كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

عشرة آلاف درهم يتحمل بها إلى اليمامة
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني أحمد بن الفضل الكاتب قال لما قال علي بن الجهم هذه القصيدة في المتوكل
( غْتَنِمْ جِدَّة الزَّمان الجديدِ ... واجعل المهرجان أيمنَ عِيدِ )
أنشدها وأبو السمط بن أبي حفصة حاضر فغمزه المتوكل على علي بن الجهم وأمره أن يعنته فقال له يا علي أخبرني عن قولك
( واجعل المهرجان أيمن عيد ... )
المهرجان عيد أم يوم لهو إنما العيد ما تعبد الله به الناس مثل الفطر والأضحى والجمعة وأيام التشريق
فأما المهرجان والنيروز فإنما هما أعياد المجوس لا يجوز أن يقال لخليفة الله في عباده وخليفة رسول الله في أمته جعل المهرجان عيدا
فلم يلتفت إليه وأنشد حتى بلغ قوله
( نحن أشياعكمْ من آل خراسان ... أُولو قُوّة وبأسٍ شديد )
( نحن أبناء هذه الخِرَق السُّودِ ... وأهل التَّشَيّع المَحْمُودِ )
فقال له مروان لو كنتم من أهل التشيع المحمود ما قتل قحطبة جدك وصلبه في عداوة بني العباس
فقال له المتوكل ويلك أقتل قحطبة جدك

قال لا والله يا أمير المؤمنين
فأقبل على محمد بن عبد الله بن طاهر فقال له بحياتي الأمر كما قال مروان فقال له محمد وإن كان كما قال فأي ذنب لعلي بن الجهم قد قتل الله أعداءكم وأبقى أولياءكم
فضحك المتوكل وقال شهدت والله بها عليه فقال مروان في ذلك
( غَضِب ابنُ الجَهْم من قولي له ... إِنّ في الحق لِقوْمٍ مَغْضَبَهْ )
( يابنَ جهمٍ كيف تهوى مَعْشراً ... صلبوا جَدّك فوق الخشبهْ )
( يا إمام العدل نصحي لكمُ ... نُصحُ حَقّ غير نُصح الكَذبَهْ )
( إن جدّي من رفعتم ذِكْرَه ... بكراماتٍ لشكري مُوجِبَهْ )
( وابنُ جهم مَن قتلتم جَدَّه ... وتولَّى ذاك منه قَحْطَبَهْ )
( فخراسانُ رأتْ شِيعَتُكُمْ ... أنَّه أهلٌ لضرب الرّقبهْ )
( أتُراه بعدها ينصحكمْ ... لا وربِّ الكعبةِ المحتجبهْ )

هجاؤه لعلي بن الجهم
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني جعفر بن هارون قال حدثني أحمد بن حمدون بن إسماعيل قال بلغ المتوكل أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه فسأل عن السبب في ذلك وعن قصته وعن نسب سامة بن لؤي فحدث بها ثم انتهى حديثهم بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يدخلاهم في قريش وأن عثمان رضي الله عنه أدخلهم فيه وأن عليا رضي الله عنه أخرجهم منه فارتدوا مع الحارث وأنه قتل من ارتد منهم وسبى بقيتهم وباعهم من مصقلة بن

هبيرة
فضحك المتوكل وبعث إلى علي بن الجهم فأخبره بما قال القوم فأنكر ذلك وقال
هذه الدعوى من الرافضة وشتم القوم
وكان منهم أبو السمط فقال له
( إنَّ جَهْماً حين تنسبه ... ليس من عُجْمٍ ولا عَرَبِ )
( لجَّ في شتمي بلا سَبَبٍ ... سارقٌ للشِّعر والنَّسب )
( من أناسٍ يدَّعون أباً ... ماله في الأرض من عقب )
فغضب علي بن الجهم ولم يجبه لأنه كان يحتقره ويستركه وأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال
( أأنتم من قريش يابن جَهْم ... وقد باعوكُم في مَنْ يزيدُ )
( أترجو أن تكاثرنا جِهاراً ... بنسبتكم وقد بِيع الجدودُ )
قال وما زال مروان يهجو علي بن الجهم فما أجابه عن شيء من شعره أنفة منه

مدح أحمد بن أبي دواد فنال مكافأته
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني الجماز أبو عبد الله قال دخل مروان الأصغر على أحمد بن أبي دواد وقد أصابه الفالج وتماثل قليلا فأنشده

( لسانُ أحمدَ سيفٌ مَسَّه طَبَعٌ ... من عِلّةٍ فجلاه عنه جاليها )
( ما ضرَّ أحمدَ باقي عِلّةٍ دَرَسَتْ ... واللهُ يُذْهِبُ عنه رسْم باقيها )
( قد كان موسى على عِلاَّت منطقه ... رسائلُ الله إذ جاءت يُؤَدِّيها )
( موسى بن عمران لم يَنْقص نبوَّته ... ضعفُ اللسان وقِدْماً كان يُمْضِيها )
فوصله أحمد رحمه الله تعالى واعتذر إليه
أخبرني عمي قال حدثني متوج قال قال أبو السمط دخلت على عبد الله بن طاهر فقال إني تذكرت في ليلتي هذه ذا اليمينين فبت أرقا حزينا باكيا فارثه في مقامك هذا بأبيات تجعل لي طريقا إلى شفاء علتي ولك حكمك ففكرت هنيهة ثم قلت
( إنّ المكارم إذ تولَّى طاهرٌ ... قطَع الزمانُ يمينَها وشِمالَها )
( لو كافحْته يدُ المنونُ مُجاهراً ... لاقت لوقع سيوفه آجالَها )
( أَرْسى عِمَادَ خليفةٍ في هاشم ... ورمى عمادَ خلافة فأزالها )
( بكت الأعِنّةُ والأسِنَّة طاهراً ... ولطالما روّى النَّجِيعُ نِهالَها )
( ليتَ المنون تجانبت عن طاهرٍ ... ولوت بذِرْوَة من تشاءُ حِبالها )
( ما كنت لو سَلِمَتْ يمينا طاهرٍ ... أَدري ولا أسَلُ الحوادث مالها )
فقال أحسنت والله فاحتكم فقلت له خمسون ألف درهم أقضي منها دينا وأصلح حالي وأبتاع ضيعة تلاصق ضيعتي
فأمر لي بها وقال ربحنا

وخسرت ولو لم تحتكم لزدتك ولك عندنا عد وعد بعد عد

صوت
( لا تلمْنيَ أن أَجْزعا ... سَيّدي قد تمنَّعا )
( وابَلائي إن كانَ ما ... بيننا قد تَقطَّعا )
( إنّ مُوسى بِفَضْله ... جمَّع الفضْلَ أَجمعَا )
الشعر ليوسف بن الصيقل والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر

أخبار يوسف بن الحجاج ونسبه
نسبه
هو يوسف بن الحجاج الصيقل يقال إنه من ثقيف ويقال إنه مولى لهم وذكر محمد بن داود بن الجراح أنه كان يلقب لقوة وأنه كان يصحب أبا نواس ويأخذ عنه ويروي له وأبوه الحجاج ين يوسف محدث ثقة وروى عنه جماعة من شيوخنا منهم ابن منيع والحسن بن الطيب الشجاع وابن عفير الأنصاري وكان يوسف بن الصيقل كاتبا ومولده ومنشؤه بالكوفة
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي عن ابن شبة قال قال أحمد بن صالح الهشامي قال لنا يوسف بن الصيقل يوما ورأى الشعراء بأيديهم الرقاع يطوفون بها فقال صنع الله لكم ثم أقبل على إبراهيم الموصلي فقال له كنا

نهزل فنأخذ الرغائب وهؤلاء المساكين الآن يجدون فلا يعطون شيئا ثم قال لإبراهيم أتذكر ونحن بجرجان مع موسى الهادي وقد شرب على مستشرف عال جدا وأنت تغنيه هذا الصوت
( واستدارت رحالُهم ... بالرُّدَينِيِّ شُرَّعَا )
فقال هذا لحن مليح ولكني أريد له شعرا غير هذا فإن هذا شعر بارد والتفت إلي فقال اصنع في هذا الوزن شعرا فقلت
( لا تلمنيَ أن أجزعا ... سيّدي قد تمنّعا )
فغنيته فيه بذلك اللحن ومرت به إبل ينقل عليها فقال أوقروها لهما مالا فأوقرت مالا وحمل إلينا فاقتسمناه فقال إبراهيم نعم وأصاب كل واحد منا ستين ألف درهم

نسبه هذا الصوت الذي غناه
صوت
( فارسٌ يضرِب الكتيبةَ ... حتَّى تصدَّعا )
( في الوغَى حينَ لا يَرَى ... صاحبُ القَوسِ مَنزَعا )
( واستدارتْ رحالُهمْ ... بالرُّدَينيِّ شُرَّعا )
( ثم ثارتْ عَجاجَةٌ ... تحتَها الموتُ مُنْقَعا )
في هذه الأبيات رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى سياط وفيه لإبن جامع خفيف رمل بالبنصر

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله العبدي فذكر مثل هذه القصة إلا أنه حكى أنها كانت بالرقة لا بجرجان وأن الرشيد كان صاحبها لا موسى

مدح الرشيد فأجازه
أخبرني الحسن بن علي العنزي عن محمد بن يونس الربيعي قال حدثني أبو سعيد الجند يسابوري قال لما ورد الرشيد الرقة خرج يوسف بن الصيقل وكمن له في نهر جاف على طريقه وكان لهارون خدم صغار يسميهم النمل يتقدمونه بأيديهم قسي البندق يرمون بها من يعارضه في طريقه فلم يتحرك يوسف حتى وافته قبة هارون على ناقة فوثب إليه يوسف وأقبل الخدم الصغار يرمونه فصاح بهم الرشيد كفوا عنه فكفوا وصاح به يوسف يقول
صوت
( أَغيثاً تحملُ الناقةُ ... أم تحملُ هرونا )
( أَم الشمسُ أم البدرُ ... أم الدُّنيا أم الدِّينا )
( الا كلَّ الذي عدّدْتُ ... قد أَصبح مَقرونا )
( على مَفرِقِ هارون ... فَداه الآدِميُّونا )
فمد الرشيد يده إليه وقال له مرحباً بك يا يوسف كيف كنت بعدي ادن مني فدنا وأمر له بفرس فركبه وسار إلى جانب قبته ينشده ويحدثه

والرشيد يضحك وكان طيب الحديث ثم أمر له بمال وأمر بأن يغنى في الأبيات
الغناء في هذه الأبيات لإبن جامع خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي وقال محمد بن داود كان يوسف فاسقا مجاهرا باللواط وله فيه أشعار فمنها قوله
( لا تَبخَلَنّ على النديم ... برِدْف ذي كَشْحٍ هَضيم )
( تعلُو وينظُر حَسْرةً ... نَظَرَ الحمارِ إِلى القَضِيم )
( وإذا فرغْتَ فلا تقم ... حتى تُصَوِّتَ بالنّديمِ )
( فإِذا أجابَ فقلْ هلُمَّ ... إلى شهادةِ ذي الغريمِ )
( واتبعْ للذّتك الهوَى ... ودعِ الملامةَ للمُليمِ )
قال وهذا الشعر يقوله لصديق له رآه قد علا غلاما له فخاطبه به
ومن مشهور قوله في هذا المعنى
( لا تَنيكَنَّ ما حيِيتَ ... غُلاماً مكابَرَهْ )
( لا تمرَّنَّ باسته ... دُون دَفْع المؤامرهْ )
( إن هذا اللّواطَ دِينٌ ... تراه الأساوره )
( وهمُ فيه منصِفون ... بحُسنِ المعاشره )
ومن قوله في هذا المعنى أيضا هذه الأبيات
( ضع كذا صدرَك لي يا سيدي ... واتَّخذْ عندي إلى الحشريدَا )

( إنَّما رِدفك سرْجٌ مُذهَبٌ ... كُشِفَ البِزْيونَ عنه فبدا )
( فأَعرنيه ولا تبخلْ به ... ليس يُبليه رُكوبي أبدا )
( بل يصفِّيه وَيَجلوه ولا ... أَثرٌ ترآه فيه أبدا )
( فادنُ يا حِبُّ وطِبْ نفساً به ... إنّ ذاك الدّينَ تُقضاه غدا )

هجا القيان
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة عن أحمد بن صالح الهاشمي قال هجا يوسف بن الصيقل القيان فقال
( احذر فديتُك ما حييتَ ... حبائلَ المتَشاكلات )
( فلهُنَّ يُفْلِسْن الفَتى ... وكفى بهنّ مُفَلِّسات )
( ويل امريءٍ غِرٍّ تَجيه ... رقاعُهنّ مُخَتَّمات )
( ورقاعُهُنَّ إليهمُ ... برُقَى القِحَابِ مُسَطَّرات )
( وعلى القيادة رُسْلُهنَّ ... إذا بُعِثْن مدرَّبات )
( يهدمْنَ أكياسَ الغنيّ ... من المؤونةِ والهِباتِ )
( حفرَ العلوجُ سَواقياً ... للماء في الأرضِ المَوَات )
( فيصيرُ من إفلاسه ... ومن الندامةِ في سُباتِ )
قال وشاعت هذه الأبيات وتهاداها الناس وصارت عبثا بالقيان لكل أحد فكانت المغنية إذا عثرت قالت تعس يوسف

الرشيد يختاره للجائزة والموالي يزكونه
أخبرني الحسن بن علي قال أخبرني عيسى بن الحسن الآدمي قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال أحضر الرشيد عشرة آلاف دينار من ضرب السنة ففرقها حتى بقيت منها ثلاثة آلاف دينار فقال ائتوني شاعرا أهبها له فوجدوا منصورا النمري ببابه فأدخل إليه فأنشده وكان قبيح الإنشاد فقال له الرشيد أعانك الله على نفسك انصرف فقال يا أمير المؤمنين قد دخلت إليك دخلتين لم تعطني فيهما شيئا وهذه الثالثة ووالله لئن حرمتني لا رفعت رأسي بين الشعراء أبدا
فضحك الرشيد وقال خذها فأخذها ونظر الرشيد إلى الموالي ينظر بعضهم بعضا فقال كأني قد عرفت ما أردتم إنما أردتم أن تكون هذه الدنانير ليوسف بن الصيقل وكان يوسف منقطعا إلى الموالي ينادمهم ويمدحهم فكانوا يتعصبون له فقالوا إي والله يا أمير المؤمنين فقال هاتوا ثلاثة آلاف دينار فأحضرت فأقبل على يوسف فقال هات أنشدنا فأنشده يوسف
( تصدَّتْ له يوم الرُّصافَةِ زينبُ ... )
فقال له كأنك امتدحتنا فيها فقال أجل والله يا أمير المؤمنين فقال أنت ممن يوثق بنيته ولا تتهم موالاته هات من ملحك ودع المديح فأنشده قوله
صوت
( العفوُ يا غَضبانُ ... ما هكذا الخِلاّنُ )

( هَبْنِي أبتُليتُ بذّنبٍ ... أما لَه غُفْرانُ )
( وإن تعاظم ذَنْبٌ ... ففوقَه الهجرانُ )
( كم قد تقرّبْتُ جَهدي ... لو ينفَع القُرْبانُ )
( يا ربّ أنتَ على ما ... قد حلَّ بي المستعانُ )
( ويْلي أَلست تَراني ... أهْذي بها يا فلانُ )
فقال الرشيد ومن فلان هذا ويلك فقال له الفضل بن الربيع هو أبان مولاك يا أمير المؤمنين فقال له الرشيد ولم لم تنشدني كما قلت يا نبطي فقال لأني غضبان عليه قال وما أغضبك قال مدت دجلة فهدمت داري وداره فبنى داره وعلاها حتى سترت الهواء عني قال لا جرم ليعطينك الماص بظر أمه عشرة آلاف درهم حتى تبني بناء يعلو على بنائه فتستر أنت الهواء عنه ثم قال له خذ في شعرك فأنشده نحوا من هذا الشعر فقال للفضل بن الربيع يا عباس ليس هذا بشعر ما هو إلا لعب أعطوه ثلاثة آلاف درهم مكان الثلاثة آلآلاف الدينار فانصرف الموالي إلى صالح الخازن فقالوا له أعطه ثلاثة آلاف دينار كما أمر له أولا فقال أستأمره ثم أفعل فقالوا له أعطه إياها بضماننا فإن أمضيت له وإلا كانت في أموالنا فدفعها إليه بضمانهم فأمضيت له فكان يوسف يقول بعد ذلك كنا نلعت فنأخذ مثل هذه الأموال وأنتم تقتلون أنفسكم فلا تأخذون شيئا
صوت
( هبّتْ قُبيل تبلُّجِ الفجرِ ... هندٌ تقولُ ودمعُها يَجري )
( أنَّى اعتراك وكنت في عهديَ لا ... سَربَ الدموع وكنتَ ذا صَبْرِ )

الشعر لرجل من الشراه يقال له عمرو بن الحسن مولى بني تميم يقوله في عبد الله بن يحيى الذي تسميه الخوارج طالب الحق ومن قتل من أصحابه معه يرثيهم
والغناء لعبد الله بن أبي العلاء ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن الهشامي

خبر عبد الله بن يحيى وخروجه ومقتله
أخبرني بذلك الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن محمد بن أبي محمد الخزامي وخلاد بن يزيد وعبد الله بن مصعب وعمرو بن هشام وعبد الله بن محمد الثقفي ويعقوب بن داود الثقفي وحريم بن أبي يحيى
كان مجتهدا عابدا
أن عبد الله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت وكان مجتهدا عابدا وكان يقول قبل أن يخرج لقيني رجل فأطال النظر إلي وقال ممن أنت فقلت من كندة فقال من أيهم فقلت من بني شيطان قال والله لتملكن ولتبلغن خيلك وادي القرى وذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك
فذهبت أتخوف ما قال وأستخير الله فرأيت باليمن جورا ظاهرا وعسفا شديدا وسيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه ما يحل لنا المقام على ما نرى ولا يسعنا الصبر عليه وكتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة الذي يقال له كودين مولى بني تميم وكان ينزل في الأزد وإلى غيره من

الإباضية بالبصرة يشاورهم في الخروج فكتبوا إليه إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل ولست تدري متى يأتي عليك أجلك ولله خيرة من عباده يبعثهم إذا شاء لنصرة دينه ويخص بالشهادة منهم من يشاء
وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي أحد بني سلمة وبلج بن عقبة السقوري في رجال من الإباضية فقدموا عليه حضر موت فحثوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه إذا خرجتم فلا تغلوا ولا تغدروا واقتدوا بسلفكم الصالحين وسيروا سيرتهم فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان العيث لأعمالهم
فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار الإمارة وعلى حضرموت إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي فأخذوه فحبسوه يوما ثم أطلقوه فأتى صنعاء وأقام عبد الله بن يحيى بحضر موت وكثر جمعه وسموه طالب الحق

رحيله من حضرموت إلى صنعاء
فكتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء إني قادم عليكم ثم استخلف على حضر موت عبد الله بن سعيد الحضرمي وتوجه إلى صنعاء سنة تسع وعشرين ومائة في ألفين وبلغ القاسم بن عمر أخا يوسف بن عمر وهو عامل مروان بن محمد على صنعاء مسير عبد الله بن يحيى فاستخلف على

صنعاء الضحاك بن زمل وخرج يريد الإباضية في سلاح ظاهر وعدة وجمع كثير فعسكر على مسيرة يوم من أبين وخلف فيها الأثقال وتقدمت المقاتلة فلقيه عبد الله بن يحيى بلحج قرية من أبين قريبا من الليل فقال الناس للقاسم أيها الأمير لا تقاتل الخوارج ليلا فأبى وقاتلهم فقتلوا من أصحابه بشرا كثيرا وانهزموا ليلا فمر بعسكره فأمرهم بالرحيل ومضى إلى صنعاء فأقام يوماً ثم خرج فعسكر قريباً من صنعاء وخندق وخلف بصنعاء الضحاك بن زمل فأقبل عبد الله بن يحيى فنزل جونين على ميلين من عسكر القاسم فوجه القاسم يزيد بن الفيض في ثلاثة آلاف من أهل الشام وأهل اليمن فكانت بينهم مناوشة ثم تحاجزوا فرجع يزيد إلى القاسم فاستأذنه في بياتهم فأبى أن يأذن له فقال يزيد والله لئن لم تبيتهم ليغمنك فأبى أن يأذن له وأقاموا يومين لا يلتقون فلما كان في الليلة الثالثة أقبل عبد الله بن يحيى فوافاه مع طلوع الفجر فقاتلهم الناس على الخندق فغلبتهم الخوارج عليه ودخلوا عسكرهم والقاسم يصلي فركب وقاتلهم الصلت بن يوسف فقتل في المعركة وقام بأمر الناس يزيد بن الفيض فقاتلهم حتى ارتفع النهار ثم انهزم أهل صنعاء فأراد أبرهة بن الصباح اتباعهم فمنعه عبد

الله بن يحيى واتبع يزيد بن الفيض القاسم بن عمر فأخبره الخبر فقال القاسم
( ألا ليتَ شِعري هل أذودَنَّ بالقَنَا ... وبالهُندْوانيّاتِ قَبْل مماتي )
( وهل أُصبِحنّ الحارثَينِ كِلَيهما ... بطعنٍ وضربٍ يَقطعُ اللهَواتِ )
قال ودخل عبد الله بن يحيى صنعاء فأخذ الضحاك بن زمل وإبراهيم بن جبلة بن مخرمة فحبسهما وجمع الخزائن والأموال فأحرزها ثم أرسل إلى الضحاك وإبراهيم فأرسلهما وقال لهما حبستكما خوفا عليكما من العامة وليس عليكما مكروه فأقيما إن شئتما أو اشخصا فخرجا

خطبته بعد فتح اليمن
فلما استولى عبد الله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس فحمد الله جل وعز وأثنى عليه وصلى على نبيه ووعظ وذكر وحذر ثم قال إنا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه وإجابة من دعا إليهما الإسلام ديننا ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا والقرآن إمامنا رضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بديلا ولا نشتري به ثمنا قليلا وحرمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعول
من زنى فهو كافر ومن سرق فهو كافر ومن شرب الخمر فهو كافر ومن شك في أنه كافر فهو كافر ندعوكم إلى فرائض بينات وآيات محكمات وآثار

مقتدى بها ونشهد أن الله صادق فيما وعد عدل فيما حكم وندعو إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد وأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاية لأهل ولاية الله والعداوة لأعداء الله
أيها الناس إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء فما نسيهم ربهم وما كان ربك نسيا
أوصيكم بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلكم الله بالقيام به فأبلوا لله بلاء حسنا في أمره وزجره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

وجه أصحابه إلى مكة
قالوا وأقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا يحسن السيرة فيهم ويلين جانبه لهم ويكف عن الناس فكثر جمعه وأتته الشراة من كل جانب فلما كان وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف وبلج بن عقبة وأبرهة بن الصباح إلى مكة في تسعمائة وقيل بل في ألف ومائة وأمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس ويوجه بلجا إلى الشأم وأقبل المختار إلى مكة فقدمها يوم التروية وعليها عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وأمه بنت عبد الله بن خالد بن أسيد فكره قتالهم
وحدثنا من هذا الموضع بخبر أبي حمزة محمد بن جرير الطبري قال حدثنا العباس بن عيسى العقيلي قال حدثنا هارون بن موسى العواري قال حدثنا موسى بن كثير مولى الساعديين قال

كان أول أمر أبي حمزة وهو المختار بن عوف الأزدي ثم السلمي من أهل البصرة أنه كان يوافي في كل سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد وآل مروان فلم يزل يختلف كل سنة حتى وافى عبد الله بن يحيى في آخر سنة وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة فقال له يا رجل إني أسمع كلاما حسنا وأراك تدعو إلى حق فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومي فخرج به حتى ورد حضرموت فبايعه أبو حمزة على الخلافة قال وقد كان مر أبو حمزة بمعدن بني سليم وكثير بن عبد الله عامل على المعدن فسمع بعض كلامه فأمر به فجلد أربعين سوطا فلما ظهر أبو حمزة بمكة تغيب كثير حتى كان من أمره ما كان ثم رجع إلى موضعه قال فلما كان في العام المقبل تمام سنة تسع وعشرين لم يعلم الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام عمائم سود خرمية في رؤوس الرماح وهم سبعمائة هكذا قال هذا
وذكر المدائني أنهم كانوا تسعمائة أو ألفا ومائة ففزع الناس منهم حين رأوهم وقالوا لهم ما لكم وما حالكم فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبري منهم
فراسهلم عبد الواحد بن سليمان وهو يومئذ على المدينة ومكة والموسم ودعاهم إلى الهدنة فقالوا نحن بحجنا أضن وعليه أشح فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير وأصبحوا من غد فوقفوا على حدة بعرفة ودفع عبد الواحد بالناس فلما كانوا بمنى قالوا لعبد الواحد إنك قد أخطأت فيهم ولو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس فنزل أبو حمزة بقرن الثعالب

من منى ونزل عبد الواحد منزل السلطان فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن حسن بن حسن بن علي عليهم السلام ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عمرو بن حفص العمري وربيعة بن عبد الرحمن في رجال من أمثالهم فلما دنوا من قرن الثعالب لقيتهم مسالح أبي حمزة فأخذوهم فدخل بهم على أبي حمزة فوجدوه جالسا وعليه إزار قطراني قد ربطه الحورة في قفاه فلما دنوا تقدم إليه عبد الله بن حسن ومحمد بن عبد الله بن عمرو فنسبهما فلما انتسبا له عبس في وجهيهما وبسر وأظهر الكراهة لهما
ثم تقدم إليه بعدهما البكري والعمري فنسبهما فلما انتسبا له هش إليهما وتبسم في وجوههما وقال والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما فقال له عبد الله بن حسن بن حسن والله ما جئناك لتفاضل بين آبائنا ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة وهذا ربيعة يخبركها فلما ذكر ربيعة نقض العهد قال بلج وإبراهيم وكانا قائدين له الساعة الساعة فأقبل عليهما أبو حمزة وقال معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن تنقضى هذه الهدنة بيننا وبينكم
فلما أبى عليهم خرجوا فابلغوا عبد الواحد

هجو عبد الواحد
فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد وخلى مكة لأبي حمزة فدخلها بغير قتال

قال هارون وأنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد لشاعر لم نحفل به
( زار الحجيجَ عصابةٌ قد خالفوا ... دينَ الإِله ففرّ عبدُ الواحد )
( ترك الإِمارة والحلائلَ هارباً ... ومضى يُخبِّطُ كالبعيرِ الشارد )
( لو كان والدُه تخيَّر أُمَّه ... لَصَفَتْ خلائقُه بعِرْق الوالد )
( ترك القتال وما به من عِلَّةٍ ... إلا الوهون وعرفةٌ من خالد )
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فدعا بالديوان وضرب على الناس البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة
قال هارون أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض أنه كان فيمن اكتتب قال ثم محوت أسمي
قال هارون وحدثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس فخرجوا فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة فانكسر الرمح وتشاءم الناس بالخروج ثم ساروا حتى نزلوا قديدا فنزلوها ليلا وكانت قرية قديد من ناحية القصر والمنبر اليوم وكانت الحياض هناك فنزل قوم مغترون ليسوا بأصحاب حرب فلم يرعهم

إلا القوم قد خرجوا عليهم من الفصل فزعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم وأدخلوهم عليهم فقتلوهم وكانت المقتلة على قريش وهم كانوا أكثر الناس وفيهم كانت الشوكة فأصيب منهم عدد كثير

اليمانيون يشمتون بقريش
قال العباس قال هارون فأخبرني بعض أصحابنا أن رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن يقول الحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش فقال له ابنه الحمد لله الذي أذلهم بأيدينا فما كانت قريش تظن أن من نزل على عمان من الأزد عربي قال وكان هذان الرجلان مع أهل المدينة فقال القرشي لإبنه يا بني هلم نبدأ بهذين الرجلين قال نعم يا أبت فحملا عليهما فقتلاهما ثم قال لإبنه أي بني تقدم فقاتلا حتى قتلا
وقال المدائني القرشي كان عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير والمتكلم بالكلام مع ابنه رجل من الأنصار
قال ثم ورد فلال الجيش المدينة وبكى الناس قتلاهم فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح فلا تزال المرأة يأتيها الخبر بمقتل حميمها فتنصرف حتى ما يبقى عندها امرأة فأنشدني أبو حمزة هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه لبعض أصحابه
( يالهفَ نفسي ولهفٌ غير نافعةٍ ... على فوارسَ بالبطحاء أنجادِ )
( عمروٌ وعمروٌ وعبدُ الله بينَهما ... وابناهما خامسٌ والحارث السادِي )

مروان يأمر عامله بتوجيه الجيش إلى مكة
قال المدائني في خبره كتب عبد الواحد بن سليمان إلى مروان يعتذر من إخراجه عن مكة فكتب مروان إلى عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامله على المدينة يأمره بتوجيه الجيش إلى مكة فوجه ثمانية آلاف رجل من قريش والأنصار والتجار أغمار لاعلم لهم بالحرب فخرجوا في الصبغات والثياب الناعمة واللهو لا يظنون أن للخوارج شوكة ولا يشكون أنهم في أيديهم
وقال رجل من قريش لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء ولكنهم داهنوا في أمر الله تعالى والله إن ظفرنا لنسيرن إلى أهل الطائف فلنسبينهم ثم قال من يشتري مني سبي أهل الطائف فلما انهزم الناس رجع ذلك الرجل القائل من يشتري مني سبي أهل الطائف في أول المنهزمين فدخل منزله وأراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب فقال لها غاق باق دهشا ولم تفهم الجارية قوله حتى أومأ إليها بيده فأغلقت الباب فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق باق
قال وكان عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص فرحب به وضحك إليه ومر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه ولم يلتفت إليه فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع وكان ابن خالته أماهما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش فلم تنظر إليه ولم تكلمه ومر بك غلام من بني أمية فضحكت إليه ولاطفته

أما والله لو قد التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر قال فكان أمية بن عنبسة أول من انهزم ونكب فرسه ومضى وقال لغلامه يا مجيب أما والله لئن أحزرت نفسي هذه الأكلب من الشراة إني لعاجز
وقاتل يومئذ عمارة بن حمزة ابن مصعب حتى قتل وتمثل
( وإِني إذا ضنّ الأميرُ بإذنه ... على الاذنِ من نفسي إِذا شئتُ قادرُ )
والشعر للأغر بن حماد اليشكري
قال ولما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة إبراهيم بن الصباح وشخص إليهم وعلى مقدمته بلج بن عقبة فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها وأهل المدينة نزول بقديد قال لأصحابه إنكم لاقو قومكم غدا وأميرهم فيما بلغني ابن عثمان أول من خالف سيرة الخلفاء وبدل سنة رسول الله وقد وضح الصبح لذي عينين فأكثروا ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن ووطنوا أنفسكم على الصبر
وصبحهم غداة الخميس لتسع أو لسبع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة فقال عبد العزيز لغلامه أبغنا علفا
قال هو غال قال ويحك البواكي علينا غدا أغلى

رسول أبي حمزة إلى أهل المدينة
وأرسل إليهم أبو حمزة بلج بن عقبة ليدعوهم فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله وسألهم أن يكفوا عنهم وقال لهم خلوا لنا سبيلنا لنسير إلى من ظلمكم وجار في الحكم عليكم ولا تجعلوا حدنا بكم فإنا لا نريد قتالكم فشتمهم أهل المدينة وقالوا يا أعداء الله أنحن نخليكم وندعكم تفسدون في الأرض فقالت الخوارج يا أعداء الله أنحن نفسد في الأرض إنما خرجنا لنكف أهل الفساد ونقاتل من قاتلنا واستأثر بالفيء

فانظروا لأنفسكم واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة فإنه لا طاعة لمن عصى الله وادخلوا في السلم وعاونوا أهل الحق فقال له عبد العزيز ما تقول في عثمان قال قد برئ المسلمون منه قبلي وأنا متبع آثارهم ومقتد بهم قال فارجع إلى أصحابك فليس بيننا وبينهم إلا السيف
فرجع إلى أبي حمزة فأخبره فقال كفوا عنهم ولا تقاتلوهم
حتى يبدأوكم بالقتال فواقفوهم ولم يقاتلوهم فرمى رجل من أهل المدينة في عسكر أبي حمزة بسهم فجرح رجلا فقال أبو حمزة شأنكم الآن بهم فقد حل قتالهم فحملوا عليهم وثبت بعضهم لبعض وراية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع
ثم انكشف أهل المدينة فلم يتبعوهم وكان على مجنبتهم ضمير بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة فكر وكر الناس معه فقاتلوا قليلا ثم انهزموا فلم يبعدوا
حتى كروا ثالثة وقاتلهم أبو حمزة فهزمهم هزيمة لم تبق منهم باقية فقال له علي بن الحصين أتبع القوم أو دعني أتبعهم فأقتل المدبر واذفف على الجريح فإن هؤلاء أشر علينا من أهل الشأم فلو قد جاؤوك غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره فقال لا أفعل ولا أخالف سيرة أسلافنا
وأخذ جماعة منهم أسراء فأراد إطلاقهم فمنعه علي بن الحصين وقال له إن لأهل كل زمان سيرة وهؤلاء لم يؤسروا وهم هراب وإنما أسروا وهم يقاتلون ولو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم وكذلك الآن قتلهم حلال فدعا بهم فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله وإذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه فأتي بمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فنسبه فقال أنا رجل من الأنصار فسأل الأنصار عنه فشهدوا له

فأطلقه فلما ولى قال والله لأعلم أنه قرشي وما حذاوة هذا حذاوة أنصاري ولكن قد أطلقته
قال وبلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلا منهم من قريش أربعمائة وخمسون رجلا ومن الأنصار ثمانون ومن القبائل والموالي ألف وسبعمائة قال وكان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزى أربعون رجلاً وقتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان خرج يومئذ مقنعا فما كلم أحدا وقاتل حتى قتل وقتل يومئذ سمي مولى أبي بكر الذي يروي عنه مالك بن أنس ودخل بلج المدينة بغير حرب فدخلوا في طاعته وكف عنهم ورجع أبو حمزة إلى مكة وكان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمرو من آل سراقة من بني عدي فكان أهل المدينة يقولون لعن الله السراقي ولعن بلجا العراقي

نائحة المدينة تبكي قتلى قديد وعمر بن الحسن يذكر الوقعة
وقالت نائحة أهل المدينة تبكيهم
( ما للزمان ومالِيَهْ ... أفنت قُديْدُ رِجاليَهْ )
( فلأَبكِينَّ سَرِيرَةً ... ولأبكينَّ علانيهْ )
( ولأَبكينّ إذا خلوتُ ... مع الكلاب العاويهْ )
( ولأُثنينّ على قُدَيْدَ ... بسوء ما أبلانِيهْ )

في هذه الأبيات هزج قديم يشبه أن يكون لطويس أو بعض طبقته
وقال عمرو بن الحسن الكوفي مولى بني تميم يذكر وقعة قديد وأمر مكة ودخولهم إياها وأنشدنيها الأخفش عن السكري والأحول وثعلب لعمرو هذا وكان يستجيدها ويفضلها
( ما بالُ همِّك ليسَ عنك بعازبِ ... يَمري سوابقَ دمعِك المتساكبِ )
( وتبيتُ تَكتلِيء النجومَ بمقلةٍ ... عبْرى تُسَرّ بكلِّ نجمٍ دائبِ )
( حذرَ المنيةِ أن تَجيء بداهةً ... لم أقض من تَبع الشُّراةِ مآربي )
( فأَقودُ فيهم للعِدا شَنِجَ النّسا ... عَبْلَ الشَّوى أسوان ضمر الحالِب )
( متحدَّراً كالسِّيد أخلصَ لونَه ... ماءُ الحسيك مع الحِلاَل اللاتِب )
( أَرمي به من جَمْع قومي مَعْشراً ... بُوراً إِلى جَبْريّةٍ ومَعايبِ )
( في فِتيةٍ صُبُرٍ أَلفُّهُمُ به ... لَفَّ القداح يَدَ المُفيض الضاربِ )
( فندور نحنُ وهُم وفيما بينَنا ... كأسُ المَنونِ تقول هلْ من شاربِ )
( فنظلُّ نسقيهم ونشرَب من قَناً ... سُمْر ومُرهفةِ النُّصول قواضبِ )

( بينا كذلكَ نحنُ جالتْ طعنةٌ ... نجلاءُ بينَ رُهَا وبينَ ترائب )
( جوفاءُ منهَرةٌ ترى تامورَها ... ظُبتَا سِنانٍ كالشِّهاب الثاقبِ )
( اهوى لها شِقَّ الشِّمال كأنني ... حَفَضٌ لقىً تحتَ العَجاج العاصبِ )
( يا رب أوحيها ولا تتعلّقَنْ ... نفسِي المنون لَدَى أكُفِّ قرائبِ )
( كم من أُولي مِقةٍ صحبْتُهم شَرَوْا ... فخذلتُهمْ ولبئسَ فعلُ الصاحب )
( متأوِّهين كأنّ في أجْوافِهم ... ناراً تُسعِّرها أكُفُّ حَواطبِ )
( تلقاهُم فتراهُم منْ راكعٍ ... أو ساجدٍ متضرّعٍ أو ناحبِ )
( يتلو قوارعَ تمتري عَبراتِه ... فيجودُها مَرْيَ امريّ الحالبِ )
( سُيُرٍ لجائفة الأمورِ أطبَّةٌ ... للصَّدع ذي النبأ الجليل مدائبِ )
( ومُبرّئينَ من المعايبِ أحرزوا ... خُصَل المكارم أتْقياء أطايبِ )
( عَرّوْا صَوارمَ للجلاد وباشَروا ... حدَّ الظباةِ بآنُفٍ وحواجبِ )
( ناطوا أمورَهُم بأَمْرِ أخٍ لهم ... فرمى بهم قُحْم الطرِيقِ اللاحبِ )
( مُتسربِلي حَلَق الحديدِ كأنهم ... أُسْدٌ على لُحْق البطون سلاهبِ )
( قِيدت مِن أعلى حضر موتَ فلم تزل ... تَنفِي عداها جانباً عن جانب )
( تحمي أعنّتَها وتحوي نَهْبَها ... لله أكرمُ فتيةٍ وأسائبِ )

