كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

قاتل أبي وجدي فقالت يا بني إن مالكا قاتل جدك من قوم خداش بن زهير ولأبيك عند خداش نعمة هو لها شاكر فأته فاستشره في أمرك واستعنه يعنك

قيس بن الخطيم يخرج إلى خداش بن زهير
فخرج قيس من ساعته حتى أتى ناضحه وهو يسقي نخله فضرب الجرير بالسيف فقطعه فسقطت الدلو في البئر وأخذ برأس الجمل فحمل عليه غرارتين من تمر وقال من يكفيني أمر هذه العجوز يعني أمه فإن مت أنفق عليها من هذا الحائط حتى تموت ثم هوله وإن عشت فما لي عائد إلي وله منه ما شاء أن يأكل من تمره فقال رجل من قومه أنا له فأعطاه الحائط ثم خرج يسأل عن خداش بن زهير حتى دل عليه بمر الظهران فصار إلى خبائه فلم يجده فنزل تحت شجرة يكون تحتها أضيافه ثم نادى امرأة خداش هل من طعام فأطلعت إليه فأعجبها جماله وكان من أحسن الناس وجها فقالت والله ما عندنا من نزل نرضاه لك إلا تمرا فقال لا أبالي فأخرجي ما كان عندك فأرسلت إليه بقباع فيه تمر فأخذ منه تمرة فأكل شقها ورد شقها الباقي في القباع ثم أمر بالبقاع فأدخل على امرأة خداش بن زهير ثم ذهب لبعض حاجاته
ورجع خداش فأخبرته امرأته خبر قيس فقال هذا رجل متحرم

زهير بن خداش يخبر قيس بن الخطيم عن قاتلي أبيه وجده
وأقبل قيس راجعا وهو مع امرأته يأكل رطبا فلما رأى خداش رجله وهو على بعيره قال لامرأته هذا ضيفك قالت نعم قال كأن قدمه قدم الخطيم صديقي اليثربي فلما دنا منه قرع طنب البيت بسنان رمحه واستأذن فأذن له خداش فدخل إليه فنسبه فانتسب وأخبره بالذي جاء له وسأله أن يعينه وأن يشير عليه في أمره فرحب به خداش وذكر نعمة أبيه عنده وقال إن هذا الأمر ما زلت أتوقعه منك منذ حين
فأما قاتل جدك فهو ابن عم لي وأنا أعينك عليه فإذا اجتمعنا في نادينا جلست إلى جنبه وتحدثت معه فإذا ضربت فخذه فثب إليه فاقتله فقال قيس فأقبلت معه نحوه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له ذو الخرصين فثار إلي القوم ليقتلوني فحال خداش بينهم وبيني وقال دعوه فإنه والله ما قتل إلا قاتل جده ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه وانطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه حتى إذا كانا قريبا من هجر أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه فإذا دل عليه قال له إن لصا من لصوص قومك عارضني فأخذ متاعا لي فسألت من سيد قومه فدللت عليك فانطلق معي حتى تأخذ متاعي منه فإن اتبعك وحده فستنال ما تريد منه وإن أخرج معه غيره فاضحك فإن سألك مم ضحكت فقل إن الشريف عندنا لا يصنع كما صنعت إذا دعي إلى اللص من قومه إنما يخرج وحده بسوطه دون سيفه فإذا رآه اللص أعطى كل شيء أخذ هيبة له فإن أمر أصحابه بالرجوع فسبيل ذلك وإن أبي إلا أن يمضوا معه فأتني به فإني أرجو أن تقتله وتقتل أصحابه ونزل خداش تحت ظل شجرة وخرج قيس حتى أتى العبدي فقال له ما أمره خداش فأحفظه فأمر أصحابه فرجعوا ومضى مع قيس فلما طلع على خداش قال له اختر يا قيس إما أن أعينك وإما أن أكفيك قال لا أريد واحدة

منهما ولكن إن قتلني فلا يفلتنك ثم ثار إليه فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر فمات مكانه فلما فرغ منه قال له خداش إنا إن فررنا الآن طلبنا قومه ولكن ادخل بنا مكانا قريبا من مقتله فإن قومه لا يظنون أنك قتلته وأقمت قريبا منه ولكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره فإذا وجدوه قتيلا خرجوا في طلبنا في كل وجه فإذا يئسوا رجعوا
قال فدخلا في دارات من رمال هناك وفقد العبدي قومه فاقتفوا أثره فوجدوه قتيلا فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا فكان من أمرهم ما قال خداش
وأقاما مكانهما أياما ثم خرجا فلم يتكلما حتى أتيا منزل خداش ففارقه عنده قيس بن الخطيم ورجع إلى أهله ففي ذلك يقول قيس
( تذكَّر ليلَى حسنَها وصفَاءَها ... وبانتْ فما إن يستطيعُ لقاءَها )
( ومِثْلُكِ قد أَصبيتُ ليست بكَنَّةٍ ... ولا جارةٍ أَفْضتْ إليّ خِباءَها )
( إذا مااصطبحتُ أربعاً خَطّ مِئْزَرِي ... وأَتْبعتُ دِلْوِي في السَّماحِ رِشاءَها )
( ثَأرتُ عديّاً والخَطيمَ فلم أُضِعْ ... وصّيَة أشياخٍ جُعِلتُ إزاءَها )
وهي قصيدة طويلة

رسول الله يستنشد شعر قيس ويعجب بشجاعته
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا زكريا بن يحيى المنقري قال حدثنا زياد بن بيان العقيلي قال حدثنا أبو خولة

الأنصاري عن أنس بن مالك قال
جلس رسول الله في مجلس ليس فيه إلا خزرجي ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم يعني قوله
( أتعرف رسماً كاطّرادِ المذاهبِ ... لعَمْرَةَ وَحْشاً غيرَ موقِف راكِبِ )
فأنشده بعضهم إياها فلما بلغ إلى قوله
( أُجَالِدُهم يومَ الحَدِيقة حاسِراً ... كأن يدي بالسيف مِخْراقُ لاعبِ )
فالتفت إليهم رسول الله فقال هل كان كما ذكر فشهد له ثابت بن قيس بن شماس وقال له والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة وملحفة مورسة فجالدنا كما ذكر
وهكذا في هذه الرواية
وقد أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال

لم تكن بينهم في هذه الأيام حروب إلا في يوم بعاث فإنه كان عظيما وإنما كانوا يخرجون فيترامون بالحجارة ويتضاربون بالخشب
قال الزبير وأنشدت محمد بن فضالة قول قيس بن الخطيم
( أجالدهم يوم الحديقة حاسراً ... كأن يدي بالسيف مخراقُ لاعبِ )
فضحك وقال ما اقتتلوا يومئذ إلا بالرطائب والسَّعَف
قال أبو الفرج وهذه القصيدة التي استنشدهم إياها رسول الله من جيد شعر قيس بن الخطيم ومما أنشده نابغة بني ذبيان فاستحسنه وفضله وقدمه من أجله
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال قال أبو غزية قال حسان بن ثابت
قدم النابغة المدينة فدخل السوق فنزل عن راحلته ثم جثا على ركبتيه ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول
( عرفتُ منازلاً بعُرَيْتنَاتٍ ... فأعلَى الجِزْع للحَيّ المُبِنِّ )
فقلت هلك الشيخ ورأيته قد تبع قافية منكرة
قال ويقال إنه قالها في موضعه فما زال ينشد حتى أتى على آخرها ثم قال ألا رجل ينشد فتقدم قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشده

( أتعرف رَسْما كاطراد المذاهبِ ... )
حتى فرغ منها فقال أنت أشعر الناس يابن أخي
قال حسان فدخلني منه وإني في ذلك لأجد القوة في نفسي عليهما ثم تقدمت فجلست بين يديه فقال أنشد فوالله إنك لشاعر قبل أن تتكلم قال وكان يعرفني قبل ذلك فأنشدته فقال أنت أشعر الناس
قال الحسن بن موسى وقالت الأوس لم يزد قيس بن الخطيم النابغة على
( أتعرف رسما كاطّراد المذاهِبِ ... )
نصف البيت حتى قال أنت أشعر الناس

صفات قيس بن الخطيم الجسدية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال قال سليمان بن داود المجمعي
كان قيس بن الخطيم مقرون الحاجبين أدعج العينين أحمر الشفتين براق الثنايا كأن بينها برقا ما رأته حليلة رجل قط إلا ذهب عقلها
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد قال حدثنا الزبير قال حدثني حسن بن موسى عن سليمان بن داود المجمعي قال
قال حسان بن ثابت للخنساء اهجي قيس بن الخطيم فقالت لا أهجو

أحدا أبدا حتى أراه
قال فجاءته يوما فوجدته في مشرقة ملتفا في كساء له فنخسته برجلها وقالت قم فقام فقالت أدبر فأدبر ثم قالت أقبل فأقبل قال والله لكأنها تعترض عبدا تشتريه ثم عاد إلى حاله نائما فقالت والله لا أهجو هذا أبدا
قال الزبير وحدثني عمي مصعب قال
كانت عند قيس بن الخطيم حواء بنت يزيد بن سنان بن كريز بن زعوراء فأسلمت وكانت تكتم قيس بن الخطيم إسلامها فلما قدم قيس مكة عرض عليه رسول الله الإسلام فاستنظره قيس حتى يقدم رسول الله المدينة فسأله رسول الله أن يجتنب زوجته حواء بنت يزيد وأوصاه بها خيرا وقال له إنها قد أسلمت ففعل قيس وحفظ وصية رسول الله فبلغ رسول الله فقال وفي الأُدَيْعِجُ
قال أبو الفرج وأحسب هذا غلطا من مصعب وأن صاحب هذه القصة قيس بن شماس وأما قيس بن الخطيم فقتل قبل الهجرة

مقتل ابن الخطيم على أيدي الخزرج
أخبرني علي بن سليمان الأخفش النحوي عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل
أن حرب الأوس والخزرج لما هدأت تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته فيهم فتوامروا وتواعدوا قتله فخرج عشية من منزله في ملاءتين يريد

مالا له بالشوط حتى مر بأُطُمِ بني حارثة فرمي من الأطم بثلاثة أسهم فوقع أحدها في صدره فصاح صيحة سمعها رهطه فجاءوا فحملوه إلى منزله فلم يروا له كفأ إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مدرك النجاري فاندس إليه رجل حتى اغتاله في منزله فضرب عنقه واشتمل على رأسه فأتى به قيسا وهو بآخر رمق فألقاه بين يديه وقال يا قيس قد أدركت بثأرك فقال عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة فقال هو أبو صعصعة وأراه الرأس فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات وهذا الشعر أعني
( أجَدّ بعَمْرة غنيانُها ... )
فيما قيل يقوله قيس في عمرة بنت رواحة وقيل بل قاله في عمرة امرأة كانت لحسان بن ثابت وهي عمرة بنت صامت بن خالد
وكان حسان ذكر ليلى بنت الخطيم في شعره فكافأه قيس بذلك وكان هذا في حربهم التي يقال لها يوم الربيع
فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال أخبرنا الزبير قال حدثني مصعب قال
مر حسان بن ثابت بليلى بنت الخطيم وقيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريس فقال له حسان أظعني فالحقي بالحي فقد ظعنوا وليت شعري ما خلفك وما شأنك أقل ناصرك أم راث رافدك فلم تكلمه وشتمه نساؤها فذكرها في شعره في يوم الربيع الذي يقول فيه

( لقد هاج نفسَك أَشْجانُها ... وعاودها اليومَ أَدْيَانُها )
( تذكرتَ ليلَى وأنَّى بها ... إذا قُطِّعتْ منك أَقْرَانُها )
( وحَجَّل في الدار غِرْبَانُها ... وخَفَّ من الدار سُكَّانُها )
( وغيَّرها مُعْصِرَاتُ الرِّياح ... وسَحُّ الجَنُوب وتَهْتانُها )
( مَهَاةٌ من العِينِ تَمْشِي بها ... وتَتْبَعُها ثَمّ غِزْلاَنُها )
( وقفتُ عليها فساءلتَها ... وقد ظَعن الحيُّ ما شانُها )
( فعَيَّتْ وجاوبني دونَها ... بما راع قلبيَ أعوانُها )
وهي طويلة فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أولها
( أجَدّ بعَمْرة غُنْيَانُها ... )
وفخر فيها بيوم الربيع وكان لهم فقال
( ونحن الفوارسُ يومَ الرَّبيع ... قد علِمُوا كيف فُرْسَانُها )
( حِسانُ الوجوه حِدادُ السيوف ... يبْتَدِرُ المجدَ شُبَّانُها )
وهي أيضا طويلة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا الأصمعي

قال حدثني شيخ قدم من المدينة وأخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان عن أبي السائب المخزومي وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال ذكر لي عن جعفر بن محرز السدوسي قالوا
دخل النعمان بن بشير الأنصاري المدينة أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير فقال والله لقد أخفقت أذناي من الغناء فأسمعوني فقيل له لو وجهت إلى عزة فإنها من قد عرفت قال إي ورب البيت إنها لمن يزيد النفس طيبا والعقل شحذا ابعثوا إليها عن رسالتي فإن أبت صرنا إليها فقال له بعض القوم إن النقلة تشتد عليها لثقل بدنها وما بالمدينة دابة تحملها فقال النعمان وأين النجائب عليها الهوادج فوجه إليها بنجيب فذكرت علة فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه أنت كنت أخبر بها قوموا بنا فقام هو مع خواص أصحابه حتى طرقوها فأذنت وأكرمت واعتذرت فقبل النعمان عذرها وقال غنيني فغنته
( أجَدَّ بعَمْرة غُنْيانُها ... فتهجُرَ أم شأنُنا شانُها )
فأشير إليها أنها أمة فسكتت فقال غنيني فوالله ما ذكرت إلا كرما وطيبا لا تغنيني سائر اليوم غيره فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف
وتذاكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عدي فقال ألا أزيدكم فيه

طريفة قلنا بلى يا أبا عبد الرحمن قال قال لقيط كنت عند سعيد الزبيري قال سمعت عامرا الشعبي يقول اشتاق النعمان بن بشير إلى الغناء فصار إلى منزل عزة فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها فقال لها النعمان بن بشير لأقضين بينكما بقضية لا ترد علي قد أحل الله له من النساء مثنى وثلاث ورباع فله امرأتان بالنهار وامرأتان بالليل فهذا يدل على أن المعنية بهذا الشعر عمرة بنت رواحة
وأما ما ذكر أنه غنى عمرة امرأة حسان بن ثابت فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه
أن قيس بن الخطيم لما ذكر حسان أخته ليلى في شعره ذكر امرأته عمرة وهي التي يقول فيها حسان
( أزمعتْ عَمْرة صرْماً فابْتَكرْ ... )
قول حسان بن ثابت في زوجه عمرة بنت الصامت
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب قال
تزوج حسان بن ثابت عمرة بنت الصامت بن خالد بن عطية الأوسية ثم إحدى بني عمرو بن عوف فكان كل واحد منهما معجبا بصاحبه وإن الأوس أجاروا مخلد بن الصامت الساعدي فقال في ذلك أبو قيس بن الأسلت
( أجرتُ مخلَّداً ودفعتُ عنه ... وعند الله صالح ما أتيتُ )
فتكلم حسان في أمره بكلام أغضب عمرة فعيرته بأخواله وفخرت عليه بالأوس فغضب لهم فطلقها فأصابها من ذلك ندم وشدة وندم هو بعد فقال

صوت
( أزمعتْ عمرةُ صرماً فاْبْتَكِرْ ... إنما يُدْهَن للقلبِ الحَصِرْ )
( لا يكن حبُّكِ حبّاً ظاهراً ... ليس هذا منكِ يَا عَمْر بِسرّ )
( سألتْ حَسّانَ مَن أخوالُه ... إنما يَسأل بالشيء الغُمُرْ )
( قلتُ أخوالي بنو كَعبٍ إذا ... أسلم الأبطالُ عوراتِ الدُّبُرْ )
يريد يدهن القلب فأدخل اللام زائدة للضرورة عمر ترخيم عمرة والسر الخالص الحسن
غنت في هذه الأبيات عزة الميلاء ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش
وتمام القصيدة
( رُبَّ خالٍ ليَ لو أبصرتِهِ ... سبِطِ المِشْيَة في اليوم الخَصِرْ )
( عند هذا الباب إذ ساكَنَه ... كلُّ وجهٍ حسنِ النُّقْبَة حُرّ )
( يُوقِد النارَ إذا ما أُطْفِئَتْ ... يُعْمِل القِدْرَ بأَثْبَاج الجُزُرْ )
( من يُغرُّ الدهرُ أو يأمنُه ... من قَبيلٍ بعد عمرو وحُجُرْ )

( مَلَكَا من جبل الثلج إلى ... جانِبَيْ أيلَةَ من عبدٍ وحُرّ )
( ثم كانا خيرَ من نالَ النَّدَى ... سبَقا الناسَ بإقساطٍ وبِرّ )
( فارسيْ خيلٍ إذا ما أمسكتْ ... ربّةُ الخِدْرِ بأطرافِ السُّتُرْ )
( أَتَيَا فارسَ في دارهمُ ... فتناهَوْا بعد إعصارٍ بقرّْ )
( ثم نادَوْا يالَغَسّانَ اصبِرُوا ... إنه يومُ مَصَاليتَ صُبُرْ )
( اِجعلوا مَعْقِلَها أيمانَكم ... بالصَّفِيح المُصْطَفَى غيرِ الفُطُرْ )
( بِضرَابٍ تأذَن الجِنُّ له ... وطِعانٍ مثلِ أَفْواه الفُقُرْ )
( ولقد يعلَم مَنْ حارَبنا ... أننا ننفع قِدْماً ونضُرّ )
( صُبُرٌ للموت إن حَلَّ بنا ... صادِقُو البأسِ غَطَارِيفُ فُخُرْ )
( وأقام العزُّ فينا والغِنَى ... فلنا فيه على الناس الكُبُرْ )
( منهمُ أَصْلِي فمن يفْخَرْ به ... يَعرِف الناسُ بفخرِ المفتخِرْ )
( نحن أهل العزّ والمجد معاً ... غيرُ أنكاسٍ ولا مِيلٍ عُسُرْ )
( فاسألوا عنا وعن أفعالنا ... كلُّ قومٍ عندهم علمُ الخَبَرْ )
قال الزبير فحدثني عمي قال ثم إن حسان بن ثابت مر يوما بنسوة فيهن

عمرة بعد ما طلقها فأعرضت عنه وقالت لامرأة منهن إذا حاذاك هذا الرجل فاسأليه من هو وآنسبيه وآنسبي أخواله وهي متعرضة له فلما حاذاهن سألته من هو ونسبته فانتسب لها فقالت فمن أخوالك فأخبرها فبصقت عن شمالها وأعرضت عنه فحدد النظر إليها وعجب من فعلها وجعل ينظر إليها فبصر بامرأته وهي تضحك فعرفها وعلم أن الأمر من قبلها أتى فقال في ذلك
( قالت له يوماً تخاطِبُه ... رَيّا الروادِف غادَةُ الصُّلبِ )
( أما المروءةُ والوَسَامةُ أو ... حُشُم الرجال فقد بدا حَسْبِي )
( فوَدِدْتُ أنك لو تُخَبِّرنا ... مَنْ والداكَ ومِنصبُ الشَّعْبِ )
( فضحكتُ ثم رَفعتُ متَّصِلاً ... صوتي كرفعِ المنطق الشَّغْبِ )
( جَدِّي أبو لَيْلَى ووالدُه ... عمروٌ وأخوالي بنو كَعْبِ )
( وأنا من القوم الذين إذا ... أزَم الشتاءُ بحَلْقة الجَدْبِ )
( أعطَى ذوو الأموال مُعْسِرَهم ... والضاربين بمَوْطِن الرُّعْبِ )
قال مصعب أبو ليلى الذي عناه حسان حرام بن عمرو بن زيد مناة

ومما فيه صنعة من المائة المختارة من شعر قيس بن الخطيم
صوت
( حَوْراءُ مَمْكورةٌ منعَّمةٌ ... كأنما شَفَّ وجهَها نُزُفُ )

( تنامُ عن كُبْرِ شأنها فإذا ... قامتْ رُويداً تكاد تنقصفُ )
( أوحشَ من بَعدِ خُلَّةٍ سَرِفُ ... فالمُنْحنى فالعَقيقُ فالجُرُفُ )
الشعر لقيس بن الخطيم سوى البيت الثالث
والغناء لقفا النجار ولحنه المختار ثاني ثقيل هكذا ذكر يحيى بن علي في الاختيار الواثقي
وهو في كتاب إسحاق لقفا النجار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ولعله غير هذا اللحن المختار

أسباب الحرب بين مالك بن العجلان وبني عمرو بن عوف
وهذا الشعر يقوله قيس بن الخطيم في حرب كانت بينهم وبين بني جحجبي وبني خطمة ولم يشهدها قيس ولا كانت في عصره وإنما أجاب عن ذكرها شاعرا منهم يقال له درهم بن يزيد
قال أبو المنهال عتيبة بن المنهال بعث رجل من غطفان من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان إلى يثرب بفرس وحلة مع رجل من غطفان وقال ادفعهما إلى أعز أهل يثرب قال وقيل إن الباعث بهما عبد ياليل بن عمرو الثقفي قال وقيل بل الباعث بهما علقمة بن علاثة فجاء الرسول بهما حتى ورد سوق بني قينقاع فقال ما أمر به فوثب إليه رجل من غطفان كان جارا لمالك بن العجلان الخزرجي يقال له كعب الثعلبي فقال مالك بن العجلان

أعز أهل يثرب وقام رجل آخر فقال بل أحيحة بن الجلاح أعز أهل يثرب وكثر الكلام فقبل الرسول الغطفاني قول الثعلبي الذي كان جارا لمالك بن العجلان ودفعهما إلى مالك فقال كعب الثعلبي ألم أقل لكم إن حليفي أعزكم وأفضلكم فغضب رجل من بني عمرو بن عوف يقال له سمير فرصد الثعلبي حتى قتله فأخبر مالك بذلك فأرسل إلى بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس إنكم قتلتم منا قتيلا فأرسلوا إلينا بقاتله فلما جاءهم رسول مالك تراموا به فقالت بنو زيد إنما قتلته بنو جحجبى وقالت بنو جحجبى إنما قتلته بنو زيد ثم أرسلوا إلى مالك إنه قد كان في السوق التي قتل فيها صاحبكم ناس كثير ولا يدرى أيهم قتله وأمر مالك أهل تلك السوق أن يتفرقوا فلم يبق فيها غير سمير وكعب فأرسل مالك إلى بني عمرو بن عوف بالذي بلغه من ذلك وقال إنما قتله سمير فأرسلوا به إلي أقتله فأرسلوا إليه إنه ليس لك أن تقتل سميرا بغير بينة وكثرت الرسل بينهم في ذلك يسألهم مالك أن يعطوه سميرا ويأبون أن يعطوه إياه
ثم إن بني عمرو بن عوف كرهوا أن ينشبوا بينهم وبين مالك حربا فأرسلوا إليه يعرضون عليه الدية فقبلها فأرسلوا إليه إن صاحبكم حليف وليس لكم فيه إلا نصف الدية فغضب مالك وأبي أن يأخذ فيه إلا الدية كاملة أو يقتل سميرا فأبت بنو عمرو بن عوف أن يعطوه إلا دية الحليف وهي نصف الدية ثم دعوه أن يحكم بينهم وبينه عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج وهو جد عبد الله بن رواحة ففعل فانطلقوا حتى جاءوه في بني الحارث بن الخزرج فقضى على مالك بن العجلان أنه ليس له في حليفه إلا دية الحليف وأبى مالك أن

يرضى بذلك وآذن بني عمرو بن عوف بالحرب واستنصر قبائل الخزرج فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره غضبا حين رد قضاء عمرو بن امرئ القيس فقال مالك بن العجلان يذكر خذلان بني الحارث بن الخزرج له وحدب بني عمرو بن عوف على سمير ويحرض بني النجار على نصرته
( إن سُمَيراً أَرَى عشيرتَه ... قد حَدِبُوا دونَه وقد أَنِفُوا )
( إن يكن الظنُّ صادقاً ببني النَّجّار ... لا يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا )
( لا يُسْلِمُونا لمعشرٍ أبداً ... ما دام منّا ببَطْنِها شَرَفُ )
( لكنْ مَواَلِيَّ قد بدا لهمُ ... رأيٌ سِوَى ما لديَّ أوضَعُفُوا )
يقال علفوا الضيم إذا أقروا به أي ظني أنهم لا يقبلون الضيم

صوت
( بينَ بني جَحْجَبى وبين بني ... زيدٍ فأنَّى لجارِيَ التَّلَفُ )
( يمشون في البَيْض والدروع كما ... تمشي جِمالٌ مَصَاعبٌ قُطُفُ )
( كما تَمَشَّى الأسودُ في رَهَج المُوتِ ... إليه وكلُّهم لَهِفُ )
غنى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل عن إسحاق وذكر الهشامي أن فيه لحنا من الثقيل الأول للغريض
وقال درهم بن يزيد بن ضُبَيْعة أخو سمير في ذلك

( يا قومِ لا تقتلوا سُميراً فإِنَّ ... القتلَ فيه البَوارُ والأسفُ )
( إن تقتُلوه تَرِنَّ نِسْوتُكم ... على كريمٍ ويَفْزَعِ السَّلَفُ )
( إني لعَمْرُ الذي يَحُجُّ له النَّاسُ ... ومن دون بيتِه سَرِف )
( يمينُ بَرِّ بالله مجتهدٍ ... يَحْلِف إن كَان ينفعَ الحَلِفُ )
( لا نرفَعُ العبدَ فوقَ سُنَّتِه ... ما دام منّا ببَطْنِها شَرَفُ )
( إنك لاقٍ غداً غُوَاةَ بني ... عمِّي فانظرْ ما أنت مُزْدَهِف )
( فأبَدِ سِيمَاكَ يَعْرِفوكَ كما ... يُبْدُونَ سِيمَاهُمُ فَتعترِفُ )
معنى قوله فأبد سيماك أن مالك بن العجلان كان إذا شهد الحرب يغير لباسه ويتنكر لئلا يعرف فيقصد
وقال درهم بن يزيد في ذلك
( يا مَالِ لا تَبْغِينْ ظُلاَمَتنا ... يا مالِ إنّا مَعَاشِرٌ أنُفُ )
( يا مَالِ والحقُّ إن قَنِعْتَ به ... فيه وفينا لأمرنا نَصَفُ )
( إنّ بُجَيراً عبدٌ فخُذْ ثمناً ... فالحقُّ يُوفَى به ويعُتَرفُ )
( ثم اعلمَنْ إن أردتَ ضَيْمَ بني ... زَيدٍ فإنِّي ومَنْ له الحَلِفُ )
( لأصْبَحَنْ دارَكم بذي لَجَبٍ ... جَوْنٍ له من أمامِه عَزَفُ )
( البَيْضُ حِصْنٌ لهم إذا فَزِعُوا ... وسابِغاتٌ كأنها النَّطَفُ )
( والبِيضٌ قد ثُلِّمت مضاربُها ... بها نفوسُ الكُماةِ تُختطَفُ )

( كأنها في الأكفِّ إذ لَمعتْ ... ومَيِضُ برقٍ يبدو وينكسفُ )
وقال قيس بن الخطيم الظفري أحد بني النبيت في ذلك ولم يدركه وإنما قاله بعد هذه الحرب بزمان ومن هذه القصيدة الصوت المذكور
( رَدّ الخَليطُ الجِمالَ فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنهم وَقَفُوا )
( لو وَقفوا ساعةً نسائلُهم ... رَيْث يضحِّي جِمالَه السَّلَفُ )
( فيهم لَعُوبُ العِشاءِ آنسةُ الدّل ... عَرُوب يَسُوءها الخُلُفُ )
( بين شُكُول النساءِ خِلقَتُها ... قَصْدٌ فلا جَبْلَةٌ ولا قَضفُ )
( تنام عن كُبْر شأنِها فإذا ... قامت رُويداً تكاد تَنْغَرِفُ )
( تَغْترِقُ الطرفَ وهي لاهيةٌ ... كأنما شفَّ وجهَها نُزُفُ )
( حَوْراء جَيْدَاءُ يُستضاء بها ... كأنها خُوطُ بانةٍ قَصِفُ )
( قضَى لها اللهُ حين صَوّرها الخالق ... أن لا يُكِنَّها سَدَفُ )
( خَوْدٌ يَغِثُّ الحديثُ ما صَمَتتْ ... وهو بفِيها ذو لذة طَرِفُ )

( تخزنُه وهو مشتهىً حسَنٌ ... وهو إذا ما تكلمت أنُفُ )
وهي طويلة يقول فيها
( أبلغْ بني جَحْجَبَى وإخوتَهم ... زيداً بأنّا وراءَهم أُنُفُ )
( إنا وإِن قلّ نصرُنا لهُم ... أكبادُنا من ورائِهم تَجِفُ )
( لمّا بدتْ نحوَنا جِباهُهُم ... حنَّت إلينا الأرحامُ والصُّحُفُ )
( نَفْلِي بحدّ الصَّفيح هامَهُم ... وفَلْيُنا هامَهم بها جَنَفُ )
( يَتْبَع آثارَها إذا اختُلِجَتْ ... سُخْنٌ عَبِيطٌ عُروقُه تَكِفُ )
( إنّ بني عمِّنا طغَوْا وبغَوْا ... ولجّ منهم في قومِهم سَرَفُ )
فرد عليه حسان بن ثابت ولم يدرك ذلك
( ما بالُ عينيك دمعُها يَكفُ ... من ذكر خَوْدٍ شَطَّت بها قَذَفُ )
( بانتْ بها غَرْبَةٌ تؤمّ بها ... أرضاً سِوانا والشكل مختلِفُ )
( ما كنتُ أَدْري بوَشكِ بَيْنهُم ... حتى رأيتُ الحُدوجَ تَنقذِفُ )
( دَعْ ذا وعَدِّ القَرِيضَ في نَفَرٍ ... بَرْجُون مدحي ومدحيَ الشرفُ )
( إن تَدْعُ قومي للمجد تُلْفهُم ... أهلَ فَعالٍ يبدو إذا وُصِفُوا )

( إن سُمَيراً عبدٌ طغَى سَفَهاً ... ساعده أعبُدٌ لهم نَطَفُ )
قال ثم أرسل مالك بن العجلان إلى بني عمرو بن عوف يؤذنهم بالحرب ويعدهم يوما يلتقون فيه وأمر قومه فتهيؤوا للحرب وتحاشد الحيان وجمع بعضهم لبعض
وكانت يهود قد حالفت قبائل الأوس والخزرج إلا بني قريضة وبني النضير فإنهم لم يحالفوا أحدا منهم حتى كان هذا الجمع فأرسلت إليهم الأوس والخزرج كل يدعوهم إلى نفسه فأجابوا الأوس وحالفوهم والتي حالفت قريظة والنضير من الأوس أوس الله وهي خطمة وواقف وأمية ووائل فهذه قبائل أوس الله
ثم زحف مالك بمن معه من الخزرج وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة والنضير فالتقوا بفضاء كان بين بئر سالم وقباء وكان أول يوم التقوا فيه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرفوا وهم منتصفون جميعا ثم التقوا مرة أخرى عند أُطُمِ بني قينقاع فاقتتلوا حتى حجز الليل بينهم وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج فقال أبو قيس بن الأسلت في ذلك
( لقد رأيتُ بني عمروٍ فما وهَنُوا ... عند اللقاء وما هَمُّوا بتكذيبِ )
( ألاَ فِدىً لَهُمُ أُّمِّي وما ولَدَتْ ... غداةَ يَمْشُون إرْقَالَ المَصَاعيبِ )
( بكلِّ سَلْهَبةٍ كالأيْمِ ماضيةٍ ... وكلِّ أبيضَ ماضي الحدّ مخشوبِ )
أصل المخشوب الحديث الطبع ثم صار كل مصقول مخشوبا فشبهها بالحية في انسلالها

الأوس والخزرج يقبلون بحكم ثابت بن المنذر
قال فلبث الأوس والخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون القتال في تلك السنين وكانت لهم فيها أيام ومواطن لم تحفظ فلما رأت

الأوس طول الشر وأن مالكا لا ينزع قال لهم سويد بن صامت الأوسي وكان يقال له الكامل في الجاهلية وكان الرجل عند العرب إذا كان شاعرا شجاعا كاتبا سابحا راميا سموه الكامل وكان سويد أحد الكملة يا قوم أرضوا هذا الرجل من حليفه ولا تقيموا على حرب إخوتكم فيقتل بعضكم بعضا ويطمع فيكم غيركم وإن حملتم على أنفسكم بعض الحمل فأرسلت الأوس إلى مالك بن العجلان يدعونه إلى أن يحكم بينه وبينهم ثابت بن المنذر بن حرام أبو حسان بن ثابت فأجابهم إلى ذلك فخرجوا حتى أتوا ثابت بن المنذر وهو في البئر الذي يقال له سُمَيْحَة فقالوا إنا قد حكمناك بيننا فقال لا حاجة لي في ذلك قالوا ولم قال أخاف أن تردوا حكمي كما رددتم حكم عمرو بن امرئ القيس قالوا فإنا لا نرد حكمك فاحكم بيننا قال لا أحكم بينكم حتى تعطوني موثقا وعهدا لترضون بحكمي وما قضيت فيه ولتسلمن له فأعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم فحكم بأن يودى حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنة فيهم بعده على ما كانت عليه الصريح على ديته والحليف على ديته وأن تعد القتلى الذين أصاب بعضهم من بعض في حربهم ثم يكون بعض ببعض ثم يعطوا الدية لمن كان له فضل في القتلى من الفريقين فرضي بذلك مالك وسلمت الأوس وتفرقوا على أن على بني النجار نصف دية جار مالك معونة لاخوتهم وعلى بني عمرو بن عوف نصفها فرأت بنو عمرو بن عوف أنهم لم يخرجوا إلا الذي كان عليهم ورأى مالك أنه قد أدرك ما كان يطلب وودي جاره دية الصريح ويقال بل الحاكم المنذر أبو ثابت

ذكر طويس وأخباره
طويس لقب غلب عليه واسمه عيسى بن عبد الله وكنيته أبو عبد المنعم وغيرها المخنثون فجعلوها أبا عبد النعيم وهو مولى بني مخزوم وقد حدثني جحظة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال سعد بن أبي وقاص كني طويس أبا عبد المنعم
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسيبي ومحمد بن سلام الجمحي وعن الواقدي عن ابن أبي الزناد وعن المدائني عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن ابن الكلبي عن أبيه وعن أبي مسكين قالوا
أول من غنى بالعربي بالمدينة طويس وهو أول من ألقى الخنث بها وكان طويلا أحول يكنى أبا عبد المنعم مولى بني مخزوم وكان لا يضرب بالعود إنما كان ينقر بالدف وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها وكان يتقى للسانه قالوا وسئل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض رسول الله وفطم يوم مات أبو بكر وختن يوم قتل عمر وزوج يوم قتل عثمان وولد له يوم قتل علي رضوان الله عليهم أجمعين
قال وقيل إنه ولد له يوم مات الحسن بن علي عليهما

