كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

كنا يوماً بدار صالح بن علي من عبد القيس ببغداد ومعنا جماعة من أصحابنا فسقط على كنينة في سطحه ديك طار من دار دعبل فلما رأيناه قلنا هذا صيدنا فأخذناه
فقال صالح ما نصنع به قلنا نذبحه فذبحناه وشويناه
وخرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح فطلبه منا فجحدناه وشربنا يومنا فلما كان من الغد خرج دعبل فصلى الغداة ثم جلس على المسجد وكان ذلك المسجد مجمع الناس يجتمع فيه جماعة من العلماء وينتابهم الناس فجلس دعبل على المسجد وقال
( أسْرَ المؤذِّنَ صالحٌ وضيوفُه ... اسْرَ الكميّ هفا خلال الماقِط )
( بَعثوا عليه بَنيهُمُ وبناتِهم ... من بين ناتفةٍ وآخر سامط )
( يتنازعون كأنهم قد أوثقوا ... خاقان أو هزموا كتائب ناعط )
( نهشوه فانتزُعَت له أسنانهم ... وتهشمَت أقفاؤهم بالحائط )
قال فكتبها الناس عنه ومضوا فقال لي أبي وقد رجع إلى البيت ويحكم ضاقت عليكم المآكل فلم تجدوا شيئاً تأكلونه سوى ديك دعبل ثم أنشدنا الشعر وقال لي لا تدع ديكاً ولا دجاجة تقدر عليه إلا اشتريته وبعثت به إلى دعبل وإلا وقعنا في لسانه ففعلت ذلك قال وناعط قبيلة من همدان ومجالد بن سعيد ناعطي قال وأصله جبل نزلوا به فنسبوا إليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال
كان دعبل ينشدني كثيراً هجاء قاله فأقول له فيمن هذا فيقول ما

استحقه أحد بعينه بعد وليس له صاحب فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشعر فيه وذكر اسمه في الشعر
وقد أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أحمد بن أبي كامل بهذا الخبر بعينه وزاد فيه فيما ذكر ابن أبي كامل أنه كان عند صالح هذا في يوم أخذه ديك دعبل قال وهو صالح بن بشر بن صالح بن الجارود العبدي
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني أحمد بن محمد بن أبي أيوب قال
مدح دعبل أبا نضير بن حميد الطوسي فقصر في أمره ولم يرضه من نفسه فقال عند ذلك دعبل فيه يهجوه
( أبا نَضِير تَحلحلْ عن مجالِسنا ... فإن فيك لمن جاراك منتقَصا )
( أنت الحِمار حُرناً إن وقعتَ به ... وإن قصدْتَ إلى معروفه قَمَصا )
( إني هززْتُك لا آلوك مجتهِداً ... لو كنتَ سيفاً ولكني هززْت عصا )
قال فشكاه أبو نَضير إلى أبي تمام الطائي واستعان به عليه فقال أبو تمام يجيب دعبلا عن قوله ويهجوه ويتوعده
( أَدعبِلُ إن تطاولَت الليالي ... عليك فإن شِعري سمّ ساعَهْ )
( وما وَفد المشيب عليك إلا ... بأخلاق الدناءة والضّراعه )
( ووجهُك إن رضيتَ به نَديماً ... فأنت نَسيج وحدِك في الرّقاعه )
( ولو بُدّلتَه وجهاً بوَجه ... لما صلَّيتَ يوماً في جماعه )

( ولكن قد رُزقْت به سِلاحاً ... لو استعصَيتَ ما أعطيتَ طاعه )
( مَناسِب طَيئٍ قُسمَت فدعها ... فليسَتْ مثلَ نِسبتك المُشاعه )
( وروّح مَنْكِبيك فقد أعيدا ... حُطاماً من زِحامك في خُزاعه )
قال العنزي يقول إنك تزاحم خزاعة تدعي أنك منهم ولا يقبلونك
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن أحمدبن أيوب قال
تعرض الخاركي النصري وهو رجل من الأزد لدعبل بن علي فهجاه وسبه فقال فيه دعبل
( وشاعرٍ عرّض لي نفسَه ... لخارك آباؤه تَنْمِي )
( يَشُم عرضي عند ذكري وما ... أمسى ولا أصبح مِن همي )
( فقلت لا بل حبذا أمُّه ... خيّرةٍ طاهرة عِلمي )
( أكذِبُ والله علىأمه ... ككِذبه كان على أمي )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال
لقيت دعبل بن علي فقلت له أنت أجسر الناس عندي وأقدمهم حيث تقول

( إني مِن القوم الذين سيوفُهم ... قتلَتْ أخاك وشرّفتك بمقعد )
( رَفعوا محَلك بَعد طولِ خُموله ... واستنقذوك من الحَضيض الأوهد )
فقال يا أبا إسحق أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة فلا أجد من يصلبني عليها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال
قال دعبل بن علي يرثي ابن عم له من خزاعة نعي إليه قال محمد بن يزيد ولقد أحسن فيها ما شاء
( كانت خزاعة ملء الأرض ما اتسعت ... فَقَّص مر الليالي من حواشيها )
( هذا أبو القاسم الثاوي ببَلْقعة ... تَسقي الرياح عليه من سوافيها )
( هبت وقد علمت أن لا هبوب به ... وقد تكون حسيراً إذ يباريها )
( أضحى قرى للمنايا إذ نزلن به ... وكان في سالف الأيام يقريها )
حدثني الحسن بن مهرويه عن أبيه فذكر أن المنعي إلى دعبل أبو القاسم المطلب بن عبد الله بن مالك وأنه نعي إلى دعبل وكان هو بالجبل فرثاه بهذه الأبيات
أخبرني الأخفش قال حدثنا محمد ين يزيد قال
بلغ إسماعيل بن جعفر بن سليمان أن دعبلاً هجاه فتوعده بالمكروه وشتمه وكان إسماعيل بن جعفر على الأهواز فهرب من زيد بن موسى بن جعفر بن محمد لما ظهر وبيض في أيام أبي السرايا فقال دعبل بن علي يعير إسماعيل بذلك

( لقد خلّف الأهوازَ من خلف ظَهره ... يريد وراء الزاب من أرض كَسْكَر )
( يهوِّل إسماعيلُ بالبيض والقنا ... وقد فرّ مِن زيد بن موسى بن جعفر )
( وعاينته في يومَ خلّى حريمَه ... فيا قبحَها منه ويا حسنَ منظر )

دعبل يتشطر وهو شاب
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني ابن الأعرابي عن أبي خالد الأسلمي قال
كان دعبل بن علي الخزاعي بالكوفة يتشطر وهو شاب وكانت له شعرة جعدة وكان يدهنها ويرجلها حتى تكاد تقطر دهناً وكان يصلت على الناس بالليل فقتل رجلاً صَيرفياً وظن أن كيسه معه فوجد في كمه رماناً فهرب من الكوفة وكنت إذا رأيت دعبلاً يمشي رأيت الشطارة في مشيته وتبختره
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال
كان عمير الكاتب أقبح الناس وجهاً فلقي دعبلاً يوماً بكرة وقد خرج

لحاجة له فلما رآه دعبل تطير من لقائه فقال فيه
( خَرجتُ مبكراً من سُرَّ مَن را ... أبادر حاجة فإذا عُمَيرُ )
( فلم أثنِ العِنان وقلت أمضي ... فوجهك يا عميرُ خِراً وخَير )
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال حدثني دعبل قال
مدحت عبد الرحمن بن خاقان وطلبت منه برذوناً فبعث إلي ببرذون غامز فكتبت إليه
( حملتَ على قارح غامز ... فلا لِلركوب ولا للثمنْ )
( حملتَ على زَمِنٍ ظالع ... فسوف تُكافا بشُكر زمِن )
فبعث إلي ببرذون غيره فاره بسرجه ولجامه وألفي درهم
قال ابن مهرويه وحدثني إسحاق بن إبراهيم العكبري عن دعبل أنه مدح يحيى بن خاقان فبعث إليه بهذا البرذون
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال قال الحسين بن دعبل كان أبي يختلف إلى الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث وهو خرجه وفهمه وأدبه فظهر له منه جفاء وبلغه أنه يعيبه ويذكره وينال منه فقال يهجوه

( يا بؤسَ للفضل لو لم يأت ما عابه ... يستفرغ السم من صماء قرضابه )
( ما إن يزال وفيه العيب يجمعه ... جهلاً لأعراض أهل المجد عيّابه )
( إن عابني لم يَعب إلا مِؤدِّبَه ونفسَه عاب لما عاب أدَّابه )
( فكان كالكلب ضَرّاه مكلِّبُه ... لِصيده فعدا فاصطاد كَلاّبه )
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو جعفر العجلي قال
كان أحمد بن أبي داود يطعن على دعبل بحضرة المأمون والمعتصم ويسبه تقرباً إليهما لهجاء دعبل إياهما وتزوج ابن أبي داود امرأتين من بني عجل في سنة واحدة فلما بلغ ذلك دعبلا قال يهجوه
( غَصبْتَ عِجلاً على فَرَجَين في سنة ... أفسدتَهُمْ ثم ما أصلحْتَ من نَسبكْ )
( ولو خَطبْتَ إلى طَوق وأسرتِه ... فزوجوك لما زادوك في حسبك )
( بِك من هوِيت ونَلْ ما شئت من نَشَب ... أنت ابنُ زرياب منسوباً إلى نَشبك )

( إن كان قوم أراد الله خِزيهمُ ... فزوجوك ارتغاباً منك في ذهبك )
( فذاك يوجِب أن النبْعَ تجمعه ... إلى خلافك في العيدان أو غَربك )
( ولو سكَتّ ولم تخطب إلى عرب ... لما نشبْتَ الذي تطويه من سبيك )
( عُدّ البيوتَ التي ترضى بِخطبتها ... تجد فَزارةً العكليَّ من عرَبك )
قال فلقيه فزارة العكلي فقال له يا أبا علي ما حملك على ذكري حتى فضحتني وأنا صديقك قال يا أخي والله ما اعتمدتك بمكروه ولكن كذا جاءني الشعر لبلاء صبه الله عز و جل عليك لم أعتمدك به
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو خالد الأسلمي الكوفي قال
اجتمعت مع دعبل في منزل بعض أصحابنا وكانت عنده جارية مغنية صفراء مليحة حسنة الغناء فوقع لها العبث بدعبل والعنت والأذى له ونهيناها عنه فما انتهت فأقبل علينا فقال اسمعوا ما قلت في هذه الفاجرة فقلنا هات فقد نهيناها فلم تنته فقال
( تَخضِب كفّا قُطعت من زَندها ... فتخضِب الحنّا من مُسوّدها )
( كأنها والكحل في مِرْودها ... تَكحَل عينيها ببعض جلدها )
( أشبهُ شيء آسْتُها بخدّها ... )
قال فجلست الجارية تبكي وصارت فضيحة واشتهرت بالأبيات فما انتفعت بنفسها بعد ذلك
دعبل يُحبس ويُضرب
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون قال حدثني أبي وخالدٌ

قالا
كان دعبل قد جنى جناية بالكوفة وهو غلام فأخذه العلاء بن منظور الأسدي وكان على شرطة الكوفة من قبل موسى بن عيسى فحبسه فكلمه فيه عمه سليمان بن رزين فقال أضربه أنا خير من أن يأخذه غريب فيقطع يده فلعله أن يتأدب بضربي إياه ثم ضربه ثلثمائة سوط فخرج من الكوفة فلم يدخلها بعد ذلك إلا عزيزاً
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال
كان دعبل يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها ويرجع وقد أفاد وأثرى وكانت الشراة والصعاليك يلقونه فلا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه ثقيف وشعف وكانا مغنيين فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم فكانوا قد عرفوه وألفوه لكثرة أسفاره
وكانوا يواصلونه ويصلونه وأنشدني دعبل بن علي لنفسه في بعد أسفاره
( حللْتُ محلاً يقصر البرق دونه ... ويعجِز عنه الطيفُ أن يتجشما )
أخبرني الحسنُ بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال
قال لي البحتري دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد

فقلت له وكيف ذلك قال لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم ومذهبه أشبه بمذاهبهم وكان يتعصب له
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا الفضل بن الحسن بن موسى البصري قال
بات دعبل ليلة عند صديق له من أهل الشأم وبات عندهم رجل من أهل بيت لهياني يقال له حوى بن عمرو السككي جميل الوجه فدب إليه صاحب البيت وكان شيخاً كبيراً فانياً قد أتى عليه حين فقال فيه دعبل
( لولا حوىً لبيت لهياني ... ما قام أَير العزب الفاني )
( له دواة في سراويله ... يليقها النازح والداني )
قال وشاع هذان البيتان فهرب حوى من ذلك البلد وكان الشيخ إذا رأى دعبلاً سبه وقال فضحتني أخزاك الله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن الأشعث قال سمعت دعبلاً يقول
ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمر الجرجاني قال
دخل دعبل بن علي الري في أيام الربيع فجاءهم ثلج لم يروا مثله في الشتاء فجاء شاعر من شعرائهم فقال شعراً وكتبه في رقعة هو

( جاءنا دِعبِل بِثلج من الشعر ... فجادت سماؤنا بالثلوج )
( نزل الرّيّ بعد ما سكن البردُ ... وقد أينَعَتْ رياض المروج )
( فكسانا بِبرده لا كساه الله ... ثوباً من كُرْسُف محلوج )
قال فألقى الرقعة في دِهليز دِعبِل فلما قرأها ارتحل عن الرّيّ
أخبرني محمد بن عمران قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو خالد الأسلمي قال
عرضت لدعبل حاجة إلى صالح بن عطية الأضجم فقصر عنها ولم يبلغ ما أحبه دعبل فيها فقال يهجوه
( أحسنُ ما في صالح وجهه ... فقِسْ على الغائب بالشاهد )
( تأملَتْ عيني له خِلقة ... تدعو إلى تَزنية الوالد )
فتحمل عليه صالح بي وبجماعة من إخوانه حتى كف عنه وعرض عليه قضاء الحاجة فأباها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال
فخر قوم من خزاعة على دعبل بن علي يقال لهم بنو مكلم الذئب وكان جدهم جاء إلى النبي أن الذئب أخذ من غنمه شاة فتبعه فلما غشيه بالسيف قال له ما لي ولك تمنعني رزق الله قال فقلت يا عجبا لذئب يتكلم فقال أعجب منه أن محمداً نبي قد بعث بين أظهركم وأنتم لا تتبعونه فبنوه يفخرون بتكليم الذئب جدهم فقال دعبل بن علي يهجوهم
تِهْتُمْ علينا بأنّ الذئب كلمكمْ ... فقد لَعَمري أبوكم كلَّم الذيبا )

( فكيف لو كلّم الليثَ الهصورَ إذا ... أفَنيتم الناسَ مأكولاً ومشروبا )
( هذا السُّنَيدي لا أصل ولا طُرَف ... يكلّم الفيل تصعيداً وتصويباً )

دعبل يهجو محمد بن عبد الملك الزيات
حدثني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبي قال
كان دعبل قد مدح محمد بن عبد الملك الزيات فأنشده ما قاله فيه وفي يده طومار قد جعله على فمه كالمتكئ عليه وهو جالس فلما فرغ أمر له بشيء لم يرضه فقال يهجوه
( يا مَن يُقلِّب طُوماراً ويلثَمه ... ماذا بقلبك من حُبِّ الطوامير )
( فيه مَشابِه من شيء تُسَرّ به ... طُولاً بطول وتدويراً بتدوير )
( لو كنْتَ تجمعَ أموالاً كَجَمْعِكها ... إذا جمعْتَ بيوتاً من دنانير )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبي قال
نزل دعبل بحمص على قوم من أهلها فبرّوه ووصلوه سوى رجلين منهم يقال لأحدهما أشعث وللآخر أبو الصّناع فارتحل من وقته من حمص وقال فيهما يهجوهما
( إذا نَزل الغريب بأرض حِمص ... رأيتَ عليه عِزّ الإمتناع )
( سُموُّ المكرمات بآل عيسى ... أحَلّهُم على شرف التّلاع )
( هناك الخزّ يلبَسه المُغَالِي ... وعيسى منهمُ سَقَط المتاع )

( فَسدَّد لاست أشعثَ أيرَ بَغل ... وآخرَ في حِرِأمّ أبي الصناع )
( فليس بِصانع مَجداً ولكن ... أضاع المجدَ فهْو أبو الضياع )
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن الحسين بن دعبل قال قال أبي في الفضل بن مروان
( نصحْتُ فأخلصْتُ النصيحة للفضل ... وقلت فسيّرْتُ المقالة في الفضل )
( ألا إنّ في الفضل بن سهل لَعبرة ... إن اعتبر الفضلُ بنُ مروان بالفضل )
( وللِفضل في الفضل بن يحيى مواعظ ... إذا فكّر الفضل بنُ مروان في الفضل )
( فابقِ جميلاً من حديث تَفُز به ... ولا تدَع الإحسان والأخذَ بالفضل )
( فإنك قد أصبحت للمُلك قَيِّماً ... وصرْت مكانَ الفضل والفضلِ والفضل )
( ولم أرَ أبياتاً من الشِّعر قبلها ... جميعُ قوافيها على الفضل والفضل )
( وليس لها عَيب إذا هي أَنشدَت ... سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل )
فبعث إليه الفضل بن مروان بدنانير وقال له قدقبلت نصحك فاكفني خيرك وشرك
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هرون قال حدثني أبو الطيب الحراني قال
أنشد رجل دعبل بن علي شعرا له فجعل يعيبه وينبهه على خطئه فيه بيتاً بيتاً ويقول أي شيء صنعت بنفسك ولم تقول الشعر إذا لم تقدر إلا على مثل هذا منه إلى أن مر له بيت جيد فقال دعبل أحسنت أحسنت

ما شئت فقال له يا أبا علي أتقول لي هذا بعد ما مضى فقال له يا حبيبي لو أن رجلا ضرط سبعين ضرطة ما كان بمنكر أن يكون فيها دستنبوية واحدة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن حاتم المؤدب قال
قيل للمأمون إن دعبل بن علي قد هجاك فقال وأي عجب في ذاك هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني أنا ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي ثم قال للجلساء من كان منكم يحفظ شعره في أبي عباد فلينشدنيه فأنشده بعضهم
( أولى الأمور بضَيعة وفساد ... أمرٌ يدبِّره أبو عبّاد )
( خَرِقٌ على جلسائه فكأنهم ... حضروا لملْحَمَة ويوم جِلاد )
( يَسْطو على كُتابه بِدواته ... فمُضَمَّخ بِدَمٍ ونَضْحِ مداد )
( وكأنه من دَبْر هِزْقِلَ مُفلِت ... حَرِدٌ يَجر سلاسل الأقياد )
( فاشدد أميرَ المؤمنينَ وثاقه ... فأصَحّ منه بقيّةُ الحداد )
قال وكان بقية هذا مجنوناً في المارستان فضحك المأمون وكان إذا نظر إلى أبي عباد يضحك ويقول لمن يقرب منه والله ما كذب دعبل في قوله
حدثني جحظة عن ميمون بن هارون فذكر مثله أو قريبا منه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن أحمد الحكيم قالا حدثنا أنس بن عبد الله النبهاني قال حدثني علي بن المنذر قال حدثني

عبد الله بن سعيد الأشقري قال حدثني دعبل بن علي قال
لما هربت من الخليفة بت ليلة بنيسابور وحدي وعزمت على أن أعمل قصيدة في عبد الله بن طاهر في تلك الليلة فإني لفي ذلك إذ سمعت والباب مردود علي السلام عليكم ورحمة الله أنج يرحمك الله فاقشعر بدني من ذلك ونالني أمر عظيم فقال لي لا تُرع عافاك الله فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن طرأ إلينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك
( مدارس آياتٍ خلَت من تلاوة ... ومنزلُ وحي مقفرُ العرَصات )
فأحببت أن أسمعها منك قال فأنشدته إياها فبكى حتى خر ثم قال رحمك الله ألا أحدثك حديثاً يزيد في نيتك ويعينك على التمسك بمذهبك قلت بلى قال مكثت حيناً أسمع بذكر جعفر بن محمد عليه السلام فصرت إلى المدينة فسمعته يقول حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله قال علي وشيعته هم الفائزون ثم ودعني لينصرف فقلت له يرحمك الله إن رأيت أن تخبرني باسمك فافعل قال أنا ظبيان بن عامر
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني إسحاق بن محمد

النخعي وأخبرني به الحليمي عن يعقوب بن إسرائيل عن إسحاق النخعي قال
كنت جالساً مع دعبل بالبصرة وعلى رأسه غلامه ثقيف فمر به أعرابي يرفل في ثياب خز فقال لغلامه ادع لي هذا الأعرابي فأومأ الغلام إليه فجاء فقال له دعبل ممن الرجل قال من بني كلاب قال من أي كلاب أنت قال من ولد أبي بكر فقال دعبل أتعرف القائل
( ونُبئْتُ كلباً من كلاب يسبني ... ومحض كلاب يقطع الصلوات )
( فإن أنا لم أُعلم كلاباً بأنها ... كلاب وأني باسل النِّقَمات )
( فكان إذاً من قيس عَيلان والدي ... وكانت إذاً أمي من الحَبَطات )
قال وهذا الشعر لدعبل يقوله في عمرو بن عاصم الكلابي فقال له الأعرابي ممن أنت فكره أن يقول له من خزاعة فيهجوهم فقال أنا أنتمي إلى القوم الذين يقول فيهم الشاعر
( أناس عليُّ الخيرِ منهم وجعفر ... وحمزة والسَّجَّادُ ذو الثَّفِنات )
( إذا فخَروا يوماً أتَوا بمحمد ... وجبريلَ والفرقان والسُّوَرات )

فوثب الأعرابي وهو يقول ما لي إلى محمد وجبريل والفرقان والسورات مرتقى
أخبرني الكوكبي قال حدثني ابن عبدوس قال
سأل دعبل نصر بن منصور بن بسام حاجة فلم يقضها لشغل عرض له دونها فقال يهجو بني بسام
( حواجبٌ كالجبال سودٌ ... إلى عثانين كالمخالي )
( وأوجُهٌ جَهْمة غِلاظٌ ... عُطْل من الحسن والجمال )
أخبرني الكوكبي قال حدثني ميمون بن هرون قال
لما ولي أحمد بن أبي خالد الوزارة في أيام المأمون قال دعبل بن علي يهجوه
( وكان أبو خالد مَرّة ... إذا بات متّخماً عاقدا )
( يضيق بأولاده بطنُه ... فيخراهمُ واحداً واحدا )
( فقد ملأ الأرض من سَلحه ... خنافسَ لا تشبه الوالدا )

هرب إلى الجبل وهجا المعتصم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو ناجية قال
كان المعتصم يبغُض دعبلا لطول لسانه وبلغ دعبلاً أنه يريد اغتياله وقتله فهرب إلى الجبل وقال يهجوه

( بكى لِشتات الدِّين مكتئب صبّ ... وفاض بفَرْط الدمع من عينه غربُ )
( وقام إمام لم يكن ذا هداية ... فليس له دين وليس له لبُّ )
( وما كانت الآباء تأتي بمثلِه ... يُملَّك يوماً أو تَدينُ له العُرب )
( ولكن كما قال الذين تتابعوا ... مِن السلَف الماضين إذ عظُم الخطب )
( ملوك بني العباس في الكُتْب سبعة ... ولم تأتنا عن ثامن لهمُ كتب )
( كذلك أهلُ الكهف في الكهفِ سبعة ... خيارٌ إذا عُدّوا وثامنهُم كلب )
( وإني لأُعلي كلبَهم عنك رفعةً ... لأنك ذو ذَنْب وليس له ذَنْب )
( لقد ضاع ملكُ الناس إذ ساس ملكَهم ... وَصيف وأشناسٌ وقد عظُم الكرب )
( وفضلُ بنُ مروانٍ يُثلِّم ثَلَمةً ... يظل لها الإسلام ليس له شَعْب )
أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هرون قال
لما مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه
( قد قلتُ إذ غيّبوه وانصرفوا ... في خَير قبرٍ لِخَير مدفون )
( لن يَجبُر الله أمةً فقدت ... مثلَك إلا بمثل هارون )
فقال دعبل يعارضه
( قد قلْتُ إذ غيّبوه وانصرفوا ... في شرّ قبرٍ لشر مدفون )
( اذهب إلى النار والعذاب فما ... خِلْتُك إلا من الشياطين )
( ما زلْتَ حتى عقدتَ بيعة مَن ... أضرّ بالمسلمين والدين )

قال عمي حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال
أنشد دعبل بن علي يوماً قول بعض الشعراء
( قد قلتُ إذ غيّبوه وانصرفوا ... )
وذكر البيتين والجواب ولم يسم قائل المرثية ولا نسبه إلى محمد بن عبد الملك الزيات ولا غيره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال
سألت دعبلا عن هذه الأبيات
( ملوكُ بني العباس في الكتْب سبعة ... )
فأنكر أن تكون له فقلت له فمن قالها قال من حشا الله قبره ناراً إبراهيم بن المهدي أراد أن يغري بي المعتصم فيقتلني لهجائي إياه
أخبرني عمي والحسن بن علي جميعا قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال كنت عند أحمد بن المدبر ليلة من الليالي فأنشدته لدعبل في أحمد بن أبي داود قوله
( إنّ هذا الذي دُواد أبوه ... وإياد قد أكثر الأنباء )
( ساحقتْ أُمّه ولاط أبوه ... ليت شِعري عنه فمِن أين جاء )
( جاء مِن بين صخرَين صلوتَينْ ... عَقامَين يُنِيتان الهَباء )
( لا سِفاحٌ ولا نِكاح ولا ما ... يوجب الأمهاتِ والآباء )
قال فاستعادها أربع مرات فظننت أنه يريد أن يحفظها ثم قال لي جئني بدعبل حتى أوصله إلى المتوكل فقلت له دعبل موسوم بهجاء الخلفاء

والتشيع وإنما غايته أن يخمل ذكره فأمسك عني ثم لقيت دعبلافحدثته بالحديث فقال لو حضرت أنا أحمد بن المدبر لما قدرت أن أقول أكثر مما قلت
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن جرير قال
أنشدني عبيد الله بن يعقوب هذا البيت وحده لدعبل يهجو به المتوكل وما سمعت له غيره فيه
( ولست بقائل قَذْعاً ولكن ... لأمرٍ ما تعبَّدك العبيد )
قال يرميه في هذا البيت بالأبنة
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال
كنت مع دعبل بالصيمرة وقد جاء نعي المعتصم وقيام الواثق فقال لي دعبل أمعك شيء تكتب فيه فقلت نعم وأخرجت قرطاساً فأملى علي بديها
( الحمدُ لله لا صبر ولا جلَدُ ... ولا عزاء إذا أهلُ البَلا رَقدوا )
( خليفةٌ مات لم يَحزن له أحد ... وآخرٌ قام لم يَفرح به أحد )
حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن عبيد الله بن ناصح قال
قلت لدعبل وقد عرض علي قصيدة له يمدح بها الحسن بن وهب

أولها
( أعاذِلَتي ليس الهوَى من هوائيا ... )
فقلت له ويحك أتقول فيه هذا بعد قولك
( أين مَحَلّ الحيِّ يا حادي ... خبِّر سقاك الرائحُ الغادي )
وبعد قولك
( قالت سلاَمة أينُ المال قلت لها ... المال ويحِك لاقى الحمدَ فاصطحبا )
وبعد قولك
( فَعَلى أيمانِنا يجري الندَى ... وعلى أسيافنا تجري المُهجْ )
والله إني أراك لو أنشدته إياها لأمر لك بصَفع قفاك فقال صدقت والله ولقد نبهتني وحذرتني ثم مزقها
أخبرني عمي قال حدثني العنزي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال
غضِب دعبل على أبي نصر بن جعفر بن محمد بن الأشعث وكان دعبل مِؤدبه قديما لشيء بلغه عنه فقال يهجو أباه
( ما جعفرُ بنُ محمدِ بنِ الأشعث ... عندي بخيرٍ أبوّةً من عَثعثِ )
( عبثا تُمارسُ بي تُمَارسُ حية ... سَوّارة إن هِجتَها لم تلبث )
( لو يَعلم المغرور ماذا حاز من ... خزي لوالده إذاً لم يعبث )
قال فلقيه عثعث فقال له عليك لعنة الله أي شيء كان بيني وبينك حتى ضربت بي المثل في خسة الآباء فضحك وقال لا شيء والله اتفاق اسمك واسمِ ابن الأشعث في القافية أولا ترضى أن أجعلَ أباك وهو

أسود خيراً من آباء الأشعث بن قيس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن سهل القاري وكان يلقب أرزة قال حدثني دعبل بن علي الخزاعي قال
كتبت إلى أبي نهشل بن حميد الطوسي قوله
( إنما العيش في مُنادمِة الإخوان ... لا في الجلوس عند الكَعَابِ )
( وبِصِرْفٍ كأنها ألسُن البرَق ... إذا استعرضَت رقيق السحاب )
( إن تكونوا تركتمُ لذة العيش ... حِذار العِقاب يومَ العقاب )
( فدَعُوني وما ألذّ وأهوَى ... وادفعوا بي في صدر يوم الحساب )

دعبل وعلي بن موسى الرضا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني موسى بن عيسى المروزي وكان منزله بالكوفة في رحبة طيىء قال
سمعت دعبل بن علي وأنا صبي يتحدث في مسجد المروزية قال دخلت على علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال لي أنشدني شيئاً مما أحدثت فأنشدته
( مدارس آيات خلَتْ من تلاوة ... ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرَصات )
حتى انتهيت إلى قولي
( إذا وُتِروا مدّوا إلى واتريهمُ ... أكفّاً عن الأوتار منقبضات )

قال فبكى حتى أغمي عليه وأومأ إلي خادم كان على رأسه أن اسكت فسكت ساعة ثم قال لي أعد فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي أن اسكت فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي أعد فأعذت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً فأصحابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي أن اسكت فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي أعد فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها فقال لي أحسنت ثلاث مرات ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن دفعت إلى أحد بعد وأمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إلي الخادم فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم اشتراها مني الشيعة فحصل لي مائة ألف درهم فكان أول مال اعتقدته
قال ابن مهرويه وحدثني حذيفة بن محمد
أن دعبلاً قال له إنه استوهب من الرضا عليه السلام ثوباً قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصباً وقالوا له إن شئت أن تأخذ المال فافعل والا فأنت أعلم فقال لهم إني والله لا أعطيكم إياها طوعاً ولا تنفعكم غصباً وأشكوكم إلى الرضا عليه السلام فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين الألف الدرهم وفْرد كم من بطانتها فرضي بذلك
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
بويع إبراهيم بن المهدي ببغداد وقد قل المال عنده وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوغاد الناس فاحتبس عنهم العطاء

فجعل إبراهيم يسوفهم ولا يرون له حقيقة إلى أن خرج إليهم رسوله يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرّح لهم بأنه لا مال عنده فقال قوم من غوغاء أهل بغداد أخرجوا إلينا خليفتنا ليغني لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاء لهم فأنشدني دعبل بعد ذلك بأيام قوله
( يا معشَرَ الأجناد لا تقنَطوا ... وارضَوْا بما كان ولا تَسخطوا )
( فسوف تعطَون حُنَيْنِيّة ... يلتذها الأمرد والأشمط )
( والمعبَدِيّات لقوّادكم ... لا تدخل الكِيس ولا تُربط )
( وهكذا يَرزق قوّاده ... خليفةٌ مُصحفُه البَرْبط )
وزادني فيها جعفر بن قدامة
( قد خَتم الصك بأرزاقكم ... وصحّح العزمَ فلا تسخطوا )
( بَيعة إبراهيم مشؤومة ... يُقتَل فيها الخلق أو يُقْحَطُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو علي يحيى بن محمد بن ثوابةالكاتب قال حدثني دعبل قال
كان لي صديق متخلف يقول شعرا فاسدا مرذولا وأنا أنهاه عنه إذا أنشدني فأنشدني يوما
( إنّ ذا الحُبّ شديدٌ ... ليسَ يُنجيه الفِرارُ )
( ونجا مَن كان لا يعشق ... من ذلّ المخازي )

فقلت له هذا لا يجوز البيت الأول على الراء والبيت الثاني على الزاي فقال لا تنقطه فقلت له فالأول مرفوع والثاني مخفوض فقال أنا أقول له لا تنقطه وهو يشكله
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن زكريا بن ميمون الفرغاني قال
سمعت دعبل بن علي يقول في كلام جرى ليسك فأنكرته عليه فقال دخل زيد الخيل على النبي له يا زيد ما وصف لي رجل إلا رأيته دون وصفه ليسك يريد غيرك
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن عبد الله بن سعد قال قال لي دعبل وقد أنشدته قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصراني الحربي
( زُنّارُه في خصره معقود ... كأنه من كبِدي مقدود )
فقال والله ما أعلمني حسدت أحداً على شعر كما حسدت بكراً على قوله كأنه من كبدي مقدود
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال سمعت الجاحظ يقول سمعت دعبل بن علي يقول
مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذرّ شارقه إلا وأنا أقول فيه شعراً

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال سمعت دعبل بن علي يقول
دخلت على أبي الحارث جميز وقد فلج لأعوده وكان صديقي فقلت ما هذا يا أبا الحارث فقال أخذت من شعري ودخلت الحمام فغلط بي الفالج وظن أني قد احتجمت فقلت له لو تركت خفة الروح والمجون في موضع لتركتهما في هذا الموضع وعلى هذه الحال

المأمون يسأل عن شعره
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن صدقة قال حدثني أبي قال حدثني عمرو بن مسعدة قال
حضرت أبا دلف عند المأمون أي شيء تروي لأخي خزاعة يا قاسم فقال وأي أخي خزاعة يا أمير المؤمنين قال ومن تعرف فيهم شاعراً فقال أما من أنفسهم فأبو الشيص ودعبل وابن أبي الشيص وداود بن أبي رزين وأما من مواليهم فطاهر وابنه عبد الله فقال ومن عسى في هؤلاء أن يسأل عن شعره سوى دعبل هات أي شيء عندك فيه فقال وأي شيء أقول في رجل لم يسلم عليه أهل بيته حتى هجاهم فقرن إحسانهم بالإساءة وبذلهم بالمنع وجودهم بالبخل حتى جعل كل

حسنة منهم بإزاء سيئة قال حين يقول ماذا قال حين يقول في المطلب بن عبد الله بن مالك وهو أصدق الناس له وأقربهم منه وقد وفد إليه إلى مصر فأعطاه العطايا الجزيلة وولاه ولم يمنعه ذلك من أن قال فيه
( اضرِب ندَى طلحةِ الطّلحات متئداً ... بلَوْم مطّلب فينا وكن حكما )
( تخرجْ خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تُحسُّ لها لؤماً ولا كرما )
قال فقال المأمون قاتله الله ما أغوصه وألطفه وأدهاه وجعل يضحك ثم دخل عبد الله بن طاهر فقال له أي شيء تحفظ يا عبد الله لدعبل فقال أحفظ أبياتاً له في أهل بيت أمير المؤمنين قال هاتها ويحك فأنشده عبد الله قول دعبل
( سَقياً ورَعياً لأيام الصباباتِ ... أيام أرفُل في أثواب لذاتي )
( أيام غصني رَطيب من لَيانته ... أصبو إلى غير جارات وكَنّات )
( دعْ عنك ذكرَ زمان فات مطلبُه ... واقذِف برِجلِك عن مَتن الجهالات )
( واقصِد بكل مديح أنت قائله ... نحو الهُداة بنى بَيت الكرامات )
فقال المأمون إنه قد وَجد والله مقالاً فقال ونال ببعيد ذكرهم مالا يناله في وصف غيرهم ثم قال المأمون لقد أحسن في وصف سفر سافره فطال ذلك السفر عليه فقال فيه
( ألمْ يأنِ للسَّفر الذين تَحملوا ... إلى وطنٍ قبل الممات رجوع )
( فقلتُ ولم أملكِ سوابق عَبرة ... نطقن بما ضُمت عليه ضلوع )

تبيّنْ فكم دار تفرّق شَمْلها ... وشملٍ شتيت عاد وهو جميع )
( كذاك الليالي صرفُهنّ كما ترى ... لكل أناس جَدْبةٌ وربيع )
ثم قال ما سافرت قطّ إلا كانت هذه الأبيات نُصب عيني في سفري وهجيري ومسليتي حتى أعود
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني المبرد ومحمد بن الحسن بن الحرون قالا قال دعبل
خرجت إلى الجبل هارباً من المعتصم فكنت أسير في بعض طريقي والمكاري يسوق بي بغلاً تحتي وقد أتعبني تعباً شديداً فتغنى المكاري في قولي
( لا تَعجبي يا سلم من رجل ... ضحِك المشيب برأسه فبكى )
فقلت له وأنا أريد أن أتقرب إليه وأكف ما يستعلمه من الحث للبغل لئلا يتعبني تعرف لمن هذا الشعر يا فتى فقال لمن ناك أمه وغرم درهمين فما أردي أي أموره أعجب من هذا الجواب أم من قلة الغرم على عظم الجناية
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال
حضرت مجلس محمد بن طاهر وحضرته مغنية يقال لها شنين مشهورة فغنت
( لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى )

ثم غنت بعده
( لقد عجبَتْ سلمى وذاك عجيب ... )
فقلت لها ما أكثر تعجب سلمى هذه فعلمت أني أعبث بها لأسمع جوابها فقالت متمثلة غير متوقفة ولا متفكرة
( فهُلك الفتى ألا يَراح إلى نَدىً ... وألا يَرى شيئاً عجيباً فيعجبا )
فعجبت والله من جوابها وحدته وسرعته وقلت لمن حضر والله لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيراً منه مستظرفاً

نسبة هذا الصوت
صوت
( لقد عجِبَت سلمى وذاك عجيب ... رأت بيَ شيباً عجّلته خُطوب )
( وما شيبَّتْني كَبرةٌ غير أنني ... بِدَهر به رأس العظيم يشيب )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من كتاب ابنه أحمد
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد المرتجل بن أحمد بن يحيى المكي قال
كان أبي صديقاً لدعبل كثير العشرة له حافظاً لغيبه وكل شعر يغنى

فيه لدعبل فهو من صنعة أبي و غناني من صنعة أبيه في شعر دعبل والطريقة فيه خفيف ثقيل في مجرى البنصر
صوت
( سَرَى طيفُ ليلى حين آن هُبوبُ ... وقضّيتُ شوقاً حين كاد يذوب )
( فلم أرَمطروقاً يُحَلّ بِرَحله ... ولا طارقاً يَقرى المنى ويُثيب )
وأنشدني عمي هذين البيتين عن أحمد بن أبي طاهر وابن مهرويه جميعاً لدعبل
حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
سألت دعبلا من الذي يقول
( ملوك بني العباس في الكتْبِ سبعة )
فقال من أضرم الله قبره ناراً إبراهيم بن المهدي قال ابن أبي سعد وحدثني عبد العزيز بن سهل أنه سأله عنها فاعترف بها
حدثني عمي قال أنشدني ابن أخي دعبل لعمه في طاهر بن الحسين وكان قد نقم عليه أمراً أنكره منه
( وذي يمينَين وعينٍ واحدهْ ... نُقصانُ عَين ويمينٌ زائدهْ )
( نَزْرُ العطيات قليل الفائدهْ ... أعضّه الله بِبَظْر الوالدهْ )
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال كان دعبل قد مدح دينار بن عبد الله وأخاه يحيى فلم يرض ما فعلاه فقال يهجوهما

( ما زال عصياننا للهِ يُرذِلنا ... حتى دُفعنا إلى يحيى ودينارِ )
( وَغْدَين عِلْجَين لم تُقطَع ثمارها ... قد طال ما سَجدا للشمس والنار )
قال وفيهما وفي الحسن بن سهل يقول أيضاً دعبل يهجوهم والحسن بن رجاء وأبيه أيضاً
( ألا فاشتروا مِني ملوك المخزمِ ... أبِعْ حَسناً وابني رجاء بدرهمِ )
( وأعط رجاء فوق ذاك زيادة ... وأسمحْ بدينار بغير تندُّم )
( فإن رُدّ من عيب عليّ جميعُهم ... فليس يَردُّ العيبَ يحيى بنُ أكثم )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الطيب الحراني قال
كان دعبل منحرفا عن الطاهرية مع ميلهم إليه وأياديهم عنده فأنشدني لنفسه فيهم
( وأبقى طاهر فينا ثلاثاً ... عجائبَ تُسْتَخَفّ لها الحلوم )
( ثلاثةَ أعبد لأب وأم ... تُمَيّز عن ثلاثتِهم أُروم )
( فبعضٌ في قريش منتماه ... ولا غَيرٌ ومجهول قديم )
( وبعضهُم يَهشّ لآل كسرى ... ويزعم أنه عِلْج لئيم )
( فقد كثرَتْ مناسبهم علينا ... وكلُّهم عَلَى حال زنيم )

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبي قال
كان صالح بن عطية الأضجم من أبناء الدعوة وكان من أقبح الناس وجها وكان ينزل واسطا فقال فيه دعبل
( أحسنُ ما في صالح وجهُهُ ... فقِس على الغائب بالشاهدِ )
( تأملَتْ عينِي له خِلقةً ... تدعو إلى تزنيه الوالد )
قال وقال فيه أيضا وخاطب فيها المعتصم
( قل لِلإمام إمامِ آل محمد ... قول امرئ حَدِبٍ عليكَ مُحام )
( أنكرْتُ أن تفتر عنك صنيعةٌ ... في صالح بنِ عطيةَ الحجّام )
( ليس الصنائعُ عنده بِصنائع ... لكنهن طوائل الإسلام )
( اضرب به جيشَ العدوّ فوجهُه ... جيش من الطاعون والبِرسام )

دعبل ومسلم بن الوليد
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني إبراهيم بن محمد الوراق قال حدثني الحسين بن أبي السري قال قال لي دعبل
ما زلت أقول الشعر وأعرضه على مسلم فيقول لي اكتم هذا حتى قلت
( أين الشباب وأيةً سَلكاً ... لا أين يطلب ضلّ بل هلكا )
فلما أنشدته هذه القصيدة قال اذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئتَ لمن شئت

قال إبراهيم وحدثني الفتح غلام أبي تمام الطائي وكان أبو سعيد الثغري اشتراه له بثلثمائة دينار لينشد شعره وكان غلاماً أديبا فصيحا وكان إنشاد أبي تمام قبيحاً فكان ينشد شعره عنه فقال سألت مولاي أبا تمام عن نسب دعبل فقال هو دعبل بن علي الذي يقول
( ضحك المشيب برأسه فبكى ... )
قال الفتح وحدثني مولاي أبو تمام قال ما زال دعبل مائلاً إلى مسلم بن الوليد مقراً بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وكان فيه بخل فهجره دعبل وكتب إليه
( أبا مَخْلد كنا عقيدَيْ مودة ... هوانَا وقلبانا جميعاً مَعاً مَعا )
( أحُوطك بالغيبِ الذي أنت حائطي ... وأيجع إشفاقاً لأن تتوجعا )
( فصيّرتَني بعد انتكاسك متْهماً ... لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا )
( غششْتَ الهوَى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلّتَ الوصل حتى تقطعا )
( وأنزلتَ من بين الجوانح والحشا ... ذخيرة وُد طالما تَمنعا )
( فلا تعذلنَّي ليس لي فيك مطمع ... تخرقتَ حتى لم أجد لك مَرْقعا )
( فهبك يميني استأكلَتْ فقطعتُها ... وجشّمت قلبي صبره متشجعا )
ويروى وحملت قلبي فقدها قال ثم تهاجرا فما التقيا بعد ذلك
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني إبراهيم بن محمد قال حدثنا الحسين بن علي قال قلت لابن الكلبي
إن دعبلاً قطعي فلو أخبرت الناس أنه ليس من خزاعة فقال لي

يا فاعل مثل دعبل تنفيه خزاعة والله لو كان من غيرها لرغبت فيه حتى تدعيه دعبل والله يا أخي خزاعة كلها

دعبل والمطلب بن عبد الله بن مالك
أخبرني محمد بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الوراق عن الحسين بن أبي السري عن عبد الله بن أبي الشيص قال حدثني دعبل قال
حججت أنا وأخي رزين وأخذنا كتباً إلى المطلب بن عبد الله بن مالك وهو بمصر يتولاها فصرنا من مكة إلى مصر فصحبنا رجل يعرف بأحمد بن فلان السراج نسي عبد الله بن أبي الشيص اسم أبيه فما زال يحدثنا ويؤانسنا طول طريقنا ويتولى خدمتنا كما يتولاها الرفقاء والأتباع
وأريناه حسن الأدب وكان شاعراً ولم نعلم وكتمنا نفسه وقد علم ما قصدنا له فعرضنا عليه أن يقول في المطلب قصيدة ننحله إياها
فقال إن شئتم وأرانا بذلك سروراً وتقبلاً له فعملنا قصيدة وقلنا له تنشدها المطلب فإنك تنتفع بها
فقال نعم ووردنا مصر به فدخلنا إلى المطلب وأوصلنا إليه كتباً كانت معنا وأنشدناه
فسر بموضعنا ووصفنا له أحمد السراج هذا وذكرنا له أمره فأذن له فدخل عليه ونحن نظن أنه سينشد القصيدة التي نحلناه إياها فلما مثل بين يديه عدل عنها وأنشده
( لم آت مطّلِباً إلا بمطّلب ... وهمةٍ بلَغت بي غاية الرُّتب )

( أفردتُه برجاء أن تشاركه ... فيّ الوسائل أو ألقاه في الكتب )
قال وأشار إلى كتبي التي أوصلتها إليه وهي بين يديه فكان ذلك أشد من كل شيء مر بي منه علي ثم أنشده
( رحلْت عَنْسي إلى البيت الحرام على ... ما كان من وصَب فيها ومن نَصَب )
( ألقى بها وبوجهي كلَّ هاجرة ... تكاد تقدح بين الجلد والعصَب )
( حتى إذا ما قَضَتْ نُسْكي ثَنَيت لها ... عِطف الزّمام فأمَت سيدَ العرب )
( فيمّمْتك وقد ذابت مفاصلها ... من طول ما تعَبٍ لاقت ومن نَقب )
( إني استجرْت بإستارين مستلِماً ... رُكنَين مطّلباً والبيتَ ذا الحُجُب )
( فَذاك للآجل المأمول ألمَسه ... وأنت للعاجل المرجّو والطلب )
( هذا ثنائي وهذي مصر سانحةً ... وأنت أنت وقد نادْيتُ من كثَب )
قال فصاح مّطلب لبيك لبيك ثم قام إليه فأخذه بيده وأجلسه معه وقال يا غلمان البدر فأحضرت ثم قال الخلع فنشرت ثم قال الدواب فقيدت فأمر له من ذلك بما ملأ عينه وأعيننا وصدورنا وحسدناه عليه وكان حسدنا له بما أتفق له من القبول وجودة الشعر وغيظنا بكتمه إيانا نفسه واحتياله علينا أكثر وأعظم فخرج بما أمر له به وخرجنا صفرا فمكثنا أياماً ثم ولى دعبل بن علي أسوان وكان دعبل قد هجا المطلب غيظاً منه فقال
( تُعَلِّق مصرُ بك المخزِيات ... وتبصقُ في وجهك المَوْصلُ )

( وعاديتَ قوماً فما ضَرّهم ... وشرّفتَ قوماً فلم ينبُلوا )
( شِعارك عند الحروب النجاء ... وصاحِبُك الأخور الأفشل )
( فأنت إذا ما التقَوا آخرٌ ... وأنت إذا انهزموا أول )
وقال فيه
( اضرِبْ ندَى طلحِة الطلحات متئّداً ... بِلؤم مطّلب فينا وكن حكَما )
( تخرج خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تعدُّ لها لؤماً ولا كرما )
قال وكانت القصيدة التي مدح بها دعبل المطلبَ قصيدته المشهورة التي يقول فيها
( أبْعدَ مصرٍ وبعد مطّلب ... ترجو الغِنى إن ذا من العجب )
( إن كاثرونا جئنا بأسرته ... أو واحدونا جئنا بمطّلب )
قال وبلغ المطلبَ هجاؤه إياه بعد أن ولاه فعزله عن أسوان فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له وقال انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه وامنعه من الخطبة وأنزله عن المنبر واصعد مكانه فلما أن علا المنبر وتنحنح ليخطب ناوله الكتاب فقال له دعبل دعني أخطب فإذا نزلت قرأته قال لا قد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقرأه فقرأه وأنزله عن المنبر معزولاً
قال فحدثني عبد الله بن أبي الشيص قال قال لي دعبل قال لي المطلب ما تفكرت في قولك قط
( إن كاثرونا جئنا بأسرته ... أو واحدونا جئنا بمطلب )
إلا كنت أحب الناس إلي ولا تفكرت والله في قولك لي
( وعاديْتَ قوماً فما ضرهم ... وقدّمتَ قوماً فلم ينبُلوا )

إلا كنت أبغض الناس إلي
قال ابن المرزبان حدثني من سأل الرياشي عن قوله إستارين قال يجوز على معنى إستار كذا وإستار كذا وأنشدنا الرياشي
( سعى عقالاً فلم يترك لنا سبَدا ... فكيف لو قد سعَى عمرو عِقالَين )
( لأصبَح القوم أوفاضاً فلم يجدوا ... يوم الترحل والهيجا جِمالين )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد العزيز بن سهل قال
لما قصد دعبل عبد المطلب بن عبد الله بن مالك إلى مصر ولم يرض ما كان منه إليه قال فيه
( أمطّلبٌ أنت مستعذٍب ... حُمَيّا الأفاعي ومستقبِلُ )
( فإن أشفِ منك تكن سُبّة ... وإن أعفُ عنك فما تعقل )
( ستأتيك إما وردْتَ العراق ... صحائفُ يأثِرها دِعبل )
( منمَّقةٌ بين أثنائها ... مَخازٍ تَحُطُّ فلا تَرحل )
( وضعْتَ رجالاً فما ضرّهم ... وشرّفت قوماً فلم ينبُلوا )
( فأيُّهم الزَّين وسْط المَلا ... عطيةُ أم صالحُ الأحول )
( أم الباذِنجانيّ أم عامر ... أمينُ الحمَام التي تَزْجُل )
( تُنَوِّط مصرُ بك المخزيات ... وتبصق في وجهك الموصل )
( ويومَ السّراة تحسّيتَها ... يطيب لدى مثلِها الحنظل )
( توليتَ ركْضاً وفتياننا ... صدورُ القنا فيهمُ تعمَل )

( إذا الحربُ كنت أميراً لها ... فحظهمُ منك أن يُقتَلوا )
( فمِنك الرؤوس غداةَ اللقاء ... وممن يحاربك المُنْصُل )
( شِعارك في الحرب يومَ الوغى ... إذا انهزَموا عجِّلوا عجِّلوا )
( هزائمك الغُرُّ مشهورة ... يُقرطِس فيهن من ينضُل )
( فأنتَ لأوّلهم آخرٌ ... وأنت لآخرهم أول )
أخبرني عمي أنشدنا المبرد لدعبل يهجو المطلب بن عبد الله ويعيره بغلامين علي وعمرو وكان يتهم بهما
( فأيرُ عليٍّ له آلة ... وفَقْحة عمرو له ربه )
( فَطوراً تصادفه جَعبةٌ ... وطوراً تصادفه حربه )
وأنشدني ابن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ لدعبل يمدح المطلب بن عبد الله بن مالك وفيه غناء

صوت
( زَمَنِي بمطَّلب سُقِيتَ زماناً ... ما كنْتَ إلا روضة وجِنانا )
( كُلُ الندى إلا نداكَ تكلُّفٌ ... لم أرضَ بعدك كائناً مَن كانا )
( أصلحتَني بالبرّ بل أفسدتَني ... فتركتَني أتسخّط الإحسانا )
وقد أخبرني بخبره الأول الطويل مع المطلب الحسن بن علي عن أحمد بن محمد حدان عن أحمد بن يحيى العدوي أن سبب سخطه على المطلب أن رجلاً من العلويين كان قد تحرك بطنجة فكان يبث دعاته إلى

مصر وخافه المطلب فوكل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها
فلما جاء دعبل منع فأغلظ للذي منعه فقنعه بالسوط وحبسه فمضى رزين فأخبر المطلب فأمر بإطلاقه ودعا به فخلع عليه فقال له لا أرضى أو تقتل الموكل بالباب فقال له هذا لا يمكن لأنه قائد من قواد السلطان فغضب ثم أنشده الرجل الأبيات المذكورة فأجازه وحكى أن اسمه محمد بن الحجاج لا أحمد بن السراج وسائر الخبر مثله

دعبل والمخزومي
وكان سبب مناقضته أبا سعد المخزومي وما خرج إليه الأمر بينهما قول دعبل قصيدته التي هجا فيها قبائل نزار فحمي لذلك أبو سعد فهجاهم فأجابه أبو سعد ولجّ الهجاء بينهما
وروي أنه نزل بقوم من بني مخزوم فلم يضيّفوه فهجاهم فأجابهم أبو سعد ولجّ الهجاء بينهما
أخبرني عمي والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن الأشعث قال حدثني دعبل أنه ورزيناً العروضي نزلا بقوم من بني مخزوم فلم يقروهما ولا أحسنوا ضيافتها فقال دعبل فقلت فيهم
( عِصابةٌ من بني مخزومَ بِتُّ بهم ... بحيث لا تطمع المِسحاة في الطين )
ثم قلت لرزين أجز فقال
( في مَضغ أعراضهم من خبزهم عِوَض ... بني النفاق وأبناء الملاعين )
قال ابن الأشعث فكان هذا أول الأسباب في مهاجاته لأبي سعد

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثني علي بن عمرو الشيباني أن الذي هاج الهجاء بين أبي سعد و دعبل قصيدته القحطانية التي هجا فيها نزاراً فأجابه عنها أبو سعد ولج الهجاء بينهما
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال كان سبب وقوع الهجاء بين دعبل وأبي سعد قول دعبل في قصيدة يفخر فيها بخزاعة ويهجو نزاراً وهي التي يقول فيها
( أتانا طالباً وَعْرا ... فأعقبناه بالوَعر )
( وتَرْناه فلم يَرض ... فأعقبناه بالوِتر )
فغضب أبو سعد وقال قصيدته التي يقول فيها لدعبل وهي مشهورة
( وبالكَرخ هوىً أبقى ... على الدهر من الدهر )
( هوىً والحمد لله ... كفاني كُلفة العذر )
قال ثم التحم الهجاء بينهما بعد ذلك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن هارون قال دخلت على أبي سعد الخزومي يوماً وهو يقول وأي شيء ينفعني أجود الشعر فلا يروى ويرذل فيروى ويفضحني برديئه ولا أفضحه بجيدي فقلت من تعني يا أبا سعد فقال من تراني أعني إلا من عليه لعنة الله دعبلاً فقلت فيه
( لَيْسَ لُبْس الطيالِس ... مِن لِباس الفوارسْ )
( لاولا حَوْمَةُ الوغى ... كصُدور المجالس )
( ضَرْبُ أوتار نَفْنف ... غيرُ ضرب القوانس )

( وظُهور الجياد غير ... ظهور الطِنافس )
( ليس مَن ضارسَ الحروب ... كمن لمْ يُضارس )
( بِأبي غرسُ فِتية ... من كرام المغارس )
( فتية من بني المُغيرة ... شمّ المعاطس )
( يِطعمون السديف في ... كل شهباء دامس )
( في جِفانٍ كأنها ... من جفان العرائس )
( ثم يمشون في السّنَّور ... مشيَ العنابس )
( ويخوضون باللواء ... دماءَ الأبالس )
( نحن خير الأنامِ عند ... قياس المُقايس ) فوالله ما التفَت إليها في مصرنا هذا إلا علماء الشعر وقال هو فيّ
( يا أبا سعدٍ قَوْصَره ... زاني الأخت والمَرَه )
( لو تراه مُحَنَّباً ... خلته عَقدَ قنطره )
( أو ترى الأير في آسته ... قلت ساقٌ بمِقطره )
قال فوالله لقد رواه صبيان الكتاب ومارة الطريق والسفل أجتاز والسفل فما اجتاز بموضع إلا سمعته من سفلة يهذرون به فمنهم من يعرفني فيعيبني به ومنهم

من لا يعرفني فأسمعه منه لسهولته على لسانه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي ومحمد بن يحيى الصولي وعمي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن أبي عمرو الشيباني قال
جاءني إسماعيل بن إبراهيم بن ضمرة الخزاعي فقال لي إني سألت دعبلا أن اقرأ عليه قصيدته التي يناقض بها الكميت
( أفيقي من مَلامك يا ظعينا ... كفاك اللومَ مرُّ الأربعينا )
فقال لي إسماعيل قال لي دعبل يا أبا الحسن فيها أخبار وغريب فليكن معك رجل يقرأها عليّ وأنت معه فيكون أهون علي منك فقلت له لقد اخترت صديقا لي يقال له علي فقال أمن العرب هو قلت نعم قال من أي العرب قلت من بني شيبان قال شيبان كندة فقلت بل شيبان ربيعة فقال لي ويحك أتأتيني برجل أسمعه ما يكره في قومه فقلت له إنه رجل يحتمل ويحب أن يسمع ماله وعليه فقال في مثل هذا رغبة فأتني به فصرنا إليه فلما لقيه قال قد أخبرني عنك أبو الحسن بما سررت به أن كنت رجلا من العرب تحب أن تمسع ما لك وعليك لكيلا تغبن فقرأنا عليه الشعر حتى انتهينا في القصيدة إلى قوله
( مِنَ أي ثَنيّة طلعَت قريش ... وكانوا معشراً متنّبطينا )
فقال دعبل معاذ الله أن يكون هذا البيت لي ثم قال لعنه الله وانتقم منه يعني أبا سعد المخزومي دسّه والله في هذا الشعر وضرب بيده إلى سكين كانت معه فجرد البيت بحدها ثم قال لنا أحدثكم عنه بحديث طريف
جاءني يوماً ببغداد أشد ما كان بيني وبينه من الهجاء وبين يدي

صحيفة ودواة وأنا أهجوه فيها إذ دخل علي غلام لي فقال أبو سعد المخزومي بالباب فقلت له كذبت فقال وهو عارف بأبي سعد بلى والله يا مولاي فأمرته برفع الدواة والجلد الذي كان بين يدي وأذنت له في الدخول وجعلت أحمد الله في نفسي فأقول الحمد لله الذي أصلح بيني وبينه من هتك الأعراض وذكر القبيح وكان الابتداء منه فقمت إليه وسلمت عليه وهو ضاحك مسرور فأبديت له مثل ذلك من السرور به ثم قلت أصبحت والله حاسدا لك قال على ماذا يا أبا علي فقلت بسبقك إياي إلى الفضل
فقال لي أنا اليوم في دعوى عندك فقلت قل ما أحببت فقال إن كان عندك ما نأكله وإلا ففي منزلي شيء معد فسألت الغلمان فقالوا عندنا قدر أمسية فقال غاية واتفاق جيد فهل عندك شيء نشربه وإلا وجهت إلى منزلي ففيه شراب معد فقلت له عندنا ما نشرب فطرح ثيابه ورد دابته وقال أحب ألا يكون معنا غيرنا فتغدينا وشربنا فلما أن أخذ الشراب منا قال مر غلاميك يغنياني فأمرت الغلامين فغنياه فطرب وفرح واستحسن الغناء حتى سرني وأطربني معه ثم قال حاجتي إليك يا أبا علي أن تأمرهما بأن يغنياني في هجائك لي وكان الغلامان لكثرة ما يسمعانه مني في هجائي قد حفظا منه أشياء ولحناها فقلت له سبحان الله يا أبا سعد قد طفئت النائرة وذهبت العداوة بيننا وانقطع الشر فما حاجتك إلى هذا فقال لي سألتك بالله إلا فعلت فليس يشق ذلك علي ولو كرهته لما سألته فقلت في نفسي أترى أبا سعد يتماجن علي يا غلمان غنوه بما يريد فقال غنوه
( يا أبا سعد قوْصَرَة ... زاني الأخت والمره )

فغنوه وهو يحرك رأسه وكتفيه ويطرب ويصفق فما زلنا يومنا مسرورين فلما ثمل ودعني وقام فانصرف وأمرت غلماني فخرجوا معه إلى الباب فإذا غلام منهم قد انصرف إلي بقطعة قرطاس وقال دفعها إلي أبو سعد المخزومي وأمرني أن أدفعها إليك فقرأتها فإذا فيها
( لِدعبلٍ مِنّهَ يَمنُّ بها ... فلست حتى الممات أنساها )
( أدخلَنا بيته فأكرمنا ... ودَس بامرأته فنكناها )
فقال ويلي على ابن الفاعلة هاتوا جلداً وداوة قال فردوهما علي فعدت غلى هجائه ولقيته بعد يومين أو ثلاثة فما سلم علي ولا سلمت عليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن عبد الله بن سعد أنه سمع دعبلاً يحدث بخيره هذا مع أبي سعد فذكر نحو ما ذكره العنزي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال رأيت دعبلاً قد لقي أبا سعد في الرصافة وعليهما السواد وسيفاهما على أكتافهما فشد دعبل على أبي سعد فقنعه فركض أبو سعد بين يديه هارباً وركض دعبل في أثره وهو يهرب منه حتى غاب قال وكنت أرى ابا سعد يجلس مع بني مخزوم في دار المأمون فتظلموا منه إلى المأمون وذكروا أنهم لا يعرفون له فيهم نسباً فأمرهم المأمون بنفيه فانتفوا منه وكتبوا بذلك كتاباً فقال دعبل فيه يذكر ذلك من قصيدة طويلة
( غير أن الصِّيد منهمْ ... قنّعوه بخَزايه )
( كتبوا الصّك عليه ... فَهْو بين الناس آيه )
( فإذا أقبل يوماً ... قيل قد جاء النُّفَايه )

وقال فيه أيضاً
( همُ كتبوا الصّك الذي قد علمته ... عليك وشنّوا فوق هامتك القفدا )
قال وكان إذا قيل له بعد ذلك شيء في نسبه قال أنا عبد ابن عبد قال ونظر دعبل فرأى على أبي سعد قباء مروياً مصبوغاً بسواد فقال هذا دعي على دعي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن مروان مولى الهادي قال
لقيني أبو سعد المخزومي على ظهر الطريق فقال لي يا أحمد أنا أدرس شكايتك إلى أبيك قال فقلت ولم أبقاك الله قال فما فعل دفتر البزاريات قلت هو ذا أجيئك به فلما صليت الظهر جئت بالدفتر أريده فمررت بدعبل فدققت بابه فسمعته يقول لجاريه له أنظري من بالباب فقالت له أحمد بن مروان فقال افتحي له فلما دخلت قلت له أيش هو دراهم من الأسماء قال سميتم جواريكم دنانير فسمينا جوارينا بدراهم ثم قال ما هذا معك قلت دفتر فيه شعر أبي سعد في البزاريات فأخذه فنظر فيه وابنه علي بن دعبل بن علي معه فلما بلغ من نظره إلى شعره الذي يقول فيه
( مالت إلى قلبك أحزانه ... فهو مُجِمُّ الهم خزّانه )
قال له ابنه علي فما كان عليه يا أبت لو قال في شعره
( عادت إلى قلبك أحزانه ... )

فقال دعبل صدقت والله يا بني أنت والله أشعر منه ثم قال إنه أملى علي دعبل إملاء
( ما كنت أحسب أنّ الدهر يُمهلني ... حتى أرى أحداً يهجوه لا أحدُ )
( إني لأعجب ممن في حقيبته ... من المنِيِّ بُحورٌ كيف لا يلد )
( فإن سمِعت به بعْتُ القنا عبثاً ... فقد أراد قَناً ليست له عُقَدُ )
ثم صرت إلى أبي سعد فلما رآني من بعيد قال يا أحمد من أين أقبلت قلت من عند دعبل قال وما دعبلت عنده فأنشدته شعر دعبل فيه وأخبرته بما قال ابنه في شعره فقال صدق والله في أي سن هو قلت قد بلغ فدعا بدواة وقرطاس وقال اكتب فكتبت
( لا والذي خلق الصهباء من ذهب ... والماء من فِضة لا ساد مَن بَخِلا )
( يقول لي دِعِبل في بطنه حبل ... ولو أصابت ثيابي دِعِبل حَبِلا )
( ودِعبل رجل ما شئتَ من رجل ... لو كان أسفلُه من خلقه رجُلا )
قال ثم هجاني أبو سعد فقال
( عدُوُّ راح في ثوبَيْ صديق ... شريك في الصَبوح وفي الغَبوق )
( له وجهان ظاهره ابنُ عمٍ ... وباطنه ابنُ زانية عتيق )
( يَسُرُّك معلِناً ويَسُوءُ سرَّاً ... كذاك يكون أبناء الطريق )
أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو ناجية شيخ من ولد زهير بن أبي سلمى قال
حضرت بني مخزوم وهم ببغداد وقد اجتمعوا على أبي سعد لما لجّ الهجاء بينه وبين دعبل وقد خافوا لسان دعبل وأن يقطعهم ويهجوهم هجاء

يعمهم جميعاً فكتبوا عليه كتاباً وأشهدوا أنه ليس منهم فحدثني غير واحد أنه أتى حينئذٍ بخاتمه النقاش فنقش عليه أبو سعد العبد ابن العبد بريء من بني مخزوم تهاونا بما فعلوه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال
كان أبو سعد المخزومي قد كان يستعلي على دعبل في أول أمره وكان يدخل إلى المأمون فينشده هجاء دعبل وللخلفاء ويحرضه عليه وينشده جوابه فلم يجد عند المأمون ما أراده فيه وكان يقول الحق في يدك والباطل في يد غيرك والقول لك ممكن فقل ما يكذبه فأما القتل فإني لست أستعمله فيمن عظم ذنبه أفأستعمله في شاعر فاعترض بينهما ابن أبي الشيص فقال يهجو أبا سعد
( أنا بشّرت أبا سعد ... فأعطاني البشارَهْ )
( بأبٍ صِيدَ له بالأمس ... في دار الإماره )
( فَهْو يوماً من تميم ... وهو يوماً من فَزاره )
( كلَّ يوم لأبي سعد ... على الأنساب غاره )
( خزَمت مخزوم فاه ... فادعاها بالإشارة )
قال وقال فيه ابن أبي الشيص أيضاً
( أبا سعد بحق الخمس ... والمفروضِ من صومكْ )
( أقلْتَ الحق في النسبة ... أمن تحلُم في نومك )
( أبنْ لي أيّها المَعْرور ... مِمّن أنت في قومك )
( فولّى قائلاً لو شئتَ ... قد أقصرْتَ من لومك )
( ودعني أك من شئتُ ... إذا لم أك من قومك )

وقال فيه دعبل
( إن أبا سعد فتى شاعرُ ... يٌعرف بالكُنية لا الوالدِ )
( يَنْشُد في حيّ معدٍّ أباً ... ضلَّ عن المنشود والناشد )
( فرحمةُ الله على مسلم ... أرشد مفقوداً إلى فاقد )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن عثمان الطبري قال
سمعت دعبل بن علي يقول لما هاجيت أبا سعد أخذت معي جوزاً ودعوت الصبيان فأعطيتهم منه وقلت لهم صيحوا به قائلين
( يا أبا سعد قَوْصَره ... زانيَ الأخت والمَرهْ )
فصاحوا به فغلبته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن مروان قال حدثني أبو سعد المخزومي واسمه عيسى بن خالد بن الوليد قال
أنشدت المأمون قصيدتي الدالية التي رددت فيها على دعبل قوله
( ويسومني المأمون خطةَ عاجز ... أوَ ما رأى بالأمس رأس محمد )
وأول قصيدتي
( أخذ المشيبُ من الشباب الأغيد ... والنائبات من الأنام بمرصَد )
ثم قلت له يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أجيئك برأسه قال لا هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا فأما قتله بلا حجة فلا
أخبرني عمي والحسن بن علي عن أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو السري عمرو الشيباني قال

نظر دعبل يوماً في المرآة فجعل يضحك وكانت في عنفقته سلعة فقلت له من أي شيء تضحك قال نظرت إلى وجهي في المرآة ورأيت هذه السلعة التي في عنفقتي فذكرت قول الفاجر أبي سعد
( وسَلْعَة سَوء به سَلْعَةٌ ... ظلمتُ أباه فلم ينتصر )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال قال عبد الله بن الحسن بن أحمد مولى عمر بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن علي الطالبي قال
لقيت دعبل بن علي فحدثني أن أبا عمرو الشيباني سأله ما هو دعبل فقلت له لا أدري فقال إنها الناقة المسنة قال محمد بن علي الطالبي ثم تحدثنا ساعة فقلت أما ترى لأبي سعد يا أبا علي وانهماكه في هجائك فقال دعبل لكني لم أقل فيه إلا أبياتاً سخيفة يلعب بها الصبيان والإماء وأنشدني قوله فيه
( يا أبا سعد قَوْصَره ... زاني الأخت والمره )
( لو تراه محنّباً ... خلته عقد قنطره )
( أو ترى الأير في استه ... قلتَ ساقٌ بمِقطَره )
قال محمد فقلت لدعبل دع عنك ذا فقد الله أوجعك الرجل فإن أجبته بجواب مثله انتصفت وإلا فإن هذا اللغو الذي فخرت به يسقط وتفضح

آخر الدهر قال ثم أنشدته قول أبي سعد فيه
( لم يبقَ لي لذةٌ من طِيَّةٍ بدَدِ ... ولا المنازلِ من خَيْف ولا سَنَد )
( أبَعد خمسين عادت جاهليتُه ... يا ليت ما عاد منها اليومَ لم يَعد )
( وما تُريد عيونُ العِين من رجل ... كرّ الجديدان في أيامه الجُدُد )
( أبدى سرائرَه وَجْداً بغانية ... ولو أطاع مشيبَ الرأس لم يجِد )
( واستمطرتُ عبراتِ العَين منزلةٌ ... لم يبقَ منها سوى الآريِّ والوتد )
( وما بكاؤك داراً لا أنيس بها ... إلا الخواضبُ من خيطانها الرُّبُدِ )
( لدِعبل وطَرٌ في كل فاحشة ... لَوْ بادَ لؤم بني قحطانَ لم يَبِد )
( ولي قوافٍ إذا أنزلتُها بلداً ... طارتْ بهن شياطيني إلى بلَد )
( لم ينجُ من خيرِها أو شرّها أحدُ ... فاحذَر شآبيبَها إن كنت مِن أحد )
( إنّ الطِّرمَّاح نالَته صواعقُها ... في ظلمة القبر بين الهام والصُّرَد )
( وأنت أولى بها إذ كنت وارثه ... فابعُد وجهدُك أن تنجو على البُعد )
( تهجو نِزاراً وترعى في أرومتِها ... وتنتَمي في أناس حاكةِ البُرُد )
( إني إذا رجُل دبَّت عقاربه ... سقيتُه سم حيّاتي فلم يَعُدِ )

( زدني أزدك هواناً أنت موضعه ... ومَن يزيد إذا ما نحن لم نَزد )
( لو كنتَ متئداً فيما تُلفقه ... لكان حظك منه حظ متئد )
( أو كنتَ معتمِداً منه على ثقة ... من المكارم قلنا طَوْل معتمد )
( لقد تقلدْتَ أمراً لست نائله ... بلا ولِيّ ولا مولى ولا عضُد )
( وقد رميتَ بياض الشمس تحسبه ... بياض بطنِك من لُؤم ومن نكَد )
( لا تُوعدنّي بقوم أنت ناصرهم ... واقعد فإنك نَوْمانٌ من القَعَد )
( لله معتصم بالله طاعتُه ... قضية من قضايا الواحد الصمد )
قال فلما أنشدتها دعبلا قال أنا أشتمه وهو يشتمني فما إدخال المعتصم بيننا وشق ذلك عليه وخافه ثم قال نقيض هذه القصيدة
( منازل الحيّ من غُمدان فالنَّضَدِ ... )
وهي طويلة مشهورة في شعره هكذا قال العنزي في الخبر ولم يأت بها
حدثنا محمد قال حدثنا العنزي قال حدثني عبد الله بن الحسين عن محمد بن علي الطالبي قال
عبر دعبل الجسر ببغداد وأبو سعد واقف على دابته عند الجسر وعليه ثوب صوف مشبه بالخز مصبوغ فضرب دعبل بيده على فخده وقال

دعيّ على دعي
حديث عن شبه بين عبد الله بن طاهر والضبيّ عن نسبه
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني صهر المبرد قال حدثني محمد بن موسى الضبي راوية العتابي وكان نديما لعبد الله بن طاهر قال
بينما هو ذات ليلة يذاكرنا بالأدب وأهله وشعراء الجاهلية والإسلام إذ بلغ إلى ذكر المحدثين حتى انتهى إلى ذكر دعبل فقال ويحك يا ضبيّ إني أريد أن أحدثك بشيء على أن تستره طول حياتي فقلت له أصلحك الله أنا عندك في موضع ظنه قال لا ولكن أطيب لنفسي أن توثق لي الأيمان لأركن إليها ويسكن قلبي عندها فأحدثك حينئذٍ
قال قلت إن كنت عند الأمير في هذه الحال فلا حاجة به إلى إفشاء سره إلي واستعفيته مراراً فلم يعفني فاستحييت من مراجعته وقلت فلير الأمير رأيه فقال لي يا ضبي قل والله قلت فأمرها علي غموسا مؤكدة بالبيعة والطلاق وكل ما يحلف به مسلم ثم قال أشعرت أن دعبلا مدخول النسب وأمسك فقلت أعز الله الأمير أفي هذا أخذت العهود والمواثيق ومغلظ الأيمان قال إي والله فقلت ولم قال لأني رجل لي في نفسي حاجة ودعبل رجل قد حمل نفسه على المهالك وحمل جذعه على عنقه فليس يجد من يصلبه عليه وأخاف إن بلغه أن يقول فيّ ما يبقى عليّ عاره على الدهر وقصاراي إن ظفرت به وأسلمته اليمن وما أراها تفعل لأنه اليوم لسانها وشاعرها والذابُّ عنها والمحامي لها والمرامي دونها فأضربه مائة سوط وأثقله حديداً وأصيره في مطبق باب الشام