( حتى وردنَ حياضَ مكة قُطّناً ... يحكِينَ واردةَ اليمام القارب )
( ما إن أتينَ على أخي حَبْريةٍ ... إلا تركنَهمُ كأَمسِ الذاهبِ )
( في كلِّ معترِكٍ لها من هامهم ... فِلَقٌ وأيدٍ عُلِّقتْ بمناكب )
( سائلْ بيوم قُديدَ عن وقعَاتها ... تُخبرْك عن وقعاتِها بعجائب )
وقال هارون بن موسى في رواية محمد بن جرير الطبري عن العباس بن عيسى عنه ثم دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين ومائة ومضى عبد الواحد بن سليمان إلى الشأم فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمر الله فيهم القول وسألناكم هل يقتلون بالظن فقلتم نعم وسألناكم هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام فقلتم نعم فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم فنناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لأنفسهم فقتلتم لا تفعلون فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم نلقاهم فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه وإن نظفر نعمل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم فيئكم بينكم فإن أبيتم وقاتلتمونا دونهم فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم
يا أهل المدينة مررت بكم في زمان الأحول هشام بن عبد الملك وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم فكتب بوضعها عنكم فزاد الغني غنى وزاد الفقير فقرا فقلتم جزاكم الله خيرا فلا جزاه الله خيرا ولا جزاكم

أبو حمزة يخطب بأهل المدينة
قال هارون وأخبرني يحيى بن زكريا أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة

رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال أتعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ولا ثأر قديم نيل منا ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت وعنف القاتل بالحق وقتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فأجبنا داعي الله ( ومَن لا يُجِب داعيَ اللهِ فَليس بمُعجزٍ في الأرض ) فأقبلنا من قبائل شتى النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الأرض فآوانا الله وأيدنا بنصره وأصبحنا والله بنعمته إخوانا ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم مروان وآل مروان شتان لعمر الله ما بين الغي والرشد ثم أقبلوا يهرعون ويزفون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله وصدق عليهم ظنه وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون
وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين يا أهل المدينة إن أولكم خير أول وآخركم شر آخر يا أهل المدينة الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن أو كافرا من أهل الكتاب أما إماما جائرا يا أهل المدينة من زعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها أو سألها عما لم يؤتها فهو لله عدو ولنا حرب
يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم

فرضها الله تعالى في كتابه على القوي للضعيف فجاء التاسع وليس له منها ولا سهم واحد فأخذ جميعها لنفسه مكابرا محاربا لربه ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم هم شباب أحداث وأعراب جفاة ويحكم يا أهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله إلا شبابا أحداثا شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أقدامهم قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا قد خلطوا كلالهم بكلالهم وقيام ليلهم بصيام نهارهم منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة فلما نظروا إلى السيوف قد أنضيت وإلى الرماح قد أشرعت وإلى السهام قد فوقت وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيد الكتيبة عند وعيد الله ولم يستخفوا وعيد الله عند وعيد الكتيبة فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا
أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيرنا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
قال هارون وحدثني جدي أبو علقمة قال سمعت أبا حمزة على منبر النبي يقول ( من زنى فهو كافر ) ومن سرق فهو كافر ومن شك أنه كافر فهو كافر
( بَرِح الخفاءُ فأينَ ما بكَ يذهبُ ... )

أبو حمزة يخطب من جديد بأهل المدينة
قال هارون قال جدي كان أبو حمزة قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس وسمع بعضهم كلامه في قوله من زنى فهو كافر قال هارون قال جدي
وسمعت أبا حمزة يخطب بالمدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل المدينة مالي رأيت رسم الدين فيكم عافيا وآثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة ولا تفقهون من أهله حجة قد بليت فيكم جدته وانطمست عنكم سنته ترون معروفه منكرا والمنكر من غيره معروفا إذا انكشفت لكم العبر وأوضحت لكم النذر عميت عنها أبصاركم وصمت عنها أسماعكم ساهين في غمرة لاهين في غفلة تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر وتنقبض عن الحق إذا ذكر مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا تحملون منها في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة أو لم تبن لكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعا من خشية الله يا أهل المدينة ما تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم إن الله قد جعل لكل شيء غالبا يقاد له ويطيع أمره وجعل القلوب غالبة على الأبدان فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا وإن القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحتها ولا يصححها إلا المعرفة بالله وقوة النية ونفاذ البصيرة
ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم لأستعملت بطاعة الله أبدانكم يا أهل المدينة داركم دار الهجرة ومثوى رسول الله لما نبت به داره وضاق به قراره وآذاه الأعداء وتجهمت له فنقله إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم متوازرين مع الحق على الباطل ومختارين للآجل على العاجل يصبرون

للضراء رجاء ثوابها فنصروا الله وجاهدوا في سبيله وآووا رسول الله ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وآثروا الله على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة قال الله تعلى لهم ولأمثالهم ولمن اهتدى بهداهم ( ومَنْ يوقَ شُحَّ نفسِه فَأولئك هم المفلحون ) وأنتم أبناؤهم ومن بقي من خلفهم تتركون أن تقتدوا بهم أو تأخذوا بسنتهم عمى القلوب صم الآذان اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى وأسهاكم فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجروا ولا تعظكم فتعتبروا ولا توقظكم فتستيقظوا لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ما سرتم بسيرتهم ولا حفظتم وصيتهم ولا احتذيتم مثالهم لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم فعجبوا كيف صرف العذاب عنكم
قال ثم لعن أقواما

خطبة رابعة له
قال هارون وحدثني داود بن عبد الله بن أبي الكرام وأخرج إليّ خط ابن فضالة النحوي بهذا الخبر أن أبا حمزة بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه لحداثة أسنانهم وخفة أحلامهم فبلغه ذلك عنهم فصعد المنبر وعليه كساء غليظ وهو متنكب قوسا عربية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وآله ثم قال يا أهل المدينة قد بلغتني مقالتكم في أصحابي ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم لأحسنت أدبكم ويحكم إن رسول الله أنزل عليه الكتاب وبين له فيه السنن وشرع له فيه الشرائع وبين له فيه ما يأتي وما يذر فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله ولا يحجم إلا عن أمر الله حتى قبضه الله

إليه وقد أدى الذي عليه لم يدعكم من أمركم في شبهة ثم قام من بعده أبو بكر فأخذ بسنته وقاتل أهل الردة وشمر في أمر الله حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ومغفرته ثم ولي بعده عمر فأخذ بسنة صاحبيه وجند الأجناد ومصر الأمصار وجبى الفيء فقسمه بين أهله وشمر عن ساقه وحسر عن ذراعه وضرب في الخمر ثمانين وقام في شهر رمضان وغزا العدو في بلادهم وفتح المدائن والحصون حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فعمل في ست سنين بسنة صاحبيه ثم أحدث أحداثا أبطل آخر منها أولا واضطرب حبل الدين بعدها فطلبها كل امرئ لنفسه وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه حتى مضوا على ذلك ثم ولي علي بن أبي طالب فلم يبلغ من الحق قصدا ولم يرفع له منارا ومضى ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه وحلف من الأعراب وبقية من الأحزاب مؤلف طليق فسفك الدم الحرام واتخذ عباد الله خولا ومال الله دولا وبغى دينه عوجا ودغلا وأحل الفرج الحرام وعمل بما يشتهيه حتى مضى لسبيله فعل الله به وفعل ثم ولى بعده ابنه يزيد يزيد الخمور ويزيد الصقور ويزيد الفهود ويزيد الصيود ويزيد القرود فخالف القرآن واتبع الكهان ونادم القرد وعمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك لعنه الله وفعل به وفعل ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول الله وآله وابن لعينه فاسق في بطنه وفرجه فالعنوه والعنوا آباءه
ثم تداولها بنو مروان بعده أهل بيت اللعنة طرداء رسول الله وآله وقوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين والأنصار ولا التابعين لهم بإحسان فأكلوا

مال الله أكلا ولعبوا بدين الله لعبا واتخذوا عباد الله عبيدا يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر
فيالها أمة ما أضيعها وأضعفها والحمد لله رب العالمين ثم مضوا على ذلك من أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله تعالى قد نبذوه وراء ظهورهم لعنهم الله فالعنوهم كما يستحقون وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز فبلغ ولم يكد وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله ولم يذكره بخير ولا شر ثم ولي يزيد بن عبد الملك غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من أمور المسلمين لم يبلغ أشده ولم يؤانس رشده وقد قال الله عز و جل ( فإِن آنسْتُم مِنهم رُشداً فادفعوا إليهم أموالهم ) فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائها أعظم من ذلك كله وإن كان ذلك عند الله عظيما مأبون في بطنه وفرجه يشرب الحرام ويأكل الحرام ويلبس الحرام ويلبس بردتين قد حيكتا له وقومتا على أهلهما بألف دينار وأكثر وأقل قد أخذت من غير حلها وصرفت في غير وجهها بعد أن ضربت فيها الأبشار وحلقت فيها الأشعار واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح ولا لنبي مرسل ثم يجلس حبابة عن يمينه وسلامة عن شماله تغنيانه بمزامير الشيطان ويشرب

الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها حتى إذا أخذت مأخذها فيه وخالطت روحه ولحمه ودمه وغلبت سورتها على عقله مزق حلتيه ثم التفت إليهما فقال أتأذنان لي أن أطير نعم فطر إلى النار إلى لعنة الله وناره حيث لا يردك الله
ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال أصابوا إمرة ضائعة وقوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق ولا يفرقون بين الضلالة والهدى ويرون أن بني أمية أرباب لهم فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظن ويعطلون الحدود بالشفاعات ويؤمنون الخونة ويقصون ذوي الأمانة ويأخذون الصدقة في غير وقتها على غير فرضها ويضعونها في غير موضعها فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله فالعنوهم لعنهم الله
وأما إخواننا من هذه الشيعة فليسوا بإخواننا في الدين لكن سمعت الله عز و جل قال في كتابه ( يا أيها الناسُ إِنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شُعوبَاً وقبائلَ لتعارفُوا ) شيعة ظاهرت بكتاب الله وأعلنت الفرية على الله لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن ولا عقل بالغ في الفقه ولا تفتيش عن حقيقة الصواب قد قلدوا أمرهم أهراءهم وجعلوا دينهم عصبية لحزب لزموه وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا أو ضلالة أو هدى ينتظرون الدول في رجعة الموتى ويؤمنون بالبعث قبل الساعة ويدعون علم

الغيب لمخلوق لا يعلم أحدهم ما في داخل بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه ينقمون المعاصي على أهلها ويعلمون إذا ظهروا بها ولا يعرفون المخرج منها جفاة في الدين قليلة عقولهم قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة ( قاتلهم الله أنَّى يُؤفَكون ) فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون أو بأي مذاهبهم تقتدون وقد بلغني مقالتكم في أصحابي وما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله وآله المذكورون في الخير إلا أحداثا شبابا شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أرجلهم أنظاء عبادة قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية من ذكر الله بكى شوقا وكلما مر بآية من ذكر الله شهق خوفا كأن زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض جباههم وركبهم ووصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرة ألوانهم ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام أنضاء عبادة موفون بعهد الله منتجزون لوعد الله قد شروا أنفسهم حتى إذا التقت الكتيبتان وأبرقت سيوفها وفوقت سهامها وأشرعت رماحها لقو شبا الأسنة وشائك السهام وظباة السيوف بنحورهم ووجوههم وصدورهم فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على

عنق فرسه واختضبت محاسن وجهه بالدماء وعفر جبينه بالثرى وانحطت عليه الطير من السماء وتمزقته سباع الأرض فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد
ثم بكى وقال آه آه على فراق الإخوان رحمة الله على تلك الأبدان وأدخل الله أرواحهم الجنان
قال هارون بلغني أنه بايعه بالمدينة ناس منهم إنسان هذلي وإنسان سراقي وسكسب الذي كان معلم النحو ثم خرج وخلف بالمدينة بعض أصحابه فسار حتى نزل الوادي وكان مروان قد بعث ابن عطية

مروان ينتخب جيشا بقيادة ابن عطية
قال هارون حدثني أبو يحيى الزهري أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف استعمل عليهم ابن عطية فأمره بالجد في السير وأعطى كل رجل من أصحابه مائة دينار وفرسا عربية وبغلا لثقله وأمره أن يمضي فيقاتلهم
وقال المدائني بعث عبد الملك بن عطية السعدي أحد بني سعد بن بكر في أربعة آلاف معه فرسان من أهل الشأم ووجوههم منهم شعيب البارقي ورومي بن عامر المري وقيل بل هو كلابي وفيهم ألف من أهل الجزيرة وشرطوا على مروان أنهم إذا قتلوا عبد الله بن يحيى وأصحابه رجعوا إلى الجزيرة ولم يقيموا بالحجاز فأجابهم إلى ذلك قالوا فخرج حتى إذا نزل بالمعلى
فكان رجل من أهل المدينة يقال له العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث يقول

لقيني وأنا غلام في ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية فسألني ما اسمك يا غلام فقلت العلاء فقال ابن من فقلت ابن أفلح قال أعربي أم مولى قلت بل مولى قال مولى من قلت مولى أبي الغيث قال فأين نحن قلت بالمعلى قال فأين نحن غدا قلت بغالب قال فما كلمني حتى أردفني خلفه ثم مضى بي حتى أدخلني على ابن عطية فقال سل هذا الغلام ما اسمه فسألني فرددت عليه القول الذي قلت فسر بذلك ووهب لي دراهم
وقال أبو صخر الهذلي حين بلغه قدوم ابن عطية
( قل للذين استُضعِفوا لا تعجَلوا ... أَتاكم النصر وجيشٌ جَحْفَلُ )
( عشرونَ أَلفاً كلّهم مُسربَلُ ... يقدُمهم جَلْد القُوى مُستَبسِلُ )
( دونَكُم ذا يَمنٍ فأَقبلُوا ... وواجِهوا القومَ ولا تستَخْجِلوا )
( عبدُ المليكِ القُلَّبِيُّ الحُوّلُ ... أقسمَ لا يُفْلَى ولا يُرَجَّلُ )
( حتى يبيدَ الأعورُ المضلِّل ... ويقتلَ الصَّباح والمفضَّلُ )
الأعور عبد الله بن يحيى رئيسهم

ابن عطية ينتصر على بلج بن عقبة
قال المدائني عن رجاله وبعث أبو حمزة بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة وذكر بني أمية وظلمهم فشتمهم أهل الشام وقالوا أنتم يا أعداء الله أحق بهذا ممن ذكرتم وقلتم فحمل عليهم بلج وأصحابه فانكشف طائفة من أهل الشام وثبت أبن عطية في عصبة صبروا معه ونادى يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن

دينكم وأميركم فكروا واصبروا صبرا حسنا وقاتلوا قتالا شديدا فقتل بلج وأكثر أصحابه وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام فقتل منهم سبعين رجلا ونجا ثلاثون فرجعوا إلى أبي حمزة ونصب ابن عطية رأس بلج على رمح قال واغتم الذين رجعوا إلى أبي حمزة من وادي القرى إلى المدينة وهم الثلاثون ورجعوا وجزعوا من أنهزامهم وقالوا ما فررنا من الزحف فقال لهم أبو حمزة لا تجزعوا فأنا لكم فئة وإليّ انصرفتم

أهل المدينة يفتكون بالخوارج
قال المدائني وخرج أبو حمزة من المدينة إلى مكة واستخلف رجلا يقال له المفضل عليها فدعا عمر بن عبد الرحمن بن أسيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب الناس إلى قتالهم فلم يجد كبير أمر لأن القتل قد كان شاع في الناس وخرج وجوه أهل البلد عنه فاجتمع إلى عمر البربر والزنج وأهل السوق والعبيد فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامة أصحابه وهرب الباقون فلم يبق في المدينة منهم أحد فقال في ذلك سهيل أبو البيضاء مولى زينب بنت الحكم بن العاصي
( ليت مروانَ رانا ... يوم الإثنين عَشِيَّهْ )
( إذ غسلنا العارَ عنّا ... وانتضيْنا المَشْرَفِيّهْ )
قال فلما قدم ابن عطية المدينة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن اسيد فقال له أصلحك الله إني جمعت قضي وقضيضي فقاتلت هؤلاء فقتلنا

من امتنع من الخروج عن المدينة وأخرجنا الباقين فلقيه أهل المدينة بقضهم وقضيضهم

مصرع أبي حمزة مع زوجته
قال وأقام ابن عطية بالمدينة شهرا وأبو حمزة مقيم بمكة ثم توجه إليه فقال له علي بن حصين العنبري إني قد كنت أشرت عليك يوم قديد وقبله أن تقتل هؤلاء الأسرى كلهم فلم تفعل وعرفتك أنهم سيغدرون فلم تقبل حتى قتلوا المفضل وأصحابنا المقيمين بالمدينة وأنا أشير عليك اليوم أن تضع السيف في هؤلاء فإنهم كفرة فجرة ولو قدم عليك ابن عطية لكانوا أشد عليك منه فقال لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة وأقروا بالحكم ووجب لهم حق الولاية قال إنهم سيغدرون فقال أبعدهم الله ( فمن نكثَ فإنما ينكُث على نفسِه ) قال وقدم عبد الملك بن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين ولقي الخوارج من وجهين فصير طائفة بالأبطح وصار هو في الطائفة الأخرى بإزاء أبي حمزة فصار أبو حمزة أسفل مكة وصير أبرهة بن الصباح بالأبطح في ثمانين فارسا فقاتلهم أبرهة فانهزم أهل الشأم إلى عقبة منى فوقفوا عليها ثم كروا وقاتلهم فقتل أبرهة كمن له هبار القرشي وهو على جبل دمشق عند بئر ميمون فقتله وتفرق الخوارج وتبعهم أهل الشأم يقتلونهم حتى دخلوا المسجد والتقى أبو حمزة وابن عطية بأسفل مكة فخرج أهل مكة مع ابن عطية فقتل أبو حمزة على فم الشعب وقتلت معه امرأته وهي ترتجز وتقول
( أنا الجُعَيداَءُ وَبنتُ الأعلمْ ... من سال عن اسمي فإسمي مَريمْ )

( بعتُ سِواريّ بسيفٍ مِخذَمْ ... )
قال وتفرقت الخوارج فأسر أهل الشام منهم أربعمائة فدعا بهم ابن عطية فقال ويلكم ما دعاكم إلى الخروج مع هذا قالوا ضمن لنا الكنة يريدون الجنة وهي لغتهم فقتلهم وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح ورجلين من أصحابهم على فم الشعب شعب الخيف ودخل علي بن الحصين دارا من دور قريش فأحدق أهل الشام بالدار فأحرقوها فلما رأى ذلك رمى بنفسه من الدار فقاتلهم وأسر فقتل وصلب مع أبي حمزة ولم يزالوا مصلبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس وحج مهلهل الهجيمي في خلافة أبي العباس فأنزل أبا حمزة ليلا فدفنه ودفن خشبته
قال المدائني وكان بمكة مخنثان يقال لأحدهما سبكت وللآخر صقرة فكان صقرة يرجف بأهل الشام وكان سبكت يرجف بالإباضية فعرف الخوارج أمرهما فوجهوا إلى سبكت فأخذوه فقتلوه فقال صقرة يا ويله هو والله أيضا مقتول وإنما كنت أنا وسبكت نتكايد ونتكاذب فقتلوه وغدا يجيء أهل الشام فيقتلونني فلما دخل ابن عطية مكة عرف خبرهما فأخذ صقرة فقتله

مذهب ابن عطية
وقال هارون في خبره أخبرني عبد الملك بن الماجشون قال لما التقى أبو حمزة وابن عطية قال أبو حمزة لا تقاتلوهم حتى تخبروهم فصاح بهم ما تقولون في القرآن والعمل به فصاح ابن عطية نضعه في جوف

الجوالق قال فما تقولون في مال اليتيم قال نأكل ماله ونفجر بأمه ثم أجاب في أشياء بلغني أنه سأله عنها فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا فصاحت الشراة ويحك يابن عطية إن الله جل وعز قد جعل الليل سكنا فاسكن ونسكن فأبى وقاتلهم حتى قتلهم جميعا
قال هارون أخبرني موسى بن كثير أن أبا حمزة خطب أهل المدينة وودعهم ليخرج إلى الحرب فقال يا أهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان فإن نظهر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم بينكم وإن يكن ما تمنون لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال ووثب الناس على أصحابه حين جاءهم قتله فقتلوهم فكان بشكست ممن قتلوا طلبوه فرقي في درجة كانت في دار أذينة فلحقوه فأنزلوه منها وهو يصيح يا عباد الله فيم تقتلونني
قال وأنشدني بعض أصحابنا
( لقد كان بشكسْتُ عبد العزيز ... منَ أهل القراءةِ والمسجدِ )
( فبُعداً لبشكسْتِ عبد العزيز ... وأمّا القُرانُ فلا يَبعدِ )
قال هارون وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة فقيل ويلك أتدري من ترمي مع اختلاط الناس قال والله ما أبالي من رميت إنما هو شام وشار والله ما أبالي أيهما قتلت

مقتل طالب الحق
وقال المدائني لما قتل ابن عطية أبا حمزة بعث برأسه مع عروة بن

زيد بن عطية إلى مروان وخرج إلى الطائف فأقام بها شهرين وتزوج بنت محمد بن عبد الله بن أبي سويد الثقفي واستعمل على مكة رومي بن عامر المري وأتى فل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى بصنعاء فأقبل معه أصحابه وقد لقبوه طالب الحق يريد قتال ابن عطية وبلغ ابن عطية خبره فشخص إليه فالتقوا بكسة فأكثر أهل الشام القتل فيهم وأخذوا أثقالهم وأموالهم وتشاغلوا بالنهب فركب عبد الله بن يحيى فكشفهم فقتل منهم نحو مائة رجل وقتل قائد من قوادهم يقال له يزيد بن حمل القشيري من أهل قنسرين فذمرهم ابن عطية فكروا وانضم بعضهم إلى بعض
وقاتلوا حتى أمسوا فكف بعضهم عن بعض ثم التقوا من غد في موضع كثير الشجر والكرم والحيطان فطال القتال بينهم واستحر القتل في الشراة فترجل عبد الله بن يحيى في ألف فارس فقاتلوا حتى قتلوا جميعا عن آخرهم وانهزم الباقون فتفرقوا في كل وجه
ولحق من نجا منهم بصنعاء وولوا عليهم حمامة فقال أبو صخر الهذلي
( قتلنا دُعيساً والذي يكتَني الكُنى ... أبا حمزة الغاوي المضلَّ اليَمانيا )
( وَأبرهةَ الكِنديَّ خاضتْ رماحُنا ... وبلْجاً صبحناه الحُتوفَ القَواضيا )
( وَما تركت أسيافُنا منذ جُرّدَت ... لمروَانَ جبّاراً على الأرض عاديا )
قال المدائني وبعث عبد الملك بن عطية رأس عبد الله بن يحيى مع ابنه يزيد بن عبد الملك إلى مروان

وقال عمرو بن الحصين ويقال الحسن العنبري مولى لهم يرثي عبد الله بن يحيى وأبا حمزة
وهذه القصيدة التي في أولها الغناء المذكور أول هذه الأخبار

رثاء الخوارج
( هبّتْ قُبيلَ تبلُّج الفجرِ ... هندٌ تقول وَدمعُها يَجري )
( أن أبصرتْ عيني مَدامعَها ... ينهلّ واكِفُها على النَّحر )
( أنَّى اعتراكَ وكنتَ عهديَ لا ... سَرِبَ الدموع وكنتَ ذا صبر )
( أَقذًى بعينك ما يُفارقها ... أم عائرٌ أم مالها تُذرِي )
( أَم ذِكرُ إخوان فُجِعتَ بهم ... سلكوا سبيلَهُمُ على خُبْر )
( فأَجبتُها بل ذكرُ مصرَعِهم ... لا غيرُه عبراتُها تَمرِي )
( يا ربِّ أَسلِكني سَبيلَهمُ ... ذا العرش واشْدُد بالتّقى أزرِي )
( في فِتيةٍ صبروا نفوسَهمُ ... للمشرفيّة وَالقنا السُّمْر )
( تاللهِ ألقى الدهرَ مثلَهمُ ... حتى أكونَ رهينةَ القَبرِ )
( أوفِي بذمتهم إذا عَقَدُوا ... وَأعِفّ عند العُسر واليُسر )
( متأَهِّلينَ لكلِّ صالحةٍ ... ناهين مَنْ لاقَوْا عن النُّكْرِ )
( صُمتٌ إذا احتضروا مجالِسَهم ... وُزُن لقول خَطيبهم وُقْر )
( إلاّ تجيبهمُ فإنهمُ ... رُجُف القلوب بحضْرة الذِّكْر )
( متأَوِّهون كأنّ جمرَ غَضاً ... للخوف بين ضلوعِهم يَسري )
( تلقاهمُ إلاّ كأنّهمُ ... لخشوعهم صَدَروا عن الحَشْرِ )

( فهمُ كأَنّ بهم جَوى مرضٍ ... أو مسّهمْ طَرْفٌ من السِّحر )
( لا ليلُهم ليلٌ فيلبَسُهم ... فيه غَواشي النومِ بالسُّكْر )
( إلاّ كذا خُلساً وآونةً ... حذرَ العقابِ وهم على ذُعْر )
( كم من أخ لك قد فُجعتَ به ... قوّامُ ليلتِه إلى الفَجْر )
( متأوِّهٍ يتلو قوارعَ مِن ... آي القُران مفزَّع الصَّدْر )
( نَصِبٍ تَجيشُ بناتُ مُهجته ... بالموت جَيْش مُشَاشةِ القِدْر )
( ظمآن وقدة كلِّ هاجرةٍ ... تَرّاكُ لذَّته على قَدْرِ )
( ترّاك ما تهوى النفوسُ إذا ... رُغَبُ النفوسِ دَعتْ إلى النَّذْر )
( ومبرَّأ من كل سَيئةٍ ... عفِّ الهوى ذُو مِرّةٍ شَزْر )
( والمصطلِي بالحرب يسعَرُها ... بغبارها وبفِنيةٍ سُعْرِ )
( يجتاحها بأقلّ ذي شُطَبٍ ... عضبِ المضارب قاطعِ البَتْر )
( لا شيءَ يلقَاه أسرَّ له ... من طعنةٍ في ثُغْرةِ النَّحرِ )
( نجلاء مُنهرَة تَجيشُ بما ... كانت عواصي جَوفِه تَجري )
( كخليلكَ المختارِ أذْكِ به ... من مقتدٍ في الله أو مُشْر )
( خوّاص غمرةِ كلِّ مَتلفة ... في الله تحت العِثْير الكُدْر )
( ترّاك ذِي النَّخوات مُختَضِباً ... بنجيعه بالطَّعنة الشّزْر )

( وابن الحصين وهل له شَبَهٌ ... في العرف أنَّى كان والنُّكْرِ )
( بسَّامةٍ لم تُحنَ أضلُعه ... لذوي أُخوَّتِه على غِمْرِ )
( طلق اللسانِ بكلِّ مُحكمة ... رآبُ صدع العَظم ذِي الوقر )
( لم ينفِكك في جوفه حَزَنٌ ... تغلي حرارتُه وتستَشْرِي )
( ترقَى وآونة يُخَفِّضُها ... بتنفّس الصُّعّداء والزَّفْرِ )
( ومُخالطِي بَلْجٍ وخَالصتي ... سُمُّ العدوِّ وجابر الكَسْر )
( نِكْلِ الخصومِ إذا هُمُ شَغِبوا ... وسِداد ثَلمة عورة الثّغْر )
( والخائضُ الغمراتِ يخطِر في ... وسط الأعادي أيَّما خَطْرِ )
( بمشطَّبٍ أو غيرِ ذي شُطَب ... هامَ العِدَا بِذُبابِهِ يَفْري )
( وأخيكَ أبرهة الهجان أخي ... الْحَرْبِ العَوانِ مُلقِّحِ الجَمْر )
( بمُرِشَّةٍ فَرْعٍ تَثُجُّ دَماً ... ثجَّ الغويِّ سُلافَةَ الخَمْر )
( والضارب الأخدودِ ليس لها ... حَدٌّ ينهنهها عن السَّحْر )
( ووليُّ حكمهم فجِعتُ به ... عمرو فَواكَبِدي على عَمرِو )
( قَوَّالُ مُحكَمةٍ وذي فَهَمٍ ... عَفِّ الهوى متثبّتِ الأمْرِ )
( ومسيَّبِ فاذكْر وصيّتَه ... لا تنسَ إمّا كنتَ ذا ذُكْر )
( فكلاهُما قد كان مُحْتَبِساً ... للهِ ذَا تَقوى وذا بِرِّ )
( في مُخْبِتين ولم أُسمّهمُ ... كانوا يدي وهمُ أُول نَصري )
( وهمُ مساعرُ في الوغَى رُجحٌ ... وخِيارُ مَن يَمشي على العَفْر )

( حتى وَفَوا لله حيث لَقُوا ... بعهودٍ لا كذبٍ ولا غَدْر )
( فتخالَسوا مُهجاتِ أنفسهم ... وعُداتهم بقواضبٍ بُتْر )
( وأَسنَّةٍ أُثْبِتْن في لُدُنٍ ... خَطِّيةٍ بأكفّهم زُهْرِ )
( تحتَ العَجاج وفوقَهم خِرِقٌ ... يخفِقْن من سُودٍ ومن حُمْرِ )
( فتفرّجت عنهم كماتُهُمُ ... لم يغمضوا عيناً على وِتْر )
( فشعارُهم نِيرانُ حربِهِمُ ... ما بين أعلى الشَّحْر فالحِجْر )
( صرعَى فَحاجِلةٌ تنوشُهُم ... وخَوامِعٌ لحُماتِهمْ تَفْري )

مروان يأمر ابن عطية بالمسير إلى صنعاء
قال المدائني وكتب مروان إلى ابن عطية يأمره بالمسير إلى صنعاء ليقاتل من بها من الخوارج فاستخلف ابنه محمد بن عبد الملك على مكة وعلى المدينة الوليد بن عروة بن عطية وتوجه إلى صنعاء ورجع أهل الجزيرة جميعا إلى بلدهم وكذلك كان مروان شرط لهم فلما قرب من صنعاء هرب عامل عبد الله بن يحيى عنها فأخذ أهل صنعاء أثقاله وحملين من مال كان معه فسلموا ذلك إلى ابن عطية وتتبع أصحاب عبد الله بن يحيى في كل موضع يقتلهم وأقام بصنعاء أشهرا ثم خرج عليه رجل من أصحاب عبد الله بن يحيى في آل ذي الكلاع يقال له يحيى بن عبد الله بن عمر بن السباق في جمع كثير بالجند فبعث إليه ابن عطية ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية فلقيه

بالحرب فهزمه وقتل عامة أصحابه وهرب منه فنجا وخرج عليه يحيى بن كرب الحميري بساحل البحر وانضمت إليه شذاذ الإباضية فبعث إليه أبا أمية الكندي في الوضاحية فالتقوا بالساجل فقتل من الإباضية نحو مائة رجل وتحاجزوا عند المساء فهربت الإباضية إلى حضرموت وبها عامل لعبد الله بن يحيى يقال له عبد الله بن معبد الجرمي فصار في جيش كثير واستفحل أمره وبلغ ابن عطية الخبر فاستخلف ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية على صنعاء وشخص إلى حضرموت وبلغ عبد الله بن معبد مسير عبد الملك إليهم فجمعوا الطعام وكل ما يحتاجون إليه في مدينة شبام
وهي حصن حضرموت مخافة الحصار
ثم عزموا على لقاء ابن عطية في الفلاة فخرجوا حتى نزلوا على أربع مراحل من حضر موت في عدد كثير في فلاة
وأتاهم ابن عطية فقاتلهم يومه كله فلما أمسى وقد بلغه ما جمعوا في شبام حدر عسكره في بطن حضرموت إلى شبام ليلا
ثم أصبح فقاتلهم حتى انتصف النهار
ثم تحاجزوا فلما أمسوا تبع عسكره
وأصبح الخوارج فلم يروا للقوم أثرا
فاتبعوهم وقد سبقوهم إلى الحصن فأخذوا جميع ما فيه وملكوه ونصب ابن عطية عليهم المسالح وقطع عنهم المادة والميرة وجعل يقتل من يقدر عليه ويسبي ويأخذ الأموال

مصرع ابن عطية
ثم ورد عليه كتاب مروان بن محمد يأمره بالتعجل إلى مكة ليحج بالناس فصالح أهل حضر موت على أن يرد عليهم ما عرفوا من أموالهم ويولي عليهم من يختارون وسالموه فرضي بذلك وسالمهم وشخص إلى مكة

متعجلا مخفا
ولما نفذ كتاب مروان ندم بعد ذلك بأيام وقال إنا لله قتلت والله ابن عطية هو الآن يخرج مخفا متعجلا ليلحق الحج فيقتله الخوارج
فكان كما قال تعجل في بضعة عشر رجلا فلما كان بأرض مراد تلففت عليه جماعة فمن كان من تلك الجماعة إباضيا عرفه فقال ما ننتظر بهذا أن ندرك ثأر إخواننا فيه ومن لم يكن إباضيا ظنه من الإباضية وأنه منهزم فلما علم أنهم يريدونه قال لهم ويحكم أنا عامل أمير المؤمنين على الحج فلم يلتفتوا إلى ذلك وقتلوه ونصبت الإباضية رأسه فلما فتشوا متاعه وجدوا فيه الكتاب بولايته على الحج فأخذوا من الإباضية رأسه ودفنوه مع جسده
قال المدائني خرج إليه جمانة وسعيد ابنا الأخنس في جماعة من قومهما من كندة وعرفه جمانة لما لقيه فحمل عليه هو وأخوه ورجل آخر من همدان يقال له رمانة وثلاثة من مراد وخمسة من كندة وقد توجه في طريق مع أربعة نفر من أصحابه
وتوجه باقيهم في طريق آخر فقصدوا حيث توجه ابن عطية ووجهوا في آثار أصحابه نحو أربعين رجلا منهم فأدركوهم فقتلوهم وأدرك سعيد وجمانة وأصحابهما ابن عطية فعطف عبد الملك على سعيد فضربه وطعنه جمانة فصرعه عن فرسه ونزل إليه سعيد فقعد على صدره فقال له ابن عطية هل لك يا سعيد في أن تكون أكرم العرب أسيرا فقال يا عدو الله أترى الله كان يمهلك أو تطمع في الحياة وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجا وأبرهة فقتله وقتل أصحابه جميعا
وبعثوا برأسه إلى حضر موت وبلغ ابن أخيه وهو بصنعاء خبره
فأرسل شعيبا البارقي في الخيل فقتل الرجال والصبيان وبقر بطون النساء وأخذ الأموال وأخرب القرى وجعل يتتبع البري والنطف حتى لم يبق أحد من قتله ابن عطية ولا

من الإباضية إلا قتله ولم يزل مقيما باليمن إلى أن أفضى الأمر إلى بني هاشم وقام بالأمر أبو العباس السفاح
تم الجزء الثالث والعشرون من كتاب الأغاني ويليه الجزء الرابع والعشرون وأوله خبر عبد الله بن أبي العلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
خبر عبد الله بن أبي العلاء
عبد الله بن أبي العلاء رجل من أهل سر من رأى
وكان يأخذ عن إسحاق وطبقته فبرع وله صنعة يسيرة جيدة
وابنه أحمد بن عبد الله بن أبي العلاء أحد المحسنين المتقدمين أخذ عن مخارق وعلوية وطبقتهما
وعمر إلى آخر أيام المعتضد وكانت فيه عربدة

وكان عبد الله بن أبي العلاء حسن الوجه والزي ظريفا شكلا
حدثني ذكاء وجه الرزة قال قال لي ابن المكي المرتجل
كان يقوم دابة عبد الله بن أبي العلاء وثيابه إذا ركب ألف دينار
قال وقال لي ابن المكي حدثني أبي قال
نظر أحمد بن يوسف الكاتب إلى عبد الله بن أبي العلاء عند إسحاق وهو يطارحه فأقام عند إسحاق وسأله احتباس عبد الله عنده فأمره بذلك فاعتل عليه
وقال أريد أن أشيع غازيا يخرج من جيراننا فقال له أحمد بن يوسف
( لا تَخرُجَنَّ مع الغُزاةِ مُشَيِّعاً ... إنَّ الغَزِيَّ يراكَ أفضلَ مَغْنَمِ )
( ودَع الحَجِيجَ ولا تُشيِّع وَفْدَهُمْ ... أخْشَى عليكَ من الحَجِيجِ المُحرِمِ )
( ما أنتَ إلاَّ غادَةٌ مَمْكُورةٌ ... لولا شَوارِبُكَ المُحِيطةُ بالفَم )

وقد روي أن هذا الشعر لسعيد بن حميد في عبد الله بن أبي العلاء وهو الصحيح
فأقسم عليه إسحاق أن يقيم فأقام
وقال لي جعفر بن قدامة وقد تجاذبنا هذا الخبر حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه
أن العشرة اتصلت بين عبد الله وبين أحمد بن يوسف وتعشقه وأنفق عليه جملة من المال حتى اشتهر به فعاتبه محمد بن عبد الملك الزيات في ذلك فقال له
( لاَ تعذُلنَّي يا أبا جَعْفرٍ ... عَذْلُ الأخِلاّءِ من اللُّومِ )

( إنَّ اسْتَهُ مُشْرَبَةٌ حُمرةً ... كأنَّها وَجْنةُ مَكْظُومِ )
وقد قيل إن هذين البيتين لأحمد بن يوسف في موسى بن عبد الملك
وكان بعض الشعراء قد أولع بعبد الله بن أبي العلاء يهجوه ويذكر أن أباه أبا العلاء هو سالم السقاء وفيه يقول هذا الشعر
( كنتُ في مَجْلسٍ أنيقٍ جَميلٍ ... فأتانا ابنُ سالمٍ مُخْتالا )
( فتغَنَّى صَوتاً فأخطأ فيهِ ... وابتَدا ثانِياً فكان مُحالا )
( وابتغى خِلْعةً على ذاكَ مِنَّا ... فخَلعْنا على قَفاهُ النِّعالا )
وفيه يقول هذا الشاعر أنشدناه ابن عمار وغيره
( إذا ابنُ العلاءِ أُقِيمَ عَنَّا ... فأهلاً بالمُجالسِ والرَّحيقِ )
( قَفاهُ على أَكُفِّ الشَّرْبِ وَقْفٌ ... وجِلْدهُ وَجْهِهِ مَيدانُ رِيقِ )

صوت
( أفاطِمُ حُيِّيتِ بالأَسعُدِ ... مَتى عهدُنا بكِ لا تبعُدِي )
( تبارَك ذو العَرشِ ماذا نَرى ... من الحُسْنِ في جانِبِ المسْجِد )
( فإنْ شِئْتِ آليتُ بينَ المقَامِ ... والرُّكنِ والحَجَرِ الأسودِ )
( أَأَنْساكِ ما دامَ عَقْلي مَعي ... أَمُدُّ به أَمَدَ السَّرْمَدِ )
الشعر لأمية بن أبي عائذ
والغناء لحكم الوادي هزج خفيف

بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه للأبجر ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
وقال ابن المكي فيه هزج ثقيل بالبنصر لعمر الوادي
وفيه لفليح لحن من رواية بذل ولم يذكر طريقته

نسب أمية بن أبي عائذ وأخباره
أمية بن أبي عائذ العمري أحد بني عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل
شاعر إسلامي من شعر اء الدولة الأموية
وهذا أكثر ما وجدته من نسبه في سائر النسخ
وكان أمية أحد مداحي بني مروان وله في عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان قصائد مشهورة