السلام قال وكانت أمي تمشي بين نساء الأنصار بالنميمة
قالوا وأول غناء غناه وهزج به

صوت
( كيف يأتي من بعيدٍ ... وهو يُخْفيه القريب )
( نازحٌ بالشأم عنّا ... وهو مِكْسالٌ هَيُوبُ )
( قد بَراني الحبُّ حتى ... كدتُ من وَجْدِي أَذُوبُ )
الغناء لطويس هزج بالبنصر
شؤم طويس
قال إسحاق أخبرني الهيثم بن عدي قال قال صالح بن حسان الأنصاري أنبأني أبي قال
اجتمع يوما جماعة بالمدينة يتذاكرون أمر المدينة إلى أن ذكروا طويسا فقالوا كان وكان فقال رجل منا أما لو شاهدتموه لرأيتم ما تسرون به علما وظرفا وحسن غناء وجودة نقر بالدف ويضحك كل ثكلى حرى فقال بعض القوم والله إنه على ذلك كان مشؤوما وذكر خبر ميلاده كما قال الواقدي إلا أنه قال ولد يوم مات نبينا وفطم يوم مات صديقنا وختن يوم قتل فاروقنا وزوج يوم قتل نورنا وولد له يوم قتل أخو نبينا وكان مع هذا مخنثا يكيدنا ويطلب عثراتنا وكان مفرطا في طوله مضطربا في خلقه أحول
فقال رجل من جلة أهل المجلس لئن كان كما قلت لقد كان ممتعا فهما يحسن رعاية من حفظ له حق المجالسة ورعاية حرمة الخدمة وكان لا يحمل قول من لا يرعى له بعض ما يرعاه له
ولقد كان معظما لمواليه بني مخزوم ومن والاهم من سائر قريش ومسالما لمن عاداهم

دون التحكيك به وما يلام من قال بعلم وتكلم على فهم والظالم الملوم والبادئ أظلم فقال رجل آخر لئن كان ما قلت لقد رأيت قريشا يكتنفونه ويحدقون به ويحبون مجالسته وينصتون إلى حديثه ويتمنون غناءه وما وضعه شيء إلا خنثه ولولا ذلك ما بقي رجل من قريش والأنصار وغيرهم إلا أدناه
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال
كان أول من تغنى بالمدينة غناء يدخل في الإيقاع طويس وكان مولده يوم مات رسول الله وفطامه في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر وختانه في اليوم الذي قتل فيه عمر وبناءه بأهله في اليوم الذي قتل فيه عثمان وولد له يوم قتل علي رضوان الله عليهم أجمعين وولد وهو ذاهب العين اليمنى
وكان يلقب بالذائب وإنما لقب بذلك لأنه غنى
( قد براني الحبُّ حتى ... كدتُ من وَجْدِي أذُوبُ )
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال أخبرني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال
كان بالمدينة مخنث يقال له النغاشي فقيل لمروان بن الحكم إنه لا

يقرأ من كتاب الله شيئا فبعث إليه يومئذ وهو على المدينة فاستقرأه أم الكتاب فقال والله ما معي بناتها أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمهن فقال أتهزأ لا أم لك فأمر به فقتل في موضع يقال له بطحان وقال من جاءني بمخنث فله عشرة دنانير فأتي طويس وهو في بني الحارث بن الخزرج من المدينة وهو يغني بشعر حسان بن ثابث
( لقد هاج نفسَك أَشْجانُها ... وعاودها اليومَ أَدْيَانهُا )
( تذكَّرْتَ هنداً وما ذكرُها ... وقد قُطِّعَتْ منك أَقْرانُها )
( وقفتُ عليها فساءلتُها ... وقد ظعَن الحيُّ ما شانُها )
( فصَدَّتْ وجاوب من دونِها ... بما أوجع القلبَ أعوانُها )
فأخبر بمقالة مروان فيهم فقال أما فضلني الأمير عليهم بفضل حتى جعل في وفيهم أمرا واحدا ثم خرج حتى نزل السويداء على ليلتين من المدينة في طريق الشأم فلم يزل بها عمره وعمر حتى مات في ولاية الوليد بن عبد الملك

خبر بادية بنت غيلان
قال إسحاق وأخبرني ابن الكلبي قال أخبرني خالد بن سعيد عن أبيه وعوانة قالا
قال هيت المخنث لعبد الله بن أبي أمية إن فتح الله عليكم الطائف فسل النبي بادية بنت غيلان بن سلمة بن معتب فإنها هيفاء شموع نجلاء إن

تكلمت تغنت وإن قامت تثنت تقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كأنه الأقحوان وبين رجليها كالإناء المكفوء كما قال قيس بن الخطيم
( تَغْتَرِقُ الطرفَ وهي لاهيةٌ ... كأنما شَفَّ وجهَها نُزُفُ )
( بين شُكُول النساءِ خِلْقَتُها ... قَصْدٌ فلا جَبْلَةٌ ولا قَضَفُ )
فقال النبي لقد غلغلت النظر يا عدو الله ثم جلاه عن المدينة إلى الحمى قال هشام وأول ما اتخذت النعوش من أجلها
قال فلما فتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة فلم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه كلم فيه فأبى أن يرده فلما ولي عمر رضي الله عنه كلم فيه فأبى أن يرده وقال إن رأيته لأضربن عنقه فلما ولي عثمان رضي الله عنه كلم فيه فأبى أن يرده فقيل له قد كبر وضعف واحتاج فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه
وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي وكان طويس له فمن ثم قيل الخنث
وجلس يوما فغنى في مجلس فيه ولد لعبد الله بن أبي أمية
( تغترقُ الطرفَ وهي لاهيةٌ )
إلى آخر البيتين فأشير إلى طويس أن اسكت فقال والله ما قيل هذان البيتان في

ابنة غيلان بن سلمة وإنما هذا مثل ضربه هيت في أم بريهة ثم التفت إلى ابن عبد الله فقال يابن الطاهر أوجدت علي في نفسك أقسم بالله قسما حقا لا أغني بهذا الشعر أبدا
قال إسحاق وحدثنا أبو الحسن الباهلي الرواية عن بعض أهل المدينة وحدثنا الهيثم بن عدي والمدائني قالوا
كان عبد الله بن جعفر معه إخوان له في عشية من عشايا الربيع فراحت عليهم السماء بمطر جود فأسال كل شيء فقال عبد الله هل لكم في العقيق وهو متنزه أهل المدينة في أيام الربيع والمطر فركبوا دوابهم ثم انتهوا إليه فوقفوا على شاطئه وهو يرمي بالزبد مثل مد الفرات فإنهم لينظرون إذ هاجت السماء فقال عبد الله لأصحابه ليس معنا جنة نستجن بها وهذه سماء خليقة أن تبل ثيابنا فهل لكم في منزل طويس فإنه قريب منا فنستكن فيه ويحدثنا ويضحكنا وطويس في النظارة يسمع كلام عبد الله بن جعفر فقال له عبد الرحمن بن حسان بن ثابت جعلت فداءك وما تريد من طويس عليه غضب الله مخنث شائن لمن عرفه فقال له عبد الله لا تقل ذلك فإنه مليح خفيف لنا فيه أنس فلما استوفى طويس كلامهم تعجل إلى منزله فقال لامرأته ويحك قد جاءنا عبد الله بن جعفر سيد الناس فما عندك قالت نذبح هذه العناق وكانت عندها عنيقة قد ربتها باللبن واختبز خبزا رقاقا فبادر فذبحها وعجنت هي
ثم خرج فتلقاه مقبلا إليه فقال له طويس بأبي أنا وأمي هذا المطر فهل لك في المنزل فتستكن فيه إلى أن تكف السماء قال إياك أريد قال فامض يا سيدي على بركة الله وجاء

يمشي بين يديه حتى نزلوا فتحدثوا حتى أدرك الطعام فقال بأبي أنت وأمي تكرمني إذ دخلت منزلي بأن تتعشى عندي قال هات ما عندك فجاءه بعناق سمينة ورقاق فأكل وأكل القوم حتى تملؤوا فأعجبه طيب طعامه فلما غسلوا أيديهم قال بأبي أنت وأمي أتمشى معك وأغنيك قال افعل يا طويس فأخذ ملحفة فأتزر بها وأرخى لها ذنبين ثم أخذ المربع فتمشى وأنشأ يغني
( يا خَلِيلي يا بني سُهدِي ... لم تَنَمْ عيني ولم تكَدِ )
( كيف تلْحُو بي على رجلٍ ... آنسٍ تلْتَذُّه كبِدي )
( مثْل ضوءِ البدرِ طَلْعَتُه ... ليس بالزُّمَّيْلة النَّكِدِ )
فطرب القوم وقالوا أحسنت والله يا طويس ثم قال يا سيدي أتدري لمن هذا الشعر قال لا والله ما أدري لمن هو إلا أني سمعت شعرا حسنا قال هو لفارعة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت وهي تتعشق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وتقول فيه هذا الشعر فنكس القوم رؤوسهم وضرب عبد الرحمن برأسه على صدره فلو شقت الأرض له لدخل فيها
قال وحدثني ابن الكلبي والمدائني عن جعفر بن محرز قال
خرج عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة إلى السويداء وخرج الناس معه وقد أخذت المنازل فلحق بهم يزيد بن بكر بن دأب الليثي وسعيد بن عبد

الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري فلقيهما طويس فقال لهما بأبي أنتما وأمي عرجا إلى منزلي فقال يزيد لسعيد مل بنا مع أبي عبد النعيم فقال سعيد أين تذهب مع هذا المخنث فقال يزيد إنما هو منزل ساعة فمالا واحتمل طويس الكلام على سعيد فأتيا منزله فإذا هو قد نضحه ونصعه فأتاهما بفاكهة من فاكهة الماء ثم قال سعيد لو أسمعتنا يا أبا عبد النعيم فتناول خريطة فاستخرج منها دفا ثم نقره وقال
( يا خَليلي نابَنِي سُهُدِي ... لم تَنَمْ عيني ولم تَكَدِ )
( فشَرابي ما أُسِيغُ وما ... أَشْتكِي ما بي إلى أحدِ )
( كيف تَلْحُوني على رجلٍ ... آنسٍ تلتذُّه كبِدي )
( مثلُ ضوءِ البدر صورتُّهُ ... ليس بالزُّمَّيْلَةِ النَّكِدِ )
( من بني آل المُغِيرة لا ... خاملٍ نِكْسٍ ولا جَحَدِ )
( نظرتُ يوماً فلا نظرتْ ... بعدَه عيني إلى أحدِ )
ثم ضرب بالدف الأرض فقال سعيد ما رأيت كاليوم قط شعرا أجود ولا غناء أحسن منه فقال له طويس يابن الحسام أتدري من يقوله قال لا قال قالته عمتك خولة بنت ثابت تشبب بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي فخرج سعيد وهو يقول ما رأيت كاليوم قط مثل ما استقبلني به هذا المخنث والله لا يفلتني فقال يزيد دع هذا وأمته ولا ترفع به رأسا
قال أبو الفرج الأصبهاني هذه الأبيات فيما ذكر الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار لابن زهير المخنث

ابن سريج يمدح غناء طويس
قال إسحاق وحدثني الهيثم بن عدي عن ابن عياش وابن الكلبي عن أبي مسكين قالا
قدم ابن سريج المدينة فغناهم فاستظرف الناس غناءه وآثروه على كل من غنى وطلع عليهم طويس فسمعهم وهم يقولون ذلك فاستخرج دفا من حضنه ثم نقر به وغناهم بشعر عمارة بن الوليد المخزومي في خولة بنت ثابت عارضها بقصيدتها فيه
( يا خليلي نابني سُهُدي ... لم تَنَمْ عَيْني ولم تَكَدِ )
وهو
( تَنَاهى فيكمُ وَجْدِي ... وصدَّع حبُّكم كِبْدِي )
( فقلبي مُسْعَرٌ حزناً ... بذات الخالِ في الخدّ )
( فما لاقَى أخو عشقٍ ... عَشِيرَ العُشْر من جَهْدِي )
فأقبل عليهم ابن سريح فقال والله هذا أحسن الناس غناء
أخبرني وكيع محمد بن خلف قال حدثنا إسماعيل بن مجمع قال حدثني المدائني قال
قدم ابن سريج المدينة فجلس يوما في جماعة وهم يقولون أنت والله أحسن الناس غناء إذ مر بهم طويس فسمعهم وما يقولون فاستل دفه من حضنه ونقره وتغنى

( إن المُجنَّبة التي ... مَرَّتْ بنا قبل الصَّباحِ )
( في حُلَّةٍ مَوْشيَةٍ ... مكَّيّة غَرْثَى الوِشاحِ )
( زَيْنٌ لمشهِدِ فِطْرِهم ... وتَزِينهُمُ يومَ الأَضَاحِي )
الشعر لابن زهير المخنث والغناء لطويس هزج أخبرنا بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار فقال ابن سريج هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا

خبر طويس مع جارية
قال إسحاق حدثني المدائني قال حدثت أن طويسا تبع جارية فراوغته فلم ينقطع عنها فخبت في المشي فلم ينقطع عنها فلما جازت بمجلس وقفت ثم قالت يا هؤلاء لي صديق ولي زوج ومولى ينكحني فسلوا هذا ما يريد مني فقال أضيق ما قد وسعوه ثم جعل يتغنى
( أَفِقْ يا قلبُ عن جُمْلِ ... وجُمْلٌ قطَّعتْ حَبْلِي )
( أفق عنها فقد عُنِّيتَ ... حَوْلاً في هَوى جُمْلِ )
( وكيف يُفِيق محزونٌ ... بجُمْلٍ هائمُ العقلِ )
( بَرَاه الحُبّ في جملٍ ... فحَسْبِي الحبُّ من ثِقْلِ )
( وحَسْبِي فيكِ ما أَلْقَى ... من التَّفْنيد والعَذْلِ )
( وقِدْماً لامنِي فيها ... فلم أَحْفِل بهم أهلي )
قال إسحاق وقال المدائني قال مسلمة بن محارب حدثني رجل من أصحابنا قال

خرجنا في سفرة ومعنا رجل فانتهينا إلى واد فدعونا بالغداء فمد الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه وهو قبل ذلك يأكل معنا في كل منزل فخرجنا نسأل عن حاله فلقينا رجلا طويلا أحول مضطرب الخلق في زي الأعراب فقال لنا ما لكم فأنكرنا سؤاله لنا فأخبرناه خبر الرجل فقال ما اسم صاحبكم فقلنا أسيد فقال هذا واد قد أخذت سباعه فارحلوا فلوقد جاوزتم الوادي استمر صاحبكم وأكل
قلنا في أنفسنا هذا من الجن ودخلتنا فزعة ففهم ذلك وقال ليفرخ روعكم فأنا طويس قال له بعض من معنا من بني غفار أو من بني عبس مرحبا بك يا أبا عبد النعيم ما هذا الزي فقال دعاني بعض أودائي من الأعراب فخرجت إليهم وأحببت أن أتخطى الأحياء فلا ينكروني
فسألت الرجل أن يغنينا فاندفع ونقر بدف كان معه مربع فلقد تخيل لي أن الوادي ينطق معه حسنا وتعجبنا من علمه وما أخبرنا به من أمر صاحبنا
وكان الذي غنى به في شعر عروة بن الورد في سلمى امرأته الغفارية حيث رهنها على الشراب
( سَقَوْني الخمرَ ثم تَكَنَّفُونِي ... عُداةُ الله من كّذِبٍ وزُورِ )
( وقالوا لستَ بعدَ فِداء سَلْمَى ... بمُفْنٍ ما لديك ولا فقيرِ )
( فلا واللهِ لو مُلِّكْتُ أمري ... ومَنْ لي بالتَّدَبُّر في الأمورِ )

( إذاً لعَصيتُهم في حبّ سلْمَى ... على ما كان من حَسَكِ الصدورِ )
( فيا للنّاسِ كيف غُلِبْتُ أمري ... على شيءٍ ويكرهُهُ ضمِيري )
قال إسحاق وحدثني الواقدي قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال
لما غزا النبي بني النضير وأجلاهم عن المدينة خرجوا يريدون خيبر يضربون بدفوف ويزمرون بالمزامير وعلى النساء المعصفرات وحلي الذهب مظهرين لذلك تجلدا ومرت في الظعن يومئذ سلمى امرأة عروة بن الورد العبسي وكان عروة حليفا في بني عمرو بن عوف وكانت سلمى من بني غفار فسباها عروة من قومها وكانت ذات جمال فولدت له أولادا وكان شديد الحب لها وكان ولده يعيرون بأمهم ويسمون بني الأخيذة أي السبية فقالت ألا ترى ولدك يعيرون قال فماذا ترين قالت أرى أن تردني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك فأنعم لها فأرسلت إلى قومها أن القوه بالخمر ثم أتركوه حتى يسكر ويثمل فإنه لا يسأل حينئذ شيئا إلا أعطاه فلقوه وقد نزل في بني النضير فسقوه الخمر فلما سكر سألوه سلمى فردها عليهم ثم أنكحوه بعد
ويقال إنما جاء بها إلى بني النضير وكان صعلوكا يغير فسقوه الخمر فلما انتشى منعوه ولا شيء معه إلا هي فرهنها ولم يزل يشرب حتى غلقت فلما قال لها انطلقي قالت لا سبيل إلى ذلك قد أغلقتني فبهذا صارت عند بني النضير
فقال في ذلك

( سقَوْنِي الخمرَ ثم تكنَّفُونِي ... عُداةُ الله من كذبٍ وزورِ )
هذه الأبيات مشهورة بأن لطويس فيها غناء وما وجدته في شيء من الكتب مجنسا فتذكر طريقته

ولع طويس بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم
وقال إسحاق وحدثني المدائني قال كان طويس ولعا بالشعر الذي قالته الأوس والحزرج في حروبهم وكان يريد بذلك الإغراء فقل مجلس اجتمع فيه هذان الحيان فغنى فيه طويس إلا وقع فيه شيء فنهي عن ذلك فقال والله لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسدوني التراب وذلك لكثرة تولع القوم به فكان يبدي السرائر ويخرج الضغائن فكان القوم يتشاءمون به
وكان يستحسن غناؤه ولا يصبر عن حديثه ويستشهد على معرفته فغنى يوما بشعر قيس بن الخطيم في حرب الأوس والخزرج وهو
( ردّ الخَليطُ الجِمالَ فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنهم وقفُوا )
( لو وقفوا ساعةً نسائلُهم ... رَيْث يضحِّي جِمَاله السَّلَفُ )
( فليت أهلي وأهلَ أَثْلَة في الدَّارِ ... قَرِيبٌ من حيثُ نختلفُ )
فلما بلغ إلى آخر بيت غنى فيه طويس من هذه القصيدة وهو
( أبلغْ بني جَحْجَبى وقومَهُم ... خَطْمَةَ أنّا وراءَهم أُنُفُ )
تكلموا وانصرفوا وجرت بينهم دماء وانصرف طويس من عندهم سليما لم يكلم ولم يقل له شيء
قال إسحاق فحدثني الواقدي وأبو البختري قالا
قال قيس بن الخطيم هذه القصيدة لشغب أثاره القوم بعد دهر طويل ونذكر

سبب أول ما جرى بين الأوس والخزرج من الحرب
قال إسحاق قال أبو عبد الله اليزيدي وأبو البختري وحدثني مشايخ لنا قالوا كانت الأوس والخزرج أهل عز ومنعة وهما أخوان لأب وأم وهما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وأمهما قيلة بنت جفنة بن عتبة بن عمرو وقضاعة تذكر أنها قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة
وكانت أول حرب جرت بينهم في مولى كان لمالك بن العجلان قتله سمير بن يزيد بن مالك وسمير رجل من الأوس ثم أحد بني عمرو بن عوف وكان مالك سيد الحيين في زمانه وهو الذي ساق تبعا إلى المدينة وقتل الفطيون صاحب زهرة وأذل اليهود للحيين جميعا فكان له بذلك الذكر والشرف عليهم وكانت دية المولى فيهم وهو الحليف خمسا من الإبل ودية الصريح عشرا فبعث مالك إلى عمرو بن عوف ابعثوا إلي سميرا حتى أقتله بمولاي فإنا نكره أن تنشب بيننا وبينكم حرب فأرسلوا إليه إنا نعطيك الرضا من مولاك فخذ منا عقله فإنك قد عرفت أن الصريح لا يقتل بالمولى قال لا آخذ في مولاي دون دية الصريح فأبوا إلا دية المولى فلما رأى ذلك مالك بن العجلان جمع قومه من الخزرج وكان فيهم مطاعا وأمرهم بالتهيؤ للحرب فلما بلغ الأوس استعدوا لهم وتهيؤوا للحرب واختاروا الموت على الذل ثم خرج بعض القوم إلى بعض فالتقوا بالصفينة بين بئر سالم وبين قباء قرية لبني عمرو بن عوف فاقتتلوا قتالا شديدا حتى نال بعض القوم من بعض ثم إن رجلا من الأوس نادى يا مالك ننشدك الله والرحم وكانت أم مالك إحدى نساء بني

عمرو بن عوف فاجعل بيننا وبينك عدلا من قومك فما حكم علينا سلمنا لك فارعوى مالك عند ذلك وقال نعم فاختاروا عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الحزرج فرضي القوم به واستوثق منهم ثم قال فإني أقضي بينكم إن كان سمير قتل صريحا من القوم فهو به قود وإن قبلوا العقل فلهم دية الصريح وإن كان قتل مولى فلهم دية المولى بلا نقص ولا يعطى فوق نصف الدية وما أصبتم منا في هذه الحرب ففيه الدية مسلمة إلينا وما أصبنا منكم فيها علينا فيه دية مسلمة إليكم
فلما قضى بذلك عمرو بن امرئ القيس غضب مالك بن العجلان ورأى أن يرد عليه رأيه وقال لا أقبل هذا القضاء وأمر قومه بالقتال فجمع القوم بعضهم لبعض ثم التقوا بالفضاء عند آطام بني قينقاع فاقتتلوا قتالا شديدا ثم تداعوا إلى الصلح فحكموا ثابت بن حرام بن المنذر أبا حسان بن ثابت النجاري فقضى بينهم أن يدوا مولى مالك بن العجلان بدية الصريح ثم تكون السنة فيهم بعده على مالك وعليهم كما كانت أول مرة المولى على ديته والصريح على ديته فرضي مالك وسلم الآخرون وكان ثابت إذ حكموه أراد إطفاء النائرة فيما بين القوم ولم شعثهم فأخرج خمسا من الإبل من قبيلته حين أبت عليه الأوس أن تؤدي إلى مالك أكثر من خمس وأبى مالك أن يأخذ دون عشر
فلما أخرج ثابت الخمس أرضى مالكا بذلك ورضيت الأوس واصطلحوا بعهد وميثاق ألا يقتل رجل في داره ولا معقله والمعاقل النخل فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية له ولا عقل ثم انظروا في القتلى فأي الفريقين فضل على صاحبه ودى له صاحبه فأفضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر فودتهم الأوس واصطلحوا
ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لما كان أبوه أصلح بينهم ورضاهم بقضائه في ذلك

( وأَبي في سُمَيْحة القائلُ الفاصِل ... ُ حين التفّت عليه الخصومُ )
وفي ذلك يقول قيس بن الخطيم قصيدته وهي طويلة
( رَدّ الخليطُ الجمالَ فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنّهم وقَفوا )

عمر بن عبد العزيز يقول قيس بن الخطيم هو أنسب الناس
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال
كان عمر بن عبد العزيز ينشد قول قيس بن الخطيم
( بين شُكول النساء خِلْقتُها ... قَصْدٌ فلا جَبْلةٌ ولا قَضَفُ )
( تنام عن كُبْر شأنها فإِذا ... قامت رُويداً تكاد تنقصفُ )
( تغترق الطرفَ وهي لاهيةٌ ... كأنما شفَّ وجهها نُزُفُ )
ثم يقول قائل هذا الشعر أنسب الناس
ومما في المائة المختارة من أغاني طويس
صوت
( يَا لَقَوْمِي قد أرّقتني الهمومُ ... ففؤادي مما يُجِنُّ سقيمُ )
( أنْدَبَ الحبُّ في فؤادي ففيه ... لو تَرَاءى للناظرين كلومُ )
يجن يخفي والجنة من ذلك والجن أيضا مأخوذ منه
وأندب أبقى فيه ندبا وهو أثر الجرح قال ذو الزمة

( تُرِيكَ سُنّةَ وجهٍ غيرَ مُقْرِفةٍ ... ملساءَ ليس بها خالٌ ولا نَدَبُ )
الشعر لابن قيس الرقيات فيما قيل
والغناء لطويس ولحنه المختار خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى قال إسحاق وهو أجود لحن غناه طويس ووجدته في كتاب الهشامي خفيف رمل بالوسطى منسوبا إلى ابن طنبورة
قال وقال ابن المكي إنه لحكم وقال عمرو بن بانة إنه لابن عائشة أوله هذان البيتان وبعدهما
( ما لِذَا الهمِّ لا يَرِيمُ فؤادي ... مثلَ ما يَلزَمُ الغريمَ الغريمُ )
( إنّ مَنْ فَرّق الجماعةَ منّا ... بعد خَفْصٍ ونَعْمةٍ لذميمُ )
انقضت أخبار طويس

صوت من المائة المختارة من صنعة قفا النجار
( حُجبَ الأُلى كنّا نُسَرّ بقربهم ... يا ليتَ أنّ حجابَهم لم يُقْدَرِ )
( حُجُبِوا ولم نَقضِ اللُّبانَةَ منهمُ ... ولنا إليهم صَبْوةٌ لم تُقْصِرِ )
( ويُحيط مِئزرُها برِدْفٍ كاملٍ ... رَابيَ المَجَسَّةِ كالكَثيب الأعفرِ )
( وإذا مَشَتْ خِلتَ الطريقَ لمشيها ... وَحِلاً كمشي المُرْجِحنّ المُوقَرِ )
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر والغناء لقفا النجار ولحنه المختار من الثقيل

الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى ويقال إن فيه لحنا لابن سريج
وذكر يحيى بن علي ابن يحيى في الاختيار الواثقي أن لحن قفا النجار المختار من الثقيل الأول

صوت من المائة المختارة
( أَفِقْ يا دَارِميُّ فقد بُلِيتَا ... وإنك سوف تُوشِك أن تَمُوتَا )
( أراك تَزِيدُ عشقاً كلَّ يومٍ ... إذا ما قلتَ إنك قد بَرِيتا )
الشعر والغناء جميعا لسعيد الدارمي ولحنه المختار من خفيف الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

ذكر الدارمي وخبره ونسبه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
الدارمي من ولد سويد بن زيد الذي كان جده قتل أسعد بن عمرو بن هند ثم هربوا إلى مكة فحالفوا بني نوفل بن عبد مناف
وكان الدارمي في أيام عمر بن عبد العزيز وكانت له أشعار ونوادر وكان من ظرفاء أهل مكة وله أصوات يسيرة وهو الذي يقول
( ولما رأيتُكَ أوليتني الْقبيحَ ... وأبعدتَ عنّي الجميلا )
( تركتُ وِصالَك في جانبٍ ... وصادفتُ في الناس خِلاًّ بَدِيلا )
مناسبة قصيدته قل للمليحة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الأصمعي وأخبرني عمي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق بن إبراهيم عن الأصمعي وأخبرني عمي قال حدثنا أبو الفضل الرياشي عن الأصمعي قال وحدثني به النوشجاني عن شيخ له البصريين عن الأصمعي عن

ابن أبي الزناد ولم يقل عن ابن أبي الزناد غيره
أن تاجرا من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر فباعها كلها وبقيت السود منها فلم تنفق وكان صديقا للدارمي فشكا ذاك إليه وقد كان نسك وترك الغناء وقول الشعر فقال له لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع ثم قال

صوت
( قُلْ للمليحةِ في الخِمَارِ الأسودِ ... ماذا صَنَعتِ براهبٍ متعبِّدِ )
( قد كان شَمِّر للصلاة ثيابَه ... حتى وقَفتِ له ببابِ المسجدِ )
وغنى فيه وغنى فيه أيضا سنان الكاتب وشاع في الناس وقالوا قد فتك الدارمي ورجع عن نسكه فلم تبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خمارا أسود حتى نفد ما كان مع العراقي منها فلما علم بذلك الدارمي رجع إلى نسكه ولزم المسجد
فأما نسبة هذا الصوت فإن الشعر فيه للدارمي والغناء أيضا وهو خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لسنان الكاتب رمل بالوسطى عن حبش
وذكر حبش أن فيه لان سريج هزجا بالبنصر
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني أبو هفان قال حضرت يوما مجلس بعض قواد الأتراك وكانت له ستارة فنصبت فقال لها غني صوت الخمار السود المليح فلم ندر ما أراد حتى غنت
( قل للمليحةِ في الخمار الأسودِ ... )

ثم أمسك ساعة ثم قال لها غني
( إني خريت وجئت ... )
فضحكت ثم قالت هذا يشبهك فلم ندر أيضا ما أراد حتى غنت
( إنّ الخليطَ أجدّ مُنْتَقَلَهْ ... )
بخل الدارمي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد قال حدثني محمد ابن أخي سلم الخزاعي قال حدثني الحرمازي قال زعم لي ابن مودود قال
كان الدارمي المكي شاعرا ظريفا وكانت متفتيات أهل مكة لا يطيب لهن متنزه إلا بالدارمي فاجتمع جماعة منهن في متنزه لهن وفيهن صديقة له وكل واحدة منهن قد واعدت هواها فخرجن حتى أتين الجحفة وهو معهن فقال بعضهن لبعض كيف لنا أن نخلو مع هؤلاء الرجال من الدارمي فإنا إن فعلنا قطعنا في الأرض قالت لهن صاحبته أنا أكفيكنه قلن إنا نريد ألا يلومنا قالت علي أن ينصرف حامدا وكان أبخل الناس فأتته فقالت يا دارمي إنا قد تفلنا فاجلب لنا طيبا قال نعم هوذا آتي سوق الجحفة آتيكن منها بطيب فأتى المكارين فاكترى حمارا فصار عليه إلى مكة وهو يقول

( أنَا باللَّه ذي العِزِّ ... وبالرُّكنِ وبالصَّخْرَهْ )
( من اللائي يُرِدنَ الطِّيبَ ... في اليُسر وفي العُسْرَهْ )
( وما أقوَى على هذا ... ولو كنتُ على البَصْرَهْ )
فمكث النسوة ما شئن ثم قدم من مكة فلقيته صاحبته ليلة في الطواف فأخرجته إلى ناحية المسجد وجعلت تعاتبه على ذهابه ويعاتبها إلى أن قالت له يا دارمي بحق هذه البنية أتحبني فقال نعم فبربها أتحبيني قالت نعم قال فيالك الخير فأنت تحبيني وأنا أحبك فما مدخل الدراهم بيننا
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال
كان الدارمي عند عبد الصمد بن علي يحدثه فأغفى عبد الصمد فعطس الدارمي عطسة هائلة ففزع عبد الصمد فزعا شديدا وغضب غضبا شديدا ثم استوى جالسا وقال يا عاض كذا من أمه أتفزعني قال لا والله ولكن هكذا عطاسي قال والله لأنقعنك في دمك أو تأتيني ببينة على ذلك قال فخرج ومعه حرسي لا يدري أين يذهب به فلقيه ابن الريان المكي فسأله فقال أنا أشهد لك فمضى حتى دخل على عبد الصمد فقال له بم تشهد لهذا قال أشهد أني رأيته مرة عطس عطسة فسقط ضرسه فضحك عبد الصمد وخلى سبيله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد قال حدثنا الزبير قال
قال محمد بن إبراهيم الإمام للدارمي لو صلحت عليك ثيابي لكسوتك قال فديتك إن لم تصلح علي ثيابك صلحت علي دنانيرك

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير ونسخت من كتاب هارون بن محمد حدثنا الزبير قال حدثني يونس بن عبد الله الخياط قال
خرج الدارمي مع السعاة فصادف جماعة منهم قد نزلوا على الماء فسألهم فأعطوه دراهم فأتى بها في ثوبه وأحاط به أعرابيات فجعلن يسألنه وألححن عليه وهو يردهن فعرفته صبية منهن فقالت يا أخواتي أتدرين من تسألن منذ اليوم هذا الدارمي السأل ثم أنشدت
( إذا كنتَ لا بدّ مُستطعِماً ... فدَعْ عنك مَنْ كان يستطعِمُ )
فولى الدارمي هاربا منهن وهن يتضاحكن به

خبر الدارمي مع الأوقص القاضي
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب الزبيري قال
أتى الدارمي الأوقص القاضي بمكة في شيء فأبطأ عليه فيه وحاكمه إليه خصم له في حق فحبسه به حتى أداه إليه
فبينا الأوقص يوما في المسجد الحرام يصلي ويدعو ويقول يا رب أعتق رقبتي من النار إذ قال له الدارمي والناس يسمعون أولك رقبة تعتق لا والله ما جعل الله وله الحمد لك من عتق ولا رقبة فقال له الأوقص ويلك ومن أنت قال أنا الدارمي حبستني وقتلتني قال لا تقل ذلك وأتني فإني أعوضك فأتاه ففعل ذلك به

خبر الدارمي مع عبد الصمد بن علي
أخبرني الحرمي أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال
مدح الدارمي عبد الصمد بن علي بقصيدة واستأذنه في الإنشاد فأذن له فلما فرغ أدخل إليه رجل من الشراة فقال لغلامه أعط هذا مائة دينار واضرب عنق هذا فوثب الدارمي فقال بأبي أنت وأمي برك وعقوبتك جميعا نقد فإن رأيت أن تبدأ بقتل هذا فإذا فرغ منه أمرته فأعطاني فإني لن أريم من حضرتك حتى يفعل ذلك قال ولم ويلك قال أخشى أن يغلط فيما بيننا والغلط في هذا لا يستقال فضحك وأجابه إلى ما سأل
مرضه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال
أصابت الدارمي قرحة في صدره فدخل إليه بعض أصدقائه يعوده فرآه قد نفث من فيه نفثا أخضر فقال له أبشر قد اخضرت القرحة وعوفيت فقال هيهات والله لو نفثت كل زمردة في الدنيا ما أفلت منها

صوت من المائة المختارة
( يا رَبْعَ سَلْمَى لقد هيَّجتَ لي طرَبا ... زِدْتَ الفؤادَ على عِلاَّتِه وَصَبَا )
( ريعٌ تبدّل ممّن كان يسكنُه ... عُفْرَ الظِّباءِ وظُلْمَاناً به عُصَبَا )
الشعر لهلال بن الأسعر المازني أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه وهكذا هو في رواية عمرو بن أبي عمرو الشيباني
ومن لا يعلم ينسبه إلى عمر بن أبي ربيعة وإلى الحارث بن خالد ونصيب وليس كذلك والغناء في اللحن المختار لعزور الكوفي ومن الناس من يقول عزون بالنون وتشديد الزاي وهو رجل من أهل الكوفة غير مشهور ولا كثير الصنعة ولا أعلم أني سمعت له بخبر ولا صنعة غير هذا الصوت
ولحن هذا المختار ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق وهكذا نسبه في الاختيار الواثقي وذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن عائشة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر
وفي أخبار الغريض عن حماد أن له فيه ثقيلا أول
وقال الهشامي فيه لعبد الله بن العباس لحن من الثقيل الثاني
وذكر حبش أن فيه لحسين بن محرز خفيف رمل بالبنصر