وليس في ذلك عوض مما سار فيّ من الهجاء وفي عقبي من بعدي فقلت ما أراه يفعل ويقدم عليك
فقال لي يا عاجز أهون عليه مما لم يكن أتراه أقدم على الرشيد والأمين والمأمون وعلى أبي ولا يقدم علي فقلت فإذا كان الأمر كذا فقد وفق الأمير فيما أخذه عليّ
قال وكان دعبل صديقا لي فقلت هذا شيء قد عرفته فمن أين قال الأمير إنه مدخول النسب وهو في البيت الرفيع من خزاعة ولا يتقدمهم غير بني أهبان مكلّم الذئب فقال أسمع أنه كان أيام ترعرع خاملا لا يؤبه له وكان ينام هو ومسلم بن الوليد في إزار واحد لا يملكان غيره ومسلم أستاذه وهو غلام أمرد يخدمه ودعبل حينئذٍ لا يقول شعراً يفكر فيه حتى قال
( لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى )
وغنى فيه بعض المغنين وشاع فغني به بين يدي الرشيد إما ابن جامع أو ابن المكي فطرب الرشيد وسأل عن قائل الشعر فقيل له دعبل بن علي وهو غلام نشأ من خزاعة فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخِلْعة من ثيابه فأحضر ذلك فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته وقال له اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن علي فإذا دللت عليه فأعطه هذا وقل له ليحضر إن شاء وإن لم يجب ذلك فدعه
وأمر للمغني بجائزة فسار الغلام إلى دعبل وأعطاه الجائزة وأشار عليه بالمسير إليه

فلما دخل عليه وسلم أمره بالجلوس فجلس واستنشده الشعر فأنشده إياه فاستحسنه وأمره بملازمته وأجرى عليه رزقا سنيا فكان أول من حرضه على قول الشعر فوالله ما بلغه أن الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله من العطاء السني والغنى بعد الفقر والرفعة بعد الخمول بأقبح مكافأة وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت عليهم السلام وهجا الرشيد
( وليس حيّ من الأحياء نعلَمه ... من ذي يمانٍ ومن بَكرٍ ومن مُضر )
( إلا وهمْ شركاءُ في دمائهم ... كما تشارَك أيسار عَلَى جُزر )
( قَتلٌ وأسر وتحريق ومنهبة ... فعل الغُزاة بأرض الروم والخَزَر )
( أرى أمية معذورين إن قَتلوا ... ولا أرى لبني العباس من عذُر )
( اربع بطُوس عَلَى القبر الزكي إذا ... ما كنت تربَع من دين عَلَى وطَر )
( قبران في طُوسَ خيرُ الناس كلِّهم ... وقبرُ شرِّهم هذا من العِبَر )
( ما ينفع الرّجسَ من قُرب الزكيّ ولا ... عَلَى الزكيّ بقُرب الرجس مِن ضرر )
( هيهات كلّ امرئ رهن بما كسبت ... له يداه فخذ ما شئت أو فذَر )
يعني قبر الرشيد وقبر الرضا عليه السلام فهذه واحدة
وأما الثانية فإن المأمون لم يزَل يطلبه وهو طائر على وجهَه حتى دسّ إليه قوله
( عِلْم وتحكيمٌ وشَيْبُ مَفارق ... طمَّسْنَ رَيعان الشباب الرائق )
( وإمارة في دولة ميمونة ... كانت على اللذات أشغبَ عائق )
( أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... يَرِث الخلافةَ فاسق عن فاسق )

( إن كان إبراهيم مصطلعاً بها ... فَلَتصْلُحَنْ من بعده لمُخارق )
فلما قرأها المأمون ضحك وقال قد صفحت عن كل ما هجانا به إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده
وكتب إلى أبي أن يكاتبه بالأمان ويحمل إليه مالاً
وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل
فكتب إلي أبي بذلك وكان واثقا به فصار إليه فحمله وخلع عليه وأجازه وأعطاه المال وأشار عليه بقصد المأمون ففعل فلما دخل وسلّم عليه تبسم في وجهه ثم قال أنشدني
( مدارسُ آيات خلَتْ من تلاوة ... ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرَصات )
فجزع فقال له لك الأمان فلا تخف وقد رويتها ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل وآخر خارج من عنده
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري قال
استدعى بعض بني هاشم دعبل وهو يتولى للمعتصم ناحية من نواحي الشام فقصده إليها فلم يقع منه بحيث ظن وجفاه فكتب إليه دعبل
( دَلّيتَني بغُرور وعدك في ... متلاطمٍ من حَوْمة الغرقِ )
( حتى إذا شمِت العدوُّ وقد ... شُهر انتقاصُك شهرةَ البَلَق )

( أنشأتَ تحلف أنّ وُدَّك لي ... صافٍ وحبلك غيرُ منحذق )
( وحسبتَني فَقْعا بِقَرْقَرة ... فوطئتَني وَطئاً على حنَق )
( ونصبتَني عَلماً على غَرَض ... تَرْمِينِيَ الأعداءُ بالحدق )
( وظننتَ أرض الله ضيِّقة ... عني وأرضُ الله لم تضق )
( من غير ما جُرمٍ سوى ثقة ... منّي بوعدك حين قلتَ ثِق )
( ومودةٍ تحنو عليك بها ... نفْسي بلا منّ ولا ملق )
( فمتى سألتك حاجةً أبداُ ... فاشدُد بها قُفْلاً على غلق )
( وقفِ الإِخاء على شفا جُرُف ... هارٍ فبِعْه بيعة الخَلق )
( وأعدّ لي قُفلاً وجامعة ... فاشدد يَدَيّ بها إلى عنقي )
( أُعفيك مما لا تحبُّ بها ... واسدُد عليّ مذاهب الأفق )
( ما أطولَ الدنيا وأعرضها ... وأدلّني بمسالك الطرق )

يهرب بعد اتهامه بشتم صفية بنت عبد المطلب
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبي قال
قدم دعبل الدينور فجرى بينه وبين رجل من ولد الزبير بن العوام

كلام وعربدة على النبيذ فاستعدى عليه عمرو بن حميد القاضي وقال هذا شتم صفية بنت عبد المطلب واجتمع عليه الغوغاء فهرب دعبل وبعث القاضي إلى دار دعبل فوكل بها وختم بابه فوجه إليه برقعة فيها ما رأيت قط أجهل منك إلا من ولاك فإنه أهل يقضي في العربدة على النبيذ ويحكم على خصم غائب ويقبل عقلك أني رافضي شتم صفية بنت عبد المطلب
سخنت عينك أفمن دين الرافضة شتم صفية قال أبي فسألني الزبيري القاضي عن هذا الحديث فحدثته فقال صدق والله دعبل في قوله لو كنت مكانه لوصلته وبررته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن سهل القارىء قال حدثني دعبل قال
كتبت إلى أبي نهشل بن حميد وقد كان نسك وترك شرب النبيذ ولزم دار الحرم
( إنما العَيش في منادمة الإخوان لا في الجلوس عند الكعاب )
( وبِصِرْفٍ كأنها ألُسن البرق ... إذا استعرَضَتْ رقيقَ السحاب )
( إن تكونوا تركتمُ لذة العيش ... حِذَار العِقاب يومَ العقاب )

( فدعُوني وما ألذُ وأهوَى ... وادفعو بي في نحر يوم الحساب )
قال فكان بعد ذلك يدعوني وسائر ندمائي فنشرب بين يديه ويستمع الغناء ويقتصر على الأنس والحديث
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا إبراهيم بن المدبر قال
كنت أنا وإبراهيم بن العباس رفيقين نتكسب بالشعر قال و أنشدني قصيدة دعبل في المطلب بن عبد الله
( أمطّلِبٌ أنت مستعذِب ... سمامَ الأفاعي ومستقبِلُ )
قال وقال لي دعبل نصفها لإبراهيم بن العباس كنت أقول مصراعاً فيجيزه ويقول هو مصراعاُ فأجيزه
قال ابن مهرويه وحدثني إبراهيم بن المدبر أن دعبلاً قصد مالك بن طوق ومدحه فلم يرض ثوابه فخرج عنه وقال فيه
( إن ابنَ طَوقٍ وبنى تغلِب ... لو قُتلوا أو جُرحوا قُصْره )
( لم يأخذوا من دِية درهماً ... يوماً ولا من أرْشِهمْ بعره )
( دِماؤهم ليس لها طالب ... مَطْلولةٌ مثلُ دم العُذْره )
( وجوههم بيض وأحسابهم ... سود وفي آذانهم صُفره )

حدثنا محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثنا عبد الله بن الحسن قال حدثني عمر بن عبد الله أبو حفص النحوي مؤدب آل طاهر قال
دخل دعبل بن علي على عبد الله بن طاهر فأنشده وهو ببغداد
( جئتُ بلا حُرمة ولا سبب ... إليك إلا بحرمة الأدب )
( فاقض ذِمامي فإنني رجل ... غيرُ ملحّ عليك في الطلب )
قال فانتعل عبد الله ودخل إلى الحرم ووجه إليه بصرة فيها ألف درهم وكتب إليه
( أعجلتَنا فأتاك عاجلُ بِرّنا ... ولو انتظرْتَ كثيره لم يَقلِلِ )
( فخُذ القليل وكن كأنك لم تسلْ ... ونكونُ نحن كأننا لم نفعل )
أخبرني أحمد بن عاصم الحلواني قال حدثنا أبو بكر المدائني قال حدثنا أبو طالب الجعفري ومحمد بن أمية الشاعر جميعاً قالا
هجا دعبل بن علي مالك بن طوق فقال
( سأْلتُ عنكمْ يا بني مالكٍ ... في نازح الأرضين والدّانيه )
( طُرّاً فلم تُعرف لكم نِسبة ... حتى إذا قلتُ بني الزانية )
( قالوا فدَع داراً على يَمْنةٍ ... وتلك ها دارُهمُ ثانيه )
( لا حدَّ أخشاه على ... من قال أمّك زانيه )
وقال أيضاً في
( يا زانيَ ابنَ الزانِ إبن ... الزانِ إبنَ الزانية )
( أنتَ المردَّد في الزناء ... على السنينَ الخاليه )
( ومردَّد فيه على ... كرٍّ السنينَ الباقيه )

وبلغت الأبيات مالكاً فطلبه فهرب فأتى البصرة وعليها إسحاق بن العباس بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان بلغه هجاء دعبل وابن أبي عيينة نزاراً
فأما ابن أبي عيينة فإنه هرب منه فلم يظهر بالبصرة طول أيامه وأما دعبل فإنه حين دخل البصرة بعث فقبض عليه ودعا بالنطع والسيف ليضرب عنقه فجحد القصيدة وحلف بالطلاق على جحدها وبكل يمين تبرىء من الدم أنه لم يقلها وأن عدواً له قالها إما أبو سعد المخزومي أو غيره ونسبها إليه ليغري بدمه وجعل يتضرع إليه ويقبل الأرض ويبكي بين يديه فرق له فقال أما إذا أعقيتك من القتل فلا بد من أن أشهرك ثم دعا بالعصا فضربه حتى سلح وأمر به فألقي على قفاه وفتح فمه فرد سلحه فيه والمقارع تأخذ رجليه وهو يحلف ألا يكف عنه حتى يستوفيه ويبلعه أو يقتله فما رفعت عنه حتى بلع سلحه كله ثم خلاه فهرب إلى الأهواز
وبعث مالك بن طوق رجلاً حصيفاً مقداماً وأعطاه سما وأمره أن يغتاله كيف شاء وأعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم لم يزل يطلبه حتى وجده في قرية من نواحي السوس فاغتاله في وقت من الأوقات بعد صلاة العتمة فضرب ظهر قدمه بعكاز لها زج مسموم فمات من غد ودفن بتلك القرية
وقيل بل حمل إلى السوس فدفن فيها وأمر إسحاق بن العباس شاعراً يقال له الحسن بن زيد ويكنى أبا الذلفاء فنقض قصيدتي دعبل وابن أبي عيينة بقصيدة أولها

( أما تَنفك متبولاً حزيناً ... تحبّ البيض تَعصِي العاذلينا )
يهجو بها قبائل اليمن ويذكر مثالبهم وأمره بتفسير ما نظمه وذكر الأيام والأحوال ففعل ذلك وسماها الدامغة وهي إلى اليوم موجودة

صوت
( أتهجر مَن تُحب بغير جرم ... أسأتَ إذاً وأنت له ظلوم )
( تؤرقني الهموم وأنت خِلْوٌ ... لعمرُك ما تؤرقك الهموم )
الشعر لجعيفران الموسوس أنشدنيه عمي عن عبد الله بن عثمان الكاتب عن أبيه عن جده وأنشد فيه جحظة عن خالد الكاتب له وأنشدنيه ابن الوشاء عن بعض شيوخه عن سلمة النحوي له ووجدته في بعض الكتب منسوباً إلى أم الضحاك المحاربية والقول الأول أصح والغناء لابن أبي قباحة ثاني ثقيل بالوسطى في مجرى البنصر وفي أبيات أخر من شعر جعيفران غناء فإن لم يصح هذا له فالغناء له في أشعاره الأخر صحيح منها
( ما يفعلُ المرء فهو أهلُه ... كلُّ امرئٍ يشبهه فعلُه )
( ولا ترى أعجز من عاجز ... سكّتنا عن ذمّه بِذلُه )
الشعر لجعيفران والغناء لمتيم ومما وجدته من الشعر المنسوب إليه في جامعه وفيه له غناء
( قلبي بِصاحبة الشُّنوف مُعَلَّقُ ... وتفِرُّ صاحبة الشنوف وألَحق )

أخبار جعيفران ونسبه
هو جعيفران بن علي بن أصفر بن السريّ بن عبد الرحمن الأبناوي من ساكني سرّ من رأى ومولده ومنشؤه ببغداد وكان أبوه من أبناء الجند الخراسانية وكان يتشيع ويكثر لقاء أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر
أخبرني بذلك أبو الحسن علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب عن أبيه وأهله
وكان جعيفران أديباً شاعراً مطبوعاً وغلبت عليه المرة السوداء فاختلط وبطل في أكثر أوقاته ومعظم أحواله ثم كان إذا أفاق ثاب إليه عقله وطبعه فقال الشعر الجيد وكان أهله يزعمون أنه من العجم ولد أذين
فأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن مهرويه قال حدثني علي بن سليمان النوفلي قال حدثني صالح بن عطية قال
كان لجعيفران الموسوس قبل أن يختلط عقله أب يقال له علي بن أصفر وكان دهقان الكرخ ببغداد وكان يتشيع فظهر على ابنه جعيفران أنه خالفه إلى جارية له سرية فطرده عن داره

وحجّ فشكا ذلك إلى موسى بن جعفر فقال له موسى إن كنت صادقا عليه فليس يموت حتى يفقد عقله وإن كنت قد تحققت ذلك عليه فلا تساكنه في منزلك ولا تطعمه شيئاً من مالك في حياتك وأخرجه عن ميراثك بعد وفاتك
فقدم فطرده وأخرجه من منزله وسأله الفقهاءعن حيلة يشهد بها في ماله حتى يخرجه عن ميراثه فدلّوه على السبيل إلى ذلك فأشهد به وأوصى إلى رجل فلما مات الرجل حاز ميراثه ومنع منه جعيفران فاستعدى عليه أبا يوسف القاضي فأحضر الوصيّ وسأل جعيفران البينة على نسبه وتركة أبيه فأقام على ذلك بينة عدة وأحضر الوصي بيّنة عدولا على الوصية يشهدون على أبيه بما كان احتال به عليه
فلم ير أبو يوسف ذلك شيئاً وعزم على أن يورثه فدفعه الوصي عن ذلك مرات بعلل ثم عزم أبو يوسف على أن يسجل لجعيفران بالمال فقال له الوصي أيها القاضي أنا أدفع هذا بحجة واحدة بقيت عندي فأبى أبو يوسف أن يقبل منه وجعل جعيفران يحرّج عليه ويقول له قد ثبت عندك أمري فبأي شيء تدافعني وجعل الوصي يسأله أن يسمع منه منفردا فيأبى ويقول لا أسمع منك إلا بحضرة خصمك فقال له أجّلني إلى غد فأجله فجاء إلى منزله وكتب رقعة خبره فيها بحقيقة ما أفتى به موسى بن جعفر ودفعها إلى صديق لأبي يوسف فدفعها إليه فلما قرأها دعا الوصي واستحلفه أنه قد صدق في ذلك فحلف باليمين الغموس فقال له اغد عليّ غدا مع صاحبك فحضر وحضر جعيفران معه فحكم عليه أبو يوسف للوصي فلما أمضى الحكم عليه وسوس جعيفران واختلط منذ يومئذٍ
وأخبرني بجمل أخباره المذكورة في هذا الكتاب علي بن العباس بن أبي

طلحة الكاتب عن شيوخ له أخذها عنهم وإجازات وجدتها في الكتب ولم أر أخباره عند أحد أكثر مما وجدتها إلا ما أذكره عن غيره فأنسبه إليه
قال علي بن العباس وذكر عبد الله بن عثمان الكاتب أن أباه عثمان بن محمد حدثه قال
كنت يوماً برصافة مدينة السلام جالسا إذ جاءني جعيفران وهو مغضب فوقف علي وقال
( استوجب العالَم مِني القتلا ... )
فقلت ولم يا أبا الفضل فنظر إلي نظرة منكرة خفت منها وقال
( لمّا شَعرت فرأوني فحلا ... )
ثم سكت هنيهة وقال
( قالوا عليَّ كذِباً وبُطْلاً ... إنيَ مجنون فقَدتُ العقلا )
( قالوا المحال كذِباً وجهلاً ... أقبحْ بهذا الفعل منهم فعلا )
ثم ذهب لينصرف فخفت أن يؤذيه الصبيان فقلت اصبر فديتك حتى أقوم معك فإنك مغضب وأكره أن تخرج على هذه الحال فرجع إلي وقال سبحان الله أتراني أنسبهم إلى الكذب والجهل وأستقبح فعلهم وتتخوف مني مكافأتهم ثم إنه ولّى وهو يقول
( لستُ بِراضٍ من جَهول جهلا ... ولا مجازيه بِفعل فِعلا )
( لكنْ أرى الصفح لِنفسي فضلا ... مَن يُرِد الخيرَ يجدْه سهلا )
ثم مضى
وقال علي بن العباس وقال عثمان بن محمد قال أبي
كنت أشرف مرة من سطح لي على جعيفران وهو في دارٍ وحده وقد

اعتلّ وتحركت عليه السوداء فهو يدور في الدار طول ليلته ويقول
( طاف به طَيف من الوسواسِ ... نَفّر عنه لَذَّةَ النُّعاسِ )
( فما يُرَى يأنس بالأناس ... ولا يلَذّ عِشْرة الجُلاّس )
( فهو غريب بين هذا الناس ... )
حتى أصبح وهو يرددها ثم سقط كأنه بقلة ذابلة
قال علي وحدثني علي بن رستم النحوي قال حدثني سلمة بن محارب قال
مررت ببغداد فرأيت قوما مجتمعين على رجل فقلت ما هذا فقالوا جعيفران المجنون فقلت قل بيتاً بنصف درهم قال هاته فأعطيته فقال
( لجَّ ذا الهمُّ واعتلَج ... كلّ همّ إلى فرج )
ثم قال زد إن شئت حتى أزيدك
قال علي وحدثني عبد الله بن عثمان عن أبيه قال
غاب عنا جعيفران أياماً ثم جاءنا والصبيان يشدون خلفه وهو عريان وهم يصيحون به يا جعيفران يا خرا في الدار فلما بلغ إلي وقف وتفرقوا عنه فقال يا أبا عبد الله
( رأيتُ الناس يدعوني ... بمجنون على حالي )
( وما بي اليومَ من جِنٍّ ... ولا وسواسِ بَلبال )

( ولكنْ قولُهم هذا ... لإفلاسي وإقلالي )
( ولو كنت أخا وَفْرٍ ... رَخيّاً ناعمَ البال )
( رأوني حسن العقل ... أحُلّ المنزل العالي )
( وما ذاك على خُبرٍ ... ولكن هيبةُ المال )
قال فأدخلته منزلي فأكل وسقيته أقداحاً ثم قلت له تقدر على أن تغير القافية فقال نعم ثم قال بديهة غير مفكر ولا متوقف
( رأيتُ الناس يرمونِيَ ... أحياناً بوِسواسِ )
( ومَن يَضبِط يا صاح ... مقالَ الناس في الناس )
( فدَعْ ما قاله الناس ... ونازع صفوة الكاس )
( فتى حُراً صحيح الوُدّذ ... برٍّ وإيناس )
( فإن الخلْق مَغْرُور ... بأمثالي وأجناسي )
( ولو كنتُ أخا مال ... أتَوني بين جُلاّسي ) )
( يُحِبوني ويَحْبوني ... على العينين والراس )
( ويدعوني عزيزاً غير ... أنّ الذل إفلاسي )
ثم قام يبول فقال بعض من حضر أي شيء معنى عشرتنا هذا المجنون العريان والله ما نأمنه وهو صاح فكيف إذا سكر وفطن جعيفران للمعنى فخرج إلينا وهو يقول
( وندامَى أكلوني ... إذ تغيّبْتُ قليلا )
( زعموا أنِّي مجنونٌ ... أرى العُرْي جميلا )
( كيف لا أعرَى وما أُبصر ... في الناس مثيلا )

إن يكن قد ساءكم قُربي ... فخلُّوا لي سبيلا )
( وأتمّوا يومكم ... سرّكم الله طويلا )
قال فرققنا له واعتذرنا إليه وقلنا له والله ما نلتذ إلا بقربك وأتيناه بثوب فلبسه وأتممنا يومنا ذلك معه
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
تقدم جعيفران إلى أبي يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة في شيء كان في يده من وقف له فدفعه عنه وقضى عليه فقال له أراني الله أيها القاضي عينيك سواء فأمسك عنه وأمر برده إلى داره
فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم ثم دعا به فقال له ماذا أردت بدعائك أردت أن يرد الله على بصري ما ذهب فقال له والله لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك لأنت المجنون لا أنا أخبرني كم من أعور رأيته عمي قال كثيراً قال فهل رأيت أعور صح قط قال لا قال فكيف توهمت عليّ الغلط فضحك وصرفه

جعيفران يمدح أبا دلف
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أحمد بن القاسم البرتي قال حدثني علي بن يوسف قال
كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي فاستأذن عليه حاجبه لجعيفران الموسوس فقال له أي شيء اصنع بموسوس قد قضينا حقوق العقلاء وبقي علينا حقوق المجانين فقلت له جعلت فداء الأمير موسوس أفضل كثير من العقلاء وإن له لسانا يتّقى وقولا مأثورا يبقى فالله الله أن تحجبه فليس عليك منه أذى ولا ثقل فأذن له فلما مثل بين يديه قال
( يا أكرمَ العالم موجودا ... ويا أعزّ الناسِ مفقودا )

( لما سألتُ الناسَ عن واحدٍ ... أصبح في الأمة محموداً )
( قالوا جميعاً إنه قاسمٌ ... أشبهَ آباءً له صِيدا )
( لو عبدوا شيئاً سوى ربهم ... أصبحْت في الأمة معبودا )
( لا زِلْتَ في نعْمى وفي غبطةٍ ... مكرَّماً في الناس معدوداً )
قال فأمر له بكسوة وبألف درهم فلما جاء بالدراهم أخذ منها عشرة وقال تأمر القهرمان أن يعطيني الباقي مفرقاً كلما جئت لئلا يضيع مني فقال للقهرمان أعطه المال وكلما جاءك فأعطه ما شاء حتى يفرّق الموت بيننا فبكى عند ذلك جعيفران وتنفس الصعداء وقال
( يموت هذا الذي أراه ... وكلُّ شيء له نفاد )
( لو غيرَ ذي العرش دام شيء ... لدام ذا المُفْضِلُ الجواد )
ثم خرج فقال أبو دلف أنت كنت أعلم به مني قال وغير عني مدة ثم لقيني وقال يا أبا الحسن ما فعل أميرنا وسيدنا وكيف حاله فقلت بخير وعلى غاية الشوق إليك فقال أنا والله يا أخي أشوق ولكني أعرف أهل العسكر وشرههم وإلحاحهم والله ما أراهم يتركونه من المسألة ولا يتركهم كرمه أن يخليهم من العطية حتى يخرج فقيراً فقلت دع هذا عنك وزره فإن كثرة السؤال لا تضر بماله فقال وكيف أهو أيسر من الخليفة قلت لا قال والله لو تبذل لهم الخليفة كما يبذل أبو دلف وأطعمهم في ماله كما يطعمهم لأفقروه في يومين ولكن اسمع ما قلته في وقتي فقلت هاته يا أبا الفضل فأنشأ يقول
( أبا حسنٍ بلِّغَنْ قاسماً ... بأنِّي لم أجْفُه عن قلبي )

( ولا عن مَلال لإتيانه ... ولا عن صدود ولا عن غِنى )
( ولكن تعفّفتُ عن ماله ... وأصفيتُه مِدْحتي والثنا )
( أبو دُلَف سيّد ماجد ... سنيّ العطية رَحب الفِنا )
( كريمٌ إذا انتابه المعتفون ... عمَّهمُ بجزيل الحِبا )
قال فأبلغتها أبا دلف وحدثته بالحديث الذي جرى فقال لي قد لقيته منذ أيام فلما رأيته وقفت له وسلّمت عليه وتحفيت به فقال لي سر أيها الأمير على بركة الله ثم قال لي
( يا مُعدِيَ الجود على الأموالِ ... ويا كريمَ النفْس في الفعال )
( قد صُنَتني عن ذِلة السؤالِ ... بِجُودك الموفِي على الآمال )
( صانك ذو العزة والجلال ... مِن غِيَر الأيام والليالي )
قال ولم يزل يختلف إلى أبي دلف ويبره حتى افترقا

جعيفران يهجو نفسه
سمعت عبد الله بن أحمد عم أبي رحمه الله يحدث فحفظت الخبر ولا أدري أذكر له إسناداً فلم أحفظه أم ذكره بغير إسناد قال
كان جعيفران خبيث اللسان هجاء لا يسلم عليه أحد فاطلع يوما في الحب فرأى وجهه قد تغير وعفا شعره فقال
( ما جَعفرٌ لأبيه ... ولا له بشبيه )
( أضحى لقوم كثير ... فكلّهم يدعيه )
( هذا يقول بُنَيِّي ... وذا يخاصم فيه )
( والأمُّ تضحك منهم ... لِعلمها بأبيه )

حدثني محمد بن الحسن الكندي خطيب القادسية قال حدثني رجل من كتاب الكوفة قال
اجتاز بي جعيفران مرة فقال أنا جائع فأي شيء عندك تطعمني فقلت سلق بخردل فقال اشتر لي معه بطيخاً فقلت أفعل فادخل وبعثت بالجارية تجيئه به وقدمت إليه الخبز والخردل والسلق فأكل منه حتى ضجر وأبطأت الجارية فأقبل علي وقد غضب فقال
( سَلَقَتْنا وخَرْدَلت ... ثم ولّت فأدبَرَت )
( وأراها بوِاحد ... وافرِ الأير قد خلَت )
قال فخرجت يشهد الله أطلبها فوجدتها خالية في الدهليز بسائس لي علي ما وصف

صوت
( ولها مَرْبَعٌ بِبُرْقَة خاخٍ ... ومَصِيف بالقصر قصرِ قُباءِ )
( كفَّنوني إن متّ في دِرع أروَى ... واجعلوا لي مِنْ بئر عُروة مائي )
( سُخنةٌ في الشتاء باردة الصيف ... سراجٌ في الليلة الظلماء )
الشعر للسرِيّ بن عبد الرحمن والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى

عن الهشامي قال وفيهما يعني الثالث والأول رمل مطلق في مجرى الوسطى

أخبار السري ونسبه
السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري ولجده عويم بن ساعدة صحبة بالنبي
والسري شاعر من شعراء أهل المدينة وليس بمكثر ولا فحل إلا أنه كان أحد الغزلين والفتيان والمنادمين على الشراب كان هو وعتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف وجبير بن أيمن وخالد بن أبي أيوب الأنصاري يتنادمون قال وفيهم يقول
( إذا أنت نادمتَ العُتَير وذا الندى ... جُبيَراً ونازعتَ الزّجاجة خالداً )
( أمِنتَ بإذنِ الله أن تُقرع العصا ... وأن يُنْبِهوا من نومة السُّكْر راقداً )
غناه الغَريض ثقيلاً

وكان السري هذا هجا الأحوص وهجا نصيباً فلم يجيباه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي قالا
حبس النصيب في مسجد النبي فأنشد وكان إذا أنشد لوي حاجبيه وأشار بيده فرآه السري بن عبد الرحمن الأنصاري فجاءه حتى وقف بإزائه ثم قال
( فقدتُ الشعرَ حين أتى نُصيباً ... ألم تَسْتَحْيِ من مَقْتِ الكرام )
( إذا رَفع ابنُ ثَوبة حاجبَيه ... حسبت الكلبَ يُضربُ في الكِعام )
قال فقال نصيب من هذا فقالوا هذا ابن عويم الأنصاري قال قد وهبته لله عز و جل ولرسوله ولعويم بن ساعدة قال وكان لعويم صحبة ونصرة
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري قال كان السري قصيراً دميماً أزرق وكان يهوى

امرأة يقال لها زينب ويشبب بها فخرج إلى البادية فرآها في نسوة فصار إلى راع هناك وأعطاه ثيابه وأخذ منه جبته وعصاه وأقبل يسوق الغنم حتى صار إلى النسوة فلم يحفلن به وظنن أنه أعرابي فأقبل يقلب بعصاه الأرض وينظر إليهن فقلن له أذهب منك يا راعي الغنم شيء فأنت تطلبه فقال نعم قال فضربت زينب بكمها على وجهها وقالت السري والله أخزاه الله فأنشأ يقول

صوت
( ما زال فينا سقيمٌ يُسْتَطبُّ له ... من ريح زينبَ فينا ليلةَ الأحدِ )
( حُزْتِ الجَمالَ ونشراً طيبِّاً أرِجاً ... فما تُسمَّينَ إلا مِسكة البلدِ )
( أما فؤادي فشيء قد ذهبتِ به ... فما يضرُّكِ ألا تَحرُبي جسدي )
المهدي يستحسن شعره في الغزل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب الزبيري قال قال أبي قال لي المهدي
أنشدني شعراً غزلاً فأنشدته قول السري بن عبد الرحمن
( ما زال فينا سقيمٌ يستَطبُّ له ... من ريحِ زينبَ فينا ليلةَ الأحدِ )
فأعجبته وما زال يستعيدها مراراً حتى حفظها
أخبرني الحسن قال حدثني أحمد قال حدثني محمد بن سلام

الجمحي قال
كان السري بن عبد الرحمن ينادم عتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف وجبير بن أيمن بن أم أيمن مولى النبي وخالد بن أيوب الأنصاري وكانوا يشربون النبيذ وكلهم كان على ذلك مقبول الشهادة جليل القدر مستوراً فقال السري
( إذا أنتَ نادمتَ العُتيْرَ وذا الندى ... جُبَيراً ونازعتَ الزجاجةَ خالداً )
( أمِنتَ بإذنِ الله أن تُقرَع العصا ... وأن يُنْبهوا من نومة السُّكر راقداً )
فقالوا قبحك الله ماذا أردت إلى التنبيه علينا والإذاعة لسرنا إنك لحقيق ألا ننادمك قال والله ما أردت بكم سوءاً ولكنه شعر طفح فنفثته عن صدري قال وخالد بن أبي أيوب الأنصار ي الذي يقول

صوت
( ألا سقَّني كأسي ودع قول مَن لحَى ... ورَوِّ عظاماً قَصْرُهن إلى بِلى )
( فإن بُطُوء الكأس مَوْتٌ وحبسَها ... وإنَّ دِراك الكأس عندي هو الحيا )
الغناء في هذين البيتين هو لعبد الله بن العباس الربيعي خفيف رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال حدثني مصعب بن عثمان قال حدثني عبيد الله بن عروة بن الزبير قال
خرجت وأنا غلام أدور في السكك بالمدينة فانتهيت إلى فناء مرشوش وشاب جميل الوجه جالس فلما رآني دعاني ثم قال لي من أنت يا غلام فقلت عبيد الله بن عروة بن الزبير فقال اجلس فجلست فدعا بالغداء فتغدينا جميعا ثم قال يا جارية فأقبلت جارية تتهادى كأنها مهاة وفي يدها قنينية فيها شراب صاف وقلة ماء وكأس فقال لها اسقيني فصبت في الكأس وسكبت عليه ماء وناولته فشرب ثم قال اسقيه فصبت في الكأس وسكبت عليه ماء وناولتني فلما وجدت رائحته بكيت فقال ما يبكيك يا بن أخي فقلت إن أهلي إن وجدوا رائحة هذامني ضربوني فأقبل على الجارية بوجهه وقال لها يخاطبها
( ألا سقّني كأسي ودعْ عنكَ من أبى ... وروَّ عظاماً قَصْرُهن إلى بِلى )
فأخذته من يدي وأعطتْه فشربه وقمت فلما جاوزته سألت عنه فقيل لي هذا خالد بن أبي أيوب الأنصاري الذي يقول فيه الشاعر
( إذا أنتَ نادمت العُتَيْر وذا النّدى ... جُبَيْراً ونازعتَ الزجاجة خالداً )
( أمِنت بإذن الله أن تقرعَ العصا ... وأن يوقظُوا من سَكرةِ النوم راقدا )
( وصرتَ بحمدِ الله في خير عُصبةٍ ... حسانِ النّدَامى لا تخاف العَرابدا )

السري وابن الماجشون
أخبرنا وكيع قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال حدثني أبو غسان عن محمد بن يحيى بن عبد الحميد قال
كان السري بن عبد الرحمن يختلف إلى فتية فجاء ابن الماجشون فقال لا أدخل حتى يخرج السري فأخرجته فقال السري
( قَبّح الله أهلَ بيتِ بِسَلْع ... أخرجوني وأدخلوا الماجشونا )
( أدخَلوا هِرةً تُلاعب قِرداً ... ما نراهُم يرَوْن ما يصنعونا )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال
أنشدني أبي للسري بن عبد الرحمن في أمة الحميد بنت عبد الله بن عباس وفي ابنتها أمة الواحد
( أمَةُ الحميدِ وبنتُها ... ظَبيانِ في ظلِّ الأراك )
( يَتتبَّعان بَرِيره ... وظلالَه فهما كذاك )
( حُذِيَ الجَمَالُ عليهما ... حَذْوَ الشَّراك على الشراك )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثني يحيى بن عثمان بن أبي قباحة الزهري قال أنشدني أبو غسان صالح بن العباس بن محمد وهو إذ ذاك على المدينةللسري بن عبد الرحمن
( ليتَني في المؤذِّنين نَهاراً ... إنهم يبصرون مَن في السطوح )

( فيشيرون أو يُشار إليهمْ ... حبّذا كل ذات جِيدٍ مليحِ )
قال فأمر صالح بسدّ المنار فلم يقدر أحد على أن يطلع رأسه حتى عزل صالح
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني زبير بن بكار عن عمه
( أن السري بن عبد الرحمن وقف على عمر بن عمرو بن عثمان وهو جالس على بابه والناس حوله فأنشأ يقول
( با بن عثمانَ يا بنَ خير قريشٍ ... أبْغني ما يَكفُّني بقُباءِ )
( ربما بَلَّني نداك وجَلَّى ... عن جبيني عجاجةَ الغُرَماءْ )
فأعمره أرضاً بقباء وجعلها طعمة له أيام حياته فلم تزل في يده حتى مات
أخبرني وسواسة بن الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن عزيز بن طلحة قال قال معبد خرجت من مكة أريد المدينة فلما كنت قريبا من المنزل أريت بيتاً فعدلت إليه فإذا فيه أسود عنده حبان من ماء وقد جهدني العطش فسلمت عليه واستسقيت فقال تأخر عافاك الله فقلت يا هذا اسقني بسرعة من الماء فقد كدت أموت عطشا فقال والله لا تذوق منه جرعة ولو مت فرجعت القهقرى وأنخت راحلتي واستظللت بظلها من الشمس ثم اندفعت أغني ليبتل لساني
( كفَّنوني إن مت في درع أروى ... واستقوا لي من بئر عروة مائي )

فإذا أنا بالأسود قد خرج إلي ومعه قدح خيشاني فيه سويق ملت بماء بارد فقال هل لك في هذا أرب قلت قد منعتني ما هو أقل منه الماء فقال اشرب عافاك الله ودع عنك ما مضى فشربت ثم قال أعد فديتك الصوت فأعدته فقال هل لك بأبي وأمي أن أحمل لك قربة من ماء وأمشي بها معك إلى المنزل وتعيد علي هذا الصوت حتى أتزود منه وكلما عطشت سقيتك قلت افعل ففعل وسارمعي فما زلت أغنيه إياه وكلما عطشت استقيته حتى بلغت المنزل عشاء

صوت
( سلَبَ الشبابُ رِداءه ... عنِّي ويتبعهُ إزارهْ )
( ولقد تحلُ عليّ حلته ... ويعجبني افتخارهْ )
( سائلْ شبابي هل مستُ ... بسَوْءةٍ أو ذَل جاره )
( ما إن ملكت المال إلاّ ... كان لي وله خياره )
ويروى هل أسأت مساكه
الشعر لمسكين الدارمي والغناء لمقاسه بن ناصح خفيف رمل بالبنصر عن عمرو