مدحه عبد العزيز بن مروان
فذكر ابن الأعرابي وأبو عبيدة جميعا
أنه وفد إلى عبد العزيز إلى مصر وقد امتدحه بقصيدته التي أولها
( ألاَ إنّ قَلْبي مَعَ الظاعِنينا ... حَزِينٌ فمَن ذا يُعَزِّي الحَزِينا )
( فيالكِ من رَوْعةٍ يومَ بانُو ... بمَن كنتُ أحسَبُ أَلاَّ يَبِينا )
في هذين البيتين للحسين بن محرز خفيف ثقيل عن الهشامي
وفي هذه القصيدة يقول
( إلى سيّد الناسِ عبدِ العزيزِ ... أَعْملتُ للسَّيْرِ حَرْفاً أَمُونا )
( صُهابِيّةً كعَلاةِ القُيونِ ... من ضَرْبِ جَوهر ما يُخْلِصُونا )

( إذا أَزبَدتْ من تَبارِي المطيّ ... خِلتَ بها خَبَلاً أَو جُنُونا )
( تُؤمُّ النّواعِشَ والفَرْقدَيْنِ ... تُنَصِّب للقَصْدِ منها الْجَبِينَا )
( إلى مَعدِنِ الخيرِ عبدِ العزيزِ ... تُبلِّغُنا ظُلَّعاً قد حَفِينا )
( تَرى الأُدْمَ والعِيسَ تحت المُسوحِ ... قد عُدنَ من عَرَقِ الأَيْنِ جُونا )
( تَسِيرُ بمدحِيَ عبدَ العزِيز ... رُكبانُ مكَّةَ والمُنجِدُونا )
( مُحَبَّرةٌ من صَرِيح الكلامِ ... ليس كما لَفَّق المُحْدثونا )
( وكان امرا سيّداً ماجداً ... يُصَفِّيَ العَتِيقَ وَينفي الهَجِينا )
قال وطال مقامه عند عبد العزيز وكان يأنس به ووصله صلات سنية فتشوق إلى البادية وإلى أهله فقال لعبد العزيز
( مَتَى راكبٌ من أهْلِ مصرَ وأَهْلُه ... بمكَّةَ من مصرَ العَشِيَّةَ راجعُ )
( بَلَى إنَّها قد تقْطعُ الخرْقَ ضُمَّرٌ ... تُبارِي السُّرَى والمُعْسِفون الزعازعُ )
( متى ما تُجْزها يا بنَ مروانَ تَعْترف ... بلادَ سُليمَى وهي خَوصاءُ ظالِعُ )

( وباتَتْ تُؤمُّ الدَّارَ من كلِّ جانبٍ ... لتخرُجَ واشتدَّت عليها المَصارِعُ )
( فلما رأتْ ألاّ خُروجَ وأَنَّما ... لها من هَواها ما تُجِنُّ الأضالِعُ )
( تَمطَّتْ بمجدولٍ سِبَطرٍ فطَالَعَتْ ... وماذا من اللَّوْحِ اليَماني تُطالِعُ ! )
فقال له عبد العزيز اشتقت والله إلى أهلك يا أمية فقال نعم والله أيها الأمير فوصله وأذن له
ومما يغنى فيه من شعر أمية

صوت
( تَمُرُّ كجَنْدلةِ المنْجَنِيقِ ... يُرْمَى بها السُّورُ يومَ القتَالِ )
( فمَاذا تخَطْرَفَ من قُلَّةٍ ... ومن حَدَبٍ وإكامٍ تَوالِي )
( ومن سَيْرِها العَنَقُ المسْبَطِرُّ ... والعَجْرفيَّةُ بعد الكلاَلِ )
الغناء لابن عائشة وقد ذكر في أخباره مع غريبه وأحاديث لابن عائشة في معناه

صوت
( أَأُمَّ نُهَيكٍ ارْفَعِي الطَّرْفَ صاعِداً ... ولا تيأَسي أن يُثريَ الدهرَ بائسٌ )
( سيُغْنِيكِ سَيْرِي في البِلادِ ومَطْلَبي ... وبَعلُ التي لم تَخْطَ في الحيِّ جالسُ )
( سأكسِب مالاً أو تَبِيتنَّ لَيلةً ... بصدِرِك من وَجْدٍ عليَّ وساوِسُ )
( ومن يَطْلبِ المالَ الممنَّعَ بالقَنَا ... يِعِشْ مُثْرِياً أو يُودِ فيما يمارسُ )
الشعر لعبد الله بن أبي معقل الأنصاري
والغناء لسليم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
وقد ذكر ابن المكي أن فيه لإبراهيم لحنا من الهزج بالوسطى وذكر الهاشمي وحبش أن فيه لإبراهيم ثاني ثقيل وذكر حبش أنه لإسحاق

أخبار عبد الله بن أبي معقل ونسبه
هو عبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن إساف بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو وهو النبيت ابن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان
شاعر مقل حجازي من شعراء الدولة الأموية
وكان يقال لأبيه منهب الورق
وقيل بل جده المسمى بذلك لأنه كسب مالا فعجب أهل المدينة من كثرته فأباحهم إياه فنهبوه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني أبو بكر عبد الله بن جعفر بن مصعب بن عبد الله الزبيري قال حدثني جدي مصعب بن عبد الله عن ابن القداح أنه قال

هذان البيتان يعني قوله
( أَأُمَّ نُهَيْكٍ ارفعي الطرف صاعداً ... )
والذي بعده لعبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن إساف والناس يروونهما لجده
وليس ذلك بصحيح هما لعبد الله

كان عمه عباد صحابيا
وكان عباد بن نهيك بن إساف عمه أدرك النبي وصحبه وصلى معه إلى القبلتين وصلى معه الظهر وصلى معه في ركعتين منها إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة
وأدرك النبي وهو شيخ كبير لا فضل فيه فوضع عنه الغزو
وكان نهيك بن إساف يهاجي أبا الخضر الأشهلي في الجاهلية
وأشعارهما موجودة في أشعار الأنصار
كان محسودا ليساره وسعة ماله
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني عبد الله بن جعفر عن جده مصعب عن ابن القداح قال
كان ابن أبي معقل محسودا في قومه يجاهرونه بالعداوة ليساره وسعة ماله ويحسدونه وكان بنى قصرا في بني حارثة وسماه مرغما وقال له قائل ما لك ولقومك فقال مالي إليهم ذنب إلا أني أثريت وكنت معدما وبنيت

مرغما وأنكحت مريم ومريم يعني ابنته مريم وبنت ابنه مريم
فأما ابنته مريم فتزوجها حبيب بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية وبنت ابنه مسكين بن عبد الله بن أبي معقل وهي مريم تزوجها محمد بن خالد بن الزبير بن العوام
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال
خطب محمد بن خالد بن الزبير وحبيب بن الحكم بن أبي العاصي إلى عبد الله بن أبي معقل ابنته مريم فأرغبه حبيب في الصداق فزوجه إياها ثم شبت مريم بنت مسكين بن عبد الله بن أبي معقل فبرعت في الجمال
ولقي محمد بن خالد يوما فقال له يابن خالد إن تكن مريم قد فاتتك فقد يفعت مريم بنت أخيها وما هي بدونها في الجمال وقد آثرتك بها
قال فتزوجها على عشرين ألفا
وقال ابن القداح
كان ابن أبي معقل كثير الأسفار في طلب الرزق فلامته امرأته أم نهيك وهي ابنة عمه على ذلك وقد قدم من مصر فلم يلبث أن قال لها جهزيني إلى الكوفة إلى المغيرة بن شعبة فإنه صديقي وقد وليها فجهزته ثم

قالت لن تزال في أسفارك هذه تتردد حتى تموت فقال لها أو أثري ثم أنشأ يقول
( أَأُمَّ نُهيْكٍ ارْفَعِي الطَّرْفَ صاعدِاً ... ولا تيأَسي أن يُثْرِيَ الدَّهرَ يائِسُ )
وهي قصيدة فيها مما يغنى فيه قوله

صوت
( فلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشةِ الفَتَى ... وجَدك لم أَحفِلْ متى قام رامسُ )
( فمِنهنَّ تحريكُ الكُميْتِ عِنانَهُ ... إذا ابتدَر النَّهبَ البعيدَ الفوارسُ )
( ومِنهُنَّ سَبْقُ العاذِلاتِ بشَربةٍ ... كأَنَّ أَخاها - وهو يقْظانُ - ناعِسُ )
( ومنهنّ تجريدُ الأَوانِس كالدُّمَى ... إذا ابتُزَّ عَنْ أَكفالِهِنَّ الملابِسُ )
الغناء في هذه الأبيات لمقاسة بن ناصح ثقيل أول بالبنصر
وفيها للحسين بن محرز خفيف ثقيل من جامع أغانيه
وهو لحن معروف مشهور
وفوده على مصعب بن الزبير
قال ابن القداح
ثم قدم المدينة فلم يزل مقيما بها حتى ولي مصعب بن الزبير العراق فوفد إليه ابن أبي معقل ولقيه فدخل إليه يوما وهو يندب الناس إلى غزوة زرنج ويقول من لها

فوثب عبد الله بن أبي معقل وقال أنا لها فقال له اجلس ثم ندب الناس فانتدب لها مرة ثانية فقال له مصعب اجلس ثم ندبهم ثالثة فقال له عبد الله أنا لها فقال له اجلس
فقال له أدنني إليك حتى أكلمك فأدناه فقال قد علمت أنه ما يمنعك مني إلا أنك تعرفني ولو انتدب إليها رجل ممن لا تعرفه لبعثته فلعلك تحسدني أن أصيب خيرا أو أستشهد فأستريح من الدنيا وطلبها فأعجبه قوله وجزالته فولاه فأصاب في وجهه ذلك مالا كثيرا وانصرف إلى المدينة فقال لزوجته ألم أخبرك في شعري أنه
( سيُغنِيكِ سَيْرِي في البلادِ ومَطلَبي ... وبَعلُ التي لم تَحْظَ في الحيِّ جالسَ )
فقالت بلى والله لقد أخبرتني وصدق خبرك
قال وفي هذه الغزاة يقول ابن قيس الرقيات

صوت
( إن يَعِشْ مُصْعَبٌ فنحنُ بخيرٍ ... قد أَتانا من عيشِنا ما نُرَجِّي )
( مَلِكٌ يُطعِمُ الطّعامَ وَيَسقِي ... لبَنَ البُخْتِ في عِساسِ الخَلَنْجِ )

( جَلَب الخيلَ من تِهامةَ حَتَّى ... بلغَتْ خَيْلُه قُصورَ زَرَنجِ )
صوت
( يَقْتُلْنَنَا بحَدِيثٍ ليس يَعلمُه ... مَنْ يَتَّقِينَ ولاَ مكْنُونُهُ بادِي )
( فهُنَّ ينْبِذْنَ من قولٍ يُصِبْن به ... مواقعَ الماء مِن ذِي الغُلَّةِ الصَّادِي )
الشعر للقطامي
والغناء لإسحاق
خفيف ثقيل أول بالوسطى وفيه رمل مجهول

ذكر نسب القطامي وأخباره
القطامي لقب غلب عليه واسمه عمير بن شييم وكان نصرانيا وهو شاعر إسلامي مقل مجيد
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش عن مجالد عن الشعبي قال قال عبد الملك ابن مروان وأنا حاضر للأخطل يا أخطل أتحب أن لك بشعرك شعر شاعر من العرب قال اللهم لا إلا شاعرا منا مغدف القناع خامل الذكر حديث السن إن يكن في أحد خير فسيكون فيه ولوددت أني سبقته إلى قوله

( يَقْتُلْنَنا بحديثٍ ليس يَعْلمُه ... مَنْ يتَّقينَ ولا مَكنونُه بادِي )
( فهُنَّ ينبذْنَ مِن قولٍ يُصِبْنَ به ... مَواقعَ الماءِ من ذي الغُلَّةِ الصَّادِي )

صريع الغواني
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال القطامي أول من لقب صريع الغواني بقوله
( صَرِيعِ غَوانٍ راقَهُنَّ ورُقْنَه ... لَدُنْ شبَّ حتى شاب سُودُ الذَّوائبِ )
قال أبو عمرو الشيباني
نزل القطامي في بعض أسفاره بامرأة من محارب قيس فنسبها
فقالت أنا من قوم يشتوون القد من الجوع قال ومن هؤلاء ويحك قالت محارب ولم تقره فبات عندها بأسوإ ليلة فقال فيها قصيدة أولها
( نأَتْكَ بليلَى نِيَّةٌ لم تُقارِبِ ... وما حُبُّ ليلَى من فُؤَادِي بِذاهِبِ )
يقول فيها
( ولا بُدَّ أَنَّ الضيفَ يُخبِرُ ما رأَى ... مُخَبِّرُ أهلٍ أو مُخَبِّرُ صاحِبِ )

( سأُخبِرُكَ الأَنباءَ عن أُمِّ منزلٍ ... تَضيَّفتُها بين العُذَيبِ فراسِبِ )
( تَلَفَّعْتُ في طَلٍّ وريحٍ تَلُفُّني ... وفي طِرْمِساءَ غيرِ ذاتِ كواكب )
( إلى حَيْزَبونٍ تُوقِدُ النارَ بعدَما ... تَلَفَّعَتِ الظَّلْماءُ من كلِّ جانبِ )
( تَصلىَّ بها بَرْدَ العِشاء ولم تَكُنْ ... تَخالُ وَمِيضَ النَّارِ يَبْدُو لراكبِ )
( فما راعَها إلا بُغامُ مَطِيَّةٍ ... تُريحُ بمحْسورٍ مِن الصَّوتِ لاغِب )
( تقولُ وقد قرّبْتُ كُورِي وناقتي ... إليكَ فلا تَذْعَرْ عَلىَّ ركائِبي )
( فلمَّا تنازَعْنا الحديثَ سأَلْتُها : ... مَن الحيُّ ؟ قالت : مَعْشَرٌ من مُحارِب )
( من المُشْتَوِينَ القَدَّ ممَّا تَرَاهُمُ ... جِياعاً وريفُ الناسِ ليس بِعازِبِ )
( فلمَّا بَدَا حِرْمانُها الضَّيفَ لم يكنْ ... عليَّ مُناخُ السَّوْءِ ضَرْبةَ لازِبِ )

مدحه عبد الواحد بن سليمان
قال أبو عمرو بن العلاء
أول ما حرك من القطامي ورفع من ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن

عبد الملك دمشق ليمدحه فقيل له إنه بخيل لا يعطي الشعراء
وقيل بل قدمها في خلافة عمر بن عبد العزيز فقيل له إن الشعر لا ينفق عند هذا ولا يعطي عليه شيئا وهذا عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فامتدحه فمدحه بقصيدته التي أولها
( إنَّا مُحَيُّوكَ فاسلَم أيها الطَّلَلُ ... وإنْ بَليتَ وإن طالَتْ بِكَ الطِّيلُ )
فقال له كم أملت من أمير المؤمنين قال أملت أن يعطيني ثلاثين ناقة
فقال قد أمرت لك بخمسين ناقة موقرة برا وتمرا وثيابا ثم أمر بدفع ذلك إليه

وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته

صوت
( إنَّا مُحَيُّوكَ فاسْلَمْ أَيُّها الطَّلَلُ ... وإنْ بَلِيتَ وإنْ طَالَتْ بِكَ الطِّيَلُ )
( يَمْشِينَ رَهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصُّدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ )
الغناء لسليم هزج بالبنصر
وقيل إنه لغيره
أخبرني ابن عمار قال حدثنا محمد بن عباد قال قال أبو عمرو الشيباني لو قال القطامي بيته
( يَمْشِينَ رَهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصدورُ عَلَى الأعجازِ تَتَّكِلُ )
في صفة النساء لكان أشعر الناس
ولو قال كثير
( فقلتُ لها : يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوماً لها النفسُ ذَلَّتِ )
في مرثية أو صفة حرب لكان أشعر الناس

وأخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني رجل كان يديم الأسفار قال
سافرت مرة إلى الشام على طريق البر فجعلت أتمثل بقول القطامي
( قد يُدرِكُ المُتَاَنِّي بعضَ حاجَتِهِ ... وقد يكونُ مع المُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ )
ومعي أعرابي قد استأجرت منه مركبي فقال ما زاد قائل هذا الشعر على أن ثبط الناس عن الحزم فهلا قال بعد بيته هذا
( ورُبَّما ضَرَّ بعضَ الناسِ بُطْؤُهُمُ ... وكان خيراً لهُمْ لو أَنَّهُمْ عَجِلُوا )
وكان السبب في أسر القطامي على ما حكاه من ذكرنا وذكر ابن الكلبي عن عرام بن حازم بن عطية الكلبي قال
أغار زفر بن الحارث على أهل المصيخ وبه جماعة من الحاج وغيرهم

وقد أصاب أول النهار أهل ماء يقال له حصف وفيه سيد بني الجلاح مصاد ابن المغيرة بن أبي جبلة فأسره فأتى به قرقيسيا ثم من عليه وقتل عفيف ابن حسان بن حصين من بني الجلاح ثم مضى زفر إلى المصيخ فاجتمع من بها إلى عمير بن حسان بن عمر بن جبلة فامتنعوا فقال لهم زفر إني لا أريد دماءكم فأعطوا بأيديكم
فأبوا وقاتلوا فقتل منهم جماعة كثيرة وقتل معهم رجلان من تغلب يقال لأحدهما جساس والآخر غني وهو أبو جساس
وقد قالت له امرأته يا أبا جساس هؤلاء قومك فأتهم حين اجتمعوا وامتنعوا فقال اليوم نزاري وأمس كلبي ما أنا بمفارقهم فقاتل حتى قتل فكانت القتلى يوم المصيخ من كلب ثمانية عشر رجلا والتغلبيين وبقى الماء ليس فيه إلا النساء
فلما انصرف عنهم زفر أراد النساء أن يجررن القتلى إلى بئر يقال لها كوكب
فلما أردن أن يجررن رجلا قالت وليته من النساء لا يكون فلان تحت رجالكن كلهم فأتت أم عمير بن حسان وهي كيسة بنت أبي فأعلقت في رجله رداءها ثم قالت اجسر عمير فإن أباك كان جسورا ثم ألقت عليه التراب والحطب ليكون بينه وبين أصحابه شيء
ثم جعلن كلما ألقين رجلا ألقين عليه التراب والحطب حتى وارتهم القليب
ولما بلغ حميد بن حريث بن بحدل ما لقي قومه أقبل حتى أتى تدمر ليجمع أصحابه وليغير على قيس
فلما وقعت الدماء نهض بنو نمير وهم يومئذ ببطن الجبل وهو على مياه لهم إلى حميد بن حريث بن بحدل حتى قدم وراءه يتهيأ للغارة واجتمعت إليه كلب وقالوا له إن كنت تبرئنا ببراءتنا وتعرف جوارنا أقمنا وإن كنت تتخوف علينا من

قومك شيئا لحقنا بقومنا فقال أتريدون أن تكونوا أدلاءهم حتى تنجلي هذه الفتنة فاحتبسهم فيها وخليفته في تدمر رجل من كلب يقال له مطر بن عوص وكان فاتكا فأراد حميدا على قتلهم فأبى وكره الدماء فلما سار حميد وقد عاد زفر أيضا مغيرا ليرده عما يريده فنزل قرية له وبلغه مسير زفر فاغتاظ وأخذ في التعبئة فأتاه مطر وكان خرج معه مشيعا له انتهازا لدماء الذين في يده من النميريين فقال ما أصنع بهؤلاء الأسارى الذين في يدي وقد قتل أهل مصبح فقال وهو لا يعقل من الوجد اذهب فاقتلهم
فخرج مطر يركض إلى تدمر تخوف ألا يبدوا له فلما أتى تدمر قتلهم وانتبه حميد بعد ذلك بساعة فقال أين مطر حتى أوصيه قالوا انصرف قال أدركوا عدو الله فإني أخاف على من بيده من النميريين
وبعث فارسا يركض يمنع مطرا عن قتلهم فأتاه وقد قتل كل من كان في يده من الأسرى إلا رجلين وكانوا ستين رجلا فلما بلغه الرسول رسالة حميد قال النميريان الباقيان خل عنا فقد أمرت بتخلية سبيلنا فقال أبعد أهل المصيخ لا والله لا تخبران عنهم ثم قتلهما
فلما بلغ زفر قتل النميريين بسط يده على كل من أدرك من كلب واستحل الدماء وأخذ في واد يقال له وادي الجيوش وقد انتشرت به كلب للصيد فلم يدرك به أحدا إلا قتله فقتل أكثر من خمسمائة ولم يلقه حميد
ثم انصرف إلى قرقيسياء
وذكر بعض بني نمير أن زفر أغار على كلب يوم حفير ويوم المصيخ ويوم الفرس فقتل منهم أكثر من ألف رجل قال وأغار عليهم زفر في يوم الإكليل فقتل منهم مقتلة عظيمة واستاق نعما كثيرة
وذكر عرام قال قتل زفر يوم الإكليل جبير بن ثعلبة من بني الجلاح وحسان بن حصين من بني الجلاح ومحمد بن طفيل بن مطير بن أبي جبلة وعمرو بن حسان بن عوف من بني الجلاح ومحمد بن جبلة بن عوف أخوان لأم
وقالت امرأة من بني كلب ترثيهم

( أبعدَ مَن دَلَّيْتِ في كَوْكَبٍ ... يا نفسُ تَرْجِين ثواءَ الرِّجالْ ؟ )

شجاعة عمير بن الحباب يوم الغوير
قال لقيط أخبرني بعض بني نمير قال
أغار عمير بن الحباب على كلب فأصابهم يوم الغوير ويوم الهبل ويوم كآبة
فأما يوم الغوير فإنه أرسل رجلا من بني نمير يقال له كليب بن سلمة عينا له ليعلم له علم ابن بحدل وكانت أم النميري كلبية فكانت تتكلم بكلامهم فكان الحسام بن سالم طريدا فيهم فنذروا به فقتلوه وأخذوا فرسه فلقي كليب بن سلمة رجلا من بني كلب فعرفه فقال من أين جئت فقال من عند الأمير حميد بن حريث قال وأين تركته قال بمكان كذا وكذا قال كليب كذبت أنا أحدث به عهدا منك قال فأين تركته أنت قال بغوير الضبع قال لكني فارقته أمس فخرج النميري يسوق الكلبي إلى أصحابه قال فوالله إني لو أشاء أن أقتله لقتلته أو آخذه لأخذته فخرج يسوقه حتى إذا نظر إلى القوم أنكرهم فقال والله ما أرى هؤلاء أصحابنا
قال ويستدبره النميري فيطعنه عند ناغض كتفه اليمنى حتى أخرج السنان من

حلمة الثدي وأخطأ المقتل وحرك الكلبي فرسه موليا فاتبعته الخيل حتى يدفع إلى ابن بحدل فانهزم فقتلوا من كلب مقتلة عظيمة واتبع عمير بن بحدل فجعل يقول لفرسه
( أَقْدِمْ صِدَامُ إنّهُ ابنُ بَحْدَلْ ... )
( لا تُدْرِكِ الخيلَ وأنتَ تَدألْ ... )
( ألاَّ تمرَّ مثلَ مَرِّ الأجدلْ ... )
قال فمضى حميد حتى يدفع إلى الغوير وقد كاد الرمح يناله فانطلق يريد الباب فطعن عمير الباب وكسر رمحه فيه فلم يفلت من تلك الخيل غير حميد وشبل بن الخيتار
فلما بلغ ذلك بشر بن مروان قال لخالد بن يزيد ابن معاوية كيف ترى خالي طرد خالك
وقال عمير
( وأفلتَنَا ركْضاً حُمَيدُ بن بَحْدلٍ ... على سابحٍ غَوْج اللَّبانِ مُثابِر )

( ونحنُ جَلبْنا الخيلَ قُبًّا شَوازِباً ... دِقاقَ الهوادِي دامياتِ الدَّوابرِ )
( إذا انتقصَتْ من شأْوِه الخيلُ خلفَه ... تَرامَى به فوقَ الرماح الشواجِرِ )
( تُسائلُ عن حَيَّيْ رُفيدةَ بعدَما ... قَضَتْ وَطراً من عَبْدِ وُدٍّ وعامِرِ )
وقال شبل بن الخيتار
( نجَّى الحُسامِيَّةَ الكَبْداءَ مُبْتَرِكٌ ... من جَريها وحَثِيثُ الشدِّ مَذعورُ )
( من بعدِ ما التثَق السرِّبالَ طَعْنَتُه ... كأنَّه بِنَجِيع الوَرْسِ ممكورُ )
( ولَّى حُمَيد ولم يَنْظُرْ فوارسَهُ ... قَبْل التَّقِرَّةِ والمغرورُ مغرورُ )
( فقد جَزِعتُ غَداةَ الروْع إذ لقِحتْ ... أبطالُ قيسٍ عليها البَيضُ مَشْجورُ )
( يَهدِي أوائِلَها سمحٌ خلائِقُهُ ... ماضي العِنانِ على الأَعداءِ منصورُ )
( يَخْرجْنَ من بَرَض الإِكْلِيل طالِعةً ... كأنَّهن جَرادُ الحَرَّةِ الزُّورُ )
وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب عن أشياخ قومه قال
أغار عمير بن الحباب على كلب فلقي جمعا لهم بالإكليل في ستمائة أو سبعمائة فقتل منهم فأكثر فقالت هند الجلاحية تحرض كلبا

( ألاَ هل ثائِرٌ بدماء قومٍ ... أصابَهُمُ عُميرُ بن الحُبَابِ ! )
( وهَل في عامِرٍ يوماً نَكِيرٌ ... وحَيّيْ عَبدِ وُدٍّ أو جَنَابِ ! )
( فإن لم يَثأَرُوا مَنْ قد أَصابُوا ... فكانُوا أَعْبُداً لبني كِلاَب )
( أبعدَ بني الجُلاحِ ومَن تركتُمْ ... بجانِبِ كوكبٍ تحتَ التّرابِ )
( تطِيبُ لغائرٍ منكم حياةٌ ... ألاَ لا عيشَ للحيِّ المُصابِ )
فاجتمعوا فقاتلهم عمير وأصاب فيهم ثم أغار فلقي جمعا منهم بالجوف فقتلهم ثم أغار عليهم بالسماوة فقتل منهم مقتلة عظيمة فقال عمير
( ألا يا هِنْدُ هندَ بني الجُلاحِ ... سُقِيتِ الغيثَ من قُلَلِ السَّحابِ )
( أَلَّما تُخْبَرِي عنَّا بأنَّا ... نرُدُّ الكبشَ أَعْضبَ في تَبابِ )
( ألاَ يا هندُ لو عاينْتِ يوماً ... لقَومِكِ لامْتَنَعْتِ من الشَّرابِ )
( غَداةَ نَدُوسُهُم بالخيل حتَّى ... أَبادَ القتلُ حَيَّ بني جَنابِ )
( ولو عَطَفتْ مواساةٌ حُميداً ... لغُودِرَ شِلْوُهُ جَزَرَ الذِّئاب )
وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب عن أشياخ قومه قال خرج عمير فأغار على قومه أيضا يوم الغوير فلما دنا من الغوير وصار بين حميد ودمشق دعا رجلا من بني نمير وقال له سر الآن حتى تأتي حميد بن بحدل فقل له أجب فإن قال من فقل صاحب عقد خرج قبل ذلك بيومين من دمشق فإن جاء معك فلا تهجه حتى تأتيني به فنكون نحن الذين نَلِي منه ما نريد أن نلي , فإنه إن ركب الحسامية لم يدرك
فأتاه النميري فقال أجب

فقال ومن قال فلان بن فلان صاحب العقد
قال فركب ابن بحدل الحسامية
ثم خرج يسير في أثر النميري حتى طلع النميري على عمير فقال النميري في نفسه أقتله أنا أحب إلي من أن يقتله عمير لقتله الحسام بن سالم فعطف عليه وولى حميد واتبعه عمير وأصحابه وترك العسكر وأمرهم عمير أن يميلوا إلى القوم فذلك حيث يقول لفرسه
( أقدم صِدامُ إنَّه ابنُ بحدلْ ... )
فاستباح عسكر ابن بحدل وانصرف
ثم أغار عليهم يوم دهمان كما ذكر عون بن حارثة بن عدي بن جبلة أحد بني زهير عن أبيه قال
أغار عمير على كلب فأخذ الأموال وقتل الرجال وبلغ ابن بحدل مخرجه من الجزيرة فجمع له ثم خرج يعارضه حتى إذا دنا منهم بعث العين يأخذ لهم أثر القوم فأتاه العين فأخبره أن عميرا قد أتى دهمان فاستباح فيهم ثم خلف عسكره وخرج هو في طلب قوم قد سمع بهم فقال حميد لأصحابه تهيأوا للبيات وليكن شعاركم نحن عباد الله حقا حقا
فبيتهم فقتل فيهم فأوجع وانقلب انقلب عمير حين أصبح إلى عسكره حتى إذا أشرف على عسكره رأى ما أنكره من كثرة السواد فقال لأصحابه إني أرى شيئا ما أعرفه وما هو بالذي خلفنا فلما رآهم ابن بحدل قال لأصحابه احملوا عليهم فقتل من الفريقين جميعا فقال ابن مخلاة
( لقد طار في الآفاق أنَّ ابنَ بحْدَلٍ ... حُميداً شَفَي كلباً فقرَّت عيونُها )
وقال منذر بن حسان
( وَباديةِ الجواعِرِ من نُمَيْرٍ ... تُنَادِي وهْيَ سافرةُ النِّقَابِ )
( تنَادِي بالجزيرةِ : يا لَقيْس ... وقيسٌ بئْسَ فِتيانُ الضِّراب )

( قَتَلنا مِنْهُم مائتينِ صَبْراً ... وألفاً بالتِّلاعِ وبالرَّوَابِي )
( وَأَفَلتَنَا هَجِينُ بني سُليمٍ ... يُفَدِّي المُهْرَ من حُبِّ الإِياب )
( فلولا اللهُ وَالمُهْرُ المُفَدَّى ... لغُودِرَ وَهْو غِربالُ الإِهاب )
ثم سار عمير وجمع لهم أكثر مما كان تجمع فأغار عليهم فقتل منهم مقتلة واستاق الغنائم وسبى
فلما سمعت كلب بإيقاعه تحملت من منازلها هاربة منه فلم يبق منهم أحد في موضع يقدر عمير على الغارة عليه إلا أن يخوض إليهم غيرهم من الأحياء ويخلف مدائن الشام خلف ظهره وصاروا جميعا إلى الغوير فقال عمير في ذلك
( بَشِّر بني القَيْنِ بطعنٍ شَرْجِ ... يُشْبعُ أولادَ الضِّباع العُرْجِ )
( ما زال إمرارِي لهمْ ونَسْجِي ... وعُقْبتي للكُورِ بعد السَّرْج )
( حتّى اتَّقَوْنِي بالظَّهورِ الفَلْج ... هل أَجْزِيَنْ يوماً بيوم المرْجِ )
( ويومِ دُهمانَ ويومِ هَرْج ... )
وقال رجل من نمير
( أخذتُ نِسَاءَ عبدِ اللهِ قهراً ... وما أعفيتُ نِسوةَ آلِ كلبِ )
( صَبَحْناهم بِخَيلٍ مُقْرَباتٍ ... وَطَعْنٍ لا كِفَاءَ له وضَرْبِ )
( يُبَكِّينَ ابنَ عمرو وهو تَسْفِي ... عليهِ الرِّيحُ تُرْباً بعد تُرْبِ )
( وسعدٌ قد دَنا منه حِمَامٌ ... بأسمرَ من رماحِ الخَطِّ صُلْبِ )
( وَقد قالَتْ أُمامةُ إذ رأتْني : ... بُلِيتُ وَما لُقيتُ لِقَاءَ صَحْبِ )

( وَقد فقدَتْ معانقَتي زماناً ... وَشَدَّ المِعْصَمينِ فُوَبْقَ حَقْبِ )
( لقد بُدِّلتَ بَعْدِي وَجْهَ سَوْءٍ ... وَآثاراً بجِلْدِكَ يا بنَ كعْبِ )
( فقلْتُ لها كذلكِ منْ يُلاقِي ... عِتَاقَ الخيْلِ تحملُ كل صَعْبِ )
وقال المجير بن أسلم القشيري
( أَصبَحتْ أُمُّ مَعْمرٍ عَذَلَتْني ... في رُكوبي إلى مُنَادِي الصَّبَاحِ )
( فَدعِيني أُفيدُ قوْمَكِ مَجْدَاً ... تَندُبيني به لَدَى الأنواحِ )
( كلَّ حَيٍّ أَذقْتُ نُعَمى وَبُؤسَى ... ببني عامِر الطِّوالِ الرِّماحِ )
( وصَدمنَا كلْباً فَبَيْنَ قتيلٍ ... أو سِليبٍ مُشَرّدٍ من جراحِ )
( وَأَتَوْنَا بكلِّ أجردَ صافٍ ... ورجالٍ مُعَدَّةٍ وسلاحِ )
وقال أيضا
( أبْلِغْ عامِراً عنِّي رسولاً ... وَأبْلغْ إن عَرَضْتَ بَني جَنَابِ )
( هَلُمَّ إلى جيادٍ مُضْمراتٍ ... وَبيضٍ لا تُفَلُّ من الضِّرَاب )
( وسُمْرٍ في المَهَزَّةِ ذاتِ لِينٍ ... نُقِيمُ بهِنَّ مِنْ صَعَر الرِّقابِ )
( إذا حَشَدتْ سُليمٌ حَولَ بيتي ... وَعامِرُهَا المركَّبُ في النِّصَابِ )
( فمَن هذا يُقَاربُ فخرَ قومِي ... وَمنْ هذا الذي يَرْجُو اغْتصَابي ؟ )
وقال زفر بن الحارث
( يا كلبُ قد كَلِب الزَّمانُ عليكمُ ... وَأَصَابكُم منِّي عذابٌ مُرسَلُ )
( أَيَهُولُنا يا كلبُ أَصْدقُ شِدَّةِ ... يومَ اللِّقاءِ أم الهُوَيلُ الأوَّلُ )
( إنَّ السَّماوَةَ لا سَماوَة فالْحقِي ... بالغَوْرِ فالأفحاصِ بِئْسَ المَوْئِلُ )

( فجَنُوب عكَّا فالسَّواحِل إنَّهَا ... أرضٌ تَذُوبُ بها اللِّقاحُ وَتُهزَلُ )
( أَرْضُ المذلَّةِ حيثُ عَقَّتْ أُمُّكم ... وَأبُوكمُ أوْ حيثُ مُزّع بحْدَلُ )
وقال عمير بن الحباب
( ورَدْنَ على الغُوَيرِ غُويرِ كلْب ... كأنّ عُيونَهَا قُلُبُ انتزاحِ )
( أَقَرَّ العيْنَ مَصْرعُ عبدِ وُدٍّ ... ومَا لاقَتْ سَراةُ بني الجُلاحِ )
( وقائمةٍ تُنَادِي يا لَكلْبٍ ... وكلْبٌ بئْسَ فِتْيانُ الصَّباحِ )
وقال عُمير أيضا
( وكلْبٌ تركْنا جمعَهم بينَ هاربٍ ... حِذارَ المَنايا أَوْ قَتيلٍ مُجَدَّلِ )
( وأفلَتنا لَّما التقَينا بعاقِدٍ ... على سابحٍ عند الجِراءِ ابنُ بحْدلِ )
( وأُقْسِمُ لو لاقَيتُه لعَلوْتُه ... بأبيَضَ قَطَّاعِ الضَّريبةِ مِقْصَلِ )
وقال عمير أيضا
( وكلْباً تركْناهمْ فُلولاً أذِلَّةً ... أدرْنا عليهمْ مثلَ راغيةِ البَكْرِ )
وقال جهم القشيري
( يا كلْبُ مَهْلاً عن بني عامِر ... فليس فيها الجَدُّ بالعاثِرِ )
( وَلَّى حُمَيدٌ وَهو في كُرْبةٍ ... على طويلٍ متنُهُ ضامِرِ )
( بالأمِّ يَفْدِيها وَقد شَمَّرَتْ ... كاللَّبْوةِ الممْطُولةِ الكَاسِرِ )
( هَلاَّ صَبَرتُم للقَنا سَاعةً ... وَلم تَكُنْ بالماجدِ الصابِر ؟ )
وقال عمير

( وَأَفلتنَا رَكْضاً حُمَيدُ بنُ بَحْدلٍ ... على سابح غَوْجِ اللَّبانِ مُثابِرِ )
( إذا انتقصتْ مِنْ شأْوهِ الخيلُ خلفَهُ ... تَرَامَى به فوقَ الرِّماحِ الشَّواجِرِا )
( لدُنْ غدوةٍ حتى نَزَلنا عَشِيَّةً ... يَمُرُّ كمِرِّيخ الغُلامِ المُخاطِرِ )
وقال عمير
( يا كلْبُ لم تترُكْ لكم أرْماحُنا ... بِلوَى السّماوةِ فالغُوْيرِ مَرادَا )
( يا كلبُ أحرَمْنا السماوة فانظري ... غير السَّماوةِ في البلادِ بِلادَا )
( ولقد صكَكنا بالفوارسِ جَمْعكم ... وَعَديدَكم يا كلبُ حتى بادا )
( ولقد سبقتُ بوَقْعةٍ تركَتْكُمُ ... يا كلبُ بالحَرْبِ العَوانِ بِعادا )
وقال زفر بن الحارث
( جَزى اللَّهُ خَيْراً كلْما ذَرَّ شارقٌ ... سَعيداً ولاقتْهُ التحيَّة والرُّحْبُ )
( وحَلْحلهُ المغْوارُ للهِ جَدُّهُ ... فلو لم يَنَلْهُ القتلُ بادتْ إذنْ كلبُ )
( بني عَبْدِ وُدٍّ لا نطالبُ ثأرنا ... من الناسِ بالسُّلطانِ إن شَبَّتِ الحرب )
( ولكنَّ بِيضَ الهِنْدِ تُسْعِرُ نارَنا ... إذا ما خَبَتْ نارُ الأَعادِي فما تخْبُو )
( أبادتكمُ فُرسانُ قيسٍ فما لَكُمْ ... عَدِيدٌ إذا عُدَّ الحَصَى لا ولا عَقْبُ )
( بأيديهُم بيضٌ رِقاقٌ كأنَّها ... إذا ما انتضَوْها في أكُفِّهِمُ الشُّهْبُ )
( فسُبُّوهُمُ إن أنتُم لم تُطالِبوا ... بثأرِكُمْ قد ينفعُ الطالبَ السَّبُّ )
( وما امتَنَعَ الأقوامُ عنّا بنأيِهم ... سواءٌ علينا النأيُ في الحربِ والقُرْبُ )
وقال عمير