أخبار هلال ونسبه
هو فيما ذكر خالد بن كلثوم هلال بن الأسعر بن خالد بن الأرقم بن قسيم بن ناشرة بن سيار بن رزام بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم
شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وأظنه قد أدرك الدولة العباسية وكان رجلا شديدا عظيم الخلق أكولا معدودا من الأكلة
قال أبو عمرو وكان هلال فارسا شجاعا شديد البأس والبطش أكثر الناس أكلا وأعظمهم في حرب غناء
هذا لفظ أبي عمرو
وقال أبو عمرو وعمر هلال بن أسعر عمرا طويلا ومات بعد بلايا عظام مرت على رأسه
قال وكان رجل من قومه من بني رزام بن مالك يقال له المغيرة بن قنبر يعوله ويفضل عليه ويحتمل ثقله وثقل عياله فهلك فقال هلال يرثيه
( ألا ليت المُغِيرةَ كان حيّاً ... وأَفْنَى قبلَه الناسَ الفَنَاءُ )
( لَيَبْكِ على المُغِيرة كلُّ خيلٍ ... إذا أَفْنَى عَرَائكَها اللِّقاءُ )
( ويَبْكِ على المغيرة كُلُّ كَلٍّ ... فَقِيرٍ كان يَنْعَشُه العَطَاءُ )
( ويَبْكِ على المغيرة كلُّ جيشٍ ... تَمورُ لدى مَعَارِكه الدِّمَاءُ )
( فتى الفتيانِ فارسُ كلِّ حربٍ ... إذا شالتْ وقد رُفِع اللِّواءُ )

( لقد وارَى جديدُ الأرضِ منه ... خِصَالاً عَقْدُ عِصْمتِها الوفاءُ )
( فصبراً للنوائب إن ألَمَّتْ ... إذا ما ضاق بالحَدَثِ الفضاء )
( هِزبَرٌ تَنْجلي الغَمْراتُ عنه ... نقيّ العِرْضِ همّتُه العَلاَءُ )
( إذا شهِد الكَرِيهَةَ خَاض منها ... بحُوراً لا تكدّرُها الدِّلاءُ )
( جَسُورٌ لا يروَّع عند رَوْعٍ ... ولا يَثْنِي عزيمتَه اتِّقاءُ )
( حَلِيمٌ في مَشَاهده إذا ما ... حُبَا الحُلَماءِ أطلقها المِرَاءُ )
( حَميدٌ في عشيرتِه فَقيدٌ ... يَطيب عَليه في الملأ الثناءُ )
( فإن تكن المنيةُ أَقْصدتْه ... وحُمَّ عليه بالتلف القَضَاءُ )
( فقد أَوْدَى به كرمٌ وخِيرٌ ... وعَوْدٌ بالفضائل وابتداءُ )
( وجودٌ لا يَضُمّ إليه جوداً ... مُرَاهِنُه إذا جَدّ الجِرَاءُ )

أخبار عن قوته وصلابته
وقال خالد بن كلثوم كان هلال بن الأسعر فيما ذكروا يرد مع الإبل فيأكل ما وجد عند أهله ثم يرجع إليها ولا يتزود طعاما ولا شرابا حتى يرجع يوم ورودها لا

يذوق فيما بين ذلك طعاما ولا شرابا وكان عادي الخلق لا توصف صفته قال خالد بن كلثوم فحدثنا عنه من أدركه أنه كان يوما في إبل له وذلك عند الظهيرة في يوم شديد وقع الشمس محتدم الهاجرة وقد عمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحت كسائه من الشمس فبينا هو كذلك إذ مر به رجلان أحدهما من بني نهشل والآخر من بني فقيم كانا أشد تميميين في ذلك الزمان بطشا يقال لأحدهما الهياج وقد أقبلا من البحرين ومعهما أنواط من تمر هجر وكان هلال بناحية الصعاب فلما انتهيا إلى الإبل ولا يعرفان هلالا بوجهه ولا يعرفان أن الإبل له ناديا يا راعي أعندك شراب تسقينا وهما يظنانه عبدا لبعضهم فناداهما هلال ورأسه تحت كسائه عليكما الناقة التي صفتها كذا في موضع كذا فأنيخاها فإن عليها وطبين من لبن فاشربا منهما ما بدا لكما
قال فقال له أحدهما ويحك انهض يا غلام فأت بذلك اللبن فقال لهما إن تك لكما حاجة فستأتيانها فتجدان الوطبين فتشربان قال فقال أحدهما إنك يابن اللخناء لغليظ الكلام قم فاسقنا ثم دنا من هلال وهو على تلك الحال
وقال لهما حيث قال له أحدهما إنك يابن اللخناء لغيظ الكلام أراكما والله ستلقيان هوانا وصغارا وسمعا ذلك منه فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسوط على عجزه وهو مضطجع فتناول هلال يده فاجتذبه إليه ورماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة فنادى صاحبه ويحك أغثني قد قتلني فدنا صاحبه منه فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى تحت فخذه الأخرى ثم أخذ برقابهما فجعل يصك برؤوسهما

بعضا ببعض لا يستطيعان أن يمتنعا منه فقال أحدهما كن هلالا ولا نبالي ما صنعت فقال لهما أنا والله هلال ولا والله لا تفلتان مني حتى تعطياني عهدا وميثاقا لا تخيسان به لتأتيان المربد إذا قدمتا البصرة ثم لتناديان بأعلى أصواتكما بما كان مني ومنكما فعاهداه وأعطياه نوطا من التمر الذي معهما وقدما البصرة فأتيا المربد فناديا بما كان منه ومنهما
وحدث خالد عن كنيف بن عبد الله المازني قال كنت يوما مع هلال ونحن نبغي إبلا لنا فدفعنا إلى قوم من بكر بن وائل وقد لغبنا وعطشنا وإذا نحن بفتية شباب عند ركية لهم وقد وردت إبلهم فلما رأوا هلالا استهولوا خلقه وقامته فقام رجلان منهم إليه فقال له أحدهما يا عبد الله هل لك في الصراع فقال له هلال أنا إلى غير ذلك أحوج قال وما هو قال إلى لبن وماء فإنني لغب ظمآن قال ما أنت بذائق من ذلك شيئا حتى تعطينا عهدا لتجيبننا إلى الصراع إذا أرحت ورويت فقال لهما هلال إنني لكم ضيف والضيف لا يصارع آهله رب منزله وأنتم مكتفون من ذلك بما أقول لكم اعمدوا إلى أشد فحل في إبلكم وأهيبه صولة وإلى أشد رجل منكم ذراعا فإن لم أقبض على هامة البعير وعلى يد صاحبكم فلا يمتنع الرجل ولا البعير حتى أدخل يد الرجل في فم البعير فإن لم أفعل ذلك فقد صرعتموني وإن فعلته علمتم أن صراع أحدكم أيسر من ذلك قال فعجبوا من مقالته تلك وأومؤوا إلى فحل في إبلهم هائج صائل قطم فأتاه هلال ومعه نفر من أولئك القوم وشيخ لهم فأخذ بهامة الفحل مما

فوق مشفره فضغطها ضغطة جرجر الفحل منها واستخذى ورغا وقال ليعطني من أحببتم يده أولجها في فم هذا الفحل
قال فقال الشيخ يا قوم تنكبوا هذا الشيطان فوالله ما سمعت فلانا يعني الفحل جرجر منذ بزل قبل اليوم فلا تعرضوا لهذا الشيطان
وجعلوا يتبعونه وينظرون إلى خطوه ويعجبون من طول أعضائه حتى جازهم
قال وحدثنا من سمع هلالا يقول قدمت المدينة وعليها رجل من آل مروان فلم أزل أضع عن إبلي وعليها أحمال للتجار حتى أخذ بيدي وقيل لي أجب الأمير قال قلت لهم ويلكم إبلي وأحمالي فقيل لا بأس على إبلك وأحمالك قال فانطلق بي حتى أدخلت على الأمير فسلمت عليه ثم قلت جعلت فداك بلى وأمانتي قال فقال نحن ضامنون لإبلك وأمانتك حتى نؤديها إليك قال فقلت عند ذلك فما حاجة الأمير إلي جعلني الله فداه قال فقال لي وإلى جنبه رجل أصفر لا والله ما رأيت رجلا قط أشد خلقا منه ولا أغلظ عنقا وما أدري أطوله أكثر أم عرضه إن هذا العبد الذي تراه لا والله ما ترك بالمدينة عربيا يصارع إلا صرعه وبلغني عنك قوة فأردت أن يجري الله صرع هذا العبد على يديك فتدرك ما عنده من أوتار العرب
قال فقلت جعلني الله فداء الأمير إني لغب نصب جائع فإن رأى الأمير أن يدعني اليوم حتى أضع عن إبلي وأؤدي أمانتي وأريح يومي هذا وأجيئه غدا فليفعل
قال فقال لأعوانه انطلقوا معه فأعينوه على الوضع عن إبله وأداء أمانته وانطلقوا به إلى المطبخ فأشبعوه ففعلوا جميع ما أمرهم به
قال فظللت بقية يومي ذلك وبت ليلتي تلك بأحسن حال شبعا وراحة

وصلاح أمر فلما كان من الغد غدوت عليه وعلي جبة لي صوف وبت وليس علي إزار إلا أني قد شددت بعمامتي وسطي فسلمت عليه فرد علي السلام وقال للأصفر قم إليه فقد أرى أنه أتاك الله بما يجزيك فقال العبد اتزر يا أعرابي فأخذت بتي فاتزرت به على جبتي فقال هيهات هذا لا يثبت إذا قبضت عليه جاء في يدي قال فقلت والله ما لي من إزار قال فدعا الأمير بملحفة ما رأيت قبلها ولا علا جلدي مثلها فشددت بها على حقوي وخلعت الجبة قال وجعل العبد يدور حولي ويريد ختلي وأنا منه وجل ولا أدري كيف أصنع به ثم دنا مني دنوة فنقد جبهتي نقدة حتى ظننت أنه قد شجني وأوجعني فغاظني ذلك فجعلت أنظر في خلقه ثم أقبض منه فما وجدت في خلقه شيئا أصغر من رأسه فوضعت إبهامي في صدغيه وأصابعي الأخر في أصل أذنيه
ثم غمزته غمزة صاح منها قتلني قتلني فقال الأمير اغمس رأس العبد في التراب
قال فقلت له ذلك لك علي قال فغمست والله رأسه في التراب ووقع شبيها بالمغشي عليه فضحك الأمير حتى استلقى وأمر لي بجائزة وكسوة وانصرفت

فرار هلال إلى اليمن
قال أبو الفرج ولهلال أحاديث كثيرة من أعاجيب شدته وقد ذكره حاجب بن ذبيان فقال قوم من بني رباب من بني حنيفة في شيء كان بينهم فيه أربع ضربات بالسيف فقال حاجب
( وقائلةٍ وباكية بشَجْوٍ ... لَبئس السيفُ سيفُ بني رِباب )
( ولو لاقَى هلالَ بني رِزَام ... لعجّله إلى يوم الحساب )

وكان هلال بن الأسعر ضربه رجل من بني عنزة ثم من بني جلان يقال له عبيد ابن جري في شيء كان بينهما فشجه وخمشه خماشة فأتى هلال بني جلان فقال إن صاحبكم قد فعل بي ما ترون فخذوا لي بحقي فأوعدوه وزجروه فخرج من عندهم وهو يقول عسى أن يكون لهذا جزاء حتى أتى بلاد قومه فمضى لذلك زمن طويل حتى درس ذكره ثم إن عبيد بن جري قدم الوقبى وهو موضع من بلاد بني مالك فلما قدمها ذكر هلالا وما كان بينه وبينه فتخوفه فسأل من أعز أهل الماء فقيل له معاذ بن جعدة بن ثابت بن زرارة بن ربيعة بن سيار بن رزام بن مازن فأتاه فوجده غائبا عن الماء فعقد عبيد بن جري طرف ثيابه إلى جانب طنب بيت معاذ وكانت العرب إذا فعلت ذلك وجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجيره وأن يطلب له بظلامته وكان يوم فعل ذلك غائبا عن الماء فقيل رجل استجار بآل معاذ بن جعدة ثم خرج عبيد بن جري ليستقي فوافق قدوم هلال بإبله يوم وروده وكان إنما يقدمها في الأيام فلما نظر هلال إلى ابن جري ذكر ما كان بينه وبينه ولم يعلم باستجارته بمعاذ بن جعدة فطلب شيئا يضربه به فلم يجده فانتزع المحور من السانية فعلاه به ضربة على رأسه فصرع وقيذا وقيل قتل هلال بن الأسعر جار معاذ بن جعدة فلما سمع ذلك هلال تخوف بني جعدة الرزاميين وهم بنو عمه فأتى راحلته ليركبها قال هلال فأتتني خولة بنت يزيد بن ثابت أخي بني جعدة بن ثابت وهي جدة أبي السفاح زهيد بن عبد الله بن مالك أم أبيه فتعلقت بثوب هلال ثم قالت أي عدو الله قتلت جارنا والله لا تفارقني حتى يأتيك رجالنا قال هلال والمحور في يدي لم أضعه قال فهممت أن أعلوا به رأس خولة ثم قلت في نفسي عجوز لها سن وقرابة قال فضربتها برجلي ضربة رميت بها من بعيد ثم أتيت

ناقتي فأركبها ثم أضربها هاربا وجاء معاذ بن جعدة وإخوته وهم يومئذ تسعة إخوة وعبد الله بن مالك زوج لبنت معاذ ويقال لها جبيلة وهو مع ذلك ابن عمتهم خولة بنت يزيد بن ثابت فهو معهم كأنه بعضهم فجاءوا من آخر النهار فسمعوا الواعية على الجلاني وهو دنف لم يمت فسألوا عن تلك الواعية فأخبروا بما كان من استجارة الجلاني بمعاذ بن جعدة وضرب هلال له من بعد ذلك فركب الأخوة التسعة وعبد الله بن مالك عاشرهم وكانوا أمثال الجبال في شدة خلقهم مع نجدتهم وركبوا معهم بعشرة غلمة لهم أشد منهم خلقا لا يقع لأحد منهم سهم في غير موضع يريده من رميته حتى تبعوا هلالا وقد نسل هلال من الهرب يومه ذلك كله وليلته فلما أصبح أمنهم وظن أن قد أبعد في الأرض ونجا منهم وتبعوه فلما أصبحوا من تلك الليلة قصوا أثره وكان لا يخفى أثره على أحد لعظم قدمه فلحقوه من بعد الغد فلما أدركوه وهم عشرون ومعهم النبل والقسي والسيوف والترسة ناداهم يا بني جعدة إني أنشدكم الله أن أكون قتلت رجلا غريبا طلبته بترة تقتلوني وأنا ابن عمكم وظن أن الجلاني قد مات ولم يكن مات إلى أن تبعوه وأخذوه فقال معاذ والله لو أيقنا أنه قد مات ما ناظرنا بك القتل من ساعتنا ولكنا تركناه ولم يمت ولسنا نحب قتلك إلا أن تمتنع منا ولا نقدم عليك حتى نعلم ما يصنع جارنا فقاتلهم وامتنع منهم فجعل معاذ يقول لأصحابه وغلمانه لا ترموه بالنبل ولا تضربوه بالسيوف ولكن ارموه بالحجارة واضربوه بالعصي حتى تأخذوه ففعلوا ذلك فما قدروا على أخذه حتى كسروا من إحدى يديه ثلاث أصابع ومن الأخرى إصبعين ودقوا ضلعين من أضلاعه وأكثروا الشجاج في رأسه ثم أخذوه وما كادوا يقدرون على أخذه فوضعوا في رجله

أدهم ثم جاءوا به وهو معروض على بعير حتى انتهوا به إلى الوقبى فدفعوه إلى الجلاني ولم يمت بعد فقالوا انطلقوا به معكم إلى بلادكم ولا تحدثوا في أمره شيئا حتى تنظروا ما يصنع بصاحبكم فإن مات فاقتلوه وإن حيي فأعلمونا حتى نحمل لكم أرش الجناية فقال الجلانيون وفت ذمتكم يا بني جعدة وجزاكم الله أفضل ما يجزي به خيار الجيران إنا نتخوف أن ينزعه منا قومكم إن خليتم عنا وعنهم وهو في أيدينا فقال لهم معاذ فإني أحمله معكم وأشيعكم حتى تردوا بلادكم ففعلوا ذلك فحمل معروضا على بعير وركبت أخته جماء بنت الأسعر معه وجعل يقول قتلتني بنو جعدة وتأتيه أخته بمغرة فيشربها فيقال يمشي بالدم لأن بني جعدة فرثوا كبده في جوفه
فلما بلغوا أدنى بلاد بكر بن وائل قال الجلانيون لمعاذ وأصحابه أدام الله عزكم وقد وفيتم فانصرفوا وجعل هلال يريهم أنه يمشي في الليلة عشرين مرة فلما ثقل الجلاني وتخوف هلال أن يموت من ليلته أو يصبح ميتا تبرز هلال كما كان يصنع وفي رجله الأدهم كأنه يقضي حاجة ووضع كساءه على عصاه في ليلة ظلماء ثم اعتمد على الأدهم فحطمه ثم طار تحت ليلته على رجليه وكان أدل الناس فتنكب الطريق التي تعرف ويطلب فيها وجعل يسلك المسالك التي لا يطمع فيها حتى انتهى إلى رجل من بني أثاثة بن مازن يقال له السعر بن يزيد بن طلق بن جبيلة بن أثاثة بن مازن فحمله السعر على ناقة له يقال لها ملوة فركبها ثم تجنب بها الطريق فأخذ نحو بلاد قيس بن عيلان تخوفا من بني مازن أن يتبعوه أيضا فيأخذوه فسار ثلاث

ليال وأيامها حتى نزل اليوم الرابع فنحر الناقة فأكل لحمها كله إلا فضلة فضلت منها فاحتملها ثم أتى بلاد اليمن فوقع بها فلبث زمانا وذلك عند مقام الحجاج بالعراق فبلغ إفلاته من بالبصرة من بكر بن وائل
فانطلقوا إلى الحجاج فاستعدوه وأخبروه بقتله صاحبهم فبعث الحجاج إلى عبد الله بن شعبة بن العلقم وهو يومئذ عريف بني مازن حاضرتهم وباديتهم فقال له لتأتيني بهلال أو لأفعلن بك ولأفعلن فقال له عبد الله بن شعبة إن أصحاب هلال وبني عمه قد صنعوا كذا وكذا فاقتص عليه ما صنعوا في طلبه وأخذه ودفعه إلى الجلانيين وتشييعهم إياه حتى وردوا بلاد بكر بن وائل فقال له الحجاج ويلك ما تقول قال فقال بعض البكريين صدق أصلح الله الأمير قال فقال الحجاج فلا يرغم الله إلا أنوفكم اشهدوا أني قد آمنت كل قريب لهلال وحميم وعريف ومنعت من أخذ أحد به ومن طلبه حتى يظفر به البكريون أو يموت قبل ذلك فلما وقع هلال إلى بلاد اليمن بعث إلى بني رزام بن مازن بشعر يعاتبهم فيه ويعظم عليهم حقه ويذكر قرابته وذلك أن سائر بني مازن قاموا ليحملوا ذلك الدم فقال معاذ لا أرضى والله أن يحمل لجاري دم واحد حتى يحمل له دم ولجواري دم آخر وإن أراد هلال الأمان وسطنا حمل له دم ثالث فقال هلال في ذلك
( بَني مازنٍ لا تطرُدوني فإِنّني ... أخوكم وإِن جَرَّتْ جَرائرَها يدِي )

( ولا تُثلِجوا أكبادَ بكر بن وائلٍ ... بترك أخيكم كالخليعِ المُطرَّدِ )
( ولا تجعلوا حِفظي بظَهرٍ وتحفَظوا ... بعيداَ ببغضاء يروح ويغتدِي )
( فإِنّ القريب حيثُ كان قريبُكم ... وكيفَ بقطع الكَفّ من سائر اليدِ )
( وإِن البعيد إن دنا فهو جاركم ... وإِن شطّ عنكم فهو أبعدُ أبعدِ )
( وإِنّي وإِن أوجدتموني لحافظ ... لكم حفظَ راض عنكُم غير مُوجَدِ )
( سيَحْمِي حِمَاكم بي وإِن كنتُ غائباً ... أغرُّ إذا ما رِيع لم يتبلَّدِ )
( وتَعلم بكر أنّكم حيثُ كنتُم ... وكنتُ من الأرض الغريبة محتدِي )
( وأنّي ثقيلٌ حيثُ كنتُ على العِدا ... وأنّي وإِن أُوحِدتُ لستُ بأوحدِ )
( وأنهمُ لمّا أرادوا هَضِيمتي ... مُنُوا بجميع القلب عَضبٍ مُهنَّدِ )
( حُسامٍ متى يعزِمْ على الأمر يأتِه ... ولم يتوقَّف للعواقبِ في غدِ )
( وهم بدؤوا بالبَغْي حتّى إذا جُزوا ... بأفعالهم قالوا لجازيهُم قَدِ )
( فلم يَكُ منهم في البديهة مُنصِفٌ ... ولم يك فيهم في العواقب مُهتدِي )
( ولم يَفعلوا فعلَ الحليم فيٌجْمِلوا ... ولم يفعَلوا فعلَ العزيز المؤيَّد )
( فإِن يَسْرِ لي إيعادُ بَكْرٍ فربّما ... مَنَعتُ الكَرَى بالغيظ من مُتوعِّدِ )
( ورُبّ حِمَى قوم أبحتُ ومورِدٍ ... ورَدتُ بفتيان الصباح وموردِ )
( وسجْفٍ دَجُوجيٍّ من الليل حالكٍ ... رفعتُ بعَجْلى الرِّجل مَوارة اليدِ )
( سفينة خَوّاضٍ بحُورَ هُمومِه ... قليلِ التياث العزم عند التردّدِ )

( جَسور على الأمر المَهيب إذا ونَى ... أخو الفَتْك ركّابٍ قَرى المتهدِّدِ )
وقال وهو بأرض اليمن
( أقول وقد جاوزتُ نُعْمَى وناقتي ... تَحِنُّ إلى جَنْبي فُليج مع الفَجْرِ )
( سقى الله يا ناقَ البلادَ التي بها ... هواكِ وإِن عنّا نأتْ سبَل القَطرِ )
( فما عن قِلىً منّا لها خَفّتِ النّوى ... بنا عن مَراعِيها وكُثْبانِها العُفْرِ )
( ولكنّ صرفَ الدّهر فرّق بيننا ... وبين الأداني والفَتى غَرضُ الدهرِ )
( فسَقْياً لصحراء الإهالة مَرْبَعاً ... وللوَقبى من مَنزلٍ دَمِثٍ مُثْرِي )
( وسَقْياً ورَعْيا حيث حَلّتْ لمازِنٍ ... وأيّامِها الغُرّ المِجّلة الزُّهْرِ )
قال خالد بن كلثوم ولما دفع هلال إلى أولياء الجلاني ليقتلوه بصاحبهم جاء رجل يقال له حفيد كان هلال قد وتره فقال والله لأؤنبنه ولأصغرن إليه نفسه وهو في القيود مصبور للقتل فأتاه فلم يدع له شيئا مما يكره إلا عده عليه
قال وإلى جنب هلال حجر يملأ الكف فأخذه هلال فأهوى به للرجل فأصاب جبينه فاجتلف جلفة من وجهه ورأسه ثم رمى بها وقال خذ القصاص مني الآن وأنشأ يقول
( أنا ضرَبتُ كَرِباً وزَيْدَاً ... وثابِتاً مَشَّيتُهم رُوَيْدَا )
( كما أفدتُ حَيْنَه عُبَيدَا ... وقد ضربتُ بعده حُفيدَا )

قال وهؤلاء كلهم من بني رزام بن مازن وكلهم كان هلال قد نكأ فيهم

هلال يمدح الديسم لأنه أدى عنه الدية
قال خالد بن كلثوم ولما طال مقام هلال باليمن نهضت بنو مازن بأجمعهم إلى بني رزام بن مازن رهط هلال ورهط معاذ بن جعدة جار الجلاني المقتول فقالوا إنكم قد أسأتم بابن عمكم وجزتم الحد في الطلب بدم جاركم فنحن نحمل لكم ما أردتم فحمل ديسم بن المنهال بن خزيمة بن شهاب بن أثاثة بن ضباب بن حجية بن كابية بن حرقوص بن مازن الذي طلب معاذ بن جعدة أن يحمل لجاره لفضل عزه وموضعه في عشيرته وكان الذي طلب ثلثمائة بعير فقال هلال في ذلك
( إن ابن كابِيةَ المَرزَّأَ دَيْسماً ... وَارِي الزنادِ بعيدُ ضوءِ النارِ )
( من كان يحملُ ما تحمّلَ ديسمٌ ... من حائلٍ فُنُقٍ وأمِّ حُوَارِ )
( عَيَّتْ بنو عمرو بحمل هنائدٍ ... فيها العِشارُ ملاَبيُء الأبكار )
( حتى تَلاَفاها كريمٌ سابقٌ ... بالخير حلّ منازلَ الأخيارِ )
( حتى إذا وردتْ جميعاً أًرْزَمتْ ... جَلاَّنَ بعد تَشَمُّس ونِفَارِ )
( تَرعَى بصحراءِ الإِهالَة رُوبَةً ... والعُنظُوَانَ مَنَابِتَ الجَرجَارِ )

وقال خالد بن كثلوم كان قيمر بن سعد مصدقا على بكر بن وائل فوجد منهم رجلا قد سرق صدقته فأخذه قمير ليحبسه فوثب قومه وأرادوا أن يحولوا بين قمير وبينه وهلال حاضر فلما رأى ذلك هلال وثب على البكريين فجعل يأخذ الرجلين منهم فيكنفهما ويناطح بين رؤوسهما فانتهى إلى قمير أعوانه فقهروا البكريين فقال هلال في ذلك
( دعاني قُمَيرٌ دَعْوةً فأجبتُه ... فأيُّ امريٍء في الحرب حين دَعانِي )
( معي مِخْذَمٌ قد أخلصَ القَيْنُ حَدَّه ... يُخَفِّضُ عند الرَّوْعِ رَوْعَ جَنَانِي )
( وما زِلتُ مذ شَدَّتْ يمينيَ حُجْزتي ... أُحَارِبُ أو فِي ظِلّ حربٍ تَرَانِي )

حبسه ثم الإفراج عنه بعد افتدائه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا حكيم بن سعد عن زفر بن هبيرة قال
تقاوم هلال بن أسعر المازني وهو أحد بني رزام بن مازن ونييس الجلاني من عنزة وهما يسقيان إبلهما فحذف هلال نهيسا بمحور في يده فأصابه فمات فاستعدى ولده بلال بن أبي بردة على هلال فحبسه فأسلمه قومه بنو رزام وعمل في أمره ديسم ابن المنهال أحد بني كابية بن حرقوص فافتكه بثلاث ديات فقال هلال يمدحه
( تداركَ دَيْسمٌ حسَباً ومجداً ... رِزَاماً بعد ما انشقَّتْ عَصَاها )
( همو حَملوا المئِينَ فألحقُوها ... بأهليها فكان لهم سَنَاها )

( وما كانت لتحمِلَها رِزامٌ ... بأَسْتَاهٍ مُعَقّصَة لِحَاها )
( بكابيةَ بنِ حُرقُوصٍ وجدٍّ ... كريمٍ لا فتَى إلا فَتَاها )

نهم هلال وكثرة أكله
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري
قالا حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثني نصر بن علي الجهضمي قال حدثنا الأصمعي وأخبرني أبو عبيد محمد بن أحمد بن المؤمل الصيرفي قال حدثنا فضل بن الحسن قال حدثنا نصر بن علي عن الأصمعي قال حدثنا المعتمر بن سليمان قال
قلت لهلال بن أسعر ما أكلة أكلتها بلغتني عنك قال جعت مرة ومعي بعيري فنحرته وأكلته إلا ما حملت منه على ظهري قال أبو عبيد في حديثه عن فضل ثم أردت امرأتي فلم أقدر على جماعها فقالت لي ويحك كيف تصل إلي وبيني وبينك بعير قال المعتمر فقلت له كم تكفيك هذه الأكلة قال أربعة أيام
وحدثني به ابن عمار قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن معاوية عن الأصمعي عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال قلت لهلال بن الأسعر هكذا قال ابن أبي سعد معتمر عن أبيه وقال في خبره فقلت له كم تكفيك هذه الأكلة فقال خمسا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا نصر بن علي قال حدثني الأصمعي قال حدثني شيخ من بني مازن قال
أتانا هلال بن أسعر المازني فأكل جميع ما في بيتنا فبعثنا إلى الجيران

نقترض الخبز فلما رأى الخبز قد اختلف عليه قال كأنكم أرسلتم إلى الجيران أعندكم سويق قلنا نعم فجئته بجراب طويل فيه سويق وببرنية نبيذ فصب السويق كله وصب عليه النبيذ حتى أتى على السويق والنبيذ كله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني
أن هلال بن أسعر مر على رجل من بني مازن بالبصرة وقد حمل من بستانه رطبا في زواريق فجلس على زورق صغير منها وقد كثب الرطب فيه وغطي بالبواري قال له يابن عم آكل من رطبك هذا قال نعم قال ما يكفيني قال ما يكفيك فجلس على صدر الزورق وجعل يأكل إلى أن اكتفى ثم قام فانصرف فكشف الزورق فإذا هو مملؤ نوى قد أكل رطبه وألقى النوى فيه
قال المدائني وحدثني من سأله عن أعجب شيء أكله فقال مائتي رغيف مع مكوك ملح
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن علي بن منصور الأهوازي وكان كهلا سريا معدلا قال حدثني شبان النيلي عن صدقة بن عبيد المازني قال

أولم علي أبي لما تزوجت فعملنا عشر جفان ثريدا من جزور
فكان أول من جاءنا هلال بن أسعر المازني فقدمنا إليه جفنة فأكلها ثم أخرى ثم أخرى حتى أتى على العشر ثم استسقى فأتي بقربة من نبيذ فوضع طرفها في شدقه ففرغها في جوفه ثم قام فخرج فاستأنفنا عمل الطعام

هلال أطول الناس قامة
أخبرني الجوهري قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا نصر بن علي عن الأصمعي قال حدثني أبو عمرو بن العلاء قال رأيت هلال بن أسعر ميتا ولم أره حيا فما رأيت أحدا على سرير أطول منه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني بعض حاشية السلطان قال
غنى إبراهيم الموصلي الرشيد يوما
( يا ربعَ سَلْمَى لقد هيّجتَ لي طربَا ... زِدتَ الفؤاد على علاَّته وَصَبَا )
قال والصنعة فيه لرجل من أهل الكوفة يقال له عزون فأعجب به الرشيد وطرب له واستعاده مرارا فقال له الموصلي يا أمير المؤمنين فكيف لو سمعته من عبدك مخارق فإنه أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعا ويفضلني فأمر بإحضار مخارق فأحضر فقال له غنني
( يا ربعَ سلمى لقد هيّجتَ لي طربا ... زدت الفؤاد على عِلاّته وصبا )

فغناه إياه فبكى وقال سل حاجتك قال مخارق فقلت تعتقني يا أمير المؤمنين من الرق وتشرفني بولائك أعتقك الله من النار قال أنت حر لوجه الله أعد الصوت قال فأعدته فبكى وقال سل حاجتك فقلت يا أمير المؤمنين ضيعة تقيمني غلتها فقال قد أمرت لك بها أعد الصوت فأعدته فبكى وقال سل حاجتك فقلت يأمر لي أمير المؤمنين بمنزل وفرشه وما يصلحه وخادم فيه قال ذلك لك أعده فأعدته فبكى وقال سل حاجتك قلت حاجتي يا أمير المؤمنين أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك ويجعلني من كل سوء فداءك قال فكان إبراهيم الموصلي سبب عتقه بهذا الصوت
أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق وحدثني به الصولي أيضا عن وكيع عن هارون بن مخارق قال
كان أبي إذا غنى هذا الصوت
( يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا ... زدت الفؤاد على عِلاّته وصبا )
يقول أنا مولى هذا الصوت فقلت له يوما يا أبت وكيف ذلك فقال غنيته مولاي الرشيد فبكى وقال أحسنت أعد فأعدت فبكى وقال أحسنت أنت حر لوجه الله وأمر لي بخمسة آلاف دينار فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي وذكر قريبا مما ذكره المبرد من باقي الخبر
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثني إسحاق النخعي عن حسين بن الضحاك عن مخارق

أن الرشيد أقبل يوما على المغنين وهو مضطجع فقال من منكم يغني
( يا ربعَ سلمى لقد هيّجتَ لي طربا ... زدتَ الفؤاد على عِلاّته وصبا )
قال فقمت فقلت أنا فقال هاته فغنيته فطرب وشرب ثم قال علي بهرثمة فقلت في نفسي ما تراه يريد منه فجاؤوا بهرثمة فأدخل إليه وهو يجر سيفه فقال يا هرثمة مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته فقال أبو المهنا فقال انصرف فانصرف ثم أقبل علي فقال قد كنيتك أبا المهنا لإحسانك وأمر لي بمائة ألف درهم فانصرفت بها وبالكنية

صوت من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه
( وخِلٍّ كنتُ عينَ الرُّشْد منه ... إذا نظرتْ ومستمِعاً سَمِيعَا )
( أطاف بِغَيِّه فعدلتُ عنه ... وقلت له أَرَى أمراً فظيعَا )
الشعر لعروة بن الورد والغناء في اللحن المختار لسياط ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة
وفيه لإبراهيم ماخوري بالوسطى عن عمرو أيضا

أخبار عروة بن الورد ونسبه
عروة بن الورد بن زيد وقيل ابن عمرو بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن هريم بن لديم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانها وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد
وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى وقيل بل لقب عروة الصعاليك لقوله
( لَحى اللُّه صُعلوكاً إذا جَنّ ليلُه ... مُصَافِي المُشَاشِ آلِفاً كلَّ مَجزرِ )
( يَعُدُّ الغنِى مِن دهره كلَّ ليلةٍ ... أصابَ قِرَاها من صَديقٍ مُيَسَّرِ )
( وللَّه صُعلوكُ صفيحةُ وجهِه ... كضوءِ شهابِ القابِس المتنوِّر )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن معاوية قال
لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني

العمري عن الهيثم بن عدي وحدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالا جميعا
قال عبد الملك بن مروان ما يسرني أن أحدا من العرب ولدني ممن لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله
( إِنِّي امرؤٌ عافِي إِنائيَ شِرْكَةٌ ... وأَنت امرؤٌ عافي إِنائِك واحدُ )
( أتهزأ منِّي أن سمِنْتَ وأن تَرَى ... بجسميَ مَسَّ الحقّ والحقُّ جاهِدُ )
( أُفرِّق جِسْمِي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأَحْسُو قَراحَ الماءِ والماءُ باردُ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال
بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للحطيئة كيف كنتم في حربكم قال كنا ألف حازم قال وكيف قال كان فينا قيس بن زهير وكان حازما وكنا لا نعصيه وكنا نقدم إقدام عنترة ونأتم بشعر عروة بن الورد وننقاد لأمر الربيع بن زياد

عبد الملك يقول عروة أسمح الناس
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال
ويقال إن عبد الملك قال من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة ابن الورد
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا معن بن عيسى قال