أخبار مسكين ونسبه
مسكين لقب غلب عليه واسمه ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد الله بن عدس بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم وقال أبو عمرو الشيباني مسكين بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال أبو عمرو وإنما لقب مسكيناً لقوله
( أنا مسكينٌ لمن أنكرني ... ولِمَن يَعرفني جِدّ نُطُق )
( لا أبيع الناسَ عِرضي إنني ... لو أبيع الناسَ عِرضي لَنَفق )
وقال أيضاً
( سُمّيتُ مسكيناً وكانت لجاجةً ... وإني لمسكين إلى الله راغبُ )
وقال أيضاً
( إنْ أُدعَ مسكيناً فلست بمنكَرٍ ... وهل ينُكرَنَّ الشمسُ ذَرّ شعاعُها )
( لَعَمرك ما الأسماءُ إلا علامةٌ ... منارٌ ومن خير المنارِ ارتفاعها )

شاعر شريف من سادات قومه هاجى الفرزدق ثم كافّه فكان الفرزدق بعد ذلك في الشدائد التي أفلت منها

مسكين والفرزدق
حدثني حبيب بن أوس بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة قال
كان زياد قد أرعى مسكينا الدارمي حمى له بناجية العذيب في عام قحط حتى أخصب الناس وأحيوا ثم كتب له بئر وتمر وكساه قال فلما مات زياد رثاه مسكين فقال
( رأيتُ زيادةَ الإسلام ولّت ... جِهاراً حين ودّعَنا زيادُ )
فعارضه الفرزدق وكان منحرفاً عن زياد لطلبه إياه وإخافته له فقال
( أمسكينُ أبكى الله عينَك إنما ... جرَى في ضلال دَمْعُها فتحدّرا )
( بكيتَ على عِلْج بمَيسان كافر ... ككسرى على عِدِّانِه أو كقيصرا )
( أقول له لما أتاني نعيُّه به ... لا بظبي بالصريمة أعفرا )
فقال مسكين يجيبه
( ألا أيها المرء الذي لستُ قاعداً ... ولا قائماً في القوم إلا انبرى ليا )
( فجئني بعمٍّ مثل عميَ أو أبٍ ... كمثل أبي أو خالِ صدق كخاليا )

( كعمرو بن عمرو أو زرارةَ ذي الندى ... أو البِشْر من كلٍّ فرعتُ الروابيا )
قال فأمسك الفرزدق عنه فلم يجبه وتكافّا
أخبرني ببعض هذا الخبر أو خليفة عن محمد بن سلاّم فذكر نحواً مما ذكره أبو عبيدة وزاد فيه قال والبشر خال لمسكين من النَّمِر بن قاسِط وقد فخرَبه فقال
( شُرَيحٌ فارس النعمان عمّي ... وخالي البِشرُ بشرُ بني هلال )
( وقاتِلُ خالِه بأبيه منا ... سماعةُ لم يبع حسباً بمال )
وأخبرني عمي قال حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه بمثل هذه الحكاية وزاد فيها قال
فتكافّا واتقاه الفرزدق أن يعين عليه جريراً واتقاه مسكين أن يعين عليه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ودخل شيوخ بني عبد الله وبني مجاشع فتكافا
وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال قال الفرزدق
نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئا نجوت من زياد حين طلبني ونجوت من ابني رميلة وقد نذرا دمي وما فاتهما أحد طلباه قطُّ ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبي وفخري لأنه من بحبوحة نسبي وأشراف عشيرتي فكان جرير حينئذ ينتصف من بيدي ولساني
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمود بن داود عن

أبي عكرمة عامر بن عمران عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة أنه سمعه يقول
أشعر ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي
( ألا أيها الغائر المستشيط ... فيم تغار إذا لم تُغَرْ )
( فما خير عِرْس إذا خفتَها ... وما خير عِرس إذا لم تُزر )
( تغار على الناس أن ينظروا ... وهل يَفْتِن الصالحاتِ النظَرْ )
( وإني سأُخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذر )
( إذ اللهُ لم يُعطني حُبَّها ... فلن يُعطِيَ الحُبَّ سوطٌ مُمَر )

مسكين ومعاوية
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني عبد الله بن بشير قال أخبرني أيوب بن أبي أيوب السعدي قال
لما قدم مسكين الدارمي على معاوية فسأله أن يفرض له فأبى عليه وكان لا يفرض إلا لليمن فخرج من عنده مسكين وهو يقول
( أخاكَ أخاكَ إن مَن لا أخا ... له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح )
( وإن ابنَ عم المرء فاعلم جَناحه ... وهل ينهض البازي بغير جَناح )
( وما طالب الحاجات إلا مغرّر ... وما نال شيئاً طالب كنجاح )

قال السعدي فلم يزل معاوية كذلك حتى غزت اليمن وكثرت وضعضعت عدنان فبلغ معاوية أن رجلاً من أهل اليمن قال يوما لهممت ألا أدع بالشأم أحداً من مضر بل هممت ألا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشأم فبلغت معاوية ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس سوى خندف وقدم على تفيئة ذلك عطارد بن حاجب على معاوية فقال له ما فعل الفتى الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان يعني مسكيناً فقال صالح يا أمير المؤمنين فقال أعلمه أني قد فرضت له في شرف العطاء وهو في بلاده فإن شاء أن يقيم بها أني قد فرضت له في شرف العطاء وهو في بلاده فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل فإن عطاءه سيأتيه وبشره أني قد فرضت لأربعة آلف من قومه من خندف قال وكان معاوية بعد ذلك يغزي اليمن في البحر ويغزي قيسا في البر فقال شاعر اليمن
( ألا أيها القوم الذين تجمعوا ... بعَكَّا أُناسٌ أنتُم أم أباعر )
( أتُتْرك قيسٌ آمنين بدارهم ... ونركب ظَهر البحر والبحر زاخر )
( فوالله ما أدري وإني لسائل ... أهمدانُ يُحمى ضَيْمها أم يُحابر )
( أمِ الشرف الأعلى منَ أولاد حِمير ... بنو مالك إذ تَستمر المرائر )
( أأوصى أبوهم بينهم أن تَواصَلوا ... وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا )
قال ويقال إن النجاشي قال هذه الأبيات
أخبرني بذلك عبد الله بن أحمد بن الحارث العدوي عن محمد بن عائد

عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عياش وغيره قالوا
فلما بلغت هذه الأبيات معاوية بعث إلى اليمن فاعتذر إليهم وقال ما أغرينكم البحر إلا لأني أتيمن بكم وأن في قيس نكدا وأخلاقاً لا يحتملها الثغر وأنا عارف بطاعتكم
ونصحكم فأما إذ قد ظننتم غير ذلك فأنا أجمع فيه بينكم وبين قيس فتكونون جميعاً فيه وأجعل الغزو فيه عقبا بينكم فرضوا فعل ذلك فيما بعد
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمدبن زهير بن حرب قال حدثني مصعب بن عبد الله قال وحدثنيه زبير عن عمه قال
كان أصاغر ولد مروان في حجر ابنه عبد العزيز بن مروان فكتب عبد العزيز إلى بشر كتابا وهو يومئذٍ على العراق فورد عليه وهو ثمل وكان فيه كلام أحفظه فأمر بشر كاتبه فأجاب عبد العزيز جواباً قبيحاً فلما ورد عليه علم أنه كتبه وهو سكران فجفاه وقطع مكاتبته زمانا
وبلغ بشراً عتبه عليه فكتب إليه لولا الهفوة لم احتج إلى العذر ولم يكن لك في قبوله مني الفضل
ولو احتمل الكتاب أكثر مما ضمنته لزدت فيه وبقية الأكابر على الأصاغر من شيم الأكارم
ولقد أحسن مسكين الدارمي حين يقول
( أخاك أخاك إنَّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح )
( وإن ابنَ عمّ المرء فاعلم جناحُه ... وهل ينهض البازي بغير جناح )
قال فلما وصل كتابه إلى عبد العزيز دمعت عينه وقال إن أخي كان منتشياً ولولا ذلك لما جرى منه ما جرى فسلوا عمن شهد ذلك المجلس فسئل عنهم فأخبر بهم فقبل عذره وأقسم عليه ألا يعاشر أحداً من ندمائه

الذين حضروا ذلك المجلس وأن يعزل كاتبه عن كتابته ففعل
أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب القادسية قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال
كان الفرزدق يقول نجوت من ثلاث أرجو ألا يصيبني بعدهن شر نجوت من زياد حين طلبني وما فاته مطلوب قط ونجوت من ضربة رئاب بن رميلة أبي البذال فلم يقع في رأسي ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي
ولو هاجيته لحال بيني وبين بيت بني عمي وقطع لساني عن الشعراء
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو العيناء عن الأصمعي قال
خطب مسكين الدارمي فتاة من قومه فكرهته لسواد لونه وقلة ماله وتزوجت بعده رجلاً من قومه ذا يسار ليس له مثل نسب مسكين فمر بهما مسكين ذات يوم وتلك المرأة جالسة مع زوجها فقال
( أنا مسكين لِمَن يعرفني ... لَونيَ السُّمرة ألوانُ العَربْ )
( مَن رأى ظبياً عليه لؤلؤ ... واضحَ الخدين مقروناً بضب )
( أكْسَبتْه الورِقُ البيضُ أباً ... ولقد كان وما يُدعى لأب )
( رُبَّ مهزولٍ سمينٌ بيتُه ... وسمينِ البيت مهزُول النسب )
( أصبحتْ تُرزَق مِن شحم الذُّرا ... وتخال اللؤم دُرّا يُنتهَب )
( لا تَلُمها إنها من نِسوة ... صَخِباتٍ مِلْحُها فوق الرُّكب )
( كشَموسِ الخيلِ يبدو شَغْبُها ... كلما قيل لها هالٌ وَهَب )

يزيد بن معاوية يستعين بمسكين
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق الموصلي قال حدثني أبي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال
كان يزيد بن معاوية يؤثر مسكيناً الدارمي ويصله ويقوم بحوائجه عند أبيه فلما أراد معاوية البيعة ليزيد تهيب ذلك وخاف ألا يمالئه عليه الناس لحسن البقية فيهم وكثرة من يرشح للخلافة وبلغه في ذلك ذرء وكلام كرهه من سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر فأمر يزيد مسكيناً أن يقول أبياتاً وينشدها معاوية في مجلسه إذا كان حافلاً وحضره وجوه بني أمية فلما اتفق ذلك دخل مسكين إليه وهو جالس وابنه يزيد عن يمينه وبنو أمية حواليه وأشراف الناس في مجلسه فمثل بين يديه وأنشأ يقول
( إن أُدْع مسكيناً فإني ابن معشر ... من الناسِ أَحمِي عنهمُ وأذودُ )

( إليك أميرَ المؤمنين رَحْلتُها ... تُثير القطا ليلاً وهنّ هُجود )
( وهاجرةٍ ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتّقَتْها بالقرون سجود )

صوت
( ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ... ومروانُ أم ماذا يقول سعيد )
( بَنِي خلفاءِ اللهِ مهلاً فإنما ... يُبوِّئها الرحمنُ حيث يريد )
( إذا المنبر الغربي خلاَّه ربه ... فإن أميرَ المؤمنين يزيد )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة
( على الطائر الميمون والجَدُّ صاعد ... لِكلِّ أناس طائر وجُدود )
( فلا زلتَ أعلى الناس كعباً ولا تَزَل ... وفود تُسَاميها إليك وفود )
( ولا زال بَيت المُلك فوقَك عالياً ... تُشَيَّد أطناب له وعَمود )
( قُدُور ابنِ حرب كالجوابي وتحتها ... أثافٍ كأمثال الرئال رُكود )
فقال له معاوية ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله قال ولم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة وذلك الذي أراده يزيد ليعلم ما عندهم ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزلا صلته
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو معاوية بن سيعد بن سالم قال قال لي عقيد
غنيت الرشيد
( إذا المنبِبر الغربي خلاَّه ربه ... )

ثم فطنت لخطابي ورأيت وجه الرشيد قد تغير قال فتداركتها وقلت
( فإن أمير المحسنين عقيد ... )
فطرب وقال أحسنت والله بحياتي قل
( فإن أمير المؤمنين عقيد ... )
فوالله لأنت أحق بها من يزيد بن معاوية فتعاظمت ذلك فحلف لا أغنيه إلا كما أمر ففعلت وشرب عليه ثلاثة أرطال ووصلني صلة سيئة
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال
كانت لمسكين الدارمي امرأة من منقر وكانت فاركاً كثيرة الخصومة والمماظة فجازت به يوماً وهو ينشد قوله في نادي قومه
( إن أُدْع مسكيناً فما قَصَرَتْ ... قِدْري بيوتُ الحي والجُدْرُ )
فوقفت عليه تسمع حتى إذا بلغ قوله
( ناري ونارُ الجار واحدة ... وإليه قَبلي تُنزَل القِدر )
فقالت له صدقت والله يجلس جارك فيطبخ قدره فتصطلي بناره ثم ينزلها فيجلس يأكل وأنت بحذائه كالكلب فإذا شبع أطعمك أجل

والله إن القدر لتنزل إليه قبلك فأعرض عنها ومر في قصيدته حتى بلغ قوله
( ما ضَرَّ جاراً لِي أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر )
فقالت له أجل إن كان له ستر هتكته فوثب إليها يضربها وجعل قومه يضحكون منهما
وهذه القصيدة من جيد شعره
صوت
( يا فرحتا إذ صَرَفْنا أوجه الإبلِ ... نحو الأحبة بالإزعاج والعجَلِ )
( نحثُّهن وما يؤتَيْن من دأب ... لكنَّ للشوق حثاً ليس للإِبل )
الشعر لأبي محمد اليزيدي والغناء لسليمان ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي

أخبار أبي محمد ونسبه
أبو محمد يحيى بن المبارك أحد بني عدي بن عبد شمس بن زيد مناة بن تميم
سمعت أبا عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيدي يذكر ذلك ويقول نحن من رهط ذي الرمة
وقيل أنهم موالي بني عدي وقيل لأبي محمد اليزيدي لأنه كان فيمن خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة ثم توارى زماناً حتى استتر أمره ثم اتصل بعد ذلك بيزيد بن منصور خال المهدي فوصله بالرشيد فلم يزل معه
وأدب المأمون خاصة من ولده ولم يزل أبو محمد وأولاده منقطعين إليه وإلى ولده ولهم فيهم مدائح كثيرة جياد
وكان أبو محمد عالماً باللغة والنحو راويةً للشعر متصرفاً في علوم

العرب أخذ عن أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب النحوي وأكابر البصريين وقرأ القرآن على أبي عمرو بن العلاء وجود قراءته ورواها عنه وهي المعول عليها في هذا الوقت
وكان بنوه جميعاً في مثل منزلته من العلم والمعرفة باللغة وحسن التصرف في علوم العرب ولسائرهم علم جيد
ونحن نذكر بعد انقضاء أخباره أخبار من كان له شعر وفيه غناء من ولده إذ كنا قد شرطنا ذكر ما فيه صنعة دون غيره
فمنهم محمد بن أبي محمد وإبراهيم بن أبي محمد واسماعيل بن أبي محمد كل هؤلاء ولده لصلبه ولكلهم شعر جيد
ومن ولد ولده أحمد بن محمد بن أبي محمد وهو أكبرهم وكان شاعراً راوية عالماً ومنهم عبيد الله والفضل ابنا محمد بن محمد وقد رويا عن أكابر أهل اللغة وحمل عنهما علم كثير
وآخر من كان بقي من علماء أهل هذا البيت أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد وكان فاضلاً عالماً ثقة فيما يرويه منقطع القرين في الصدق وشدة التوقي فيما ينقله
وقد حملنا نحن عنه وكثير من طلبة العلم ورواته علماً كثيراً فسمعنا

منه سماعاً جماً فأما ما أذكر ها هنا من أخبارهم فإني أخذته عن أبي عبد الله عن عمية عبيد الله والفضل وأضفت إليه أشياء أخر يسيرة أخذتها عن غيره فذكرت ذلك في مواضعه ورويته عن أهله
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال حدثني أبي قال
كان الرشيد جالساً في مجلسه فأتي بأسير من الروم فقال لدفافة العبسي قم فاضرب عنقه فضربه فنبا سيفه فقال لابن فليح المدني قم فاضرب عنقه فضربه فنبا سيفه أيضاً فقال أصلح الله أمير المؤمنين تقدمتني ضربة عبسية فقال الرشيد للمأمون وهو يومئذٍ غلام قم فداك أبوك فاضرب عنقه فقام فضرب العلج فأبان رأسه ثم دعا بآخر فأمره بضرب عنقه فضربه فأبان رأسه ونظر إلي المأمون نظر مستنطق فقلت
( أبقى دُفافةُ عاراً بعد ضربته ... عند الإمام لِعَبس آخر الأبدِ )
( كذاك أسرتُه تنبو سيوفهمُ ... كسيف ورقاء لم يقطع ولم يكَد )
( ما بال سيفْك قد خانتك ضربتُه ... وقد ضربت بسيف غيرِ ذي أود )

( هلا كضَرْبةِ عبد الله إذ وقعَت ... ففرّقَت بين رأس العلج والجسد )
قال إسماعيل بن أبي محمد في أخباره
كان حمويه ابن أخت الحسن الحاجب وسعيد الجوهري واقفين فذكرا أبا محمد يعني أباه والكسائي ففضل حمويه الكسائي على أبي محمد وفضل سعيد الجوهري أبا محمد على الكسائي
وطال الكلام بينهما إلى أن تراضيا برجل يحكم بينهما فتراهنا على أن من غلب أخذ برذون صاحبه فجعلا الحكم بينهما أبا صفوان الأحوزي فلما دخل سألاه فقال لهما لو ناصح الكسائي نفسه لصار إلى أبي محمد وتعلم منه كلام العرب فما رأيت أحداً أعلم منه به فأخذ الجوهري دابة حمويه وبلغ أبا محمد اليزيدي هذا الخبر فقال
( يا حَمَويه اسمع ثَناً صادقاً ... فيك وما الصادق كالكاذبِ )
( يا جالبَ الخزي على نفسه ... بُعْداً وسًحقاً لكَ من جالب )
( إنْ فخَر الناس بآبائهم ... آتيتَهم بالعجب العاجب )
( قلت وأدْغمتَ أباً خاملاً ... أنا ابنُ أخت الحسن الحاجب )

ابو محمد وسلم الخاسر
قال إسماعيل وحدثني أبي قال
كنت ذات يوم جالساً أكتب كتاباً فنظر فيه سلم الخاسر طويلاً

ثم قال
( أَيْر يحيى أخط من كفّ يحيى ... إنّ يحيى بأَيره لخَطُوطُ )
فقال أبو محمد يحيى
( أمُّ سَلْم بذاك أعلمُ شيء ... إنها تحت أَيره لضَروطُ )
( ولها تارةً إذا ما علاها ... أَزْملٌَ مِن وِداقِها وأطِيط )
( أمُّ سَلم تُعلِّم الشّعرَ سلماً ... حبّذا شِعر أمك المنقوط )
( ليت شعري ما بالُ سلم بنِ عمرو ... كاسفَ البال حين يُذكَر لوط )
( لا يصلِّي عليه فيمن يصلِّي ... بل له عند ذكره تَثْبيط )
فقال له سلم ويحك ما لك خبثت أي شيء دعاك إلى هذا كله فقال أبو محمد بدأت فانتصرت والبادي أظلم
قال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي حدثني عبيد الله وعمي أبو القاسم عن أبي علي إسماعيل قال قال لي أبي قال سلم الخاسر يوماً
يا أبا محمد قل أبياتاً على قول امرىء القيس
( رُبّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... )
ولا أبالي أن تهجوني فيها فقلت
( رُبّ مغمومٍ بعافية ... غَمَط النُعماء من أشَرِهْ )
( مُوردٌ أمراً يُسَرّ به ... فرأى المكروه في صدَرهْ )
( وامرىءٍ طالت سلامته ... فرماه الدهر من غِيّرهْ )
( بسهام غير مُشوِية ... نقضَت منه عُرا مِرَره )

( وكذاك الدهرُ مختلِف ... بالفتى حالين من عُصًرهْ )
( يخلِط العُسْرى بمَيسرة ... ويَسارُ المرء في عُسُرهْ )
( عقّ سلم أمَّه سفهاً ... وأبا سلم على كبرهْ )
( كلَّ يوم خلفَه رجل ... رامح يسعى على أثره )
( يُولج الغُرمْول سبّته ... كَولُوج الضّبّ في جُحُرهْ )
فانصرف سلم وهو يشتِمهُ ويقول ما يحل لأحد أن يكلمك قال وقال لي يوماً أبو حنش الشاعر
يا أبا محمد قل أبياتاً قافيتها على هاءين فقلت له على أن أهجوك فيها فقال نعم فقلت
( قلتُ ونفسي جَمٌّ تأوُهها ... تصبو إلى إلفها وأندَهُها )
( سقياً لصنعاء لا أرى بلداً ... أوطَنه المُوطنون يشبهها )
( حِصْناً وحُسناً ولا كبهجتها ... أعذَى بلادٍ عذاً وأنزهها )
( يعرف صنعاء مَن أقام بها ... أرغدُ أرض عيشاً وأرفهها )
( أبلغْ حضيراً عنّي أبا حنَش ... عائرةً نحوَه أوجِّهها )
( تأتيه مثلَ السهام عامدة ... عليه مشهورةً أُدَهْدهها )
( كُنَيتُه طرحُ نون كنيتِه ... إذا تهجيّتَها ستفقهها )

يريد إسقاط النون من أبي حنش حتى يكون أبا حش
قال أبو عبد الله وحدثني عمي قال حدثني الطلحي وكان له علم وأدب قال
اجتمعت مع أبي محمد عند يونس بن الربيع وكان قد دعانا فأقمنا عنده فاتفق مجلسي إلى جنب مجلس أبي محمد فقام يونس لحاجته وكان جميلا وسيما فالتفت إلى اليزيدي فقال
( وفتى كالقناة في الطّرْف منه ... إن تأملتَ طرفَه استرخاءُ )
( فإذا الرامح المُشيح تلاه ... وضع الرمح منه حيث يشاء )

أبو محمد وقتيبة الخراساني
قال وحدثني عمي عن عمه إسماعيل عن أبي محمد قال
كان قتيبة الخراساني صاحب عيسى بن عمر يأتيني فيسألني عن مسائل كالمتعنت فإذا أجبته عنها انصرف منكسرا وكان أفطس فقلت له يوماً
( أَمُخْبِري أنت يا قتيبةُ عن ... أنفِك أم أنت كاتمٌ خبرهْ )
( بأي جُرم وأيّ ذنب تَرى ... سوّت بخدَّيك أنفَك البقَره )
( فصيَّرتْه كفَيْشة نبتَت ... في وجهِ قرد مفضوضة الكمَره )
( قد كان في ذاك شاغل لك عن ... تفتيش باب العرفان والنكره )
وقلت فيه أيضاً

( إذا عافى مَليك الناس عبدا ... فلا عافاك ربّك يا قُتَيْبه )
( طلبتَ النحو مذ أن كنت طفلاً ... إلى أن جلّلتك قبُحْتَ شيبه )
( فما تزداد إلا النقصَ فيه ... وأنت لدى الإياب بِشَرّ أوبه )
( وكنتَ كغائب قد غاب حيناً ... فطال مُقامُه وأتى بخيبه )
قال أبو محمد
كان عيسى بن عمر أعلم الناس بالغريب فأتاني قتيبة الخراساني هذا فقال لي أفدني شيئاً من الغريب أعاني به عيسى بن عمر فقلت له أجود المساويك عند العرب الأراك وأجود الأراك عندهم ما كان متمئراً عجارما جيداً وقد قال الشاعر
( إذا استكْتَ يوماً بالأراك فلا يَكن ... سواكك إلا المتمئرَّ العُجارما )
يعني الأير قال فكتب قتيبة ما قلت له وكتب البيت ثم أتى عيسى بن عمر في مجلسه فقال يا أبا عمر ما أجود المساويك عند العرب فقال الأراك يرحمك الله فقال له قتيبة أفلا أهدي إليك منه شيئا متمئراً عجارما فقال أهده إلى نفسك وغضب وضحك كل من كان في مجلسه وبقي قتيبة متحيراً فعلم عيسى أنه قد وقع عليه بلاء

فقال له ويلك من فضحك وسخر منك بهذه المسألة ومن أهلكك ودمر عليك قال أبو محمد اليزيدي فضحك عيسى حتى فحص برجله وقال هذه والله من مزحاته وبلاياه أراه عنك منحرفا فقد فضحك فقال قتيبة لا أعاود مسألته عن شيء
حدثني عمي قال حدثني عبيد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي أبو جعفر قال سمعت جدي أبا محمد يقول صرت يوما إلى الخليل بن أحمد والمجلس غاص بأهله فقال لي ها هنا عندي فقلت أضيّق عليك فقال إن الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين وإن شبرا في شبر لا يضيق عن متحابين قال وكان الخليل لأبي محمد صافي الود
حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أخي أحمد قال سمعت جدي أبا محمد يقول
كنت ألقى الخليل بن أحمد فيقول لي أحب أن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع وألقى ابن المقفع فيقول أحب أن يجمع بيني وبين الخليل بن أحمد فجمعت بينهما فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علما ثم افترقنا فلقيت الخليل فقلت له يا أبا عبد الرحمن كيف رأيت صاحبك قال ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت كلامه أكثر من علمه ثم لقيت ابن المقفع فقلت كيف رأيت صاحبك فقال ما شئت من علم وأدب إلا أنّ عقله أكثر من علمه

ناظر الكسائي وغلبه
حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أخي أحمد بن محمد قال حدثني أبي محمد بن أبي محمد قال قال لي أبو محمد

كنا مع المهدي ببلد في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر وكان الكسائي معنا فذكر المهدي العربية وعنده شيبة بن الوليد العبسي عم دفافة فقال المهدي نبعث إلى اليزيدي والكسائي وأنا يومئذٍ مع يزيد بن المنصور خال المهدي والكسائي مع الحسن الحاجب فجاءنا الرسول فجئت أنا فإذا الكسائي على الباب قد سبقني فقال يا أبا محمد أعوذ بالله من شرّك فقلت والله لا تؤتى من قبلي حتى أوتى من قبلك
فلما دخلنا عليه أقبل علي وقال كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا بحراني ونسبوا إلى الحصنين فقالوا حصني ولم يقولوا حصناني كما قالوا بحراني فقلت أصلح الله الأمير لو أنهم نسبوا إلى البحرين فقالوا بحري لم يعرف أإلى البحرين نسبوا أم إلى البحر فلما جاؤوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر يقال له الحصن ينسب إليه غيرهما فقالوا حصني
قال أبو محمد سمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع وكان حاضراً

لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلة هي أحسن من هذه قال أبو محمد قلت أصلح الله الأمير إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب بأحسن مما أجبت به قال فقد سألته فقال الكسائي لما نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان فقالوا حصني اجتزاء بإحدى النونين عن الأخرى ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة فقالوا بحراني فقلت أصلح الله الأمير فكيف تنسب رجلا من بني جنان فإنه يلزمه على قياسه أن يقول جني إن في جنان نونين فإن قال ذلك فقد سوّى بينه وبين المنسوب إلى الجن
قال فقال لي المهدي وله تناظرا في غير هذا حتى نسمع فتناظرنا في مسائل حفظ فيها قولي وقوله إلى أن قلت له كيف تقول إن من خير القوم أو خيرهم نيةً زيد قال فأطال الفكر لا يجيب فقلت لأن تجيب فتخطئ فتتعلم أحسن من هذه الإطالة فقال إن من خير القوم أو خيرهم نية زيداً قال فقلت أصلح الله الأمير ما رضي أن يلحن حتى لحن وأحال قال وكيف قلت لرفعه قبل أن يأتي باسم إن ونصبه بعد رفعه
فقال شيبة بن الوليد أراد بأو بل فرفع هذا معنى فقال الكسائي ما أردت غير ذلك فقلت فقد أخطأ جميعا أيها الأمير لو أراد بأو بل رفع زيداً لأنه لا يكون بل خيرهم زيداً فقال المهدي يا كسائي لقد دخلت علي مع مسلمة النحوي وغيره فما رأيت كما أصابك اليوم قال ثم قال هذان عالمان ولا يقضي بينهما إلا أعرابي فصيح يلقى عليه المسائل التي اختلفا فيها فيجيب قال فبعث إلى فصيح من فصحاء الأعرب قال أبو محمد وأطرقت إلى أن يأتي الأعرابي وكان المهدي محبا لأخواله ومنصور بن يزيد بن منصور حاضر فقلت أصلح الله الأمير كيف ينشد هذا البيت الذي جاء في هذه الأبيات

( يا أيها السائلي لأُخبره ... عمن بصنعاءَ من ذوي الحسبِ )
( حِمْيرُ سادتُها تُقر لها ... بالفضل طرّاً جحاجح العرب )
( وإنَّ من خيرهم وأكرمهمْ ... أو خيرَهم نية أبو كرب )
قال فقال لي المهدي كيف تنشده أنت فقلت أو خيرهم نية أبو كرب على إعادة إن كأنه قال أو إن خيرهم نية أبو كرب فقال الكسائي هو والله قالها الساعة قال فتبسم المهدي وقال إنك لتشهد له وما تدري قال ثم طلع الأعرابي الذي بعث إليه فألقيت عليه المسائل فأجاب فيها كلها بقولي فاستفزني السرور حتى ضربت بقلنسيتي الأرض وقلت أنا أبو محمد فقال لي شيبة أتتكنى باسم الأمير فقال المهدي والله ما أراد بذلك مكروها ولكنه فعل ما فعل للظفر وقد لعمري ظفر
فقلت إن الله عز و جل أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله وأنطق غيرك بما هو أهله قال فلما خرجنا قال لي شيبة أتخطّئني بين يدي الأمير أما لتعلمن قلت قد سمعت ما قلت وأرجو أن تجد غبها ثم لم أصبح حتى كتبت رقاعاً عدة فلم أدع ديوانا إلا دسست إليه رقعة فيها أبيات قلتها فيه فأصبح الناس يتناشدونها وهي
( عِش بِجَدٍّ ولا يضرُّك نَوك ... إنما عَيش من تَرى بالجُدودِ )
( عِش بِجَدّ وكن هَبنّقة القيسيّ ... نَوكاً أو شيبَة بنَ الوليد )

( شيب يا شيب يا جُدَدي بني القعْقاع ... ما أنت بالحليم الرشيد )
( لا ولا فيك خَلَّةٌ من خلال الخير ... أحرزْتها لحزم وجود )
( غيرَ ما أنك المجيد لتقطيع ... غناءٍ وضرب دُفّ وعود )
( فعلَى ذا وذاك يحتمِل الدهر ... مجيداً له وغير مجيد )
قال وقال أبو محمد اليزيدي يهجو خلفا الأحمر أستاذ الكسائي أنشدنيه عمي الفضل
( زعم الأحمر المَقيت عليٌّ ... والذي أمّه تُقِرّ بمقتهْ )
( أنه علَّم الكسائي نحواً ... فلئن كان ذا كذاك فبِاسته )

الرشيد يأمر له بمال فيستعين بأصحابه على تعجيله
وبهذا الإسناد عن أبي محمد قال
أمر لي الرشيد بمال وحضر شخوصه إلى السن فأتيت عاصماً الغساني وكان أثيراً عند يحيى بن خالد فقلت له إن أمير المؤمنين قد

أمر لي بمال وقد حضر من شخوصه ما قد علمت فأحب أن تذكر أبا علي يحيى بن خالد أمره ليعجله إلي فقال نعم ثم عدت بعد ذلك بيومين فقال لي يتفخم في لفظه ما أصبت بحاجتك موضعاً قال قلت فاجعلها منك أكرمك الله ببال
فلما خرجت لحقني بعض من كان في المجلس فقال لي يا أبا محمد إني لأربأ بك أن تأتي هذا الكلب أو تسأله حاجة قلت وكيف قال سمعته يقول وقد وليت لو أن بيدي دجلة والفرات ما سقيت هذا منها شربة فقيل له ولم ذاك أصلحك الله فإن له قدرا وعلما قال لأنه من مضر ما رأيت مضريا قط يحب اليمانية
قال فأحببت ألا أعجل فعدت إليه من غد فقلت هل كان منك أكرمك الله في الحاجة شيء فقال والله لكأنك تطلبنا بدين فتحقق عندي ما بلغني عنه فقلت له لا قضى الله هذه الحاجة على يدك ولا قضى لي حاجة أبداً إن سألتكها والله لا سلّمت عليك مبتدئاً أبداً ولا رددت عليك السلام إن بدأتني به ونفضت ثوبي وخرجت
فإني لأسير وأفكر في الحيلة لحاجتي إذا براكب يركض حتى لحقني فقال بعثني إليك أبو علي يحيى بن خالد لتقف حتى يلحقك فرجعت مع رسوله إليه فلقيته وكان قريبا فسلمت عليه ثم سايرته فقال لي إن أمير المؤمنين أمرني أن آمرك بطلب مؤدّب لابنه صالح فإني أحدّثك حديثاً حدثني به أبي خالد بن برمك أن الحجاج بن يوسف أراد مؤدباً لولده فقيل له ها هنا رجل نصراني عالم وها هنا مسلم ليس علمه كعلم النصراني قال ادعوا لي المسلم
فلما أتاه قال ألا ترى يا هذا أنّا قد دللنا على نصراني قد ذكروا أنه أعلم منك غير أني كرهت أن أضم إلى ولدي من لا ينبّههم للصلاة عند

وقتها ولا يدلهم على شرائع الإسلام ومعالمه وأنت إن كان لك عقل قادر على أن تتعلم في اليوم ما يعلمه أولادي في جمعة وفي الجمعة ما يعلمهم في الشهر وفي الشهر ما يعلمهم في سنة
ثم قال لي يحيى فينبغي يا أبا محمد أن نؤثر الدين على ما سواه فقلت له قد أصبت من أرضاه وذكرت له الحسن بن المسور فضمه إليه ثم سألني من أين أقبلت فأخبرته بخبر عاصم وما كان منه فقلت له قد حضر هذا المسير ولست أدري من أي وجه أتقاضاه فضحك وقال ولم لا تدري الق صديقك جعفراً يعني ابنه حتى يكلم أمير المؤمنين أو يذكرني حاجتك فقد تركته على المضي الساعة فانثنيت إلى جعفر وقلت له في طريقي
( يا سائلي عما أخبره ... عن جعفر كرماً وعن شيمهْ )
( إن ابن يحيى جعفراً رجل ... سِيطَ السماحُ بلحمه ودمه )
( فعليه لا أبداً محرمةٌ ... وكلامه وقف على نَعَمه )
( وترى مُسابقَه ليدركه ... بمكان حَذْو النعل من قدمه )
فلما دخلت إليه أخبرته الخبر وأنشدته الأبيات وأعلمته ما أمرني به أبوه فقال لي قل بيتين تدكره فيهما إلى أن أجدد طهرا واكتبهما حتى يكونا معي فأذكر بهما حاجتك فقلت نعم يا سيدي وأخذت الدواة وكتبت
( أحقُّ مَن أنجز موعودَه ... خليفةُ الله على خلقهِ )
( ومَن له إرث نبيّ الهدى ... بالحق لا يُدفَع عن حقه )
( يُنسب في الهَدْي إلى هَدِيِه ... بِرّاً وفي الصدق إلى صدقه )
( ومَن له الطاعة مفروضة ... لائحة بالوحي في رَقِّه )
( والراتقُ الفتقِ العظيم الذي ... لا يقدر الناس على رتْقه )

قال فأخذ الشعر ومضى إلى الرشيد في حاجتي وأقرأه إياه فصك إلي بالمال عليه وقبضته بعد ذلك بيوم وأنشأت أقول في الغساني
( ألا طَرَقتْ أسماء أم أنت حالِم ... فأهلاً بطيف زار والليل عاتمُ )
( إذا قيل أيُّ الناس أعظم جفوةً ... وألأمُ قيل الجر مقانيُّ عاصم )
( دَعِيّ أجاءته إلى اللؤم دعوة ... ومغرِس سَوء لؤمه متقادم )
( شَهِيدي على أن ليس حراً صَلِيبةً ... صفيحةُ وجه ابنِ استِهَا واللهازم )
( صفيحة دَقّاق أبوه شبيهه ... وجدّاه سمَّاك لئيم وحاجم )
( أعاصمُ خلِّ المكرمات لأهلها ... وأغْض عَلَى لؤم ووجهُك سالم )
( فكيف تنَال الدهر مجداً وسودَداً ... وفي كل يوم كوكبٌ لك ناجم )
( وأصلك مدخول وفِسقك ظاهر ... وعَجْبك مهموز وعَرْدك عارم )
( تُصانع غساناً لتُلَحق فيهُم ... ورُبَ دَعِيّ ألحقته الدراهم )
( فإن راب رَيب أو أَصابتك شدة ... رجعتَ إلى شَلْثى وأنفك راغم )
قال وكان اسم ابن شلثى ... فصيره صلتاً
( إذا عَاصما يوماً أتيتَ لحاجة ... فلا تلقَه إلا وأَيرك قائم )

( وعرِّض له من قبل ذاك بأمرَدِ ... وضيء وسِيم أثقَلْته المآكم )
( وإلا فلا تسأله ما عِشت حاجة ... ولا تبكه إن أعولَتْه المآتم )
قال فلما حدث ببني برمك ما حدث قبضت ضيعته في المقبوض من ضياع أسبابهم فصار إلي وكلمني في أمرها وسألني كلام الجوهري في ذلك فقمت له حتى ردت الضيعة عليه فجاءني يشكرني ويعتذر مما جرى من فعله المتقدم فقلت له تناس ما مضى فلست ممن يكافئ على سوء أحداً