( شَفَيتُ الغليلَ من قُضاعةَ عَنْوةً ... فظلَّ لها يومٌ أَغَرُّ مُحَجَّلُ )
( جزيْناهُم بالمَرجِ يوماً مُشَهَّراً ... فلاقَوْا صَباحاً ذا وَبالٍ وقُتِّلُوا )
( فلم يَبْقَ إلا هاربٌ من سُيُوفِنا ... وإلاّ قتيلٌ في مَكَرٍّ مُجدَّلُ )
وقال ابن الصفار المحاربي
( عَظُمَتْ مصيبةُ تَغْلبَ ابنةِ وائلٍ ... حتى رأتْ كلبٌ مُصيبَتَها سُوَى )
( شَمتُوا وكان اللَّهُ قد أَخْزاهمُ ... وتُرِيدُ كلبٌ أن يكونَ لها أُسَا )
( وبكُمْ بدأْنا يالَ كَلْبٍ قَتلَهُمْ ... ولعلّنا يوماً نَعُودُ لكم عَسَى )
( أخْنَتْ على كلبٍ صُدُورُ رِماحِنا ... ما بينَ أَقْبِلةِ الغُويرِ إلى سُوا )
( وعركْنَ بَهراءَ بن عمرٍو عَركةً ... شَفَت الغلِيلَ ومَسَّهُمْ مِنَّا أَذَى )
وقال الراعي
( متى نفترشْ يوماً عُلَيماً بغارةٍ ... يكونوا كعَوصٍ أو أَذَلَّ وأضرعَا )
( وحَيَّ الجُلاح قد تركْنا بدارِهمْ ... سَواعِدَ مُلْقَاةً وهاماً مُصَرَّعا )
( ونحن جَدَعْنَا أنفَ كلبٍ ولم نَدعْ ... لِبَهراءَ في ذكرٍ من الناسِ مَسْمَعا )
( قَتَلْنا لوَ اٌنَّ القتلَ يَشْفي صُدورَنا ... بتدمُرَ أَلْفاً من قُضاعةَ أَقْرَعا )
وقال زفر بن الحارث وذكر أبو عبيدة أنها لعقيل بن علفة

( أقرَّ العُيونَ أنَّ رهطَ ابنِ بحدَلٍ ... أُذِيقُوا هَواناً بالذي كان قُدِّما )
( صَبَحناهمُ البِيضَ الرِّقاقَ ظُباتُها ... بجانب خَبْتٍ والوشيجَ المقَوَّما )
( وجَرْداءَ مَلَّتْها الغُزاةُ فكلُّها ... تََرى قَلِقاً تحت الرحّالةِ أهضَما )
( بكلّ فتىً لم تأبُرِ النّخلَ أُمُّه ... ولم يُدْعَ يوماً للغرائرِ مِعْكما )
وهذه الحروب التي جرت ببنات قين
فلما ألح عمير بالغارات على كلب رحلت حتى نزلت غوري الشام فلما صارت كلب بالموضع الذي صارت قيس انصرفت قيس في بعض ما كانت تنصرف من غزو كلب وهم مع عمير فنزلوا بثني من أثناء الفرات بين منازل بني تغلب وفي بني تغلب امرأة من تميم يقال لها أم دويل ناكحة في بني مالك بن جشم بن بكر وكان دويل من فرسان بني تغلب وكانت لها أعنز بمجنبة فأخذوا من أعنزها أخذها غلام من بني الحريش فشكوا ذلك إلى عمير فلم يشكهم وقال معرة الجند
فلما رأى أصحابه أنه لم يقدعهم وثبوا على بقية أعنزها فأخذوها وأكلوها فلما أتاها دويل أخبرته بما لقيت فجمع جمعا ثم سار فأغار على بني الحريش فلقي جماعة منهم فقاتلوه فخرج رجل من بني الحريش زعمت تغلب أنه مات بعد

ذلك وأخذ ذودا لامرأة من بني الحريش يقال لها أم الهيثم فبلغ الأخطل الوقعة فلم يدر ما هي وقال وهو براذان
( أتاني ودُوني الزَّابيانِ كلاهما ... ودِجْلَةُ أنباءٌ أَمَرُّ من الصَّبْرِ )
( أتاني بأن ابنيْ نِزَارٍ تهادَيا ... وتَغْلِب أولى بالوفاء وبالغَدْرِ )
فلما تبين الخبر قال
( وجاؤوا بجَمْعٍ ناصِرِي أمِّ هيثمٍ ... فما رَجَعُوا من ذَوْدِها ببعيرِ )
فلما بلغ ذلك قيسا أغارت على بني تغلب بإزاء الخابور فقتلوا منهم

ثلاثة نفر واستاقوا خمسة وثلاثين بعيرا فخرجت جماعة من تغلب فأتوا زفر ابن الحارث وذكروا له القرابة والجوار وهم بقرقيسيا وقالوا ائتنا برحالنا ورد علينا نعمنا فقال أما النعم فنردها عليكم أو ما قدرنا لكم عليه ونكمل لكم نعمكم من نعمنا إن لم نصبها كلها وندي لكم القتلى قالوا له فدع لنا قريات الخابور ورحل قيسا عنها فإن هذه الحروب لن تطفأ ما داموا مجاورينا فأبى ذلك زفر وأبوا هم أن يرضوا إلا بذلك فناشدهم الله وألح عليهم فقال له رجل من النمر كان معهم والله ما يسرني أنه وقاني حرب قيس كلب أبقع تركته في غنمي اليوم وألح عليهم زفر يطلب إليهم ويناشدهم فأبوا فقال عمير لا عليك لا تكثر فوالله إني لأرى عيون قوم ما يريدون إلا محاربتك فانصرفوا من عنده ثم جمعوا جمعا وأغاروا على ما قرب من قرقيسيا من قرى القيسية فلقيهم عمير بن الحباب فكان النميري الذي تكلم عند زفر أول قتيل وهزم التغلبيين فأعظم ذلك الحيان جميعا قيس وتغلب وكرهوا الحرب وشماتة العدو
فذكر سليمان بن عبد الله بن الأصم
أن إياس بن الخراز أحد بني عتيبة بن سعد بن زهير وكان شريفا من عيون تغلب دخل قرقيسيا لينظر ويناظر زفر فيما كان بينهم فشد عليه يزيد بن بحزن القرشي فقتله فتذمم زفر من ذلك وكان كريما مجمعا لا يحب الفرقة فأرسل إلى الأمير ابن قرشة بن عمرو بن ربعي بن زفر بن عتيبة بن بعج بن عتيبة بن سعد بن زهير بن جشم بن الأرقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب فقال له هل لك أن تسود بني نزار فتقبل مني الدية عن ابن

عمك فأجابه إلى ذلك
وكان قرشة من أشراف بني تغلب فتلافى زفر ما بين الحيين وأصلح بينهم وفي الصدور ما فيها فوفد عمير على المصعب بن الزبير فأعلمه أنه قد أولج قضاعة بمدائن الشام وأنه لم يبق إلا حي من ربيعة أكثرهم نصارى فسأله أن يوليه عليهم فقال اكتب إلى زفر فإن هو أراد ذلك وإلا ولاك فلما قدم على زفر ذكر له ذلك فشق عليه ذلك وكره أن يليهم عمير فيحيف بهم ويكون ذلك داعية إلى منافرته فوجه إليهم قوما وأمرهم أن يرفقوا بهم فأتوا أخلاطا من بني تغلب من مشارق الخابور فأعلموهم الذي وجهوا به فأبوا عليهم فانصرفوا إلى زفر فردهم وأعلمهم أن المصعب كتب إليه بذلك ولا يجد بدا من أخذ ذلك منهم أو محاربتهم فقتلوا بعض الرسل
وذكر ابن الأصم
أن زفر لما أتاه ذلك اشتد عليه وكره استفساد بني تغلب فصار إليهم عمير بن الحباب فلقيهم قريبا من ماكسين على شاطىء الخابور بينه وبين قرقيسيا مسيرة يوم فأعظم فيها القتل
وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب
أن القتل استحر ببني عتاب بن سعد والنمر وفيهم أخلاط تغلب ولكن هؤلاء معظم الناس فقتلوهم بها قتلا شديدا وكان زفر بن يزيد أخو الحارث بن جشم له عشرون ذكرا لصلبه وأصيب يومئذ أكثرهم وأسر القطامي الشاعر وأخذت إبله فأصاب عمير وأصحابه شيئا كثيرا من النعم ورئيس تغلب يومئذ عبد الله بن شريح بن مرة بن عبد الله بن عمرو بن كلثوم

ابن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم فقتل وقتل أخوه وقتل مجاشع بن الأجلح وعمرو بن معاوية من بني خالد بن كعب بن زهير وعبد الحارث بن عبد المسيح الأوسي وسعدان بن عبد يسوع بن حرب وسعد ود ابن أوس من بني جشم بن زهير وجعل عمير يصيح بهم ويلكم لا تستبقوا أحدا ونادى رجل من بني قشير يقال له الندار أنا جار لكل حامل أتتني فهي آمنة فأتته الحبالى فبلغني أن المرأة كانت تشد على بطنها الجفنة من تحت ثوبها تشبيها بالحبلى بما جعل لهن
فلما اجتمعن له بقر بطونهن فأفظع ذلك زفر وأصحابه ولام زفر عميرا فيمن بقر من النساء فقال ما فعلته ولا أمرت به فقال في ذلك الصفار المحاربي
( بقَرْنا مِنكمُ ألْفَيْ بَقِيرٍ ... فلم نَتْرُكْ لحاملةٍ جَنِينَا )
وقال الأخطل يذكر ذلك
( فليتَ الخيلَ قد وَطِئَتْ قُشَيْراً ... سَنابكُها وقد سَطَع الغُبارُ )
( فنجْزِيهمْ ببَغيِهمُ علَينا ... بنِي لُبنَى بما فَعلَ الغُدار )
وقال الصفار
( تمنَّيتُ بالخابُور قيساً فصادَفَتْ ... مَنايا لأسباب وِفاقٍ على قَدْرِ )
وقال جرير
( نُبِّئتُ أنَّك بالخابور مُمْتَنعٌ ... ثم انْفَرَجْتَ انفراجاً بعدَ إقرارِ )
فقال زفر بن الحارث يعاتب عميرا بما كان منه في الخابور
( أَلا مَن مُبلغٌ عنِّي عُميراً ... رسالَة عاتبٍ وعليكَ زارِي )
( أَتترُكُ حَيَّ ذي كلَعٍ وَكلبٍ ... وتجعلُ حَدّ نابِكَ في نزارِ )
( كمُعتمدٍ على إحدَى يديهِ ... فخانَتهُ بِوهْيٍ وانكِسار )

زفر يخلي سبيل القطامي والقطامي يمدحه
ولما أسر القطامي أتى زفر بقرقيسيا فخلى سبيله ورد عليه مائة ناقة كما ذكر أدهم بن عمران العبدي فقال القطامي يمدحه
( قِفِي قَبْلَ التفرُّقِ يا ضُباعَا ... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَداعا )
( قِفي فادِي أَسيرَك إنَّ قَوْمي ... وقومَكِ لا أَرى لهم اجتماعا )
( أَلم يُحْزِنْكِ أنَّ حِبالَ قيسٍ ... وتغلِبَ قد تَبايَنَت انْقِطاعا )
( فصارا ما تُغِبُّهما أمورٌ ... تزيدُ سَنا حريقتِها ارتفاعا )
( كما العظْمُ الكَسِيرُ يُهاضُ حَتى ... يَبِتَّ وإنَّما بدأ انصداعا )
( فأصبح سيلُ ذلِكَ قد تَرَقى ... إلى مَن كان منزلُه يَفاعا )
( فلا تبْعَد دماءُ ابني نزارٍ ... ولا تَقْرَر عيونُكِ يا قُضَاعا )
( ومن يكن استَلامَ إلى ثَوِيٍّ ... فقد أحسنتَ يا زفرُ المَتاعا )
( أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عنِّي ... وبعد عَطائِكَ المائةَ الرِّتاعا )
( فلو بيدَيْ سِواكَ غداةَ زَلَّتْ ... بيَ القدمَانِ لم أرْجُ اطِّلاعا )
( إذن لهلكتُ لو كانَتْ صِغارٌ ... من الأخْلاق تُبْتعُ ابتِداعا )
( فَلم أرَ مُنعمِينَ أقلّ مَنًّا ... وأكرمَ عِندَما اصطُنِعُوا اصْطناعا )
( مِن البِيضِ الوُجُوهِ بني نُفَيلٍ ... أبتْ أخلاقُهمْ إلاَّ اتِّسَاعا )
( بَنِي القَرْم الذي علِمتْ مَعدٌّ ... تفضّلَ قومِها سعةً وباعا ) وقال أيضاً

( يا زفرُ بنَ الحارثِ ابن الأكرم ... قد كنتَ في الحربِ قديمَ المُقْدَمِ )
( إذْ أحجم القوم ولمّا تُّحجِم ... إنَّكَ وابنيكَ حفِظتمْ محْرَمي )
( وحقَنَ اللَّهُ بِكفَّيكَ دمِي ... مِن بعدِ ما جَفَّ لِساني وفمي )
( أنقذتنِي من بطلٍ مُعمَّم ... والخيلُ تحت العارضِ المُسَوَّم )
( وَتغلبٌ يَدعونَ : يا لَلأَرْقمِ ... )
وقال أيضا
( يا ناقُ خُبِّي خَبَباً زِوَرَّا ... وقلِّبي مَنْسِمَكِ المُغْبَرّا )
( وعارضي اللَّيلَ إذا ما اخضرَّا ... سوف تُلاقين جَواداً حُرَّا )
( سيّدَ قيسٍ زُفَرَ الأَغَرَّا ... ذاكَ الذي بايعَ ثُمَّ بَرَّا )
( ونقَضَ الأقوامُ واستمرَّا ... قد نفع اللهُ بهِ وضَرَّا )
( وكانَ في الحرْبِ شِهاباً مُرَّا ... )
وقال أيضا
( كأنَّ في المركَبِ حينَ راحا ... بدراً يزيدُ البصرَ انفِضاحا )
( ذَا بلَجٍ ساوَاكَ أنَّى امْتاحا ... وَقَرَّ عيناً ورَجا الرَّباحا )
( ألا ترى ما غَشيَ الأرْكاحا ... وغشيَ الخابورَ والأملاحا )
( يُصفِّقُون بالأكُفِّ الرَّاحا ... )

وقال فيه أيضا هذه القصيدة التي فيها الغناء المذكور بذكر أخبار القطامي
( ما اعتادَ حُبُّ سُليمى حينَ معتادِ ... ولا تَقَضَّى بَواقي دَيْنِها الطادِي )
( بيضاءُ مَحْطُوطةُ المتْنَيْن بَهْكَنةٌ ... رَيَّا الرّوَادفِ لم تُمغِلْ بأولادِ )
( ما لِلكواعبِ ودَّعْنَ الحياةَ كما ... ودَّعْنَني واتَّخَذْنَ الشَّيبَ ميعادي )
( أبصارُهُنَّ إلى الشُّبَّانِ مائلةٌ ... وقدْ أراهُنّ عَنِّي غيرَ صُدّادِ )
( إذْ باطِلي لم تَقشَّع جاهليَّتُهُ ... عنِّي ولم يَتْرُك الخُلاَّنُ تَقوادِي )
( كنِيّة الْحيِّ منْ ذي القَيضةِ احتَملوا ... مُسْتَحْقِين فُؤاداً مالهُ فادِي )
( بانُوا وكانوا حياتي في اجتماعِهمُ ... وفي تفرُّقِهِمْ قَتْلي وإقصادي )
( يَقتُلْننا بحديثٍ ليْسَ يعلمُه ... مَن يَتّقِينَ ولا مكنُونُه بادِي )
( فهنَّ ينْبِذْنَ من قولٍ يُصِبْنَ بهِ ... مواقعَ الماءِ من ذي الغُلَّةِ الصَّادِي )
يقول فيها في مدح زفر بن الحارث
( مَنْ مُبلغٌ زُفرَ القَيسيَّ مِدْحَتهُ ... من القُطاميَّ قوْلاً غيرَ إفنادِ )
( إنّي وإن كان قَوْمي ليسَ بينهمُ ... وبينَ قومِكَ إلاَّ ضَربةُ الهادِي )
( مُثنٍ عليكَ بما استبْقيتَ مَعرِفتي ... وقد تَعرَّض منّي مَقتلٌ بادِي )
( فلن أُثيبَك بالنَّعماء مَشتَمةً ... ولن أُبدِّل إحساناً بإفسادِ )
( فإن هجوتُكَ ما تَمَّتْ مُكارَمَتي ... وإن مَدحتُ فقد أحسنتَ إصفادي )
( وما نسيتُ مَقامَ الوَرْدِ تحبِسُه ... بيني وبينَ حَفيف الغابةِ الغادي )

( لولا كتائِبُ من عمرٍو تصول بها ... أُرْدِيتُ يا خيرَ مَن يَنْدُو له النَّادي )
( إذْ لا ترى العينُ إلا كلَّ سَلْهبةٍ ... وسابحٍ مثل سِيدِ الرَّدْهةِ العادِي )
( إذِ الفَوارسُ من قيسٍ بِشِكَّتِهمْ ... حَوْلي شُهودٌ وما قَوْمي بشُهَّادي )
( إذِ يَعتريكَ رجالٌ يسألونَ دَمِي ... ولو أطعتَهمُ أبكيتَ عُوَّادِي )
( فقد عَصيْتَهمُ والحربُ مقبلةٌ ... لا بل قَدَحْتَ زناداً غيرَ صلاَّدِ )
( والصِّيدُ آلُ نُفْيلٍ خيرُ قومِهمُ ... عند الشتاءِ إذا ما ضُنَّ بالزَّادِ )
( المانعُونَ غَداةَ الرَّوْع جارَهمُ ... بالمشْرَفيَّةِ من ماضٍ ومُنآدِ )
( أيَّامَ قومِي مكاني مُنْصِبٌ لهمُ ... ولا يظنُّون إلاَّ أنَّني رادِي )
( فانتاشَني لكَ من غمّاءَ مظلمةٍ ... حبلٌ تضمَّنِ إصدارِي وإيرادِي )
( ولا كردِّكَ مالِي بعدَما كرَبتْ ... تُبدِي الشماتَة أعدائي وحُسَّادي )
( فإنْ قَدَرتُ على خَيرٍ جَزَيتُ به ... واللَّهُ يجعل أقواماً بِمرْصَادِ )
قال ابن سلام فلما سمع زفر هذا قال لا أقدرك الله على ذلك
وقال أيضا
( ألا مَن مُبلغٌ زُفَرَ بن عمرٍو ... وخيرُ القولِ ما نَطَقَ الحكِيمُ )
( أبيٌّ ما يُقَادُ الدَّهرَ قَسْراً ... ولا لِهَوى المصرِّف يَسْتقيمُ )
( أَنُوفٌ حينَ يغضبُ مُسْتَعِزٌّ ... جَنوحٌ يَسْتبدُّ به العزيمُ )
( فما آلُ الحُبَابِ إلى نُفَيلٍ ... إذا عُدَّ المُمهِّلُ والقديمُ )

( كأنَّ أبا الحُبَابِ إلى نُفَيلٍ ... حِمَارٌ عَضَّهُ فرسٌ عَذُومُ )
( بَني لك عامرٌ وبنو كلابٍ ... أُرُوماً ما يُوازيه أُرومُ )

القطامي ممن يحسنون ابتداء القصيد
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال سمعت من لا أحصي من الرواة يقولون
أحسن الناس ابتداء قصيد في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول
( ألا عِم صباحاً أيها الطَّللُ البَالي ... )
وحيث يقول
( قفَا نبْكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ... )
وفي الإسلاميين القطاميُّ حيث يقول
( إنا مُحيُّوكَ فاسْلم أيهَا الطَّلَلُ ... )
وفي المحدثين بشار حيث يقول

( أبَى طَلَلٌ بالجَزْعِ أن يتَكلَّمَا ... وماذا عليه لو أجابَ مُتيَّما ؟ )
( وبالفُرْع آثارٌ لهِندٍ وباللِّوى ... مَلاعِبُ ما يُعْرَفْنَ إلاَّ تَوَهُّما )
نسخت من كتاب أحمد بن الحارث الخراز ولم أسمعه من أحد وهو خبر فيه طول اقتصرت منه على ما فيه من خبر القطامي قال أحمد بن الحارث الخراز حدثني المدائني عن عبد الملك بن مسلم قال
قال عبد الملك بن مروان للأخطل وعنده عامر الشعبي أتحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أم تحب أنك قلته قال
لا والله يا أمير المؤمنين إلا أني وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منا مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع قال وما قال فأنشد قول القطامي
( إنَّا مُحيُّوكَ فاسْلمْ أيُّهَا الطَّللُ ... وَإن بَليتَ وإن طَالتْ بكَ الطِّيَلُ )
( ليس الجديدُ به تبقى بَشَاشَتُه ... إلا قليلاً ولا ذو خُلَّةٍ يَصِلُ )

( والعيشُ لا عيْشَ إلا ما تَقرُّ به ... عَينٌ ولا حالَ إلا سوفَ تنْتقلُ )
( إن تَرْجِعي من أبي عثمانَ مُنْجِحةً ... فقد يُهونُ على المستَنْجِحِ العمَلُ )
( والناسُ مَنْ يلْقَ خيراً قائلونَ له ... ما يَشتهِي وَلأُمَّ المخطِىءِ الهَبلُ )
( قد يُدْرِكُ المتأَنِّي بعضَ حاجَتِهِ ... وقد يكونُ مع المسْتعجل الزَّللُ )
حتى أتى على آخرها
قال الشعبي فقلت له قد قال القطامي أفضل من هذا قال وما قال قلت قال
( طرقتْ جَنُوبُ رِحالَنا من مَطْرَقِ ... ما كنت أحْسِبُهَا قريبَ المُعْنَق )
( قَطعتْ إليكَ بمثل حِيدِ جَدَايةٍ ... حَسَنٍ مُعلَّقُ تُومَتَيْه مُطوَّقِ )
( ومُصرّعينَ من الكَلالِ كأَنَّما ... بكَروا الغَبوقَ من الرَّحيقِ المُعتِق )
( مُتوسِّدين ذراعَ كلِّ شِمَلَّةٍ ... ومُفرّجٍ عَرِقِ المَقَذِّ مُنَوّق )
( وَجَثَتْ على رُكَبٍ تهُدُّ بها الصَّفَا ... وعلى كلاكِلَ كالنَّقِيل المُطرَق )
( وإذا سمِعْن إلى هماهمِ رُفْقةٍ ... ومن النُّجُوم غوَابرٌ لم تخفق )
( جعلتْ تُمِيلُ خُدودَها آذانُهَا ... طرَباً بهنَّ إلى حُداءِ السُّوَّق )

( كالمُنْصِتات إلى الزَّميرِ سَمِعْنه ... من رائعٍ لقلوبهنَّ مُشَوِّقِ )
( فإذا نَظرْنَ إلى الطَّريق رأينَهُ ... لَهقاً كَشاكلةِ الحِصانِ الأبلق )
( وإذا تخلَّفَ بعدهُنَّ لحاجةٍ ... حادٍ يُشَسِّعُ نعَلَه لم يَلحقِ )
( وَإذَا يُصيبُك - والحوادثُ جمَّةٌ - ... حدثٌ حَداكَ إلى أَخيكَ الأوثق )
( ليتَ الهُمُومَ عن الفؤادِ تفرَّجَتْ ... وخلا التَّكلُّم للِّسان المُطلَق )
قال فقال عبد الملك بن مروان ثكلت القطامي أمه هذا والله الشعر قال فالتفت إلي الأخطل فقال لي يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث وإنما لنا فن واحد فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حربى فقلت وكرامة لا أعرض لك في شعر أبدا فأقلني هذه المرة
ثم التفت إلى عبد الملك بن مروان فقلت يا أمير المؤمنين أسألك أن تستغفر لي الأخطل فإني لا أعاود ما يكره فضحك عبد الملك بن مروان وقال يا أخطل إن الشعبي في جواري فقال يا أمير المؤمنين قد بدأته بالتحذير وإذا ترك ما نكره لم نعرض له إلا بما يحب
فقال عبد الملك بن مروان للأخطل فعلي ألا يعرض لك إلا بما تحب أبدا فقال له الأخطل أنت تتكفل بذلك يا أمير المؤمنين قال عبد الملك بن مروان أنا أكفل به إن شاء الله تعالى

صوت
( يا بنَ الذين سَما كِسْرى لجمْعهِمُ ... فجلَّلُوا وَجْهه قاراً بِذِي قارِ )

( دوِّخْ خُراسانَ بالجُرْدِ العِتَاقِ وبالْبِيضِ ... الرِّقاق بأيْدِي كلِّ مِسعار )
الشعر لأبي نجدة واسمه لجيم بن سعد شاعر من بني عجل
أخبرني بذلك جماعة من أهله
وكان أبو نجدة هذا مع أحمد بن عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف منقطعا إليه
والغناء لكنيز دبة ولحنه فيه خفيف بالبنصر ابتداؤه نشيد
وكان سبب قوله هذا الشعر أن قائدا من قواد أحمد بن عبد العزيز التجأ إلى عمرو بن الليث وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه فدخل عليه أبو نجدة فأنشده هذين البيتين وبعدهما
( يا مَنْ تيمّم عَمراً يستجيرُ به ... أمَا سَمِعْتَ ببيْتٍ فيهِ سَيّارِ )
( المسْتجيرُ بعمْرو عند كُرْبته ... كالمسْتجير من الرّمْضاءِ بالنَّار )
فسر أحمد بذلك وسري عنه وأمر لأبي نجدة بجائزة وخلع عليه وحمله وغنى فيه كنيز لحنه هذا وهو لحن حسن مشهور في عصرنا هذا فأمر

لكنيز أيضا بجائزة وخلع عليه وحمله
سمعت أبا علي محمد بن المرزبان يحدث أبي رحمه الله بهذا على سبيل المذاكرة وكانت بيننا وبين آل المرزبان مودة قديمة وصهر

خبر وقعة ذي قار التي فخر بها في هذا الشعر
أخبرنا بخبرها علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد ابن حبيب عن ابن الكلبي عن خراش بن إسماعيل
وأضفت إلى ذلك رواية الأثرم عن أبي عبيدة وعن هشام أيضا عن أبيه قالوا
كان من حديث ذي قار أن كسرى أبرويز بن هرمز لما غضب على النعمان ابن المنذر أتى النعمان هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن ربيعة بن ذهل ابن شيبان فاستودعه ماله وأهله وولده وألف شكة ويقال أربعة آلاف شكة قال ابن الأعرابي والشكة السلاح كله ووضع وضائع عند أحياء من العرب ثم هرب وأتى طيئا لصهره فيهم

وكانت عنده فرعة بنت سعيد بن حارثة بن لأم وزينب بنت أوس بن حارثة فأبوا أن يدخلوه جبلهم وأتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس فقالوا له أبيت اللعن أقم عندنا فإنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا فقال ما أحب أن تهلكوا بسببي فجزيتم خيرا
ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى فحبسه بساباط ويقال بخانقين وقد مضى خبره مشروحا في أخبار عدي بن زيد قالوا فلما هلك النعمان جعلت بكر بن وائل تغير على السواد فوفد قيس بن

مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين بن عبد الله بن عمرو إلى كسرى فسأله أن يجعل له أكلا وطعمة على أن يضمن له على بكر بن وائل ألا يدخلوا السواد ولا يفسدوا فيه فأقطعه الأبلة وما والاها
وقال هل تكفيك وتكفي أعراب قومك وكانت له حجرة فيها مائة من الإبل للأضياف إذا نحرت ناقة ردت مكانها ناقة أخرى وإياه عنى الشماخ بقوله
( فادْفعْ بأَلْبانها عنكُم كما دَفعت ... عنهم لِقاحُ بني قيس بن مَسعود )
قال فكان يأتيه من أتاه منهم فيعطيه جلة تمر وكرباسة حتى قدم الحارث بن وعلة بن مجالد بن يثربي بن الديان بن الحارث بن مالك بن شيبان

ابن ذهل بن ثعلبة والمكسر بن حنظلة بن حيي بن ثعلبة بن سيار بن حيي بن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل بن لجيم فأعطاهما جلتي تمر وكرباستين فغضبا وأبيا أن يقبلا ذلك منه فخرجا واستغويا ناسا من بكر بن وائل ثم أغارا على السواد فأغار الحارث على أسافل رودميسان وهي من جرد وأغار المكسر على الأنبار فلقيه رجل من العباديين من أهل الحيرة قد نتجت بعض نوقهم فحملوا الحوار على ناقة وصروا الإبل
فقال العبادي لقد صبح الأنبار شر جمل يحمل جملا وجمل برته عود فجعلوا يضحكون من جهله بالإبل
قال وأغار بجير بن عائذ بن سويد العجلي ومعه مفروق بن عمرو

الشيباني على القادسية وطيرناباذ وما والاهما وكلهم ملأ يديه غنيمة
فأما مفروق وأصحابه فوقع فيهم الطاعون فموت منهم خمسة نفر مع من موّت من أصحابهم فدفنوا بالدجيل وهو رحلة من العذيب يسيرة فقال مفروق
( أتاني بأنْباطِ السَّوادِ يَسُوقُهمْ ... إليَّ وأوْدَتْ رَجْلَتي وَفَوارِسي )

كسرى وقيس بن مسعود
فلما بلغ ذلك كسرى اشتد حنقه على بكر بن وائل وبلغه أن حلقة النعمان وولده وأهله عندهم فأرسل كسرى إلى قيس بن مسعود وهو بالأبلة فقال غررتني من قومك وزعمت أنك تكفينيهم وأمر به فحبس بساباط وأخذ كسرى في تعبئة الجيوش إليهم فقال قيس بن مسعود وهو محبوس من أبيات
( ألا أبلغْ بَني ذُهْلٍ رَسُولاً ... فَمَن هذا يكونُ لكم مكاني )
( أيأْكُلُها ابنُ وعْلَةَ في ظَلِيفٍ ... ويأمَنُ هَيْثَمٌ وابنا سِنان ؟ )

( ويأمَنُ فيكمُ الذُّهْليُّ بَعْدِي ... وقد وسَموكُم سِمةَ البيانِ )
( ألا مَنْ مُبلغٌ قَوْمي ومَن ذا ... يبلِّغُ عن أسيرٍ في الإوانِ )
يعني الإيوان
( تطَاوَل ليلُه وأصاب حُزْناً ... ولا يَرْجُو الفِكاكَ مع المِنانِ )
يعني بالهيثم وابني سنان الهيثم بن جرير بن يساف بن ثعلبة بن سدوس بن ذهل بن ثعلبة وأبو علباء بن الهيثم
وقال قيس بن مسعود ينذر قومه
( أَلاَ لَيتَني أَرشُو سِلاحِي وبَغْلَتي ... لِمَن يُخبِرُ الأنباءَ بكرَ بن وائلِ )
ويروي لمن يعلم الأنباء
( فأُوصِيهمُ باللَّهِ والصُّلْح بينهمْ ... لينصأ معروفٌ ويُزْجَرَ جاهِلُ )
( وصاةَ امرىء لو كان فيكم أَعانَكُم ... على الدَّهرِ والأيامُ فيها الغوائِلُ )
( فإيّاكُمُ والطّفَّ لا تَقْرَبُنَّهُ ... ولا البحرَ إنّ الماءَ للبحرِ واصِلُ )
( ولا أحْبِسَنْكم عن بُغا الخَيْرِ إنَّني ... سَقَطتُ عَلَى ضِرغامةٍ فهو آكِلُ )
رواه ابن الأعرابي فقال
( ... إنَّ الماءَ للقَوْدِ واصِلُ )
أي أنه معين لهم يقود الخيل إليكم

قال وقال قيس أيضا ينذرهم
( تَمنَّاك من ليلَى مع اللَّيل خائِلُ ... وذِكرٌ لها في القَلبِ ليس يُزَايِلُ )
( أُحِبّك حُبَّ الخَمرِ ما كان حُبُّها ... إلَيَّ وكُلٌّ في فؤادِيَ داخِلُ )
( ألا لَيتَنِي أرْشُو سِلاحي وبَغْلتي ... فيُخْبرَ قومي اليومَ ما أَنَا قائِلُ )
( فإنَّا ثَوَيْنا في شُعوبِ وإنَّهُمْ ... غَزَتْهُمْ جنودٌ جَمَّةٌ وقبائِلُ )
( وإنّ جُنودَ العُجْمِ بَيْني وبَينَكم ... فيا فَلَجِي يا قومُ إن لم تقاتلُوا )
قال فلما وضح لكسرى واستبان أن مال النعمان وحلقته وولده عند ابن مسعود بعث إليه كسرى رجلا يخبره أنه قال له إن النعمان إنما كان عاملي وقد استودعك ماله وأهله والحلقة فابعث بها إلي ولا تكلفني أن أبعث إليك ولا إلى قومك بالجنود تقتل المقاتلة وتسبي الذرية
فبعث إليه هانىء
إن الذي بلغك باطل وما عندي قليل ولا كثير وإن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد رجلين إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من استودعه إياها ولن يسلم الحر أمانته
أو رجل مكذوب عليه فليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو أو حاسد
قال وكانت الأعاجم قوما لهم حلم قد سمعوا ببعض علم العرب وعرفوا أن هذا الأمر كائن فيهم
فلما ورد عليه كتاب هانىء بهذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب فأقبل حتى قطع الفرات فنزل غمر بني مقاتل
وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانىء إياه ما منعه

كسرى يستشير إياس بن قبيصة
قال ودعا كسرى إياس بن قبيصة الطائي وكان عامله على عين

التمر وما والاها إلى الحيرة وكان كسرى قد أطعمه ثلاثين قرية على شاطىء الفرات فأتاه في صنائعه من العرب الذين كانوا بالحيرة فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل وقال ماذا ترى وكم ترى أن نغزيهم من الناس فقال له إياس إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته وإن تطعني لم تعلم أحدا لأي شيء عبرت وقطعت الفرات فيروا أن شيئا من أمر العرب قد كربك ولكن ترجع وتضرب عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى غرة منهم ثم ترسل حلبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم فيوقعون بهم وقعة الدهر ويأتونك بطلبتك
فقال له كسرى أنت رجل من العرب وبكر بن وائل أخوالك وكانت أم إياس أمامة بنت مسعود أخت هانىء بن مسعود فأنت تتعصب لهم ولا تألوهم نصحا
فقال إياس رأي الملك أفضل فقام إليه عمرو بن عدي بن زيد العبادي وكان كاتبه وترجمانه بالعربية في أمور العرب فقال له أقم أيها الملك وابعث إليهم بالجنود يكفوك
فقام إليه النعمان بن زرعة بن هرمي من ولد السفاح التغلبي فقال أيها الملك إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظوا بذي قار تهافتوا تهافت الجراد في النار
فعقد للنعمان ابن زرعة على تغلب والنمر وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد

وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر فكانت العرب ثلاثة آلاف
وعقد للهامرز على ألف من الأساورة وعقد لخنابرين على ألف وبعث معهم باللطيمة وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البز والعطر والألطاف توصل إلى باذام عامله باليمن وقال إذا فرغتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمن وأمر عمرو بن عدي أن يسير بها وكانت العرب تخفرهم وتجيرهم حتى تبلغ اللطيمة اليمن
وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل ودنوا منها أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهنا بما أحدث سفهاؤهم فاقبلوا منهم وإلا فقاتلوهم
وكان كسرى قد أوقع قبل ذلك ببني تميم يوم الصفقة فالعرب وجلة خائفة منه
وكانت حرقة بنت حسان بن النعمان بن المنذر يومئذ في بني سنان هكذا في هذه الرواية
وقال ابن الكلبي حرقة بنت النعمان وهي هند والحرقة لقب

وهذا هو الصحيح
فقالت تنذرهم
( أَلاَ أَبلغْ بني بكرٍ رَسُولاً ... فقد جَدَّ النّفيرُ بعَنْقَفِيرِ )
( فَلَيتَ الجيشَ كُلُّهمُ فِداكُمْ ... ونفْسيَ والسَّرِيرَ وذا السَّرِيرِ )
( كَأَنِّي حينَ جَدَّ بهم إليكُمْ ... مُعَلَّقَةُ الذَّوائبِ بالعَبُورِ )
( فلو أنِّي أطقتُ لِذاكَ دَفْعاً ... إذَنْ لَدَفَعْتُهُ بِدَمِي وَزِيرِي )
فلما بلغ بكر بن وائل الخبر سار هانىء بن مسعود حتى انتهى إلى ذي قار فنزل به وأقبل النعمان بن زرعة وكانت أمه قلطف بنت النعمان بن معد يكرب التغلبي وأمها الشقيقة بنت الحارث الوصاف العجلي حتى نزل على ابن أخته مرة بن عمرو بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن قيس بن سعد بن عجل فحمد الله النعمان وأثنى عليه ثم قال إنكم أخوالي وأحد طرفي وإن الرائد لا يكذب أهله وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب والكتيبتان الشهباء والدوسر وإن في هذا الشر خيارا
ولأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا فانظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا رهنا من أبنائكم إليه بما أحدث سفهاؤكم
فقال له

القوم ننظر في أمرنا
وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين
قال الأثرم جلهة الوادي ما استقبلك منه واتسع لك
وقال ابن الأعرابي جلهة الوادي مقدمه مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره يقال رأس أجله
قال وكان مرداس بن أبي عامر السلمي مجاورا فيهم يومئذ فلما رأى الجيوش قد أقبلت إليهم حمل عياله فخرج عنهم وأنشأ يقول يحرضهم بقوله
( أبلِغ سَراةَ بني بكرٍ مُغَلْغَلةً ... إنّي أخاف عليهم سُرْبةَ الدَّار )
( إنّي أرى الملِكَ الهامُرْزَ مُنْصَلِتاً ... يُزْجِي جِياداً وركباً غير أبرارِ )
( لا تَلْقُطُ البَعَر الْحَوْلِيَّ نِسْوَتُهُمْ ... للجائزِين عَلَى أعطانِ ذِي قار )
( فإن أَبَيْتُمْ فإنّي رافِعٌ ظُعُنِي ... ومُنْشِبٌ في جِبال اللُّوبِ أظْفَاري )
( وجاعِلٌ بينَنا وِرداً غَواربُه ... ترْمي إذا ما ربا الوادِي بتَيَّار )
ربا ارتفع وطال وقوله وردا غواربه أراد البحر

أبو الفرج يعطي رأيه في حكاية مرداس
قال علي بن الحسين الأصفهاني
هذه الحكاية عندي في أمر مرداس بن أبي عامر خطأ لأن وقعة ذي قار

كانت بعد هجرة النبي وكانت بين بدر وأحد ومرداس بن أبي عامر وحرب بن أمية أبو أبي سفيان ماتا في وقت واحد كانا مرا بالقرية وهي غيضة ملتفة الشجر فأحرقا شجرها ليتخذاها مزرعة فكانت تخرج من الغيضة حيات بيض فتطير حتى تغيب ومات حرب ومرداس بعقب ذلك فتحدث قومهما أن الجن قتلتهما لإحراقهما منازلهم من الغيضة وذلك قبل مبعث النبي بحين
ثم كانت بين أبي سفيان وبين العباس بن مرداس منازعة في هذه القرية ولهما في ذلك خبر ليس هذا موضعه
وأظن أن هذه الأبيات للعباس بن مرداس بن أبي عامر
رجع الحديث إلى سياقته في حديث ذي قار
قال
وجعلت بكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم من قبائل بكر لا ترفع

