخبرني بهذين الخبرين الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن يزيد عن دعبل وزاد فيه قال دعبل وصرع مرة مجنون بحضرتي فصحت به دعبل ثلاث مرات فأفاق من جنونه

سبب خروجه من الكوفة
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي أبو أحمد قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن عمرو بن شيبان قال حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي قال العنزي وقد كتبت عن أبي خالد أشياء كثيرة ولم أكتب عنه هذا الخبر قال
كان سبب خروج دعبل بن علي من الكوفة أنه كان يتشطر ويصحب الشطار فخرج هو ورجل من أشجع فيما بين العشاء والعتمة فجلسا على

طريق رجل من الصيارفة وكان يروح كل ليلة بكيسه إلى منزله فلما طلع مقبلاً إليهما وثبا إليه فجرحاه وأخذا ما في كمه فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة ولم يكن كيسه ليلتئذ معه ومات الرجل مكانه واستتر دعبل وصاحبه وجد أولياء الرجل في طلبهما وجد السلطان في ذلك فطال على دعبل الإستتار فاضطر إلى أن هرب من الكوفة قال أبو خالد فما دخلها حتى كتبت إليه أعلمه أنه لم يبق من أولياء الرجل أحد
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي قال
قلت لدعبل ويحك قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعاً فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك فقال ويحك إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيداً إذا لم يخف شره ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه
وعيوب الناس أكثر من محاسنهم وليس كل من شرفته شرف ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك فإذّا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر ويحك يا أبا خالد إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع فضحكت من قوله وقلت هذا والله مقال من لا يموت حتف أنفه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحمدوي الشاعر قال
سمعت دعبل بن علي يقول أنا ابن قولي

( لا تَعجبني يا سلم مِن رجل ... ضحك المَشيبُ برأسه فبكى )
وسمعت أبا تمام يقول أنا ابن قولي
( نَقّل فؤادكَ حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأول )
قال الحمدوي وأنا ابن قولي في الطيلسان
( طال تَردادُه إلى الرَّفْو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدّى )
قال الحمدوي معنى قولنا انا ابن قولي أي أني به عرفت
أخبرني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان قال قال مسلم بن الوليد
( مستعبِرٌ يبكي على دِمنة ... ورأسه يضحك فيه المَشيبْ )
فسرقه دعبل فقال
( لا تعجبي يا سلم من رَجل ... ضحك المَشيب برأسه فبكى )
فجاء به أجود من قول مسلم فصار أحق به منه
قال أبو هفان فأنشدت يوماً بعض البصريين الحمقى قول دعبل
( ضحك المَشيب برأسه فبكى ... )
فجاءني بعد أيام فقال قد قلت أحسن من البيت الذي قاله دعبل فقلت له وأي شيء قلت فتمنع ساعة ثم قال قلت
( قهقَه في رأسك القَتيرُ ... )
أخبرني بهذه الحكاية الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي هفان

قال ذكر نحوه وزاد فيه ابن مهرويه وحدثني الحمدوي قال سمع رجل قول المأمون
( قبلتُه من بَعيد ... فاعتلّ من شفتيه )
فقال
( رَقَّ حتى تورّمَتْ شفتاه ... إذ توهّمْتُ أن أقِّبل فاه )
أخبرني علي بن الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبو ناجية وزعم أنه من ولد زهير بن أبي سلمى قال
كنت مع دعبل في شهرزور فدعاه رجل إلى منزله وعنده قينة محسنة فغنت الجارية بشعر دعبل
( أين الشباب وأيةً سلَكا ... لا أين يُطلب ظلَّ بل هلكَا )
قال فارتاح دعبل لهذا الشعر وقال قد قلت هذا الشعر منذ سبعين سنة

نسبة هذا الصوت
صوت
( أين الشبابُ وأيةً سلكا ... لا أين يطلب ضلّ بل هَلَكا )
( لا تعجَبي يا سَلم من رجل ... ضحِك المشيبُ برأسه فبكى )
( يا ليت شِعري كيف نَوْمُكما ... يا صاحبي إذا دَمِي سُفِكا )
( لا تأخذوا بِظُلامتي أحداً ... قلبي وطرْفي في دَمي اشتركا )

قال والغناء لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى مطلق
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو المثنى أحمد بن يعقوب ابن أخت أبي بكر الأصم قال
كنا في مجلس الأصمعي فأنشده رجل لدعبل قوله
( لا تعجَبي يا سَلم من رجل ... ضحِك المشيبُ برأسه فبكى )
فاستحسناه فقال الأصمعي إنما سرقه من قول الحسين بن مطير الأسدي
( أين أهلُ القِباب بالدهناء ... أين جيراننا على الأحساء )
( فارقونا والأرْضُ مُلْبَسَةٌ نَوْرَ ... الأقاحي تُجاد بالأنواء )
( كلَّ يوم يأُقحُوان جديد ... تَضحك الأرضُ من بُكاء السماء )

نماذج من هجائه
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن خالد قال

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45