سمعت أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال لمعلم ولده لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها
( دَعِيني للغِنَى أَسْعَى فإِنِّي ... رأيتُ الناسَ شرُّهمُ الفقيرُ )
ويقول إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم

خبر عروة مع سبيته سلمى
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبد العزيز بن عمران الزهري عن عامر بن جابر قال
أغار عروة بن الورد على مزينة فأصاب منهم امرأة من كنانة ناكحا فاستاقها ورجع وهو يقول
( تَبَغَّ عَدِيّاً حيث حَلّتْ ديَارَها ... وأبناءَ عَوْفٍ في القُرُونِ الأوائِل )
( فَإِلاّ أَنَلْ أَوْساً فإِنّيَ حَسْبُها ... بِمُنْبطِح الأدغال من ذي السلائِل )
ثم أقبل سائرا حتى نزل ببني النضير فلما رأوها أعجبتهم فسقوه الخمر ثم استوهبوها منه فوهبها لهم وكان لا يمس النساء فلما أصبح وصحا ندم فقال
( سَقَوْنِي الخمرَ ثم تكنّفوني ... )
الأبيات قال وجلاها النبي مع من جلا من بني النضير
سلمى تثني عليه بعد رفضها العودة معه
وذكر أبو عمرو الشيباني من خبر عروة بن الورد وسلمى هذه أنه أصاب امرأة

من بني كنانة بكرا يقال لها سلمى وتكنى أم وهب فأعتقها واتخذها لنفسه فمكثت عنده بضع عشرة سنة وولدت له أولادا وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه وهي تقول له لو حججت بي فأمر على أهلي وأراهم فحج بها فأتى مكة ثم أتى المدينة وكان يخالط من أهل يثرب بني النضير فيقرضونه إن احتاج ويبايعهم إذا غنم وكان قومها يخالطون بني النضير فأتوهم وهو عندهم فقالت لهم سلمى إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام فتعالوا إليه وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبية وافتدوني منه فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحدا فأتوه فسقوه الشراب فلما ثمل قالوا له فادنا بصاحبتنا فإنها وسطة النسب فينا معروفة وإن علينا سبة أن تكون سبية فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك فقال لهم ذاك لكم ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها وإن اختارتكم انطلقتم بها قالوا ذاك لك قال دعوني أله بها الليلة وأفادها غدا فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها فقالوا له قد فاديتنا به منذ البارحة وشهد عليه بذلك جماعة ممن حضر فلم يقدر على الامتناع وفاداها فلما فادوه بها خيروها فاختارت أهلها ثم أقبلت عليه فقالت يا عروة أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك وأغض طرفا وأقل فحشا وأجود يدا وأحمى لحقيقة وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته ووالله لا أنظر في وجه

غطفانية أبدا فارجع راشدا إلى ولدك وأحسن إليهم فقال عروة في ذلك
( سقَوْنِي الخمرَ ثم تكنّفوني ... )
وأولها
( أرِقتُ وصُحْبتِي بمضيقِ عَمْقٍ ... لبرقٍ من تِهَامةَ مُستَطِيرِ )
( سَقَى سَلْمَى وأين ديارُ سلْمَى ... إذا كانت مُجاوِرةَ السَّريرِ )
( إذا حَلَّتْ بأرض بني عليّ ... وأهلي بين إمَّرَةٍ وكيرِ )
( ذكرتُ منازلاً من أمّ وهبٍ ... محلَّ الحيِّ أسفلَ من نَقِيرِ )
( وأحْدَثُ معهدٍ من أمّ وهبٍ ... مُعرَّسُنا بدار بني النَّضِيرِ )
( وقالوا ما تشاءُ فقلتُ أَلْهُو ... إلى الإِصباح آثِرَ ذِي أَثِيرِ )
( بآنِسَةِ الحديثِ رُضَابُ فِيها ... بُعَيدَ النومِ كالعِنَبِ العَصِيرِ )
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابي بهذه الحكاية كما ذكر أبو عمرو وقال فيها إن قومها أغلوا بها الفداء وكان معه طلق وجبار أخوه وابن عمه فقالا له والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا وأنت على النساء قادر متى شئت وكان قد سكر فأجاب إلى فدائها فلما صحا ندم فشهدوا عليه بالفداء فلم يقدر على الامتناع
وجاءت سلمى تثني عليه فقالت والله إنك ما علمت لضحوك مقبلا كسوب مدبرا خفيف على متن الفرس ثقيل على العدو طويل

العماد كثير الرماد راضي الأهل والجانب فاستوص ببنيك خيرا ثم فارقته
فتزوجها رجل من بني عمها فقال لها يوما من الأيام يا سلمى أثني علي كما أثنيت على عروة وقد كان قولها فيه شهر فقالت له لا تكلفني ذلك فإني إن قلت الحق غضبت ولا واللات والعزى لا أكذب فقال عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين وخرج فجلس في ندي القوم وأقبلت فرماها القوم بأبصارهم فوقفت عليهم وقالت أنعموا صباحا إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم
ثم أقبلت عليه فقالت والله إن شملتك لالتحاف وإن شربك لاشتفاف وإنك لتنام ليلة تخاف وتشبع ليلة تضاف وما ترضي الأهل ولا الجانب ثم انصرفت
فلامه قومه وقالوا ما كان أغناك عن هذا القول منها

عروة يخرج صعاليك
أخبرني الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال حدثني أبو فقعس قال
كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف وكان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه أو ضعيف تثوب قوته خرج به معه فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا حتى إذا أخصب الناس وألبنوا

وذهبت السنة الحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى فلذلك سمي عروة الصعاليك فقال في ذلك بعض السنين وقد ضاقت حاله
( لعلّ ارتيادِي في البلاد وبُغيتي ... وشَدِّي حَيازِيمَ المطيَّةِ بالرَّحْلِ )
( سيدفَعُني يوماً إلى ربّ هَجْمَةٍ ... يُدَافِعُ عنها بالعُقُوقِ وبالبُخلِ )
فزعموا أن الله عز و جل قيض له وهو مع قوم من هلاك عشيرته في شتاء شديد ناقتين دهماوين فنحر لهم إحداهما وحمل متاعهم وضعفاءهم على الأخرى وجعل ينتقل بهم من مكان إلى مكان وكان بين النقرة والربذة فنزل بهم ما بينهما بموضع يقال له ماوان
ثم إن الله عز و جل قيض له رجلا صاحب مائة من الإبل قد فر بها من حقوق قومه وذلك أول ما ألبن الناس فقتله وأخذ إبله وامرأته وكانت من أحسن النساء فأتى بالإبل أصحاب الكنيف فحلبها وحملهم عليها حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يقسمها بينهم وأخذ مثل نصيب أحدهم فقالوا لا واللات والعزى لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها فجعل يهم بأن يحمل عليهم فيقتلهم وينتزع الإبل منهم ثم يذكر أنهم صنيعته وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان يصنع فأفكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله فأبوا ذلك عليه حتى انتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه فقال عروة في ذلك قصيدته التي أولها
( ألا إن أصحابَ الكَنِيف وجدتُهم ... كما الناس لمّا أمرَعُوا وتَموّلُوا )

( وإني لمدفُوعٌ إليّ وَلاَؤُهُم ... بماوَانَ إذ نَمْشِي وإذ نَتَمَلمَلُ )
( وإنِّي وإيّاهم كذِي الأمِّ أَرْهنَت ... له ماءَ عينيْها تُفدِّي وتَحمِلُ )
( فباتت بحدّ المِرْفَقيْن كِلَيْهما ... تُوَحوِحُ ممّا نالها وتُوَلْوِلُ )
( تُخَيَّرُ من أمرين ليسا بِغبطةٍ ... هو الثَّكل إلا أنّها قد تَجمَّلُ )

قوله في ليلى
وقال ابن الأعرابي في هذه الرواية أيضا كان عروة قد سبى امرأة من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها ليلى بنت شعواء فمكثت عنده زمانا وهي معجبة له تريه أنها تحبه ثم استزارته أهلها فحملها حتى أتاهم بها فلما أراد الرجوع أبت أن ترجع معه وتوعده قومها بالقتل فانصرف عنهم وأقبل عليها فقال لها يا ليلى خبري صواحبك عني كيف أنا فقالت ما أرى لك عقلا أتراني قد اخترت عليك وتقول خبري عني فقال في ذلك
( تَحِنّ إلى ليلى بجوّ بلادها ... وأنت عليها بالمَلاَ كنتَ أقدرا )
( وكيف تُرَجّيها وقد حِيلَ دونَها ... وقد جاوزتْ حيّاً بتَيْماء مُنْكَرا )
( لعلّك يوماً أن تُسرِّي ندامةً ... عليّ بما جشّمتَني يوم غَضْورا )
وهي طويلة قال ثم إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها أسماء فما لبثت عندهم إلا يوما حتى استنقذها قومها فبلغ عروة أن عامر بن الطفيل فخر بذلك وذكر أخذه إياها فقال عروة يعيرهم بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية

( إن تأخُذوا أسماء مَوقِفَ ساعةٍ ... فمأْخَذُ ليلَى وهي عَذْراءُ أعجبُ )
( لبِسنا زماناً حُسنَها وشَبابَها ... ورُدّت إلى شَعْواء والرّأسُ أشيبُ )
( كمأْخِذنا حسناءَ كرهاً ودمعُها ... غداةَ اللِّوى مَعصوبةً يَتصبّبُ )
وقال ابن الأعرابي أجدب ناس من بني عبس في سنة أصابتهم فأهلكت أموالهم وأصابهم جوع شديد وبؤس فأتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته فلما بصروا به صرخوا وقالوا يا أبا الصعاليك أغثنا فرق لهم وخرج ليغزو بهم ويصيب معاشا فنهته امرأته عن ذلك لما تخوفت عليه من الهلاك فعصاها وخرج غازيا فمر بمالك بن حمار الفزاري ثم الشمخي فسأله أين يريد فأخبره فأمر له بجزور فنحرها فأكلوا منها وأشار عليه مالك أن يرجع فعصاه ومضى حتى انتهى إلى بلاد بني القين فأغار عليهم فأصاب هجمة عاد بها على نفسه وأصحابه وقال في ذلك
( أرى أمَّ حَسَّانَ الغَداةَ تلُومُني ... تُخوِّفني الأعداءَ والنّفسُ أَخوفُ )
( تقول سُلَيمَى لو أقمتَ لَسَرَّنا ... ولم تدرِ أنّي للمُقَام أُطَوِّفُ )
( لعلَّ الذي خَوّفِتِنا مِنْ أمَامِنا ... يُصادفه في أهله المُتَخَلِّفُ )
وهي طويلة
وقال في ذلك أيضا
( أليس وَرائي أن أدِبَّ على العصا ... فيَشْمَتَ أعدائي ويسأَمَني أهلي )
( رَهينة قَعْر البيت كلَّ عَشيّةٍ ... يُطيفُ بيَ الوِلْدانُ أَهْدَجَ كالرَّأل )
( أَقيموا بني لُبْنَى صُدورَ رِكابكم ... فكلُّ مَنَايا النّفْس خيرٌ من الهُزْلِ )

( فإِنكمُ لن تبلُغوا كلَّ هِمّتي ... ولا أرَبي حتّى تَرَوْا مَنْبِتَ الأَثْلِ )
( لعلّ ارتيادي في البلاد وحِيلتي ... وشَدِّي حيازيمَ المطيّة بالرَّحْلِ )
( سيدفعني يَوماً إلى ربّ هَجْمةٍ ... يُدافِع عنها بالعُقوق وبالبُخلِ )

حديث عروة مع الهذلي الذي أخذ فرسه
نسخت من كتاب أحمد بن القاسم بن يوسف قال حدثني حر بن قطن أن ثمامة بن الوليد دخل على المنصور فقال يا ثمامة أتحفظ حديث ابن عمك عروة الصعاليك بن الورد العبسي فقال أي حديثه يا أمير المؤمنين فقد كان كثير الحديث حسنه قال حديثه مع الهذلي الذي أخذ فرسه قال ما يحضرني ذلك فأرويه يا أمير المؤمنين فقال المنصور خرج عروة حتى دنا من منازل هذيل فكان منها على نحو ميلين وقد جاع فإذا هو بأرنب فرماها ثم أورى نارا فشواها وأكلها ودفن النار على مقدار ثلاث أذرع وقد ذهب الليل وغارت النجوم ثم أتى سرحة فصعدها وتخوف الطلب فلما تغيب فيها إذا الخيل قد جاءت وتخوفوا البيات قال فجاءت جماعة منهم ومعهم رجل على فرس فجاء حتى ركز رمحه في موضع النار وقال لقد رأيت النار ها هنا فنزل رجل فحفر قدر ذراع فلم يجد شيئا فأكب القوم على الرجل يعذلونه ويعيبون أمره ويقولون عنيتنا في مثل هذه الليلة القرة وزعمت لنا شيئا كذبت فيه فقال ما كذبت ولقد رأيت النار في موضع رمحي فقالوا ما رأيت شيئا ولكن تحذلقك وتدهيك هو الذي حملك على

هذا وما نعجب إلا لأنفسنا حين أطعنا أمرك واتبعناك ولم يزالوا بالرجل حتى رجع عن قوله لهم واتبعهم عروة حتى إذا وردوا منازلهم جاء عروة فتمكن في كسر بيت وجاء الرجل إلى امرأته وقد خالفه إليها عبد أسود وعروة ينظر فأتاها العبد بعلبة فيها لبن فقال اشربي فقالت لا أوتبدأ فبدأ الأسود فشرب فقالت للرجل حين جاء لعن الله صلفك عنيت قومك منذ الليلة قال لقد رأيت نارا ثم دعا بالعلبة ليشرب فقال حين ذهب ليكرع ريح رجل وب الكعبة فقالت امرأته وهذه أخرى أي ريح رجل تجده في إنائك غير ريحك ثم صاحت فجاء قومها فأخبرتهم خبره فقالت يتهمني ويظن بي الظنون فأقبلوا عليه باللوم حتى رجع عن قوله فقال عروة هذه ثانية قال ثم أوى الرجل إلى فراشه فوثب عروة إلى الفرس وهو يريد أن يذهب به فضرب الفرس بيده وتحرك فرجع عروة إلى موضعه ووثب الرجل فقال ما كنت لتكذبني فمالك فأقبلت عليه امرأته لوما وعذلا
قال فصنع عروة ذلك ثلاثا وصنعه الرجل ثم أوى الرجل إلى فراشه وضجر من كثرة ما يقوم فقال لا أقوم إليك الليلة وأتاه عروة فحال في متنه وخرج ركضا وركب الرجل فرسا عنده أنثى
قال عروة فجعلت أسمعه خلفي يقول الحقي فإنك من نسله
فلما انقطع عن البيوت قال له عروة بن الورد أيها الرجل قف فإنك لو عرفتني لم تقدم علي أنا عروة بن الورد وقد رأيت الليلة منك عجبا فأخبرني به وأرد إليك فرسك قال وما هو قال جئت مع قومك حتى ركزت رمحك في موضع نار قد كنت أوقدتها فثنوك عن ذلك فانثنيت وقد صدقت ثم اتبعتك حتى أتيت منزلك وبينك وبين النار ميلان فأبصرتها منهما ثم شممت رائحة رجل في إنائك وقد رأيت الرجل حين آثرته زوجتك بالإناء وهو عبدك الأسود وأظن أن بينهما ما لا تحب فقلت ريح

رجل فلم تزل تثنيك عن ذلك حتى انثنيت ثم خرجت إلى فرسك فأردته فاضطرب وتحرك فخرجت إليه ثم خرجت وخرجت ثم أضربت عنه فرأيتك في هذه الخصال أكمل الناس ولكنك تنثني وترجع فضحك وقال ذلك لأخوال السوء والذي رأيت من صرامتي فمن قبل أعمامي وهم هذيل وما رأيت من كعاعتي فمن قبل أخوالي وهم بطن من خزاعة والمرأة التي رأيت عندي امرأة منهم وأنا نازل فيهم فذلك الذي يثنيني عن أشياء كثيرة وأنا لاحق بقومي وخارج عن أخوالي هؤلاء ومخل سبيل المرأة ولولا رأيت من كعاعتي لم يقو على مناوأة قومي أحد من العرب
فقال عروة خذ فرسك راشدا قال ما كنت لآخذه منك وعندي من نسله جماعة مثله فخذه مباركا لك فيه
قال ثمامة إن له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا

عروة يتعرف على ابن له
قال المنصور أفلا أحدثك له بحديث هو أظرف من هذا قال بلى يا أمير المؤمنين فإن الحديث إذا جاء منك كان له فضل على غيره قال خرج عروة وأصحابه حتى أتى ماوان فنزل أصحابه وكنف عليهم كنيفا من الشجر وهم أصحاب الكنيف الذي سمعته قال فيهم
( ألا إنّ أصحابَ الكنيف وجدتُهم ... كما الناس لمّا أمرَعُوا وتموّلُوا )
وفي هذه الغزاة يقول عروة
( أقول لقوم في الكَنيفِ تَروّحُوا ... عَشِيّةَ قِلْنَا حولَ ماوانَ رُزَّحِ )

وفي هذه القصيدة يقول
( ليَبْلُغَ عُذراً أو يُصِيبَ غَنِيمةً ... ومُبْلِغُ نفسٍ عُذرَها مِثْلُ مُنْجحِ )
ثم مضى يبتغي لهم شيئا وقد جهدوا فإذا بأبيات شعر وبامرأة قد خلا من سنها وشيخ كبير كالحقاء الملقى فكمن في كسر بيت منها وقد أجدب الناس وهلكت الماشية فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشوية فقال ثمامة وما السحور قال الحلقوم بما فيه والبيت خال فأكلها وقد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئا فأشبعته وقوي فقال لا أبالي من لقيت بعد هذا
ونظرت المرأة فظنت أن الكلب أكلها فقال للكلب أفعلتها يا خبيث وطردته
فإنه لكذلك إذا هو عند المساء بإبل قد ملأت الأفق وإذا هي تلتفت فرقا فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها فلما أتت المناخ بركت ومكث الراعي قليلا ثم أتى ناقة منها فمرى أخلافها ثم وضع العلبة على ركبتيه وحلب حتى ملأها ثم أتى الشيخ فسقاه ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك وسقى العجوز ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو ثم التفع بثوب واضطجع ناحية فقال الشيخ للمرأة وأعجبه ذلك كيف ترين ابني فقالت ليس بابنك قال فابن من ويلك قالت ابن عروة بن الورد قال ومن أين قالت أتذكر يوم مر بنا يريد سوق ذي المجاز فقلت هذه عروة بن الورد وصفته لي بجلد فإني استطرفته
قال فسكت حتى إذا نوم وثب عروة وصاح بالإبل فاقتطع منها نحوا من النصف ومضى ورجا ألا يتبعه الغلام وهو غلام حين بدا شاربه فاتبعه قال فاتخذا وعالجه قال فضرب به الأرض فيقع قائما فتخوفه على نفسه ثم واثبه فضرب به وبادره فقال إني عروة بن الورد وهو يريد أن يعجزه عن نفسه
قال فارتدع ثم قال مالك ويلك لست أشك

أنك قد سمعت ما كان من أمي قال قلت نعم فاذهب معي أنت وأمك وهذه الإبل ودع هذا الرجل فإنه لا ينهاك عن شيء قال الذي بقي من عمر الشيخ قليل وأنا مقيم معه ما بقي فإن له حقا وذماما فإذا هلك فما أسرعني إليك وخذ من هذه الإبل بعيرا قلت لا يكفيني إن معي أصحابي قد خلفتهم قال فثانيا قلت لا قال فثالثا والله لا زدتك على ذلك
فأخذها ومضى إلى أصحابه ثم إن الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ
قال والله يا أمير المؤمنين لقد زينته عندنا وعظمته في قلوبنا قال فهل أعقب عندكم قال لا ولقد كنا نتشاءم بأبيه لأنه هو الذي أوقع الحرب بين عبس وفزارة بمراهنته حذيفة ولقد بلغني أنه كان له ابن أسن من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه ويقربه فقيل له أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضعفه قال أترون هذا الأصغر لئن بقي ما رأى من شدة نفسه ليصيرن الأكبر عيالا عليه

صوت من المائة المختارة
( أزْرَى بنا أننا شالَتْ نَعامتُنا ... فخالني دونه بل خِلتُه دونِي )
( فإِن تُصِبكَ من الأيام جائحةٌ ... لم أَبك منك على دنيا ولا دينِ )
الشعر لذي الإصبع العدواني والغناء لفيل مولى العبلات هزج خفيف بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
معنى قوله أزرى بنا قصر بنا يقال زريت عليه إذا عبت عليه فعله وأزريت به إذا قصرت به في شيء
وشالت نعامتهم إذا انتقلوا بكليتهم يقال شالت نعامتهم وزف رألهم إذا انتقلوا عن الموضع فلم يبق فيه منهم أحد ولم يبق لهم فيه شيء
وخالني ظنني يقال خلت كذا وكذا فأنا أخاله إذا ظننته والجائحة النازلة التي تجتاح ولا تبقى على ما نزلت به

ذكر ذي الإصبع العدواني ونسبه وخبره
هو حرثان بن الحارث بن محرث بن ثعلبة بن سيار بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان بن عمر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار أحد بني عدوان وهم بطن من جديلة
شاعر فارس من قدماء الشعراء في الجاهلية وله غارات كثيرة في العرب ووقائع مشهورة
أخبرنا محمد بن خلف وكيع وابن عمار والأسدي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو عثمان المازني عن الأصمعي قال
نزلت عدوان على ماء فأحصوا فيهم سبعين ألف غلام أغرل سوى من كان مختونا لكثرة عددهم ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا فقال ذو الإصبع
صوت
( عَذِيرَ الحيّ مِن عَدْوانَ ... كانوا حَيَّةَ الأرضِ )
( بغَى بعضُهُم بعضاً ... فلم يُبْقُوا على بعضِ )

( فقد صاروا أحاديثَ ... برَفْع القولِ والخفضِ )
( ومنهم كانت السَّادات ... ُ والمُوفُونَ بالقَرْضِ )
( ومنهم مَنْ يُجِيزُ الناسَ ... بالسُّنّة والفَرضِ )
( ومنهم حَكَمٌ يَقْضِي ... فلا يُنقَضُ ما يَقْضِي )
غنى في هذه الأبيات مالك ثقيلا أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمر
وأما قول ذي الإصبع
( ومنهم حَكَمٌ يَقْضِي ... )
فإنه يعني عامر بن الظرب العدواني كان حكما للعرب تحتكم إليه

خبر من قرعت له العصا
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي عن محمد بن حبيب قال
قيس تدعي هذه الحكومة وتقول إن عامر بن الظرب العدواني هو الحكم وهو الذي كانت العصا تقرع له وكان قد كبر فقال له الثاني من ولده إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك قال فاجعلوا لي أمارة أعرفها فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الحكم والصواب فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فرجع إلى الصواب
وفي ذلك يقول المتلمس

( لِذِي الحِلْمِ قبلَ اليومِ ما تُقرَعُ العصا ... وما عُلِّم الإِنسان إلا ليعلَمَا )
قال ابن حبيب وربيعة تدعيه لعبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام واليمن تدعيه لربيعة بن مخاشن وهو ذو الأعواد وهو أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم وفيه يقول الأسود بن يعفر
( ولقد علمتُ لَو أنّ علمِي نافعِي ... أنّ السبيلَ سبيلُ ذِي الأعوادِ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أو دلف قال أخبرنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال
زعم أبو عمرو بن العلاء أنه ارتحلت عدوان من منزل فعد فيهم أربعون ألف غلام أقلف
قال الرياشي وأخبرني رجل عن هشام بن الكلبي قال وقع على إياد البق فأصاب كل رجل منهم بقتان

عبد الملك بن مروان يسأل عن ذي الإصبع
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال أخبرني محمد بن زياد الزيادي وأخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة ولم يسنده إلى أحد وروايته أتم
أن عبد الملك بن مروان لما قدم الكوفة بعد قتله مصعب بن الزبير جلس

لعرض أحياء العرب وقال عمر بن شبة إن مصعب بن الزبير كان صاحب هذه القصة فقام إليه معبد بن خالد الجدلي وكان قصيرا دميما فتقدمه إليه رجل منا حسن الهيئة قال معبد فنظر عبد الملك إلى الرجل وقال ممن أنت فسكت ولم يقل شيئا وكان منا فقلت من خلفه نحن يا أمير المؤمنين من جديلة فأقبل على الرجل وتركني فقال من أيكم ذو الإصبع قال الرجل لا أدري قلت كان عدوانيا فأقبل على الرجل وتركني وقال لم سمي ذا الإصبع قال الرجل لا أدري فقلت نهشته حية في إصبعه فيبست فأقبل على الرجل وتركني فقال وبما كان يسمى قبل ذلك قال الرجل لا أدري قلت كان يسمى حدثان فأقبل على الرجل وتركني فقال من أي عدوان كان فقلت من خلفه من بني ناج الذين يقول فيهم الشاعر
( وأما بَنُو ناجٍ فلا تَذْكُرَنَّهُمْ ... ولا تُتبِعَنْ عَينيكَ ما كان هالكا )
( إذا قلتُ معروفاً لأُصلِحَ بينهم ... يقول وُهَيبٌ لا أُسَالِمُ ذلكا )
وروى عمر بن شبة لا أسلم
( فأضحى كظَهر الفحل جُبَّ سَنامُهُ ... يَدِبُّ إلى الأعداء أحدَبَ بارِكَا )
فأقبل على الرجل وتركني وقال أنشدني قوله
( عذيرَ الحيّ من عَدوانَ ... )
قال الرجل لست أرويها قلت يا أمير المؤمنين إن شئت أنشدتك قال ادن مني فإني أراك بقومك عالما فأنشدته

( وليس المرءُ في شيءٍ ... من الإِبرام والنقضِ )
( إذا أبرم أمراً خاله ... ُ يَقْضي وما يَقْضِي )
( يقولُ اليومَ أَمْضِيه ... ولا يَملِكُ ما يُمْضِي )
( عَذِيرَ الحيّ من عَدوانَ ... كانوا حَيَّةَ الأرضِ )
( بغى بعضُهمُ بعضاً ... فلم يُبْقُوا على بعضِ )
( فقد صاروا أحاديثَ ... برفعِ القول والخفضِ )
( ومنهم كانت السادات ... والموفُونَ بالقَرض )
( ومنهم حَكَمٌ يَقضِي ... فلا يُنقَضُ ما يَقضِي )
( ومنهم من يُجِيزُ النا ... سَ بالسُّنَّة والفرضِ )
( وهم مَنْ ولَدُوا أَشْبَوْا ... بسرّ الحَسبِ المَحْضِ )
( ومِمَّن ولدوا عامِرُ ... ذو الطول وذو العرضِ )
( وهم بَوَّوْا ثَقِيفاً دارَ ... لا ذُلٍّ ولا خَفْضِ )
فأقبل على الرجل وتركني وقال كم عطاؤك فقال ألفان فأقبل علي فقال كم عطاؤك فقلت خمسمائة فأقبل على كاتبه وقال اجعل الألفين لهذا والخمسمائة لهذا فانصرفت بها
وقوله ومنهم من يجيز الناس فإن إجازة الحج كانت لخزاعة فأخذتها منهم عدوان فصارت إلى رجل منهم يقال له أبو سيارة أحد بني وابش بن زيد بن عدوان وله يقول الراجز
( خَلّوا السبيلَ عن أبي سَيَّارَهْ ... وعن مَوَاليه بني فَزَارهْ )

( حتى يُجيز سالماً حِمَارَهْ ... مستقبِلَ الكعبةِ يدعوا جارَهْ )
قال وكان أبو سيارة يجيز الناس في الحج بأن يتقدمهم على حمار ثم يخطبهم فيقول اللهم أصلح بين نسائنا وعاد بين رعائنا واجعل المال في سمحائنا أوفوا بعهدكم وأكرموا جاركم وأقروا ضيفكم ثم يقول أشرق ثبيركيما نغير وكانت هذه إجازته ثم ينفر ويتبعه الناس
ذكر ذلك أبو عمرو الشيباني والكلبي وغيرهما
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثنا محمد بن داود الهشامي قال كان لذي الإصبع أربع بنات وكن يخطبن إليه فيعرض ذلك عليهن فيستحين ولا يزوجهن وكانت أمهن تقول لو زوجتهن فلا يفعل قال فخرج ليلة إلى متحدث لهن فاستمع عليهن وهن لا يعلمن فقلن تعالين نتمنى ولنصدق فقالت الكبرى
( ألا ليتَ زوجي من أُناسٍ ذَوِي غِنىً ... حَدِيثُ الشباب طيّبُ الريح والعِطرِ )
( طبيبٌ بأدواء النساء كأنه ... خليفةُ جانٍ لا ينام على وِتْرِ )
فقلن لها أنت تحبين رجلا ليس من قومك فقالت الثانية
( ألا هل أرَاها ليلةً وضَجِيعُها ... أَشمُّ كنصل السيف غَيرُ مُبَلَّدِ )
( لَصُوقٌ بأكباد النساء وأصلُه ... إذا ما انتمى من سِرِّ أهلي ومَحْتِدي )

فقلن لها أنت تحبين رجلا من قومك فقالت الثالثة
( ألاَ لَيْتَه يَمْلاَ الجِفان لضَيْفِهِ ... له جفنةٌ يَسْقَى بها النِّيبُ والجُزْرُ )
( له حَكَمات الدّهر من غير كَبْرة ... تَشِين ولا الفاني ولا الضَّرعُ الغَمْر )
فقلن لها أنت تحبين رجلا شريفا
وقلن للصغرى تمني فقالت ما أريد شيئا قلن والله لا تبرحين حتى نعلم ما في نفسك قالت زوج من عود خير من قعود
فلما سمع ذلك أبوهن زوجهن أربعتهن
فمكثن برهة ثم اجتمعن إليه فقال للكبرى يا بنية ما مالكم قالت الإبل قال فكيف تجدونها قالت خير مال نأكل لحومها مزعا ونشرب ألبانها جرعا وتحملنا وضعيفنا معا قال فكيف تجدين زوجك قالت خير زوج يكرم الحليلة ويعطي الوسيلة قال مال عميم وزوج كريم
ثم قال للثانية يا بنية ما مالكم قالت البقر قال فكيف تجدونها قالت خير مال تألف الفناء وتودك السقاء وتملأ الإناء ونساء في نساء قال فكيف تجدين زوجك قالت خير زوج يكرم أهله وينسى فضله قال حظيت ورضيت
ثم قال للثالثة ما مالكم قالت المعزى قال فكيف تجدونها قالت لا بأس بها نولدها فطما ونسلخها أدما قال فكيف تجدين زوجك قالت لا بأس به ليس بالبخيل الحكر ولا بالسمح البذر قال

جدوى مغنية ثم قال للرابعة يا بنية ما مالكم قالت الضأن قال وكيف تجدونها قالت شر مال جوف لا يشبعن وهيم لا ينقعن وصم لا يسمعن وأمر مغويتهن يتبعن قال فكيف تجدين زوجك قالت شر زوج يكرم نفسه ويهين عرسه قال أشبه امرأ بعض بزه
وذكر الحسن بن عليل العنزي في خبر عدوان الذي رواه عن أبي عمرو بن العلاء أنه لا يصح من أبيات ذي الإصبع الضادية إلا الأبيات التي أنشدها وأن سائرها منحول أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل قال حدثني عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال عمر ذو الإصبع العدواني عمرا طويلا حتى خرف وأهتر وكان يفرق ماله فعذله أصهاره ولاموه وأخذوا على يده فقال في ذلك
( أهلكنا اللَّيلُ والنّهار مَعا ... والدّهر يَعْدُو مُصَمِّماً جَذَعا )
( فليس فيما أصابني عَجَبٌ ... إن كنتُ شَيباً أنكرتُ أو صَلَعا )
( وكنتُ إذ رَونق الشَّباب به ... ماء شبابي تَخاله شرعَا )
( والحيُّ فيه الفتاةُ تَرْمُقني ... حتّى مضَى شَأْوُ ذاك فانقشعَا )

صوت
( إنّكما صاحبيّ لم تدَعا ... لَوْمِي ومَهما أَضِقْ فلن تَسَعا )
( لم تَعقِلا جَفْوةً عليّ ولم ... أشتُم صديقا ولم أَنلْ طبَعَا )
( إلاّ بأن تكذِبا عليّ وما ... أَملِك أن تكذِبا وأن تَلِعَا )
لابن سريج في هذه الأبيات لحنان أحدهما ثاني ثقيل بالسبابة والبنصر عن يحيى المكي والآخر ثقيل أول عن الهشامي
( وإنّني سوف أَبتدِي بنَدىً ... يا صاحبيَّ الغداةَ فاستمِعَا )
( ثمّ سَلاَ جارتِي وكِنَّتَها ... هل كنتُ فيمن أَرَاب أو خدَعا )
( أو دَعَتاني فلم أُجِبْ ولقد ... تأمن منّي حَليلتي الفَجَعا )
( آبَى فلا أقربَ الخِبَاءَ إذا ... ما ربُّه بعد هَدْأةٍ هجَعَا )
( ولا أُرُوم الفتاةَ زَوْرَتَها ... إن نام عنها الحليل أو شَسَعا )
( وذاك في حِقبةٍ خَلتْ ومضَتْ ... والدّهرُ يأتي على الفتَى لُمَعَا )
( إن تَزْعُما أنّني كبِرتُ فلم ... أُلفَ ثقيلا نِكْسا ولا وَرَعا )
( إمّا تَرَيْ شِكّتِي رُمَيحَ أبي ... سعدٍ فقد أحمِلُ السّلاحَ مَعَا )
أبو سعد ابنه ورميح عصا كانت لابنه يلعب بها مع الصبيان يطاعنهم بها كالرمح فصار يتوكأ هو عليها ويقوده ابنه هذا بها

( السيّفُ والرّمح والكِنانةُ قد ... أكملتُ فيها مَعَابِلاً صُنُعَا )
( والمُهْرُ صافِي الأَدِيم أَصنَعُه ... يَطِير عنه عِفَاؤه قَزَعَا )
( أُقْصِرُ من قَيده وأَردَعُه ... حتّى إذا السِّرب رِيعَ أو فزِعَا )
( كان أَمام الجيِاد يَقْدُمها ... يَهُزُّ لَدْناً وجُؤجُؤا تَلِعَا )
( فغامَسَ الموتَ أو حَمَى ظُعُنا ... أو رَدّ نَهْباً لأيِّ ذاك سعَى )

وصيته لابنه أسيد عند موته
قال أبو عمرو ولما احتضر ذو الإصبع دعا ابنه أسيدا فقال له يا بني إن أباك قد فني وهو حي وعاش حتى سئم العيش وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته فاحفظ عني ألن جانبك لقومك يحبوك وتواضع لهم يرفعوك وابسط لهم وجهك يطيعوك ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم واسمح بمالك واحم حريمك وأعزز جارك وأعن من استعان بك وأكرم ضيفك وأسرع النهضة في الصريخ فإن أجلا لا يعدوك وصن وجهك عن مسئلة أحد شيئا فبذلك يتم سوددك ثم أنشأ يقول
( أَأَسيدُ إنْ مالاً مَلكتَ ... فسِرْ به سَيراً جميلا )