لهم جماعة إلا قالوا سيدنا في هذه
فرفعت لهم جماعة فقالوا سيدنا في هذه فلما دنوا إذا هم بعبد عمرو بن بشر بن مرثد فقالوا لا ثم رفعت لهم أخرى فقالوا في هذه سيدنا فإذا هو جبلة بن باعث بن صريم اليشكري فقالوا لا فرفعت أخرى فقالوا في هذه سيدنا فإذا هو الحارث بن وعلة ابن مجالد الذهلي فقالوا لا ثم رفعت لهم أخرى فقالوا في هذه سيدنا فإذا فيها الحارث بن ربيعة بن عثمان التيمي من تيم الله فقالوا لا ثم رفعت لهم أخرى أكبر مما كان يجيء فقالوا لقد جاء سيدنا فإذا رجل أصلع الشعر عظيم البطن مشرب حمرة فإذا هو حنظلة بن ثعلبة بن سيار بن حيي ابن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل فقالوا يا أبا معدان قد طال انتظارنا وقد كرهنا أن نقطع أمرا دونك وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاءنا والرائد لا يكذب أهله قال فما الذي أجمع عليه رأيكم واتفق عليه ملؤكم قالوا قال إن اللخي أهون من الوهي وإن في الشر خيارا ولأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلحوا جميعا
قال حنظلة فقبح الله هذا رأيا لا تجر أحرار فارس غرلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع الصوت
ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار ثم نزل ونزل الناس فأطافوا به ثم قال لهانىء بن مسعود يا أبا أمامة إن ذمتكم ذمتنا عامة وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك فإن تظفر فسترد عليك وإن تهلك فأهون مفقود
فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم ثم قال حنظلة للنعمان لولا أنك

رسول لما أبت إلى قومك سالما
فرجع النعمان إلى أصحابه فأخبرهم بما رد عليه القوم فباتوا ليلتهم مستعدين للقتال وباتت بكر بن وائل يتأهبون للحرب
فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم وأمر حنظلة بالظعن جميعا فوقفها خلف الناس ثم قال يا معشر بكر بن وائل قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا فأقبلت الأعاجم يسيرون على تعبئة فلما رأتهم بنو قيس بن ثعلبة انصرفوا فلحقوا بالحي فاستخفوا فيه فسمي حي بني قيس بن ثعلبة قال وهو على موضع خفي فلم يشهدوا ذلك اليوم
وكان ربيعة بن غزالة السكوني ثم التجيبي يومئذ هو وقومه نزولا في بني شيبان فقال يا بني شيبان أما لو أني كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العكم فقالوا فأنت والله من أوسطنا فأشر علينا فقال لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها ولكن تكردسوا لهم كراديس فيشد عليهم كردوس فإذا أقبلوا عليه شد الآخر فقالوا فإنك قد رأيت رأيا ففعلوا
فلما التقى الزحفان وتقارب القوم قام حنظلة بن ثعلبة فقال
يا معشر بكر بن وائل إن النشاب الذي مع الأعاجم يعرفكم فإذا

أرسلوه لم يخطئكم فعاجلوهم باللقاء وابدأوهم بالشدة
ثم قام هانىء بن مسعود فقال يا قوم مهلك معذور خير من نجاء معرور وإن الحذر لا يدفع القدر وإن الصبر من أسباب الظفر المنية ولا الدنية واستقبال الموت خير من استدباره والطعن في الثغر خير وأكرم من الطعن في الدبر يا قوم جدوا فما من الموت بد فتح لو كان له رجال أسمع صوتا ولا أرى قوما يا آل بكر شدوا واستعدوا وإلا تشدوا تردوا
ثم قام شريك بن عمرو بن شراحيل بن مرة بن همام فقال يا قوم إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم وكذلك أنتم في أعينهم فعليكم بالصبر فإن الأسنة تردي الأعنة يا آل بكر قدما قدما
ثم قام عمرو بن جبلة بن باعث بن صريم اليشكري فقال
( يا قوْم لاَ تغرُرْكُمُ هذِي الخِرقْ ... وَلاَ وَميضُ البَيْضِ في الشَّمس برَقْ )
( مَنْ لم يقَاتلْ مِنْكُم هذِي العُنُق ... فجنِّبوه الرَّاح واسقُوه المرَقْ )
ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته فقطعه ثم تتبع الظعن يقطع وضنهن لئلا يفر عنهن الرجال فسمي يومئذ مقطع الوضين
والوضين بطان الناقة
قالوا وكانت بنو عجل في الميمنة بإزاء خنابرين وكانت بنو شيبان في الميسرة بإزاء كتيبة الهامرز وكانت أفناء بكر بن وائل في القلب فخرج

أسوار من الأعاجم مسور في أذنيه درتان من كتيبة الهامرز يتحدى الناس للبراز فنادى في بني شيبان فلم يبرز له أحد حتى إذا دنا من بني يشكر برز له يزيد بن حارثة أخو بني ثعلبة بن عمرو فشد عليه بالرمح فطعنه فدق صلبه وأخذ حليته وسلاحه فذلك قول سويد بن أبي كاهل يفتخر
( ومنَّا يَزيدُ إذْ تحدَّى جُموعَكم ... فلم تَقْرَبوه المَرْزُبانُ المسهَّرُ )
( وبارَزَهُ مِنَّا غُلامٌ بِصَارمٍ ... حُسَامٍ إذا لاقى الضَّرِيبَة يَبتُرُ )
ثم إن القوم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلى أن زالت الشمس فشد الحوفزان واسمه الحارث ابن شريك على الهامرز فقتله وقتلت بنو عجل خنابرين وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا وتبعتهم بكر ابن وائل فلحق مرثد بن الحارث بن ثور بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس النعمان بن زرعة فأهوى له طعنا فسبقه النعمان بصدر فرسه فأفلته فقال مرثد في ذلك
( وَخَيْلٍ تَبَارَى للطِّعانِ شَهِدتُها ... فأغرقتُ فيها الرُّمْحَ والجمعُ مُحجِمُ )
( وأفلتَني النُّعمانُ قابَ رماحِنا ... وفوقَ قَطاةِ المهْرِ أزْرقُ لهذَمُ )

قال ولحق أسود بن بجير بن عائذ بن شريك العجلي النعمان بن زرعة فقال له يا نعمان هلم إلي فأنا خير آسر لك وخير لك من العطش
قال ومن أنت قال الأسود بن بجير فوضع يده في يده فجز ناصيته وخلى سبيله وحمله الأسود على فرس له وقال له انج على هذه فإنها أجود من فرسك وجاء الأسود بن بجير على فرس النعمان بن زرعة وقتل خالد بن يزيد البهراني قتله الأسود بن شريك بن عمرو وقتل يومئذ عمرو بن عدي بن زيد العبادي الشاعر فقالت أمه ترثيه
( وَيْحَ عمرو بن عديٍّ من رجُلْ ... حانَ يوماً بعدما قيل كَملْ )
( كان لا يعقِلُ حتى ما إذا ... جاءَ يومٌ يأكلُ الناسَ عَقلْ )
( أيُّهم دَلاَّكَ عمْرٌو للرَّدَى ... وقديماً حَيّنَ المرْءَ الأجلْ )
( ليت نُعمانَ عليْنا مَلِكٌ ... وبُنَيَّ لِيَ حَيٌّ لم يَزَلْ )
( قد تنظَّرْنا لغادٍ أوْبةً ... كان لو أغنى عن المرءِ الأمَلْ )
( بانَ منهُ عَضُدٌ عَنْ ساعدٍ ... بؤسَ للدّهر وبؤسَى للرجلْ )
قال وأفلت إياس بن قبيصة على فرس له كانت عند رجل من بني تيم الله يقال له أبو ثور فلما أراد إياس أن يغزوهم أرسل إليه أبو ثور بها فنهاه أصحابه أن يفعل فقال والله ما في فرس إياس ما يعز رجلا ولا يذله وما كنت لأقطع رحمه فيها فقال إياس
( غَذاها أبو ثوْرٍ فلما رأيتُها ... دَخِيسَ دوَاءِ لا أُضِيعَ غِذاؤها )
( فأعددتُها كُفأً ليَوْمِ كريهةٍ ... إذا أَقبلتْ بكرٌ تُجَرُّ رشاؤها )
قال وأتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا

من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه فذكروا أن مائة من بكر بن وائل وسبعين من عجل وثلاثين من أفناء بكر بن وائل أصبحوا وقد دخلوا السواد في طلب القوم فلم يفلت منهم كبير أحد وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم فذلك قول الديان بن جندل
( إن كنتِ ساقيةً يوماً على كَرمٍ ... فاسْقِي فوارسَ من ذُهلِ بن شيباناً )
( واسْقِي فوارسَ حامَوْا عن ديارهمُ ... واعْلِي مَفارِقَهمْ مِسكاً وَرَيْحانا )
قال فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال هزمنا بكر بن وائل فأتيناك بنسائهم فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة وإن إياسا استأذنه عند ذلك فقال إن أخي مريض بعين التمر فأردت أن آتيه وإنما أراد أن يتنحى عنه فأذن له كسرى فترك فرسه الحمامة وهي التي كانت عند أبي ثور بالحيرة وركب نجيبة فلحق بأخيه ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق فسأل هل دخل على الملك أحد فقالوا

نعم إياس فقال ثكلت إياسا أمه وظن أنه قد حدثه بالخبر فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم فأمر به فنزعت كتفاه

وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر
قال وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ورسول الله بالمدينة فلما بلغه ذلك قال هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا
قال ابن الكلبي وأخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال ذكرت وقعة ذي قار عند النبي فقال " ذلك يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا "
وروي أن النبي مثلت له الوقعة وهو بالمدينة فرفع يديه فدعا لبني شيبان أو لجماعة ربيعة بالنصر ولم يزل يدعو لهم حتى أري هزيمة الفرس
وروي أنه قال " إيها بني ربيعة اللهم انصر بني ربيعة " فهم إلى الآن إذا حاربوا دعوا بشعار النبي ودعوته لهم وقال قائلهم يا رسول الله وعدك فإذا دعوا بذلك نصروا
الشعراء بعد النصر
وقال أبو كلبة التيمي يفخر بيوم ذي قار

( لولا فوارِسُ لا مِيلٌ وَلا عُزُلٌ ... من اللّهازم ما قِظْتُم بذي قار )
( ما زِلتُ مُفترِساً أجسادَ أفْتيةٍ ... تُثِيرُ أعطافَها منها بآثارِ )
( إنَّ الفَوارسَ من عِجلٍ هُمُ أنِفُوا ... من أن يُخَلّوا لكِسْرى عَرْصةَ الدَّارِ )
( لاقَوْا فَوارِسَ من عِجْلٍ بشكّتِهَا ... ليسوا إذا قلّصَتْ حربٌ بأَغمارِ )
( قد أحسنَتْ ذُهلُ شيبانٍ وما عدَلَتْ ... في يومِ ذِي قارَ فُرْسانُ ابنِ سيّار )
( همُ الذين أَتَوْهُمْ عنْ شمائلهمْ ... كما تلبَّس وُرَّادٌ بصُدَّارِ )
فأجابه الأعشى فقال
( أبلغْ أبا كلْبةَ التَّيمِيَّ مألُكةً ... فأنتَ من مَعْشرٍ - واللَّهِ - أشْرَار )
( شيبانُ تَدْفعُ عنك الحربَ آونةً ... وأنتَ تنبَحُ نبْحَ الكلْبِ في الغار )
وقال بكير الأصم
( إن كنتِ ساقيةَ المُدامةِ أهْلَها ... فاسقِي على كَرَمٍ بني همَّامِ )
( وأبا رَبيعَة كلَّها ومُحلَّماً ... سبَقُوا بأنْجَدِ غايةِ الأيّام )
( زَحفُوا بجمْعٍ لا تُرَى أَقْطارُه ... لقِحَتْ بهِ حرْبٌ لغيرِ تمام )
( عَرَبٌ ثلاثةُ آلُفٍ وَكتيبةٌ ... ألْفانِ عُجْمٌ من بني الفَدَّام )
( ضربُوا بني الأحرارِ يومَ لَقُوهُمُ ... بالمشرِفيِّ على شؤْون الهام )
( وغدا ابنُ مَسعُودٍ فأوقعَ وَقْعةً ... ذَهبَتْ لهمْ في مُعْرِقٍ وشآمِ )
وقال الأعشى
( فِدىً لبني ذُهْلِ بن شَيبَان ناقتِي ... وراكبُها يومَ اللِّقاءِ وقلّتِ )
( هُمُ ضَربُوا بالحِنْوِ حِنوِ قُراقرِ ... مُقدِّمةَ الهامُرْز حتى تولَّتِ )

وقال بعض شعراء ربيعة في يوم ذي قار
( أَلا مَن لليلٍ لاَ تغُورُ كواكبُه ... وهمٍّ سَرى بين الجوانِح جانبُهْ )
( ألا هلْ أَتاها أنّ جيْشاً عَرَمْرماً ... بأسفلِ ذي قارٍ أُبِيدتْ كتائبهْ )
( فما حلْقةُ النُّعمانِ يومَ طلبتَها ... بأقرَبَ من نجم السماءِ تراقبُهْ )
وقال الأعشى
( حَلفْتُ بالمِلْح والرَّمادِ وبالعُزَّى ... وبالَّلاتِ تُسْلَم الحلقهْ )
( حَتّى يظلَّ الهمامُ مُنجدِلاً ... ويقْرَعَ النَّبلُ طُرَّة الدَّرَقهْ )
وقال ابن قرد الخنزير التيمي
( ألا أبلِغْ بني ذُهْلٍ رسُولاً ... فلا شَتماً أردتُ ولا فسادَا )
( هززتُ الحامِلينَ لكي يَعُودُوا ... إذا يومٌ من الحَدثانِ عادا )
( وجدتُ الرِّفْدَ رِفْدَ بني لُجَيْمٍ ... إذا ما قَلَّت الأَرفادُ زادا )
( هُم ضَرَبُوا الكتائبَ يومَ كِسْرَى ... أمامَ الناسِ إذْ كَرِهُوا الجِلادا )
( وهُمْ ضَرَبُوا القِبابَ ببَطْنِ فَلْجٍ ... وذادُوا عن محارمِنا ذِيادا )

وقال الأعشى في ذلك
( لو أنَّ كلَّ معدٍّ كان شارَكَنا ... في يوم ذي قارَ ما أخطاهُمُ الشَّرَفُ )
( لمَّا أتوْنا كأنّ الليلَ يقدُمُهم ... مُطَبّق الأرض تغشاها لهم سَدَفُ )
( بَطارِقٌ وبنو مُلْكٍ مرازِبَةٌ ... من الأعاجِمِ في آذانِها النُّطَفُ )
( من كلِّ مَرْجانةٍ في البَحْر أحْرَزَها ... تَيَّارها ووقاها طينَها الصَّدَفُ )
( وظُعْنُنا خَلْفَنا تَجْرِي مَدَامِعُهَا ... أكبادُها وَجَلاً ممَّا تَرى تَجِفُ )
( يَحْسِرْن عن أوجهٍ قد عاينَتْ عِبَراً ... ولاحها غُبْرَة ألوانُها كِسَفُ )
( ما في الخُدودِ صُدودٌ عن وُجُوهِهمُ ... ولا عن الطَّعنِ في اللبَّاتِ مُنحَرفُ )
( عَوْداً على بَدْئِهم ما إنْ يُلبِّثُهُمْ ... كرَّ الصُّقُورِ بناتِ الماءِ تَخْتَطِفُ )
( لمَّا أمالُوا إلى النُّشَّابِ أيديَهمْ ... مِلْنا بِبيضٍ فظَلَّ الهامُ يُقْتَطفُ )
( وخيلُ بكرٍ فما تَنْفَكُّ تطحنُهُمْ ... حتى تولَّوْا وكادَ اليومُ يَنْتَصِفُ )
وقال حريم بن الحارث التيمي
( وإنَّ لُجَيماً أهلُ عزٍّ وَثَرْوَةٍ ... وأهلُ أَيادٍ لا يُنالُ قَديمُها )
( هُم مَنَعُوا في يومِ قارٍ نِساءَنا ... كما منَعَ الشَّولَ الهِجانَ قُرومُها )
( إذا قِيلَ يوماً أقدِمُوا يتقَدَّمُوا ... وهل يمنعُ المخْزاةَ إلا صَمِيمُها )
قال ولم يزل قيس بن مسعود في سجن كسرى بساباط حتى مات فيه

صوت
( خليلَيّ ما صَبْرِي على الزَّفَراتِ ... وما طاقتِي بالهمِّ والعَبَرات )

( تَساقَطُ نفسي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... على إثْر ما قد فاتَها حَسَرات )
الشعر للقحيف العقيلي
والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر الهشامي أن الرمل لعلوية وأن لحن إبراهيم من الثقيل الأول بالوسطى

أخبار القحيف ونسبه
القحيف بن حمير أحد بني قشير بن مالك بن خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
شاعر مقل من شعراء الإسلام
أخباره مع خرقاء
وكان يشبب بخرقاء التي كان ذو الرمة يشبب بها
فأخبرني محمد بن خلف بن وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك عن العدوي عن أبي الحسن المدائني عن الصباح بن الحجاج عن أبيه قال
مررت بخرقاء وهي بفلج فقالت أقضيت حجك وأتممته فقلت

نعم فقالت لم تفعل شيئا فقلت ولم فقالت لأنك لم تلمم بي ولا سلمت علي أو ما سمعت قول ذي الرمة
( تمامُ الحجّ أن تَقِفَ المطَايَا ... على خَرقاءَ واضِعةِ اللَِّثام )
فقال هيهات يا خرقاء ذهب ذاك منك فقالت لا تقل ذاك أما سمعت قول القحيف عمك
( وخَرقاءُ لا تَزْدادُ إلاَّ مَلاَحةً ... ولو عُمّرتْ تَعْمِيرَ نُوحٍ وجَلَّتِ )
اخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الجمحيّ قال حدثني أبو الشبل المعدي قال
نسب ذو الرمة بخرقاء البكائية وكانت أصبح من القبس وبقيت بقاء طويلا فنسب بها القُحيفُ العقيلي فقال
( وخَرقاءُ لا تزدادُ إلاَّ ملاحةً ... ولو عمِّرتْ تعمير نُوحٍ وجَلَّتِ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان دماذ قال
كبرت خرقاء حتى جاوزت تسعين سنة وأحبت أن تنفق ابنتها وتخطب فأرسلت إلى القحيف العقيلي وسألته أن يشبب بها فقال
( لَقد أرسلَتْ خَرْقاءُ نحوِي جَرِيَّها ... لِتَجعَلَني خرقاءُ ممَّن أضَلَّتِ )
( وخرقاءُ لا تزدادُ إلاّ مَلاحةً ... ولو عُمِّرت تَعمِير نوحٍ وجَلَّتِ )
وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني

كان القحيف العقيلي يتحدث إلى امرأة من عبس وقد جاورهم وأقام عندهم شهرا وهام بها عشقا وكان يخبرها أن له نعما ومالا وهويته العبسية وكان من أجمل الرجال وأشطهم فلما طال عليها واستحيا من كذبه إياها في ماله ارتحل عنهم وقال
( تَقُولُ لي أُختُ عَبْسٍ : ما أَرَى إبلاً ... وأنت تزعُم مَن والاك صِنْدِيدُ )
( فقلتُ يكْفي مكانُ اللَّوْمِ مُطَّرِدٌ ... فيه القَتِير بسَمْرِ القَيْنِ مَشْدُودُ )
( وشِكَّةٌ صاغَها وَفْراءَ كَامِلةً ... وصارمٌ من سُيُوفِ الهِنْدِ مَقْدُودُ )
( إنِّي ليَرْعَى رجالٌ لي سَواَمَهُمُ ... ليَ العَقائِلُ منها والمَقاحِيدُ )
وقال أبو عمرو
كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولى علي بن المهاجر بن عبد الله الكلابي اليمامة
فلما قتل الوليد بن يزيد جاءه المهير بن سلمى الحنفي فقال له إن الوليد قد قتل وإن لك علي حقا وكان أبوك لي مكرما وقد قتل صاحبك فاختر خصلة من ثلاث إن شئت أن تقيم فينا وتكون كأحدنا فافعل وإن شئت أن تتحول عنا إلى دار عمك فتنزلها أنت ومن معك إلى أن يرد أمر الخليفة المولى فتعمل بما يأمر به فافعل
وإن شئت فخذ من المال

المجتمع ما شئت والحق بدار قومك
فأنف علي بن المهاجر من ذلك ولم يقبله وقال للمهير
أنت تعزلني يا بن اللخناء فخرج المهير مغضبا والتف معه أهل اليمامة وكان مع علي ستمائة رجل من أهل الشام ومثلهم من قومه وزواره فدعاهم المهير وذكر لهم رأيه فأبوا عليه وقاتلوه وجاء سهم عائر فوقع في كبد صانع من أهل اليمامة فقال المهير احملوا عليهم فحملوا عليهم فانهزموا وقتل منهم نفر ودخلوا القصر وأغلقوا الباب وكان من جذوع فدعا المهير بالسعف فأحرقه ودخل أصحابه فأخذوا ما في القصر وقام عبد الله بن النعمان القيسي في نفر من قومه فحموا بيت المال ومنعوا منه فلم يقدر عليه المهير وجمع المهير جيشا يريد أن يغزو بهم بني عقيل وبني كلاب وسائر بطون بني عامر فقال القحيف بن حمير لما بلغه ذلك

صوت
( أَمِن أهْلِ الأَرَاكِ عَفَتْ رُبُوعُ ... نَعَمْ سَقْياً لهم لو تَستطيعُ )
( زيارتَهمِ ولكنْ أحْضَرَتْنا ... هُمومٌ ما يزالُ لها مُشِيعُ )
غنى في هذين البيتين إبراهيم فيما ذكره هو في كتابه ولم يذكر طريقته
( كأنَّ البَيْنَ جَرَّعَني زُعافاً ... من الحيَّاتِ مَطعَمُهُ فَظِيعُ )

( وماءٍ قد ورَدتُ على جِباهَ ... حمامٌ حائمٌ وقطاً وُقوعُ )
ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
صوت
( جعلتُ عِمامتي صِلةً لدَلْوِي ... إليهِ حينَ لم تَرِد النُّسُوعُ )
( لأَسْقِيَ فِتْيَةً ومُنَقَّباتٍ ... أضرَّ بِنِقْيِها سَفَرٌ وَجِيعُ )
قال أبو الفرج غنى في هذين البيتين سليم خفيف رمل بالوسطى ذكر ذلك حبش
( لقد جَمَع المُهَيْرُ لَنا فقُلْنا : ... أتحسَبُنا تروِّعُنا الجُمُوعُ ؟ )
( سَتَرْهَبُنا حَنِيفةُ إن رأتْنا ... وفي أيمانِنا البِيضُ اللّمُوعُ )
( عُقَيْلٌ تَغْتَزِي وبَنُو قُشَيرٍ ... تَوارَى عن سواعِدِها الدُّرُوعُ )
( وجَعْدةُ والحَريشُ لُيوثُ غابٍ ... لهم في كلِّ مَعْركَةٍ صَرِيعُ )
( فنعمَ القَوْمُ في اللَّزَباتِ قومِي ... بنُو كَعْبٍ إذا جَحد الرَّبيعُ )
( كُهولٌ مَعْقِلُ الطُّرَداءِ فيهِمْ ... وفتيانٌ غَطارفةٌ فُروعُ )
( فمهلاً يا مُهَيرُ فأنت عَبْدٌ ... لِكَعبٍ سامِعٌ لهمُ مُطِيعُ )
قال وبعث المهير رجلا من بني حنيفة يقال له المندلف بن إدريس الحنفي إلى الفلج وهو منزل لبني جعدة وأمره أن يأخذ صدقات بني كعب جميعا فلما بلغهم خبره أرسلوا في أطرافهم يستصرخون عليه فأتاهم أبو لطيفة

ابن مسلمة العقيلي في عالم من عقيل فقتلوا المندلف وصلبوه فقال القحيف في ذلك
( أتانا بالعَقِيقِ صَرِيخُ كعْبٍ ... فحنَّ النَّبْعُ والأسَلُ النِّهالُ )
( وحالَفْنا السُّيوفَ ومُضمَراتٍ ... سواءٌ هُنَّ فينا والعِيالُ )
( تعادَى شُزَّباً مثلَ السَّعالِي ... ومِن زُبَرِ الحَديدِ لها نِعالُ )
وقال أيضا ويروى لنجدة الخفاجي
( لقد منع الفرائِضَ عن عُقَيْلٍ ... بِطَعْنٍ تحتَ ألْوِيةٍ وضَرْبِ )
( ترى مِنْهُ المُصَدِّق يومَ وافَى ... أطلَّ على مَعاشِرِه بصَلْب )
قال أبو عمرو في أخباره
ونظر بعض فقهاء أهل مكة إلى القحيف وهو يحد النظر إلى امرأة فنهاه عن ذلك وقال له أما تتقي الله تنظر هذا النظر إلى غير حرمة لك وأنت محرم فقال القحيف

( أقْسمتُ لا أنْسى وإن شَطّت النّوى ... عَرانِينَهُنَّ الشُّمَّ والأعينَ النُّجْلا )
( ولا المِسْكَ من أعطافهِنَّ ولا البُرَى ... ضَمَمْنَ وقد لوَّيْنَها قُضُباً خُدْلا )
( يقول لِيَ المُفْتِي وهُنَّ عَشِيَّةً ... بمكةَ يُلْمِحْن المهدَّبَة السُّحْلا )
( تَقِ اللَّهَ لا تَنظرْ إليهنَّ يا فتَى ... وما خِلتُني في الحجّ مُلْتَمِساً وَصْلا )
( وإنَّ صِبا ابنِ الأربعينَ لَسُبَّةٌ ... فكيف مع اللائي مثَلْنَ بنا مَثْلا )
( عَواكِفَ بالبيتِ الحرام ورُبَّما ... رأيتَ عيونَ القَوْم من نحوها نُجْلا )

صوت
( كَفَفْنا عن بَني ذُهْلٍ ... وقُلنا : القومُ إخوانُ )
( عَسَى الأيامُ أن يَرجِعْن ... قوماً كالَّذِي كانُوا )
( فلمَّا صَرَّحَ الشَرُّ ... وأَمسَى وهْو عُرْيانُ )
( ولم يبقَ سِوَى العُدْوانِ ... دِنَّاهُمْ كما دانُوا )
الشعر للفند الزماني والغناء لعبد الله بن دحمان خفيف رمل بالبنصر عن بذل والهشامي وابن المكي
وتمام هذا الشعر
( شدَدنا شدَّةَ اللَّيثِ ... غَدا واللَّيثُ غضْبانُ )
( بضَرْبٍ فيه تَفْجِيعٌ ... وتأْيِيمٌ وإرْنانُ )
( وطَعْنٍ كفَمِ الزِّقِّ ... غَذَا والزِّقُّ ملآنُ )
( وفي العُدْوانِ للعُدْوانِ ... تَوهينٌ وإقْرانُ )
( وبعضُ الحلمْ عِنْدَ الجهْلِ ... للذلّةِ إذْعانُ )

( وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ ... لا يُنْجِيك إحسانُ )
قوله دناهم كما دانوا أي جزيناهم
ومثله قول الآخر
( إنَّا كذاكَ نَدِينُ الناسَ بالدِّين ... )
والتأييم ترك النساء أيامى
والإرنان والرنة البكاء والعويل
والإقران الطاقة للشيء قال الله عز و جل ( وما كنا له مقرنين ) أي مطيقين

أخبار الفند الزماني ونسبه
الفند لقب غلب عليه شبه بالفند من الجبل وهو القطعة العظيمة لعظم خلقه
واسمه شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل
وكان أحد فرسان ربيعة المشهورين المعدودين وشهد حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة السنة فأبلى بلاء حسنا وكان مشهده في يوم التحالق الذي يقول فيه طرفة
( سائلوا عنَّا الذي يَعرِفُنا ... بقوانا يومَ تَحْلاقِ اللِّمَمْ )
( يومَ تُبدِي البِيضُ عن أَسؤُقِها ... وتَلُفُّ الخَيْلُ أعْراجَ النَّعَمْ )
وقد مضى خبره في مقتل كليب

فأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال
أرسلت بنو شيبان في محاربتهم بني تغلب إلى بني حنيفة يستنجدونهم فوجهوا إليهم بالفند الزماني في سبعين رجلا وأرسلوا إليهم إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل
وقال ابن الكلبي
لما كان يوم التحالق أقبل الفند الزماني إلى بني شيبان وهو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة ومعه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس فكشفت إحداهما عنها وتجردت وجعلت تصيح ببني شيبان ومن معهم من بني بكر
( وَعَا وَعَا وَعَا وَعَا ... )
( حَرَّ الجُوادُ والتَظى ... )
( ومُلِئَت منه الرّبى ... )
( يا حَبَّذا يا حبَّذا ... )
( المُلْحِقُون بالضُّحَى ... )
ثم تجردت الأخرى واقبلت تقول
( إن تُقْبِلُوا نُعانِقْ ... ونَفْرِشِ النَّمارِقْ )

( أو تُدْبِروا نُفارِقْ ... فِراقَ غيرِ وامِقْ )
قال والتقى الناس يومئذ فأصعد عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة ابنته على جمل له في ثنية قضة حتى إذا توسطها ضرب عرقوبي الجمل ثم نادى
( أنا البُرَكْ أنا البُرَكْ ... )
( أَنزِلُ حيثُ أُدْرَكْ ... )
ثم نادى ومحلوفة لا يمر بي رجل من بكر بن وائل إلا ضربته بسيفي هذا أفي كل يوم تفرون فيعطف القوم
فقاتلوا حتى ظفروا فانهزمت تغلب
قال ابن الكلبي
ولحق الفند الزماني رجلا من بني تغلب يقال له مالك بن عوف قد طعن صبيا من صبيان بكر بن وائل فهو في رأس قناته وهو يقول
يا ويس أم الفرخ فطعنه الفند وهو وراءه ردف له فأنفذهما جميعا وجعل يقول
( أيا طعنةَ ما شَيْخٍ ... كبيرٍ يَفَنٍ بالي )

( تفتَّيتُ بها إذ كرِه ... الشِّكَّةَ أَمثالِي )
( تُقِيمُ المأْتَم الأعلَى ... على جُهدٍ وإعْوالِ )
( كجيْبِ الدِّفْنسِ الوَرْهَاءِ ... رِيعَتْ بعدَ إجفالِ )
ويروى قد ريعت بإجفال

أخبار عبد الله بن دحمان
عبد الله بن دحمان الأشقر المغني
وقد تقدم خبر أبيه وأخيه الزبير
وكان عبد الله في جنبة إبراهيم بن المهدي ومتعصبا له وكان أخوه الزبير في جنبة إسحاق الموصلي ومتعصبا له فكان كل واحد منهما يرفع من صاحبه ويشيد بذكره فعلا الزبير بتقديم إسحاق له لتمكن إسحاق وقبول الناس منه ولم يرتفع عبد الله بذكر إبراهيم له مع غض إسحاق منه وكان الزبير على كل حال يتقدم أخاه عبد الله

فأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال كان أبي كثيرا ما يقول ما رأيت أقل عقلا ومعرفة ممن يقول إن دحمان كان فاضلا والله ما يساوي غناؤه كله فلسين وأشبه الناس به صوتا وصنعة وبلادة وبردا ابنه عبد الله ولكن المحسن والله المجمل المؤدي الضارب المطرب ابنه الزبير
وقال يوسف بن إبراهيم
كان أبو إسحاق يؤثر عبد الله بن دحمان ويقدمه وإذا صنع صوتا عرضه على أبي إسحاق فيقومه له ويصلحه مضادة لأخيه الزبير في أمره لميل الزبير إلى إسحاق وتعصبه له وأوصله إلى الرشيد مع المغنين عدة مرات أخرج له في جميعها جائزة

صوت
( أقُولُ لمَّا أتانِي ثَمَّ مَصْرعُهُ ... لاَ يبْعَدِ الرُّمْحُ ذو النّصليْنِ والرَّجُلُ )
( التاركُ القِرْنَ مُصفرًّا أَنامِلُه ... كأنّهُ من عُقارٍ قَهْوةٍ ثمِلُ )
( ليس بعَلٍّ كبيرٍ لا شَبابَ لَهُ ... لكنْ أُثيلةُ صَافي الوَجهِ مُقْتَبَلُ )
( يُجيب بعد الكرى لبَّيكَ داعِيَهُ ... مِجْذامةٌ لهواهُ قُلْقلٌ عجِلُ )
قوله لا يبعد الرمح يعني ابنه الذي رثاه شبهه بالرمح في نفاذه وحدته
والنصلان السنان والزج
والرجل يعني به ابنه أيضا من الرجلة يصفه بها أو أنه عنى لا يبعد الرجل ورمحه
والعل الكبير السن الصغير الجسم ويقال أيضا للقراد عل
والمقتبل المقبل
وقوله مجذامة لهواه يعني أنه يقطع هواه ولا يتبعه فيما يغض من قدره
وقلقل خفيف سريع والمتقلقل الخفيف
الشعر للمتنخل الهذلي
والغناء لمعبد وله فيه لحنان

أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو
وذكر الهشاميّ أن للغريض لحنا من الثقيل الأول ابتداؤه
( ليسَ بِعَلٍّ كبيرٍ لا شبابَ له ... )
والذي بعده
وأن لجميلة فيه خفيف ثقيل
وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج وأظنه ليحيى المكي
وقال حبش فيه لعبد الله بن العباس ثقيل أول بالبنصر

أخبار المتنخل ونسبه
المتنخل لقب واسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن سويد بن حبيش ابن خناعة بن الديل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
هذه رواية ابن الكلبي وأبي عمرو
وروى السكري عن الرياشي عن الأصمعي وعن ابن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي أن اسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن حبيش بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل ويكنى أبا أثيلة
من شعراء هذيل وفحولهم وفصحائهم
مقتل ابنه أثيلة ورثاؤه له
وهذه القصيدة يرثي بها ابنه أثيلة قتلته بنو سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر
وكان من خبر مقتله فيما ذكر أبو عمرو الشيباني

أنه خرج في نفر من قومه يريد الغارة على فهم فسلكوا النجدية حتى إذا بلغوا السراة أتاه رجل فقال أين تريدون قالوا نريد فهما فقال ألا أدلكم على خير من ذلكم وعلى قوم دارهم خير من دار فهم هذه دار بني حوف عندكم فانصبوا عليهم على الكداء حتى تبيتوا بني حوف
فقبلوا منه وانحرفوا عن طريقهم وسلكوا في شعب في ظهر الطريق حتى نفذوه ثم سلكوا على السمرة فمروا بدار بني قريم بالسرو وقد لصقت سيوفهم بأغمادهم من الدم فوجدوا إياس بن المقعد في الدار وكان سيدا فقال من أين أقبلتم فقالوا أتينا بني حوف فدعا لهم بطعام وشراب حتى إذا أكلوا وشربوا دلهم على الطريق وركب معهم حتى أخذوا سنن قصدهم فأتوا بني حوف وإذا هم قد اجتمعوا مع بطن من فهم للرحيل عن دارهم فلقيهم أول من الرجال على الخيل فعرفوهم فحملوا عليهم وأطردوهم ورموهم فأثبتوا أثيلة جريحا ومضوا لطيتهم
وعاد إليه أصحابه فأدركوه ولا تحامل به فأقاموا عليه حتى مات ودفنوه في موضعه
فلما رجعوا سألهم عنه المتنخل فدامجوه وستروه
ثم أخبره بعضهم بخبره فقال يرثيه
( ما بالُ عينك تبكي دَمْعُها خضِلُ ... كما وَهَى سَرِبُ الأخراب مُنبزلُ )

( لا تَفتأُ الدهرَ مِن سَحٍّ بأَربعةٍ ... كأنَّ إنسانَها بالصَّاب مُكتحِلُ )
( تبكي على رجُلٍ لم تَبلَ جِدَّتُه ... خلّى عليها فِجاجاً بينها خلَلُ )
( وقد عجبْت وهل بالدَّهرْ من عَجَبٍ ... أنَّى قُتِلتَ وأنتَ الحازِمُ البطَلُ )
( وَيل اٌمِّهِ رَجلاً تأبى به غَبَناً ... إذا تجرَّدَ لا خالٌ ولا بَخَلُ )
خال من الخيلاء
ويروى خذل
( السالكُ الثُّغْرةَ اليقظانَ كالئُهَا ... مشْيَ الهَلوك عليْهَا الخَيعلُ الفُضُلُ )
( والتاركُ القِرنَ مُصفرًّا أناملُه ... كأَنَّه من عُقارٍ قهوةٍ ثَمِل )
( مُجَدَّلاً يتسَقَّى جلدُهُ دَمَهُ ... كما يُقطَّرُ جِذْعُ الدَّوْمةِ القُطُل )
( ليس بعلٍّ كبيرٍ لا شَبابَ بهِ ... لكِن أُثيلةُ صافي الوجهِ مُقتَبَل )
( يُجيبُ بعد الكرَى لبَّيكَ داعِيَه ... مِجْذامةٌ لهواهُ قُلْقُلٌ عِجِل )
( حُلوٌ ومُرٌّ كعَطفِ القِدْح مِرَّتُه ... في كلِّ آنٍ أتاهُ الليلُ ينتعِل )
( فاذهبْ فأيُّ فتىً في النَّاس أحرزَهُ ... من حتْفهِ ظُلَمٌ دُعْجٌ ولا جَبلُ )

( فلو قُتِلْتَ ورِجلي غيرُ كارهةِ الإدْلاج ... فيها قَبِيضُ الشَّدِّ والنسَلُ )
( إذنْ لأعملتُ نفسي في غَزاتِهمُ ... أو لابتَعثْتُ بهِ نَوْحاً لهُ زَجَلُ )
( أقول لمَّا أتاني الناعِيان بهِ : ... لا يَبعَد الرمحُ ذو النّصْلين والرجُلُ )
( رمُحٌ لنا كان لم يُفْلَلْ ننُوءُ بهِ ... تُوفَى بهِ الحرْبُ والعزَّاءُ والجُلَلُ )
( ربَّاءُ شمَّاءُ لا يدنُو لِقُلَّتها ... إلا السَّحابُ وإلا النُّوبُ والسَّبَلُ )
وقال أبو عمرو الشيباني كان عمرو بن عثمان أبو المتنخل يكنى أبا مالك فهلك فرثاه المتنخل فقال
( ألاَ مَن يُنادي أبا مالكٍ ... أفِي أمْرنا أمرُهُ أَم سِواهْ )
( فواللَّهِ ما إنْ أبو مالكٍ ... بوانٍ ولا بضعيفٍ قُواهْ )
( ولا بأَلَدَّ له نازعٌ ... يُعادي أخاهُ إذا ما نهاهْ )
( ولكنّه هَيِّنٌ ليِّنٌ ... كعاليةِ الرُّمْح عَرْدٌ نَساهُ )
( إذا سُدتَه سُدتَ مِطواعةً ... ومهما وكَلْتَ إليهِ كفاهْ )
( أبُو مالكٍ قاصرٌ فقرَهُ ... على نفسهِ ومُشِيعٌ غِناهْ )