أبو محمد يهجو أبا عبيدة
قال أبو محمد كان أبو عبيدة يجلس في مسجد البصرة إلى سارية وكنت أنا وخلف الأحمر نجلس جميعاً إلى أخرى وكان أبو عبيدة من أعضه الناس للناس وأذكرهم لمثالبهم فقال لأصحابه أترون الأحمر واليزيدي إنما يجتمعان على الوقيعة للناس وذكرمساويهم وبلغني ذلك وأنه قد رمانا بمذهبه فقلت لخلف دعه فأنا أكفيكه فلما كان من الأذان جئت أنا وخلف إلى المسجد فكتبت على الجص في الموضع الذي كان يجلس فيه أبو عبيدة
( صلى الإله عَلَى لوط وشيعتِه ... أبا عبيدة قل بالله آمينا )
قال وأصبح الناس وجاء أبو عبيدة فجلس وهو يعلم ما فوق رأسه مكتوبا وأقبل الناس ينظرون إلى البيت ويضحكون ورفع أبو عبيدة رأسه ونظر إليه فخجل ولم يزل منكساً رأسه حتى انصرف الناس وأنا وخلف ناحيةً ننظر إلى ما به ثم قمنا حتى وقفنا عليه فقلنا له ما قال

صاحب هذا البيت إلا حقاً نعم فصلى الله على لوط فأقبل عليّ وقال قد علمت من أين أتيت ولن أعاود التعرض لتلك الجهة ولم يعد لذكرنا بعد ذلك
وقال أبو محمد اعتللتُ علة من حمى ربع طالت عليّ أشهراً فجفاني يزيد بن منصور ولم يمر بي في علتي ولم يتفقدني كما ينبغي فكتبت رقعة إليه ضمنتها هذه الأبيات
( قل للأمير الذي يرجو نوافِلَه ... مَن جاء طالباً للخير منتابا )
( إني صحبتك دهراً كلَّ ذاك أرى ... مِنْ دون خَيرك حُجَّاباً وأبواباً )
( وَكم ضريكٍ أجاءته شقاوَتُه ... إليك إذا أنشَبتْ ضَراؤها نابا )
( فما فتحتَ له باباً لميسرة ... وَلا سددتَ له من فاقة بابا )
( كغائب شاهدٌ يخفي عليك كما ... من غاب عنك فوافى حظُّه غابا )
فلما قرأها قال جفونا أبا محمد وأحوجناه إلى استبطائناً والله المستعان وبعث إليه بصلة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الفهم وكان من أصحاب الأصمعي قال
كان خلف الأحمر يعبث بأبي محمد اليزيدي عبثاً شديداً وربما جدّ فيه وأخرجه مخرج المزح فقال فيه ينسبه إلى الّلواط
( إني ومَن وَسَج المَطيُّ له ... حُدْبَ الذرى أذقانها رُجُفُ )

( يَطرحن بالبِيد السِّحال إذا ... حثّ النجاءَ الركبُ وازدَهفوا )
( والمُحرمِين لِصَوتهم زَجَل ... بِفِناء كعبته إذا هتفوا )
( وإذا قطَعْن مسافَ مَهْمَهة ... قَذَفٍ تعرّض دونها شَرَف )
( وافَتْ بهمْ خُوص محزَّمة ... مثلُ القِسيِّ ضوامرٌ شُسُف )
( مِنّي إليه غيرَ ذي كذِب ... ما إن رأى قوم ولا عرَفوا )
( في غابر الناس الذين بقُوا ... والفُرَّطِ الماضين إذ سَلفوا )
( أحداً كيحيى في الطعان إذا افتَرش ... القنا وتضعضع الحَجَف )
( في مَعرك يُلقى الكَمِيّ به ... للوجه منبطحاً وينحرف )
( وإذا أكبّ القِرن يُتِبعه ... طعناً دُوَين صَلاه ينخسف )
( للهِ دَرُّك أيّ ذي نُزُلٍ ... في الحرب إذ همّوا وإذ وقفوا )
( لا تخطىء الوجعاء ألّته ... ولا تُصدّ إذا همُ زحفوا )
( وله جِياد لا يُفِرّطها الإحلال ... والمضمار والعلف )

( جُرْد يهان لها السَّوق وألبان ... اللِّقاح كأنها نُزُف )
( مُرْد وأطفال تخالهم ... دُرّاً تَطابق فوقه الصَّدَف )
( فهمُ لديه يعكُفون به ... والمَرء منه اللِّين واللُطف )
( ومتَى يشا يُجنَب له جَذع ... نَهْدٌ أسيل الخد مشترف )
( يمشي العِرَضْنَةَ تحت فارسه ... عَبْلَ الشوَى في متنه قَطف )
( رَبِذٌ إذا عرِقت مَغابِنه ... ذَهَب السكون وأقبل العُنف )
( فأعدِّ ذاك لسرجه وله ... في كل غادية لها عُرُف )
( في حَقْوه عَردٌ تَقدّمُه ... صلعاء في خرطومها قَلَف )
( جرداء تُشحَذ بالزاق إذا ... دُعيَت نزال وهبّ مرتدِف )
( أوفى على قِيدِ الذراع شديدُ ... الجَلْز في يافوخه جَوَف )
( خاظٍ مُمَرّ متنُه ضَرِم ... لا خانه خَوَر ولا قَضَف )

( عَرْدُ المَجس بمتنه عُجَر ... في جِذره عن فخذه جنَف )
( فلوَ أن فياضاً تأمله ... نادى بجهد الويل يلتهف )
( وإذا تمسّحه لِعادته ... ودنا الطعان فمِدْعَس ثَقِف )
( وإذا رأى نفَقاً رَبَا ونزا ... حتى يكاد لعابه يكف )
( لا ناشئاً يُبِقي ولا رجلاً ... فنِداً وهذا قلبه كلِف )
( يا ليتني أدري أمُنجيتي ... وجناءُ ناجيةٌ بها شَدَف )
( من أن تعلقني حبائلُه ... أو أن يواري هامتِي لُجُف )
( ولقد أقول حِذارَ سطوته ... إيهاً إليك توَقّ يا خلَف )
( ولو أن بيتك في ذُرا علَم ... مِن دون قلة رأسه شَعَف )
( زَلِقٍ أعاليه وأسفلُه ... وعر التنائف بيتها قذف )
( لَخَشيت عَرْدَك أن يُبِّيتَني ... أن لم يكن ليَ عنه منصرَف )
قال الأصمعي فحدثني شيخ من آل أبي سفيان بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال
أنشدت قصيدة خلف الفائية هذه وأعرابي جالس يسمع فلما سمع قوله

( فإذا أكب القرنَ أتبعه ... طعناً دُوَين صَلاه ينخسف )
قال الأعرابي وأبيك لقد أحب أن يضعه في حاق مقيل ضرطته
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني ابن الفهم قال حدثني الأصمعي قال
كنت مع خلف جالسا فجرى كلام في شيء من اللغة وتكلم فيه أبو محمد اليزيدي وجعل يشغب فقال لي خلف دعني من هذا يا أبا محمد وأخبرني من الذي يقول
( فإذا انتشأتُ فإنني ... رب الحُرَيبة والرُّمَيح )
( وإذا صحوتُ فإنني ... رب الدُّوَيّة واللوَيح )
يعرّض به أنه معلم وأنه يلوط فغضب اليزيدي وقام فانصرف
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني طلحة الخزاعي قال حدثني أبو سعيد عثمان بن يوسف الحنفيُّ قال
غاضب أبو محمد اليزيدي مواليه بني عدي رهط ذي الرمة من بني تميم لأمر استنهضهم فيه فقعدوا عنه فقال يهجوهم
( يا أيها السائل عن قومنا ... لمّا رأى بِزَّةَ أحبارهم )
( وحُسن سَمْت منهُم ظاهراً ... إعلانُهم ليس كإسرارهم )
( سائلْ بهم أحمرَ أو غيرَه ... يُنبيك عن قومي وأخبارهم )

( قوم كرام ما عدا أنهم ... صولتهم منهم على جيرانهم )
( أسد على الجيران أعداؤهم ... آمنة تخطر في دارهم )
( لو جاءهم مقتبساً جارُهم ... ما قبسوه الدهر من نارهم )
( وقد وترناهمْ فلم نخش مَن ... ينهض في سيره أو ثارهم )
( أحسنُ قوم لمواليهمُ ... إن أيسروا يَوماً لأيسارهم )
( شهادة الزور لهم عادة ... حقاً بها قيمة أخبارهم )
( وما لهم مجد سوى مسجد ... به تعدَّوا فوق أطوارهم )
( لو هُدم المسجد لم يُعرفوا ... يوماً ولم يسمع بأخبارهم )
مدحه المأمون عندما بلغ وصار في حدّ الرجال
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي عبيد الله قال حدثني عمي إسماعيل وأخي أحمد قالا
لما بلغ المأمون وصار في حد الرجال أمرنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم الجمعة فعملنا له خطبته المشهورة وكان جهير الصوت حسن اللهجة فلما خطب بها رقَّت قلوب الناس وأبكى من سمعه فقال أبو محمد اليزيدي
( لِتَهْنِ أميرَ المؤمنين كرامةٌ ... عليه بها شكرُ الإله وُجوبُ )
( بأن وليّ العهد مأمونَ هاشم ... بدا فضله إذ قام وهو خطيبُ )
( ولما رماه الناس من كل جانب ... بأبصارهم والعُود منه صليب )
( رماهم بقول أنصتوا عجباً له ... وفي دونه للسامعين عجيب )

( لما وعَت آذانُهم ما أتى به ... أنابَتْ ورقَّت عند ذاك قلوب )
( فأبكى عيونَ الناسَ أبلغُ واعظ ... أغرُّ بِطاحيُّ النَّجار نجيب )
( مَهيب عليه لِلوقار سكينة ... جريء جَنانٍ لا أكَعّ هيوب )
( ولا واجبٌ فوق المنابر قلبُه ... إذا ما اعترى قلبَ النجيب وجيب )
( إذا ما علا المأمونُ أعوادَ منبر ... فليس له في العالمين ضريب )
( تصدَّع عنه الناس وهو حديثهم ... تَحدث عنه نازح وقريب )
( شَبيه أمير المؤمنين حَزامةً ... إذا وردَتْ يوماً عليه خطوب )
( إذا طاب أصل في عُروق مِشاجه ... فأغصانه من طيبه ستطيب )
( فقل لأمير المؤمنين الذي به ... يقدَّم عبد الله فهو أديب )
( كأن لم تغب عن بلدة كان والياً ... عليها ولا التدبيرُ منك يغيب )
( تتبعَ ما يُرضيك في كل أمره ... فسِيرته شخص إليك حبيب )
( ورِثتم بني العباس إرثَ محمد ... فليس لحَيِّ في التراث نصيب )
( وإني لأرجو يابن عم محمد ... عطاياك والراجيك ليس يخيب )
( أثبني على المأمون وابنِي محمداً ... نوالاً فإياه بذاك تثيب )
( جِناب أمير المؤمنين مُبارَك ... لنا ولكل المؤمنين خصيب )
( لقد عَمَّهمْ جُود الإمام فكلهم ... له في الذي حازت يداه نصيب )

صوت
فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف

درهم ولابنه محمد بن أبي محمد بمثله
أخبرني عمي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي أحمد عن أبيه قال
أستأذن أبو محمد الرشيد وهو بالرقة في الحج فأذن له فلما أعاد أنشدنا لنفسه
( يا فرحتا إذ صرفنا أوجه الإبل ... إلى الأحبة بالإزعاج والعَجَل )
( نحثهن ولا يُؤتَيْن من دأب ... لكنَّ للشوق حثاً ليس للإبل )
( يا نائياً قرُبَتْ منه وساوسه ... أمسَى قرينَ الهوى والشوقِ والوجل )
( إن طال عهدك بالأحباب مغترباً ... فإن عهدك بالتسهيد لم يَطل )
( أمَا اشتفَى الدهرُ من حَرّانَ مُختبَلٍ ... صبِّ الفؤاد إلى حَرانَ مُخْتَبَلِ )
( عِش بالرجاء وأمّل قرب دراهمُ ... لعل نفسك أن تبقى مع الأمل )

أخبار من له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي وولد ولده
فمنهم محمد بن أبي محمد ومما يغنى من شعره قوله
صوت
( أتيتُك عائذاً بكَ منك ... لما ضاقت الحِيلُ )
( وصيَّرني هواك وبَي ... لِحَيني يُضْرَب المثل )
( فان سلِمَتْ لكم نفسي ... فما لاقيته جَلَل )
( وإن قَتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل )
الشعر لمحمد بن أبي محمد اليزيدي يكنى أبا عبد الله والغناء لسليم بن سلام ثقيل أول بالبنصر وله أيضاً فيه ماخوري وكان سليم صديق محمد بن أبي محمد اليزيدي كثير العشرة له وليس في شيء من شعره صنعة إلا له وله يقول محمد بن أبي محمد اليزيدي
صوت
( بأبي أنتَ يا سُلَيم وأُمي ... ضِقتُ ذَرعاً بهجر من لا أسمِّي )
( صدّ عنِّي أقَرُّ مَن خلق الله ... لعيني فاشتد غمي وهمي )
( ما احتيالي إن كان في القدر السابق ... لِلْحَيْنِ أن أموت بسُقمي )

الغناء لسليم خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن أخيه أبي جعفر عن أبيه محمد بن أبي محمد قال
قال لي أبي نظر إليك أبو ظبية العكلي وقد جاءني فقال لي وقد أقبلت
( يَلِد الرجال بَنيهمُ أولادَهمْ ... وولدْتَ أنت أباً من الأولاد )
قال أبو محمد وكتب أبو ظبية يوماً
( أيحيى لقد زُرناك نلتمس الجَدَا ... وأنت امرؤ يرجَى جَداه ونائله )
( وما صنع المعروف في الناس صانع ... فيُحْمَدَ إلا أنت بالخير فاضله )
( تخيرك الناسَ الخليفةُ لابنه ... وأحكمْتَ من كل أمر يحاوله )
( فما ظنَّ ذو ظنٍّ من الناس علمُه ... كعلمك إلا مخطىء الظن فائله )
( إليك تناهت غايةُ الناس كلِّهم ... إذا اشتبهَتْ عند البصير مسائله )
قال أبو محمد فكتب إليه
( أبا ظبيةَ اسمع ما أقول فخَيْرُ ما ... يقال إذا ما قيل صُدق قائله )
( إذا شئت فانهَدْ بي إلي من أردتَه ... وأملِّتَ جدواه فإني منازلة )
( فإن يك تقصير ولا يك عارفاً ... بحقك فاعذلِه فتكثر عواذله )
حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أخي أحمد عن أبي قال

صرت إلى العباس بن الأحنف فقال لي ما حاجتك قلت أمرني أخوك وأبي أن أصير إليك وأستفيد منك فقال لي أتصير إلي وددت أني سبقتك إلى بيتين قلتهما وإني لم أقل من الشعر شيئاً غيرهما فدخلني من السرور ما الله به عليم فقلت وما هما فقال قولك
( يا بَعيد الدار موصولا ... بقلبي ولِساني )
( رُبما باعدك الدهر ... وأدنتك الأماني )

سرق معنيين من الشعر لمسلم بن الوليد
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن داود الجراح قال حدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أحمد بن محمد قال
سمعت أبي يقول ما سرقت من الشعر شيئاً إلا معنيين قال مسلم بن الوليد
( ذاك ظبي تحيّر الحسنُ في الأركان ... منه وحلّ كل مكانِ )
( عَرَضَتْ دونه الحِجال فما يل ... قاك إلا في النوم أو في الأماني )
فقلت
( يا بعيد الدار موصولاً ... بقلبي ولساني )
( ربما باعدك الدهر ... وأدنتك الأماني )

وقال مسلم أيضاً
( متى ما تسمعي بقتيل حُبٍّ ... أُصيب فإنني ذاك القتيلُ )
فقلت أنا
( أتيتكِ عائذاً بكِ منكِ ... لما ضاقت الحِيلُ )
( وصّيرني هواكِ وبِي ... لحيني يُضْرَب المثل )
( فإن سلمَتْ لكم نفسي ... فما لاقيته جَلل )
( وإن قتَل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل )
أخبرني محمد بن العباس قال حدثني عمي عبيد الله عن أخيه أبي جعفر قال
عتب أبي يعني محمد بن أبي محمد على يونس بن الربيع وكان صديقه فكتب إليه
( سأبكيك حّياً لا بكيتك ميِّتاً ... بأربعة تجري عليك هُمولاً )
( وأُعفيك ممن طول اللقاء وإنني ... أرى اليوم لا ألقاك فيه طويلاً )
( فكيف بصبري عنك لا كيف بعدما ... حلِلتَ محلاً في الفؤاد جليلاً )
قال وكتب إليه يونس
( إلى كم قد بَليِت وليس يبلى ... عتاب منك لي أبداً طويلُ )
( إذا كثر التجنّي من خليل ... ولم تُذنبْ فقد ظَلم الخليل )
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن الفهم قال قال لي أبو سمير عبد الله بن أيوب مولى بني أمية
بات عندي ليلة محمد بن أبي محمد اليزيدي فظهر لنا قنفذ فقلت له قل فيه شيئا فأنشأ يقول

( وطارقِ ليل زارنا بعد هَجْعة ... من الليل إلا ما تحدث سامرُ )
( فقلْتُ لعبد الله ما طارقُ أتى ... فقال امرؤ سبَقت إليه المقادر )
( قَرَيناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفَّاق الحشا وهو سادر )
( جميل المحَيّا والرضا فإذا أبى ... حمَتْه من الضيم الرماح الشَّواجر )
( ولست تراه واضعاً لسلاحه ... مدى الدهر موتوراً ولا هو واتر )
حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني أبو صالح بن يزداد قال حدثني أبي قال
جاء محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى باب المأمون وأنا حاضر فاستأذن فقال الحاجب قد أخذ دواء وأمرني ألا آذن لأحد قال فأمرك ألا توصل إليه رقعة قال لا فدفع إليه رقعة فيها
( هدّيتَي التحيةُ للإمام ... إمام العدل والملِك الهمام )
( لأني لو بّذْلت له حياتي ... وما هوى لقلاّ للإمام )
( أراك من الدواء اللَّهُ نفعاً ... وعافيةً تكون إلى تمام )
( وأعقبك السلامةَ منه رَبِّ ... يُريك سلامة في كل عام )
( أتأذن في السلام بلا كلام ... سوى تقبيل كفك والسلام )
قال فأوصلها وخرج فأذن له فدخل وسلم وحملت معه ألفا دينار
حدثني عمي قال حدثني الفضل اليزيدي قال حدثني أخي أحمد عن أبي

قال دخلْتُ إلى المعتصم وهو ولي عهد وقد طلع القمر فتنفس ثم قال يا محمد قل أبياتاً في معنى طلوع القمر فإنه غاب مدة كما غاب محبوب عن حبيبه ثم طلع فإن كان كما أحب فلك بكل بيت مائة دينار فقلت

صوت
( هذا شبيه الحبيب قد طلعا ... غاب كما غاب ثم قد لمعا )
( وما أرى غيرَه يشاكله ... فاسأله بالله عنه ما صنعا )
( فرّق بيني وبينه قدر ... هو الذي كان بيننا جمَعا )
( فهل له عودة فأرقبَها ... كما رأينا شِبهه رجعا )
فقال أحسنت وحياتي ثم قال لعلويه غن في هذه الأبيات وكان حاضراً فغنى فيها وشرب عليها ليلته وأمر لي بأربعمائة دينار ولعلويه بمثلها
لحن علوية في هذه الأبيات رمل
المأمون يحكم له بثلاثة آلاف دينار
حدثني عمي قال حدثنا الفضل بن محمد قال حدثني أخي عن أبي قال
شكوت إلى المأمون ديناً علي فقال إن عبد الله بن طاهر اليوم عندي وأريد الخلوة معه فإذا علمت بذلك فاستدع أن يكون دخولك أو إخراجه إليك فإني سأحكم لك عليه بمال فلما علمت أنهم قد جلسوا للشرب صرت إلى الدار وكتبت بهذين البيتين

( يا خير سادات وأصحاب ... هذا الطفَيليُّ على البابِ )
( فصِّيروا لي معكمْ مجلساً ... أو أخرِجُوا لي بعض أصحابي )
وبعثت بهما إليه فلما قرأهما قال صدق اكتبوا إليه وسلوه أن يختار فكتب إلي أما وصولك فلا سبيل إليه ولكن من تختار لنخرجه إليك فتمضي معه
فكتب ما كنت لأختار على أبي العباس أحداً فقال له المأمون قم إلى صديقك
فقال يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تعفيني من ذلك أتخرجني عما شرفتني به من منادمتك وتبدلني بها منادمة ابن اليزيدي قال لا بد من ذلك أو ترضيه
قال فيلحتكم
قال أخاف أن يشتط أو تقصر أنت ولكني أحكم فأعدل
قال قد رضيت
قال تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار معجلة
قال قد فعلت فأمر صاحب بيت المال أن يحملها معي وأمر عبد الله بردها إلى بيت المال
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال
كان محمد بن أبي أحمد اليزيدي يعشق جارية لسحاب يقال لها عليا وكانت من أظرف النساء لساناً وأحسنهن وجهاً وغناء فأعطي بها ثلاثة آلاف دينار فلم تبع واشتراها المعتصم بخمسة آلا ف دينار وذلك في خلافة المأمون وكان علي بن الهيثم جونقاً صديقاً لمحمد بن ابي أحمد اليزيدي فبلغ المأمون الخبر فدعا محمداً وقال ما قصتك مع عليا قال قد قلت في ذلك أبياتاً فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتها
قال هاتها فأنشده
( أشكو إلى الله حُبي للعَليّينا ... وأنني فيهمُ ألقَى الأمرينا )
( حَسْبي علًّيا أمير المؤمنين فقد ... أصبحتُ حقًّا أرى حبّي له دِينا )

( وحبَّ خٍلِّي وخُلصاني أبي حسن ... أعني علّياً قريعَ التغلَبيينا )
( ورِقتي لبُنَيٍّ لي أُصِبت به ... وَجْدِي به فوق وجد الآدميينا )
( ورابع قد رمى قلبي باسهمه ... فجُزْت في حبه حدّ المحبينا )
( وبعض من لا أسمِّي قد تمَّلكه ... فرُحتُ عنه بما أعيا المداوينا )
( أتاه بالدين والدنيا تمكُّنُه ... فلم يدَع ليَ لا دُنيا ولادِينا )
قال فقال المأمون لولا أنه أبو إسحاق لانتزعتها منه ولكن هذا ألف دينار فخذه عوضاً ولقيني المعتصم في الدار فقال لي يا محمد قد علمت ما آل إليه أمر فلانة فلا تذكرنها فقلت السمع والطاعة لأمرك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم قال حدثني جعفر بن محمد اليزيدي عن أبيه محمد بن أبي محمد قال كنت عند المأمون فقال لي يا محمد قل شعراً في نحو هذين البيتين
( صحيح يودّ السُّقم كيما تعودُه ... وإن لم تَعُده عاد منها رسولُها )
( لِيعلم هل ترتاع عند شَكاته ... كما قد يروع المُشفقات خليلها )
قال فقلت
( صحيحُ وَدّ لو أمسى عليلا ... لتكتبَ أو يرى منكم رسولا )
( رآك تسومُه الهجران حتى ... إذا ما اعتلّ كنت له وَصولا )
( فودّ ضَنا الحياة بوصل يوم ... يكون على هواكَ له دليلا )
( هما موتان موت هوى وهَجرٍ ... وموت الهجر شرُّهما سبيلا )

قال فأمر لي بعشرة آلاف درهم
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي
عن أبيه قال دخلت على المأمون وهو يشرب وعنده عريب ومحمد بن الحارث بن بسخنر يغنيانه فقال أطعموا محمداَ شيئاً فقلت قد بدأت بذلك في دار أمير المؤمنين فقال أما ترى كيف عتق هذا الشراب حتى لم يبق إلا أقله ما أحسن ما قيل في قديم الشراب فقلت قول الحكمي
( عتقت حتى لو اتّصلتْ ... بلسان ناطق وفمِ )
( لاحتبتْ في القوم ماثلةً ... ثم قصت قصّة الأممِ )
فقال هذا كان في نفسي ثم قال اسقوا محمداً رطلين وأعطوه عشرين ألف درهم ثم نكت في الأرض ورفع رأسه ثم قال يا محمد
( إنّي وأنت رضيعا قهوةٍ لطفتْ ... عن العِيانِ ودقّت عن مَدَى الفَهِمِ )
( لم نرتضعْ غيرَ كأسٍ دَرُّها ذهبٌ ... والكأسُ حُرْمتها أولى من الرَّحمِ )
قال والشعر له قاله في ذلك الوقت
ومما فيه غناء من شعر محمد بن أبي محمد أنشدناه محمد بن العباس عن عمه عبيد الله عن أخيه أحمد

صوت
( أنت امرؤ متجنٍّ ... ولسْت بالغضبان )
( أنت امرؤ لك شأنٌ ... فيما أرى غير شَانِي )
( صرّحْ بما عنه أكْنِي ... أكفّ عنك لسانِي )

( حَسْبي أسأَتُ فهلا ... مَنَنْتَ بالغفران )
ومنها

صوت
( يا أحسن الأمّة في ... عيني أمَا ترحمُنِي )
( أمَا تراني كامداً ... موكَلاً بالحزَنِ )
( أمَا ترى فيك مُدَاراتِي ... لأهْلِ الظنَنِ )
( أصرفُ طَرْفي عنك خَوْفاً ... منه أن يَفْضَحَنِي )
( يَرَانيَ الله وما ألْقى ... وإنْ لَمْ تَرَنِي )
وممن له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي لصلبه إبراهيم
صوت
( لا تلحَني إِن منحتُ عشقاً ... مَن كان للعشق مستحِقاً )
( ولم يقدِّمْ عليّ خَلقا ... ولم أقدّم عليه خلقا )
( يملك رِقّي ولست أبغي ... من مِلكه ما حييت عتقا )
( لم أر فيمن هوِيت خَلقا ... أعطفَ منه ولا أرقَّا )
الشعر لإبراهيم بن محمد اليزيدي والغناء لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق وفيه لعريب رمل مزموم

أخبار إبراهيم
أخبرني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا أحمد عن عمه إبراهيم قال
كنت مع المأمون في بلد الروم فبينا أنا في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبي قبة فبرقت برقة وإذا في القبة عريب قالت إبراهيم بن اليزيدي فقلت لبيك فقالت قل في هذا البرق أبياتاً ملاحاً لأغني فيها فقلت
( ماذا بقلبي من أليم الخَفْقِ ... إذا رأيتُ لمعان البرْقِ )
( مِن قِبَل الأُرْدُنِّ أو دمشق ... لأنّ مَن أهوى بذاك الأفْق )
( فارقتُه وهو أعز الخلق ... عليّ والزُور خلاف الحق )
( ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي )
قال فتنفست نفساً ظننته قد قطع حيازيمها فقلت ويحك على من هذا فضحكت ثم قالت على الوطن فقلت هيهات ليس هذا كله للوطن فقالت ويلك أفتراك ظننت أنك تستفزني والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها أكثر من ثلاثين رئيساً والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا اليوم

إبراهيم في سيحان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي عن عمي إبراهيم بن أبي محمد
أنه كان مع المعتصم لما خرج إلى الغزو قال فكتب في رفقة فيها فتى من أهل البصرة ظريف أديب شاعر راوية فكان لي فيه أنس وكنا لا نفترق حتى غزونا وعدنا فعاد إلى البصرة وكان له بستان حسن بسيحان فكان أكثر مقامه به وعزم لي على الشخوص إلى البصرة لحاجة عرضت لي فكان أكثر نشاطي لها من أجله فوردتها ونظرت فيما وردت له ثم سألت عنه ومضيت إليه فكان أن يستطار بي فرحاً وأقمت بسيحان معه أياماً وقلت في بعضها وقد اصطبحنا في بستانه
( يا مسعدَيّ بسيحانٍ فدَيتكما ... حُثا المدامة في أكناف سيحانا )
( نَهْر كريم من الفِردوس مَخرجه ... بذاك خبّرنا من كان أنبانا )
( لا تحسداني رَواحاً أو مباكرة ... طِيبَ المسير على سيحان أحياناً )
( بشَطّ سيحان إنسان كلِفْت به ... نفسي تقي ذلك الإنسان إنساناً )
( ريَّاه ريحاننا والكأسُ معملة ... لا شيء أطيب من رّياه ريحانا )
( حُثا شَرابكما حتى أرى بكما ... سًكراً فإنيَ قد أمسيت سكرانا )
( رَيّا الحبيب وكأسٌ من معتّقه ... يُهيجّان لنفس الصّبَ أشجاناً )
( سَقياً لسيحانَ من نهر ومن وطن ... وساكنيه من السكان مَن كانا )

( هُم الذين عقَدنا الودّ بينهًم ... وبيننا وهُمُ في دَير مُرّانا )
أخبرني محمد بن العباس قال حدثني عمي عبيد الله عن جماعة من أهلنا
أن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي كان يعاشر أبا غسان مولى منيرة وكانت له جارية مغنية يقال لها جاني فدعاه يوماً أبو غسان وجلسنا للشرب فقال له لو دعوت ابن أخيك يعني محمد بن أبي محمد لنأنس به فكتب إليه إبراهيم
( يا أكرمَ الناس طُرَّا ... وأكرم الفتيانِ )
( بادِرْ إلينا لكيما ... تُسقَى سُلاف الدِّنانِ )
( على غِناء غزال ... مُهَفهَفٍ فَتّان )
( اشرَب على وجه جانٍ ... شرابَك الخًسرَواني )
( فما لِجانٍ نظير ... ومالها من مُدان )
( إلا الذي هو فَرد ... وماله من ثان )
( أعنِي الهلال لِسِتِّ ... في شهره وثمان )
( للناس بَدرٌ منير ... يُرى بكل مكان )
( وما لنا غيرُ بدر ... لدى أبي غسان )
( ذٍكْراه في كل وقت ... موصولة بلساني )
( سبَيتُه وسباني ... فحُبُّه قد براني )
( مِن ثم لستَ ترانِي ... أصبو إلى إنسان )

أنشدنا أبو عبيد الله اليزيدي عن عمه الفضل لإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي في بعض إخوانه وقد رأى منه جفوة ثم عاد واستصلحه فكتب إليه
( مَن تاه واحدة فتِهْ عَشْرا ... كي لا يجوز بنفسه القدرا )
( وإذا زها أحد عليك فكن ... أزهى عليه ولا تكن غُمْراً )
( أرأيتَ مَن لم ترجُ منفعة ... منه ولم تحذر له ضَرا )
( لم يُستذَلَّ وتُستذلُّ له ... بل كن أشد إذا زها كِبرا )

يشرب ويعربد في مجلس شراب مع المأمون
حدثني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي عن جعفر بن المأمون قال
دخل إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي على أبي وهو يشرب فأمره بالجلوس فجلس وأمر له بشراب فشرب وزاد في الشرب فسكر وعربد فأخذ علي بن صالح صاحب المصلى بيده فأخرجه فلما أصبح كتب إلى أبي
( أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لَمَا عُرِف العفو )
( ثمِلت فأبدتْ منّي الكاس بعض ما ... كرهتُ وما إن يستوي السكر والصحو )
( ولولا حُمَيا الكأس كان احتمال ما ... بَدَهتُ به لا شك فيه هو السَّرو )
( ولا سيما إذ كنتُ عند خليفةٍ ... وفي مجلس ما إن يجوز به اللغو )
( تنصلت من ذنبي تنصُّل ضارع ... إلى من لديه يُغْفَرُ العمد والسهو )
( فإن تعف عني تُلْفِ خطويَ واسعاً ... والاّ يكن عفو فقد قصر الخطو )

حدثني عمي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال جاء عمي إبراهيم إلى هارون بن المأمون فصادفه قد خلا هو وجماعة من المعتزلة فلم يصل إليه وحجب عنه فكتب إليه
( غلبَتْ عليكم هذه القَدَريَّهْ ... فعليكُم مني السلام تحيهْ )
( آتيكمُ شوقاً فلا ألقاكُمُ ... وهمُ لدَيكم بُكرةً وعشيهْ )
( هرونُ قائدهم وقد حَفّتْ به ... أشياعه وكفى بتلك بليه )
( لكنّ قائدَنا الإمام ورأينا ... ما قد رآه فنحن مأونية )
أخبرني عمي قال حدثني الفضل قال
كان لعمي إبراهيم ابن يقال له إسحاق وكان يألف غلاما من أولاد الموالي فلما خرج المعتصم إلى الشام خرج إبراهيم معه وخرج الغلام الذي يألفه في العسكر وعرف إبراهيم أنه قد صحب فتى من فتيان العسكر غير ابنه فكتب عمي إبراهيم إلى ابنه
( قل لأبي يعقوب إن الذي ... يعرفه قد فعل الحُوبا )
( كان محِبّاً لك فيما مضى ... فالآن قد صادف محبوبا )
( يركب هذا ذا وذا ذا فما ... ينفك تصعيداً وتصويبا )
فرأس إسحاق فدَيناه فما ... ينفك تصعيداً وتصويباً )
( أرى قروناً قد تَجلّلنه ... منصوبةً شُعِّبن تشعيبا )
( أظنه يعجِز عن حملها ... إذ رُكّبت في الرأس تركيبا )
( يا رحمتا لابني على ضعفه ... يحمل منهن أعاجيبا )

حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي قال
كتبت إلى عمي إبراهيم أستعين به في حاجة لي وأستزيده من عنايته بأموري وأطالبه أن يتوفر نصيبي لديه وفيما أبتغيه منه فكتب إلي
( فدَيتك لو لم تكن لي قريباً ... وكنت امرأ أجنبيِّا غربيا )
( مع البر منك وما يستجر ... به مسخفاً إليك اللبيبا )
( لما إن جعلْت لخلق سواك ... مثلَ نصيبك مني نصيبا )
( وكنتَ المقدّم ممن أودّ ... وازداد حقك عندي وُجوبا )
( تَلطّفْ لما قد تكلمت فيه ... فما زلتَ في الحاج شهماً نجيبا )
( وراوض أبا حسن إن رأيت ... واحتل بِرفقك حتى يجيبا )
( فإن هو صار إلى ما تريد ... وإلا استعنتَ عليه الحبيبا )
( وما لا يخالف ما تشتهيه ... لِتلفِيَه غيرَ شك مجيبا )
( يودك خاقان وُدِّا عجيبا ... كذاك الأديب يحب الأديبا )
( وأنت تكافيه بل قد تزيد ... عليه وتجمع فيه ضروبا )
( تُثيب أخاك على الورد منه ... وذو اللب يأنف ألا يثيبا )
( ولا سيما إذ بَراه الإله ... كالبدر يدعو إليه القلوبا )
( يرى المُتمَنِّي له رِدْفَه ... كثيباً وأعلاه يحكي القضيبا )
( وقد فاق في العلم والفهم منه ... كما تم مِلْحاً وحسناً وطيباً )
( ويبلغ فيما يقولون ليس ... يعاف إذا ناولوه القضيبا )
( ولكنه وافَق الزاهدين ... فخاب وقد ظن أن لن يخيبا )

( وإن ركِب المرء فيه هواه ... عاث فتطهيره أن يثوبا )
( إذا زارت الشاة ذئباً طبيباً ... فلا تأمنَنّ على الشاة ذيبا )
( وعند الطبيب شفاء السقيم ... إذا اعتلّ يوماً وجاء الطبيبا )
( ولستَ ترى فارساً في الأنام ... إلا وَثُوباً يجيد الركوبا )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال وحدثني أخي أحمد قال
زامل المأمون في بعض أسفاره بين يحيى بن أكثم وعبّادةَ المخنَّث فقال عمي إبراهيم في ذلك
( وحاكمِ زاملَ عبّاده ... ولم يزل تلك له عاده )
( لو جاز لي حُكم لما جاز أن ... يحكم في قيمة لُبّاده )
( كم منِ غلام عزّ في أهله ... وافتْ قفاه منه سجاده )
وقال في يحيى أيضاً
( وكنا نرجيّ أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قُنوط )
( متى تصلحُ الدنيا ويصلحُ أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط )
وأخبرني عمي حدثنا أبو العيناء قال
نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادماً له فقال للخادم تعرض له إذا قمت فإني سأقوم للوضوء وأمره ألا يبرح وعد إليّ بما يقول لك وقام المأمون وأمر يحيى بالجلوس فلما غَمزه الخادم بعينه قال يحيى ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره فقال له عد

إليه فقال له ( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين )
فخرج الخادم إليه فقال له ما أمره به المأمون فأطرق يحيى وكاد يموت جزعا وخرج المأمون وهو يقول
( متى تصلحُ الدنيا ويصلحُ أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط )
قم وانصرف واتق الله وأصلح نيتك
حدثنا اليزيدي قال حدثني ابن عمي إسحاق بن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه إبراهيم قال
كنت عند المأمون يوماً وبحضرته عريب فقالت لي على سبيل الولع بي يا سلعوس وكان جواري المأمون يلقبنني بذلك عبثاً فقلت لها
( قًلْ لعريبٍ لا تكوني مسلعسه ... وكوني كتنريفٍ وكوني كمونسه )
فقال المأمون
( فإن كثَرت منك الأقاويل لم يكن ... هنالك شك أنّ ذا منك وسوسة )
قال فقلت كذا والله يا أمير المؤمنين أردت أن أقول وعجبت من ذهن المأمون