( آخِ الكِرامَ إن استطعتَ ... إلى إخائهمُ سبيلا )
( واشرَب بكأسهمُ وإن ... شرِبوا به السُّمّ الثَّميلا )
( أهِنِ اللِّئام ولا تكنْ ... لإخائهم جَمَلاً ذَلُولا )
( إنَّ الكرام إذا تُواخيِهمْ ... وجدتَ لهم فُضولا )
( ودَع الذي يَعِد العَشيرة ... َ أن يسيلَ ولن يَسيلا )
( أبُنيّ إن المال لا ... يَبْكي إذا فقَد البخيلا )

صوت
( أَأَسيدُ إن أزمعتَ من ... بلدٍ إلى بلدٍ رَحيلا )
( فاحفظْ وإن شَحط المَزارُ ... أَخا أخيك أو الزَّميلا )
( واركَب بنفسك إن هَمَمْتَ ... بها الحزونةَ والسّهولا )
( وصِلِ الكرام وكُن لمن ... تَرجو مَودّته وَصولا )
الغناء للهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
( ودَعِ التَّوانِيَ في الأمور ... وكن لها سَلِساً ذَلُولا )
( وابسُطْ يمينَكَ بالنَّدَى ... وامْدُدْ لها باعاً طويلا )
( وابسُطْ يَدَيكَ بما مَلَكْت ... َ وشَيِّدِ الحسَبَ الأَثِيلا )
( واعْزِمْ إذا حاولتَ أمراً ... يَفْرِجُ الهمَّ الدَّخِيلا )
( وابذُلْ لِضيَفكَ ذاتَ رَحْلِك ... َ مُكرِماً حتّى يَزُولا )

( واحلُلْ على الأَيْفَاعِ للعافِين ... َ واجتْنِبِ المَسِيلا )
( وإذا القُرُومُ تخاطَرتْ ... يوماً وأرعَدَتِ الخَصِيلا )
( فاهصِرْ كهَصْرِ الليث خَضَّبَ مِن فَريستهِ التَّلِيلا )
( وأنزِلْ إلى الهيجَا إذا ... أبطالُها كَرِهوا النزولا )
( وإذا دُعِيتَ إلى المُهِم ... ّ فكن لفَادِحِهِ حَمُولا )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال
جرى بين عبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان لحاء بين يدي معاوية فجعل ابن الزبير يعدل بكلامه عن عتبة ويعرض بمعاوية حتى أطال وأكثر من ذلك فالتفت إليه معاوية متمثلا وقال
( ورامٍ بعُورانِ الكلام كأنها ... نوافِرُ صُبحٍ نفَّرتْها المراتِعُ )
( وقد يَدْحَضُ المرءُ المُوارِبُ بالخَنَا ... وقد تُدرِك المرءَ الكريمَ المَصَانِعُ )
ثم قال لابن الزبير من يقول هذا فقال ذو الإصبع فقال أترويه قال لا فقال من هاهنا يروي هذه الأبيات فقام رجل من قيس فقال أنا أرويها يا أمير المؤمنين فقال أنشدني فأنشده حتى أتى على قومه
( وساعٍ برجليه لآخرَ قاعدٍ ... ومُعْطٍ كريمٌ ذو يَسَارٍ ومانِعُ )

( وبانٍ لأحساب الكرامِ وهادِمٌ ... وخافضُ مولاه سَفَاهاً ورَافِعُ )
( ومُغْضٍ على بعض الخطوب وقد بَدت ... له عَوْرةٌ من ذي القرابة ضاجِعُ )
( وطالب حُوبٍ باللسان وقَلبُه ... سِوَى الحقِّ لا تخفى عليه الشرائعُ )
فقال له معاوية وكم عطاؤك قال سبعمائة قال اجعلوها ألفا وقطع الكلام بين عبد الله وعتبة
قال أبو عمرو وكان لذي الإصبع ابن عم يعاديه فكان يتدسس إلى مكارهه ويمشي به إلى أعدائه ويؤلب عليه ويسعى بينه وبين بني عمه ويبغيه عندهم شرا فقال فيه وقد أنشدنا الأخفش هذه الأبيات أيضا عن ثعلب والأحول السكري
( يا صاحِبَيّ قِفَا قَليلا ... وتَخَبَّرَا عَنِّي لميسَا )
( عمَّنْ أصابت قلْبَه ... في مَرِّها فغَدَا نَكِيسَا )
( ولِيَ ابنُ عمٍّ لا يزال ... إليّ مُنكَرُه دَسِيسَا )
( دبَّتْ له فأَحسَّ بعد ... البُرْءِ من سَقَمٍ رَسِيسَا )
( إمّا علانية وإمّا ... مُخْمَراً أَكْلاً وَهِيسَا )
( إني رأيتُ بَنِي أبيك ... يُحَمِّجُون إليّ شُوسَا )
( حَنَقاً عليَّ ولن تَرى ... لِيَ فيهمُ أثراً بَئِيسَا )

( أَنْحَوْا على حُرّ الوجوه ... بحَدّ مِئشارٍ ضُرُوسَا )
( لو كنتَ ماءً لم تَكنْ ... عَذْبَ المَذَاقِ ولا مَسُوسَا )
( مِلحاً بعيدَ القعر قد ... فَلَّتْ حجارتُه الفُؤوسَا )
( مَنَّاعُ ما ملكَتْ يداك ... َ وَسائِلٌ لَهُمُ نُحُوسَا )
وأنشدنا الأخفش عن هؤلاء الرواة بعقب هذه الأبيات وليس من شعر ذي الإصبع ولكنه يشبه معناه
( لو كنتَ ماءً كنتَ غيرَ عَذْبِ ... أو كنتَ سيفاً كنتَ غير عَضْبِ )
( أو كنتَ طِرْفاً كنتَ غيرَ نَدْبِ ... أو كنتَ لحماً كنتَ لحمَ كَلْبِ )
قال وفي مثله أنشدنا
( لو كنتَ مُخّا مُخّاً رِيرَا ... أو كنتَ بَرْداً كنتَ زَمْهَرِيرا )
( أو كنت رِيحاً كانتِ الدَّبورَا ... )
قال أبو عمرو به وكان السبب في تفرق عدوان وقتال بعضهم بعضا حتى تفانوا أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني عوف بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان ونذرت بهم بنو عوف فاقتتلوا فقتل بنو ناج ثمانية نفر فيهم عمير بن مالك سيد بني عوف وقتلت بنو عوف رجلا منهم يقال له سنان بن جابر وتفرقوا على حرب وكان الذي أصابوه من بني واثلة بن عمرو

ابن عباد وكان سيدا فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها ورضوا بذلك وأبى مرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية واعتزل هو وبنو أبيه ومن أطاعهم ومن والاهم وتبعه على ذلك كرب بن خالد أحد بني عبس بن ناج فمشى إليهما ذو الإصبع وسألهما قبول الدية وقال قد قتل منا ثمانية نفر فقبلنا الدية وقتل منكم رجل فاقبلوا ديته فأبيا ذلك وأقاما على الحرب فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضا حتى تفانوا وتقطعوا فقال ذو الإصبع في ذلك
( ويا بُؤسَ للأيّام والدّهرِ هَالِكَا ... وصَرْفِ اللّيالي يَخْتَلِفْنَ كذلِكَا )
( أبْعدَ بني نَاجٍ وسَعْيِكَ فيهِمُ ... فلا تُتبِعَنْ عينيْكَ ما كان هالِكَا )
( إذا قلتُ معروفاً لأُصْلِحَ بينهم ... يقولُ مَرِيرٌ لا أُحاوِلُ ذلِكَا )
( فأضحْوا كظهر العَوْدِ جُبَّ سَنامُه ... تَحُوم عليه الطيرُ أحدَبَ بارِكَا )
( فإن تك عَدْوانُ بن عمرو تفرّقت ... فقد غَنِيَتْ دَهراً ملوكاً هُنالِكَا )
وقال أبو عمرو وفي مرير بن جابر يقول ذو الإصبع وهذه القصيدة هي التي منها الغناء المذكور وأولها
( يا مَنْ لقلبٍ شَدِيدِ الهمِّ مَحزُونِ ... أمسَى تَذَكَّرَ رَيَّا أُمِّ هَارْونِ )
( أمسَى تَذكَّرها مِن بعد ما شَحَطَتْ ... والدَّهُروُ ذو غِلَظ حينا وذو لِين )
( فإِنْ يكنْ حبُّها أَمسَى لنا شَجَناً ... وأصبحَ الوَلْيُ منها لا يُوَاتِينِي )
( فقد غَنِينا وشمْلُ الدارِ يجمعُنا ... أُطِيعُ رَيّا ورَياً لا تُعَاصِينِي )
( نَرمِي الوُشاةَ فلا نُخْطِي مَقاتِلهُمْ ... بخالصٍ من صفاء الوُدِّ مكنون )
( ولِي ابنُ عمٍّ على ما كان من خُلُقٍ ... مُختَلِفَانِ فأَقْلِيهِ ويَقْلِينِي )

( أزرَى بنا أننا شالَتْ نَعامتُنَا ... فخالني دونه بل خِلتُهُ دونِي )
( لاَهِ ابنُ عمّك لا أَفضلتَ في حَسبٍ ... شيئاً ولا أنت دَيَّاني فَتَخْزُونِي )
( ولا تَقُوتُ عِيَالي يومَ مَسْغَبةٍ ... ولا بنفسكَ في العَزَّاءِ تَكْفِينِي )
( فإِن تُرِدْ عَرَضَ الدنيا بمَنْقَصَتِي ... فإِنّ ذلك مِمّا ليس يُشْجِينِي )
( ولا تَرَى فيَّ غير الصّبرِ مَنقَصَةً ... وما سِوَاه فإِنّ الله يَكفِيني )
( لولا أَواصِرُ قُرْبَى لستَ تحفظُها ... ورَهْبَةُ اللهِ في مَولىً يُعادِينِي )
( إذاً بَرَيتُك بَرْياً لا انجِبَارَ له ... إنّي رأيتُكَ لا تَنفَكُّ تَبرِيني )
( إنّ الذي يَقبِضُ الدنيا ويبسُطها ... إن كان أغناكَ عنّي سوف يُغْنِيني )
( اللهُ يَعلمُكم واللهُ يَعلمُني ... واللهُ يَجزِيكُمُ عَنّي ويَجْزِينِي )
( ماذَا عليَّ وإِن كنتم ذوِي رَحِمي ... أَلاَّ أحبّكُم إن لم تُحبُّونِي )
( لو تَشرَبُونَ دَمِي لم يَرُو شَارِبُكم ... ولا دِماؤُكُم جَمْعاً تُرَوِّيني )
( ولِي ابنُ عمٍّ لو انّ الناسَ في كَبِدي ... لَظَلَّ مُحتَجِزاً بالنَّبْل يَرْمِيني )
( يا عمرُو إن لا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقَصتِي ... أَضْرِبْكَ حتى تقولَ الهامةُ اسْقُونِي )
( كلّ امرىءٍ صائرٌ يوماً لشِيمَتِه ... وإِن تخلَّقَ أخلاقاً إلى حِينِ )
( إنّي لعَمْرُكَ ما بَابِي بذِي غَلَقٍ ... عن الصّديق ولا خيري بمَمْنُونِ )
( ولا لسانِي على الأدنى بمنطَلِق ... بالمنكَرات ولا فَتْكِي بمأمُونِ )
( لا يُخرِجُ القَسْرُ منّي غير مَغْضبةٍ ... ولا ألينُ لِمَنْ لا يبتغي لِيني )

( وأنتمُ مَعْشَرٌ زَيْدٌ على مائةٍ ... فأجمِعُوا أمرَكم شَتَّى فكِيدُونِي )
( فإن علمتُم سبيلَ الرُّشدِ فانطلِقوا ... وإِن غَبِيتُم طريقَ الرشدِ فَأتُونِي )
( يا رُبَّ ثوبٍ حواشيه كأوسطِه ... لا عيبَ في الثوبِ من حُسنٍ ومن لِينِ )
( يوماً شَدَدتُ على فَرْغَاء فاهقةٍ ... يوماً من الدّهر تاراتٍ تُمَارِينِي )
( ماذا عليّ إذا تدعونَنِي فَزَعاً ... أَلاَّ أُجيِبَكم إذ لا تُجِيبُونِي )
( وكنتُ أُعطِيكُم مالي وأَمنحُكم ... وُدِّي على مُثْبَتٍ في الصدر مَكنونِ )
( يارُبَّ حيٍّ شَدِيدِ الشَّغْبِ ذي لَجَبٍ ... ذَعرْتُ من راهِنٍ منهم ومَرهُونِ )
( رَدَدتُ باطَلهُم في رأس قائِلهم ... حتى يَظلُّوا خصوماً ذا أفانِينِ )
( يا عَمرُو لو كنتَ لي أَلْفَيْتَنِي يَسراً ... سمْحاً كريماً أُجازِي مَنْ يُجَازِينِي )

رثاء ذي الإصبع لقومه
قال أبو عمرو وقال ذو الإصبع يرثي قومه
( وليس المرءُ في شيءٍ ... من الإِبرام والنقضِ )
( إذا يفعلُ شيئاً خاله ... ُ يَقْضِي وما يَقْضِي )
( جَدِيدُ العيشِ ملبوسٌ ... وقد يُوشِكُ أن يُنْضَى )
وقد مضى بعض هذه القصيدة متقدما في صدر هذه الأخبار وتمامها
( وأَمْرَ اليومِ أَصْلِحْهُ ... ولا تَعْرِضْ لما يَمضِي )

( فبينا المرءُ في عَيشٍ ... له من عِيشَةٍ خَفْضِ )
( أتاه طَبَقٌ يوماً ... على مَزْلَقَةٍ دَحْضِ )
( وهم كانوا فلا تُكْذَبْ ... ذوِي القُوّةِ والنَّهْضِ )
( وهم إن وَلَدُوا أَشْبَوْا ... بسِرّ الحسَب المَحْضِ )
( لهم كانت أعالِي الأرض ... فالسرَّان فالعِرْضِ )
( إلى ما حازه الحَزْنُ ... فما أسهلَ للحَمْضِ )
( إلى الكَفْرَينِ من نحلةَ ... فالدّاءةِ فالمَرْضِ )
( لهم كان جَمِامُ الماءِ ... لا المُزْجَى ولا البَرْضِ )
( فكان الناس إذا هَمُّوا ... بُيسْرٍ خاشعٍ مُغْضِي )
( تَنَادوْا ثم ساروا بِرئيسٍ ... لهُم مُرْضِي )
( فمَنْ سَاجَلَهُمْ حرباً ... ففي الخَيْبَةِ والخَفْضِ )
( وهم نالُوا على الشَّنْا ... نِ والشَّحْنَاءِ والبُغضِ )
( مَعَالِي لم ينلها النَّاسُ ... في بَسْطٍ ولا قبضِ )

رثاء أمامة بنت ذي الإصبع لقومها
قال أبو عمرو قالت أمامة بنت ذي الإصبع وكانت شاعرة ترثي قومها

( كم مِن فَتىً كانت له مَيْعَةٌ ... أبلجَ مثلِ القمرِ الزاهِر )
( قد مرَّتِ الخيلُ بحافاتِهِ ... كمرّ غيثٍ لجِبٍ ماطِرِ )
( قد لَقِيَتْ فَهْمُ وَعَدْوَانُها ... قَتْلاً وهُلْكاً آخرَالغابرِ )
( كانوا ملوكاً سادةً في الذُّرَى ... دهراً لها الفَخّرُ على الفاخِر )
( حتى تَسَاقَوْا كأسَهم بينهم ... بَغْياً فَيَا للشَّاربِ الخاسِرِ )
( بادُوا فَمَنْ يَحْلُلْ بأوطانهم ... يَحْلُلْ برَسْمٍ مُقْفرٍ داثِرِ )
قال أبو عمرو ولأمامة ابنته هذه يقول ذو الإصبع ورأته قد نهض فسقط وتوكأ على العصا فبكت فقال
( جَزِعَتْ أمَامَة أن مَشَيتُ على العصا ... وتَذَكَّرَتْ إذ نحن مِ الفتْيَانِ )
( فَلَقَبْل ما رام الالهُ بكيده ... إرَماً وهذا الحيِّ مِنْ عَدْوانِ )
( بعدَ الحكومةٍِ والفضيلة والنُّهَى ... طاف الزمانُ عليهمُ بأَوانِ )
( وتفرّقُوا وتقطّعتْ أشلاؤهم ... وتبدَّدُوا فِرَقاً بكلّ مكانِ )
( جَدَبَ البلادُ فَأُعْقِمَتْ أرحامُهُم ... والدَّهْرُ غَيَّرَهُمْ مع الحِدْثَانِ )
( حتى أبادهُمُ على أُخْرَاهم ... صَرْعَى بكلِّ نُقَيْرَةٍ ومَكَانِ )
( لا تَعْجَبَنَّ أُمَامَ من حَدَثٍ عَرَا ... فالدَّهْرُ غَيَّرَنا مع الأَزْمَانِ )

ذكر قيل مولى العبلات
قال هارون بن محمد بن عبد الملك أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان يحيى قيل عبدا للثريا ورضيا وأخواتهما بنات علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس موليات الغريض
قال وحدثني حماد قال حدثني أبي قال حدثني ابن أبي جناح قال حدثنا مقاحف بن ناصح مولى عبد الله بن عباس قال قال حدثني هشام بن المرية وهي أمه وهو مولى بني مخزوم قال
كان يحيى قيل عبدا لامرأة من العبلات وله من الغناء
صوت
( وأخرجتُها من بطن مكةَ بعدما ... أَصَاتَ المنادِي للصّلاةِ وأَعْتَمَا )
( فمرّتْ ببطن اللِّيثِ تَهْوِي كأنما ... تُبادِرُ بالإِصباح نَهْباً مُقَسَّمَا )

والشعر لأبي دهبل الجمحي وأول هذه القصيدة
( ألا عَلِقَ القلبُ المتيّم كَلْثَمَا ... )
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني يحيى بن المقداد الزمعي قال حدثني عمي موسى بن يعقوب الزمعي قال أنشدني أبو دهبل الجمحي لنفسه
( ألا عَلِقَ القلبُ المتيَّمُ كَلْثَمَا ... لَجُوجاً ولم يلزَمْ من الحبّ مَلْزَمَا )
( خَرَجْتُ بها من بطن مكةَ بعدَ ما ... أصاتَ المنادِي للصَّلاة وأعتَما )
( فما نام مِنْ راعٍ ولا ارتدَّ سامرٌ ... من الحيّ حتى جاوزَتْ بِي يَلَمْلَمَا )
( ومرَّتْ ببطن اللِّيثِ تَهوِي كأنها ... تُبادِرُ بالإِدلاج نَهْباً مُقَسَّمَا )
( أجازت على البَزْوَاءِ واللّيلُ كاسرٌ ... جناحَيْنِ بالبزواء وَرْداً وأدْهَمَا )
( فما ذَرَّ قرنُ الشمسِ حتى تبيّنتْ ... بِعُلْيَبَ نخلاً مُشرِفاً ومُخَيِّمَا )

( ومرَّتْ على أشطانِ دُومةَ بالضحى ... فما خَزرتْ للماء عيناً ولا فَمَا )
( وما شَرِبَتْ حتى ثنَيتُ زِمَامَها ... وخِفْتُ عليها أن تُحَزَّ وتُكْلَمَا )
( فقلت لها قد تِعتِ غيرَ ذَميمةٍ ... وأصبحَ وادِي البِرْكِ غَيْثاً مُدَيِّمَا )
قال فقلت له يا عم ما كنت إلا على الريح فقال يا ابن أخي إن عمك كان إذا هم فعل وهي العجاجة أما سمعت قول أخي بني مرة
( إذا أقبلَتْ قُلتَ مَشْحَونَةٌ ... أقلَّتْ لها الريحُ قَلْعاً جَفُولاَ )
( وإِن أدبَرتْ قلتَ مَذعُورةٌ ... من الرُّمدِ تتبَعُ هَيقاً ذَمُولاَ )
( وإِن أعْرضَتُ خالَ فيها البَصير ... ُ ما لا يُكلّفُه أن يَفِيلاَ )
( يَداً سُرُحاً مائراً ضَبْعُها ... تَسُومُ وتَقْدُمُ رجلاً زَجُولاَ )
( فمرّت على كشبٍ غُدوةً ... ومرَّتْ فُوَيقَ أَرِيكٍ أصِيلاَ )

( تُخَبِّطُ بالليل حِزَّانَهُ ... كخَبْطِ القَويِّ العزيزِ الذَّليلاَ )
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني ابن اصبغ السلمي قال
جاء إنسان يغني إلى عياش المنقري بالعقيق فجعل يغنيه قول أبي دهبل
( ألا عَلِقَ القلبُ المتّيمُ كَلْثَمَا ... )
وجعل يعيده فلما أكثر قال له عياش كم تنذر بالعجوز عافاك الله اسم أمي كلثم قال وتسمع العجوز فقالت لا والله ما كان بيني وبينه شيء
قال ومن غنائه
( أزرَى بنا أننا شَالَتْ نعامتُنا ... فخالَني دونه بل خِلتُه دونِي )
( فإِن تُصبكَ من الأيام جائحةٌ ... لا نِبكِ منك على دنيا ولا دين )
وأول هذه الأبيات فيما أنشدناه علي بن سلمان الأخفش عن ثعلب

صوت من المائة المختارة
( ليَ ابنُ عمٍّ ما كان من خُلقٍ ... مختلفانِ فأَقِليهِ ويَقْلِيني )
( لاَهِ ابنُ عمِّكَ لا أفضلتَ في حَسَبٍ ... عَنِّي ولا أنتَ ديّاني فتَخْزُونِي )
غنى في هذين البيتين الهذلي ثاني ثقيل بالوسطى
( وقد عَجِبتُ وما في الدَّهرِ من عَجبٍ ... يَدٌ تَشُجُّ وأخرى منك تَأسُونِي )
صوت من المائة المختارة
( إِرْفَعْ ضَعِيفكَ لا يحرْ بكَ ضُعْفُهُ ... يوماً فتدرِكَه العواقبُ قد نَمَا )
( يَجزِيك أو يُثْني عليك وإنّ مَنْ ... أثنَى عليكَ بما فَعلتَ فقد جَزَى )
عروضه من الكامل
الشعر لغريض اليهودي وهو السموأل بن عادياء وقيل إنه لابنه سعية بن غريض وقيل إنه لزيد بن عمرو بن نفيل وقيل إنه لورقة بن نوفل وقيل إنه لزهير بن جناب وقيل إنه لعامر بن المجنون الجرمي الذي يقال له مدرج الريح والصحيح أنه لغريض أو لابنه

( وقد عَجِبتُ وما في الدَّهرِ من عَجبٍ ... يَدٌ تَشُجُّ وأخرى منك تَأسُونِي )

صوت من المائة المختارة
( إِرْفَعْ ضَعِيفكَ لا يحرْ بكَ ضُعْفُهُ ... يوماً فتدرِكَه العواقبُ قد نَمَا )
( يَجزِيك أو يُثْني عليك وإنّ مَنْ ... أثنَى عليكَ بما فَعلتَ فقد جَزَى )
عروضه من الكامل
الشعر لغريض اليهودي وهو السموأل بن عادياء وقيل إنه لابنه سعية بن غريض وقيل إنه لزيد بن عمرو بن نفيل وقيل إنه لورقة بن نوفل وقيل إنه لزهير بن جناب وقيل إنه لعامر بن المجنون الجرمي الذي يقال له مدرج الريح والصحيح أنه لغريض أو لابنه

خبر غريض اليهودي
وغريض هذا من اليهود من ولد الكاهن بن هارون بن عمران وكان موسى عليه الصلاة و السلام وجه جيشا إلى العماليق وكانوا قد طغوا وبلغت غاراتهم إلى الشام وأمرهم إن ظفروا بهم أن يقتلوهم أجمعين فظفروا بهم فقتلوهم أجمعين سوى ابن لملكهم كان غلاما جميلا فرحموه واستبقوه وقدموا الشأم بعد وفاة موسى عليه السلام فأخبروا بني إسرائيل بما فعلوه فقالوا أنتم عصاة لا تدخلون الشأم علينا أبدا فأخرجوهم عنها فقال بعضهم لبعض ما لنا بلد غير البلد الذي ظفرنا به وقتلنا أهله فرجعوا إلى يثرب فأقاموا بها وذلك قبل ورود الأوس والخزرج إياها عند وقوع سيل العرم باليمن فمن هؤلاء اليهود قريظة والنضير وبنو قينقاع وغيرهم ولم أجد لهم نسبا فأذكره لأنهم ليسوا من العرب فتدون العرب أنسابهم إنما هم حلفاؤهم وقد شرحت أخبارهم وما يغني به من أشعارهم في موضع آخر من هذا الكتاب
والغناء في اللحن المختار لابن صاحب الوضوء واسمه محمد وكنيته أبو عبد الله وكان أبوه على الميضاة بالمدينة فعرف بذلك وهو يسير الصناعة ليس ممن خدم الخلفاء ولا شهر عندهم شهرة غيره وهذا الغناء ماخوري بالبنصر وفيه ليونس ثاني ثقيل بالبنصر

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال
( ارفَعْ ضَعِيفَكَ لا يحْر بِكَ ضعفُه ... )
لغريض اليهودي

رسول الله يدخل على عائشة وهي تتمثل بشعر
وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي قال حدثني سهل بن المغيرة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت
دخل علي رسول الله وأنا أتمثل بهذين البيتين
( إرفَعْ ضعيفَك لا يحرْ بك ضعفُه ... يوماً فتُدرِكَه العواقبُ قد نَما )
( يَجْزِيكَ أو يُثني عليكَ وإنّ مَنْ ... أثنى عَلَيْكَ بما فَعَلْتَ فقد جَزَى )
فقال " ردي علي قول اليهودي قاتله الله لقد أتاني جبريل برسالة من ربي أيما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه والدعاء له فقد كافأه "
قال أبو زيد وقد حدثني أبو عثمان محمد بن يحيى أن هذا الشعر لورقة بن نوفل وقد ذكر الزبير بن بكار أيضا أن هذا الشعر لورقة بن نوفل وذكر هذين البيتين في قصيدة أولها
( رَحَلَتْ قُتيلَةُ عِيرَها قبلَ الضحى ... وأَخالُ أن شَحَطَتْ بجارتِك النَّوى )
( أوَ كُلَّمَا رحَلَتْ قُتيلَةُ غُدْوَةً ... وغَدَتْ مُفَارِقَةً لأرضهم بكَى )
( ولقد ركِبتُ على السَّفينِ مُلجِّجاً ... أذرُ الصّديقَ وأنتَحِي دارَ العِدا )

( ولقد دخلتُ البيتَ يُخشَى أهلُه ... بعد الهدوء وبعد ما سقطَ الندَى )
( فوجدتُ فيه حُرّةً قد زُيِّنتْ ... بالحَلْيِ تحسَبُه بها جمرَ الغَضا )
( فَنِعمتُ بالاً إذ أتيتُ فِراشَها ... وسَقطتُ منها حين جِئتُ على هَوَى )
( فلتِلْكَ لذَّاتُ الشَّبَابِ قَضيَتُها ... عَنِّي فسَائِلْ بعضَهم ماذا قَضَى )
( فرج الرَّباب فليس يؤدى فرجه ... لا حاجَةً قَضَّى ولا ماءً بغَى )
( فارفَعْ ضعيفَكَ لا يحرْ بِكَ ضعفُه ... يوماً فتدرِكَه العواقبُ قد نَمَا )
( يَجْزِيكَ أو يُثْنِي عليك وإنّ مَنْ ... أثنَى عليك بما فعلتَ فقد جَزى )

ذكر ورقة بن نوفل ونسبه
هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأمه هند بنت أبي كثير بن عبد بن قصي وهو أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية وطلب الدين وقرأ الكتب وامتنع من أكل ذبائح الأوثان
نسبة ما في هذا الشعر من الغناء
( غيرِ ... ارفع ضعيفَكَ )
صوت
( ولقد طرقتُ البيتَ يُخشَى أهلُه ... بعد الهُدوء وبعد ما سقطَ الندَى )
( فوجدتُ فيه حُرّةً قد زُيِّنَتْ ... بِالحَلْي تحسَبُه بها جَمرَ الغَضا )
الشعر لورقة بن نوفل والغناء لابن محرز من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق
أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن معاذ عن

معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال
سئل رسول الله عن ورقة بن نوفل كما بلغنا فقال " قد رأيته في المنام كأن عليه ثيابا بيضا فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض "
قال الزبير وحدثنا عبد الله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن عائشة
أن خديجة بنت خويلد انطلقت بالنبي حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة أخي أبيها وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت خديجة أي ابن عم اسمع من ابن أخيك قال ورقة يابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك قال رسول الله أو مخرجي هم قال ورقة نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي

خبره مع بلال
قال الزبير حدثني عثمان عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال عروة كان بلال لجارية من بني جمح بن عمرو وكانوا يعذبونه برمضاء مكة يلصقون ظهره بالرمضاء ليشرك بالله فيقول أحد أحد فيمر

عليه ورقة بن نوفل وهو على ذلك يقول أحد أحد فيقول ورقة بن نوفل أحد أحد والله يا بلال والله لئن قتلتموه لاتخدته حنانا كأنه يقول لأتمسحن به
وقال ورقة بن نوفل في ذلك
( لقد نَصَحتُ لأقوامٍ وقلتُ لهم ... أنا النذيرُ فلا يَغرُرْكُمُ أحَدُ )
( لا تَعبُدُنّ إلهاً غيرَ خالقكم ... فإِن دَعَوْكم فقولوا بيننا حَدَدُ )
( سُبحانَ ذي العرشِ سبحاناً نعوذ به ... وقبلُ قد سبّح الجُوديّ والجُمُدُ )
( مُسَخَّرٌ كلُّ ما تحت السماءِ له ... لا ينبغي أن يُناوِي مُلكَهُ أحَدُ )
( لا شيءَ مما ترى تبقَى بَشَاشَتُهُ ... يبقَى الإلهُ ويُودِي المالُ والوَلدُ )
( لم تُغْنِ عن هُرْمُزٍ يوماً خزائنُه ... والخُلْدَ قد حاولتْ عادٌ فما خَلَدُوا )
( ولا سُلَيمانَ إذ دان الشُّعُوبُ له ... والجنُّ والإِنسُ تَجْرِي بينها البُرُدُ )

النبي ينهى عن سبه
قال الزبير حدثني عمي قال حدثنا الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة
أن رسول الله قال لأخي ورقة بن نوفل أو لابن أخيه " شعرت أني قد رأيت لورقة جنة أو جنتين " يشك هشام
قال عروة ونهى رسول الله عن سب ورقة

وقال الزبير وحدثني عمي قال حدثني الضحاك عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه
أن خديجة كانت تأتي ورقة بما يخبرها رسول الله أنه يأتيه فيقول ورقة لئن كان ما يقول حقا إنه ليأتيه الناموس الأكبر ناموس عيسى ابن مريم الذي لا يجيزه أهل الكتاب إلا بثمن ولئن نطق وأنا حي لأبلين فيه لله بلاء حسنا

خبر زيد بن عمرو ونسبه
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب
وأمه جيداء بنت خالد بن جابر بن أبي حبيب بن فهم
وكانت جيداء عند نفيل بن عبد العزى فولدت له الخطاب أبا عمر بن الخطاب وعبدنهم ثم مات عنها نفيل فتزوجها ابنه عمر فولدت له زيدا وكان هذا نكاحا ينكحه أهل الجاهلية وكان زيد بن عمرو أحد من اعتزل عبادة الأوثان وامتنع من أكل ذبائحهم وكان يقول يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحوها لغيره والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري
أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب بن عبد الله ومحمد بن الضحاك عن أبيه قالا
كان الخطاب بن نفيل قد أخرج زيد بن عمرو من مكة وجماعة من قريش ومنعوه أن يدخلها حين فارق أهل الأوثان وكان أشدهم عليه الخطاب بن نفيل
وكان زيد بن عمرو إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال لبيك حقا حقا تعبدا ورقا البر أرجو لا الخال وهل مهجر كمن قال ثم يقول

( عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ ... مُسْتَقْبِلَ الكعبةِ وهو قائمُ )
( يقول أنفِي لك عَانٍ راغمُ ... مهما تُجَشِّمْني فإِني جَاشِمُ )
ثم يسجد قال محمد بن الضحاك عن أبيه وهو الذي يقول
( لاَ هُمّ إنّي حَرَمٌ لا حِلَّهْ ... وإِن داري أوسط المَحَلَّهْ )
( عند الصَّفَا ليست بها مَضَلَّهْ ... )
شعر زيد في ترك عبادة الأوثان
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن ابن بي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت قال زيد بن عمرو بن نفيل
( عزلتُ الجنَّ والجِنَّانَ عنِّي ... كذلك يفعل الجَلْدُ الصَّبُورُ )
( فلا العُزَّى أدينُ ولا ابنتَيها ... ولا صَنَمي بني غَنمٍ أزورُ )
( ولا هُبَلاً أديِنُ وكان رَبّاً ... لنا في الدهر إذا حِلمِي صغيرُ )
( أربّاً واحداً أم ألفَ ربَّ ... أدينُ إذا تقُسِّمتِ الأُمُورُ )
( ألم تعلمْ بأنَّ الله أفنى ... رجالاً كان شأنَهُمُ الفُجورُ )
( وأبقى آخرين ببِرِّ قومٍ ... فيربو منهم الطفلُ الصغيرُ )
( وبينا المرء يَعْثُرُ ثابَ يوما ... كما يتروّح الغُصنُ النّضيرُ )

فقال ورقة بن نوفل لزيد بن عمرو بن نفيل
( رَشِدَت وأنعمتَ ابنَ عمرو وإِنما ... تَجَنّبْتَ تَنُّوراً من النار حاميا )
( بدِينك ربّاً ليس رب كمثله ... وتَرْكِكَ جِنّان الجبالِ كما هيا )
( أقول إذا ما زُرتُ أرضاً مخوفةً ... حَنَانَيْكَ لا تُظْهِرْ عليَّ الأعاديَا )
( حَنَانَيْكَ إنّ الجنّ كانت رجاءَهُم ... وأنت إلهي ربَّنا ورَجائيَا )
( أدينُ لربٍّ يستجيبُ ولا أُرَى ... أَدِينُ لمن لا يسمع الدهرَ داعيا )
( أقولُ إذا صلَّيْتُ في كلِّ بِيعَةٍ ... تباركتَ قد أكثرتَ باسمك داعيَا )
يقول خلقت خلقا يدعون باسمك
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله قال حدثني الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة قال سمعت من أرضى يحدث
أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماء وأثبت لها من الأرض نباتا ثم تذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له

قصته مع النبي
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث عن رسول الله أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح

وكان قبل أن ينزل على رسول الله الوحي فقدم إليه رسول الله سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل وقال إني لا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الله بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الرحمن قال قال موسى لا أراه إلا حدثه عن عبد الله بن عمر
أن زيد بن عمرو خرج إلى الشأم يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال لعلي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم فقال اليهودي إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله فقال زيد بن عمرو لا أفر إلا من غضب الله وما أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع فهل تدلني على دين ليس فيه هذا قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا قال وما الحنيف قال دين إبراهيم فخرج من عنده وتركه
فأتى عالما من علماء النصارى فقال له نحوا مما قال لليهودي فقال له النصراني إنك لن تكون على دينك حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله فقال إني لا أحمل من لعنة ولا من غضبه شيئا أبدا وأنا أستطيع فهل تدلني على دين ليس فيه هذا فقال له نحوا ممن قال اليهودي لا أعلمه إلا أن يكون حنيفا فخرج من عندهما وقد رضي بما أخبراه واتفقا عليه من دين إبراهيم فلما برز رفع يديه وقال اللهم إني على دين إبراهيم
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة
بلغنا أن زيد بن عمرو كان بالشأم فلما بلغه خبر النبي أقبل يريده فقتله أهل ميفعة
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد

الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو قال
سألت أنا وعمر بن الخطاب رسول الله عن زيد فقال " يأتي يوم القيامة أمة وحده "
وأنشد محمد بن الضحاك عن الحزامي عن أبيه لزيد بن عمرو
( أسلمتُ وجهي لمن أسملتْ ... له المُزْن تحمِل عَذْبّاً زُلاَلا )
( وأسلمتُ وجهِي لمن أسلمتْ ... له الأرض تَحمِل صَخْراً ثِقَالا )
( دَحاها فلما استوتْ شدّها ... سَواءً وأرسَى عليها الجِبَالا )

شعر زهير بن جناب في الكبر
وأما زهير بن جناب الكلبي فإنه أحد المعمرين يقال إنه عمر مائة وخمسين سنة وهو فيما ذكر أحد الذين شربوا الخمر في الجاهلية حتى قتلتهم وكان قد بلغ من السن الغاية التي ذكرناها فقال ذات يوم إن الحي ظاعن فقال عبد الله بن عليم بن جناب إن الحي مقيم فقال زهير إن الحي مقيم فقال عبد الله إن الحي ظاعن فقال من هذا الذي يخالفني منذ اليوم قيل ابن أخيك عبد الله بن عليم فقال أو ما هاهنا أحد ينهاه عن ذلك قالوا لا فغضب وقال لا أراني قد خولفت ثم دعا بالخمر فشربها صرفا بغير مزاج وعلى غير طعام حتى قتلته
وهو الذي يقول في ذم الكبر وطول الحياة
( الموتُ خير للفتى ... فليهلكن وبه بقيه )
( من أن يُرى الشّيخَ البَجالَ ... إذا تَهادَى بالعشيَّهْ )
( أبني أن أهلِكْ فقد ... أورثتكم مجداً بنيّهْ )
( وتركتُكم أبناء سادات ... زِنادُكُمُ وَريَّهْ )

( بل كلّ ما نال الفتَى ... قد نلتُه إلا التّحيّهْ )
وأما مدرج الريح فاسمه عامر بن المجنون الجرمي وإنما سمي مدرج الريح بشعر قاله في امرأة كان يزعم أنه يهواها من الجن وأنها تسكن الهواء وتتراءى له وكان محمقا وشعره هذا
( لابنة الجنِّيّ في الجَوّ طَلَلْ ... دارسُ الآياتِ عافٍ كالخلَلْ )
( دَرَستْهُ الرّيحُ من بين صَباً ... وجَنوبٍ درَجتْ حِيناً وطَلْ )

صوت
الغناء فيه لحنين ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وذكر حبش أنه لمعبد وذكر عمرو بن بانة أن لحن حنين من خفيف الثقيل الأول بالبنصر
وأخبار عامر بن المجنون تذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى
وأما سعية بن غريض فقد كان ذكر خبر جده السموأل بن غريض بن عاديا في موضع غير هذا
وكان سعية بن غريض شاعرا وهو الذي يقول لما حضرته الوفاة يرثي نفسه
صوت
( يا ليتَ شِعري حين يُذكَر ... ماذا تُؤبنِّنُي به أَنواحي )
( أَيَقُلْنَ لا تبعَدْ فربّ كرِيهة ... فرّجتها ببشارة وسَمَاحِ )
( وإذا دُعيتُ لصَعبةٍ سهّلتُها ... أُدعَى بأفلِحْ تارةً ونَجَاحِ )
غناه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو وأسلم سعية وعمر عمرا طويلا ويقال إنه مات في آخر خلافة معاوية

خبر سعية بن غريض مع معاوية بن أبي سفيان
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية عن الهيثم بن عدي قال
حج معاوية حجتين في خلافته وكانت له ثلاثون بغلة يحج عليها نساؤه وجواريه قال فحج في إحداهما فرأى شيخا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان فقال من هذا قالوا سعية بن غريض وكان من اليهود فأرسل إليه يدعوه فأتاه رسوله فقال أجب أمير المؤمنين قال أو ليس قد مات أمير المؤمنين قيل فأجب معاوية فأتاه فلم يسلم عليه بالخلافة فقال له معاوية ما فعلت أرضك التي بتيماء قال يكسى منها العاري ويرد فضلها على الجار قال أفتبيعها قال نعم قال بكم قال بستين ألف دينار ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها قال لقد أغليت قال أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبل قال أجل وإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي به نفسه فقال قال أبي
( يا ليتَ شِعري حين أُندَبُ هالكاً ... ماذا تُؤبنّني به أَنواحِي )
( أيقلن لا تبعَد فرُبّ كَريهة ... فرّجتُها بشجاعةٍ وسَماحِ )
( ولقد ضربتُ بفضل مالي حقَّه ... عند الشِّتاء وهَبَّة الأرواحِ )
( ولقد أخذتُ الحقَّ غير مخاصم ... ولقد رددتُ الحقَّ غيرَ مُلاَحِي )
( وإذا دُعيتُ لصَعبةٍ سهّلتُها ... أُدعَى بأفلِحْ مرّةً ونَجَاحِ )

فقال أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك قال كذبت ولؤمت قال أما كذبت فنعم وأما لؤمت فلم قال لأنك كنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام أما في الجاهلية فقاتلت النبي والوحي حتى جعل الله عز و جل كيدك المردود وأما في الإسلام فمنعت ولد رسول الله الخلافة وما أنت وهي وأنت طليق ابن طليق فقال معاوية قد خرف الشيخ فأقيموه فأخذ بيده فأقيم
وسعية هذا هو الذي يقول

صوت
( يا دارَ سُعْدَى بأقصَى تَلْعَةِ النَّعَمِ ... حيُيِّتِ داراً على الإقُواء والقِدَمِ )
( وما بِجزْعِكِ إلا الوَحشُ ساكنةً ... وهامدٌ من رَمَادِ القِدْرِ والحُمَمِ )
( عُجْنَا فما كلَّمتنا الدارُ إذ سُئِلَتْ ... وما بها عن جوابٍ خِلتُ من صَمَمِ )
الشعر لسعية بن غريض والغناء لابن محرز ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر

أخبار ابن صاحب الوضوء ونسبه
اسمه محمد بن عبد الله ويكنى أبا عبد الله مولى بني أمية وهو من أهل المدينة وكان أبوه على ميضأة المدينة فسمي صاحب الوضوء وهو قليل الصنعة لم يذكر له إسحاق إلا صوتين كلاهما في خفيف الثقيل المعروف بالماخوري ولا ذكر له غير إسحاق سواهما إلا ما هو مرسوم في الكتاب الباطل المنسوب إلى إسحاق فإن له فيه شيئا كثيرا لا أصل له وفي كتاب حبش الصيني وهو رجل لا يحصل ما يقوله ويرويه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده عن سياط عن يونس الكاتب قال
غنى ابن صاحب الوضوء في شعر النابغة
( خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حبالٍ مَتينةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ إليك نَوَازعُ )
وفي شعر بعض اليهود
( إرفع ضعيفَك لا يحر بك ضعفُه ... يوماً فتدركَه العواقبُ قد نَمَا )
فأجاد فيهما ما شاء وأحسن غاية الإحسان فقيل له ألا تزيد وتصنع شيئا آخر

فقال لا والله حتى أرى غيري قد صنع مثل ما صنعت وأزيد وإلا فحسبي هذا

عبد الله بن عامر يغني صوتا في المحراب
أخبرني أحمد بن عبد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس الشيعي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي قال ابن عمار في خبره وكان يسمى المبارك قد حدثنا أبو مسلمة المصبحي قال
قدم علينا أسود من أهل الكوفة فغنى
( اِرفَعْ ضعيفَك لا يحرْ بك ضعفُه ... يوماً فتدركَه العواقب قد نَمَا )
قال فمررت بعبد الله بن عامر الأسلمي وكان يؤمنا وهو قائم يصلي الظهر فقلت له قدم علينا أسود من الكوفة يغني كذا وكذا فأجاده فأشار إلي بيده أن اجلس فلما قضى صلاته قال أخذته عنه قلت نعم قال فأمره علي ففعلت قال فلما كان بالليل صلى بنا فأداه في المحراب
صوت من المائة المختارة التي رواها علي بن يحيى
( يا ليلَتي تَزْدادُ نُكْراَ ... مِنْ حُبِّ مَنْ أحببتُ بِكْرَا )
( حَوْراءُ إن نظرَتْ إليك ... َ سقَتْك بالعينين خمرَا )
الشعر لبشار والغناء في اللحن المختار ليزيد حوراء رمل بالبنصر عن عمرو ويحيى المكي وإسحاق وفيه لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وإبراهيم الموصلي

أخبار بشار بن برد ونسبه
هو فيما ذكره الحسن بن علي عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن غيلان الشعوبي بشار بن برد بن يرجوخ بن أزدكرد بن شروستان بن بهمهن بن دارا بن فيروز بن كرديه بن ماهفيدان بن دادان بن بهمن بن أزدكرد بن حسيس بن مهران ابن خسروان بن أخشين بن شهرداد بن نبوذ بن ما خرشيدا نماذ بن شهريار بن بنداد سيحان بن مكرر بن ادريوس بن يستاسب بن لهراسف قال وكان يرجوخ بن طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة ويكنى بشار أبا معاذ
ومحله في الشعر وتقدمه طبقات المحدثين فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه وإطالة ذكر محله وهو من مخضرمي شعراء الدولتين العباسية والأموية قد شهر فيهما ومدح وهجا وأخذ سني الجوائز مع الشعراء
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال قال حميد بن سعيد
كان بشار من شعب ادريوس بن يستاسب الملك بن لهراسف الملك
قال وهو بشار بن برد بن بهمن بن أزدكرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز قال وكان يكنى أبا معاذ

وأخبرني يحيى بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي وغيرهما عن الحسن بن عليل العنزي عن خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال
كان بشار بن برد بن يرجوخ وأبوه برد من قن خيرة القشيرية امرأة المهلب بن أبي صفرة وكان مقيما لها في ضيعتها بالبصرة المعروفة بخيرتان مع عبيد لها وإماء فوهبت بردا بعد أن زوجته لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها فولدت له امرأته وهو في ملكها بشارا فأعتقته العقيلية
وأخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان برد أبو بشار مولى أم الظباء العقيلية السدوسية فادعى بشار أنه مولى بني عقيل لنزوله فيهم
وأخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثني رجل من ولد بشار يقال له حمدان كان قصارا بالبصرة قال ولاؤنا لبني عقيل فقلت لأيهم فقال لبني ربيعة بن عقيل
وأخبرني وكيع قال حدثني سليمان المدني قال قال أحمد بن معاوية الباهلي كان بشار وأمه لرجل من الأزد فتزوج امرأة من بني عقيل فساق إليها بشارا وأمه في صداقها وكان بشار ولد مكفوفا فأعتقته العقيلية
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال

حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال حدثني محمد بن الحجاج قال
باعت أم بشار بشارا على أم الظباء السدوسية بدينارين فأعتقته وأم الظباء امرأة أوس بن ثعلبة أحد بني تيم اللات بن ثعلبة وهو صاحب قصر أوس بالبصرة وكان أوس أحد فرسان بكر بن وائل بخراسان

كان أبوه طيانا
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن زيد العجلي قال أخبرني بدر بن مزاحم
أن بُرداً أبا بشار كان طيانا يضرب اللبن وأراني أبي بيتين لنا فقال لي لبن هذين البيتين من ضرب برد أبي بشار فسمع هذه الحكاية حماد عجرد فهجاه فقال
( يابنَ بُردٍ إخْسَأْ إليكَ فمثلُ الكلبِ ... في الناس أنتَ لا الإِنسانِ )
( بل لَعَمْرِي لأنتَ شرّ من الكلب ... وأَوْلَى منه بكلّ هَوَان )
( ولَرِيحُ الخنزيرِ أهونُ من رِيحكَ ... يابنَ الطيّانِ ذِي التُّبَّانِ )
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن أبي الصلت البصري عن أبي عدنان قال حدثني يحيى بن الجون العبدي راوية بشار قال
قال لما دخلت على المهدي قال لي فيمن تعتد يا بشار فقلت أما

اللسان والزي فعربيان وأما الأصل فعجمي كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين
( ونُبِّئتُ قوماً بهم جِنَّةٌ ... يقولونَ مَنْ ذا وكنتُ العَلْم )
( ألا أَيُّها السائِلي جاهداً ... لِيَعْرِفَنِي أنا أنفُ الكَرَمْ )
( نَمَتْ في الكرامِ بَنِي عامرٍ ... فُروعِي وأصْلِي قريشُ العَجَمْ )
( فإني لأُغْنِي مَقامَ الفتى ... وأُصْبِي الفتاةَ فما تَعتَصِمْ )
قال وكان أبو دلامة حاضرا فقال كلا لوجهك أقبح من ذلك ووجهي مع وجهك فقلت كلا والله ما رأيت رجلا أصدق على نفسه وأكذب على جليسه منك والله إني لطويل القامة عظيم الهامة تام الألواح أسجح الخدين ولرب مسترخي المذروين للعين فيه مراد قد جلس من الفتاة حجرة وجلست منها حيث أريد فأنت مثلي يا مرضعان قال فسكت عني
ثم قال لي المهدي فمن أي العجم أصلك فقلت من أكثرها في الفرسان وأشدها على الأقران أهل طخارستان فقال بعض القوم أولئك الصغد فقلت لا الصغد تجار فلم يردد ذلك المهدي

وكان بشار كثير التلون في ولائه شديد الشغب والتعصب للعجم مرة يقول يفتخر بولائه في قيس
( أَمِنْتُ مَضَرَّةَ الفُحَشَاء أني ... أرَى قيساً تَضُرُّ ولا تُضَارُ )
( كأن الناسَ حين تَغِيبُ عنهم ... نباتُ الأرضِ أخطأهُ القِطارُ )
( وقد كانت بتَدْمُرَ خيلُ قيسٍ ... فكان لِتَدْمُرٍ فيها دَمَارُ )
( بحيٍّ من بني عَيْلانَ شُوسٍ ... يَسيرُ الموتُ حيث يقالُ سَارُوا )
( وما نَلَقَاهُمُ إلا صَدَرْنا ... بِرِيً منهمُ وهُمُ حِرَارُ )
ومرة يتبرأ من ولاء العرب فيقول
( أصبحت مولَى ذي الجلالِ وبعضُهمْ ... مولَى العُرَيبِ فخذْ بفضلك فافَخر )
( مَولاكَ أكرمُ من تميم كلِّها ... أهلِ الفَعَالِ ومن قُريِش المشْعر )
( فارجِعْ إلى مولاكَ غيرَ مُدَافَع ... سُبحانَ مَولاكَ الأجلِّ الأكبر )

لقبه وسبب ذلك
وقال يفتخر بولاء بني عقيل
( إنّني من بني عُقَيلِ بن كعبٍ ... مَوضِعَ السّيفِ مِنْ طُلَى الأعناقِ )

ويكنى بشار أبا معاذ ويلقب بالمرعث
أخبرني عمي ويحيى بن علي قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن سلام قال بشار المرعث هو بشار بن برد وإنما سمي المرعث بقوله
( قال رِيمٌ مُرَعَّثٌ ... ساحرُ الطَّرِف والنَّظْر )
( لستَ واللَّهِ نائلي ... قلتُ أو يَغْلِبُ القَدَرْ )
( أنتَ إن رُمتَ وَصْلَنا ... فانجُ هل تُدْرِكُ القَمَرْ )
قال أبو أيوب وقال لنا ابن سلام مرة أخرى إنما سمي بشار المرعث لأنه كان لقميصه جيبان جيب عن يمينه وجيب عن شماله فإذا أراد لبسه ضمه عليه من غير أن يدخل رأسه فيه وإذا أراد نزعه حل أزرار وخرج منه فشبهت تلك الجيوب بالرعاث لاسترسالها وتدليها وسمي من أجلها المرعث
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثني أبو حاتم قال قال لي أبو عبيدة
لقب بشار بالمرعث لأنه كان في أذنه وهو صغير رعاث
والرعاث القرطة واحدتها رعثة وجمعها رعاث ورعثات
ورعثات الديك اللحم المتدلي تحت حنكه قال الشاعر
( سَقَيْتُ أبا المصرَّعِ إذ أتانِي ... وذُو الرّعَثَاتِ مًنتَصِبٌ يَصيحُ )
( شراباً يهرُبُ الذِّبَّانُ منه ... ويَلْثَغُ حين يشرَبه الفَصيحُ )
قال والرعث الاسترسال والتساقط فكأن اسم القرطة اشتق منه
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثنا محمد بن بدر

العجلي قال سمعت الأصمعي يذكر أن بشارا كان من أشد الناس تبرما بالناس وكان يقول الحمد لله الذي ذهب ببصري فقيل له ولم يا أبا معاذ قال لئلا أرى من أبغض
وكان يلبس قميصا له لبنتان فإذا أراد أن ينزعه نزعه من أسفله فبذلك سمي المرعث
أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا قعنب بن محرز عن الأصمعي قال
كان بشار ضخما عظيم الخلق والوجه مجدورا طويلا جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم أحمر فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظرا وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب

هجاء أبي هشام الباهلي في عمى بشار
أخبرنا يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن محمد بن سلام قال
ولد بشار أعمى وهو الأكمه وقال في تصداق ذلك أبو هشام الباهلي يهجوه
( وعبدِي فَقَا عينيكَ في الرِّحْمِ أَيرهُ ... فجئتَ ولم تَعلَم لعينيكَ فَاقِيَا )
( أَأُمُّكَ يا بشّارُ كانت عفيفةً ... عليّ إذا مشيي إلى البيت حَافيا )
قال ولم يزل بشار منذ قال فيه هذين البيتين منكسرا
أخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال
ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في

شعره فيأتى بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله فقيل له يوما وقد أنشد قوله
( كأنّ مُثَارَ النقعِ فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهَاوَى كواكبُهْ )
ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئا فيها فقال إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته ثم أنشدهم قوله
( عَمِيتُ جَنِيناً والذكاءُ من العَمَى ... فجئتُ عجيبَ الظنِّ للعلم مَوْئلاَ )
( وغاضَ ضياءُ العين للعلم رافداً ... لِقلب إذا ضيَعّ الناسُ حَصّلا )
( وشِعرٍ كنَوْرِ الروض لاءمتُ بينَه ... بقولٍ إذا ما أحزن الشعرُ أسهلا )
أخبرنا هاشم قال حدثنا العنزي عن قعنب بن محرز عن أبي عبد الله الشرادني قال كان بشار أعمى طويلا ضخما آدم مجدورا
وأخبرني يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني قال قال الحمراني قالت لي عمتي زرت قرابة لي في بني عقيل فإذا أنا بشيخ أعمى ضخم ينشد
( مِنَ المَفْتونِ بَشّارِ بنِ بُرْدِ ... إلى شَيْبانَ كَهْلِهِمُ ومُرْدِ )
( بأنّ فتاتَكم سَلَبتْ فؤادي ... فنِصْفٌ عندها والنصفُ عندي )
فسألت عنه فقيل لي هذا بشار
أخبرني محمد بن يحيى الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو زيد قال سمعت أبا محمد التوزي يقول قال بشار أزرى بشعري الأذان يقول إنه إسلامي

وأخبرني حبيب بن نصر المهلي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة
قال بشار الشعر ولم يبلغ عشر سنين ثم بلغ الحلم وهو مخشي معرة لسانه
قال وكان بشار يقول هجوت جريرا فأعرض عني واستصغرني ولو أجابني لكنت أشعر الناس

قول الأصمعي عنه إنه خاتمة الشعراء
وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال
كان الأصمعي يقول بشار خاتمة الشعراء والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم
قال أبو زيد كان راجزا مقصدا
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو عبيدة قال سمعت بشارا يقول وقد أنشد في شعر الأعشى
( وأنكَرْتِني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادث إلا الشَّيْبَ والصَّلَعَا )
فأنكره وقال هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى فعجبت لذلك فلما كان بعد هذا بعشر سنين كنت جالسا عند يونس فقال حدثني أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى
( وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا )

فجعلت حينئذ أزداد عجبا من فطنة بشار وصحة قريحته وجودة نقده للشعر

عدد قصائده
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
قال بشار لي اثنا عشر ألف بيت عين فقيل له هذا ما لم يكن يدعيه أحد قط سواك فقال لي اثنتا عشرة ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت عين
وأخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي عن أبي حاتم قال
قلت لأبي عبيدة أمروان عندك أشعر أم بشار فقال حكم بشار لنفسه بالاستظهار أنه قال ثلاثة عشر ألف بيت جيد ولا يكون عدد الجيد من شعر شعراء الجاهلية والإسلام هذا العدد وما أحسبهم برزوا في مثلها ومروان أمدح للملوك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال
قال بشار الشعر وله عشر سنين فلما بلغ الحلم إلا وهو مخشي معرة اللسان بالبصرة
قال وكان يقول هجوت جريرا فاستصغرني وأعرض عني ولو أجابني لكنت أشعر أهل زماني
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو العواذل زكريا بن هارون قال

قال بشار لي اثنا عشر ألف بيت جيدة فقيل له كيف قال لي اثنتا عشرة ألف قصيدة أما في كل قصيدة منها بيت جيد
وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وقد ذكره كان بشار شاعرا خطيبا صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المفتنين في الشعر القائلين في أكثر أجناسه وضروبه قال الشعر في حياة جرير وتعرض له وحكى عنه أنه قال هجوت جريرا فأعرض عني ولو هاجاني لكنت أشعر الناس
قال الجاحظ وكان بشار يدين بالرجعة ويكفر جميع الأمة ويصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين وذكر ذلك في شعره فقال
( الأَرْضُ مُظْلِمَةٌ والنارُ مُشْرِقَةٌ ... والنارُ معبودةٌ مذ كانتِ النارُ )
قال وبلغه عن أبي حذيفة واصل بن عطاء إنكار لقوله وهتف به فقال يهجوه
( ما لي أُشايِعُ غَزّالاً له عُنُقٌ ... كنِقْنِقِ الدَّوِّ إنْ وَلَّى وإِنْ مثَلا )
( عُنْقَ الزِّرافةِ ما بالي وبالُكُم ... تُكَفِّرُون رجالاً كَفَّرُوا رَجلا )
قال فلما تتابع على واصل منه ما يشهد على إلحاده خطب به واصل وكان

ألثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه فقال أما لهذا الأعمى الملحد أما لهذا المشنف المكني بأبي معاذ من يقتله أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله ثم كان لا يتولى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي فقال أبا معاذ ولم يقل بشارا وقال المشنف ولم يقل المرعث وقال من سجايا الغالية ولم يقل الرافضة وقال في منزله ولم يقل في داره وقال يبعج بطنه ولم يقل يبقر للثغة التي كانت به في الراء
قال وكان واصل قد بلغ من اقتداره على الكلام وتمكنه من العبارة أن حذف الراء من جميع كلامه وخطبه وجعل مكانها ما يقوم مقامها

هو أحد أصحاب الكلام الستة
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن عافية بن شبيب قال حدثني أبو سهيل قال حدثني سعيد بن سلام قال
كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام عمرو بن عبيد وواصل بن

عطاء وبشار الأعمى وصالح بن عبد القدوس وعبد الكريم بن أبي العوجاء ورجل من الأزدي وقال أبو أحمد يعني جرير بن حازم فكانوا يجتمعون في منزل الأسدي ويختصمون عنده
فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال
وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة
وأما بشار فبقي متحيرا مخلطا
وأما الأزدي فمال إلى قول السمنية وهو مذهب من مذاهب الهند وبقي ظاهره على ما كان عليه
قال فكان عبد الكريم يفسد الأحداث فقال له عمرو بن عبيد قد بلغني أنك تخلوا بالحدث من أحادثنا فتفسده وتستزله وتدخله في دينك فإن خرجت من مصرنا وإلا قمت فيك مقاما آتي فيه على نفسك فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان فقتله وصلبه بها وله يقول بشار
( قلْ لعبد الكريم يابنَ أبي العَوْجاء ... بعتَ الإِسلامَ بالكفر موقا )
( لا تصلِّي ولا تصوم فإِن صُمتَ ... فبعضَ النّهار صوماً رقَيقَا )
( لا تُبالِي إذا أصبتَ من الخمر ... عَتيقاً ألاّ تكون عَتيقَا )
( ليتَ شعري غداةَ حُلّيتَ في الجيد ... حَنيفاً حُلّيت أم زنديقَا )
( أنت ممّن يَدُور في لَعنة الله ... صديق لمن ينيك الصديقَا )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الرياشي قال سئل الأصمعي عن بشار

ومروان أيهما أشعر فقال بشار فسئل عن السبب في ذلك فقال لأن مروان سلك طريقا كثر ما يسلكه فلم يلحق من تقدمه وشركه فيه من كان في عصره وبشار سلك طريقا لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به وهو أكثر تصرفا وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعا ومروان لم يتجاوز مذاهب الأوائل
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني العنزي عن أبي حاتم قال سمعت الأصمعي وقد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان بن أبي حفصة فقال وجد أهل بغداد قد ختموا به الشعراء وبشار أحق بأن يختموهم به من مروان فقيل له ولم فقال وكيف لا يكون كذلك وما كان مروان في حياة بشار يقول شعرا حتى يصلحه له بشار ويقومه وهذا سلم الخاسر من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر ويساويه في الجوائز وسلم معترف بأنه تبع لبشار

بشار أحسن الناس ابتداء بين المحدثين
أخبرني جحظة قال سمعت علي بن يحيى المنجم يقول سمعت من لا أحصي في الرواة يقولون أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول
( ألا انعِمْ صبَاحا أيُّها الطَّلل البالِي ... )
وحيث يقول
( قِفَا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزِلِ ... )

وفي الإسلام القطامي حيث يقول
( إنّا مُحيّوكَ فأسلمَ أيُّها الطّللُ ... )
ومن المحدثين بشار حيث يقول

صوت
( أبَى طَلَلٌ بالجِزْع أن يتكلّما ... وماذا عليه لو أجاب مُتّيما )
( وبالفرع آثارٌ بقين وباللِّوى ... مَلاعبُ لا يُعرَفْنَ إلا تَوهُّما )
وفي هذين البيتين لابن المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى من كتابه وفيهما لابن جؤذر رمل
أخبرني عمي عن الكراني عن أبي حاتم قال
كان الأصمعي يعجب بشعر بشار لكثرة فنونه وسعة تصرفه ويقول كان مطبوعا لا يكلف طبعه شيئا متعذرا لا كمن يقول البيت ويحككه أياما
وكان يشبه بشارا بالأعشى والنابغة الذبياني ويشبه مروان بزهير والحطيئة ويقول هو متكلف
قال الكراني قال أبو حاتم وقلت لأبي زيد أيما أشعر بشار أم مروان

فقال بشار أشعر ومروان أكفر
قال أبو حاتم وسألت أبا زيد مرة أخرى عنهما فقال مروان أجد وبشار أهزل فحدثت الأصمعي بذلك فقال بشار يصلح للجد والهزل ومروان لا يصلح إلا لأحدهما

كان الناس يعجبون بشعره ويتناشدونه
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثنا نجم بن النطاح قال
عَهدي بالبصرة وليس فيها غَزِل ولا غَزِلَةٌ إلاّ يَرْوِي من شعر بشّار ولا نائحة ولا مغنية إلا تتكسب به ولا ذو شرف إلا وهو يهابه ويخاف معرة لسانه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن المبارك قال حدثني أبي قال
قلت لبشار ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم وشك فيه وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه قال ومن أين يأتيني الخطأ ولدت هاهنا ونشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت فمن أين يأتيني الخطأ

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز ويحيى بن علي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال
كان الأصمعي يقول إن بشارا خاتمة الشعراء والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبو الفضل المروزي قال حدثني قعنب بن المحرز الباهلي قال قال الأصمعي
لقي أبو عمرو بن العلاء بعض الرواة فقال له يا أبا عمرو من أبدع الناس بيتا قال الذي يقول
( لم يَطُلْ ليلى ولكن لم أنَمْ ... ونفَى عنِّي الكَرَى طيفٌ ألمّ )
( رَوِّحي عنّي قليلاً واعلَمي ... أنّني يا عَبْدَ من لحمٍ ودَمْ )
قال فمن أمدح الناس قال الذي يقول
( لَمَستُ بكفّي كفَّه أبتغِي الغِنَى ... ولم أدر أنّ الجود من كفّه يُعْدِي )
( فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنَى ... أفدتُ وأعداني فأَتلفت ما عندِي )
قال فمن أهجى الناس قال الذي يقول
( رأيت السُّهيْلَينَ استوَى الجودُ فيهما ... على بُعْد ذا من ذاك في حُكم حاكمِ )
( سُهَيل بن عثمانٍ يَجود بماله ... كما جاد بالوَجْعا سُهَيلُ بن سالمِ ) قال وهذه الأبيات كلها لبشار

نسبة ما في هذا الخبر من الأشعار التي يغنى فيها
صوت
( لم بَطُّلْ ليلى ولكن لم أنَمْ ... ونَفى عنِّي الكرى طيفٌ ألمّ )
( وإِذا قلتُ لها جُودِي لنا ... خرجتْ بالصَّمْت عن لا ونعَمْ )
( نَفِّسي يا عَبْدَ عنِّي واعلمي ... أنّني يا عبدَ من لحمٍ ودمْ )
( إنَّ في بُرْدَيَّ جسماً ناحِلاً ... لو توكّأتِ عليه لانهدَمْ )
( ختَم الحبُّ لها في عُنُقي ... موضِعَ الخاتَمِ من أهل الذِّممْ )
غناه إبراهيم هزجا بالسبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكي والهشامي وفيه لقعنب الأسود خفيف ثقيل
فأما الأبيات التي ذكر أبو عمرو أنه فيها أمدح الناس وأولها
( لَمَسْتُ بكفِّي كفَّه أبتَغِي الغِنَى ... )
فإنه ذكر أنها لبشار وذكر الزبير بن بكار أنها لابن الخياط في المهدي وذكر له فيها معه خبرا طويلا قد ذكرته في أخبار ابن الخياط في هذا الكتاب
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي الكسروي قال حدثنا أبو حاتم قال
كان بشار كثير الولوع بديسم العنزي وكان صديقا له وهو مع ذلك يكثر هجاءه وكان ديسم لا يزال يحفظ شيئا من شعر حماد وأبي هشام الباهلي في بشار فبلغه ذلك فقال فيه

( أَدَيْسَمُ يابنَ الذئبِ من نَجْلِ زَارعٍ ... أَتَرْوِي هَجِائي سَادِراً غيرَ مُقْصِرِ )
قال أبو حاتم فأنشدت أبا زيد هذا البيت وسأتله ما يقول فيه فقال لمن هذا الشعر فقلت لبشار يقوله في ديسم العنزي فقال قاتله الله ما أعلمه بكلام العرب ثم قال الديسم ولد الذئب من الكلبة ويقال للكلاب أولاد زارع والعسبار ولد الضبع من الذئب والسمع ولد الذئب من الضبع وتزعم العرب أن السمع لا يموت حتف أنفه وأنه أسرع من الريح وإنما هلاكه بعرض من أعراض الدنيا

خبره مع حمدان الخراط
أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان بالبصرة رجل يقال له حمدان الخراط فاتخذ جاما لإنسان كان بشار عنده فسأله بشار أن يتخذ له جاما فيه صور طير تطير فاتخذه له وجاءه به فقال له ما في هذا الجام فقال صور طير تطير فقال له قد كان ينبغي أن تتخذ فوق هذه الطير طائرا من الجوارح كأنه يريد صيدها فإنه كان أحسن قال لم أعلم قال بلى قد علمت ولكن علمت أني أعمى لا أبصر شيئا وتهدده بالهجاء فقال له حمدان لا تفعل فإنك تندم قال أو تهددني أيضا قال نعم قال فأي شيء تستطيع أن تصنع بي إن هجوتك قال أصورك على باب داري بصورتك هذه وأجعل من خلفك قردا ينكحك حتى يراك الصادر والوارد قال بشار اللهم اخزه أنا أمازحه وهو يأبى إلا الجد

قول بشار في جرير بن المنذر السدوسي
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى والحسن بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي قالوا حدثنا العنزي قال حدثني جعفر بن محمد العدوي عن محمد بن سلام قال حدثني مخلد أبو سفيان قال
كان جرير بن المنذر السدوسي يفاخر بشارا فقال فيه بشار
( أَمِثْلُ بَني مُضَرٍ وَائِلٌ ... فَقَدتُكَ من فاخرٍ ما أَجَنْ )
( أفِي النومِ هذا أبا مُنْذِرٍ ... فَخَيْرا رأيتَ وخيراً يَكُنْ )
( رأيتُكَ والفخرَ في مثلِهَا ... كعاجنةٍ غيرَ ما تَطَّحِنْ )
وقال يحيى في خبره فحدثني محمد بن القاسم قال حدثني عاصم بن وهب أبو شبل الشاعر البرجمي قال حدثني محمد بن الحجاج السراداني قال
كنا عند بشار وعنده رجل ينازعه في اليمانية والمضرية إذ أذن فقال له بشار رويدا تفهم هذا الكلام فلما قال أشهد أن محمدا رسول الله قال له بشار أهذا الذي نودي باسمه مع اسم الله عز و جل من مضر هو أم من صداء وعك وحمير فسكت الرجل
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال أنشد بشار قول الشاعر
( وقد جَعل الأعداءُ ينتقِصُوننا ... وتطمَعُ فينا ألسُنٌ وعيونُ )

( ألا إنما ليلى عَصَا خَيزُرَانةٍ ... إذا غمزُوها بالأكفّ تَلينُ )
فقال والله لو زعم أنها عصا مخ أو عصا زبد لقد كان جعلها جافية خشنة بعد أن جعلها عصا ألا قال كما قلت
( ودَعْجاءِ المَحَاجِر من مَعَدٍّ ... كأن حديثَها ثَمرُ الجِنَانِ )
( إذا قامت لِمشيتها تثنَّتْ ... كأن عظامَها من خَيْزُرَانِ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني محمد بن صالح بن الحجاج قال
قلت لبشار إني أنشدت فلانا قولك
( إذا أنتَ لم تَشْرَبْ مِرَاراً على القَذَى ... ظَمِئْتَ وأيُّ الناسِ تَصفُو مَشَارِبُهْ )
فقال لي ما كنت أظنه إلا لرجل كبير فقال لي بشار ويلك أفلا قلت له هو والله لأكبر الجن والإنس