أبو جعفر محمد بن علي يتمثل بشعره
حدثني أبو عبيد الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال حدثنا أحمد بن راشد قال حدثني عمي سعيد بن خيثم قال كان أبو جعفر

محمد بن علي عليهما السلام إذا نظر إلى أخيه زيد تمثل
( لعمرُكَ ما إنْ أَبُو مالكٍ ... بواهٍ ولا بضعيفٍ قُواهْ )
( ولا بأَلَدَّ لَهُ نازعٌ ... يُعادِي أَخاهُ إذا ما نهاهْ )
( ولكنّه هيِّنٌ ليِّنٌ ... كعاليةِ الرُّمْحِ عَردٌ نَساه )
( إذا سُدتَه سُدتَ مِطْواعةً ... ومهما وكَلتَ إليهِ كفَاهْ )
( أَبُو مالكٍ قاصرٌ فقرَهُ ... على نفسهِ ومُشِيعٌ غِناهْ )
ثم يقول
لقد أنجبت أم ولدتك يا زيد اللهم اشدد أزري بزيد
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال
أجود طائية قالتها العرب قصيدة المتنخل
( عَرفتُ بأَجْدُثٍ فنِعافِ عِرْقٍ ... عَلاماتٍ كتَحْبيرِ النِّماطِ )
( كأنَّ مَزاحفَ الحيَّاتِ فيها ... قُبيلَ الصُّبحِ آثارُ السِّياطِ )
في هذين البيتين غناء

صوت
( عَجبتُ لِسعْي الدَّهر بيني وبينها ... فلمَّا انقضَى ما بيننا سكَن الدَّهْرُ )

( فيا هجْرَ ليلَى قد بلغْتَ بيَ المدَى ... وزدتَ على ما لم يكنْ بَلغَ الهَجْرُ )
( ويا حُبَّها زِدْني جَوًى كُلَّ ليْلةٍ ... ويا سَلْوَةَ الأيام موعدُكِ الحَشرُ )
( أمَا والذي أبكى وأضحَكَ والَّذي ... أماتَ وأحيَا والذي أمرُهُ الأمْرُ )
( لَقد تركْتِني أحسُدُ الوحشَ أن أرَى ... ألِيفيْن منها لا يَرُوعُهُما الزجْرُ )
الشعر لأبي صخر الهذلي
والغناء لمعبد في الأول والثاني من الأبيات ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو ولابن سريج في الرابع والخامس ثقيل أول ولعريب فيهما أيضا ثقيل أول آخر وهو الذي فيه استهلال وللواثق فيهما رمل ولابن سريج أيضا ثاني ثقيل في الثالث وما بعده عن أحمد بن المكي وذكر ابن المكي أن الثقيل الثاني بالوسطى لجده يحيى المكي

أخبار أبي صخر الهذلي ونسبه
هو عبد الله بن سلم السهمي أحد بني مرمض
وهذا أكثر ما وجدته من نسبه في نسخة السكري وهي أتم النسخ مما يأثره عن الرياشي عن الأصمعي وعن الأثرم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن ابن الأعرابي
موالاته لبني مروان
هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وكان مواليا لبني مروان
متعصبا لهم وله في عبد الملك بن مروان مدائح وفي أخيه عبد العزيز وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد
وحبسه ابن الزبير إلى أن قتل
فأخبرني يحيى بن أحمد بن الجون مولى بني أمية لقيته بالرقة قال حدثني الفيض بن عبد الملك قال حدثني مولاي عن أبيه عن مسلمة بن الوليد القرشي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال
لما ظهر عبد الله بن الزبير بالحجاز وغلب عليها بعد موت يزيد بن معاوية وتشاغل بنو أمية بالحرب بينهم في مرج راهط وغيره دخل عليه أبو

صخر الهذلي في هذيل وقد جاؤوا ليقبضوا عطاءهم وكان عارفا بهواه في بني أمية فمنعه عطاءه فقال علام تمنعني حقا لي وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولا أخرجت من طاعة يدا قال عليك بني أمية فاطلب عندهم عطاءك
قال إذن أجدهم سباطا أكفهم سمحة أنفسهم بذلاء لأموالهم وهابين لمجتديهم كريمة أعراقهم شريفة أصولهم زاكية فروعهم قريبا من رسول الله نسبهم وسببهم ليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائظ ولا أتباع ولا هم في قريش كفقعة القاع لهم السؤدد في الجاهلية والملك في الإسلام لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها ولا حكم آباؤه في نقيرها ولا قطميرها ليس من أحلافها المطيبين ولا من ساداتها المطعمين ولا من جودائها الوهابين ولا من هاشمها المنتخبين ولا عبد شمسها المسودين

وكيف تقابل الرؤوس بالأذناب وأين النصل من الجفن والسنان من الزج والذنابى من القدامى وكيف يفضل الشحيح على الجواد والسوقة على الملك والمجيع بخلا على المطعم فضلا فغضب ابن الزبير حتى ارتعدت فرائصه وعرق جبينه واهتز من قرنه إلى قدمه وامتقع لونه ثم قال له يابن البوالة على عقبيها يا جلف يا جاهل أما والله لولا الحرمات الثلاث حرمة الإسلام وحرمة الحرم وحرمة الشهر الحرام لأخذت الذي فيه عيناك
ثم أمر به إلى سجن عارم فحبس به مدة ثم استوهبته هذيل ومن له بين قريش خؤولة في هذيل فأطلقه بعد سنة وأقسم ألا يعطيه عطاء مع المسلمين أبدا

خبره مع عبد الملك
فلما كان عام الجماعة وولي عبد الملك وحج لقيه أبو صخر فلما رآه عبد الملك قربه وأدناه وقال له إنه لم يخف علي خبرك مع الملحد ولا ضاع لك عندي هواك وموالاتك فقال أما إذا شفى الله منه نفسي ورأيته قتيل سيفك وصريع أوليائك مصلوبا مهتوك الستر مفرق الجمع فما أبالي ما فاتني من الدنيا
ثم استأذنه أبو صخر في الإنشاد فأذن له فمثل بين يديه قائما وأنشأ يقول
( عفَت ذاتُ عِرْقٍ عُصلُها فِرئامُها ... فدهناؤها وَحْشٌ وأجلي سَوامُها )

( على أنَّ مَرسى خَيمةٍ خَفَّ أهلُها ... بأبْطحَ مِحلالٍ وَهَيهاتَ عامها )
( إذا اعتلَجَتْ فيها الرِّياحُ فأدْرجتْ ... عَشِيَّا جرَى في جانبيها قُمامُها )
( وَإنَّ مَعاجي في الدِّيار وَموقِفي ... بدراسة الرَّبعين بالٍ ثُمامُها )
( لجهلٌ وَلكنِّي أَسلِّي ضَمانةً ... يُضعِّفُ أسرارَ الفؤاد سَقامُها )
( فأقصِرْ فلا ما قد مَضى لكَ راجعٌ ... وَلا لذَّةُ الدُّنيا يَدُومُ دَوامُها )
( وَفدِّ أميرَ المؤمنين الذي رَمى ... بجأواء جُمهورٍ تَسيلُ إكامُها )
( من أرض قُرى الزيتون مكّة بعدما ... غُلِبْنا عليها واستُحِلَّ حرَامُها )
يقول رمى مكة بالرجال من أهل الشام وهي أرض الزيتون
( وإذ عاثَ فيها النَّاكِثون وأفسَدُوا ... فخِيَفَتْ أقاصِيها وطار حَمامُها )
( فشَجَّ بهم عَرضَ الفَلاةِ تعَسُّفاً ... إذا الأرضُ أخْفى مُسْتَواها سَوامُها )
( فَصبّحهم بالخيل تزْحَفُ بالقَنا ... وبَيْضاءَ مثلِ الشَّمْس يبْرُق لامُها )
( لهمْ عَسكَرٌ ضافي الصُّفوفِ عَرمْرمٌ ... وجُمهورَةٌ يَثني العدوَّ انتقامُها )
( فطهَّر منهمْ بطنَ مكةَ ماجِدٌ ... أبى الضَّيْمَ والميلاءَ حينَ يُسامُها )
( فدَعْ ذا وبشِّر شاعِرَيْ أُمِّ مالكٍ ... بأبياتِ ما خِزْيٍ طوِيلٍ عُرامُها )

شاعري أم مالك رجلان من كنانة كانا مع ابن الزبير يمدحانه ويحرضانه على أبي صخر لعداوة كانت بينهما وبينه
( فإنْ تَبدُ تُجدَعْ مَنْخِراكَ بمُدْيةٍ ... مُشَرشرةٍ حَرًّى حديدٍ حُسامُها )
( وإن تخْفَ عنَّا أو تخَفْ منْ أذاتِنا ... تَنُوشُك نابا حَيَّةٍ وسِمامُها )
( فلولا قريشٌ لاسْتُرِقَّت عَجُوزُكم ... وطالَ على قُطْبَي رَحاها احتِزامها )
قال فأمر له عبد الملك بما فاته من العطاء ومثله صلة من ماله وكساه وحمله

عبد العزيز بن أسيد يطلب من الهذلي أن يرثيه وهو حي
ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة قالا
كان أبو صخر الهذلي منقطعا إلى أبي خالد عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد مداحا له فقال له يوما ارثني يا أبا صخر وأنا حي حتى أسمع كيف تقول وأين مراثيك لي بعدي من مديحك إياي في حياتي
فقال أعيذك بالله أيها الأمير من ذلك بل يبقيك الله ويقدمني قبلك

فقال ما من ذلك بد
قال فرثاه بقصيدته التي يقول فيها
( أبا خالدٍ نفسي وقتْ نَفْسَك الرَّدَى ... وكانَ بها من قبلِ عَثرتك العَثرُ )
( لِتبكِك يا عبدَ العزيز قلائصٌ ... أضرَّ بها نصُّ الهواجر والزَّجرُ )
( سَمونَ بنا يَجْتَبْن كلَّ تَنُوفةٍ ... تضِلُّ بها عنْ بَيْضهِنَّ القطا الكُدر )
( فما قدِمَتْ حتى تواترَ سَيرُها ... وحتى أُنِيخَتْ وهي ظالعةٌ دُبرُ )
( ففَرَّجَ عنْ رُكْبانِها الهَمّ والطّوى ... كريمُ المحيَّا ماجدٌ واجدٌ صَقْرُ )
( أخو شَتواتٍ تَقْتُل الجوعَ دارُهُ ... لمنْ جاءَ ولا ضَيقُ الفِناءِ ولا وعرُ )
( ولا تهنِئ الفِتْيانَ بعدَك لذَّةٌ ... ولا بلّ هَامَ الشامتين بكَ القطْر )
( وإن تُمسِ رمساً بالرُّصَافةِ ثاوياً ... فما مات يا بنَ العِيصِ نائلُك الغَمر )
( وذي ورِقٍ من فضلِ مالِكَ مالُه ... وذي حاجةٍ قد رِشْتَ ليس له وفرُ )
( فأمْسى مُرِيحاً بعدَ ما قد يُؤُوبه ... وكَلَّ به الموْلَى وضاقَ به الأمر )
قال فأضعف له عبد العزيز جائزته ووصله وأمر أولاده فرووا القصيدة
وقال أبو عمرو الشيباني
كان لأبي صخر ابن يقال له داود لم يكن له ولد غيره فمات فجزع عليه جزعا شديدا حتى خولط فقال يرثيه

( لقد هاجني طيفٌ لداوُد بعدَما ... دَنتْ فاستقلَّتْ تالياتُ الكواكب )
( وما في ذهولِ النفس عن غيرِ سَلوةٍ ... رَواحٌ من السُّقم الذي هو غالبي )
( وعندك لو يحيا صداكَ فنَلتَقي ... شِفاءٌ لمنْ غادرتَ يومَ التّناضِب )
( فهلْ لكَ طِبٌّ نافعي من عَلاقةٍ ... تُهيِّمُني بين الحشا والتّرائِب )
( تشكّيتها إذْ صدَّع الدَّهرُ شَعْبنا ... فأَمستْ وأعيت بالرُّقى والطّبائب )
( ولولا يقيني أَنَّما الموتُ عزمةٌ ... منْ الله حتى يُبعثُوا للمَحَاسِب )
( لقلتُ له فيما أُلِمُّ برمْسِه : ... هلَ أنتَ غداً غادٍ مَعِي فَمُصاحبي )
( وماذا ترى في غائبٍ لا يُغِبُّني ... فلستُ بناسيه وليس بآئب )
( سألتُ مليكي إذ بلاني بفقدِه ... وفاةً بأيدِي الرُّوم بين المقانبِ )
( ثَنوْنِي وقد قدَّمْتُ ثأرِي بطعْنةٍ ... تجيشُ بمَوَّارٍ من الجوفِ ثاعِبِ )
( فقد خِفْتُ أن ألقي المَنايا وإنني ... لَتَابِعُ مَنْ وافى حِمامَ الجوالبِ )
( ولمَّا أُطاعِنْ في العدُوِّ تنفُّلاً ... إلى اللَّهِ أَبغي فضْلَهُ وأُضارِبِ )
( وأعطِفْ وراء المُسْلِمينَ بِطَعْنةٍ ... على دُبُرٍ مُجْلٍ من العيشِ ذاهِبِ )
وقال أبو عمرو
بلغ أبا صخر أن رجلا من قومه عابه وقدح فيه فقال أبو صخر في ذلك

( ولقد أتاني ناصحٌ عَنْ كاشحٍ ... بعَدواةٍ ظهرتْ وقُبْحِ أقاوِلِ )
( أفَحِينَ أحكمني المشيبُ فلا فتىً ... غُمْرٌ ولا قَحْمٌ وأَعصلَ بَازلي )
( ولبِسْتُ أطوارَ المعيشةِ كُلَّها ... بمُؤبَّداتٍ للرِّجالِ دَوَاغِلِ )
( أصْبَحْتَ تنقُصُني وتَقْرَعُ مَرْوَتي ... بَطِراً ولم يرْعَبْ شِعابَك وابِلي )
( وتنْلكَ أظفارِي ويبرِكَ مِسْحَلي ... بَرْيَ الشَّسِيبِ من السَّراءِ الذَّابِلِ )
( فتكونَ للباقين بعدكَ عِبرةً ... وأطَأْ جَبِينَك وَطأَةَ المُتثاقلِ )

الهذلي وأم حكيم
وقال أبو عمرو
وكان أبو صخر الهذلي يهوى امرأة من قضاعة مجاورة فيهم يقال لها ليلى بنت سعد وتكنى أم حكيم وكانا يتواصلان برهة من دهرهما ثم تزوجت ورحل بها زوجها إلى قومه فقال في ذلك أبو صخر
( ألمَّ خَيالٌ طارقٌ متأَوِّبُ ... لأمِّ حكيمٍ بعدَما نِمتُ مُوصِبُ )
( وقد دَنَت الجوْزاءُ وَهْيَ كأنَّها ... ومِرْزَمَها بالغَوْرِ ثَوْرٌ وَربْربُ )
( فباتَ شَرابي في المنامِ مع المُنَى ... غَريضُ اللَّمَى يَشْفِي جَوَى الحُزْنِ أشنَبُ )
( قُضاعِيَّةٌ أدنى دِيارٍ تحُلُّها ... قَناةُ وأنَّى من قناةَ المُحَصَّبُ )

( سراجُ الدُّجَى تَغْتَلُّ بالمسك طَفْلةٌ ... فلا هي مِتْفالٌ ولا اللَّونُ أكْهبُ )
( دَمِيثةُ ما تحت الثِّيابِ عَمِيمةٌ ... هَضيمُ الحشا بِكْرُ المجسّةِ ثَيِّبُ )
( تعلَّقْتُها خَوْداً لذيذاً حديثُها ... لياليَ لا تُحْمَى ولا هِيَ تُحْجَبُ )
( فكانَ لها وُدِّي ومحْضُ عَلاقتِي ... وَليداً إلى أنْ رأْسيَ اليومَ أشْيبُ )
( فلم أرَ مِثلي أيأَسَتْ بعد عِلْمِها ... بوُدِّي ولا مِثلي على اليأسِ يُطْلبُ )
( ولو تلتقِي أصداؤُنا بعدَ موْتِنا ... ومِن دُونِ رَمْسينا من الأرضِ سَبْسبُ )
( لظلَّ صَدَى رمسي ولو كنتُ رِمَّةً ... لِصوتِ صَدَى ليلى يَهَشُّ ويطرَبُ )
وقصيدة أبي صخر التي فيها الغناء المذكور من مختار شعر هذيل وأولها
( لِلَيلَى بذاتِ الجيش دارٌ عرفتُها ... وأُخرَى بذات البَين آياتُها سطْرُ )
( وقفتُ برسميْها فلمَّا تنكّرَا ... صدفْتُ وعيني دمعُها سرِبٌ هَمْرُ )

( وفي الدَّمْعِ إن كَذَّبتُ بالحبِّ شاهدٌ ... يُبَيِّنُ ما أُخْفِي كما بَيِّن البَدْرُ )
( صبرتُ فلمَّا غال نفْسي وشفَّها ... عجاريفُ نأيٍ دُونَها غُلِبَ الصّبْرُ )
( إذا لم يكُنْ بين الخليلينِ رِدَّةٌ ... سِوى ذِكْرِ شيءٍ قد مضى درسَ الذِّكْرُ )
وهذا البيت خاصة رواه الزبير بن بكار لنصيب
( إذا قلتُ هذا حينَ أسلو يَهيجُني ... نسيمُ الصَّبا من حيثُ يَطّلِعُ الفجرُ )
( وإنِّي لتَعْروني لِذكراكِ فَتْرةٌ ... كما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلَّلُه القَطْرُ )
( هجرتُكِ حتَّى قِيل لا يعرِفُ الهوَى ... وزُرْتُكِ حتى قيل ليسَ لهُ صبر )
( صَدقْتِ أنا الصَّبُّ المصابُ الذي به ... تباريحُ حُبٍّ خامرَ القلبَ أو سِحْرُ )
( أمَا والَّذي أبكى وأضْحكَ والَّذي ... أماتَ وأَحيَا والذي أمرُه الأمْر )
( لَقد تركْتِني أحسُدُ الوحشَ أن أرى ... أليفَينِ منها لم يُروِّعْهُمَا الزَّجْرُ )
( فيا هجْرَ لَيلى قد بلغْتَ بِيَ المدَى ... وزدتَ على ما لم يكنُ بلغ الهجْرُ )
( ويَا حُبَّها زِدْني جَوًى كلَّ ليلةٍ ... ويا سلوةَ الأيَّامِ موعِدُكِ الحشْرُ )
( عجِبتُ لسَعيِ الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقَضى ما بيْننا سَكَن الدَّهرُ )

( فليستْ عَشِيَّاتُ الحِمى برَواجعٍ ... لنا أبداً ما أوْرَق السَّلَمُ النّضرُ )

صوت
( وإنِّي لآتيها لكيما تُثيبَنِي ... وأوذنُها بالصُّرْم ما وَضح الفَجْرُ )
( فما هُو إلاَّ أن أرَاها فُجَاءةً ... فأُبْهتَ لا عُرْفٌ لديَّ ولا نُكر )
( تكادَ يَدي تنْدَى إذا ما لَمَسْتُها ... ويَنبتُ في أطرافها الوَرقُ الخُضْر )
في هذه الأبيات ثقيل أول قديم مجهول وفي البيت الأخير لعريب خفيف ثقيل وقد أضافت إليه بيتا ليس من الشعر وهو
( أبَى القَلبُ إلاَّ حُبَّها عامرِيّةً ... لها كنيةٌ " عمرٌو " وَليس لها " عمرُو " )
الهادي يطرب لشعره ويشق قميصه
أخبرني محمد بن مزيد قال
حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي عن جدي قال
دخلت يوما على موسى الهادي وهو مصطبح فقال لي يا إبراهيم غنني فإن أطربتني فلك حكمك فغنيته

( وَإنِّي لتَعْروني لذكراكِ فترةٌ ... كما انْتَفضَ العُصْفُورُ بلَّلَهُ القَطْرُ )
فضرب بيده إلى جْنب دُرَّاعتِه فَشَقّها حتى انتهى به إلى صدره
ثم غنيته
( أمَا والذي أَبكى وأضحَكَ والذي ... أمَاتَ وأحْيا والَّذي أمرُه الأمرُ )
( لقد تَركْتِني أحسُدُ الوحْشَ أنْ أَرى ... أليفيْنِ منها لا يَرُوعُهُما الزَّجرُ )
فشق دراعته حتى انتهى إلى آخرها
ثم غنيته
( فيا حُبَّها زِدني جَوىً كلَّ ليْلةٍ ... ويا سَلوةَ الأيَّام موعدُكِ الحَشْر )
فشق جبة كانت تحت الدراعة حتى هتكها
ثم غنيته
( عَجِبْتُ لِسَعْي الدَّهرِ بَيْني وبينها ... فلمَّا انقضَى ما بيننا سَكنَ الدَّهْرُ )
فشق قميصا كان تحت ثيابه حتى بدا جسمه
ثم قال أحسنت والله فاحتكم
فقلت تهب لي يا أمير المؤمنين عين مروان بالمدينة فغضب حتى دارت عيناه في رأسه ثم قال لا ولا كرامة أردت أن تجعلني أحدوثة للناس وتقول أطربته فحكمني فحكمت فأمضى حكمي
ثم قال لإبراهيم الحراني خذ بيد هذا الجاهل وأدخله بيت مال الخاصة فإن أخذ كل شيء فيه فلا تمنعه منه فدخلت معه فأخذت مالا جليلا وانصرفت

ومما يغنّى فيه من شعر أبي صخر الهذلي قوله من قصيدة له

صوت
( بيدِ الذي شَعفَ الفؤادَ بكُم ... فرَجُ الذي ألْقى من الهمِّ )
( هَمٌّ مِنَ اٌجلكِ ليْس يكْشِفهُ ... إلا مَليكٌ جائزُ الحُكمِ )
( فاستَيقِني أنْ قد كَلِفْتُ بكم ... ثمَّ افعَلِي ما شِئتِ عنْ عِلْم )
( قدْ كان صُرْمٌ في المَماتِ لَنا ... فعجِلتِ قبل الموْتِ بالصُّرْم )
الشعر لأبي صخر الهذلي والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لسياط ثقيل أول آخر بالبنصر ابتداؤه نشيد
( فاستَيقني أَنْ قد كلِفْتُ بكُم ... )
وهكذا ذكر الهشامي أيضا وذكر أن لحن الغريض ثاني ثقيل وأن فيه لابن جامع خفيف رمل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن الحرون قال حدثني الكسروي قال

لقي إبراهيم النظام غلاما أمرد فاستحسنه فقال له يا بني لولا أنه قد سبق من قول الحكماء ما جعلوا به السبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل كما لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول لما أنست إلى مخاطبتك ولا هششت لمحادثتك ولكنه سبب الإخاء وعقد المودة ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان
فقال له الغلام وهو لا يعرفه لئن قلت ذاك أيها الرجل لقد قال الأستاذ إبراهيم النظام الطبائع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة وتميل إلى ما يوافقها بالمؤانسة وكياني مائل إلى كيانك بكليتي ولو كان ما أنطوي لك عليه عرضا ما اعتددت به ودا ولكنه جوهر جسمي فبقاؤه ببقاء النفس وعدمه بعدمها وأقول كما قال الهذلي
( فاسْتَيقِني أن قد كَلِفْتُ بِكم ... ثم افعلي ما شِئْتِ عن عِلمِ )
فقال له النظام إنما خاطبتك بما سمعت وأنت عندي غلام مستحسن ولو علمت أنك بهذه المنزلة لرفعتك إلى رتبتها
قال أبو الحسن الأخفش فأخذ أبو دلف هذا المعنى فقال
( أُحِبّك يا جِنانُ وأنتِ منّي ... محلُّ الرُّوحِ من جسدِ الجبانِ )
( ولو أَنِّي أَقولُ مكانَ نفسي ... لخفتُ عليكِ بادرةَ الزمانِ )
( لإِقدامي إذا ما الخيلُ خامتْ ... وهابَ كُماتُها حَرَّ الطِّعانِ )
وتمام أبيات أبي صخر الميمية التي ذكرت فيها الغناء الأخير وخبره أنشدنيها

الأخفش عن السكري عن أصحابه
( ولَما بَقيتِ ليَبْقَيَنَّ جَوًى ... بينَ الجوانحِ مُضرِعٌ جِسْمِي )
( ويُقِرُّ عيني وهْي نازحةٌ ... ما لا يُقِرُّ بعينِ ذي الحلمِ )
( أَطْلالُ نُعْمٍ إذْ كَلِفْتُ بها ... يأدِينَ هذا القَلْبَ من نُعْمِ )
( ولو أنَّني أُسْقَى على سَقَمِي ... بِلَمَى عَوارِضِها شَفى سُقْمِي )
( ولقد عَجِبْتُ لِنَبْلِ مُقتدرٍ ... يَسِطُ الفؤادَ بها ولا يُدْمي )
( يَرْمي فيجْرَحُني برمْيتهِ ... فلوَ اٌنَّني أَرْمي كما يرمِي )
( أو كان قلبٌ إذ عَزمتُ لهُ ... صُرْمي وهَجرِي كان ذا عَزْمِ )
( أو كان لي غُنْمٌ بِذكرِكُمُ ... أَمسيتُ قد أثريتُ من غُنْمِ )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبد الله الأنصاري عن غرير بن طلحة الأرقمي قال قال لي أبو السائب المخزومي وكان من أهل الفضل والنسك هل لك في أحسن الناس غناء قلت نعم
وكان علي يومئذ طيلسان لي أسميه من غلظه وثقله مقطع الأزرار فخرجنا حتى جئنا إلى الجبانة إلى دار مسلم بن يحيى الأرت صاحب الخمر مولى بني زهرة فأذن لنا فدخلنا بيتا طوله اثنتا عشرة ذراعا في مثلها وسمكة في السماء ست عشرة ذراعا ما فيه إلا نمرقتان قد ذهبت منهما اللحمة وبقي السدى وفراش محشو ليفا وكرسيان من خشب قد تقلع عنهما الصبغ من

قدمهما وبينهما مرفقتان محشوتان بالليف
ثم طلعت علينا عجوز كلفاء عجفاء كأن شعرها شعر ميت عليها قرقل هروي أصفر غسيل كأن وركيها في خيط من رسحها حتى جلست فقلت لأبي السائب بأبي أنت وأمي ما هذه قال اسكت فتناولت عودا فضربت وغنت
( بَيدِ الذي شغَفَ الفُؤادَ بكمْ ... فَرَجُ الذي ألْقَى من الهمِّ )
قال غرير فحسنت والله في عيني وجاء نقاء وصفاء فأذهب الكلف من وجهها وزحف أبو السائب وزحفت معه
ثم غنت
صوت
( بَرِح الخَفاءُ فأيَّ ما بك تَكتُم ... وَلسوْف يظْهرُ ما يُسَرُّ فيُعلَم )
( ممَّا تضمّنَ من غُريرةَ قلبُهُ ... يا قلبُ إنَّكَ بالحِسَانِ لمُغْرَمُ )
( يَا ليتَ أَنَّك يا حُسامُ بأرْضنا ... تُلْقي المراسيَ دائماً وتُخيِّمُ )
( فتذوقَ لذّةَ عيشِنا ونعيمَهُ ... ونكون أَجوَاراً فماذا تنقِمُ )
الغناء لحكم خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي
فقال أبو السائب إن نقم هذا فيعض بظر أمه وزحف وزحفت معه حتى قاربت النمرقة وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق شيب بماء قربة

ثم غنت

صوت
( يا طُولَ ليْلي أعالجُ السَّقَما ... إذ حلّ دُون الأحبَّةِ الحَرما )
( ما كنتُ أخشى فِراقَ بينِكمُ ... فاليومَ أضحى فراقُكم عَزَما )
الغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى في مجراها وله أيضا فيه خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر جميعا عن إسحاق
قال غرير فألقيت طيلساني وتناولت شاذكونة فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح بالمدينة الدخن بالنوى وقام أبو السائب وتناول ربعة فيها قوارير دهن كانت في البيت فوضعها على رأسه وصاح ابن الأرت صاحب الجارية وكان ألثغ قواليلي قواليلي يريد قواريري قواريري أسألك بالله فلم يلتفت أبو السائب إلى قوله وحرك رأسه مرحا فاضطربت القوارير وتكسرت وسال الدهن على وجه أبي السائب وظهره وصدره ثم وضع الربعة وقال لها لقد هجت لي داء قديما
قال ومكثنا نختلف إليها سنين في كل جمعة يومين وقال
ثم بعث عبد الرحمن بن معاوية بن هشام من الأندلس فاشتريت له العجفاء وحملت إليه
صوت
( ألاَ هل إلى ريح الخُزامىَ ونظرةٍ ... إلى قَرقَرى قبلَ الممات سبيلُ )

( فيا أثلاثِ القاعِ من بطْن تُوضِحٍ ... حَنيني إلى أطلالكُنّ طويل )
( ويا أثْلاتِ القاع قلبي مُوكَّلٌ ... بكنَِّ وَجدْوَى خيركنّ قليل )
( ويا أثلاتِ القاع قد مَلَّ صُحبتي ... وقوفِيِ فهلْ في ظلِّكُنَّ مَقِيلُ ؟ )
الشعر ليحيى بن طالب الحنفي والغناء لعلوية خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
وفيه لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى وفيه لعريب رمل ولمتيم خفيف رمل آخر عن الهشامي
وفيه لابن المكي خفيف ثقيل من كتابه وذكر ابن المعتز أن لحن عريب ومتيم جميعا من الرمل

أخبار يحيى بن طالب
يحيى بن طالب شاعر من أهل اليمامة ثم من بني حنيفة
لم يقع إلي نسبه
وهو من شعراء الدولة العباسية مقل وكان فصيحا شاعرا غزلا فارسا
وركبه دين في بلده فهرب إلى الري وخرج مع بعث إليها فمات بها وقد ذكر ذلك في هذه القصيدة فقال
( أُرِيدُ رُجوعاً نحوَكُمْ فيَصُدُّني ... إذا رمْتُهُ دَيْنٌ عليَّ )
الرشيد يأمر بقضاء دينه الذي هرب بسببه
حدثني محمد بن مزيد قال
حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال غنى أبي الرشيد في شعر يحيى بن طالب
( ألاَ هل إلى شَمِّ الخُزامَى ونَظْرةٍ ... إلى قَرقرَى قبل المماتِ سَبِيلُ )

فأطربه فسأله عن قائل الشعر فذكره له وأعلمه أنه حي وأنه هرب من دين عليه وأنشده قوله
( أُرِيدُ رجوعاً نحوَكُمْ فَيَصُدُّنِي ... إذا رُمْتُه دَيْنٌ عليَّ )
فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامل الري بقضاء دينه وإعطائه نفقة وإنفاذه إليه على البريد فوصل الكتاب يوم مات يحيى بن طالب

جارية تعرف به
أخبرنا محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا عبد الله بن شبيب قال
حدثني الجهم بن المغيرة قال كنا عند حترش بن ثمال القريظي بضرية فمرت بنا جارية صفراء مولدة فقال لي حترش استفتح كلامها فانظر فإنها ظريفة فقلت لها يا جارية أين نشأت قالت بقرقرى فقلت لها أين من شعبعب فضحكت ثم قالت بين الحوض والعطن قلت فمن الذي يقول
( يا صاحِبَيَّ فَدَتْ نفسي نُفُوسَكما ... عُوجا عليَّ صُدورَ الأَبْغُلِ السُّنُنِ )
( ثم ارفعا الطَّرفَ نَنْظُرْ صُبْحَ خامسةٍ ... لقَرقَرى يا عناءَ النفسِ بالوَطَنِ )
( يا ليت شعريَ والإِنسانُ ذو أَمَلٍ ... والعَيْنُ تَذْرِفُ أحياناً من الحَزَنِ )
( هل أجعَلَنَّ يَدِي للخَدِّ مِرْفَقَةً ... على شَعَبْعَبَ بينَ الحَوْضِ والعَطَنِ ؟ )
فالتفتت إلى حترش بن ثمال فقالت أخبره بقائلها فقال ما أعرفه فقالت بلى هذا يقوله شاعرنا وظريف بلادنا وغزلها
فقال لها حترش

ويحك ومن ذلك فقالت أشهد إن كنت لا تعرفه وأنت من هذا البلد إنها لسوأة ذلك يحيى بن طالب الحنفي أقسم بالله ما منعك من معرفته إلا غلظ الطبع وجفاء الخلق
فجعل يضحك من قولها وتعجبنا منها

يرفض ركوب البحر للتجارة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
قال رجل ليحيى بن طالب الحنفي لو ركبت معي في البحر وشغلت مالك في تجاراته لأثريت وحسنت حالك فقال يحيى بن طالب
( لشُرْبُكَ بالأَنقاءِ رنْقاً وصافِياً ... أَعَفُّ وأعْفَى من ركوبِكَ في البحْر )
( إذا أنت لم تنظُرْ لنفسِكَ خالِياً ... أحاطَت بك الأحزانُ من حيثُ لا تدرِي )
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو علي الحنفي قال حدثني عمي عن علي بن عمر قال
غني الرشيد يوما بشعر يحيى بن طالب
( ألا هَل إلى شَمِّ الخُزامَى ونَظْرةٍ ... إلى قَرقَرى قبلَ المماتِ سَبِيلُ )
وذكر الخبر كما ذكره حماد بن إسحاق إلا أنه قال فوجده قد مات قبل وصول البريد بشهر
خرج إلى مكة فتشوق إلى صاحبته في اليمامة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال

كان يحيى بن طالب يجالس امرأة من قومه ويألفها ثم خرج مع والي اليمامة إلى مكة وابتاع منه الوالي إبلا بتأخير فلما صار إلى مكة عزل الوالي فلوى يحيى بماله مدة فضاق صدره وتشوق إلى اليمامة وصاحبته التي كان يتحدث إليها فقال
( تصبَّرتُ عنها كارهاً وهجرتُها ... وهِجْرانُها عندِي أمَرُّ من الصَّبْرِ )

صوت
( إذا ارتَحَلَتْ نحو اليمامة رُفْقةٌ ... دعاني الهوَى واهتاجَ قلبيَ للذِّكْرِ )
( كأنَّ فؤادي كلَّما عَنَّ ذِكْرُها ... جَناحَا غُرابٍ رامَ نهضاً إلى وَكْرِ )
الغناء للزف ثقيل أول عن الهشامي في هذين البيتين
وقال فيها
( مُدايَنةُ السُّلطانِ بابُ مَذَلَّةٍ ... وأشبهُ شَيءٍ بالقَناعةِ والفَقْر )
( إذا أنتَ لم تنظُرْ لنفسِكَ خالِياً ... أحاطتْ بكَ الأحزانُ من حيث لا تَدْري )
حنينه إلى قرقرى
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال قال أبو الذيال الحنفي خرج يحيى بن طالب الحنفي من اليمامة يريد خراسان على البريد فقال وهو بقومس

( أقولُ لأصحابي ونحن بقُوْمِسٍ ... نُراوِحُ أكتافَ المحذَّفةِ الجُرْدِ )
( بعُدنا وعهدِ اللَّهِ من أهلِ قرقرى ... وفيها الأُلَى نهوَى وزِدْنا على البُعْدِ )
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني عبد الله بن بشر عن أبي فراس الهيثم بن فراس الكلابي قال
كنت مع أبي ونحن قاصدون اليمامة فلما رأيناها لقينا رجل فقال له أبي أين قرقرى قال وراءك
قال فأين شعبعب قال بإزائه قال أرني ذلك فأراه إياه حتى عرفه فقال لي ارجع بنا إلى الموضع فقلت له
يا أبت قد تعبنا وتعبت ركائبنا فما لك هناك قال إنك لأحمق ارجع ويلك فرجعت معه حتى أتى شعبعب وصار إلى الحوض والعطن وأناخ راحلته وقال لي أنخ فأنخت ونزل فنظر إلى شعبعب وقرقرى ساعة ثم اضطجع بين الحوض والعطن اضطجاعة ويده تحت خده ثم قام فركب فقلت يا أبت ما أردت بهذا فقال يا جاهل أما سمعت قول يحيى بن طالب
( هل أجعَلَنَّ يَدِي للخدِّ مِرفقةً ... على شَعَبْعَب بين الحَوْضِ والعَطَنِ )
أفليس عجزا أن نكون قد أتينا عليهما وهما أمنية المتمني فلا ننال ما تمناه منهما وقد قدرت عليه فجعلت أعجب من قوله وفعله

بعض من صفاته
أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال حدثنا أبو العالية عن رجل من بني حنيفة قال
كان يحيى بن طالب جوادا شاعرا جميلا حمالا لأثقال قومه

ومغارمهم سمحا يقري الأضياف ما تشاء أن ترى في فتى خصلة جميلة إلا رأيتها فيه
فدخلت عليه وهو في آخر رمق فسألته عن خبره وسليته وقلت له ما طابت به نفسه ثم أنشدني قوله
( ما أنا كالقولِ الذي قلتَ إن زَوَى ... مَحَلِّيَ عن مالِي حِذارَ النَّوائبِ )
( بمنزلةٍ بين الطريقَيْنِ قابَلَتْ ... بِوادِي كُحَيْلٍ كُلَّ ماشٍ وراكبِ )
( حللتُ على رأْسِ اليَفاعِ ولم أكُنْ ... كمن لاذَ من خوفِ القِرَى بالحواجِبِ )
( فلا تَسأل الضِّيفانَ مَن هُمْ وأدْنِهِمْ ... هُمُ الناسُ من معروفِ وَجْهٍ وجانِبِ )
( وقُولُوا إذا ما الضَّيفُ حَلَّ بِنَجْوةٍ ... أَلاَ في سبيلِ اللَّهِ يَحيى بن طالبِ )
قال أبو العالية كحيل نخل بناحية فران دون قرقرى وهناك كان منزل يحيى بن طالب

صوت
وقد جمع معه كل ما يغنى فيه من القصيدة
( لعمرُكَ إنِّي يومَ بُصْرَى وناقَتي ... لَمُخْتَلِفَا الأهواءِ مُصْطحبانِ )