وممن غني في شعره من ولد أبي محمد اليزيدي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي
محمد
فمن ذلك
صوت
( شوقي إليك على الأيام يزداد ... والقلب مُذ غبْت للأحزان معتادُ )
( يا لهفَ نفسي على دهر فُجعتُ به ... كأنَّ أيامه في الحسن أعياد )
الشعر لأحمد بن محمد بن أبي محمد والغناء لبحر هزج وفيه ثاني ثقيل مطلق ذكر الهشامي أنه لإسحاق وما أراه أصاب ولا هو في جامع إسحاق ولا يشبه صنعته
وكان أحمد راوية لعلم أهله فاضلا أديبا وكان أسن ولد محمد بن أبي محمد وكان إخوته جميعا يأثرون علوم جدهم وعمومتهم عنه وقد أدرك أبا محمد وأظن أنه روى عنه أيضاً إلا أني لم أذكر شيئاً من ذلك وقت ذكري إياه فأحكيه عنه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي أبو جعفر قال
كنت عند جعفر بن المأمون مقيما فلما أردت الانصراف منعني فبتّ عنده وزارته لما أصبحنا عريب في جواريها وبتّ فاحتبسها من غد

فاستطبت المقام أيضاً فأقمت فكتب إلي عمي إبراهيم بن محمد اليزيدي
( شردْتَ يا هذا شُرود البعيرْ ... وطالت الغيبة عند الأميرْ )
( أقمتَ يومين وليليهما ... وثالثاً تُحبَى ببرٍّ كَثير )
( يومُ عَريبٍ مع إحسانها ... إن طالت الأيامُ يوم قصير )
( لها أغانٍ غيرُ مملولة ... منها ولا تخلقُ عند الكرور )
غيرُ مَلوم يا أبا جعفر ... أن تؤثر اللهو ويومَ السرور )
( فاجعل لك منا نصيباً فما ... إن كنتَ عن مجلسنا بالنَّفور )
( وصِر إلينا غير ما صاغر ... أصارك الرحمن خيرَ المصير )
( إن لم يكن عندي غِناء ولا ... عُود فعندي القَمْر بالنردشير )
( والذّكر بالعلم الذي قد مضى ... بأهله حادثُ صَرْفِ الدهور )
( وهو جديد عندنا نهجه ... أعلامه تحويه منا الصدور )
( فالحمد لله على كل ما ... أولى وأبلى ولِربِّي الشُكور )
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال سمعت أخي أبا جعفر أحمد بن محمد يقول
دخلت إلى المعتصم يوما وبين يديه خادم وضيء جميل وسيم فطلعت عليه الشمس فما رأيت أحسن منها على وجهه فقال لي يا أحمد قل في هذا الخادم شيئاً وصفْ طلوع الشمس عليه وحسنها فقلت
( قد طلعَتْ شمس على شمس ... وطاب لي الهوى مع الأنس )
( وكنت أَقلِي الشمس فيما مضى ... فصرتُ أشتاق إلى الشمس )
حدثني اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال

كتب إلى أخي بعض إخوانه ممن كان يألفه ويديم زيارته ثم انقطع عنه يعتذر إليه من تأخره عنه فكتب إليه
( إني امرؤ أعذِر إخواني ... في تركهم بِرِّي وإتياني )
( لأنه لا لهو عندي ولا ... لي اليومَ جاهٌ عند سلطان )
( وأكثر الإخوان في دهرنا ... أصحاب تمييز ورُجحان )
( فمَن أتاني مُنْعماً مُفْضلاً ... فشكرُه عنديَ شكرانِ )
- ( ومَن جفاني لم يكن لومُه ... عندي ولا تعنيفُه شاني )
( أعفو عن السيّئ من فِعلهم ... وأُتبع الحسنَى بإحسان )
( حسْبُ صديقي أنه واثق ... مني بإسراري وإعلاني )
ينشد المأمون شعراً وهو لا يزال غلاماً
حدثني اليزيدي قال حدثني أبي عن عمي عن أبي جعفرٍ أحمد بن محمد قال
دخلت على المأمون وهو في مجلس غاصّ بإهله وأنا يومئذٍ غلام فاستأذنت في الإنشاد فأذن فأنشدته مديحا لي مدحته به وكان يستمع للشاعر ما دام في تشبيب أو وصف ضرب من الضروب حتى إذا بلغ إلى مديحه لم يسمع منه إلا بيتين أو ثلاثة ثم يقول للمنشد حسبك ترفعا فأنشدته
( يا من شكوت إليه ما ألقاه ... وبذلتُ من وَجدي له أقصاهُ )
( فأجابني بخلاف ما أمّلْتُه ... ولربما مُنع الحريصُ مناه )
( أترى جميلاً أن شكا ذو صَبْوة ... فهجرتَه وغضبتَ من شكواه )
( يكفيك صمت أو جواب مِؤيس ... إن كنت تَكره وصله وهواه )
( موت المحب سعادة إن كان مَن ... يهواه يزعم أن ذاك رضاه )

فلما صرت إلى المديح قلت
( أبقى لنا الله الإمامَ وزاده ... عزّاً إلى العز الذي أعطاه )
( فالله مكرمنا بأنا معشر ... عُتقاء من نعم العباد سواه )
فسر بذلك وضحك وقال جعلنا الله وإياكم ممن يشكر النعمة ويحسن العمل
أخبرنا محمد بن العباس قال حدثني أبي عن أخيه أبي جعفر قال
دخلت يوماً على المأمون بقارا وهو يريد الغزو فأنشدته شعراً مدحته فيه أوله
( يا قصًر ذا النّخلات من بارا ... إني حللتُ إليك من قارا )
( أبصرتُ أشجاراً على نهر ... فذكرتُ أشجاراً وأنهارا )
( لله أيامٌ نعِمتُ بها ... بالقُفص أحياناُ وفي بارا )
( إذ لا أزال أزور غانية ... ألهو بها وأزور خَمّارا )
( لا أستجيب لِمَن دعا لهُدىً ... وأجيب شطّاراً ودُعّارا )
( أعصِي النصيحَ وكلّ عاذلة ... وأُطيع أو تاراً ومزمارا )

قال فغضب المأمون وقال أنا في وجه عدو وأحض الناس على الغزو وأنت تذكرهم نزهة بغداد فقلت الشيء بتمامه ثم قلت
( فصحوت بالمأمون عن سُكُري ... ورأيت خير الأمر ما اختارا )
( ورأيت طاعته مؤديةً ... للفَرض إعلاناً وإسرارا )
( فخلعتُ ثوب الهزل عن عنقي ... ورضِيتُ دارَ الجِدّ لي دارا )
( وظللتُ معتصماً بطاعته ... وجِواره وكفَى به جارا )
( إن حَلّ أرضاً فهْي لي وطن ... وأسير عنها حيثما سارا )
فقال له يحيى بن أكثم ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين أخبر أنه كان في سكر وخسار فترك ذلك وارعوى وآثر طاعة خليفته وعلم أن الرشيد فيها فسكن وأمسك
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبيه قال
دعا المعتصم ذات يوم المأمون فجاءه فأجلسه في بيت على سقفه جامات فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيما التركي غلام المعتصم وكان المعتصم أوجد الناس به ولم يكن في عصره مثله فصاح المأمون يا أحمد بن محمد اليزيدي وكان حاضراً فقال انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيما التركي أرأيت أحسن من هذا قط وقد قلت
( قد طلعت شمس على شمس ... وزالت الوحشة بالأنس )

أجز يا أحمد فقلت
( قد كنت أشنا الشمس فيما مضى ... فصرت أشتاق إلى الشمس )
قال وفطن المعتصم فعض على شفته لأحمد فقال أحمد للمأمون والله لئن لم يعلم الحقيقة من أمير المؤمنين لأقعن معه فيما أكره فدعاه المأمون فأخبره الخبر فضحك المعتصم
فقال له المأمون كثر الله في غلمانك مثله إنما استحسنت شيئاً فجرى ما سمعت لا غيره
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني أحمد بن محمد اليزيدي قال
كنا بين يدي المأمون فأنشدته مدحاُ فقال لئن كانت حقوق أصحابي تجب علي لطاعتهم بأنفسهم فإن أحمد ممن تجب له المراعاة لنفسه وصحبته ولأبيه وخدمته ولجده وقديم خدمته وحرمته وإنه للعريق في خدمتنا فقلت قد علمتني يا أمير المؤمنين كيف أقول ثم تنحيت ورجعت إليه فأنشدته
( لي بالخليفة أعظم السبب ... فبِه أمنتُ بوائق العَطَب )
( ملِك غذَتني كفّه وأبي ... قَبلي وجدّى كان قبلَ أبي )
( قد خصني الرحمن منه بما ... أسمو به في العجم والعرب )
فضحك وقال قد نظمت يا أحمد ما نثرناه
هذا آخر أخبار اليزيديين وأشعارهم التي فيها صنعة

صوت
( أفي كُلّ يوم أنت من غُبُرِ الهوى ... إلى الشُّمِّ من أعلاه ميلاء ناظر )
( بعمشاء من طول البكاء كأنما ... بها خزَرٌ أو طرفُها مُتختازر )
عروضه من الطويل والغبر البقية من الشيء يقال فلان في غبر من علته وأكثر ما يستعمل في هذا ونحوه والشم الطوال والأعلام جمع علم وهو الجبل قالت الخنساء
( وإن صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنه عَلمَ في رأسه نار )
والخزر ضيق العين وصغرها ومنه سمي الخزر بذلك لصغر أعينهم قال الراجز
( إذا تخازرت وما بي من خَزَرْ ... ثم كسرت الطرف من غير عورْ )
والشعر لرجل من قيس يقال كعب ويلقب بالمخبل والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى ومن الناس من يروي الشعر لغير هذا الرجل وينسبه إلى ذي الرمة ويجعل فيه مية مكان ميلاء ويقال إن اللحن لابن المكي وقد نسب إلى غيرهما والصحيح ما ذكرناه أولاً

أخبار المخبل القيسي ونسبه
قال عبد الله بن أبي سعد الوراق فيما أخبرني به حبيب بن نصر المهلبي إجازة عنه حدثني علي بن الصباح بن الفرات قال أخبرني علي بن الحسن بن أيوب النبيل عن رباح بن قطيب بن زيد الأسدي قال كانت عند رجل من قيس يقال له كعب بنت عم له وكانت أحب الناس إليه فخلا بها ذات يوم فنظر إليها وهي واضعة ثيابها فقال يا أم عمرو هل ترين أن الله خلق أحسن منك قالت نعم أختي ميلاء هي أحسن مني
قال فإني أحب أن أنظر إليها فقالت إن علمت بك لم تخرج إليك ولكن كن من وراء الستر ففعل وأرسلت إليها فجاءتها فلما نظر إليها عشقها وانتظرها حتى راحت إلى أهلها فاعترضها فشكا إليها حبها فقالت والله يا ابن عم ما وجدت من شيء إلا وقد وقع لك في قلبي أكثر منه وواعدته مرة أخرى فأتتهما أم عمرو وهما لا يعلمان فرأتهما جالسين فمضت إلى إخوتها وكانوا سبعة فقالت إما أن تزوجوا ميلاء كعبا وإما أن تكفوني أمرها وبلغهما الخبر ووقف إخوتها على ذلك فرمى بنفسه نحو الشام حياء منهم وكان منزله ومنزل أهله الحجاز فلم يدر أهله ولا بنو عمه أين ذهب فقال كعب
شعره في أرض الغربة
( أَفِي كلِّ يومٍ أنتَ من لاعجِ الهوى ... إلى الشُّمِّ من أعلامِ ميلاء ناظرُ )

( بعَمْشاء من طولِ البكاء كأنما ... بها خَزَر أوطرفها متخازرُ )
( تَمنَّى المُنى حتى إذا ملّت المنى ... جرَى واكِفٌ من دمعها متبادرُ )
( كما أرْفضّ عنها بعد ما ضمّ ضمةً ... بخيط الفتيل اللؤلؤُ المتناثرُ )
قال فرواه عنه رجل من أهل الشام ثم خرج بعد ذلك الشامي يريد مكة فاجتاز بأم عمرو وأختها ميلاء وقد ضل الطريق فسلم عليهما ثم سألهما عن الطريق فقالت أم عمرو يا ميلاء صِفي له الطريق فذكر لما نادت يا ميلاء شعر كعب هذا فتمثل به فعرفت أم عمرو الشعر فقالت يا عبد الله من أين أنت قال رجل من أهل الشام قالت من أين رويت هذا الشعر قال رويته عن أعرابي بالشام قالت أو تدري ما اسمه فقال سمعت أنه كعب فأقسمت عليه لا تبرح حتى تعرف أخوتنا بذلك فنحسن إليك نحن وهم وقد أنعمت علينا قال أفعل وإني لأروي له شعراً آخر فما أدري أتعرفانه أم لا فقالت نسألك بالله إلا أسمعتنا قال سمعته يقول
( خليليّ قد قِسْتُ الأمور ورُمتُها ... بِنَفْسي وبالفِتيان كلِّ زمانِ )
( فلم أُخفِ سُوءاً للصديق ولم أجدْ ... خليّاً ولا ذا البَث يستويان )
( من الناس إنسانان دَيني عليهما ... مليئان لو شاءا لقد قَضَياني )
( خليليّ أمّا أُمُّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تَسَلاني )
( بُلينا بهجران ولم أرَ مثلَنا ... من الناس إنسانين يهتجران )
( أشدَّ مصافاةً وأبعدَ من قِلىً ... وأعْصَىلِواشٍ حين يكتفيان )
( تحدَّث طرفانا بما في صدورنا ... إذا استعجَمَت بالمنطق الشفتان )

( فوالله ما أدري أكلُّ ذَوِي الهوى ... على ما بنا أو نحن مبتَليَان )
( فلا تَعْجبا مما بيَ اليومَ من هوىً ... فبي كلَّ يوم مثلُ ما تريان )
( خليليّ عن أيِّ الذي كان بيننا ... من الوصل أم ماضي الهوى تسلان )
( وكنا كريمي معشرٍ حمَّ بيننا ... هوى فحفِظناه بحسن صِيان )
( سلاه بأم العَمْرو مَن هي إذ بَدا ... به سقَم جمُّ وطول ضمان )
( فما زادنا بعد المدى نقْضَ مرة ... ولا رجَعنا من علْمنا ببيان )
( خليليّ لا والله ما ليَ بالذي ... تريدان من هجر الحبيب يدان )
( ولا ليَ بالبين اعتلاءٌ إذا نأت ... كما أنتما بالبين معتليان )
قال ونزل الرجل ووضع رحله حتى جاء إخوتهما فأخبراهم الخبر وكانوا مهتمين بكعب وكان كعب أظرفهم وأشعرهم فأكرموا الرجل وحملوه على راحلة ودلوه على الطريق وطلبوا كعباً فوجدوه بالشام فأقبلوا به حتى إذا كانوا في ناحية ماء أهلهم إذا الناسُ قد اجتمعوا عند البيوت وكان كعب ويحك يا غلام من أبوك فقال رجل يقال له كعب قال وعَلى أيَّ شيء قد اجتمع الناس وأحسّ قلبُه بالشرّ قال اجتمعوا على خالتي ميلاء قال وما قصتها قال ماتت فزفر زفرة مات منها مكانَه فدُفن حِذاء قبرها قال وقال كعب وهو بالشام
( أحقاً عبادَ اللهِ أن لستُ ماشياً ... بمرحابَ حتى يُحشَرَ الثقلان )

( ولا لاهياً يوماً إلى الليل كلِّه ... ببيض لطيفات الخصور رواني )
( يُمنِّيننا حتى تَرِيعَ قلوبنا ... ويَخلِطن مَطْلاً ظاهراً بِلَيان )
( فعينيّ ياعينيَّ حتّام أنتما ... بهجران أُمِّ العمرو تختلجان )
( أمَا أنتما إلا عليَّ طليعةٌ ... على قُرب أعدائي كما تريان )
( فلو أنّ أُم العمرو وأضحَتْ مقيمة ... بمصر وجثماني بِشحِرِ عُمان )
( إذاً لرجوتُ اللهَ يجمع شملَنا ... فإنّا على ما كان ملتقيان )

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( من الناس إنسانان دَيْني عليهما ... مليئان لو شاءا لقد قضياني )
( خليليّ أما أمّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني )
عروضه من الطويل الشعر على ما في هذا الخبر لكعب المذكورة قصته وروى المفضل بن سلمة وأبو طالب بن أبي طاهر هذين البيتين مع غيرهما لابن الدمينة الخثعمي والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف رمل بالوسطى ذكره أبو العبيس عنه وذكر ابن المكي أنه لعلويه والأبيات التي

ذكرنا أن المفضل بن سلمة وابن أبي طاهر روياها لابن الدمينة مع البيتين اللذين فيهما الغناء هي
( من الناس إنسانان دَيْني عليهما ... مليئان لو شاءا لقد قضياني )
( خليليّ أما أمّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني )
( مَنُوعان ظَلاَّمان ما يُنْصفانني ... بدَليهما والحُسنِ قد خَلَباني )
( من البيض نجلاء العيون غذَاهما ... نعيمُ وعَيشٌ ضاربٌ بِجِران )
( أفي كلِّ يومٍ أَنت رامٍ بلادَها ... بعَيْنين إنساناهما غَرِقان )
( إذا اغرَوْرقت عيناي قال صحابتي ... لقد أُولِعتْ عيناك بالهَمَلان )
وقد روي أيضاً أن هذا البيت
( أَفي كلِّ يومٍ أَنت رامٍ بلادَها ... )
لعروة بن حزام
( ألا فاحملاني بارك الله فيكما ... إلى حاضر الرّوحاء ثم ذراني )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو سعيد القيسي قال حدثني سليمان بن عبد العزيز قال حدثني خارجة المالي قال حدثني من رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت قال فقلت له من أنت قال أنا الذي أقول

( أفي كلِّ يومٍ أنت رامٍ بلادَها ... بعَينَين إنساناهما غَرِقان )
( ألا فاحمِلاني بارك اللهُ فيكما ... إلى حاضرِ الرّوحاء ثم ذراني )
فقلت زدني قال لا ولا حرف

التغني بالصوت المنسوب إليه يهيج الواثق
ويقال إن الذي هاج الواثق على القبض على أحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب أنه غنى هذا الصوت أعني
( مِن الناس إنسانان دَيْنِي عليهما ... )
فدعا خادماً كان للمعتصم ثم قال له اصدقني وإلا ضربت عنقك
قال سل يا أمير المؤمنين عما شئت قال سمعت أبي وقد نظر إليك يتمثل بهذين البيتين ويومئ إليك إيماء تعرفه فمن اللذان عنى قال قال لي إنه وقف على إقطاع أحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب ألفي دينار وأنه يريد الإيقاع بهما فكان كلما رآني يتمثل بهذين البيتين قال صدقني والله والله سبقاني بهما كما سبقاه ثم أوقع بهما
وأخبرني محمد بن يحيى الصولي حدثني ميمون بن هارون قال نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي فتمثل
( مِن الناس إنسانان دَيْني عليهما ... )
وذكَر البيتين وأشار بقوله
( خليليّ أمّا أم عمرو فمنهما ... )
إلى أحمد بن الخصيب فلما بلغ هذا سليمان بن وهب قال إنا لله أحمد بن الخصيب والله أمُّ عمرو وأنا الأخرى قال ونكبهما بعد أيام وقد قيل إن محمد بن عبد الملك الزيات كان السبب في نكتبهما

أخبرنا محمد بن يحيى قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال كانت الخلافة أيام الواثق تدور على إيتاخ وعلى كاتبه سليمان بن وهب وعلى أَشناس وكاتبه أحمد بن الخصيب فعمل الوزير محمد بن عبد الملك الزيات قصيدة وأوصلها إلى الواثق على أنها لبعض أهل العسكر وهي
( يابنَ الخلائِف والأملاكِ إن نُسبوا ... حُزْتَ الخلافة عن آبائك الأُوَلِ )
( أَجُرْتَ أم رقَدتْ عيناك عن عَجب ... فيه البريَّةُ مِن خوف ومن وَهَل )
( ولّيتَ أربعةًأَمرَ العباد معاً ... وكلُّهم حاطبٌ في حَبْل مُحتْبِل )
( هذا سليمان قد ملَّكتَ راحتَه ... مشارقَ الأرضِ مِن سهل ومن جبل )
( ملَّكته السندَ فالشَّحْرين من عَدنٍ ... إلى الجزيرة فالأطراف من مَلَل )
( خلافةٌ قد حواها وحده فمضَت ... أحكامه في دماء القوم والنَّفَل )
( وابنُ الخصيب الذي ملَّكت راحته ... خلافَة الشأم والغَازَين والقفل )

( فَنِيل مصرٍ فبحر الشأم قد جريا ... بِما أَراد من الأموال والحُلل )
( كأنهمْ في الذي قسّمتَ بينهم ... بَنُو الرشيد زمانَ القَسْم لِلدُّوَل )
( حوَى سليمان ما كان الأمينُ حوى ... من الخلافة والتبليغِ للأمَل )
( وأَحمدُ بنُ خصيب في إمارته ... كالقاسم بنِ الرشيد الجامع السبُل )
( أَصبحتَ لا ناصحٌ يأتيك مستتراً ... ولا علانيةً خوفاً من الحِيل )
( سَلْ بيتَ مالِكَ أَين المال تعرِفه ... وسل خَرَاجَك عن أَموالِك الجُمل )
( كم في حبُوسِك ممّن لا ذُنوب لهمْ ... أَسرى التكذُّب في الأقياد والكَبَل )
( سُمِّيتَ باسمِ الرشيدِ المرتضَى فَبِه ... قِسْ الأمورَ التي تُنجي من الزلل )
( عِثْ فيهمُ مثل ما عاثت يداه معاً ... على البرامِكِ بالتهديم للقُلَل )
فلما قرأ الواثق الشعر غاظه وبلغ منه ونكب سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب وأخذ منهما ومن أسبابهما ألف ألف دينار فجعلها في بيت المال فقال أحمد بن أبي فنن
( نزلَتْ بالخائنين سَنَه ... سَنَةٌ للناس ممتحِنه )
( سوّغَت ذا النصح بغيته ... وأزالت دولةَ الخونه )
( فترَى أهلَ العفافِ بها ... وهمُ في دولةٍ حسنه )
( وترى مَن جار هِمّتُه ... أن يُؤدِّي كل ما احتجنه )
وقال إبراهيم بن العباس لابن الزيات
( إيهاً أَبا جعفرٍ وللدهر كَرراتٌ ... وعما يرِيبُ متّسَعُ )

( أرسلتَ ليثاً على فرائسِه ... وأنت منها فانظرْ متى تَقَع )
( لكنّه قُوتُه وفيكَ له ... وقد تقضّتْ أقواتُه شِبع )
وهي أبيات وقد كان أحمد بن أبي داود حمل الواثق على الإيقاع بابن الزيات وأمر علي بن الجهم فقال فيه
( لَعائِنُ الله مُوَفّراتِ ... مُصَبّحاتٍ ومهجِّراتِ )
( عَلَى ابنِ عبد المَلِك الزّياتِ ... عرّضَ شَمل المُلك للشتَاتِ )
( يَرمِي الدواوين بتَوقيعاتِ ... معَقَّدات غيرِ مفتوحاتِ )
( أَشبه شيء بُرقَى الحَياتِ ... كأنّها بالزيت مدهوناتِ )
( بعد ركوب الطوف في الفراتِ ... وبَعد بَيعِ الزيت بالحباتِ )
( سبحان مَن جلّ عن الصفاتِ ... هارون يابن سِّيد الساداتِ )
( أَما ترى الأمور مهملاتِ ... تشكو إليك عدمَ الكُفاةِ )
وهي أبيات فهّم الواثق بالقبض على ابن الزيات وقال لقد صدق قائل هذا الشعر ما بقي لنا كاتب فطَرح نفسه على إسحاق بن إبراهيم وكانا مجتمعين على عداوة ابن أبي داود فقال للواثق أمثل ابن الزيات مع خدمته وكفايته يفعل به هذا وما جنى عليك وما خانك وإنما دلك على خونة أخذت ما اختانوه فهذا ذنبه
وبعد فلا ينبغي لك أن تعزل أحداً أو تعد مكانه جماعة يقومون مقامه فمن لك بمن يقوم مقامه فمحا ما كان في نفسه عليه ورجع له

وكان إيتاخ صديقاً لابن أبي داود فكان يغشاه كثيراً فقال له بعض كتابه إن هذا بينه وبين الوزير ما تعلم وهو يجيئك دائماً ولا تأمن أن يظن الوزير بك ممالأة عليه فعرّفه ذلك فلما دخل ابن أبي داود إليه خاطبه في هذا المعنى فقال إني والله ما أجيئك متعززاً بك من ذلة ولا متكثّراً من قلة ولكن أمير المؤمنين رتبك رتبة أوجبت لقاءك فإن لقيناك فله وإن تأخرنا عنك فلنفسك ثم خرج من عنده فلم يعد إليه
وفي هذه القصة أخبار كثيرة يطول ذكرها ليس هذا موضعها وإنما ذكرنا ها هنا هذا القدر منها كما يذكر الشيء بقرائنه

صوت
( عِشْ فَحبِّيكَ سريعاً قاتِلي ... والضنى إن لم تصلنيَ واصلي )
( ظَفرَ الشوقُ بقلبٍ دَنِف ... فيك والسُّقم بِجِسْمٍ ناحلِ )
( فهُما بينَ اكتئابٍ وضنىً ... تَرَكاني كالقضيب الذابِل )
الشعر لخالد الكاتب والغناء للمسْدود رمل مطلق في مجرى الوسطى وذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه وأنه أول صوت سمعه فكتبه

أخبار خالد الكاتب
هو خالد بن يزيد ويكنى أبا الهيثم من أهل بغداد وأصله من خراسان وكان أحد كتاب الجيش ووسوس في آخر عمره قيل إن السوداء غلبت عليه وقال قوم كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها وولاه محمد بن عبد الملك الإعطاء في الثغور فخرج فسمع في طريقه منشداً ينشد ومغنية تغني
( مَن كان ذَا شجَنٍ بالشام يطلبه ... ففِي سِوى الشام أمسى الأهل والشجنُ )
فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه ثم أفاق مختلطاً واتصل ذلك حتى وسوس وبطل وكان اتصل بعلي بن هشام وإبراهيم بن المهدي وكان سبب اتصاله بعلي بن هشام أنه صحبه في وقت خروجه إلى قم في جملة كتاب الإعطاء فبلغه وهو في طريقه أن خالداً يقول الشعر فأنس به وسر به وأحضره فأنشده قوله
( يا تاركَ الجِسْمِ بلا قلبِ ... إنْ كنتُ أهواكَ فما ذَنبي )
( يا مُفْرداً بالحسن أفردتَني ... منك بطول الهَجرِ والعتْب )

إن تَكُ عَيْني أبصرتْ فِتْنَةً ... فهلْ على قلبيَ من عتب )
( حَسِيبكَ الله لما بي كما ... أنك في فِعلك بي حَسْبي )
للمسدود في هذه الأبيات رمل طنبوري مطلق من رواية الهشامي قال فجعله علي بن هشام في ندمائه إلى أن قتل ثم صحب الفضل بن مروان فذكره للمعتصم وهو بالماحوزة قبل أن يبني سر من رأى فقال خالد
( عزَم السرورُ على المُقام ... بِسُرَّ مَنْ را للإمامِ )
( بَلَدُ المَسَرّة والفتوحِ ... المستنيراتِ العظام )
( وتراه أشبَه منزلٍ ... في الأرض بالبلد الحرام )
( فاللهُ يعمُرُهُ بمَن ... أَضْحَى به عزُّ الأنام )
فاستحسنها الفضل بن مروان وأوصلها إلى المعتصم قبل أن يقال في بناء سر من رأى شيء فكانت أول ما أنشد في هذا المعنى من الشعر فتبرك بها وأمر لخالد بخمسة آلاف درهم
وذكر ذلك كله إسماعيل بن يحيى الكاتب وذكر اليوسفي صاحب الرسائل أن خالداً قال أيضاً في ذلك
( بيَّنَ صَفْوُ الزمان عن كَدرِه ... في ضَحِكات الربيع عن زَهَره )
( يا سُرّ مَن را بوركْت من بَلدٍ ... بُورك في نَبْته وفي شجره )
( غَرسُ جُدود الأمام ينبته ... بابَكُ والمازِيارُ من ثمره )
( فالفتح والنصر ينزلان به ... والخِصب في تُرْبه وفي شجره )
فغنى مخارقٌ في هذه الأبيات فسأله المعتصم لمن هذا الشعر فقال لخالد يا أمير المؤمنين قال الذي يقول

( كيفَ تُرْجَى لذاذةُ الإغتماضِ ... لمريضٍ من العيون المِراض )
فقال محمد بن عبد الملك نعم يا أمير المؤمنين هو له ولكن بضاعته لا تزيد على أربعة أبيات فأمر له المعتصم بأربعة آلاف درهم وبلغ خالداً الخبر فقال لأحمد بن عبد الوهاب صاحب محمد بن عبد الملك وقيل لأبي جعفر أعزه الله إذا بلغت المراد في أربعة أبيات فالزيادة فضل
قال اليوسفي ولما قال خالد في صفة سر من رأى قصيدته التي يقول فيها
( اسْقِنِي في جرائرٍ وزِقاقِ ... لتُلاقي السرور يوم التلاقِ )
( من سُلاَفٍ كأنَّ في الكأس منه ... عبراتٍ من مقلَتيْ مشتاقِ )
( في رياضٍ بسُر مَن را إلى الكرْخ ... ودَعْني من سائر الآفاق )
( بادِّ كَارَاتِ كل فتح عظيم ... لإمام الهدى أبي إسحاق )
وهي قصيدة لقيه دعبل فقال يا أبا الهيثم كنت صاحب مقطعات فداخلت الشعراء في القصائد الطوال وأنت لا تدوم على ذلك ويوشك أن تتعب بما تقول وتغلب عليه فقال له خالد لو عرفت النصح منك لغيري لأطعتك في نفسي

خلاف خالد مع الحلبي الشاعر في معنى شعر
قال اليوسفي وحدثني أبو الحسن الشهرزاني أن خالدا وقع بينه وبين الحلبي الشاعر الذي يقول فيه البحتري
( سل الحلبيّ عن حلب ... )

خلافٌ في معنى شعر فقال له الحلبي لا تعد طورك فأخرسك فقال له خالد لست هناك ولا فيك موضع للهجاء ولكن ستعلم أني أجعلك ضحكة سر من رأى وكان الحلبي من أوسخ الناس فجعل يهجو جبته وثيابه وطيلسانه فمن ذلك قوله
( وشاعرٍ ذي منطقٍ رائقِ ... في جبَّةٍ كالعارض البارق )
( قطعاءَ شلاّءَ رقاعِيَّة ... دَهْريَّة مرقوعة العاتق )
( قدّمها العُرْيُ على نفسه ... لفضلها في القَدَر السابق )
وقوله
( وشاعرٍ مُقْدِمٍ له قومُ ... ليس عليهمْ في نصرهِ لَومُ )
( قد ساعدوه في الجوع كلُّهمُ ... فَقْرَى فكلٌّ غَداؤُه الصوم )
( يأتيكَ في جُبّة مُرَقعةٍ ... أطولُ أعمار مثلِها يومُ )
( وطيْلسان كالآل يلبسُه ... على قميص كأنه غَيْمُ )
( من حلبَ في صميم سِفْلِتها ... غِناه فقر وعزُّه ضَيم )
قال وقال فيه
( تاهَ على ربِّه فأفْقرهُ ... حتى رآه الغٍنَى فأنكرهُ )
( فصار من طول حِرفَةٍ علماً ... يقذفه الرزق حيث أبصرهُ )
( يا حلبيّاً الإله لَه ... بالتِّيه والفقر حين صوَّرهُ )

( لَوْ خلطوُه بالمِسكْ وسّخَه ... أو طرَحُوهُ في البحر كدَّره )
حدثني جحظة قال حدثني خالد الكاتب قال دخلت على إبراهيم بن المهدي فاستنشدني فقلت أيها الأمير أنا غلام أقول في شجون نفسي لا أكاد أمدح ولا أهجو فقال ذلك أشد لدواعي البلاء فأنشدته

صوت
( عاتبتُ نفسي في هواكَ ... فلم أجِدْها تَقْبَلُ )
( وأطعتُ داعَيها إليكَ ... ولم أطِعْ مَن يعذل )
( لا والذي جعل الوجوه ... لحسن وجهك تمثُل )
( لا قلتُ إن البصرَ عنك ... من التصابي أجمل )
لجحظة في هذه الأبيات رمل مطلق بالوسطى
قال فبكى إبراهيم وصاح واي عليك بإبراهيم ثم أنشدته أبياتي التي أقول فيها
( وبكى العاذُل من رَحْمَتي ... فبُكائي لِبُكا العاذل )
وقال إبراهيم يا رشيق كم معك من العين قال ستمائة وخمسون ديناراً قال اقسمها بيني وبين الفتى واجعل الكسر له صحيحاً فأعطاني ثلاثمائة وخمسين ديناراً فاشتريت بها منزلي بساباط الحسن والحسين فواراني إلى يومي هذا

حدثني جحظة قال حدثني خالد الكاتب قال قال لي علي بن الجهم هب لي بيتك الذي تقول فيه
( ليتَ مَا أَصْبَحَ مِنْ رقّة ... خدّيك بقَلْبِكْ )
فقلت يا جاهل هل رأيت أحداً يهب ولده
وقال أحمد بن إسماعيل الكاتب لقيت خالداً الكاتب ذات يوم فسألته عن صديق له وكان قد باعده ولم أعلم فأنشأ يقول
( ظَعَن الغريبُ لغيبة الأبَد ... حتى المخافة نائيَ البلدِ )
( حيرانَ يُؤنسه ويكلؤُه ... يومٌ تَوَعَّدهُ بشرِّ غدِ )
( سنحَ الغُرابُ له بأنكرِ ما ... تغدو النحوسُ به على أحدِ )
( وابتاع أشأمه بأيمنه الجَدُّ ... العثورُ له يداً بيد )
( حتى يُنيخ بأرضِ مهْلكةٍ ... في حيثُ لم يولد ولم يلدِ )
( جزعتْ حليلتُهُ عليه فما ... تخلو من الزفرات والكمد )
( نزَل الزمانُ بها فأهلكها ... منه وأهدى اليُتم للولد )
( ظفرتُ به الأيام فانحسرت ... عنه بناقِرَةٍ ولم تكدِ )
( فتركْنَ منه بعد طِيتِّه ... مثل الذي أبقْين من لُبَد )
قال فقلت له يا أبا الهيثم مذ كم دخلت في قول الهجاء قال مذ سالمت فحوربت وصافيت فتوقفت

بين خالد وأبي تمام
وقال الرياشي كان خالد مغرماً بالغلمان المرد ينفق عليهم كل ما يفيد فهوي غلاماً يقال له عبد الله وكان أبو تمام الطائي يهواه فقال فيه خالد
( قضيبُ بانٍ جناه وردُ ... تحمله وَجْنَةٌ وخَدُّ )
( لم أَثْنِ طَرفي إليه إلا ... مات عزاءٌ وعاش وجْدُ )
( مُلِّك طَوْعَ النفوسِ حتّى ... علَمه الزهوَ حين يبدُو )
( واجَتَمَع الصدُ فيه حتّى ... ليس لخَلْقٍ سِواه صدّ )
فبلغ أبا تمام ذلك فقال فيه أبياتاً منها
( شْعرُكَ هذا كلُّ مفرطٌ ... في بَرْدِهِ يا خالدُ الباردُ )
فعلمها الصبيان فلم يزالوا يصيحون به يا خالد يا بارد حتى وسوس قال ومن الناس من يزعم أن هذا السبب كان بينه وبين رجل غير أبي تمام وليس الأمر كذلك وكان خالد قد هجا أبا تمام في هذه القصة فقال فيه
( يا معشَرَ المُرْدِ إني ناصح لكمُ ... والمرءُ في القولِ بَيْن الصدقِ والكذب )
( لا ينكِحَنَّ جبيباً منكمُ أحدٌ ... فإنّ وجعاءه أعدَى من الجرَب )
( لا تأمنوا أن تَحوُلوا بَعد ثالثَةٍ ... فتركبوا عُمُداً ليستْ من الخشب )
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسن بن إسحاق قال حدثني خالد الكاتب قال لما بويع إبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني

وقد كان يعرفني وكنت متصلاً ببعض أسبابه فأدخلت إليه فقالت أنشدني يا خالد شيئاً من شعرك فقلت يا أمير المؤمنين ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله " إن من الشعر لحكما " وإنما أمزح وأهمل فقال لا تقل هذا فإن جد الأدب وهزله جد هات أنشدني فأنشدته
( عِش فَجُبِّيكَ سريعاً قاتلي ... والضنى إن لم تَصِلنْي واصلي )
( ظفِرَ الشوق بقَلْبٍ دَنِف ... فيك والسُّقم بجسمٍ ناحل )
( فهُما بين اكتئاب وضنىً ... تركاني كالقضيب الذابل )
قال فاستملح ذلك ووصلني
حدثني حمزة بن أبي سلالة الشاعر الكوفي قال دخلت بغداد في بعض السنين فبينا أنا مار بجنينة إذا أنا برجل عليه مبطنة نظيفة وعلى رأسه قلنسية سوداء وهو راكب قصبة والصبيان خلفه يصيحون به يا خالد يا بارد فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا وأدخلته بستاناً هناك فجلس واستراح واشتريت له رطباً فأكل واستنشدته فأنشدني
( قدْ حازَ قلبِي فصار يملِكُهُ ... فكيف أَسْلو وكيف أتركه )
( رَطِيبُ جسمٍ كالماء تَحْسبه ... يَخْطِر في القلب مِنْه مسلَكُهُ )
( يكادُ يجري من القميص من النعمة ... لولا القميص يُمسكُهُ )
فاستزدته فقال لا ولا حرف
وذكر علي بن الحسين بن أبي طلحة عن أبي الفضل الكاتب أنه دعا خالداً ذات يوم فأقام عنده وخلع عليه فما استقر به المجلس حتى خرج

قال فأتبعته رسولاً ليعرف خبره فإذا هو قد جاء إلى غلام كان يحبه فسأل عنه فوجده في دار القمار فمضى إليه حتى خلع عليه تلك الثياب وقبله وعانقه وعاد إلينا فلما جاء خالد أعطيت الغلام الذي وجهنا به دنانير ودعاه فجاء به إلينا وأخفيناه وسألنا خالداً عن خبره فكتمه وجمجم فغمزنا الرسول فأخرجه علينا فلما رآه خالد بكى ودهش فقلنا له لا ترع فإن من القصة كيت وكيت وإنما أردنا أن نعرف خبرك لا أن نسوءك فطابت نفسه وأجلسه إلى جنبه وقال قد بليت بحبه وبالخوف عليه مما قد بلي به من القمار ثم أنشد لنفسه فيه
( مَحِبٌّ شَفَّه ألَمُهْ ... وخامَرَ جْسْمَه سَقَمُهْ )
( وباح بما يُجَمْجِمهُ ... من الأسرار مكتَتِمهْ )
( أما تَرْثي لمكتئب ... يُحِبُّك لحمُه ودَمُه )
( يغار على قميصك حِينَ ... تَلْبَسه ويتّهمهْ )

من شعره في الشوق
وذكر علي بن الحسين أيضاً أن محمد بن السري حدثه أنه طال الغيبة عن بغداد وقد وسوس خالد فمر به في الرصافة والصبيان يصيحون به يا غلام الشريطي يا خالد البارد ويرجع إليهم فيضربهم ويزيد ويرميهم قال فقلت له كيف أنت يا أبا الهيثم قال كما ترى فقلت له فمن تعاشر اليوم قال من أحذره فعجبت من جوابه مع اختلاله فقلت له ما قلت بعدي من الشعر قال ما حفظه الناس وأنسيته وعلى ذلك قولي
( كَبدٌ شفها غليلُ التصابي ... بين عَتْب وسَخْطَةٍ وعذاب )
( كلَّ يومٍ تَدْمَى بجَرح من الشوق ... ونوع مجدَّدٍ من عذاب )

( يا سقيمَ الجفون أسْقَمِتَ جسمي ... فاشفِني كيف شئت لا بِكَ ما بي )
( إنْ أكنْ مذْنباً فكن حَسًنَ العفوِ ... أو اجعَلْ سوى الصُّدُود عقابي )
ثم قال يا أبا جعفر جننت بعدك فقلت ما جعلك الله مجنوناً وهذا كلامك لي ونظمك
حدثني محمد بن الطلاس أبو الطيب قال حضرت جنازة بعض جيراني فلقيت خالداً في المقبرة فقبضت عليه وقلت أنشدني فذهب ليهرب مني فغمزت على يده غمزة أوجعته فقال خل عني أنشدك فأرخيت يدي عن يده فأنشدني
( لَمْ تَرَ عينٌ نَظرَتْ ... أحسنَ من منظرِهِ )
( النورُ والنِّعمة والنَّعمة ... في مَخْبرِه )
( لا تَصلُ الألسنُ بالوصف ... إلى أكثرهِ )
( كيْف بمَن تَنْتسبُ الشمس ... إلى جوهرهِ )
حدثني عمي رحمه الله قال مر بنا خالد الكاتب ها هنا والصبيان خلفه يصيحون به فجلس إلي فقال فرق هؤلاء عني ففعلت وألحت عليه جارية تصيح يا خالد يا بارد فقال لها
مري يا منتنة الكس ويا من كسها دس فقلت يا أبا الهيثم أي شيء معنى دس ها هنا قال تشتهي الأير الصغير الصغير والكبير والوسط ولا تكره منها شيئاً وأقبل الصبيان يصيحون بتلك الجارية بمثل ما قال لها خالد وهي ترميهم وتهرب منهم حتى غابوا معها عنا فأقبل علي خالد متمثلاً فقال
( وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمهتضَم حَقّي ولا قارعٍ سنِّي )

فاحتسبته عندي يومي ذلك فلما شرب وطابت نفسه أنشدنا لأبي تمام
( أحْبابَه لِمَ تفعلون بِقلْبهِ ... ما ليس يَفْعَلُه به أعداؤهُ )
( مَطَرٌ مِن العَبراتِ خَدِّي أرضُه ... حتى الصباحِ ومُقْلتايَ سماؤهُ )
( نفْسي فداءُ محمدٍ ووِقاؤه ... وكذبتُ ما في العالَمينَ فداؤه )
( أزعمتَ أنَّ البدرَ يحكي وجهه ... والغصن حين يَميدُ فيه ماؤه )
( اسْكت فأين بهاؤه وكماله ... وجمالُه وحياؤه وضياؤه )
( لا تَقْرَ أَسَماءَ المَلاحة باطلاً ... فيمن سِواه فإنها أسماؤه )
ثم قال وقد عارضه أبو الهيثم يعني خالداً نفسه فقال
( فديتُ محمداً من كل سوء ... يحاذرِ في رَواح أو غُدوِّ )
( أيا قمرَ السماء سَفُلتَ حتى ... كأنك قد ضَجِرْتَ من العُلوِّ )
( رأيتك من حبيبك ذا بِعادٍ ومِمّن لا يُحِبك ذا دُنُوِّ )
( وحسْبُك حسْرَةً لك من حبيب ... رأيتَ زمامه بيدَيْ عَدُوِّ )
هكذا أخبرني عمي عن خالد وهذه الأبيات أيضاً تروى لأبي تمام
وقال ابن أبي طلحة حدثني الهلالي قال مررت بخالد وحوله جماعة ينشدهم فقلت له يا أبا الهيثم سلوت عن صديقك قال لا والله قلت فإنه عليل وما وعدته فسكت ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال
( زَعَمُوا أنني صحوتُ وكلاّ ... أُشْهِدُ الله أنني لن أمَلاّ )
( كيف صبري يا من إذا ازداد تِيهاً ... أبداً زدتُه خضوعاً وذُلاً )
ثم قال احفظه وأبلغه عني

( بِجِسْمِي لا بجسمِك يا عليلُ ... ويكفيني من الألَمِ القليلُ )
( تَعدِّاك السَّقام إليَّ إني ... على ما بي لعادِيِه حَمولُ )
( إذا كنتَ يا أملي صحيحاً ... فحَالفني وسالَمك النحولُ )
( ألستَ شقيقَ ما ضمّتْ ضُلوعي ... عَلَى أني لِعِلَّتِك العليلُ )
قال وحدثني العباس بن يحيى أنهم كانوا عند علي بن المعتصم فغني في شعر لخالد فأمر بإحضاره وطلب فلم يوجد فوجه إلى غلام كان يتعشقه فأحضر وسأله عنه فدل عليه وقال كنا نشرب إلى السحر وقد مضى إلى حمام فلان وهو يخرج ويجلس عند فلان الفقاعي ودكانه مألف للغلمان المرد والمغنين فبعث إليه فأحضر فلما جلس أخرج علي بن المعتصم الغلام وقال هذا دلنا عليك وهو يزعم أنك تعشقه فقال له الغلام نعم أيها الأمير لو لم يكن من فضيحته إياي إلا أنه إذا لم يوجد أحضرت وسئلت عنه فأقبل عليه خالد وقال
( يا تارِكَ الجسم بلا قلبِ ... إن كنتُ أهواك فما ذنبي )
( يا مفرداً بالحسن أَفْرَدْتني ... منْك بِطولِ الشوق والحُبِّ )
( إنْ تَكُ عًيني أبصَرَتْ فتنة ... فِهلْ على قَلْبيَ من عَتب )
( حَسِيبُكَ الله لَما بي كما ... أنك في فعلِك بي حَسبي )
لجحظة فيه رمل فاستحسن علي الشعر وأمر له بخمسين ديناراً
قال حدثني ابن أبي المدور أنه شهد خالداً عند عبد الرحيم بن الأزهر الكاتب وأنه دخل عليهم غلام من أولاد الكتاب فلما رأى خالداً أعرض عنه فقلت له لم أعرضت عن أبي الهيثم فقال والله لو علمت أنه ها هنا ما دخلت إليكم ما يبالي إذا شرب هذين القدحين ما قال ولا من هتك فقال لي خالد ألا تعينني على ظالمي فقلت بلى والله أعينك فأقبل على الفتى وقال

صوت
( هَبْني أسأتُ فكان ذَنْبي ... مثلَ ذنْب أبي لَهبْ )
( فأنا أتوبُ وكم اسأْتَ ... وكم أسأتَ ولم تَتُب )
فما زلنا مع ذلك الفتى نداريه ونستعطفه له حتى أقبل عليه وكلمه وحادثه فطابت نفسه وسر بقية يومه
في هذين البيتين لأبي العبيس خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى ولرذاذ خفيف رمل مطلق
حدثني عبد الله بن صالح الطوسي أن علي بن المعتصم دعا خالداً يوماً وهو يشرب وقد أخرجت إليه وصيغة من وصفاء حظيته تفاحة معضوضة مغلفة بعثت به إليه ستها فقال
( تفاحةُ خرجتْ بالدُّر مِن فيها ... أشهى إليَّ من الدنيا وما فيها )
( بيضاءُ في حمرة عُلَّتْ بغاليَةٍ ... كأنما قُطِفت من خَدِّ مُهْديها )
( جاءت بها قينةٌ من عند غانية ... روحي من السوء والمكروه تَفديها )
( لو كنتُ ميتاً ونادتني بنغمتها ... إذاً لأسرعتُ من لحدي أُلَبِّيها )
فاستحسن علي بن المعتصم الأبيات وغني فيها وأمر له بتخت ثياب وخمسين ديناراً

أخبار المسدود
المسدود من أهل بغداد وكان منزله في ناحية درب المفضل في الموضع المعروف بخراب المسدود منسوب إليه
وأخبرني جحظة أن اسمه الحسن وكنيته أبو علي وأن أباه كان قصاباً وأنه كان مسدود فرد منخر ومفتوح الآخر وكان يقول لو كان منخري الآخر مفتوحاً لأذهلت بغنائي أهل الحلوم وذوي الألباب وشغلت من سمعه عن أمر دينه ودنياه ومعاشه ومعاده
قال جحظة وكان أشجى الناس صوتاً وأحضرهم نادرة ولم يكتسب أحد من المغنين بطنبور ما كسبه وكان مع يساره وقلة نفقته يقرض بالعينة وكانت له صنعة عجيبة أكثرها الأهزاج قال جحظة قال لي مخارق غلامه قال لي وقد صنع هذين البيتين وهما جميعاً هزج
صوت
( مَن رَأى العِيسَ عَلَيْها الرِّحال ... إضَمٌ قَصْدٌ لَها أم أُثالُ )

( لستً أدري حيث حلُّوا ولكن ... حيثما حلُّوا فثَمّ الجَمَالُ )
والآخر
( عُجْ بنا نَجْنِ بِطَرْف العَينِ ... تُفّاحَ الخُدودْ )
( ونًسَلِّ القلبَ عمّن ... حَظُّنا منه الكدود )
ثم قال والله لا تركت بعدي من يهزج قال جحظة والله ما كذب

الواثق ينفي المسدود إلى عمان
أخبرني جحظة قال كان الواثق قد أذن لجلسائه ألا يرد أحد نادرة عن أحد يلاعبه فغنى الواثق يوماً
( نظْرت كأني من وراء زُجاجةٍ ... إلى الدارِ مِن ماءِ الصبابة أنظرُ )
وقد كان النبيذ عمل فيه وفي الجلساء فانبعث إليه المسدود فقال أنت تنظر أبداً من وراء زجاجة إن كان في عينيك ماء صبابة أولم يكن فغضب الواثق من ذلك وكان في عينيه بياض ثم قال خذوا برجل العاض بظر أمه فسحب من بين يديه ثم قال ينفى إلى عمان الساعة فنفي من وقته وحدر ومعه الموكلون فلما سلموه إلى صاحب البصرة سأله أن يقيم عنده يوماً ويغنيه ففعل

فلما جلسوا للشراب ابتدأ فقال احذروني يا أهل البصرة على حرمكم فقد دخلت إلى بلدكم وأنا أزنى خلق الله قال فقال له الجماز أما يعني أنه أزنى خلق الله أما فغضب المسدود وضرب بطنبوره الأرض وحلف ألا يغني فسأله الأمير أن يقيم عنده وأمر بإخراج الجماز وكل من حضر فأبى ولج فأحدره إلى عمان
ومكث الواثق لا يسأل عنه سنة ثم أشتاقه فكتب في إحضاره فلما جاءه الرسول ووصل إلى الواثق قبل الأرض بين يديه فاعتذر من هفوته وشكر التفضيل عليه فأمر بالجلوس ثم قال له حدثني بما رأيت بعدي فقال لي حديث ليس في الأرض أظرف منه وأعاد عليه حديثه بالبصرة فقال له الواثق قبحك الله ما أجهلك ويلك فأنت سوقة أنا ملك وكنت صاحياً وكنت منتشياً وبدأت القوم فأجابوك فبلغ بك الغضب ما ذكرته وما بدأتك فتجيبني وبدأتني من المزح بما لا يحتمله النظير لنظيره ويلك لا تعاود بعدها ممازحة خليفة وإن أذن ذلك في ذلك فليس كل واحد يحضره حلمه كما حضرني فيك
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد قال سمعت حمدون بن إسماعيل يقول
لم يكن في الخلفاء أحمد أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري فوجد المسدود من ذلك فكان يبلغه عنه ما يكره ويتجاوز عنه وكان المسدود قد هجاه ببيتين فكانا معه في رقعة وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه فغلط بين الرقعتين فناوله رقعة الشعر وهو يرى أنها رقعة الحاجة فقرأها وفيها
( مِنَ المسدودِ في الأنفِ ... إلى المَسدود في العَيْنِ )
( أنا طَبْلٌ له شِقٌ ... فيا طبلاً بشِقَيْنِ )

فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه فقال للمسدود خلطت في الرقعتين فهات الأخرى وخذ هذه واحترز من مثل هذا والله ما زاده على هذا القول

من اجوبت الموجعة
أخبرني جحظة قال تحدث المسدود في مجلس المنتصر بحديث فقال له المنتصر متى كان ذلك قال ليلة لاناه ولا زاجر يعرض له بليلة قتل فيها المتوكل فأغضى المنتصر واحتمله
قال وقالت الذكورية يوماً بين يدي المعتمد غن يا مسدود قال نعم يا مفتوحة وقالت له امرأة كيف آخذ إلى شجرة بابك قال قدامك أطعمك الله من ثمرها
قال وغنى بين يدي المتوكل فسكته وقال لبكران الشيري تغن أنت فقال المسدود أنا أحتاج إلى مستمع فلم يفهم المتوكل ما قال
وقدّم إليه طباخ المتوكل طبقاً وعليه رغيفان ثم قال له أي شيء تشتهي حتى أجيئك به قال خبزاً فبلغ ذلك المتوكل فأمر بالطباخ فضرب مائتي مقرعة
قال جحظة وحدثني بعض الجلساء أنه لما وضع الطباخ الرغيفين بين يديه قال له المسدود هذا حرز فأين النير قال ودعاه بعض الرؤساء فأهدى له برذوناً أشهب فارتبطه ليلته فلما كان من غد نفق وبعث إليه يدعوه بعد ذلك فكتب أنا لا أمضي إلى من يعرف آجال الدواب فيهب ما قرب أجله منها

قال واستوهب من بعض الرؤساء وبراً فأعطاه سموراً قد قرع بعضه فرده وقال ليس هذا سموراً هذا أشكر

صوت
( أجدَّك ما تَعْفُو كُلومُ مُصيبَةٍ ... على صاحبٍ إلا فُجعتُ بصاحبِ )
( تقَطَّع أحشائي إذا ما ذكرتهمُ ... وتنهلّ عيني بالدموع السواكب )
عروضه من الطويل الشعر لسلمة بن عياش والغناء لحكم وله فيه لحنان رمل بالبنصر وهزج بالوسطى

أخبار سلمة بن عياش
سلمة بن عياش مولى بني حسل بن عامر بن لؤي
شاعر بصري من مخضرمي الدولتين وكان يتدين ويتصون وانقطع إلى جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ومدحهما فأكثر وأجاد ومما مدحمها به وفيه غناء قوله
صوت
أَرقْتُ وطالت ليلتي بأبانِ ... لِبرْقٍ سَرى بَعد الهدوء يَمانِ )
( يُضيء بأعلام المدينة هُمَّداً ... غلى أمجٍ فالطلح طلح قنان )
غنى في هذين البيتين دحمان ولحنه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو قال وفيه لحن لعطرد يقول فيها
( ورَدْتُ خَليجَي جعفرٍ ومحمدٍ ... وكلَّ بَدِيء من نَداه سقاني )

( إني لأرجو جعفراً ومحمداً ... لأفضلِ ما يُرْجَى له مَلَكان )
( هُما ابْنا رسولِ الله وابنا ابنِ عمِّه ... فقد كَرُم الجَدّان والأبوان )
( ومنها ما ذكره محمد بن داود بن الجراح قوله
صوت
( أَنارُ بدَتْ وَهْناً لعينك تُرْمِضُ ... ببغداد أم سارٍ من البرق مُومِضُ )
( يضِيء سناه مكْفَهِرِّاً كأنه ... حناتِمُ سودٌ أو عِشار تَمَخَّضُ )
غنى فيهما عطرد ثقيلاً أو ل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق يقول فيها
( ولَوْلا انتظاري جعفراً ونَوالَه ... لَمَا كان في بغداد ما أتبرّضُ )
وقد وجدت هذا الشعر لابن المولى في جامع شعره من قصيدة له وأظن ذلك الصحيح لا ما ذكر محمد بن داود من أنها لسلمة بن عياش أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وغيره قال قال سلمة بن عياش وذكر محمد بن داود عن عسل بن ذكوان عن أبي حاتم عن الأصمعي عن سلمة بن عياش مولى بني عامر بن لؤي قال دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوس وقد قال قصيدته

( إنّ الذي سَمَك السماءَ بنَى لنا ... بَيْتاً دعائمُه أعزُّ وأطولَ )
وقد أفحم وأجبل فقلت له ألا أرفدك فقال وهل ذاك عندك فقلت نعم ثم قلت
( بَيْتٌ زُرارةُ مُحِتَبٍ بِفنائه ... ومُجاشِع وأبو الفوارس نَهْشَل )
فاستجاد البيت وغاظه قولي له فقال لي ممن أنت فقلت من قريش فقال كل أير حمار من قريش فمن أيها أنت قلت من بني عامر بن يؤي قال لئام والله رضعة جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم فقلت ألأم والله منهم قومك وأرضع جاء رسول مالك بن المنذر وأنت سيدهم وشاعرهم فأخذ بأذنك يقودك حتى احتسبك فما اعترضه أحد ولا نصرك فقال قاتلك الله ما أكرمك وأخذ البيت فأدخله في قصيدته

سلمة وبربر الجارية
أخبرنا وكيع قال أخبرني محمد بن سعد الكراني قال حدثنا سهل بن محمد قال حدثني العتبي قال كان سلمة بن عياش وأبو سفيان بن العلاء عند محمد بن سليمان وجارية تغنيهم وتسقيهم يقال لها بربر فقال سلمة
( إلى اللهِ أشكو ما أُلاقي من القِلَى ... لأَهلي وما لاقيتُ من حُبِّ بَرْبرِ )
( على حينَ ودعَّت الصبابةَ والصبا ... وفارقتُ أَخْداني وشمَّرت مِئزَري )
( نأى جعفرٌ عنَّا وكان لِمثلِها ... وأنتَ لنا في النائباتِ كجعفر )

قال فقال محمد بن سليمان لسلمة خذها هي لك فاستحيا وارتدع وقال لا أريدها فألح عليه في أخذها فقال أعتق ما أ ملك إن أخذتها فقال له أبو سفيان ياسخين العين أعتق ما تملك وخذها فهي خير من كل ما تلك فلما مات أبو سفيان رثاه سلمة فقال
( لَعَمْرُك لا تعفُو كلُومُ مصيبةٍ ... على صاحبٍ إلا فُجِعتُ بصاحبِ )
( تَقطعُ أحشائي إذا ما ذكرتكم ... وتَنْهلّ عيني بالدموع السواكبِ )
( وكنتُ أمرأ جلداً على ما يَنُوبني ... ومعترفاً بالصبر عند المصائب )
( فهَدَّ أبو سفيان رُكني ولم أكنْ ... جَزوعاُ ولا مستنكِراُ للنوائب )
( غَنِينا مَعا بِضْعاً وستين حِجّةً ... خَلِيلَيْ صفاْر ودُنُا غيرُ كاذب )
( فأصبحتُ لمّا حالت الأرض دونَه ... على قُرْبِه مِنِّي كمَن لم أصاحب )
وذكر محمد بن داود عن عسل بن ذكوان أن محمد بن سليمان قال له اختر ما شئت غيرها لأن أبا أيوب قد وطئها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثت من غير وجه عن سلمة بن عياش أنه قال قلت لأبي حية النميري أهزأ به ويحك يا أبا حية أتدري ما يقول الناس قال لا قلت يزعمون أني أشعر منك قال إنا لله هلك والله الناس
وفي بربر هذه يقول سلمة بن عياش وفيه غناء وذكر عمر بن شبة أنه لمطيع بن إياس

صوت
( أظنُّ الحبَّ من وجْدي ... سيقتُلني على بَرْبَرْ )
( وبَرْبرُ دُرَّهُ الغواصِ ... مَنْ يَمْلِكُها يُحْبَرْ )
( فخافِي الله يا بَرْبَرْ ... فقد أفتَنْتِ ذا العسكرْ )
( بِحُسْنِ الدَّلّ والشكلِ ... ورِيحِ المسك والعَنْبرْ )
( ووجهٍ يُشْبه البّدْرَ ... وعينَيْ جُؤْذُر أحور )
فيه لحكم ثلاثة ألحان رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وخفيف رمل عن هارون بن الزيات وهزج عن أبي أيوب المدني
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر شبة قال بربر جارية آل سليمان أعتقت وكان لها جوار مغنيات فيهن جارية اسمها جوهر وكان في البصرة فتى يعرف بالصحاف حسن الوجه فبلغ مطيع بن إياس أنه بات مع جوهر جارية بربر فغاظه ذلك فقال
( ناكَ والله جوهرَ الصحّافُ ... وعلَيها قَميصُها الأفوافُ )
( شام فيها أيراً له ذا صُلاع ... لم يَخُنْه نَقص ولا إخطاف )
( زعموها قالت وقد غاب فيها ... قائماً في قيامه استِحْصاف )
( وهو في جارة استها يتلظَّى ... وبها شهوة له والتهاف )

( بَعْضَ هذا مهلاً ترفق قليلاً ... ما كذا يا فتى تُناك الظِراف )
قال وقال فيها وقد وجهت بجواريها إلى عسكر المهدي
( خافِي الله يا برْبرْ ... فقد أَفسدْتِ ذا العسكرُ )
( أَفضْتِ الفِسقَ في الناسِ ... فصار الفِسْقٌ لا يُنْكر )
( ومَنْ ذا يملِك الناس ... إذا ما أَقبلَتْ بَرْبرْ )
( وأعطافُ جواريها ... كريح المسك والعنبرْ )
( وجوهرُ دُرّهُ الغواصِ ... مَنْ يَمْلِكها يُحبرْ )
( أَلا يا جوهرَ القلْبِ ... لقد زِدْتِ على الجوهرْ )
( وقد أكملكِ اللهُ ... بحُسْن الدِّل والمنظر )
( إذا غّنيتِ يا أَحسَنَ خَلقِ اللهِ بالمِزهرْ )
( فهذا حَزَناً يَبْكي ... وهذا طرَباً يكفُر )
( وهذا يَشربُ الكأسَ ... وذا من فَرَح ينعِرَ )
( ولا واللهِ ما المهديَّ ... أَولَى منك بالمنبر )
( فما عِشْتِ ففي كفيك ... خَلْعُ ابن أَبي جعفر )
قال فبلغ ذلك المهدي فضحك وأَمر لمطيع بصلة وقال أَنفق هذا عليها وسلها أَلا تخلعنا ما عاشت
قال وفي جوهر يقول مطيع
( جاريةٌ أَحسنُ مِن حَلْيِها ... وفيه فَضْل الدُّر والجوهرْ )
( وجِرمُها أطيب من طِيبها ... والطِّيب فيه المسكُ والعنبرْ )

( جاءت بها بربرُ مَمْكُورةً ... يا حبذا ما جلَبتْ بَربرْ )
قال وقال فيها
( أنتِ يا جوهرُ عِندِي جَوْهَرهُ ... في بياض الدّرة المشتهِره )
( وإذا غنَّت فنارٌ أُضْرمَت ... قَدَحَتْ في كلّ قلب شَرَره )
صوت
( يا عمودَ الإسلام خير عمود ... والذي صيغ من حياء وجُودِ )
( إن يوماً أراك فيه ليوم ... طلعت شَمسُه بسعد السعود )
الشعر لأبي العتاهية يمدح محمد الأمين والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وإسحاق

أخبار لأم جعفر
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا العلائي قال حدثني محمد بن أبي العتاهية قال لما جلس الأمين في الخلافة أنشده أبو العتاهية
( يا بنَ عمِّ النبيِّ خيرَ البَرِيّة ... إنمّا أنتَ رحْمَةٌ للرّعيّهْ )
( يا إمامَ الهدىالأمينَ المصَفَّى ... بِلُبَاب الخلافةِ الهاشميهْ )
( لك نفسٌ أمّارة لك بالخير ... وكفُّ بالمكرُمات نَدِيّه )
( إنّ نفساً تحملَتْ منك ما حُمَّلتَ ... للمسلمين نفسٌ قَويه )
قال ثم خرج إلى دار أم جعفر فقالت له أنشدني ما أنشدت أمير المؤمنين فأنشدها
فقالت أين هذا من مدائحك في المهدي والرشيد فغضب وقال إنما أنشدت أمير المؤمنين ما يستملح وأنا القائل فيه
( يا عمودَ الإسلام خيرَ عمود ... والّذي صِيغَ من حياءٍ وَجُودِ )
( والذي فيه ما يُسَلِّي ذوي الأحزان ... عن كلِّ هالكٍ مفقود )
( إنّ يوماً أراك فيه لَيَومٌ ... طلعَت شمسه بسعد السعود )
فقالت له الآن وفيت المديح حقه وأمرت له بعشرة آلاف درهم
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثني محمد بن الفضل قال

كان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة بمائة ألف دينار جدد وألف ألف درهم فكانت تعطي أبا العتاهية منها مائة دينار وألف درهم فأغفلته سنة فدفع إلي رقعة وقال ضعها بين يديها فوضعتها وكان فيها
( خبَّرونِي أنَّ في ضرب السَّنهْ ... جُدُداً بيَضاً وصُفْراً حَسَنهْ )
( سِكَكاً قد أَحْدِثَتْ لم أرها ... مثلَ ما كنت أرى كلّ سَنةْ )
فقالت إنا للهِ أغفلناه فوجهت إليه بوظيفة على يدي
حدثني محمد بن موسى قال حدثنا جعفر بن الفضل الكاتب قال أحست زبيدة من المأمون بجفاء فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك وتأمره أن يعمل فيه أبياتاً تعطفه عليها فقال

صوت
( ألا إنّ ريبَ الدهْرِ يُدني ويبعدُ ... ويؤنس بالالاّف طوراً ويفقدُ )
( أصابتْ لريْبِ الدهْر مني يَدِي يَدِي ... فسلّمتُ للإقدارِ واللهَ أَحْمَدُ )
( وقلتُ لِرْيبَ الدهْرِ إنْ ذهَبت يَدٌ ... فقد بقيت والحمدُ لله لي يَدُ )
( إذا بَقِي المأمونُ لي فالرشيدُ لي ... ولِي جعفرٌ لم يفقَدا ومحمدُ )
الغناء لعلّويه

قال فحسن موقع الأبيات منه وعاد لها المأمون إلى أكثر مما كان لها عليه
وجدت في كتاب محمد بن الحسن الكاتب
حدثني هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال ظهرت لأم جعفر جفوة من المأمون فبعثت إلي بأبيات وأمرتني أن أغني فيها المأمون إذا رأيته نشيطاً وأسنت لي الجائزة وكان كاتبها قال الأبيات ففعلت فسألني المأمون عن الخبر فعرفته فبكى ورق لها وقام من وقته فدخل إليها فأكب عليها وقبلت يديه وقال لها يا أمه ما جفوتك تعمدا ولكن شغلت عنك بما لا يمكن إغفاله فقالت يا أمير المؤمنين إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك وأتم يومه عندها والأبيات
( ألاَ إن ريبَ الدهرِ يُدْني ويُبعدُ ... ويُؤنس بالأّلاّف طوراً ويُفْقِدُ )
وذكر باقي الأبيات مثل ما في الخبر الأول
أبو العتاهية ينظم شعراً عن لسانها للمأمون
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن علي الرازي قال
حدثني أبو سهل الرازقي عن أبيه قال عمل أبو العتاهية شعراً على لسان زبيدة بأمرها لما قدم المأمون بغداد أوله
( لخَيرِ إِمامٍ قامَ من خيرِ عنصُرِ ... وأَفضلِ راقٍ فوق أَعواد مِنْبر )
فذكر محمد بن أحمد بن المرزبان عن بعض كتاب السلطان أن المأمون لما قدم مدينة السلام واستقرت به الدار وانتظمت له الأمور أمرت أم جعفر كاتباً لها فقال هذه الأبيات وبعثت بها إلى علويه وسألته أن يصنع فيها لحناً ويغني فيه المأمون ففعل وكان ذلك مما عطفه عليها وأمرت لعلويه بعشرين ألف درهم وقد روي أن الأبيات التي أولها

( يا عمود الإسلام خيرَ عمود ... )
لعيسى بن زينب المراكبي
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب قال حدثنا علي بن نجيح قال حدثني صالح بن الرشيد قال
كنا عند المأمون يوما وعقيد المغني وعمرو بن بانة يغنيان وعيسى بن زينب المراكبي حاضر وكان مشهوراً بالأبنة فتغنى عقيد بشعر عيسى
( يا عمودَ الإسلامِ خير عمودِ ... والذي صيغ من حياء وجود )
( لك عندي في كل يومٍ جَديدٍ ... طُرْفةٌ تستفاد يا بنَ الرشيد )
فقال المأمون لعقيد أنشد باقي هذا الشعر فقال أصون سمع أمير المؤمنين عنه فقال هاته ويحك فقال
( كنتُ في مجلسٍ أنيق ورَيْحان ... وراحٍ ومُسْمِعاتٍ وَعُودِ )
( فتغنَّى عمرو بن بانةَ إذا ذاكَ ... وهْوَ ممسكٌ بأيْر عقيد )
( يا عمودَ الإسلام خيرَ عمود ... والذي صيغ من حياءٍ وَجُود )
( فتنفسْتُ ثم قلت كذا كلُّ ... محبٍّ صبِّ الفؤاد عميد )
فقال المأمون لعيسى بن زينب والله لا فارقتك حتى تخبرني عن تنفسك عند قبض عمرو على أير عقيد لإي شيء هو لا بد من أن يكون ذلك إشفاقاً عليه أو على أن تكون مثله لعن الله تنفسك هذا يا مريب قال وإنما سمي المراكبي لتوليه مراكب المنصور وأمه زينب بنت بشر صاحب طاقات بشر بباب الشام

صوت
( لقيتُ من الغانيات العُجابا ... لو أدرك مني العذارَى الشبابا )

( علام يُكحَّلن حُورَ العيون ... ويُحْدِثْن بَعد الخضابِ الخضابا )
( ويُبرِقن إلا لما تعلمون ... فلا تمنعُنَّ النساء الضرايا )
الشعر لأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي والغناء لإبراهيم الموصلي ولحنه من الثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من راويةالهشامي

أخبار أيمن بن خريم
وأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي لأبيه صحبة برسول الله ورواية عنه وينسب إلى فاتك وهو جد أبيه وهو أيمن بن خريم بن الأخرم بن عمرو بن فاتك بن القليب بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وكان أيمن يتشيع وكان أبوه أحد من اعتزل حرب الجمل وصفّين وما بعدهما من الأحداث فلم يحضرها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني النوشجاني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش عن مجالد قال كان عبد الملك شديد الشغف بالنساء فلما أسن ضعف عن الجماع وازداد غرامه بهن فدخل إليه يوما أيمن بن خريم فقال له كيف أنت فقال بخير يا أمير المؤمنين قال فكيف قوتك قال كما أحب ولله الحمد إني لآكل الجذعة من الضأن بالصاع من البر وأشرب العس المملوء وأرتحل البعير الصضعب وأنصبه وأركب المهر الأرن فأذلّله وأفترع العذراء ولا يقعدوني عنها الكبر ولا يمنعني منها الحصر ولا

يُرويني منها الغمر ولا ينقضي مني الوطر فغاظ عبد الملك قوله وحسده فمنعه العطاء وحجبه وقصده بما كره حتى أثّر ذلك في حاله فقالت له امرأته ويحك أصدقني عن حالك هل لك جرم قال لا والله قالت فأي شيء دار بينك وبين أمير المؤمنين آخر ما لقيته فأخبرها فقالت إنا لله من ها هنا أتيت أنا أحتال لك في ذلك حتى أزيل ما جرى عليك فقد حسدك الرجل على ما وصفت به نفسك فتهيأت ولبست ثيابها ودخلت على عاتكة زوجته فقالت أسألك أن تستعدي لي أمير المؤمنين على زوجي قالت وماله قالت والله ما أدري أنا مع رجل أو حائط وإن له لسنين ما يعرف فراشي فسليه أن يفرق بيني وبينه فخرجت عاتكة إلى عبد الملك فذكرت ذلك له وسألته في أمرها فوجه إلى أيمن بن خريم فحضر فسأله عما شكت منه فاعترف به فقال أو لم أسألك عاما أول عن حالك فوصفت كيت وكيت فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل ليتجمل عن سلطانه ويتجلد عند أعدائه بأكثر مما وصفت نفسي به وأنا القائل
( لَقيتُ من الغانيات العُجابا ... لو ادرَكَ مني الغواني الشبابا )
( ولكنَّ جمعَ النساء الحسان ... عناءٌ شديد إذا المرء شابا )
( ولو كِلتَ بالمدِّ للغانيات ... وضاعفْتَ فوق الثياب الثيابا )
( إذا لم تُنِلْهُنّ من ذاك ذاك ... جحدنك عند الأمير الكتابا )
( يَذُدْنَ بكل عصا ذائدٍ ... ويصبِحْن كلَّ غداة صِعابا )
( إذا لم يُخَالَطْنَ كل الخِلاط ... أصبحن مُخْرنْطماتٍ غضابا )

( علام يُكَحّلن حور العيون ... ويُحدثْنَ بعد الخضاب الخضابا )
( ويَعرُكن بالمسْكِ أجيادَهنْ ... ويُدْنِين عند الحِجال العيابا )
( ويُبرقْن إلا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضراب )
قال فجعل عبد الملك يضحك من قوله ثم قال أولى لك يابن خريم لقد لقيت منهن ترحاً فما ترى أن نصنع فما بينك وبين زوجتك قال تستأجلها إلى أجل العنين وأدريها العلي أستطيع إمساكها قال أفعل ذلك وردها إليه وأمر له بما فات من عطائه وعاد إلى بره وتقريبه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال ذكر العتبي أن منازعة بين عمرو بن سعيد وعبد العزيز بن مروان فتعصب لكل واجد منهما أخواله وتداعوا بالسلاح واقتتلوا وكان أيمن بن خريم حاضراً للمنازعة فاعتزلهم هو ورجل من قومه يقال له ابن كوز فعاتبه عبد العزيز وعمرو جميعاً على ذلك فقال
( أأْقتَلُ بينَ حجّاج بن عمرو ... وبين خصيمه عبد العزيز )
( أنقُتَل ضلَّةً في غير شيء ... ويَبْقى بعدَنا أَهلُ الكنوز )
( لعمر أَبيك ما أُتيتُ رشدي ... ولا وُفِّقتُ للحِرْز الحريز )
( فإني تاركٌ لهما جميعاً ... ومعتزلٌ كما اعتزل ابنُ كوز )