خبره مع امرأة وعدته أن تزوره ليلا وأخلفت
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل عن محمد بن الحجاج قال
كان بشار يهوى امرأة من أهل البصرة فراسلها يسألها زيارته فوعدته بذلك ثم أخلفته وجعل ينتظرها ليلته حتى أصبح فلما لم تأته أرسل إليها يعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها فكتب إليها بهذه الأبيات
( يا لَيْلَتي تَزدادُ نُكْرا ... مِن حُبِّ مَنْ أحببتُ بِكْرا )

( حَوراءُ إن نظرت إليك ... َ سقتكَ بالعينينِ خَمرا )
( وكأن رَجْعَ حديثِها ... قِطَعُ الرياض كُسِين زَهْرَا )
( وكأن تحت لسانُها ... هاروتَ ينفُثُ فيه سِحْرَا )
( وتَخالُ ما جمعَتْ عليه ... ثيابَها ذهباً وعِطْرا )
( وكأنّها بَرْدُ الشراب ... صَفَا ووافق منْك فِطْرَا )
( جِنِّيَّةٌ إنسيَّةٌ ... أوَ بينَ ذاك أجلُّ أمرَا )
( وكفاك أنّي لم أحِطْ ... بشَكاةِ مَنْ أحببتُ خُبَرا )
( إلا مقالةَ زائرٍ ... نثَرَتْ لِيَ الأحزانَ نثرَا )
( مُتَخشِّعاً تحت الهَوى ... عشراً وتحت الموتِ عشرَا )
حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى قال
كان إسحاق الموصلي لا يعتد ببشار ويقول هو كثير التخليط في شعره وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضا أليس هو القائل
( إنما عَظْمُ سُلَيمَى حِبِّتي ... قَصَبُ السُّكَّرِ لا عَظْمُ الجَمَلْ )
( وإذا أدْنَيتَ منها بَصلاً ... غلبَ المِسكُ على ريح البَصلْ )
لو قال كل شيء جيد ثم أضيف إلى هذا لزيفه
قال وكان يقدم عليه مروان ويقول هذا هو أشد استواء شعر منه وكلامه ومذهبه أشبه بكلام العرب ومذاهبها وكان لا يعد أبا نواس البتة ولا يرى فيه خيرا

هجاؤه للمنصور
حدثنا محمد بن علي بن يحيى قال حدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال
دخل بشار إلى إبراهيم بن عبد الله بن حسن فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور ويشير عليه برأي يستعمله في أمره فلما قتل إبراهيم خاف بشار فقلب الكنية وأظهر أنه كان قالها في أبي مسلم وحذف منها أبياتا وأولها
( أبا جَعفرٍ ما طولُ عيشٍ بدائمِ ... ولا سالمٌ عمَّا قَليلٍ بسَالمِ )
قلب هذا البيت فقال أبا مسلم
( على المَلِك الجَبّار يَقتحِمُ الردى ... ويصرَعُه في المأزقِ المتلاحمِ )
( كأنك لم تَسمَعْ بقتل مُتوَّجٍ ... عظيم ولم تسمع بفَتكِ الأعاجمِ )
( تَقَسَّمَ كِسرَى رهطُه بسيوفهم ... وأمسى أبو العباسِ أحلامَ نائمِ )
يعني الوليد بن يزيد
( وقد كان لا يَخْشَى انقلابَ مكيدةٍ ... عليه ولا جَرْيَ النُّحُوسِ الأَشائمِ )
( مقيماً على اللّذاتِ حتى بَدتْ له ... وجوهُ المنايا حاسِرَاتِ العمائمِ )

( وقد تَرِدُ الأيامُ غُرّاً ورُبَّمَا ... وَرَدْنَ كُلُوحاً بادياتِ الشَّكائمِ )
( ومَرْوانُ قد دارتْ على رأسه الرحى ... وكان لِمَا أجرمْتَ نَزْرَ الجرائمِ )
( فأصبحتَ تجري سادراً في طريقهم ... ولا تَتَّقِي أشباهَ تلكَ النقائمِ )
( تجرَّدتَ للإِسلام تَعفُو سبيلَه ... وتُعْرِي مَطاهُ للُّيوثِ الضَّراغِم )
( فما زِلتَ حتى استنصرَ الدينُ أهلَه ... عليكَ فعاذُوا بالسَّيوفِ الصوارمِ )
( فَرُمْ وَزراً يُنْجِيكَ يابنَ سَلاَمةٍ ... فلستَ بِنَاجٍ من مَضِيم وضَائِم )
جعل موضع يابن سلامة يابن وشيكة وهي أم أبي مسلم
( لَحَا الله قوماً رأَسُوكَ عليهمُ ... وما زِلتَ مَرْؤوساً خبيثَ المطاعِم )
( أَقُولُ لِبَسَّامٍ عليه جَلاَلَةٌ ... غَدَا أَرْيحيَّا عاشِقاً للمكارم )
( من الفاطمّيينَ الدُّعاة إلى الهدَى ... جِهَاراً ومَنْ يَهْدِيكَ مثلُ ابنِ فاطمِ )
هذا البيت الذي خافه وحذفه بشار من الأبيات
( سِراجٌ لعين المستضِيءِ وتارة ... يكون ظَلاَماً للعدوِّ المزاحِمِ )
( إذا بلغَ الرأيُ المَشُورة فاستعِنْ ... برَاْيِ نَصِيح أو نَصِيحةِ حازمِ )
( ولا تعجَلِ الشُّورَى عليكَ غضَاضَةً ... فإِنّ الخَوافِي قُوّةٌ للقَوادِمِ )
( وما خيرُ كفٍّ أمسكَ الغُلُّ أختَها ... وما خيرُ سَيفٍ لم يُؤيَّدْ بقائمِ )

( وخَلِّ الهُوينَا للضَّعيف ولا تكُنْ ... نَؤُوماً فإِن الحَزْمَ ليس بنائمِ )
( وحَارِبْ إذا لم تُعطَ إلا ظُلاَمةً ... شَبَا الحربِ خيرٌ من قَبُول المظالمِ )
قال محمد بن يحيى فحدثني الفضل بن الحباب قال سمعت أبا عثمان المازني يقول سمعت أبا عبيدة يقول ميمية بشار هذه أحب إلي من ميميتي جرير والفرزدق
قال محمد وحدثني ابن الرياشي قال حدثني أبي قال
قال الأصمعي قلت لبشار يا أبا معاذ إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة فقال لي يا أبا سعيد إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه فقلت له أنت والله في قولك هذا أشعر منك في شعرك

خبر بشار مع رجل في دار المهدي
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق وحدثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه قال
كان بشار جالسا في دار المهدي والناس ينتظرون الإذن فقال بعض موالي المهدي لمن حضر ما عندكم في قول الله عز و جل
( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ) فقال له بشار النحل التي يعرفها الناس قال هيهات يا أبا معاذ النحل بنو هاشم

وقوله ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) يعني العلم فقال له بشار أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم فقد أوسعتنا غثاثة فغضب وشتم بشارا وبلغ المهدي الخبر فدعا بهما فسألهما عن القصة فحدثه بشار بها فضحك حتى أمسك على بطنه ثم قال للرجل أجل فجعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث
وقال محمد بن مزيد في خبره إن الذي خاطب بشارا بهذه الحكاية وأجابه عنها من موالي المهدي المعلى بن طريف

بشار يسخر من خال المهدي
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري وكانت فيه غفلة فقال له يا شيخ ما صناعتك فقال أثقب اللؤلؤ فضحك المهدي ثم قال لبشار أعزب ويلك أتتنادر على خالي فقال له وما أصنع به يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا ويسأله عن صناعته

أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال
وقف على بشار بعض المجان وهو ينشد شعرا فقال له استر شعرك هذا كما تستر عورتك فصفق بشار بيديه وغضب وقال له من أنت ويلك قال أنا أعزك الله رجل من باهلة وأخوالي من سلول وأصهاري عكل واسمي كلب ومولدي بأضاخ ومنزلي بنهر بلال فضحك بشار ثم قال اذهب ويلك فأنت عتيق لؤمك قد علم الله أنك استترت مني بحصون من حديد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الفضل بن سعيد قال حدثني أبي قال
مر بشار بقاص بالبصرة فسمعه يقول في قصصه من صام رجبا وشعبان ورمضان بنى الله له قصرا في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها وعلوه ألف فرسخ وكل باب من أبواب بيوته ومقاصره عشرة فراسخ في مثلها قال فالتفت بشار إلى قائده فقال بئست والله الدار هذه في كانون الثاني
قال الفضل بن سعيد وحدثني رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوج بالنهاريات قال تزوجت امرأة منهن فاجتمعت معها في علو بيت وبشار تحتنا أو كنا في أسفل البيت وبشار في علوه مع امرأة فنهق حمار في الطريق فأجابه حمار في الجيران وحمار في الدار فارتجت الناحية بنهيقها وضرب الحمار الذي في

الدار الأرض برجله وجعل يدقها بها دقا شديدا فسمعت بشارا يقول للمرأة نفخ يعلم الله في الصور وقامت القيامة أما تسمعين كيف يدق على أهل القبور حتى يخرجوا منها قال ولم يلبث أن فزعت شاة كانت في السطح فقطعت حبلها وعدت فألقت طبقا وغضارة إلى الدار فانكسرا وتطاير حمام ودجاج كن في الدار لصوت الغضارة وبكى صبي في الدار فقال بشار صح والله الخبر ونشر أهل القبور من قبورهم أزفت يشهد الله الآزفة وزلزلت الأرض زلزالها فعجبت من كلامه وغاظني ذلك فسألت من المتكلم فقيل لي بشار فقلت قد علمت أنه لا يتكلم بمثل هذا غير بشار

بعض من نوادره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن محمد جدار قال حدثني قدامة بن نوح قال
مر بشار برجل قد رمحته بغلة وهو يقول الحمد لله شكرا فقال له بشار استزده يزدك
قال ومر به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها فقال ما لهم مسرعين أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب وأخبرني به وكيع عن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الملك عن الحسن بن جمهور قالا

توفي ابن لبشار فجزع عليه فقيل له أجر قدمته وفرط افترطته وذخر أحرزته فقال ولد دفنته وثكل تعجلته وغيب وعدته فانتظرته والله لئن لم أجزع للنقص لا أفرح للزيادة
وقال يرثيه
( أَجَارَتَنا لا تَجْزَعِي وأنيبِي ... أتاني من الموت المُطِلِّ نَصِيبي )
( بُنَيِّي على رَغْمِي وسُخْطي رُزِئْتُه ... وبُدِّلَ أحجاراً وجالَ قليبِ )
( وكان كرَيحانِ الغصون تَخالُه ... ذَوى بعد إشراقٍ يَسُرُّ وطِيبِ )
( أُصِيبَ بُنَيِّي حين أورَقَ غُصنُه ... وأَلقَى عليّ الهَمَّ كُلُّ قَريبِ )
( عَجِبتُ لإسراع المنيّةِ نحوَه ... وما كان لو مُلِّيتُهُ بعَجِيبِ )
أخبرني يحيى بن علي قال ذكر عافية بن شبيب عن أبي عثمان الليثي وحدثني به الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي مسلم قالا
رفع غلام بشار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فصاح به بشار وقال والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم
أخبرنا محمد ين يحيى الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا أبو معاذ النميري قال قلت لبشار لم مدحت

يزيد بن حاتم ثم هجوته قال سألني أن أنيكه فلم أفعل فضحكت ثم قلت فهو كان ينبغي له أن يغضب فما موضع الهجاء فقال أظنك تحب أن تكون شريكه فقلت أعوذ بالله من ذلك ويلك
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا أحمد بن خلاد وأخبرنا يحيى بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا أحمد بن خلاد قال حدثني أبي قال قلت لبشار إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت قال وما ذاك قال قلت بينما تقول شعرا تثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك
( إذا ما غَضِبنا عَضْبَةً مُضَرِيَّةً ... هَتكنا حِجابَ الشمس أو تُمْطِرَ الدمَا )
( إذا ما أعَرْنا سَيِّداً من قبيلةٍ ... ذُرَى مِنْبرٍ صلَّى علينا وسَلّمَا )
تقول
( رَبَابَةُ رَبَّةُ البيتِ ... تَصُبُّ الخلَّ في الزَّيتِ )
( لها عَشْرُ دَجَاجَاتٍ ... ودِيكٌ حَسَنُ الصّوتِ )
فقال لكل وجه وموضع فالقول الأول جد وهذا قلته في ربابة جاريتي وأنا لا آكل البيض من السوق وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها فهذا عندها من قولي أحسن من
( قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنزِلِ ... )

عندك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن محمد جدار قال حدثني قدامة بن نوح قال
كان بشار يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها فمن ذلك أنه أنشد يوما شعرا له فقال فيه
( غَنِّني للغَريض يابنَ قنانِ ... )
فقيل له من ابن قنان هذا لسنا نعرفه من مغني البصرة قال وما عليكم منه ألكم قبله دين فتطالبوه به أو ثأر تريدون أن تدركوه أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره قالوا ليس بيننا وبينه شيء من هذا وإنما أردنا أن نعرفه فقال هو رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي فقالوا له إلى متى قال مذ يوم ولد وإلى يوم يموت قال وأنشدنا أيضا في هذه القصيدة
( ووافاني هلالُ السماء في البردانِ )
فقلنا يا أبا معاذ أين البردان هذا لسنا نعرفه بالبصرة فقال هو بيت في بيتي سميته البردان أفعليكم من تسميتي داري وبيوتها شيء فتسألوني عنه
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني أبو غسان دماذ واسمه رفيع بن سلمة قال حدثني يحيى بن الجون العبدي راوية بشار قال
كنا عند بشار يوما فأنشدنا قوله
( وجاريةٍ خُلِقَتْ وحدَها ... كأن النساءَ لديَهْا خَدَمْ )

( دُوَار العذارَى إذا زُرْنَها ... أطَفْنَ بحَوْراءَ مثلِ الصَّنَمْ )
( ظَمِئتُ إليها فلم تَسْقِني ... بِريٍّ ولم تَشْفِنِي من سَقَمْ )
( وقالت هَوِيتَ فمتْ راشِداً ... كما مات عُروةُ غمّاً بغَمّ )
( فلما رأيتُ الهوى قاتِلي ... ولستُ بجارٍ ولا بابنِ عَمّ )
( دَسَسْتُ إليها أبا مِجْلَزٍ ... وأيّ فتىً إن أصابَ اعتزّمْ )
( فما زال حتى أثابتْ له ... فراح وحلَّ لنا ما حَرُمْ )
فقال له الرجل ومن أبو مجلز هذا يا أبا معاذ قال وما حاجتك إليه لك عليه دين أو تطالبه بطائلة هو رجل يتردد بيني وبين معارفي في رسائل
قال وكان كثيرا ما يحشو شعره بمثل هذا

شعره في جارية
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن علي وكانت محسنة بارعة

الظرف وكان بشار صديقا لسيدها ومداحا له فحضر مجلسه يوما والجارية تغني فسر بحضوره وشرب حتى سكر ونام ونهض بشار فقالت يا أبا معاذ أحب أن تذكر يومنا هذا في قصيدة ولا تذكر فيها اسمي ولا اسم سيدي وتكتب بها إليه فانصرف وكتب إليه
( وذاتِ دَلٍّ كأن البدرَ صُورَتُها ... باتَتْ تُغنّي عميدَ القلبِ سكرانَا )
( إنّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ ... قَتَلْننا ثم لم يُحيِينَ قتلانَا )
( فقلتُ أَحسنْتِ يا سُؤْلِي ويا أملي ... فأسمِعيني جزاكِ اللهُ إحسانَا )
( يا حبّذَا جبلُ الرّيان من جبلٍ ... وحبّذا ساكنُ الريّانِ مَنْ كانَا )
( قالتْ فهلاّ فَدتكَ النفسُ أحسن مِنْ ... هذا لِمَنْ كان صبَّ القلبِ حَيرانَا )
( يا قوم أُذْنِي لبعض الحيِّ عاشِقَةٌ ... والأذن تَعشَقُ قبل العين أحيانَا )
( فقلتُ أحسنتِ أنتِ الشمسُ طالعةً ... أضرَمْتِ في القلب والأحشاءِ نيرانَا )
( فأسمِعينِيَ صوتاً مُطرِباً هَزَجاً ... يزيدُ صَبّاً مُحِبّاً فيكِ أشجانَا )
( يا ليتني كنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجةً ... أو كنتُ من قُضبِ الريحان رَيحانا )
( حتى إذا وَجَدَتْ ريحي فأعجبَها ... ونحن في خَلوةٍ مُثِّلْتُ إنسانَا )
( فحرّكَتْ عُودَها ثم انثنَتْ طَرَباً ... تَشْدُو به ثم لا تُخفِيه كتمانَا )
( أصبَحْتُ أطوعَ خَلق الله كُلِّهِمِ ... لأكثرِ الخلق لي في الحبّ عِصيانَا )
( فقلتُ أطربْتِنا يا زَيْنَ مجلِسَنا ... فهاتِ إنكِ بالإحسانِ أولاَنَا )

( لو كنتُ أعلمُ أنّ الحبَّ يقتُلُني ... أعددتَ لي قبل أن ألقاكِ أكفانَا )
( فغنَّتِ الشَّرْبَ صَوْتاً مُؤْنِقاً رمَلاً ... يُذْكِي السّرورَ ويُبْكي العينَ ألوانَا )
( لا يَقتُلُ اللهُ مَنْ دامَتْ مَوَدّتُهُ ... واللهُ يقتُلُ أهلَ الغَدْرِ أحيانا )
ووجه بالأبيات إليها فبعث إليه سيدها بألفي دينار وسر بها سرورا شديدا

هجاؤه لأعرابي
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني علي بن منصور أبو الحسن الباهلي قال حدثني أبو عبد الله المقرئ الجحدري الذي كان يقرأ في المسجد الجامع بالبصرة قال
دخل أعرابي على مجزأة بن ثور السدوسي وبشار عنده وعليه بزة الشعراء فقال الأعرابي من الرجل فقالوا رجل شاعر فقال أمولى هو أم عربي قالوا بل مولى فقال الأعرابي وما للموالي وللشعر فغضب بشار وسكت هنيهة ثم قال أتأذن لي يا أبا ثور قال قل ما شئت يا أبا معاذ فأنشأ بشار يقول
( خليلي لا أنامُ على اقتسارِ ... ولا آبَى على مَوْلىً وجارِ )
( سَأُخبِرُ فاخرَ الأعراب عنّي ... وعنه حين تأذنُ بالفَخارِ )
( أحين كُسِيتَ بعد العُرْيِ خَزّاً ... ونادَمْتَ الكِرامَ على العُقَارِ )
( تُفَاخِرُ يابنَ راعيةٍ وراعٍ ... بني الأحرار حَسبُكَ مِنْ خَسَارِ )
( وكنتَ إذا ظمِئْتَ إلى قَرَاحٍ ... شَرِكْتَ الكلبَ في وَلْغِ الإِطارِ )
( تُريغُ بخُطْبَةِ كسرَ الموالي ... ويُنْسِيكَ المكارمَ صيدُ فَارِ )

( وتَغْدُو للقنافذ تَدَّرِيهَا ... ولم تَعْقِلْ بدَرَّاج الدِّيارِ )
( وتتَّشحُ الشِّمالَ لِلاَبِسيها ... وتَرعَى الضأنَ بالبلدَ القِفَارِ )
( مُقَامُكَ بيننا دَنَسٌ علينا ... فليتَكَ غائِبٌ في حَرِّ نارِ )
( وفخرُكَ بين خنزيرٍ وكلبٍ ... على مِثلي من الحَدَثِ الكُبَارِ )
فقال مجزأة للأعرابي قبحك الله فأنت كسبت هذا الشر لنفسك ولأمثالك
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني العنزي عن الرياشي قال
حضر بشار باب محمد بن سليمان فقال له الحاجب اصبر فقال إن الصبر لا يكون إلا على بلية فقال له الحاجب إني أظن أن وراء قولك هذا شرا ولن أتعرض له فقم فادخل

خبر بشار مع هلال الرأي
( أخبرني وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال
قال هلال الرأي وهو هلال بن عطية لبشار وكان له صديقا يمازحه إن الله لم يذهب بصر أحد إلا عوضه بشيء فما عوضك قال الطويل العريض قال وما هذا قال ألا أراك ولا أمثالك من الثقلاء ثم قال له يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها قال نعم قال إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت وصرت رافضيا فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير لك من الرفض

قال محمد بن سلام وكان هلال يستثقل وفيه يقول بشار
( وكيفَ يَخِفُّ لي بصري وسمعي ... وحَوْلِي عَسكَرانِ مِنَ الثِّقَالِ )
( قُعُوداً حولَ دَسْكَرِتي وعندي ... كأنّ لهم عليّ فضولَ مالِ )
( إذا ما شِئتُ صبَّحني هِلالٌ ... وأيُّ الناس أثقل من هلالِ )
وأخبرني أبو دلف الخزاعي بهذا الخبر عن عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة فذكر أن الذي خاطب بشارا بهذه المخاطبة ابن سيابة فلما أجابه بشار بالجواب المذكور قال له من أنت قال ابن سيابة فقال له يابن سيابة لو نكح الأسد ما افترس قال وكان يتهم بالأبنة
قال أيوب وحدثني محمد بن سلام وغيره قالوا مر ابن أخي بشار به ومعه قوم فقال لرجل معه من هذا فقال ابن أخيك قال أشهد أن أصحابه أنذال قال وكيف علمت قال ليست لهم نعال
أخبرنا محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثني عافية بن شبيب عن أبي دهمان الغلابي قال
مررت ببشار يوما وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق وبيده مخصرة يلعب بها وقدامه طبق فيه تفاح وأترج فلما رأيته وليس عنده أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه فجئت قليلا قليلا وهو كاف يده حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب وضرب به يدي ضربة كاد يكسرها فقلت

له قطع الله يدك يابن الفاعلة أنت الآن أعمى فقال يا أحمق فأين الحس

خبره مع نسوة خمس
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني العنزي قال حدثني خالد ين يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال
كان لبشار في داره مجلسان مجلس يجلس فيه بالغداة يسميه البردان ومجلس يجلس فيه بالعشي اسمه الرقيق فأصبح ذات يوم فاحتجم وقال لغلامه أمسك علي بابي واطبخ لي من طيب طعامي وصف نبيذي قال فإنه لكذلك إذ قرع الباب قرعا عنيفا فقال ويحك يا غلام انظر من يدق الباب دق الشرط قال فنظر الغلام فقال له نسوة خمس بالباب يسألن أن تقول لهن شعرا ينحن به فقال أدخلهن فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه في جانب بيته قال فقالت واحدة منهن هو خمر وقالت الأخرى هو زبيب وعسل وقالت الثالثة نقيع زبيب فقال لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي قال فتماسكن ساعة ثم قالت واحدة منهن ما عليكن هو أعمى فكلن من طعامه واشربن من شرابه وخذن شعره فبلغ ذلك الحسن البصري فعابه وهتف ببشار فبلغه ذلك وكان بشار يسمي الحسن البصري القس فقال

( لما طَلَعْنَ من الرّقيق ... عليّ بالبردانِ خمسَا )
( وكأنهنّ أهِلّةٌ ... تحت الثيابِ زَفَفْنَ شمسَا )
( باكَرْنَ عِطْرَ لَطِيمةٍ ... وغُمِسْنَ في الجادِيّ غمسَا )

صوت
( لمّا طَلْعَنَ خَفَفْنَها ... وأصَخْنَ ما يَهْمِسْنَ هَمْسَا )
( فسألنني مَنْ في البيوت ... فقلتُ مَا يُؤْوِينَ إِنسَا )
( ليتَ العيونَ الطارفات ... ِ طُمِسْنَ عنّا اليومَ طَمْسَا )
( فأصَبْنَ من طُرَفِ الحديثِ ... لَذاذةً وخَرَجْنَ مُلسَا )
( لولا تَعَرُّضُهُنَّ لي ... يا قَسُّ كنتُ كأنتَ قَسَّا )
غنى في هذه الأبيات يحيى المكي ولحنه رمل بالبنصر عن عمرو
أخبرنا يحيى قال حدثني العنزي قال حدثنا علي بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد النوفلي وكان يروي شعر بشار بن برد قال جئت بشارا ذات يوم فحدثني قال ما شعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح فقلت يا جارية انظري من هذا فرجعت إلي وقالت هذا مالك بن دينار فقلت ما هو من أشكالي ولا أضرابي ثم قلت ائذني له فدخل فقال يا أبا معاذ أتشتم أعراض

الناس وتشبب بنسائهم فلم يكن عندي إلا أن دفعت عن نفسي وقلت لا أعود فخرج عني وقلت في أثره
( غَدَا مالكٌ بملاماته ... عليّ وما بات من باليَهْ )
( تَناول خَوْداً هَضِيم الحشَى ... من الحُور مَحظوظةً عاليَهْ )
( فقلتُ دَع اللّوم في حبّها ... فقبلكَ أعيَيتُ عُذّالِيَهْ )
( وإِنّي لأكتمهُم سِرّها ... غداةَ تقول لها الجالِيَهْ )
( عُبَيدةُ مالك مَسلوبةً ... وكنتِ مُعطَّرة حاليَهْ )
( فقالت على رِقْبةٍ إنّني ... رهَنتُ المرَعّث خَلخاليَهْ )
( بمجلس يوم سأُوفِي به ... ولو أَجْلبَ الناسُ أحواليْه )

شعره في محبوبته فاطمة
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا العنزي قال حدثني السميدع بن محمد الأزدي قال حدثني عبد الرحمن بن الجهم عن هشام بن الكلبي قال
كان أول بدء بشار أنه عشق جارية يقال لها فاطمة وكان قد كف وذهب بصره فسمعها تغني فهويها وأنشأ يقول
( دُرّةٌ بَحرّيةٌ مكنونةٌ ... مازها التّاجرُ من بين الدُّررْ )
( عجِبتْ فَطْمةُ من نَعْتي لها ... هل يُجيد النَّعتَ مَكفوفُ البصرْ )

( أمَتَا بدّد هذا لُعَبي ... ووِشاحِي حَلّه حتّى انتثَرْ )
( فدَعِيني مَعه يا أمتا ... عَلَّنا في خَلْوةٍ نَقْضِي الوَطَرْ )
( أقبلتْ مُغضَبةً تضرِبها ... واعتراها كجنون مستعِرْ )
( بأبي والله ما أحسنَه ... دمعُ عين يَغْسِل الكحْلَ قَطَرْ )
( أيُّها النُّوّام هُبّوا ويَحْكَم ... واسألوني اليومَ ما طعمُ السَّهرْ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير قال حدثني أبي عن الحكم بن مخلد بن حازم قال مررت أنا ورجل من عكل من أبناء سوار بن عبد الله بقصر أوس فإذا نحن ببشار في ظل القصر وحده فقال لي العكلي لا بد لي من أن أعبث ببشار فقلت ويحك مه لا تعرض بنفسك وعرضك له فقال إني لا أجده في وقت أخلى منه في هذا الوقت قال فوقفت ناحية ودنا منه فقال يا بشار فقال من هذا الذي لا يكنيني ويدعوني باسمي قال سأخبرك من أنا فأخبرني أنت عن أمك أولدتك أعمى أم عميت بعد ما ولدتك قال وما تريد إلى ذلك قال وددت أنه فسح لك في بصرك ساعة لتنظر إلى وجهك في المرآة فعسى أن تمسك عن هجاء الناس وتعرف قدرك فقال ويحكم من هذا أما أحد يخبرني من هذا فقال له على رسلك أنا رجل من عكل وخالي يبيع الفحم بالعبلاء فما تقدر أن تقول لي قال لا شيء إذهب بأبي أنت في حفظ الله

قوله في خالد بن برمك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني هارون بن علي بن يحيى

المنجم قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني العباس بن خالد البرمكي قال
كان الزوار يسمون في قديم الدهر إلى أيام خالد بن برمك السؤال فقال خالد هذا والله اسم استثقله لطلاب الخير وأرفع قدر الكريم عن أن يسمى به أمثال هؤلاء المؤملين لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبا ولكنا نسميهم الزوار فقال بشار يمدحه بذلك
( حذا خالدٌ في فعله حَذوَ بَرْمكٍ ... فَمجدٌ له مُستطرَف وأَصِيلُ )
( وكان ذوو الآمال يُدعَوْن قبلَه ... بلَفظٍ على الإِعدام فيه دَليلُ )
( يُسمَّون بالسُّؤَّال في كلّ مَوْطِنٍ ... وإِن كان فيهم نابهٌ وجَليِلُ )
( فسمّاهم الزّوّار سَتْراً عليهمُ ... فأستارُه في المُجْتَدين سُدُولُ )
قال وقال بشار هذا الشعر في مجلس خالد في الساعة التي تكلم خالد بهذا الكلام في أمر الزوار فأعطاه لكل بيت ألف درهم
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو شبل عاصم بن وهب قال نهق حمار ذات يوم بقرب بشار فخطر بباله بيت فقال
( ما قام أيرُ حمارٍ فامتلا شَبَقاً ... إلا تحرّك عرقٌ في است تَسْنِيم )
قال ولم يرد تسنيما بالهجاء ولكنه لما بلغ إلى قوله إلا تحرك عرق قال في است من ومر به تسنيم بن الحواري وكان صديقه فسلم عليه وضحك فقال

في است تسنيم علم الله فقال له أيش ويحك فأنشده البيت فقال له عليك لعنة الله فما عندك فرق بين صديقك وعدوك أي شي حملك على هذا ألا قلت في است حماد الذي هجاك وفضحك وأعياك وليست قافيتك على الميم فأعذرك قال صدقت والله في هذا كله ولكن ما زلت أقول في است من في است من ولا يخطر ببالي أحد حتى مررت وسلمت فرزقته فقال له تسنيم إذا كان هذا جواب السلام عليك فلا سلم الله عليك ولا علي حين سلمت عليك وجعل بشار يضحك ويصفق بيديه وتسنيم يشتمه
أخبرنا عيسى بن الحسين قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن عمه قال قالت امرأة لبشار ما أدري لم يهابك الناس مع قبح وجهك فقال لها بشار ليس من حسنه يهاب الأسد

بشار وعقبة بن رؤبة في حضرة عقبة بن سلم
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد ابن الحجاج قال
دخل بشار على عقبة بن سلم فأنشده بعض مدائحه فيه وعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزا يمدحه به فسمعه بشار وجعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ ثم أقبل على بشار فقال هذا طراز لا تحسنه أنت يا معاذ فقال له بشار إلي يقال هذا أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك فقال له عقبة أنا والله وأبي فتحنا

للناس باب الغريب وباب الرجز ووالله إني لخليق أن أسده عليهم فقال بشار ارحمهم رحمك الله فقال عقبة أتستخف بي يا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر فقال له بشار فأنت إذا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثم خرج من عنده عقبة مغضبا
فلما كان من غد غدا على عقبة ابن سلم وعنده عقبة بن رؤبة فأنشده أرجوزته التي مدحه فيها
( يا طَلَلَ الحيِّ بذات الصَّمْدِ ... بالله خبِّرْ كيف كنتَ بعدي )
( أَوْحَشْتَ من دعدٍ وتِرْب دعدِ ... سَقْيا لأسماءَ ابنةِ الأشَدِّ )
( قامَت تَراءَى إذ رأتْني وَحْدِي ... كالشّمس تحتَ الزِّبْرِج المُنْقدِّ )
( صدّت بخدّ وجَلَتْ عن خدِّ ... ثم انثنتْ كالنّفس المُرتَّدِّ )
( عَهْدي بها سَقْياً له من عَهْدِ ... تُخلِفُ وعداً وتَفِي بوعدِ )
( فنحن من جَهْد الهوى في جَهْدِ ... وزاهرٍ من سَبِطٍ وجَعْدِ )
( أهدى له الدّهرُ ولم يَستهدِ ... أفوافَ نَوْرِ الحِبرِ المُجَدِّ )
( يلقَى الضُّحى رَيحانُه بسَجْدِ ... بُذِّلتُ من ذاك بُكىً لا يُجدِي )
( وافقَ حظّاً من سَعَى بجَدَّ ... ما ضرَّ أهل النَّوْكِ ضعفُ الجِدِّ )
( الحُرّ يُلْحَى والعصا للعبدِ ... وليس للمُلْحِف مثلُ الردِّ )

( والنَّصْفُ يَكْفيك من التعدّي ... وصاحبٍ كالدُّمَّلِ المُمِدِّ )
( حملتُه في رُقعةٍ من جِلْدِي ... أرقُبُ منه مثلَ يومِ الوِردِ )
( حتى مضى غيرَ فقيد الفَقْدِ ... وما دَرى ما رَغْبتي من زُهدِي )
( اسلَمْ وحُيِّيتَ أبا المِلدِّ ... مفتاحَ باب الحدَث المنسدِّ )
( مُشتَرَك النَّيْل ورِيَّ الزندِ ... أغرَّ لبَّاسَ ثيابِ الحمدِ )
( ما كان منّي لك غيرُ الوُدِّ ... ثم ثناءٌ مثلُ ريح الوَرْدِ )
( نَسَجْتُه في مُحْكماتِ النَّدِّ ... فالبَسْ طِرازِي غيرَ مُستَردِّ )
( لله أيامُكَ في مَعَدِّ ... وفي بني قَحْطانَ غيرَ عَدِّ )
( يوما بذي طِخْفةَ عند الحدِّ ... ومثلَه أودَعْتَ أرضَ الهندِ )
( بالمُرْهَفاتِ والحَديد السَّرِد ... والمُقْربَات المُبْعَداتِ الجُرْدِ )
( إذا الحيا أكدى بها لا تُكْدي ... تُلْحِمُ أمراً وأموراً تُسْدِي )
( وابنُ حكيم إن أتاك يَرْدي ... أصمَّ لا يسمَعُ صوتَ الرعدِ )
( حيَّيْتَه بتُحفَة المُعِدَّ ... فانهَدَّ مثلَ الجبل المُنْهَدِّ )
( كُلّ امرىءٍ رَهْنٌ بما يُؤدِّي ... ورُبَّ ذي تاج كريم الجَدِّ )
( كآلِ كِسرى وكآل بُردِ ... أنكَب جافٍ عن سبيل القصدِ )
( فَضَلْتَه عن ماله والوُلْدِ ... )

فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته وقام عقبة بن رؤبة فخرج عن المجلس بخزي وهرب من تحت ليلته فلم يعد إليه
وذكر لي أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي هذا الخبر عن الجاحظ وزاد فيه الجاحظ قال فانظر إلى سوء أدب عقبة بن رؤبة وقد أجمل بشار محضره وعشرته فقابله بهذه المقابلة القبيحة وكان أبوه أعلم خلق الله به لأنه قال له وقد فاخره بشعره أنت يا بني ذهبان الشعر إذا مت مات شعرك معك فلم يوجد من يرويه بعدك فكان كما قال له ما يعرف له بيت واحد ولا خبر غير هذا الخبر القبيح الإخبار عنه الدال علي سخفه وسقوطه وسوء أدبه