( متى تَحْمِلي شَوْقِي وشوقَكِ تظْلَعِي ... ومالَكِ بالحِمْلِ الثَّقيلِ يَدَانِ )
( ألا يا غُرابَيْ دِمْنةِ الدَّار خَبِّرا ... أبالبَيْنِ من عفراءَ تَنْتَحِبانِ )
( فإن كان حقًّا ما تَقُولانِ فانهَضا ... بلحمِي إلى وَكْرَيْكُما فكُلانِي )
( ولا يَعْلَمَنَّ الناسُ ما كان مِيتَتي ... ولا يأكُلَنَّ الطَّيْرُ ما تَذَرانِ )
( جَعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكْمَهُ ... وعَرَّافِ حَجْرٍ إنْ هُما شَفَيانِي )
( فما تَركا من حِيلةٍ يَعلمانِها ... ولا رُقْيةٍ إلاَّ وقَدْ رَقَيانِي )
( وقالا : شَفاكَ اللَّهُ واللَّهِ ما لَنَا ... بما حُمِّلَتْ مِنكَ الضُّلُوع يدانِ )
( كأنَّ قَطاةً عُلِّقَتْ بجَناحِها ... على كَبِدِي من شِدَّةِ الخَفَقانِ )
الشعر لعروة بن حزام والغناء لإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول ثقيل أول بالوسطى ولعريب في الرابع والخامس والسادس والتاسع هزج مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفي السابع وما بعده إلى آخرها ثقيل أول ينسب إلى أبي العبيس بن حمدون وإلى غيره

أخبار عروة بن حزام
هو عروة بن حزام بن مهاصر أحد بني حزام بن ضبة بن عبد بن كبير ابن عذرة
شاعر إسلامي أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى لا يعرف له شعر إلا في عفراء بنت عمه عقال بن مهاصر وتشبيبه بها
قصة حبه عفراء
أخبرني بخبرها جماعة من الرواة فمنه ما أخبرني به الحسن بن علي بن محمد الآدمي قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني موسى بن عيسى الجعفري عن الأسباط بن عيسى العذري
وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجاله
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عمن أسند إليه
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة
وقد سقت رواياتهم وجمعتها

قال الأسباط بن عيسى وروايته كأنها أتم الروايات وأشدها اتساقا أدركت شيوخ الحي يذكرون
أنه كان من حديث عروة بن حزام وعفراء بنت عقال أن حزاما هلك وترك ابنه عروة صغيرا في حجر عمه عقال بن مهاصر
وكانت عفراء تربا لعروة يلعبان جميعا ويكونان معا حتى ألف كل واحد منهما صاحبه إلفا شديدا
وكان عقال يقول لعروة لما يرى من إلفهما أبشر فإن عفراء امرأتك إن شاء الله
فكانا كذلك حتى لحقت عفراء بالنساء ولحق عروة بالرجال فأتى عروة عمة له يقال لها هند بنت مهاصر فشكا إليها ما به من حب عفراء وقال لها في بعض ما يقول لها يا عمة إني لأكلمك وأنا منك مستح ولكن لم أفعل هذا حتى ضقت ذرعا بما أنا فيه فذهبت عمته إلى أخيها فقالت له يا أخي قد أتيتك في حاجة أحب أن تحسن فيها الرد فإن الله يأجرك بصلة رحمك فيما أسألك
فقال لها قولي فلن تسألي حاجة إلا رددتك بها
قالت تزوج عروة بن أخيك بابنتك عفراء فقال ما عنه مذهب ولا هو دون رجل يرغب فيه ولا بنا عنه رغبة ولكنه ليس بذي مال وليست عليه عجلة
فطابت نفس عروة وسكن بعض السكون

أم عفراء تشترط مهرا غاليا
وكانت أمها سيئة الرأي فيه تريد لابنتها ذا مال ووفر وكانت عرضة ذلك كمالا وجمالا فلما تكاملت سنه وبلغ أشده عرف أن رجلا من قومه ذا يسار ومال كثير يخطبها فأتى عمه فقال يا عم قد عرفت حقي وقرابتي وإني ولدك وربيت في حجرك وقد بلغني أن رجلا يخطب عفراء فإن

أسعفته بطلبته قتلتني وسفكت دمي فأنشدك الله ورحمي وحقي فرق له وقال له يا بني أنت معدم وحالنا قريبة من حالك ولست مخرجها إلى سواك وأمها قد أبت أن تزوجها إلا بمهر غال فاضطرب واسترزق الله تعالى
فجاء إلى أمها فألطفها وداراها فأبت أن تجيبه إلا بما تحتكمه من المهر وبعد أن يسوق شطره إليها فوعدها بذلك
وعلم أنه لا ينفعه قرابة ولا غيرها إلا بالمال الذي يطلبونه فعمل على قصد ابن عم له موسر كان مقيما باليمن فجاء إلى عمه وامرأته فأخبرهما بعزمه فصوباه ووعداه ألا يحدثا حدثا حتى يعود

يودع عفراء والحي
وصار في ليلة رحيله إلى عفراء فجلس عندها ليلة هو وجواري الحي يتحدثون حتى أصبحوا ثم ودعها وودع الحي وشد على راحلته وصحبه في طريقه فتيان من بني هلال بن عامر كانا يألفانه وكان حياهم متجاورين وكان في طول سفره ساهيا يكلمانه فلا يفهم فكرة في عفراء حتى يرد القول عليه مرارا حتى قدم على ابن عمه فلقيه وعرفه حاله وما قدم له فوصله وكساه وأعطاه مائة من الإبل فانصرف بها إلى أهله
وقد كان رجل من أهل الشام من أسباب بني أمية نزل في حي عفراء فنحر ووهب وأطعم وكان ذا مال عظيم فرأى عفراء وكان منزله قريبا من

منزلهم فأعجبته وخطبها إلى أبيها فاعتذر إليه وقال قد سميتها إلى ابن أخ لي يعدلها عندي وما إليها لغيره سبيل فقال له إني أرغبك في المهر قال لا حاجة لي بذلك فعدل إلى أمها فوافق عندها قبولا لبذله ورغبة في ماله فأجابته ووعدته وجاءت إلى عقال فآدته وصخبت معه وقالت أي خير في عروة حتى تحبس ابنتي عليه وقد جاءها الغني يطرق عليها بابها والله ما ندري أعروة حي أم ميت وهل ينقلب إليك بخير أم لا فتكون قد حرمت ابنتك خيرا حاضرا ورزقا سنيا فلم تزل به حتى قال لها فإن عاد لي خاطبا أجبته
فوجهت إليه أن عد إليه خاطبا
فلما كان من غد نحر جزرا عدة وأطعم ووهب وجمع الحي معه على طعامه وفيهم أبو عفراء فلما طعموا أعاد القول في الخطبة فأجابه وزوجه وساق إليه المهر وحولت إليه عفراء وقالت قبل أن يدخل بها
( يا عُرْوَ إنَّ الحيَّ قد نَقضوا ... عَهْدَ الإِلهِ وحاوَلُوا الغَدْرَا )
في أبيات طويلة
فلما كان الليل دخل بها زوجها وأقام فيهم ثلاثا ثم ارتحل بها إلى الشام وعمد أبوها إلى قبر عتيق فجدده وسواه وسأل الحي كتمان أمرها

يعرف حقيقة زواج عفراء فيدخل إليها
وقدم عروة بعد أيام فنعاها أبوها إليه وذهب به إلى ذلك القبر فمكث

يختلف إليه أياما وهو مضنى هالك حتى جاءته جارية من الحي فأخبرته الخبر فتركهم وركب بعض إبله وأخذ معه زادا ونفقة ورحل إلى الشام فقدمها وسأل عن الرجل فأخبر به ودل عليه فقصده وانتسب له إلى عدنان فأكرمه وأحسن ضيافته فمكث أياما حتى أنسوا به ثم قال لجارية لهم هل لك في يد تولينيها قالت نعم قال تدفعين خاتمي هذا إلى مولاتك
فقالت سوءة لك أما تستحي لهذا القول فأمسك عنها ثم أعاد عليها وقال لها ويحك هي والله بنت عمي وما أحد منا إلا وهو أعز على صاحبه من الناس جميعا فاطرحي هذا الخاتم في صبوحها فإذا أنكرت عليك فقولي لها اصطبح ضيفك قبلك ولعله سقط منه
فرقت الأمة وفعلت ما أمرها به
فلما شربت عفراء اللبن رأت الخاتم فعرفته فشهقت ثم قالت اصدقيني عن الخبر فصدقتها
فلما جاء زوجها قالت له أتدري من ضيفك هذا قال نعم فلان بن فلان للنسب الذي انتسب له عروة فقالت كلا والله يا هذا بل هو عروة بن حزام ابن عمي وقد كتم نفسه حياء منك
وقال عمر بن شبة في خبره
بل جاء ابن عم له فقال أتركتم هذا الكلب الذي قد نزل بكم هكذا في داركم يفضحكم فقال له ومن تعني قال عروة بن حزام العذري ضيفك هذا قال أو إنه لعروة بل أنت والله الكلب وهو الكريم القريب

شهامة زوج عفراء وطيبته
قالوا جميعا
ثم بعث إليه فدعاه وعاتبه على كتمانه نفسه إياه وقال له بالرحب والسعة نشدتك الله إن رمت هذا المكان أبدا وخرج وتركه مع عفراء

يتحدثان وأوصى خادما له بالاستماع عليهما وإعادة ما تسمعه منهما عليه فلما خلوا تشاكيا ما وجدا بعد الفراق فطالت الشكوى وهو يبكي أحر بكاء ثم أتته بشراب وسألته أن يشربه فقال والله ما دخل جوفي حرام قط ولا ارتكبته منذ كنت ولو استحللت حراما لكنت قد استحللته منك فأنت حظي من الدنيا وقد ذهبت مني وذهبت بعدك فما أعيش
وقد أجمل هذا الرجل الكريم وأحسن وأنا مستحي منه ووالله لا أقيم بعد علمه مكاني وإني عالم أني أرحل إلى منيتي
فبكت وبكى وانصرف
فلما جاء زوجها أخبرته الخادمة بما دار بينهما فقال يا عفراء امنعي ابن عمك من الخروج فقالت لا يمتنع هو والله أكرم وأشد حياء من أن يقيم بعد ما جرى بينكما فدعاه وقال له يا أخي اتق الله في نفسك فقد عرفت خبرك وإنك إن رحلت تلفت والله لا أمنعك من الاجتماع معها أبدا ولئن شئت لأفارقنها ولأنزلن عنها لك
فجزاه خيرا وأثنى عليه وقال إنما كان الطمع فيها آفتي والآن قد يئست وقد حملت نفسي على اليأس والصبر فإن اليأس يسلي ولي أمور ولا بد لي من رجوعي إليها فإن وجدت من نفسي قوة على ذلك وإلا رجعت إليكم وزرتكم حتى يقضي الله من أمري ما يشاء
فزودوه وأكرموه وشيعوه فانصرف
فلما رحل عنهم نكس بعد صلاحه وتماثله وأصابه غشي وخفقان فكان كلما أغمي عليه ألقي على وجهه خمار لعفراء زودته إياه فيفيق

ينشد عراف اليمامة
قال ولقيه في الطريق ابن مكحول عراف اليمامة فرآه وجلس عنده وسأله عما به وهل هو خبل أو جنون فقال له عروة ألك علم بالأوجاع
قال نعم فأنشأ يقول
( وما بيَ من خَبْلٍ ولا بِيَ جِنَّةٌ ... ولكنَّ عمِّي يا أُخَيّ كذُوبُ )
( أقولُ لعَرَّافِ اليمامة داوِنِي ... فإنَّكَ إنْ داويتِني لَطبيبُ )
( فواكَبِدَاً أمْسَت رُفاتاً كَأنَّما ... يلذِّعُهَا بالمُوقِداتِ طبيبُ )
( عَشيَّةَ لا عَفراءُ مِنْكَ بعِيدةٌ ... فَتسْلو ولا عَفْراءُ مِنكَ قريبٌ )
( عشِيّة لا خَلفِي مَكَرٌّ ولا الهوَى ... أمامي ولا يهوَى هوايَ غَريبُ )
( فواللَّهِ لا أَنسَاكِ مَا هبّت الصَّبَا ... وما عقّبْتَها في الرِّياحِ جَنُوبُ )
( وإنِّي لتَغشاني لذِكراكِ هِزّةٌ ... لها بينَ جلدِي والعِظِام دَبيبُ )
يخاطب صاحبيه بقصته
وقال أيضا يخاطب صاحبيه الهلاليين بقصته
( خليلَيَّ من عُليا هلالِ بن عامرٍ ... بصَنْعَاءَ عُوجَا اليومَ وانتظِرانِي )

( ولا تزْهَدا في الذُّخْر عندي وأَجمِلا ... فإنَّكما بي اليومَ مُبتلَيان )
( ألِمّا على عفراءَ إنّكما غداً ... بوَشْك النّوَى والبَيْنِ معترفان )
( فيا واشِيْيْ عَفراءَ ويحكما بمنْ ... وما وإلى مَنْ جِئتما تشِيَان )
( بمَنْ لو أراهُ عانياً لفدَيْتُه ... ومَنْ لو رآني عانياً لفَداني )
( مَتى تكشِفا عنِّي القميصَ تَبيَّنا ... بِيَ الضُّرَّ من عفراءَ يا فَتيانِ )
( إذن تريَا لحماً قيلا وأعظُماً ... بَلِينَ وقلباً دائمَ الخفقان )
( وقد تركْتنِي لا أعِي لمحدِّثٍ ... حديثاً وإن ناجيتهُ ونجانِي )
( جعلتُ لعرّاف اليمامةِ حُكمَه ... وعرّافِ حَجْرٍ إن هما شفيانِي )
( فما تركا من حِيلةٍ يعرفانها ... ولا شَرْبةٍ إلا وقد سَقياني )
( ورَشَّا على وجْهي من الماء سَاعةً ... وقاما مع العُوّاد يبتَدِران )
( وقالا : شفَاك اللَّهُ واللَّهِ ما لنا ... بما ضُمِّنتْ منكَ الضّلوعُ يدانِ )
( فويْلي على عفراءَ ويلاً كأنّهُ ... على الصَّدْر والأحشاء حدُّ سِنان )
( أُحِبُّ ابنةَ العُذريِّ حُبًّا وإن نأتْ ... ودانيتُ فيها غيرَ ما مُتدانِي )

صوت
( إذا رامَ قلبي هجْرَها حال دُونه ... شَفيعانِ من قلبي لها جَدِلان )
غنته شارية ولحنه من الثقيل الأول

( إذا قُلْتُ : لاِ قالا : بَلَىِ ثمّ أصْبَحَا ... جَميعاً على الرأْي الَّذِي يَرْيَانِ )
( تحمَّلتُ من عَفراءَ ما ليسَ لي به ... ولا للجِبَال الرّاسيَاتِ يَدان )
( فيَا رَبِّ أنتَ المستعانُ على الّذِي ... تحمَّلتُ من عفراءَ منذُ زمانِ )
( كأَنَّ قَطاةً عُلِّقَتْ بجَناحِهَا ... على كَبدِي من شِدّةِ الخفقَانِ )
في تحملت من عفراء
والذي بعده ثقيل أول يقال إنه لأبي العبيس بن حمدون

يموت فترثيه عفراء وتموت بعده
قال فلم يزل في طريقه حتى مات قبل أن يصل إلى حيه بثلاث ليال وبلغ عفراء خبر وفاته فجزعت جزعا شديدا وقالت ترثيه
( ألا أيُّها الرَّكْبُ المُخِبُّونَ ويحكم ... بحقٍّ نَعيْتُم عُروةَ بنَ حِزامِ )
( فلا تهنأ الفِتيانَ بعدكَ لذَّةٌ ... ولا رجعُوا من غَيْبةٍ بسَلام )
( وقل للحَبَالَى : لا تُرجِّينَ غائباً ... ولا فَرِحاتٍ بعدَهُ بغُلامِ )
قال ولم تزل تردد هذه الأبيات وتندبه بها حتى ماتت بعده بأيام قلائل
خبر عن معرفته بتزويجها
وذكر عمر بن شبة في خبره
أنه لم يعلم بتزويجها حتى لقي الرفقة التي هي فيها وأنه كان توجه إلى

ابن عم له بالشام لا باليمن فلما رآها وقف دهشا ثم قال
( فما هي إلا أن أراها فُجَاءَةً ... فأُبْهَتَ حتى ما أكادُ أُجيبُ )
( وأصْدِفُ عن رأيي الذي كُنت أرتَئي ... وأَنسَى الذي أزْمَعتُِ حين تغيبُ )
( ويُظهرُ قلبي عُذرَها ويُعِينُها ... عليَّ فما لِي في الفؤادِ نَصِيبُ )
( وقد عَلِمَتْ نفسي مكانَ شِفائها ... قريباًِ وهل ما لا يُنالُ قريبُ ؟ )
( حَلفتُ بربِّ السَّاجدينَ لربِّهم ... خُشوعاًِ وفوقَ السَّاجدينَ رَقيبُ )
( لئن كان بَردُ الماءِ حرَّانَ صادياً ... إليَّ حَبيباً إنَّها لحبِيبُ )

لم ينفعه وعظ ولا دواء
وقال أبو زيد في خبره
ثم عاد من عند عفراء إلى أهله وقد ضني ونحل وكانت له أخوات وخالة وجدة فجعلن يعظنه ولا ينفع وجئن بأبي كحيلة رباح بن شداد مولى بني ثعيلة وهو عراف حجر ليداويه فلم ينفعه دواؤه
وذكر أبو زيد قصيدته النونية التي تقدم ذكرها وزاد فيها
( وعينانِ ما أوفَيتُ نشْزاً فتنُظرا ... مآقيهما إلا هما تَكِفانِ )
( سِوَى أنَّنِي قد قلتُ يوْماً لصاحِبي ... ضُحًى وقَلُوصانا بنا تخِدان )
( ألا حبّذَا من حُبِّ عفراءَ وادياً ... نَعامٌ وبُزْلٌ حيْثُ يلتقيان )

وقال أبو زيد
وكان عروة يأتي حياض الماء التي كانت إبل عفراء تردها فيلصق صدره بها فيقال له مهلاً فإنك قاتل نفسك فاتق الله
فلا يقبل حتى أشرف على التلف وأحس بالموت
فجعل يقول
( بِيَ اليأسُ والدَّاءُ الهُيامُ سُقِيتُهُ ... فإيّاكَ عنِّي لا يكُنْ بك ما بِيَا )

خبر موته
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن أبي السائب قال
أخبرني ابن أبي عتيق قال والله إني لأسير في أرض عذرة إذا بامرأة تحمل غلاما جزلا ليس يحمل مثله فعجبت لذلك حتى أقبلت به فإذا له لحية فدعوتها فجاءت فقلت لها ويحك ما هذا فقالت هل سمعت بعروة ابن حزام فقلت نعم قالت هذا والله عروة
فقلت له أنت عروة فكلمني وعيناه تذرفان وتدوران في رأسه وقال نعم أنا والله القائل
( جَعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكمَهُ ... وعرَّافِ حَجْرٍ إن هما شفَياني )
( فقالا : نعم نَشفِي من الدَّاءِ كُلِّهِ ... وقاما مع العُوَّاد يَبْتدِران )
( فعَفْراءُ أحظى الناسِ عندي مَوَدَّةً ... وعَفْراءُ عنِّي المُعْرِضُ المُتَواني )
قال وذهبت المرأة فما برحت من الماء حتى سمعت الصيحة فسألت

عنها فقيل مات عروة بن حزام
قال عبد الملك فقلت لأبي السائب ومن أي شيء مات أظنه شرق فقال سخنت عيناك بأي شيء شرق قلت بريقه وأنا أريد العبث بأبي السائب أفترى أحدا يموت من الحب قال والله لا تفلح أبدا نعم يموت خوفا أن يتوب الله عليه
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن النعمان بن بشير قال
ولاني عثمان رضي الله عنه صدقات سعد هذيم وهم بلي وسلامان وعذرة وضبة بن الحارث ووائل بنو زيد فلما قبضت الصدقة قسمتها في أهلها فلما فرغت وانصرفت بالسهمين إلى عثمان رضي الله عنه إذا أنا ببيت مفرد عن الحي فملت إليه فإذا أنا بفتى راقد في فناء البيت وإذا بعجوز من ورائه في كسر البيت فسلمت عليه فرد علي بصوت ضعيف فسألته ما لك فقال
( كأنَّ قَطاةً عُلِّقَتْ بجناحها ... على كَبِدِي من شدَّةِ الخَفقانِ )
وذكر الأبيات النونية المعروفة ثم شهق شهقة خفيفة كانت نفسه فيها فنظرت إلى وجهه فإذا هو قد قضى فقلت أيتها العجوز من هذا الفتى منك قالت ابني فقلت إني أراه قد قضى فقالت وأنا والله أرى ذلك فقامت فنظرت في وجهه ثم قالت فاظ ورب محمد قال فقلت لها يا أماه من

هو فقالت عروة بن حزام أحد بني ضبة وأنا أمه فقلت لها ما بلغ به ما أرى قالت الحب والله ما سمعت له منذ سنة كلمة ولا أنَّهً إلا اليوم فإنه أقبل علي ثم قال
( مَن كان مِن أُمَّهاتي باكياً أبداً ... فاليومَ إنِّي أُراني اليومَ مَقبوضا )
( يُسْمِعْنَينهِ فإنّي غيرُ سامعهِ ... إذا علوتُ رقابَ القومِ مَعْروضا )
قال فما برحت من الحي حتى غسلته وكفنته وصليت عليه ودفنته

موت عفراء
وذكر أبو زيد عمر بن شبة في خبره هذه القصة عن عروة بن الزبير فقال هذين البيتين بحضرته
( من كان من أخواتي باكياً أبداً ... )
قال فحضرنه فبرزن والله كأنهن الدمى فشققن جيوبهن وضربن خدودهن فأبكين كل من حضر
وقضى من يومه
وبلغ عفراء خبره فقامت لزوجها فقالت يا هناه قد كان من خبر ابن عمي ما كان بلغك ووالله ما عرفت منه قط إلا الحسن الجميل وقد مات في وبسببي ولا بد لي من أن أندبه وأقيم مأتما عليه
قال افعلي
فما زالت تندبه ثلاثا حتى توفيت في اليوم الرابع
وبلغ معاوية بن أبي سفيان خبرهما فقال لو علمت بحال هذين الحرين الكريمين لجمعت بينهما
وروي هذا الخبر عن هارون بن موسى القرويّ عن محمد بن الحارث المخزومي عن هشام بن عبد الله عن عكرمة عن هشام بن عروة عن أبيه

أنه كان شاهدا ذلك اليوم
ولم يذكر النعمان بن بشير في خبره
وذكر هارون بن مسلمة عن غصين بن براق عن أم جميل الطائية أن عفراء كانت يتيمة في حجر عمها عمه فعرضها عليه فأباها ثم طال المدى وانصرف عروة في يوم عيد بعد أن صلى صلاة العيد فرآها وقد زينت فرأى منها جمالا بارعا وقدمت له تحفة فنال منها وهو ينظر إليها ثم خطبها إلى عمه فمنعه ذلك مكافأة لما كان من كراهته لها لما عرضها عليه وزوجها رجلا غيره فخرج بها إلى الشام وتمادى في حبها حتى قتله

طوف حول الكعبة
حدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وغيره عن سليمان بن عبد العزيز بن عمران الزهري قال حدثني خارجة المكي
أنه رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت قال فدنوت منه فقلت من أنت فقال الذي أقول
( أَفِي كلِّ يوم أنتَ رامٍ بلادَها ... بعينينِ إنْسانَاهُما غَرِقانِ )
( أَلاَ فاحمِلاني باركَ اللَّهُ فيكُما ... إلى حَاضر الرَّوْحاءِ ثم ذَرانِي )
فقلت له زدني فقال لا والله ولا حرفا
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري قال حدثني محمد بن حبيب قال ذكر الكلبي عن أبي صالح قال
كنت مع ابن عباس بعرفة فأتاه فتيان يحملون بينهم فتى لم يبق منه إلا

خياله فقالوا له يا بن عم رسول الله ادع له فقال وما به فقال الفتى
( بِنا من جَوَى الأحزانِ في الصدر لَوْعةٌ ... تَكادُ لها نَفْسُ الشَّفِيق تذوبُ )
( ولكنَّما أَبَقى حُشاشةَ مُعْوِلٍ ... على ما به عُودٌ هناك صَلِيبُ )
قال ثم خفت في أيديهم فإذا هو قد مات
فقال ابن عباس
( هذا قتيلُ الحبِّ لا عَقْلٌ ولا قود ... )
ثم ما رأيت ابن عباس سأل الله جل وعز في عشيته إلا العافية مما ابتلي به ذلك الفتى قال وسألنا عنه فقيل هذا عروة بن حزام

صوت
( أعالِيَ أعلَى اللَّهُ جَدَّكِ عالياً ... وأسقَى بَرَّياكِ العِضَاهَ البوالِيَا )
( أعاليَ ما شمسُ النهارِ إذا بَدَتْ ... بأحسنَ ممَّا تحتَ بَرْدَيْكِ عالياً )
( أعالِيَ لو أنَّ النساءَ ببَلدَةٍ ... وأنتِ بأخرى لاتَّبعتُكِ ماضِيَا )
( أعالِيَ لو أشْكو الذي قد أصابنِي ... إلى غُصُنٍ رَطْبٍ لأصبح ذاوِيَا )
الشعر للقتال الكلابي
وقد أدخل بعض الرواة الأول من هذه الأبيات مع أبيات سحيم عبد بني الحسحاس التي أولها

( فما بيضةٌ بات الظّليمُ يحُفُّها ... )
في لحن واحد
وذكرت ذلك في موضعه وأفردته على حدته وأتيت به على حقيقته
والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى
وذكر الهشامي أن فيه لأبي كامل ثاني ثقيل لا أدري أهذا يعني أم غيره
ووافقه إبراهيم في لحن أبي كامل ولم يجنسه وزعم أن فيه لحنا آخر لابن عباد وفيه ثقيل أول ذكر ابن المكي أنه لمعبد
وذكر الهشامي أنه ليحيى منحول إلى معبد
وذكر حبش أنه لطويس
وفي هذه القصيدة يقول القتّال
( أعالِيَ أختَ المالكيِّين نَوِّلِي ... بما ليس مَفقوداً وفيه شفائَيا )
( أصارِمَتي أمُّ العَلاءِ وقد رَمى ... بيَ الناسُ في أُمِّ العلاءِ المرامِيَا )
( أيَا إخوتي لا أُصبَحَنْ بمُضِلَّةٍ ... تُشِيبُ إذا عُدَّتْ عليَّ النَّواصِيا )
( فرادِ لدَيْكَ القومَ واشعبْ بحقِّهم ... كما كنتَ لو كنتَ الطَّرِيدَ مُرادِيَا )
( وشمِّرْ ولا تجعلْ عليكَ غَضاضةً ... ولا تنسَ يابن المَضرحِيّ بلائيَا )
ولهذه القصيدة أخبار تذكر في مواضعها ها هنا إن شاء الله تعالى

أخبار القتّال ونسبه
القتال لقب غلب عليه لتمرده وفتكه
واسمه عبد الله بن المضرحي ابن عامر الهصان بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة
ويكنى أبا المسيب وأمه عمرة بنت حرقة بن عوف بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب
وقد ذكرها في شعره وفخر بها فقال
( لقد ولَدَتْنِي حُرَّةٌ رَبَعيَّةٌ ... من اللاءِ لم يحضُرْنَ في القَيْظِ ذَبْذَبا )

يهرب بعد أن يقتل ابن عمه
نسخت من كتاب لمحمد بن داود بن الجراح خبره وذكر أن عبد الله ابن سليمان السجستاني دفعه إليه وأخبره أنه سمعه من عمر بن شبة وأجاز له

روايته وأخبرني بأكثر رواية عمر بن شبة هذه الأخفش عن السكري عنه في أخبار اللصوص وجمعت ذلك أجمع
قال عمر بن شبة حدثني حميد بن مالك بن يسار المسمعي قال حدثني شداد بن عقبة بن رافع بن زمل بن شعيب بن الحارث بن عامر بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب
وكانت أم رافع جنوب بنت القتال

قتل زيادا وقال
وحدثني شيخ من بني أبي بكر بن كلاب يكنى أبا خالد أيضا بحديث القتال قال أبو خالد
كان القتال قتال ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب يتحدث إلى ابنة عم له يقال لها العالية بنت عبيد الله وكان لها أخ غائب يقال له زياد بن عبيد الله فلما قدم رأى القتال يتحدث إلى أخته فنهاه وحلف لئن رآه ثانية ليقتلنه
فلما كان بعد ذلك بأيام رآه عندها فأخذ السيف وبصر به القتال فخرج هاربا وخرج في إثره فلما دنا منه ناشده القتال بالله والرحم فلم يلتفت إليه
فبينا هو يسعى وقد كاد يلحقه وجد رمحا مركوزا وقال السكري وجد سيفا فأخذه وعطف على زياد فقتله وقال
( نَهَيتُ زياداً والمقَامةُ بيننا ... وذكَّرتُه أَرحامَ سِعْرٍ وهَيْثَمِ )

( فلمَّا رأيتُ أنَّه غيرُ مُنتهٍ ... أَمَلْتُ له كفِّي بلَدْنٍ مُقَوَّمِ )
( ولمَّا رأَيتُ أنني قد قَتَلْتُه ... نَدِمْتُ عليه أيَّ ساعةِ مَندم )
وقال أيضا
( نَهيتُ زياداً والمَقامةُ بيننا ... وذكَّرتُه باللَّهِ حَوْلاً مُجَرَّما )
( فلمَّا رأيتُ أنَّهُ غيرُ مُنْتَهٍ ... ومولايَ لا يَزْدادُ إلاّ تقدُّما )
( أمَلتُ له كفِّي بأبيضَ صارمٍ ... حُسامٍ إذا ما صادَفَ العَظْمَ صَمَّما )
( بكفِّ امرىءٍ لم تَخْدُمِ الحيَّ أُمُّه ... أخي نجداتٍ لم يكنْ مُتَهضَّما )

شعره وهو يستتر في عماية
ثم خرج هاربا وأصحاب القتيل يطلبونه فمر بابنة عم له تدعى زينب متنحية عن الماء فدخل عليها فقالت له ويحك ما دهاك قال ألقي علي ثيابك فألقت عليه ثيابها وألبسته برقعها وكانت تمس حناء فأخذ الحناء فلطخ بها يديه وتنحت عنه ومر الطلب به فلما أتوا البيت قالوا وهم يظنون أنه زينب أين الخبيث فقال لهم أخذ هاهنا لغير الوجه الذي أراد أن يأخذه
فلما عرف أن قد بعدوا أخذ في وجه آخر فلحق بعماية وعماية جبل فاستتر فيه وقال في ذلك
( فمنْ مُبْلِغٌ فِتيانَ قوميَ أنَّني ... تسمَّيْتُ لمَّا شبَّت الحَرْبُ زَيْنبا )

( وأرخيتُ جِلْبابي على نبْت لِحْيتي ... وأبديتُ للنَّاسِ البَنانَ المخضَّبا )
وقال أيضا
( جَزى اللَّهُ عَنَّا والجزاءُ بكفِّهِ ... عَمايةَ خيراً أُمَّ كلِّ طرِيدِ )
( فما يزدهِيها القومُ إنْ نزلُوا بها ... وإن أرسل السُّلطانُ كلَّ بَريدِ )
( حَمتْنِيَ منها كلُّ عَنقاءَ عَيْطَلٍ ... وكلُّ صفاً جَمّ القِلاتِ كؤودِ )
فمكث بعماية زمانا يأتيه أخ له بما يحتاج إليه وألفه نمر في الجبل كان يأوي معه في شعب

صاحبه نمر مفترس
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن حبيب عن ابن الكلبي قال
كان القتال الكلابي أصاب دما فطلب به فهرب إلى جبل يقال له عماية فأقام في شعب من شعابه وكان يأوي إلىذلك الشعب نمر فراح إليه كعادته فلما رأى القتال كشر عن أنيابه ودلع لسانه فجرد القتال سيفه من جفنه فرد النمر لسانه فشام القتال سيفه فربض بإزائه وأخرج براثنه فسل القتال سهامه من كنانته فضرب بيده وزأر فأوتر القتال

قوسه وأنبض وترها فسكن النمر وألفه
فقال ابن الكلبي في هذا الخبر ووافقه عمر بن شبة في روايته
كان النمر يصطاد الأروى فيجيء بما يصطاده فيلقيه بين يدي القتال فيأخذ منه ما يقوته ويلقي الباقي للنمر فيأكله وكان القتال يخرج إلى الوحش فيرمي بنبله فيصيب منه الشيء بعد الشيء فيأتي به الكهف فيأخذ لقوته بعضه ويلقي الباقي للنمر
وكان القتال إذا ورد الماء قام عليه النمر حتى يشرب ثم يتنحى القتال عنه ويرد النمر فيقوم عليه القتال حتى يشرب فقال القتال في ذلك من قصيدة له
( ولي صاحبٌ في الغارِ يعْدِلُ صاحباً ... أبا الجوْن إلاَّ أنَّه لا يُعَلَّلُ )
أبو الجون صديق له كان يأنس به فشبهه به
وفي رواية عمر بن شبة أخي الجون فإن القتال كان له أخ اسمه الجون فشبهه به
( كِلانا عدُوٌّ لا يَرى في عَدُوِّه ... مَهَزًّا وكُلٌّ في العَدّواةِ مُجمِلُ )
( إذا ما التَقَيْنا كان أُنْسُ حَدِيثِنا ... صِماتاً وطَرْفٌ كالمَعَابِلِ أَطْحَلُ )
( لنا مَوْرِدٌ قَلْتٌ بأَرْضٍ مَضَلَّةٍ ... شَرِيعَتُنا : لأيِّنا جاءَ أَوَّلُ )
( تَضَمَّنَت الأَرْوي لنا بِشِوائِنا ... كِلانا له منها سَدِيفٌ مُخَرْدَلُ )

( فأَغْلِبُه في صَنْعَةِ الزَّادِ إنَّني ... أُمِيطُ الأذى عنه وما إنْ يُهَلِّلُ )
أي ما يسمي الله تعالى عند صيده

خبر وليمة أبي سفيان
أخبرني اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي وأخبرني به محمد بن جعفر الصيدلاني عن الفضل عن إسحاق
وأخبرني به وسواسة ابن الموصلي عن حماد عن أبيه قال
قال أبو المجيب أو شداد بن عقبة
دعا رجل من الحي يقال له أبو سفيان القتال الكلابي إلى وليمة فجلس القتال ينتظر رسوله ولا يأكل حتى انتصف النهار وكانت عنده فقرة من حوار فقال لامرأته
( فإنَّ أبا سُفيانَ ليس بمُولمٍ ... فقُومي فهاتِي فِقْرةً من حُوارِكِ )
قال إسحاق فقلت له ثم مه قال لم يأت بعده بشيء إنما أرسله يتيما
فقلت له لمه أفلا أزيدك إليه بيتا آخر ليس بدونه قال بلى فقلت
( فبيتُكِ خيْرٌ من بيوتٍ كثيرةٍ ... وقدْرُك خيْرٌ من وليمة جارك )
فقال بأبي أنت وأمي والله لقد أرسلته مثلا وما انتظرت به العرب وإنك لبز طراز ما رأيت بالعراق مثله وما يلام الخليفة أن يدنيك ويؤثرك ويتملح بك ولو كان الشباب يشترى لابتعته لك بإحدى يدي ويمنى عيني

وعلى أن فيك بحمد الله بقية تسر الودود وترغم الحسود

كان له ابنان المسيب وعبد السلام
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال
كان للقتال ابنان يقال لأحدهما المسيب وللآخر عبد السلام ولعبد السلام يقول
( عبدَ السَّلام تأمَّلْ هل تَرَى ظُعُناً ... إنِّي كَبِرتُ وأنت اليومَ ذو بَصَرِ )
( لا يُبْعِدُ اللَّهُ فِتياناً أقولُ لهمْ ... بالأَبرقِ الفَرْدِ لمَّا فاتني نَظَرِي )
( ألا تروْنَ بأعلى عاسِمٍ ظُعُناً ... نكَّبْنَ فَحْلَينِ واستقْبَلن ذا بَقَرِ )
يعير أخواله بفعلتهم
وقال أبو زيد عمر بن شبة من رواية ابن داود عنه حدثني سعيد بن مالك قال حدثني شداد بن عقبة قال
اقتتل بنو جعفر بن كلاب وبنو العجلان بن كعب بن ربيعة بن صعصعة فقتلت بنو جعفر بن كلاب رجلا من بني العجلان قال شداد وكانت جدة القتال أم أبيه عجلانية وهي خولة بنت قيس بن زياد بن مالك بن العجلان فاستبطأ القتال أخواله بني العجلان في الطلب بثأرهم من بني جعفر وجعل يحضهم ويحرضهم فقال في ذلك وقد بلغه أنهم أخذوا من بني جعفر دية المقتول فعيرهم بما فعلوا وقال

( لعَمْرِي لحَيٌّ من عُقَيْلٍ لقيتُهُم ... بخَطْمةَ أو لاقيتُهُم بالمناسِكِ )
( عليهمْ من الحَوْكِ اليمَانِيِّ بِزَّةٌ ... على أرْحَبِيَّاتٍ طِوالِ الْحَوارِكِ )
( أَحَبُّ إلى نفسي وأملحُ عندَها ... منَ السَّرَواتِ آل قيس بن مالِكِ )
( إذا ما لقيتُمْ عُصْبةً جعفريَّةً ... كرِهْتُم بني اللَّكْعاءِ وقْعَ النيازِكِ )
( فلستُمْ بأَخْوالِي فلا تصْلبنَّني ... ولكنَّما أُمِّي لإِحدى العَواتِكِ )
( قِصارُ العِمادِ لا ترى سرَوَاتِهِم ... مع الوفد جَثَّامُونَ عند المباركِ )
( قُتِلتُم فلمَّا أن طلبتُمْ عُقِلتُمُ ... كذلكِ يُؤْتَى بالذَّليلِ كذلكِ )

هروبه من السجن وشعره في ذلك
وقال ابن حبيب
خرج ابن هبار القرشي إلى الشام في تجارة أو إلى بعض بني أمية فاعترضه جماعة فيهم القتال الكلابي وغيره فقتلوه وأخذوا ماله
وشاع خبره فاتهم به جماعة من بني كلاب وغيرهم من فتاك العرب فأخذوا وحبسوا أخذهم عامل مروان بن الحكم فوجههم إليه وهو بالمدينة فحبسهم ليبحث عن الأمر ثم يقتل قتلة ابن هبار فلما خشي القتال أن يعلم أمره ورأى أصحابه ليس فيهم