أيمن يهجو يحيى بن الحكم
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن

عدي قال أصاب حيى بن الحكم جارية في غزاة الصائفة بها وضح فقال أعطوها أيمن بن خريم وكان موضحاً فغضب وأنشأ يقول
( تركت بني مروان تندى أكفُّهم ... وصاحبتُ يحيى ضلّة من ضلاليا )
( فإنك لو أشبهتَ مروان لم تَقُل ... لقوميَ هُجراً أَنْ أَتَوك ولاليا )
وانصرف عنه فأتى عبد العزيز بن مروان وكان يحيى محمقاً
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني مصعب اليزبدي عن أشياخه أن عبد الملك بن مروان قال يا معشر الشعراء تشبهوننا مرة بالأسد الأبخر ومرة بالجبل الأوعر ومرة بالبحر الأجاج ألا قلتم فينا كما قال أيمن بن خريم في بني هاشم
( نهاركُمُ مكابدةٌ وصومٌ ... ولَيْلُكُمُ صلاة واقتراء )
( وَلِيتم بالقُران وبالتزَكِّي ... فأَسرع فيكُم ذاك البلاء )
( بكى نجدٌ غداة غدٍ عليكم ... ومكةُ والمدينةُ والجِواء )
( وحقّ لكل أَرض فارقُوها ... عليكم لا أَبالكمُ البكاء )
( أَأَجعلكم وأَقواماً سواءً ... وبينكمُ وبينهم الهواء )
( وهمْ أَرض لأرجُلكم وأَنتم ... لأرؤسهم وأَعينهم سماء )
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن أبي همام الوليد بن شجاع قال حدثنا عبد الله بن إدريس قال أصاب أيمن بن خريم امرأة له

خطأ يعني قتلها فوداها عبد الملك بن مروان أعطي ورثتها ديتها وكفر عنه كفارة القتل وأعطاه عدة جوار ووهب له مالاً فقال أيمن
( رأَيتُ الغوانيَ شيئاً عُجابا ... لَوَ انسَ مِنيِّ الغواني الشبابا )
( ولكنَّ جمعَ العذارى الحسانِ ... عناءٌ شديد إذا المرء شابا )
( ولو كِلتَ بالمُدّ للغانيات ... وضاعفْت فوق الثياب ثيابا )
( إذا لم تُنِلْهن مِن ذاك ذاك ... بَغَيْنَكَ عِنْد الأمير الكذابا )
( يَذُدن بكل عَصَا ذائدٍ ... ويًصبحن كل غداة صعابا )
( إذا لم يُخالَطْنَ كلّ الخِلاط ... تراهنّ مُخَرَنطِماتٍ غِضَابا )
( عَلامَ يُكَحِّلْن حُور العيون ... ويُحْدِثْنَ بعد الخضاب الخضابا )
( ويَعرُكن بالمسك أجيادَهنّ ... ويدنين عند الحِجال العِيابا )
( ويغمِزن إلا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضِّرابا )
قال فبلغني أن عبد الملك أنشد هذا الشعر فقال نعم الشفيع أيمن لهن
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال له عبد الملك لما أنشده هذا الشعر ما وصف النساء أحد مثل صفتك وعرفهن أحد معرفتك
قال فقال له لئن كنت صدقت في ذلك لقد صدق الذي يقول

صوت
( فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبيرٌ بأدواء النساء طبيبُ )
( إذا شاب رأسُ المرءِ أو قلَّ ماله ... فليس له فِي وُدِّهنّ نصيب )
( يُرِدْنَ ثراءَ المال حيث علمنه ... وشَرْخُ الشباب عندهن عجيب )

فقال له عبد الملك قد لعمري صدقتما وأحسنتما الشعر لعلقمة بن عبدة والغناء لبسباسة ولحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش وهذه الأبيات يقولها علقمة بن عبدة يمدح بها الحارث ويسأله إطلاق ابنه شأس
وخبره يذكر وخبر الحارث بعد انقضاء أخبار أيمن بن خريم

رجع الحديث إلى أخبار أيمن
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي قال دخل نصيب يوما إلى عبد العزيز بن مروان فأنشده قصيدة له امتدحه بها فأعجبته وأقبل على أيمن بن خريم فقال كيف ترى شعر مولاي هذا قال هو أشعر أهل جلدته
فقال هو أشعر والله منك قال أمِني أيها الأمير
فقال إي والله قال لا والله ولكنك طرف ملول فقال لو كنت كذلك ما صبرت على مؤاكلتك منذ سنة وبك من البرص ما بك فقال ائذن لي أيها الأمير في الانصراف قال ذلك إليك فمضى لوجهه حتى لحق ببشر بن مروان وقال فيه
( ركبتُ من المقطّم في جُمادى ... إلى بشرِ بن مروان البَرِيدا )
( ولو أعطاكَ بشرٌ ألفَ ألفٍ ... رأى حقاً عليه أن يزيدا )
( أميرَ المؤمنين أقِمْ بِبشر ... عمود الدين إنّ له عمودا )
( ودِعْ بشراً يقُوّمهم ويُحْدِثْ ... لأهلِ الزيغ إسلاماً جديداً )

( وإنّا قد وجدنا أُمَّ بشر ... كأُمّ الأُسد مِذْكاراً وَلودا )
( كأنّ التاج تاجَ أبي هِرَقْلٍ ... جَلَوْهُ لأعظِم الأيام عيداً )
( يُحالِف لونُه ديباجَ بشر ... إذا الألْوانُ حالفت الخدودا )
يعرض بنمش كان بوجه عبد العزيز فقبله بشر بن مروان ووصله ولم يزل أثيراً عنده

أيمن يمدح بشر بن مروان
أخبرني عمي قال حدثني الكراني وأبو العيناء عن العتبي قال لما أتى أيمن بن خريم بشر بن مروان نظر الناس يدخلون عليه أفواجاً فقال من يؤذن لنا الأمير أو يستأذن لنا عليه فقيل له ليس على الأمير حجاب ولا ستر فدخل وهو يقول
( يُرَى بارزاً للناس بشرٌ كأنه ... إذا لاح في أثوابه قمَرٌ بَدْرُ )
( ولو شاء بشرٌ أغلق البابَ دونه ... طماطمُ سودٌ أو صقالبةٌ شُقْر )
( أبى ذا ولكن سَّهل الإذنَ للتي ... يكون له في غِبِّها الحمد والشكر )
فضحك إليه بشر وقال إنا قوم نحجب الحرم وأما الأموال والطعام فلا وأمر له بعشرةآلاف درهم
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن المعتمد بن سليمان قال
لما طالت الحرب بين غزالة وبين أهل العراق وهم لا يغنون شيئاً قال أيمن بن خريم

( أتينا بهمْ مائتي فارسٍ ... من السافِكِين الحرامَ العَبيطا )
( وخمسون من مارقات النساء ... يَسْحَبْنَ لِلمُنديات المُرُوطا )
( وهُمْ مائتا ألفِ ذي قَوْنَسٍ ... يَئط العراقان منهم أَطيطا )
( رأيت غزالة إن طَرَّحَت ... بمكةَ هَودَجها والغَبيطا )
( سَمَتْ للعراقين في جمعها ... فلاقى العراقان منها بطيطا )
( ألاَ يستحي اللهَ أهلُ العِراقِ ... إن قَلَّدوا الغانيات السُّموطا )
( وخيلُ غزالةَ تسبي النِّساء ... وتَحوي النَّهابَ وتحوي النبيطا )
( ولو أنَّ لُوطاً أميرٌ لكم ... لأسْلَمْتُمُ في المُلمّات لُوطا )

صوت
( تصابَيْتَ أم هاجتْ لك الشوقَ زينَبُ ... وكيف تَصَابِي المرء والرأسُ أشيب )
( إذا قرُبتْ زادتْك شوقاً بِقُرْبِها ... وإن جانبت لم يُسلِ عَنها التجنّب )
( فلا اليأسُ إن ألممتَ يبدو فترعَوِي ... ولا أنت مردود بما جئت تطلب )
( وفِي اليأسِ لو يبدُو لك اليأسُ راحةٌ ... وفي الأرض عمَّنْ لا يؤاتيك مذهب )
الشعر لحجية بن المضرب الكندي فيما ذكره إسحاق والكوفيون
وذكر الزبير بن بكار أنه لإسماعيل بن يسار وذكر غيره أنه لأخيه أحمد بن

يسار والغناء ليونس الكاتب ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه ثقيل أول بالبنصر ذكر حبش أنه لمالك وذكر غيره أنه لمعبد

أخبار حجبة بن المضرب
حدثني ابن عمار قال حدثنا سعيد بن يحيى الأموي وأخبرنا به وكيع عن إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن يحيى الأموي قال حدثني المحبر بن قحذم عن هشام بن عروة عن أبيه قال
لما قدم القاسم بن محمد بن أبي بكر وأخته من مصر وأخبرني بهذا الخبر محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن عوانة قال كان القاسم بن محمد بن أبي بكر يحدث قال
لما قتل معاوية بن حديج الكندي وعمرو بن العاص أبي يعني محمد بن أبي بكر بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني وأختا لي من مصر وقد جمعت الروايتين واللفظ لابن أبي الأزهر وخبره أتم قال
فقدم بنا المدينة فبعثت إلينا عائشة فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها فما رأيت والدة قط ولا والداً أبرّ منها فلم نزل في حجرها حتى إذا كان ذات يوم وقد ترعرعنا ألبستنا ثياباً بيضاء ثم أجلست كل واحد منا على فخذها ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن فلما دخل عليها تكلمت فحمدت

الله عز و جل وأئثنت عليه فما رأيت متكلماً ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها ثم قالت
يا أخي إني لم أزل أراك معرضاً عني منذ قبضت هذين الصبيين منك ووالله ما قبضتهما تطاولاً عليك ولا تهمة لك فيهما ولا لشيء تكرهه ولكنك كنت رجلاً ذا نساء وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئاً فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرن به من قبيح أمر الصبيان فكنت ألطف لذلك وأحق بولايته فقد قويا على أنفسهما وشبا وعرفا ما يأتيان فهاهما هذان فضمهما إليك وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة فإنه كان له أخ يقال له معدان فمات وترك أصيبية صغاراً في حجر أخيه فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم وكان يؤثرهم على صبيانه فمكث بذلك ما شاء الله ثم إنه عرض له سفر لم يجد بداً من الخروج فيه فخرج وأوصى بهم امرأته وكانت إحدى بنات عمه وكان يقال لها زينب فقال اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم ثم مضى لوجهه فغاب أشهراً ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت فقال لامرأته ويلك مالي أرى بني معدان مهازيل وأرى بني سماناً قالت قد كنت أواسي بينهم ولكنَّهم كانوا يعبثون ويلعبون فخلا بالصبيان فقال كيف كانت زينب لكم قالوا سيئة ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن وأروه قدحاً صغيرأً فغضب على امرأته غضباً شديداً وتركها حتى إذا أراح عليه راعياً إبله قال لهما اذهب فأنتما وإبلكما لبني معدان فغضبت من ذلك زينب وهجرته وضربت بينه وبينها حجاباً فقال والله لا تذوقين منها صبوحاً ولا غبوقاً أبداً وقال في ذلك

( لجِجْنا وَلجَت هذه في التغضّب ... ولطِّ الحجابِ بيننا والتجنُّبِ )
( وخطتُ بفردَيْ إثمِدٍ جفنَ عينها ... لتقتلَني وشَدَّ ما حُبُّ زينب )
( تلومُ على مالٍ شفاني مكانُه ... فَلوُمي حياتي ما بدا لك واغضبي )
( رحِمت بني مَعْدانَ أنْ قلَّ مالهُمْ ... وحق لهم مِني وربِّ المحصَّب )
( وكان اليتامى لا يَسُدُّ اختلالهم ... هدايا لهم في كل قَعْبٍ مشعّب )
( فقلت لعبديْنا أَريحا عليهمُ ... سأجعل بيتي بيتَ آخرَ مُعْزِب )
( وقلتُ خذوها واعلموا أَن عمّكمْ ... هو اليومَ أَولى منكمُ بالتكسب )
( عِيالي أَحقُّ أَن ينالوا خصاصةً ... وأَن يشربوا رَنْقاً إلى حين مكسبي )
( أُحابي بها من لو قصدتُ لمالِه ... حَرِيباً لآساني على كل موكِب )
( أَخِي والذي إن أَدْعُه لعظِيمة ... يُجِبْني وإن أغضَب إلى السيف يَغْضب )
إلى ها هنا رواية ابن عمار
وفي خبر إسحاق قال فلما بلغ زينب هذا الشعر وما وهب زوجها خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت وذلك في ولاية عمر بن الخطاب فقدم حجية المدينة فطلب زينب أن ترد عليه وكان نصرانياً فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته فقال له إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقى منه أذى وانتشر خبر حجية وفشا بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه فبلغ ذلك عمر فقال للزبير

قد بلغني قصة ضيفك ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر فقال حجية في ذلك
( إن الزبيرَ بنَ عوّام تداركني ... منه بسيُب كريم سيْبُه عِصمُ )
( نفسي فداؤُك مأْخوذاً بحُجزَتها ... إذ شاط لحمي وإذ زلّت بي القدم )
( إذ لا يَقومُ بها إلا فَتىً أنِفٌ ... عاري الأشاجع في عِرْنينه شَمَمُ )
ثم انصرف من عنده متوجهاً إلى بلده آيساً من زينب كئيباً حزيناً فقال في ذلك
( تصابيتَ أمْ هاجَتْ لك الشوقَ زينبُ ... )
الأبيات المذكور فيها الغناء

صوت
( خليلي هُبَّا نَصْطَبِح بسواد ... ونُروِ قُلوباً هامُهُنّ صواد )
( وقولا لساقينا زياد يُرِقُّها ... فقد هَزَّ بعضَ القوم سقُي زياد )
الشعر والغناء لإسحاق ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر

خبر إسحاق مع غلامه زياد
هذا الشعر يقوله إسحاق في غلام له مملوك خلاسي يقال له زياد كان مولداً من مولدي المدينة فصيحاً ظريفاً فجعله ساقيه وذكره هو وغيره في شعره فممن ذكره من الشعراء دعبل وله يقول
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال كان زياد الذي يذكره إسحاق في عدة مواضع منها قوله
( وقولا لِسَاقينا زيادٍ يُرقّها ... )
وكان نظيف السقي لبقاً فقال فيه دعبل
( يقول زيادٌ قِف بصحبِك مَرةً ... على الرَّبع مالي والوقوفَ على الربْعِ )
صوت
( أدِرْها علَى الحبيب فربَّما ... شربتُ على نَأيْ الأحبة والفَجْع )
( فما بلغَنْتِني الكأسً إلا شربتُها ... وإلا سًقيتُ الأرضَ كأساً من الدمع )
غنى في البيت الثاني والثالث من هذه الأبيات محمد بن العباس بن عبد الله بن طاهر لحناً من خفيف الثقيل الأول بالبنصر
قال أبو الحسن وقد قيل إن هذين البيتين يعني

( خلِيليَّ هُبّا نصطبِحْ بسواد ... )
للأخطل
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني أبي قال
قال لي جعفر بن معروف الكاتب وكان قد جاوز مائة سنة لقد شهدت إسحاق يوماً في مجلس أنس وهو يتغنى هذا الصوت
( خليليَّ هّبا نصطبح بسواد ... )
وغلامه زياد جالس على مسورة يسقي وهو يومئذ غلام أمرد أصفر رقيق البدن حلو الوجه ثم أخذ يراجعه ولا أحد يستطيع يقول له زدني ولا انقصني
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال حدثني أحمد بن الهيثم يعني جد أبي رحمه الله قال
كنت ذات يوم جالساً في منزلي بسر من رأى وعندي إخوان لي وكان طريق إسحاق في مضيه إلى دار الخليفة ورجوعه منها على منزلي فجاءني الغلام يوماً وعندي أصدقاء لي فقال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي بالباب فقلت له قل له ويلك يدخل أوفي الخلق أحد يستأذن عليه لإسحاق
فذهب الغلام وبادرت أسعى في أثره حتى تلقيته فدخل وجلس منبسطاً آنساً فعرضنا عليه ما عندنا فأجاب إلى الشرب فأحضرناه نبيذاً مشمساً فشرب منه ثم قال أتحبون أن أغنيكم قلنا إي والله أطال الله بقاءك إنا نحب ذلك قال فلم لم تسألوني قلنا هبناك والله قال فلا

تفعلوا ثم دعا بعود فأحضرناه فاندفع فغنانا فشربنا وطربنا فلما فرغ قال أحسنت أملا فقلنا بلى والله جعلنا الله فداءك لقد أحسنت قال فما منعكم أن تقولوا لي أحسنت
قلنا الهيبة والله لك قال فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون فإن المغني يحب أن يقال له غن ويحب أن يقال له إذا غنى أحسنت ثم غنانا صوته
( خليليَّ هُبّا نصطبحْ بسواد ... )
فقلنا له يا أبا محمد من هو زياد الذي عنيته قال هو غلامي الواقف بالباب ادعوه يا غلمان فأدخل إلينا فإذا غلام خلاسي قيمته عشرون ديناراً أو نحوُها فأمسكنا عنه فقال أتسألوني عنه فأعرِّفكم إياه ويخرج كما دخل وقد سمعتم شعري فيه وغنائي أشهدكم أنه حر لوجه الله وأني زوجته أمتي فلانه فأعينوه على أمره قال فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم أخرجناها له من أموالنا
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي قال توفي زياد غلام إسحاق الذي يقول فيه
( وقولا لِساقينا زيادٍ يُرِقّها ... )
فقال إسحاق يرثيه
( فَقَدْنا زياداً بعد طول صَحابة ... فلا زال يَسقِي الغيثُ قبرَ زياد )
( ستبكيك كأسٌ لم تجد من يُديِرُها ... وظمآنُ يستَبْطِي الزجاجة صادِ )

الأمين يطلب إسحاق فيغنيه
أخبرني عمي قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال

اصطبح محمد الأمين ذات يوم وأمر بالتوجيه إلى إسحاق فوُجه إليه عدة رسل كلهم لا يصادفه حتى جاء أحدهم به فدخل منشياً ومحمد مغضب فقال له أين كنت ويلك قال أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطاً فركبت إلى بعض المنتزهات فاستطبت الموضع وأقمت فيه وسقاني زياد فذكرت أبياتاً للأخطل وهو يسقيني فدار لي فيها لحن حسن فصنعته فيها وقد جئتك به فتبسم ثم قال هات فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط فغناه

صوت
( إذا ما زيادٌ علَّني ثم علّني ... ثلاثَ زجاجات لهنّ هَدِيرُ )
( خرجْت أَجُرُّ الذيل زهواً كأنني ... عليك أَميرَ المؤمنين أَمير )
قال بل على أبيك قبح الله فعلك فما يزال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك وأمر له بألف دينار
الشعر في هذين البيتين للأخطل والغناء لإسحاق رمل بالبنصر ورواية شعر الأخطل
( إذا ما نديمي عَلَّني ثم علّني ... )
وإنما غيّره إسحاق فقال إذا ما زياد
أخبرني علي بن سليمان عن محمد بن يزيد النحوي
أن عبد الملك بن مروان قال للأخطل ما يدعوك إلى الخمر فوالله إن أولها لمر وإن آخرها لسُكر قال أجل ولكن بينهما حالة ما ملكك عندها بشيء وقد قلت في ذلك
( إذا ما نَديمي عَلَّني ثم عَلّني ... ثلاثَ زجاجات لهنّ هَديرُ )

( خرجْتُ أجرُّ الذيل زهواً كأنني ... عليكَ أميرَ المؤمنين أمير )
قال فجعل عبد الملك يضحك
صوت
( أشارتْ بِطَرْفِ العين خِيفةَ أهلِها ... إِشارةَ محزونٍ ولم تتكلمِ )
( فأيقنْت أَن الطرف قد قال مَرْحَباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيبِ المسلِّم )
( هنيئاً لكم حُبِّي وصَفوُ مَوَدّتي ... فقد سِيطَ مِن لَحْمي هَواكِ ومن دَمِي )
الشعر لعمرَ بن أبي ربيعة والغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر وفيه لدحمان ثقيل أول بالبنصر ويقال إنه لابن سريج وقيل إن الثقيل الأول لابن عائشة والثقيل الثاني لابن سريج وفيه خفيف ثقيل أول ينسب إلى ابن سريج وإلى علي بن الجواريّ

خبر لحبابة مع ابن عائشة
أخبرني الحسن بن يحيى وابن أبي يحيى الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني قال
كانت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك معجبة بغناء ابن عائشة وكان ابن عائشة حديث السن فلما طال عهدها به اشتاقت إلى أن تسمع غناءه فلم تدر كيف تصنع فاختلفت هي وسلامة في صوت لمعبد فأمر

يزيد بإحضاره ووجه في ذلك رسولا فبعثت حبابة إلى الرسول سراً فأمرته أن يأتي ابن عائشة وأمير المدينة في خفاء ويبلغهما رسالتهما بالخروج مع معبد سراً وقالت قل لهما يستران ذلك عن أمير المؤمنين
فلما قدم الرسول إلى عامل المدينة أبلغه ما قالت حبابة فأمر ابن عائشة بالرحلة مع معبد وقال لمعبد انظر ما تأمرك به حبابة فانتبه إليه فقال نعم فخرجا حتى قدما على يزيد وبلغ الخبر حبابة فلم تدر كيف تصنع في أمر ابن عائشة فلما حضر معبد حاكمت سلامة إليه فحكم لها فاندفعت فغنت صوتا لابن عائشة وفيه لابن سريج لحن ولحن ابن عائشة أشهرهما وهو
( أشارت بِطَرْف العين خيفةَ أهلها ... )
فقال يزيد يا حبيبتي أنى لك هذا ولم أسمعه منك وهو على غاية الحسن إن لهذ لشأناً فقالت يا أمير المؤمنين هذا لحن كنت أخذته عن ابن عائشة قال ذلك الصبي قالت نعم وهذا أستاذه وأشارت بيدها إلى معبد فقال لمعبد أهذا لحن ابن عائشة أو انتحله فقال معبد هذا أصلح الله الأمير له فقال يزيد لو كان حاضراً ما كرهنا أن نسمع منه فقال معبد هو والله معي لا يفارقني فقال يزيد ويلك يا معبد احتملنا الساعة أمرك فزدتنا ما كرهنا ثم قال لحبابة هذا والله عملك قالت أجل يا سيدي قال لها هذه الشام ولا تحتمل لنا ما تحتمله المدينة قالت يا سيدي أنا والله أنا أحب أن أسمع من ابن عائشة فأحضر فلما دخل قال له صوتاً غنته حبابة
( أشارت بطرف العين خيفة أهلَها ... )
فغنّاه فقال هو والله يا حبابة منه أحسن منه منك قالت أجل يا سيدي ثم قال يزيد هات يا محمد ما عندك فغنى

صوت
( قِف بالمنازِل قبل أن نتفرقا ... واستنطق الربعَ المُحيل المخلِقا )
( عن عِلْمِ ما فعلَ الخليط لعله ... بجواب رجْعِ حديثهم أن ينطقا )
( فيبين مِنْ أخبارهم لِمُتيّم ... أمسى وأصبح بالرسوم معلّقا )
( كلِفاً بَها أبداً تَسُحُّ دموعُهُ ... وَسْطَ الديارِ مسائلاً مستنطقا )
( ذَرَفَتْ له عين يُرى إنسانُهَا ... في لُجَّةٍ ما مائهَا مغرورقِا )
( تُجْري محَاجرُهَا الدموعَ كأنَّهَا ... دُرُّ وَهَي من سلكه مستوسقاً )
الغناء لابن عائشة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وفيه لشارية خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى ويقال إن فيه لابن جندب وحنين لحنين قال فقال له يزيد أهلا وسهلا بك يابن عائشة فأنت والله

الحسن الوجه الحسن الغناء وأحسن إليه ووصله
ثم لم يره يزيد بعد هذا المجلس وبعثت إليه حبابة ببر وألطاف وأتبعتها سلامة في ذلك
صوت
( لما سمعتُ الديك صاح بسُحْرة ... وتوسط النسران بَطْنَ العَقْرَبِ )
( وبدا سُهَيل في السماء كأنه ... نور وعَارضه هِجان الرّبَرَب )
( نبّهتُ ندماني وقلت له اصطبح ... يابن الكرام من الشراب الطيب )
( صفراء تبرُق في الزجاج كأنها ... حدق الجرادة أو لُعاب الجندب )
الشعر لأبي الهندي والغناء لإبراهيم الموصليّ ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو

أخبار أبي الهندي ونسبه
اسمه غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي وكان شاعراً مطبوعاً وقد أدرك الدولتين دولة بني أمية وأول دولة ولد العباس وكان جزل الشعر حسن الألفاظ لطيف المعاني وإنما أخمله وأمات ذكره بعده من بلاد العرب ومقامه بسجستان وبخراسان وشغفه بالشراب ومعاقرته إياه وفسقه وما كان يتهم به من فساد الدين واستفرغ شعره بصفة الخمر وهو أول من وصفها من شعراء الإسلام فجعل وصفها وكده وقصده ومن مشهور قوله فيها ومختاره
( سقَيتُ أبَا المُطَرّح إذ أتاني ... وذو الرَّعثات منتَصِبٌ يصيحُ )
( شراباً يهرُب الذِّبَّان منه ... ويَلْثَغ حين يشربه الفصيحُ )
أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر من شعره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني فضل اليزيدي أنه سمع إسحاق الموصلي يوما يقول وأنشد شعراً لأبي الهندي في صفة الخمر فاستحسنه وقَرّظه فذكر عنده أبو نواس فقال ومن أين أخذ أبو نواس معانيه إلا من هذه الطبقة وأنا أوجدكم سلخه هذه المعاني كلَّها في شعره فجعل ينشد

بيتاً من شعر أبي الهندي ثم يستخرج المعنى والموضع الذي سرقه الحسن فيه حتى أتى على الأبيات كلها واستخرجها من شعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني شيخ من أهل البصرة قال
كنا عند أبي عبيدة فأنشد منشد شعراً في صفة الخمر أُنسيه الشيخ فضحك ثم قال هذا أخذه من قول أبي المهندي
( سيُغني أبا الهندي عن وَطْبِ سالم ... أبَاريقُ لم يَعْلق بها وَضَر الزُّبْدِ )
( مُفَدَّمةٌ قُزٌ كأن رِقابهَا ... رِقابُ بنات الماء تَفْزعُ للرعد )
( جَلْتْها الجوالي حين طَاب مِزاجها ... وَطَيّبتَها بالمِسك والعنبر والوَرْد )
( تَمجّ سُلافاً في الأباريق خالصاً ... وفي كلّ كأس من مَهاً حسن القَدِّ )
( تَضَمّنها زِق أَزَبّ كأنه ... صريعٌ من السودانِ ذو شَعَر جَعْدِ )
نسخت من كتاب ابن النطاح حدثني بعض أصحابنا
أن أبا الهندي اشتهى الصبوح في الحانة ذات يوم فأتى خمّاراً بسجستان في محله يقال لها كوه زيان وتفسيره جبل الخسران يباع فيها الخمر والفاحشة ويأوي إليها كل خارب وزانٍ ومغنية فدخل إلى الخمار

فقال له اسقني وأعطاه ديناراً فكال له وجعل يشرب حتى سكر وجاء قوم يسألون عنه فصادفوه على تلك الحال فقالوا للخمار ألحقنا به فسقاهم حتى سكروا فانتبه فسأل عنهم فعرّفه الخمار خبرهم فقال له هذا الآن وقت السكر الآن طاب ألحقني بهم فجعل يشرب حتى سكر وانتبهوا فقالوا للخمار ويحك هذا نائم بعد فقال لا ولقد انتبه فلما عرف خبركم شرب حتى سكر فقالوا ألحقنا به فسقاهم حتى سكروا وانتبه فسأل عن خبرهم فعرّفه فقال والله لألحقن بهم فشرب حتى سكر ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم ثلاثة أيام لم يلتقوا وهم في موضع واحد ثم تركوا هم الشرب عمداً حتى أفاق فلقوه
وهذا الخبر بعينه يحكى لوالبة بن الحباب مع أبي نواس وقد ذكر في أخبار والبة والصحيح أنه لأبي الهندي وفي ذلك يقول
( نَدَامَى بَعْد ثالثةٍ تلاقَوْا ... يَضمُّهمْ بِكُوه زيَانَ راحُ )
( وقد باكرتُها فترُكت منها ... قتيلاً ما أصابتني جِراح )
( وقالوا أيّهاالخمارُ مَنْ ذا ... فقال أخ تَخَوّنه اصطباحُ )
( فقالوا هاتِ راحَك ألْحِقَنا ... به وتَعلَّلواثم ولها سلاح )
( فما إن لَبَّثَتْهم أن رَمتْهمْ ... بَحدِّ سلاحها ولها سلاح )
( وحان تَنبُّهي فسألتُ عنهمْ ... فقال أتاحَهُمْ قَدَر مُتَاح )
( رأوك مُجَدَّلاً فاستخبروني ... فحرّكّهم إلى الشرب ارتياح )

( فقلْتُ بِهمْ فألحقني فهَبّوا ... فقالوا هل تَنَبّه حين راحوا )
( فقال نعم فقالوا ألحقَنّا ... بِهِ قد لاح للرائي صياح )
( فما إن زال ذاك الدأْب مِنّا ... ثلاثاً يُستغبّ ويستباح )
( نَبيتُ معاً وليسَ لنا لقاءٌ ... ببيت ما لنا فيه براحُ )
مات مختنقاً بسبب الشراب
أخبرني عمي الحسن بن أحمد قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال قال صدقة بن إبراهيم البكري
كان أبو الهندي يشرب معنا بمرو وكان إذا سكر يتقلب تقلباً قبيحاً في نومه فكنا كثيراً ما نشد رجله لئلا يسقط من السطح فسكر ليلة وشددنا رجله بحبل وطولنا فيه ليقدر على القيام إلى البول وغير ذلك من حوائجه فتقلب وسقط من السطح وأمسكه الحبل فبقي منكساً وتخنق بما في جوفه من الشراب فأصبحنا فوجدناه ميتاً قال صدقة فمررت بقبره بعذ ذلك فوجدت عليه مكتوباً
( اجْعلوا إن متُّ يوماً كفَني ... ورَقَ الكرْم وقبري مَعْصَرهْ )
( إنّني أرجو من الله غداً ... بَعْد شربِ الراح حُسنَ المغفرة )
قال فكان الفتيان بعد ذلك يجيئون إلى قبره ويشربون ويصبون القدح إذا انتهى إليه على قبره
قال حماد بن إسحاق عن أبيه في وفاة أبي الهندي إنه خرج وهو سكران في ليلة باردة من حانة خمّار وهو ريان فأصابه ثلج فقتله فوجد من غدٍ ميتاً على الطريق

وروى حماد بن إسحاق عن أبيه قال حج نصر بن سيار وأخرج معه أبا الهندي فلما حضرت أيام الموسم قال له أبا الهندي إنا بحيث ترى وفد الله وزوار بيته فهب لي النبيذ في هذه الأيام واحتكم علي فلولا ما ترى ما منعتك فضمن له ذلك وغلظ عليه الإحتكام ووكل به نصر بن سيار فلما انقضى الأجل مضى في السحر قبل أن يلقى نصراً فجلس في أكمة يشرف منها على فضاء واسع فجلس عليها ووضع بين يديه إداوة وأقبل يشرب ويبكي ويقول
( أَدِيرا عليّ الكأس إلي فقْدتها ... كما فقد المَفطْومُ درَّ المَراضِع )
( حليف مُدامٍ فارق الراحُ روحَه ... فظل عليها مستهِل المَدامع )
قال وعاتب قوم أبا الهندي على فسقه ومعاقرته الشراب فقال
( إذا صليّتُ خمساً كلَّ يومٍ ... فإنّ الله يغفر لي فُسُوقي )
( ولَم أَشركْ بِرَبِّ الناسِ شيئاً ... فقد أمسكت بالدِّين الوثيق )
( وجاهدتُ العَدُوّ ونِلْتُ مالاً ... يبَلِّغُني إلى البيت العتيق )
( فهذا الدين ليس به خفاء ... دَعُوني من بُنَيّات الطريق )
قال إسحاق وشرب يوماً أبو الهندي بكوه زيان عند خمارة هناك وكان

عندها نسوة عواهر ففجر بهن ولم يعطهن شيئاُ فجعلن يطالبنه بجعل فلم ينفعهن فقال في ذلك
( آلى يميناً أبو الهنْدِيِّ كاذبةً ... لَيُعطِينَّ زاونِي لست ماشينا )
( وغرهُّنّ فلّما أن قضى و طراً ... قال ارتَحِلْن فأخزى الله ذادينا )
أخبرني عمي عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن أبي محلم قال
خطب أبو الهندي غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي إلى رجل من بني تميم فقال لو كنت مثل أبيك لزوجتك فقال له غالب لكنك لو كنت مثل أبيك ما خطبت إليك
قال أبو محلم ومر نصر بن سيار بأبي الهندي وهو سكران يتمايل فوقف عليه فعذله وسبه وقال ضيعت شرفك وفضحت أسلافك فلما طال عتابه التفت إليه فقال لولا أني ضيعت شرفي لم تكن أنت على خراسان فانصرف نصر خجلاً
قال أبو محمل وكان بسجستان رجل يقال له برزين ناسكاً وكان أبوه صلب في خرابة فجلس إليه أبو الهندي فطفق يعذله ويعرض له بالشراب فقال له أبو الهندي أحدكم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في است أبيه فأخجله
قال أبو محلم وكان أسرع الناس جواباً

صوت
( لقد قُلتُ حين قَرَّبتِ ... العِيسُ يا نوارُ )

( قِفُوا فاربعوا قليلاً ... فَلم يربعوا وسارُوا )
( فنفسي لها حنين ... وقلبي له انكسارُ )
( وصدري به غليل ... ودمعي له انحدارُ )
الشعر لسعيد بن وهب والغناء لسليم رمل بالوسطى عن الهشامي ومن جامع سليم ونسخة عمرو الثانية

أخبار سعيد بن وهب
سعيد بن وهب أبو عثمان بني سامة بن لؤي بن نصر مولده ومنشؤه بالبصرة ثم سار إلى بغداد فأقام بها وكانت الكتابة صناعته فتصرف مع البرامكة فاصطنعوه وتقدم عندهم
وكان شاعراً مطبوعاً ومات في أيام المأمون وأكثر شعره في الغزل والتشبيب بالمذكر وكان مشغوفاً بالغلمان والشراب
ثم تنسك وتاب وحج راجلاً على قدميه ومات على توبة وإقلاع ومذهب جميل
ومات وأبو العتاهية حي وكان صديقه فرثاه
فأخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد قال
حُدِّثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية قال جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده فساره في شيء فبكى أبو العتاهية فقلنا له ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك فقال وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعراً
( قالَ لِي ماتَ سعيدُ بن وهب ... رحم الله سعيدَ ينَ وهبِ )
( يا أبا عثمان أبكيتَ عَيْني ... يا أبا عثمان أوجعتَ قلبي )

قال فعجبنا من طبعه وأنه تحدث فكان حديثه شعراً موزوناً
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني سيبويه أبو محمد قال
كان سعيد بن وهب الشاعر البصري مولى بني سامة قد تاب وتزهد وترك قول الشعر وكان له عشرة من البنين وعشر من البنات فكان إذا وجد شيئاً من شعره خرقه وأحرقه
وكان امرأ صدق كثير الصلاة يزكي في كل سنة عن جميع ما عنده حتى إنه ليزكي عن فضة كانت على امرأته

نماذج من شعره
أخبرني عمي قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدثني أبو عثمان الليثي قال
كان سعيد بن وهب يتعشق غلاماً يتشطر يقال له سعيد فبلغه أنه توعده أن يجرحه فقال فيه
( مَن عذيري مِن سميَّي ... مَنْ عذيري من سعيد )
( أنا باللحم أجاه ... ويجاني بالحديد )
حدثني حجظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
نظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتاب السلطان في أحوال جميلة فأنشأ يقول

( مَن كانَ في الدنيا له شارةٌ ... فنحن مِن نظَّارَةِ الّدُنْيا )
( نَرْمُقها من كَثَبٍ حَسْرةً ... كأنّنا لفظٌ بلا مَعْنى )
( يَعْلُو بها الناسُ وأيامنُا ... تذهب الأرذَلِ والأَدْنى )
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال حدثني عبد الله بن أبي العلاء المغني قال
نظر إلي سعيد بن وهب وأنا على باب ميمون بن إسماعيل حين اخضر شاربي ومعه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسلمت على إسحاق فأقبل عليه سعيد وقال من هذا الغلام فتبسم وقال هذا ابن صديق لي فأقبل علي وقال
( لا تخرجَنَّ مع الغزيِّ لمغنم ... إنّ الغزيَّ يراك أفضلَ مغنمِ )
( في مثل وجهك يستحلُّ ذَوو التقى ... والدين والعلماءُ كل محرمٌ )
( ما أنت إلا غادةٌ ممكورة ... لولا شواربُك المُطِلّةُ بالفم )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني احمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة قال مر سعيد بن وهب والكسائي فلقيا غلاماً جميل الوجه فاستحسنه الكسائي وأراد أن يستميله فأخذ يذاكره بالنحو ويتكلم به فلم يمل إليه وأخذ سعيد بن وهب في الشعر ينشده فمال إليه الغلام فبعث به إلى منزله وبعث معه بالكسائي وقال له حدثه وآنسه إلى أن أجيء وتشاغل بحاجة له فمضى به الكسائي فما زال يداريه حتى قضى حاجته وأربه ثم قال له انصرف وجاء سعيد فلم يره فقال

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45