غناء اغتال السجان فقتله وخرج هو ومن كان معه من السجن فهربوا فقال يذكر ذلك
( أُمَيْمَ أَثيبي قبل جِدِّ التَّزَيُّلِ ... أَثيبي بوصْلٍ أو بِصُرْمٍ مُعَجَّل )
( أُمَيْم وقد حُمِّلْتُ ما حُمِّلَ امْرُؤٌ ... وفي الصُّرْم إحْسانٌ إذا لم تُنَوَلي )
وهي قصيدة طويلة يقول فيها
( وإنِّي وذكرِي أُمَّ حَسّانَ كالفتى ... متى ما يذُقْ طَعْم المُدَامة يَجْهل )
( ألا حبّذا تلك البلادُ وأهلها ... لو اٌنَّ عذابي بالمدينة ينْجلي )
( برزْتُ لها من سِجْن مرْوان غُدوةً ... فآنستُها بالأَيْم لم تتحوَّل )
( وآنستُ حَيًّا بالمطالي وجامِلاً ... أبابيلَ هَطْلي بين راعٍ ومُهمل )
( نظرتُ وقد جَلَّى الدُّجى طامِسَ الصُّوَى ... بسِلْعٍ وقَرْنُ الشمسِ لم يترجَّلِ )
( وشُبَّتْ لنا نارٌ لَليْلَى صباحه ... يُذَكَّى بعُودٍ جَمْرُها وقَرَنْفُلِ )
( يُضِيء سَناها وجهَ ليلَى كأنَّما ... يُضيءُ سَناها وَجْهَ أَدْماءَ مُغْزِلِ )
( علا عظمُها واستعْجَلتْ عن لِداتِها ... وشَبَّتْ شباباً وهْيَ لمَّا تُسَرْبَلِ )
( ولما رأيتُ البابَ قد حِيل دُونَهُ ... وخِفْتُ لِحاقاً من كتابٍ مُؤَجَّل )
( حملتُ عَلَى المكروهِ نفساً شريفةً ... إذا وُطِّئَتْ لم تستقِدْ للتَّذَلُّلِ )

( وكالِىءُ باب السِّجْنِ ليس بِمُنْتَهٍ ... وكان فِراري منه ليس بمُؤْتَلي )
( إذا قلتُ رفَّهنِي من السِّجْنِ ساعةً ... وتمِّمْ بها النُّعْمَى عَلَيَّ وأفْضِل )
( يَشُدُّ وَثاقاً عابِساً ويَغُلُّنِي ... إلى حَلَقاتٍ من عمودٍ مُوَصَّل )
( فقُلتُ له والسَّيفُ يَعْضِب رأْسَهُ ... أنا ابنُ أبي التّيماءِ غيرُ المنحَّل )
( عرفتُ نَدَايَ من نَدَاهُ وشيمتي ... وريحاً تَغشَّاني إذا اشتَدَّ مِسْحَلِي )
( تركتُ عِتاقَ الطَّيْرِ تحجِلُ حَوْلَهُ ... على عُدَواءَ كالحُوار المجدّل )

يذكر قتل ابن هبار
وقال أبو زيد في خبره
وأنشدني شداد للقتال الكلابي يذكر قتل ابن هبار
( تركتُ ابنَ هَبَّارٍ لدَى الباب مُسْنداً ... وأصبحَ دُوني شابَةٌ وأُرومُها )
( بسيف امرىءٍ ما إن أُخَبِّرُ باسمهِ ... وإن حَقَرتْ نفسي إليَّ هُمومُها )
هكذا روى ابن حبيب وعمر بن شبة
ونسخت من كتاب للشاهيني بخطه فيه شعر للقتال وأخبار من أخباره قال
حبس القتال في دم ابن عمه الذي قتله فحبس زمانا في السجن ثم كان بين ابن هبار القرشي وبين ابن عم له من قريش إحنة فبلغ ابن عمه

أن القتال محبوس في سجن المدينة فأتاه فقال له أرأيت إن أنا أخرجتك أتقتل ابن عمي المعروف بابن هبار قال نعم قال فإني سأرسل إليك بحديدة في طعامك فعالج بها قيدك حتى تفكه ثم البسه حتى لا تنكر فإذا خرجت إلى الوضوء فاهرب من الحرس فإني جالس لك ومخلصك ومعطيك فرسا تنجو عليه وسيفا تمتنع به فإن خلصك ذلك وإلا فأبعدك الله فقال قد رضيت
قال وكان أهل المدينة يخرجون المحتبسين إذا أمسوا للوضوء ومعهم الحرس ففعل ما أمره به وأتاه القرشي فخلصه وآواه حتى أمسك عنه الطلب ثم جاء به وأعطاه سيفا فقتل ابن عمه المعروف بابن هبار ووهب له نجيبا فنجا عليه وقال
( تركتُ ابنَ هبَّار لدى البابِ مُسنَداً ... وأَصْبَح دُوني شابةٌ وأرومُها )
( بسَيف امرِىءٍ لا أُخبرُ الناسَ باسمِهِ ... ولو أجهشَتْ نفسي إليَّ هُمومُها )

خبره مع علية بنت شيبة
وقال أبو زيد عمر بن شبة فيما رواه عن أصحابه
مر القتال بعلية بنت شيبة بن عامر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عبد ابن أبي بكر وأخويها جهم وأويس فسألها زماما فأبت أن تعطيه وكانت جدتهم أم أبيهم أمة يقال لها أم حدير وكانت لقريظة بن حذيفة بن عمار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر فولدت له أم هؤلاء واسمها نجيبة

فولدت له علية هذه فقال القتال يهجوهم
( يا قَبَّحَ اللَّهُ صِبيَاناً تجيءُ بهِم ... أمُّ الهُنَيْبِر من زَندٍ لها واري )
( من كلِّ أعلمَ مُنَشقٍّ مَشافرُهُ ... ومؤذَنٍ ما وَفَى شِبْراً بِمشبارِ )
( يا وَيْحَ شَيماءَ لم تَنبِذْ بأحرارِ ... مثلي إذا ما اعتراني بعْضُ زُوَّارِي )
( إنَّ القُريظِينَ لم يَدْعُوكِ كَنَّتَهم ... فأقصِري آلَ مَسْعُودٍ ودِينار )
( أمَّا الإِماءُ فما يَدْعونَنِي ولداً ... إذا تُحُدِّثَ عن نقضِي وإمراري )
( يا بِنتَ أمِّ حُدَيْرٍ لو وهبتِ لنا ... ثنتين من مُحكَمٍ بالقِدِّ أوتاري )
( إمَّا جديداً وإمَّا بالياً خَلقاً ... عاد العذارى لِقَطْعَيْهِ بأسْيار )
( لكان ردْءًا قليلا واعتجنتُ له ... صهْباءَ مقَّعَها حاجِي وأسفاري )
( أنا ابنُ أَسماءَ أعمامِي لها وأبِي ... إذا ترامى بنو الإِموانِ بالعارِ )
( قد جرَّب الناسُ عُودي يَقرعُون به ... وأقْصَرُوا عن صليبٍ غير خوَّار )
( ما أرْضع الدَّهرَ إلاَّ ثدْيَ واضِحةٍ ... لواضح الوَجْه يحْمي حَوْزة الجار )
( يَسْتلِب القِرْنَ مُهريهِ وصعْدَتهُ ... حقًّا وينزعُ عنْهُ ذات أزْرار )
( من آلِ سُفيانَ أو ورْقاءَ يمنَعُها ... تحتَ العَجَاجَةِ طَعْنٌ غيرُ عُوَّارِ )
( يَمنعُها كلُّ مَذْرورٍِ بصَعْدَتِه ... نضْحُ الدَّباءِ على عُرْيانَ مِغْوار )

( تَسمعُ فيهمْ إذا استَسْمَعْتَ واعِيَةً ... عَزْفَ القِيانِ وقولا يال عَرْعارِ )
( طِوالُ أنضِية الأعناقِ لم يجدُوا ... ريحَ الإِماء إذا راحَتْ بأزفار )
( والقومُ أعلم أنَّا من خيارهُم ... إذا تقلَّدتُ عَضْباً غيرَ مِيشارِ )
( فرَّا بسَيْري وبردُ الليلِ يضربني ... عُرض الفَلاة ببُنيانٍ وأكوار )
( أمَّا الرَّواسمُ أطلاحا فتعرفُني ... إذا اعتصبتُ على رأْسي بأطمارِ )
( ولم أُنازعْ بني السَّوداء فيئَهمُ ... والعِظِلِميّاتِ من يَعْرٍ وأمْهار )
( فكلُّ سوداء لم تُحلَق عَقِيقتُها ... كأنَّ أصداغَها يُطلَينَ بالقار )
( لقد شَرتني بنو بَكرٍ فما رَبِحتْ ... ولا رأيتُ عليها جَزأة الشّاري )
( إن العُرُوقَ إذا استَنزعتها نزَعَتْ ... والعِرْقُ يسْري إذا ما عَرّسَ السّاري )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال أنشدني الأصمعي للقتال رائية يقول فيها
( إن العُروقَ إذا استنزعتَها نزعَتْ ... والعرقُ يسْري إذا ما عرّس السّاري )
( قد جرّب الناسُ عُودِي يَقرعُون بهِ ... فأقصُروا عن صَليبٍ غير خوّار )
فقال لقد أحسن وأجاد لولا أنه أفسدها بقوله إذا طلب جعلا فلم

يعطه وكان في دناءة نفسه يشبه الحطيئة وكان فارسا شاعرا شجاعا

هجاؤه قومه
وقال السكري في روايته
زوج القتال ابنته أم قيس واسمها قطاة رذاذ بن الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر فمكثت عنده زمانا وولدت له أولادا ثم أغارها فشكت إلى أبيها فاستعدى عليه ورماه بخادمها وجاء رذاذ بالبينة على قذفه إياه بالأمة فأقيم ليضرب فلم تنتصر له عشيرته وقامت عشيرة رذاذ فاستوهبوا حده من صاحبهم فوهبه لهم وكانت عشيرة القتال تبغضه لكثرة جناياته وما يلحقها من أذاه ولا تمنعه من مكروه فقال يهجو قومه
( إذا ما لَقِيتم راكبا مُتعمِّماً ... فقولوا له : ما الرّاكبُ المتعمِّمُ ؟ )
( فإن يَكُ من كَعْبِ بن عَبْدٍ فإنَّه ... لئِيمُ المُحَيَّا حالِكُ اللَّونِ أَدهَمُ )
( دعوتُ أبا كَعْبٍ رَبيعةَ دَعْوةً ... وفَوقِي غَواشي المَوْتِ تُنْحَى وتنْجُمُ )
( ولَم أكُ أدرِي أنَّهُ ثُكْلُ أُمِّهِ ... إذا قيلَ للأَحْرارِ في الكُرْبةِ اقدُمُوا )
( فلو كنتَ من قومٍ كرامٍ أعِزَّةٍ ... لحاميتَ عنِّي حِينَ أَحمَى وأضْرَمُ )
( دعوتُ فكَمْ أسْمَعتُ من كلِّ مُؤْذِنٍ ... قَبيحِ المُحَيَّا شانَهُ الوجْهُ والفَمُ )
( سِوى أنَّ آلَ الحارثِ الخير ذبَّبُوا ... بأعيطَ لا وغْلٌ ولا مُتَهَضَّمُ )

( ألا إنَّهم قوْمِي وقومُ ابن مالِكٍ ... بنو أمّ ذِئب وابنُ كبشةَ خيثَمُ )
( ولكنَّما قَومِي قُماشةُ حاطبٍ ... يُجمِّعُها بالكفِِّ واللَّيْلُ مُظْلِمُ )

طلاقه إحدى زوجيه
قال أبو زيد وحدثني شداد بن عتبة قال
كانت عند القتال بنت ورقاء بن الهيثم بن الهصان وكان جارا لبني الحصين بن الحويرث بن كعب بن عبد بن أبي بكر وكانت لها ضرة عنده يقال لها أم رياح بنت ميسرة بن نفير بن الهصان وهي أم جنوب بنت القتال فخرج القتال في سفر له فلما آب منه أقبل حين أناخ إلى أهله فوجد عند بنت ورقاء جرير بن الحصين فلما رأى جرير القتال نهض فسأل القتال عنه فقالت له امرأته أم رياح وهي صفية ويقال صفيفة بنت الحارث بن الهصان إن هذا البيت لبيت لا نزال نسمع فيه ما لا يعجبنا فطلق القتال بنت ورقاء وهي حامل فولدت له بعد طلاقها المسيب ابنه
وقال السكري في خبره فقال القتال في ذلك
( ولَمَّا أنْ رأيْتُ بني حُصَيْنٍ ... بِهِم جنَفٌ إلى الجاراتِ بادِ )
( خَلَعْتُ عِذارها ولَهِيتُ عنها ... كما خُلِعَ العِذَارُ من الجوادِ )
( وقلت لها : عليكِ بني حُصَيْنٍ ... فما بيني وبينكِ من عوادِ )
( أُنادِيها بأسفلِ وارِداتٍ ... نَكِدتَ أبا المُسَيَّب مَن تُنَادِي ؟ )
وفي رواية السكري
( أُنادِيها وما يومٌ كيومٍ ... قضى فيه امرؤٌ وَطَر الفُؤادِ )

( فرُحْتُ كأنَّني سيفٌ صَقيلٌ ... وعزَّت جارةُ ابنِ أبي قُرادِ )

جرير يضرب أنف القتال
قال ثم إن كلاب بن ورقاء بن حذيفة بن عمار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر نحر جزورا وصنع طعاما وجمع القوم عليه وقال كلوا أيها الفتيان فإن الطعام فيكم خير منه في الشيوخ
فقال القتال أنا والله خير للفتيان منك أرى المرأة قد أعجبت أحدهم فأطلقها له
وفي القوم جرير بن الحصين الذي كان وجده عند امرأته فرفع جرير السوط فضرب به أنف القتال
ثم إنهم أعطوا القتال حقه فلم يقبله حتى أدرك ابناه المسيب وعبد السلام
وقال السكري حتى احتلم ولده الأربعة وهم حبيب وعبد الرحمن وعبد الحي وعمير وأمهم ريا بنت نفر بن عامر بن كعب بن أبي بكر فحملهم على الخيل حين أظلم الليل ثم أتى بهم بني حصين فلقي لقاحا لهم ثمانين فأشمرها وبات يسوقها لا تتخلف ناقة إلا عقرها حتى حبسها على الحصى حين طلعت الشمس والحصى ماء لعبد الله بن أبي بكر فحبسها وزجرهم عنها حتى جاء بنو حصين فعقلوا له من ضربته أربعين بكرة وأهدرت الضربة وإنما أخذ الأربعين بكرة مكرها لأن قومه أجبروه على ذلك

قال شداد وفي ابنه عبد السلام يقول
( عبدَ السَّلام تأمَّل هل ترى ظُعُناً ... إني كبِرتُ وأنت اليوم ذو بَصَر )
( لا يُبعد اللَّهُ فتياناً أَقول لهم ... بالأبْرقِ الفردِ لمّا فاتني نظري )
( يا هَلْ تَرَوْن بأَعلى عاصمٍ ظُعناً ... نكَّبْنَ فحْليْنِ وَاسْتقبلْن ذا بَقرِ )
( صلَّى على عمرةَ الرحمنُ وابنتِها ... ليلى وصَلّى عَلَى جاراتها الأُخَرِ )
( هُنَّ الحرائِرُ لا ربَّاتُ أحمرةٍ ... سودُ المحاجِر لا يقرأنَ بالسُّور )
قال أبو زيد وحدثني شداد بن عقبة قال
أتى الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر ومحصن بن الحارث بن الهصان في نفر من بني أبي بكر القتال وهو محبوس فشرطوا عليه ألا يذكر عالية في شعره وهي التي ينسب بها في أشعاره فضمن ذلك لهم فأخرجوه من السجن عشاء ثم راح القوم من السجن وراح القتال معهم حتى إذا كان في بعض الليل انحدر يسوق بهم ويقول
( قلتُ له يا أخرمُ بنَ مالِ ... )
( إن كنت لم تُزْرِ على وصالِي ... )
( ولم تجِدْني فاحِشَ الخلال ... )
( فارفعْ لنا من قُلُصٍ عِجال ... )
( مُستوسِقاتٍ كالقطا عِبال ... )
( لعلنا نطرُقُ أُمَّ عال ... )

( تخيَّرِي خُيِّرتِ في الرِّجال ... )
( بين قصيرٍ باعُهُ تِنبالِ ... )
( وأمُّهُ راعيةُ الجمال ... )
( تَبيتُ بين القِدْرِ والجِعالِ ... )
( أذاكَ أم مُنْخرِق السِّرْبال ... )
( كريمُ عمٍّ وكريمُ خال ... )
( مُتلِفُ مالٍ ومُفيدُ مال ... )
( ولا تزالُ آخرَ الليالي ... )
( قَلوصُهُ تعثرُ في النِّقال ... )
النقال المناقلة
قال شداد فنزل القوم فربطوه ثم آلوا ألا يحلوه حتى يوثق لهم بيمين ألا يذكرها أبدا ففعل وحلوه
قال وهي امرأة من بني نصر بن معاوية وكانت زوجة رجل من أشراف الحي

يقتل جارية عمه
قال وحدثني أبو خالد قال
كانت لعم القتال سرية فقال له القتال لا تطأها فإنا قوم نبغض أن تلد فينا الإماء فعصاه عمه فضربها القتال بسيفه فقتلها فادعى عمه أنه قتلها وفي بطنها جنين منه فمشى القتال إليها فأخرجها من قبرها

وذهب معه بقوم عدول وشق بطنها وأخرج رحمها حتى رأوه لا حمل فيه فكذبوا عمه فقال في ذلك
( أنا الذي انتَشلْتُها انتِشالاَ ... ثمَّ دعوتُ غِلمةً أزْوالا )
( فصَدَعُوا وكذَّبوا ما قالا ... )
قال وأنشدني له أيضا
( أنا الذي ضَرَبتُها بالمُنْصُلِ ... عِند القُرَيْنِ السائلِ المفضَّلِ )
( ضَرْباً بكفّيْ بَطَلٍ لم يَنْكُلِ ... )
يقول أنا ابن فارس وابن فارس
وقال السكري في روايته
أراد القتال أن يتزوج بنت المحلق بن حنتم فتزوجها عبد الرحمن بن صاغر البكائي فلقي مولاة لها يقال لها جون فقال لها ما فعلت قالت تزوجها عبد الرحمن بن صاغر فقال ما لها ولعبد الرحمن فقالت له ذاك ابن فارس عراد
قال فأنا ابن فارس ذي الرحل وأنا ابن فارس العوجاء ثم انصرف وأنشأ يقول
( يا بنتَ جَونٍ أبانَتْ بنتُ شدَّادِ ؟ ... نَعم لعمري لِغوْرٍ بعدَ إنجادِ )
( لمَطْلع الشَّمْسِ ما هذا بمُنْحَدَرٍ ... نحو الرّبيع ولا هذا بإصعادِ )
( قالت فوارسُ عَرّادٍِ فقلتُ لها : ... وفيم أُمِّيَ من فُرسانِ عَرّادِ )
( فُرسانُ ذي الرَّحْل والعوجاءِ وابنَتِها ... فِدًى لهم رهطُ رَدَّادٍ وشدّادِ )
والقصيدة التي في أولها الغناء المذكور يقولها القتال يحض أخاه وعشيرته

على تخلصه من المطالبة التي يطالب بها في قتل زياد بن عبيد الله واحتمال العقل عنه ويلومهم في قعودهم عن المطالبة بثأر لهم قبل بني جعفر بن كلاب
وكان السبب في ذلك فيما ذكره عمر بن شبة عن حميد بن مالك عن أبي خالد الكلابي قال
كان عمرو بن سلمة بن سكن بن قريظ بن عبد بن أبي بكر أسلم فحسن إسلامه ووفد إلى النبي فاستقطعه حمى بين الشقراء والسعدية والسعدية ماء لعمرو بن سلمة والشقراء ماء لبني قتادة بن سكن بن قريظ وهي رحبة طولها تسعة أميال في ستة أميال فأقطعه إياها فأحماها ابنه جحوش فاسترعاه نفر من بني جعفر بن كلاب خيلهم وفيهم أحدر بن بشر بن عامر بن مالك بن جعفر فأرعاهم فحملوا نعمهم مع خيلهم بغير إذنه فأخبر بذلك فغضب وأراد إخراجهم منه فقاتلوه فكانت بينهم شجاج بالعصي والحجارة من غير رمي ولا طعان ولا تسايف فظهر عليهم جحوش ثم تداعوا إلى الصلح ومشت السفراء بينهم على أن يدعوا جميعا الجراحات فتواعدوا للصلح بالغداة وأخ لجحوش يقال له سعيد في حلقه سلعة وهو شنج متنح عن الحي عند امرأة من بني أبي بكر ترقيه فرجع إلى أخيه ومعه رجلان من قومه يقال لأحدهما محرز بن يزيد وللآخر الأخدر بن الحارث فلقيهم قراد بن الأخدر بن بشر بن عامر بن مالك وابن عمه أبو ذر بن أشهل ورجل آخر من الجعفريين فحمل قراد على سعيد فطعنه فقتله فحذف محرز ابن يزيد فرس قراد فعقرها فأردفه أبو ذر خلفه ولحقوا بأصحابهم الجعفريين

وأوقد جحوش بن عمرو نار الحرب في رأس جرعاء طويلة فاجتمعت إليه بنو أبي بكر وخرج قراد هاربا إلى بشر بن مروان وهو ابن عمته حتى إذا كان بالقنان حميت عليه الشمس فأناخ إلى بيت امرأة من بني أسد فقال في بيتها فبينا هو نائم إذ نبهته الأسدية فقالت له ما دهاك ويحك انظر إلى الطير تحوم حول ناقتك فخرج يمشي إلى ناقته فإذا هي قد خدجت والطير تمزق ولدها فجاء فأخبرها فقالت إن لك لخبرا فأصدقني عنه فلعلَّه أن يكون لك فيه فائدةٌ فأخبرها أنه مطلوب بدم فهو هارب طريد قالت فهل وراءك أحد تشفق عليه فقال أخ لي يقال له جبأة وهو أحب الناس إلي
قالت فإنه في أيدي أعدائك فارجع أو امض فخرج لوجهه إلى بشر
قال ولما حرض القتال قومه على الطلب بثأرهم في الجعفريين وعيرهم بالقعود عنهم مضى جميعهم لقتال بني جعفر فقال لهم الجعفريون يا قومنا ما لنا في قتالكم حاجة وقاتل صاحبكم قد هرب وهذا أخوه جبأة فاقتلوه فرضوا بذلك فأخذوا جبأة فلما صاروا بأسود العين قدمه جحوش فضرب عنقه بأخيه سعيد

قصيدة تحريض
ومما قاله القتال في تحريضهم في قصيدة طويلة
( فيا لأبي بكر ويا لجحَوَّشٍ ... وللَّهِ مَوْلى دَعوةٍ لا يُجابُها )
( أفي كلِّ عامٍ لا تزالُ كتيبةٌ ... ذُؤيْبيَّةٌ تهفُو عليكم عُقابُها )
( لهم جَزَرٌ منكم عَبِيطٌ كأنَّه ... وقاعُ الملوك فتكُها واغتصابُها )

( وأنتمْ عديدٌ في حديدٍ وشِكَّةٍ ... وغابِ رماح يوجِف القلبَ غابُها )
( يُسقَّى ابن بشر ثم يمْسح بطنَه ... وحوْلِي رجالٌ ما يسُوغ شرابُها )
( فما الشرّ كلّ الشر لا خير بعْده ... على الناس إلاّ أن تذلَّ رقابُها )
( نساء ابن بِشرٍ بُدَّنٌ ونساؤنا ... بَلايا عليها كلَّ يومٍ سِلابُها )
( تنام فتقضي نوْمة الليل عِرسُه ... وأُمُّ سعيدٍ ما تنامُ كلابُها )
( فإن نحن لم نغضب لهم فنُثِيبُهم ... وكلّ يدٍ مُوفٍ إلينا ثوابُها )
( فنحنُ بنو اللائي زعمتُم وأنتم ... بنُو مُحصناتٍ لم تدنَّسْ ثِيابُها )

صوت
( ألا للَّهِ دَرُّك مِنْ ... فتَى قَوْمٍ إذا رَهِبُوا )
( وقالوا : منْ فَتىً للحَرْب ... يَرقُبنا ويَرْتقِب )
( فكنتَ فتَاهمُ فيها ... إذا يُدعَى لها يثِبُ )
( ذكرتُ أخي فعاودَني ... صُداعُ الرّأْس والوَصبُ )
( كما يعتادُ ذاتُ البَوِّ ... بعد سُلوّها الطّرب )
( فدمْعُ العيْن من بُرحاءِ ... ما في الصّدر يَنْسَكِبُ )
( كما أودَى بماء الشَّنَّةِ ... المخْروزَة السّرَب )
( على عَبْدِ بن زُهرة طُولَ ... هذا اللّيل أَكتئبُ )
الشعر لأبي العيال الهذلي والغناء لمعبد ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق وابن المكي وغيرهما مما لا يشك فيه من صنعته وفي

الثالث والرابع من الأبيات لمالك خفيف ثقيل عن الهشامي ومن الناس من ينسبه إلى معبد أيضا وفي الأول والثاني والثالث لمعبد أيضا خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر الهشامي وحماد بن إسحاق أنه لابن عائشة وفيه لمالك هزج بالبنصر فيما ذكر حبش

أخبار أبي العيال ونسبه
أبو العيال بن أبي عنترة وقال أبو عمرو الشيباني ابن أبي عنبر بالباء ولم أجد له نسبا يتجاوز هذا في شيء من الروايات وهو أحد بني خناعة بن سعد ابن هذيل وهذا أكثر ما وجدته من نسبه شاعر فصيح مقدم من شعراء هذيل مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ثم أسلم فيمن أسلم من هذيل وعمر إلى خلافة معاوية
وهذه القصيدة يرثي بها ابن عمه عبد بن زهرة ويقال إنه كان أخاه لأمه أيضا
كتب قصيدة فأبكى معاوية والناس
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي فيما قرأته عليه من شعر هذيل عن الرياشي عن الأصمعي
ونسخت أيضا خبره الذي أذكره من نسخة أبي عمرو الشيباني قالا كان عبد بن زهرة غزا الروم في أيام معاوية
وقال أبو عمرو خاصة مع يزيد بن معاوية في غزاته التي أغزاه أبوه إياها فأصيب في تلك الغزاة جماعة من المسلمين من رؤسائهم وحماتهم وكانت شوكة الروم شديدة قتل فيها عبد العزيز بن زرارة الكلابي وعبد بن زهرة

الهذلي وخلق من المسلمين ثم فتح الله عليهم وكان أبو العيال حاضرا تلك الغزاة فكتب إلى معاوية قصيدة قرأها وقرئت على الناس فبكى الناس وبكى معاوية بكاء شديدا جزعا لما كتب به
والقصيدة
( مِنَ أبي العِيال أخي هُذَيْلٍ فاعْلَموا ... قولِي ولا تتجمجَمُوا ما أرسِلُ )
( أبلِغ مُعاويةَ بنَ صَخْرٍ آيةً ... يَهوِي إليه بها البَرِيدُ الأَعجلُ )
( والمرءَ عَمراً فأتِه بصحِيفَةٍ ... مِنّي يَلُوح بها كتابٌ منْمَلُ )
لا تتجمجموا لا تكتموا
والمنمل كأن سطوره آثار نمل
( وإلى ابنِ سَعْدٍ إنْ أُؤخِّرْه فَقَد ... أَزرَى بنا في قَسْمه إذْ يَعْدِلُ )
( وإلى أُولِي الأَحْلام حيثُ لقيتَهُم ... أهلِ البَقيَّةِ والكتابُ المُنْزَلُ )
في ديوان الرجل حيث البقية والكتاب المنزل
( أَنَّا لقِينا بعدكم بدِيارنا ... من جانَب الأمراجَ يوماً يُسأُلُ )
( أمراً تَضيقُ به الصُّدُورُ ودُونَه ... مُهَجُ النُّفوسِ وليس عنه مَعْدِلُ )
( في كلِّ مُعتَركٍ تَرَى مِنّا فتًى ... يَهْوِي كعزلاءِ المَزادةِ تُزغِلُ )
تزغل تدفع دفعا
( أو سَيِّداً كَهْلاً يَمُور دِماغُه ... أو جانِحاً في رأْس رُمْح يَسْعُلُ )

يسعل يشرق بالدم
( وتَرَى النِّبالَ تَعِيرُ في أقْطارِنا ... شُمْساً كأَنَّ نِصالَهُنّ السُّنْبُلُ )
( وتَرَى الرِّماح كأنّما هي بيْنَنا ... أشْطانُ بئْر يُوغلُون ونُوغل )
( حتى إذا رَجَبٌ تَولّى فانْقَضَى ... وجُمَادَيان وَجَاءَ شهْرٌ مُقْبلُ )
( شعْبان قَدَّرْنا لوَقْتِ رَحِيلِهم ... تِسعاً يُعَدّ لها الوفاءُ وتَكمُلُ )
( وتَجرَّدت حرْبٌ يكونُ حِلابُها ... عَلَقاً ويَمرِيهَا الغَوِيُّ المُبطلُ )
( فاستْقبَلُوا طرفَ الصَّعِيدِ إقامةً ... طوْراً وطوراً رِحْلَةً فتحمَّلُوا )

قصيدة بدر بن عامر
قال الأصمعي وأبو عمرو
وكان أبو العيال وبدر بن عامر وهما جميعا من بني خناعة بن سعد بن هذيل يسكنان مصر وكانا خرجا إليها في خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وأبو العيال معه ابن أخ له فبينا ابن أخي أبي العيال قائم عند قوم ينتضلون إذ أصابه سهم فقتله فكان فيه بعض الهيج فخاصم في ذلك أبو العيال واتهم بدر بن عامر وخشي أن يكون ضلعه مع خصمائه فاجتمعا في ذلك في مجلس فتناثا فقال بدر بن عامر
( بَخِلتِ فُطَيْمةُ بالذي تُولِيني ... إلا الكلامَ وقلّ ما يُجدِيني )

( ولقدْ تَناهى القلبُ حين نهيتُه ... عنها وقد يَغوِي إذا يَعصِيني )
( أَفُطَيْمُ هل تدْرِين كم من مَتلفٍ ... جاوزتِ لا مرعًى ولا مسكون ؟ )
يقول فيها
( وأبُو العِيال أخِي وَمَنْ يَعْرِضْ له ... منكم بسُوءٍ يؤْذِني ويَسُوني )
( إنّي وجدتُ أبا العِيَال ورهْطَه ... كالحِصْنِ شُدَّ بجَنْدَلٍ مَوْضُون )
( أعْيَا الغَرانيقَ الدّواهيَ دونه ... فتركْنَهُ وأبَرّ بالتّحْصِين )
( أسدٌ تفِرُّ الأُسْدُ من وثباتِه ... بِعوارض الرُّجّاز أو بِعُيون )
( ولِصَوْتِه زَجَلٌ إذا آنستَه ... جَرّ الرّحى بشَعيرِه الْمطحُونِ )
( وإذا عَددْتَ ذوي الثِّقات وجدتَه ... ممَّنْ يَصُول به إليَّ يمِيني )
فأجابه أبو العيال فقال
( إن البَلاء لدى المَقَاوس مُعرِضٌ ... ما كان من غَيْبٍ ورجْم ظُنُونِ )
في الديوان لدى المقاوس مخرج والمقوس الحبل الذي يمد به على صدور الخيل أي فما كان عنده من خير أو شر فسيخرج عند الرهان والعدو
( وإذا الجوادُ وَنَى وأخلف مِنْسَراً ... ضُمُراً فلا تُوقنْ له بيقين )
( لو كان عِنْدَك ما تقُولُ جعلتَني ... كنزاً لريْبِ الدَّهْر غيرَ ضَنين )
( وَلقد رَمقْتُك في المَجالس كلِّها ... فإذا وأنت تُعِينُ مَنْ يَبغِيني )
( هَلاّ درأَت الخَصْم حين رأَيتَهم ... جَنَفاً عليَّ بألسُنٍ وعُيونِ )

( وزجرتَ عَنِّي كلّ أشْوسَ كاشِح ... ترِع المقالةِ شامخِ العِرْنين )
فأجابه بدر بن عامر فقال
( أقسمتُ لا أنسَى مَنيحَةَ واحدٍ ... حتى تَخَيَّط بالبيَاضِ قُرونِي )
( حتى أصِير بمسْكنٍ أثوِي بِه ... لِقرارِ مُلْحَدَةِ العَداءِ شَطُون )
( ومنَحْتَنِي جَدّاء حين منحتِنِي ... شَحَصاً بمالِئَة الحِلاب لَبُونِ )
الشحص ما ليس فيه لبن من المال
( وحَبَوتُك النُّصْح الذي لا يُشْتَرَى ... بالمال فانْظُر بعْدُ ما تَحبُوني )
( وتأمَّلِ السِّبتَ الذي أحذُوكه ... فانْظر بمثل إمامِه فاحذُوني )
فأجابه أبو العيال
( أقسمتُ لا أنسَى شبابَ قَصيدةٍ ... أبداً فما هذَا الذي يُنسينِي )
( وَلَسوف تَنْساها وتعلم أنّها ... تَبعٌ لآبيةِ العِصابِ زَبُون )
( وَمَنَحْتني فَرضِيتَ رأيَ مَنيحَتِي ... فإذا بِها وَاللَّهِ طيفُ جُنُون )
( جهراءُ لا تألو إذا هي أظْهَرَت ... بَصَراً ولا من حاجةٍ تُغْنِينِي )
( قَرِّب حِذاءَك قاحلا أو لَيِّناً ... فتمنّ في التَّخْصِير وَالتّلْسين )

( وارجع منِحتَك الّتي أتْبعْتها ... هُوْعاً وَحَدّ مُذلَّقٍ مسْنُون )
ولهما في هذا المعنى نقائض طوال يطول ذكرها وليست لها طلاوة إلا ما يستفاد في شعر أمثالهما من الفصاحة وإنما ذكرت ما ذكرت ها هنا منها لأني لم أجد لهذا الشاعر خبرا غير ما ذكرته

صوت
( ألم تسأل بعارمةَ الدِّيارا ... عن الحَيِّ المفارق أين سارا ؟ )
( بل ساءَلتُها فأبتْ جواباً ... وكيف سُؤالك الدِّمَن القفَارا ؟ )
الشعر للراعي والغناء لإسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وابن جامع وإسحاق

نسب الراعي وأخباره
هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
ويكنى أبا جندل والراعي لقب غلب عليه لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها
وهو شاعر فحل من شعراء الإسلام وكان مقدما مفضلا حتى اعترض بين جرير والفرزدق فاستكفه جرير فأبى أن يكف فهجاه ففضحه
وقد ذكرت بعض أخباره في ذلك مع أخبار جرير وأتممتها هنا
قصيدة يمدح بها سعيد بن عبد الرحمن
وقصيدة الراعي هذه يمدح بها سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ابن أبي العيص بن أمية وفيها يقول
( تُرجِّي من سَعيدِ بني لُؤيٍّ ... أَخِي الأعْياص أَنواءً غِزارا )
( تلقَّى نَوْأهُنَّ سِرَارَ شَهْرٍ ... وخَيرُ النَّوء ما لقِي السِّرارا )

( خَليل تَعْزُبُ العِلاَّتُ عنه ... إذا ما حانَ يوماً أن يُزارا )
( متى ما تأْتِه ترجُو ندَاهُ ... فلا بُخْلاً تَخَافُ ولا اعْتِذارا )
( هو الرَّجلُ الذي نَسبت قُريشٌ ... فَصار المجدُ فيها حيْثُ صارا )
( وأنضاءٍ تَحِنّ إلى سَعيدٍ ... طُروقاً ثم عَجَّلن ابْتِكارا )
( على أكْوارِهنَّ بنُو سَبيلٍ ... قليلٌ نوْمُهم إلا غِرارا )
( حَمِدْنَ مَزاره ولقِين منه ... عَطاءً لم يكن عِدَةً ضِمارا )

يسيء إلى جرير بعد أن يقضي للفرزدق عليه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال
وذكره المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه قال
كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير ويفضله وكان راعي الإبل قد ضخم أمره وكان من أشعر الناس فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال ألا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي ويفضله وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم قال جرير
ثم ضربت رأيي فيه فخرجت ذات يوم أمشي إليه
قال ولم يركب جرير دابته وقال والله ما يسرني أن يعلم أحد بسيري إليه
قال وكان لراعي الإبل وللفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها
قال فخرجت أتعرض لها لألقاه من حيال حيث كنت أراه

ثم إذا انصرف من مجلسه لقيته وما يسرني أن يعلم أحد حتى إذا هو قد مر على بغلة له وابنه جندل يسير وراءه راكبا مهرا له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه ويسأله عن بعض السبب فلما استقبلته قلت له مرحبا بك يا أبا جندل
وضربت بشمالي إلى معرفة بغلته ثم قلت يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل علي الفرزدق تفضيلا قبيحا وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم وهو ابن عمي وليس منك ولا عليك كلفة في أمري معه وقد يكفيك من ذلك هين وأن تقول إذا ذكرنا كلاهما شاعر كريم فلا تحمل منه لائمة ولا مني قال فبينا أنا وهو كذلك وهو واقف علي لا يرد جوابا لقولي إذ لحق بالراعي ابنه جندل فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال أراك واقفا على كلب بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا فضرب البغلة ضربة شديدة فزحمتْني زحمة وقعت منها قلنسوتي فوالله لو يعوج علي الراعي لقلت سفيه غوي يعني جندلا ابنه ولكنه لا والله ما عاج علي فأخذت قلنسوتي فمسحتها وأعدتها على رأسي وقلت
( أجندلُ ما تَقولُ بَنُو نُميْر ... إذا ما الأيرُ في اسْتِ أبيك غابا )
قال فسمعت الراعي يقول لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة قال جرير ولا والله ما كانت القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي

حول قصيدته فغض الطرف
فانصرف جرير مغضبا حتى إذا صلى العشاء ومنزله في علية قال ارفعوا

إلي باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ فجعل يهينم فسمعته عجوز في الدار فطلعت في الدرجة حتى إذا نظرت إليه فإذا هو على الفراش عريان لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر فإذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا فلما بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرفَ إنّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فلا كَعْباً بَلغْتَ ولا كِلاَبَا )
فذاك حين كبر ثم قال أخزيته والله أخزيته ورب الكعبة ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد وكان جرير يعرف مجلس الراعي ومجلس الفرزدق فدعا بدهن فادهن وكف رأسه وكان حسن الشعر ثم قال يا غلام أسرج لي فأسرج له حصانا ثم قصد مجلسهم حتى إذا كان بموضع السلام لم يسلم ثم قال يا غلام قل لعبيد الراعي أبعثتك نسوتك تكسبهن المال بالعراق والذي نفس جرير بيده لترجعن إليهن بما يسوءهن ولا يسرهن ثم اندفع في القصيدة فأنشدها فنكس الفرزدق رأسه وأطرق راعي الإبل فلو انشقت له الأرض لساخ فيها وأرم القوم حتى إذا فرغ منها سار فوثب راعي الإبل من ساعته فركب بغلته بشر وعر وتفرق أهل المجلس وصعد الراعي إلى منزله الذي كان ينزله ثم قال لأصحابه ركابكم ركابكم فليس لكم ها هنا مقام فضحكم والله جرير فقال له بعضهم ذلك شؤمك وشؤم جندل ابنك قال فما اشتغلوا بشيء غير ترحلهم قالوا فسرنا والله إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45