شعره في امرأة من البصرة
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ قال حدثنا أبو عبيدة قال
كان بشار يهوى امرأة من أهل البصرة يقال لها عبيدة فخرجت عن البصرة إلى عمان مع زوجها فقال بشار فيها
صوت
( هَوى صاحبي ريحُ الشَّمالَ إذا جَرَتْ ... وأشفَى لقلبي أن تهُبّ جَنُوبُ )
( وما ذاكَ إلا أنها حين تنتهي ... تَناهَى وفيها من عُبيدَةَ طِيبُ )
( عَذيرِي من العُذَّال إذ يَعْذِلُونِنِي ... سَفَاهاً وما في العاذِلين لَبيبُ )
صوت
( يقولونَ لو عَزَّيْتَ قلبَكَ لارْعَوَى ... فقلتُ وهل للعاشقين قُلوبُ )

( إذا نطقَ القومُ الجُلُوسُ فإِنّني ... مُكِبٌّ كأني في الجميع غَرِيبُ )
أخبرني هاشم قال حدثني دماذ قال حدثني رجل من الأنصار قال
جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة ويحلف له أنه ما عنده شيء فقال له بشار والله ما عندي شيء يغنيك ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وقال هو شاعر وله شكر وثناء فأمر له بخمسمائة درهم فقال له بشار
( يا واحدَ العرب الذي ... أمسى وليس له نَظِيرُ )
( لو كان مِثْلَكَ آخَرٌ ... ما كان في الدنيا فَقيِرُ )
فأمر لبشار بألفي درهم فقال له أبو الشمقمق نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ فجعل بشار يضحك

خبره مع أبي جعفر المنصور
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي قال حدثني زحر بن حصن قال
حج المنصور فاستقبلناه بالرضم الذي بين زبالة والشقوق فلما

رحل من الشقوق رحل في وقت الهاجرة فلم يركب القبة وركب نجيبا فسار بيننا فجعلت الشمس تضحك بين عينيه فقال إني قائل بيتا فمن أجازه وهبت له جبتي هذه فقلنا يقول أمير المؤمنين فقال
( وهاجرةٍ نَصبْتُ لها جَبِينِي ... يُقطِّعُ ظهرُها ظَهْرَ العظايهْ )
فبدر بشار الأعمى فقال
( وقَفْتُ بها القُلوصَ ففاضَ دمعي ... على خدِّي وأَقْصَرَ واعِظايَهْ )
فنزع الجبة وهو راكب فدفعها إليه فقلت لبشار بعد ذلك ما فعلت بالجبة فقال بشار بعتها والله بأربعمائة دينار
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني عبد الرحمن بن العباس بن الفضل بن عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة عن أبيه قال
كان بشار منقطعا إلي وإلى إخوتي فكان يغشانا كثيرا ثم خرج إبراهيم بن عبد الله فخرج معه عدة منا فلما قتل إبراهيم توارينا وحبس المنصور منا عدة من إخوتي فلما ولي المهدي أمن الناس جميعا وأطلق المحبوسين فقدمت بغداد أنا وإخوتي نلتمس أمانا من المهدي وكان الشعراء يجلسون بالليل في مسجد

الرصافة ينشدون ويتحدثون فلم أطلع بشارا على نفسي إلا بعد أن أظهر لنا المهدي الأمان وكتب أخي إلى خليفته بالليل فصحت به يا أبا معاذ من الذي يقول
( أُحِبُّ الخاتمَ الأحمر ... مِنْ حُبَّ مَوَالِيهِ )
فأعرض عني وأخذ في بعض إنشاده شعره ثم صحت يا أبا معاذ من الذي يقول
( إنّ سلْمَى خُلِقَتْ من قَصَبٍ ... قصبِ السّكر لا عظم الجَملْ )
( وإِذا أدنيتَ منها بصلاً ... غَلب المسكُ على ريح البصلْ )
فغضب وصاح من الذي يقرعنا بأشياء كنا نعبث بها في الحداثة فهو يعيرنا بها فتركته ساعة ثم صحت به يا أبا معاذ من الذي يقول
( أخشّابُ حقّاً أنّ داركَ تُزْعجُ ... وأنّ الذي بيني وبينك يَنْهَجُ )
فقال ويحك عن مثل هذا فسل ثم أنشدها حتى أتى على آخرها وهي من جيد شعره وفيه غناء

صوت
( فواكَبِدا قد أنضَجَ الشوقُ نصفها ... ونصفٌ على نار الصبَّابَة يَنضَجُ )
( وواحَزَنَا منهنّ يَحْفُفْنَ هودجاً ... وفي الهودج المحفوفِ بدرٌ مُتَوَّجُ )
( فإِن جئتَها بين النساء فقل لها ... عليكِ سلامٌ مات مَنْ يتزوّجُ )

( بكيتُ وما في الدمع منكِ خليفةٌ ... ولكنّ أحزاني عليكِ تَوَهَّجُ )
الغناء لسليم بن سلام رمل بالوسطى ووجدت هذا الخبر بخط ابن مهرويه فذكر أنه قال هذه القصيدة في امرأة كانت تغشى مجلسه وكان إليها مائلا يقال لها خشابة فارسية فزوجت وأخرجت عن البصرة
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني أبو حاتم
قال أبو النضير الشاعر أنشدت بشارا قصيدة لي فقال لي أيجيئك شعرك هذا كلما شئت أم هذا شيء يجيئك في الفينة بعد الفينة إذا تعملت له فقلت بل هذا شعر يجيئني كلما أردته فقال لي قل فإنك شاعر فقلت له لعلك حابيتني أبا معاذ وتحملت لي فقال أنت أبقاك الله أهون علي من ذلك

شعره في الاعتذار عن محاولة تقبيل جارية لصديق له
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن عباس بن عباس الزنادي عن رجل من باهلة قال
كنت عند بشار الأعمى فأتاه رجل فسلم عليه فسأله عن خبر جارية عنده وقال كيف ابنتي قال في عافية تدعوك اليوم فقال بشار يا باهلي انهض بنا فجئنا إلى منزل نظيف وفرش سري فأكلنا ثم جيء بالنبيذ فشربنا مع الجارية فلما أراد الانصراف قامت فأخذت بيد بشار فلما صار في الصحن أومأ إليها ليقبلها فأرسلت يدها من يده فجعل يجول في العرصة وخرج المولى فقال مالك يا أبا معاذ فقال أذنبت ذنبا ولا أبرح أو أقول شعرا فقال
( أتوبُ إليك من السيئات ... وأَستغفر اللهَ من فَعْلِتي )

( تناولتُ ما لم أُرِدْ نَيْلَه ... على جهلِ أمرِي وفي سكرتِي )
( ووالله واللهِ ما جئتُه ... لعمدٍ ولا كان من هِمَّتي )
( وإِلا فَمِتُّ إذاً ضائعاً ... وعَذَّبَني اللهُ في مِيتَتي )
( فمنْ نال خيراً على قُبْلةٍ ... فلا بارك اللهُ في قُبلَتِي )
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال لما أنشد بشار أرجوزته
( يا طلَل الحيّ بذات الصَّمْدِ ... )
أبا الملد عقبة بن سلم أمر له بخمسين ألف درهم فأخرها عنه وكيله ثلاثة أيام فأمر غلامه بشار أن يكتب على باب عقبة عن يمين الباب
( ما زالَ ما مَنَّيتنِي من همِّي ... والوعدُ غمٌّ فأزِحْ من غَمِّي )
( إن لم تُرِدْ حَمْدي فَراقِبْ ذَمِّي ... )
فلما خرج عقبة رأى ذلك فقال هذه من فعلات بشار ثم دعا بالقهرمان فقال هل حملت إلى بشار ما أمرت له به فقال أيها الأمير نحن مضيفون وغدا أحملها إليه فقال زد فيها عشرة آلاف درهم واحملها إليه الساعة فحملها من وقته
أخبرني هاشم قال حدثنا أبو غسان دماذ قال
سألت أبا عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهدي بشارا عن ذكر النساء قال كان أول ذلك استهتار نساء البصرة وشبانها بشعره حتى قال سوار بن عبد الله الأكبر ومالك بن دينار ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار

هذا الأعمى وما زالا يعظانه وكان واصل بن عطاء يقول إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد فلما كثر ذلك وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي وأنشد المهدي ما مدحه به نهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب وكان المهدي من أشد الناس غيرة قال فقلت له ما أحسب شعر هذا أبلغ في هذه المعاني من شعر كثير وجميل وعروة بن حزام وقيس بن ذريح وتلك الطبقة فقال ليس كل من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها وبشار يقارب النساء حتى لا يخفى عليهن ما يقول وما يريد وأي حرة حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها فكيف بالمرأة الغزلة والفتاة التي لا هم لها إلا الرجال ثم أنشد قوله
( قد لاَمني في خليلتي عُمَرُ ... واللَّومُ في غير كُنهِه ضجَرُ )
( قال أفق قلت لا فقال بلى ... قد شاع في الناس منكما الخبَرُ )
( قلتُ وإذ شاع ما اعتذارُك ممّا ... ليس لي فيه عندهم عُذُرُ )
( ماذا عليهم وما لهم خَرِسُوا ... لو أنّهم في عيوبهم نَظَرُوا )

( أعشَقُ وحدي ويؤخَذُون به ... كالتُّركِ تَغْزُو فتُؤخذُ الحَزَرُ )
( يا عجباً للخلاف يا عجبا ... بِفِي الذي لام في الهوى الحَجرُ )
( حَسْبِي وحَسْبُ الذي كَلِفْتُ به ... منِّي ومنه الحديثُ والنّظرُ )
( أو قُبلَةٌ في خلال ذاك وما ... بأسٌ إذا لم تُحَلَّ لي الأُزُرُ )
( أو عَضَّةٌ في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عَضِّها أثَرُ )
( أو لَمسةٌ دون مِرْطِها بيدي ... والبابُ قد حال دونه السُّتُرُ )
( والساقُ برَّاقَةٌ مُخَلخَلُها ... أو مَصُّ رِيقٍ وقد علا البُهُرُ )
( واسترختِ الكفُّ للعِراك وقالتْ ... إيه عنِّي والدَّمعُ مُنحَدِرُ )
( إنهضْ فما أنتَ كالذي زعموا ... أنتَ وربّي مُغَازِلٌ أشِرُ )
( قد غابَتِ اليومَ عنكَ حاضِنَتي ... واللهُ لي منكَ فيكَ يَنتَصِرُ )
( يا ربِّ خُذْ لي فقد ترى ضَرَعِي ... من فاسقٍ جاء ما به سَكَرُ )
( أهوَى إلى مِعْضَدِي فرضَّضهُ ... ذو قوّةٍ ما يُطاقُ مُقتدِرُ )
( ألصقَ بي لِحْيةً له خَشُنت ... ذاتَ سوادٍ كأنها الإِبَرُ )
( حتّى عَلاني وأُسرتي غَيبٌ ... وَيْلِي عليهم لو أنّهم حَضَرُوا )
( أُقسِمُ بالله لا نجوتَ بها ... فاذهبْ فأنت المُساوِرُ الظّفِرُ )
( كيف بأُمِّي إذا رأتْ شَفَتِي ... أم كيف إن شاع منك ذا الخبرُ )

( قد كنتُ أخشى الذي ابتُليتُ به ... منك فماذا أقولُ يا عبرُ )
( قلتُ لها عند ذاك يا سَكَنِي ... لا بأس إنيَ مُجَرَّبٌ خَبِرُ )
( قُولِي لها بَقَّةٌ لها ظُفُرٌ ... إن كان في البقِّ ما له ظُفُرُ )
ثم قال له بمثل هذا الشعر تميل القلوب ويلين الصعب
قال دماذ قال لي أبو عبيدة قال رجل يوما لبشار في المسجد الجامع يعابثه يا أبا معاذ أيعجبك الغلام الجادل فقال غير محتشم ولا مكتثرث لا ولكن تعجبني أمه

بشار يمدح خالد بن برمك
أخبرني عمي قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن سهل عن محمد بن الحجاج قال
ورد بشار على خالد بن برمك وهو بفارس فامتدحه فوعده ومطله فوقف على طريقه وهو يريد المسجد فأخذ بلجام بغلته وأنشده
( أظَلّتْ علينا منكَ يوماً سحابةٌ ... أضاءتْ لنا برقاً وأبطا رِشاَشُها )
( فلا غيمُها يُجْلي فييأسَ طامعٌ ... ولا غيثُها يأتِي فيَرْوي عِطاشُها )
فحبس بغلته وأمر له بعشرة آلاف درهم وقال لن تنصرف السحابة حتى تبلك إن شاء الله
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثني علي بن حرب

الطائي قال حدثني إسماعيل بن زياد الطائي قال
كان رجل منا يقال له سعد بن القعقاع يتندم بشارا في المجانة فقال لبشار وهو ينادمه ويحك يا أبا معاذ قد نسبنا الناس إلى الزندقة فهل لك أن تحج بنا حجة تنفى ذلك عنا قال نعم ما رأيت فاشتريا بعيرا ومحملا وركبا فلما مرا بزرارة قال له ويحك يا أبا معاذ ثلاثمائة فرسخ متى نقطعها مل بنا إلى زرارة نتنعم فيها فإذا قفل الحاج عارضناهم بالقادسية وجززنا رؤوسنا فلم يشك الناس أنا جئنا من الحج فقال له بشار نعم ما رأيت لولا خبث لسانك وإني أخاف أن تفضحنا
قال لا تخف
فمالا إلى زرارة فما زالا يشربان الخمر ويفسقان فلما نزل الحاج بالقادسية راجعين أخذا بعيرا ومحملا وجزا رؤوسهما وأقبلا وتلقاهما الناس يهنئونهما فقال سعد بن القعقاع
( ألم تَرَنِي وبَشّاراً حَجَجْنا ... وكان الحجُّ من خير التّجارهْ )
( خرجْنا طالَبيْ سَفَرٍ بعيدٍ ... فمال بنا الطريقُ إلى زُرَارهْ )
( فآب الناسُ قد حَجّوا وبَرُّوا ... وأُبْنَا مُوقَرين من الخسارهْ )

رده على داود بن رزين
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني محمد بن القاسم الدينوري قال حدثني محمد بن عمران بن مطر الشامي قال حدثني محمد بن الحسان الضبي قال حدثني محمود الوراق قال حدثني داود بن رزيق قال
أتينا بشارا فأذن لنا والمائدة موضوعة بين يديه فلم يدعنا إلى طعامه فلما

أكل دعا بطست فكشف عن سوءته فبال ثم حضرت الظهر والعصر فلم يصل فدنونا منه فقلنا أنت أستاذنا وقد رأينا منك أشياء أنكرناها قال وما هي قلنا دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا إليه فقال إنما أذنت لكم أن تأكلوا ولو لم أرد أن تأكلوا لما أذنت لكم قال ثم ماذا قلنا ودعوت بطست ونحن حضور فبلت ونحن نراك فقال أنا مكفوف وأنتم بصراء وأنتم المأمورون بغض الأبصار ثم قال ومه قلنا حضرت الظهر والعصر والمغرب فلم تصل فقال إن الذي تفاريق يقبلها جملة
أخبرنا يحيى قال حدثني أبو أيوب المديني عن بعض أصحاب بشار قال
كنا إذا حضرت الصلاة نقوم ويقعد بشار فنجعل حول ثيابه ترابا لننظر هل يصلي فنعود والتراب بحاله
أخبرنا يحيى قال أخبرنا أبو أيوب عن الحرمازي قال
قعد إلى بشار رجل فاستثقله فضرط عليه ضرطة فظن الرجل أنها أفلتت منه ثم ضرط أخرى فقال أفلتت ثم ضرط ثالثة فقال يا أبا معاذ ما هذا قال مه أرأيت أم سمعت قال بل سمعت صوتا قبيحا فقال فلا تصدق حتى ترى
قال وأنشد أبو أيوب لبشار في رجل استثقله
( ربّما يثقُلُ الجليسُ وإِن كان ... خفيفاً في كِفّة الميزانِ )
( كيفَ لا تحمِل الأمانةَ أرضٌ ... حَمَلَتْ فوقها أبا سُفْيانِ )
وقال فيه أيضا
( هل لك في مالي وعِرْضي معاً ... وكلِّ ما يملك جِرانَيٍهْ )

( واذهبْ إلى أبعدِ ما يُنْتَوى ... لا رَدّكَ الله ولا مالِيَهْ )

انشاده الوليد بن يزيد شعرا يطربه
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني محمد بن إبراهيم الجيلي قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال أنشدنا الوليد بن يزيد قول بشار الأعمى
( أيّها الساقيانِ صُبّا شَرَابي ... واسقِيانِي من رِيقِ بيضاءَ رُودِ )
( إن دائي الظّمَا وإِن دوائي ... شَرْبةٌ من رُضَابِ ثغرٍ بَرُودِ )
( ولها مَضْحَكٌ كغُرِّ الأقَاحِي ... وحديثٌ كالوَشْيِ وشِي البُرُودِ )
( نزلتْ في السَّواد من حبّة القلب ... ِ ونالتْ زيادةَ المُسْتَزيدِ )
( ثم قالت نلقاكَ بعد لَيالٍ ... والليالي يُبْلِينَ كلَّ جديدِ )
( عندها الصبرُ عن لقائي وعندي ... زَفَراتٌ يأكلنَ قلبَ الحديد )
قال فطرب الوليد وقال من لي بمزاج كاسي هذه من ريق سلمى فيروى ظمئي وتطفأ غلتي ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه وقال إن فاتنا ذاك فهذا
أخبرني عمي وقال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن سليمان الطفاوي قال حدثني عبد الله بن أبي بكر وكان جليسا لبشار قال كان لنا جار يكنى أبا زيد وكان صديقا لبشار فبعث إليه يوما يطلب منه ثيابا

بنسيئة فلم يصادفها عنده فقال يهجوه
( ألاَ إنّ أبا زيدٍ ... زَنَى في ليلة القدر )
( ولم يَرْعَ تعالى اللّهُ ربِّي حُرْمةَ الشَّهْرِ )
وكتبها في رقعة وبعث بها إليه ولم يكن أبو زيد يقول الشعر فقلبها وكتب في ظهرها
( ألا إن أبا زيدٍ ... له في ذلكم عُذْرُ )
( أتته أُمُّ بشّارٍ ... وقد ضاق بها الأمرُ )
( فواثَبها فجامَعَها ... وما ساعدَه الصّبرُ )
قال فلما قرئت على بشار غضب وندم على تعرضه لرجل لا نباهة له فجعل ينطح الحائط برأسه غيظا ثم قال لا تعرضت لهجا سفلة مثل هذا أبدا

شعره في جارية
أخبرني عمي قال حدثنا أبن مهرويه قال حدثني بعض ولد أبي عبيد الله وزير المهدي قال
دخل بشار على المهدي وقد عرضت عليه جارية مغنية فسمع غناءها فأطربه وقال لبشار قل في صفتها شعرا فقال
( ورائحةٍ للعين فيها مَحِيْلَةٌ ... إذا بَرَقَتْ لم تَسْقِ بَطْنَ صَعِيدِ )

( من المستَهلاّتِ السّرور على الفتى ... خفا بَرقُهَا في عبقرٍ وعُقُودِ )
( كأن لساناً ساحراً في كلامها ... أُعِينَ بصوتٍ للقلوب صَيُودِ )
( تُمِيتُ به ألبابَنا وقُلوبَنَا ... مراراً وتُحيِينهنَّ بعد هُمُودِ )

شعره في عقبة بن سلم
أخبرني عمي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال قال أبو عدنان حدثني يحيى ابن الجون قال
دخل بشار يوما على عقبة بن سلم فأنشده قوله فيه
صوت
( إنّما لَذّةُ الجَوَادِ ابنِ سَلْمٍ ... في عَطَاءٍ ومَرْكَبٍ لِلّقَاءِ )
( ليس يُعطيكَ للرجاءِ ولا الخوفِ ... ولكن يَلَذُّ طَعْمَ العَطَاءِ )
( يَسقُطُ الطيُر حيثُ يَنتثِرُ الحَب ... ُ وتُغْشَى مَنازِلُ الكُرَمَاءِ )
( لا أُبالِي صَفْحَ اللئيم ولا تَجْري ... دُموعِي على الحَرون الصَّفاءِ )
( فعلى عُقبةَ السّلاَمُ مقيماً ... وإَذا سار تحت ظلِّ اللواءِ )
فوصله بعشرة آلاف درهم
وفي هذه الأبيات خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر لرذاذ وهو مختار صنعته وصدورها ومما تشبه فيه بالقدماء ومذاهبهم
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن خلاد عن الأصمعي وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا

محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد عن الأصمعي قال
كنت أشهد خلف بن أبي عمرو بن العلاء وخلفا الأحمر يأتيان بشارا ويسلمان عليه بغاية التعظيم ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت فيخبرهما وينشدهما ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الظهر ثم ينصرفان عنه فأتياه يوما فقالا له ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة قال هي التي بلغتكما قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب فقال نعم بلغني أن سلما يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه قالا فأنشدناها فأنشدهما
( بَكِّرَا صاحِبَيَّ قبل الهَجِيرِ ... إنّ ذاكَ النجاحَ في التَّبكِير )
حتى فرغ منها فقال له خلف لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح
( بَكِّرا فالنجاحُ في التبكير ... )
كان أحسن فقال بشار بنيتها أعرابية وحشية فقلت إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة فقام خلف فقبل بين عينيه

وقال له خلف بن أبي عمرو يمازحه لو كان علاثة ولدك يا أبا معاذ لفعلت كما فعل أخي ولكنك مولى فمد بشار يده فضرب بها فخذ خلف وقال
( أُرْفُقْ بعَمرو إذا حَرَّكْتَ نِسبَته ... فإِنه عربيُّ من قَواريرِ )
فقال له أفعلتها يا أبا معاذ قال وكان أبو عمرو يغمز في نسبه
وأخبرني ببعض هذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبة عن أبي عبيدة فذكر نحوه وقال فيه إن سلما يعجبه الغريب
أخبرني هاشم بن محمد بن سلام قال قال لي خلف
كنت أسمع ببشار قبل أن أراه فذكروه لي يوما وذكروا بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره فاستنشدتهم شيئا من شعره فأنشدوني شيئا لم يكن بالمحمود عندي فقلت والله لآتينه ولأطأطئن منه فأتيته وهو جالس على بابه فرأيته أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة فقلت لعن الله من يبالي بهذا فوقفت أتأمله طويلا فبينما أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال إن فلانا سبك عند الأمير محمد بن سليمان ووضع منك فقال أو قد فعل قال نعم فأطرق وجلس الرجل عنده وجلست وجاء قوم فسلموا عليه فلم يردد عليهم فجعلوا ينظرون إليه وقد درت أوداجه فلم يلبث إلا ساعة حتى أنشدنا بأعلى صوته وأفخمه

( نُبِّئتُ نَائِكَ أُمَّهِ يغتابُنِي ... عند الأميرِ وهل عليَّ أميرُ )
( نَارِي مُحرّقةٌ وبَيتِي واسِعٌ ... للمعتَفينَ ومَجلِسي مَعْمُورُ )
( ولِيَ المهابةُ في الأحِبَّةِ والعِدَا ... وكأنني أسَدٌ له تامُورُ )
( غَرِثَتْ حَليلتُه وأخطأ صيدَه ... فله على لَقَمِ الطريق زَئِيرُ )
قال فارتعدت والله فرائصي واقشعر جلدي وعظم في عيني جدا حتى قلت في نفسي الحمد لله الذي أبعدني من شرك

مدحه خالد بن برمك
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني علي بن مهدي قال حدثنا العباس بن خالد قال
مدح بشار خالد بن برمك فقال فيه
( لعَمْرِي لَقَد أَجْدَى عليَّ ابنُ برمَكٍ ... وما كلُّ مَنْ كان الغنى عنده يُجْدِي )
( حَلَبتُ بشِعْري راحَتَيْهِ فَدَرَّتا ... سماحاً كما دَرَّ السَّحابُ مع الرّعدِ )
( إذا جئتَه للحمد أشرقَ وجهُه ... إليكَ وأعطاكَ الكرامةَ بالحمدِ )
( له نِعَمٌ في القوم لا يستثيبُها ... جزاءً وكَيْلَ التاجِر المُدَّ بالمُدِّ )
( مُفِيدٌ ومِتلافٌ سَبيلُ تُرَاثِهِ ... إذا ما غَدا أرواحَ كالجزْرِ والمَدِّ )

( أخالدُ إنّ الحمدَ يبقَى لأهلِه ... جمالاً ولا تبقى الكُنُوزُ على الكَدِّ )
( فأَطْعِمْ وكُلْ من عَارةٍ مُستَردَّةٍ ... ولا تُبقِها إن العَوَارِيّ للرَّدِّ )
فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم وكان قبل ذلك يعطيه في كل وفادة خمسة آلاف درهم وأمر خالد أن يكتب هذان البيتان في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه
وقال ابنه يحيى بن خالد آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمر بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان قال
كان الوزير مولى عبد القيس من عمال الخراج وكان عفيفا بخيلا فسأل عمر بن العلاء وكان جوادا شجاعا في رجل فوهب له مائة ألف درهم فدخل أبو الوزير على المهدي فقال له يا أمير المؤمنين إن عمر بن العلاء خائن قال ومن أين علمت ذلك قال كلم في رجل كان أقصى أمله ألف درهم فوهب له مائة ألف درهم فضحك المهدي ثم قال قل كل يعمل على شاكلته أما سمعت قول بشار في عمر
( إذا دَهَمَتْكَ عِظَامُ الأمورِ ... فَنبِّهْ لها عمراً ثم نمْ )
( فتىً لا ينامُ على دِمْنَةٍ ... ولا يَشَربُ الماءَ إلا بدَمْ )
أو ما سمعت قول أبي العتاهية فيه

صوت
( إنّ المطايا تَشتَكيكَ لأنها ... قَطَعَتْ إليك سَبَاسِياً ورِمَالاَ )
( فإِذا ورَدْنَ بنا وَرَدْنَ مُخِفَّةً ... وإِذا رجَعْنَ بنا رَجَعْنَ ثِقَالاَ )

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة أو ليس الذي يقول فيه أبو العتاهية
( يابنَ العَلاء ويابنَ القَرْمِ مرْداسِ ... إني لأُطْرِيكَ في صَحْبي وجُلاَّسِي )
( حتى إذا قيل ما أعطاكَ من نَشَبٍ ... أُلفِيتُ من عُظْمِ ما أسديتَ كالناسِي )
ثم قال من اجتمعت ألسن الناس على مدحه كان حقيقا أن يصدقها بفعله

وصفه لجارية سوداء
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر الربعي قال كانت لبشار جارية سوداء وكان يقع عليها وفيها يقول
( وغادَةٍ سَودَاءَ بَرَّاقَةٍ ... كالماءِ في طِيبٍ وفي لِينِ )
( كأنها صِيغَتْ لمن نالها ... من عَنبرٍ بالمِسكِ مَعجُونِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو الشبل البرجمي قال قال رجل لبشار إن مدائحك عقبة بن سلم فوق مدائحك كل أحد فقال بشار إن عطاياه إياي كانت فوق عطاء كل أحد دخلت إليه يوما فأنشدته
( حرَّم اللهُ أن تَرى كابنِ سَلْمٍ ... عُقبَةِ الخيرِ مُطْعِمِ الفقراءِ )
( ليس يُعطِيكَ لِلرَّجاءِ ولا الخوفِ ... ولكن يَلذُّ طَعْمَ العَطاءِ )
( يَسقُط الطيرُ حيث ينْتَثِرُ الحَبّ ... ُ وتُغشَى مَنازِلُ الكُرَماءِ )
فأمر لي بثلاثة آلاف دينار وهأنا قد مدحت المهدي وأبا عبيد الله ووزيره أو قال يعقوب بن داود وأقمت بأبوابهما حولا فلم يعطياني شيئا أفألام على مدحي هذا

ونسخت من كتاب هارون بن علي أيضا حدثني علي قال حدثني عبيد الله بن أبي الشيص عن دعبل بن علي قال
كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له هلم الجزية يا أبا معاذ فقال ويحك أجزية هي قال هو ما تسمع فقال له بشار يمازحه أنت أفصح مني قال لا قال فأعلم مني بمثالب الناس قال لا قال فأشعر مني قال لا قال فلم أعطيك قال لئلا أهجوك فقال له إن هجوتني هجوتك فقال له أبو الشمقمق هكذا هو قال نعم فقل ما بدا لك فقال أبو الشمقمق
( إني إذا ما شاعِرٌ هجَانِيَهْ ... وَلَجّ في القول له لِسَانِيَهْ )
( أدخلتُه في استِ أمهِ عَلاَنِيَهْ ... بشّارُ يا بشّارُ . . . . . . )
وأراد أن يقول يابن الزانيه فوثب بشار فأمسك فاه وقال أراد والله أن يشتمني ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له لا يسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني الأصمعي قال
أمر عقبة بن سلم الهنائي لبشار بعشرة آلاف درهم فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشار فقال له يا أبا معاذ إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون
( هَلِّلِينَهْ هَلِّلِينَهْ ... طَعْنَ قِثَّاةٍ لتِينَهْ )
( إنّ بشّارَ بنَ بردٍ ... تَيسٌ اعمَى في سَفِينَهْ )

فأخرج إليه بشار مائتي درهم فقال خذ هذه ولا تكن راوية الصبيان يا أبا الشمقمق

هجاؤه للعباس بن محمد بن علي
أخبرني أحمد قال حدثنا أبو محمد الصعتري قال حدثنا محمد بن عثمان البصري قال
استمنح بشار بن برد العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فلم يمنحه فقال يهجوه
( ظِلُّ اليسارِ على العباسِ مَمدُودُ ... وقَلبُهُ أبداً في البخل مَعقُودُ )
( إنّ الكريمَ لَيُخْفِي عنكَ عُسرَتَهُ ... حتى تَراه غَنِيّاً وهو مجهودُ )
( وللبخيلِ على أمواله عِلَلٌ ... زُرقُ العيونِ عليها أوجُهٌ سُودُ )
( إذا تكرَّهتَ أن تُعْطِي القليلَ ولم ... تَقدِرْ على سَعَةٍ لم يَظهرِ الجُودُ )
( أوْرِقْ بخَيرٍ تُرَجَّى لِلنّوال فما ... تُرْجَى الثِمارُ إذا لم يُورِقِ العُودُ )
( بُثَّ النَّوالَ ولا تَمنَعْكَ قِلَّتُهُ ... فكلُّ ما سَدَّ فَقراً فهو محمُودُ )
أخبرني أحمد قال حدثنا العنزي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثني أبي عن عباد بن عباد قال
مررت ببشار فقلت السلام عليك يا أبا معاذ فقال وعليك السلام أعباد فقلت نعم قال إني لحسن الرأي فيك فقلت ما أحوجني إلى ذلك

منك يا أبا معاذ
أخبرني يحيى بن علي قال أخبرني محمد بن عمر الجرجاني عن أبي يعقوب الخريمي الشاعر أن بشارا قال لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت واحد حيث يقول
( كأنّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لَدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالِي )
أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين في بيت حتى قلت
( كأنّ مُثَار النّقع فوقَ رُؤوسِنا ... وأسيافَنَا ليلٌ تَهَاوى كَواكِبُهْ )
قال يحيى وقد أخذ هذا المعنى منصور النمري فقال وأحسن
( ليلٌ من النّقْعِ لا شمسٌ ولا قَمرٌ ... إلا جَبِينُكَ والمذْرُوبَةُ الشُّرُعُ )

طعن إسحاق الموصلي في شعره
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال كان إسحاق الموصلي يطعن على شعر بشار ويضع منه ويذكر أن كلامه مختلف لا يشبه بعضه بعضا فقلنا أتقول هذا القول لمن يقول

صوت
( إذا كنتَ في كلّ الأمور مُعاتباً ... صَدِيقَكَ لم تَلْقَ الذي لا تُعاتِبُهْ )
( فَعِشْ واحداً أو صِلْ أخاكَ فَإِنّهُ ... مُقَارِفُ ذنبٍ مَرّةً ومُجانِبُهْ )
( إذا أنتَ لم تشرَبْ مِرَاراً على القَذَى ... ظَمِئْتَ وأيُّ الناس تَصْفُو مَشَارِبُهْ )
لأبي العبيس بن حمدون في هذه الأبيات خفيف ثقيل بالبنصر قال علي بن يحيى وهذا الكلام الذي ليس فوقه كلام من الشعر ولا حشو فيه فقال لي إسحاق أخبرني أبو عبيدة معمر بن المثنى أن شبيل بن عزرة الضبعي أنشده هذه الأبيات للمتلمس وكان عالما بشعره لأنهما جميعا من بني ضبيعة فقلت له أفليس قد ذكر أبو عبيدة أنه قال لبشار أن شبيلا أخبره للمتلمس فقال كذب والله شبيل هذا شعري ولقد مدحت به ابن هبيرة فأعطاني عليه أربعين ألفا وقد صدق بشار وقد مدح في هذه القصيدة ابن هبيرة وقال فيها
( روَيدَ تصاهَلْ بالعراق جِيَادُنَا ... كأنّكَ بالضّحاكِ قد قامَ نَادِبُهْ )
( وسامٍ لمروانٍ ومِنْ دونِه الشَّجَا ... وهَوْلٌ كَلُجِّ البحرِ جَاشَتْ غوارِبُهْ )
( أحَلَّتْ به أُمُّ المنايا بنَاتِها ... بأسيافنا إنّا رَدَى مَنْ نُحَارِبُهْ )
( وكنّا إذا دَبَّ العدوُّ لِسخْطِنَا ... وراقَبَنا في ظاهرٍ لا نُرَاقِبُهْ )

( ركِبنا له جَهْراً بكلّ مُثَقَّفٍ ... وأبيضَ تَستَسْقي الدِّماءَ مَضَارِبُهْ )
ثم قلت لإسحاق أخبرني عن قول بشار في هذه القصيدة
( فلمّا تَوَلَّى الحَرُّ واعتَصَرَ الثّرى ... لَظَى الصَّيفِ مِنْ نَجمٍ تَوَقَّدَ لاَهِبُهْ )
( وطارَتْ عَصَافيرُ الشَّقائقِ واكتسَى ... من الآل أمثالَ المَجَرَّةِ ناضِبُهْ )
( غَدَتْ عَانَةٌ تشكو بأبصارها الصَّدَى ... إلى الجأْب إلا أنها لا تُخَاطِبُهْ )
العانة القطيع من الحمير والجأب ذكرها
ومعنى شكواها الصدى بأبصارها أن العطش قد تبين في أحداقها فغارت قال وهذا من أحسن ما وصف به الحمار والأتن أفهذا للمتلمس أيضا قال لا فقلت أفما هو في غاية الجودة وشبيه بسائر الشعر فكيف قصد بشار لسرقة تلك الأبيات خاصة وكيف خصه بالسرقة منه وحده من بين الشعراء وهو قبله بعصر طويل وقد روى الرواة شعره وعلم بشار أن ذلك لا يخفى ولم يعثر على بشار أنه سرق شعرا قط جاهليا ولا إسلاميا
وأخرى فإن شعر المتلمس يعرف في بعض شعر بشار فلم يردد ذلك بشيء
وقد أخبرني بهذا الخبر هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان معاذ عن أبي عبيدة أن بشارا أنشده
( إذا كنتَ في كلّ الأمور مُعَاتباً ... صديقَكَ لم تَلْقَ الذي لا تُعاتِبُهْ )

وذكر الأبيات قال وأنشدتها شبيل بن عزرة الضبعي فقال هذا للمتلمس فأخبرت بذلك بشارا قال كذب والله شبيل لقد مدحت ابن هبيرة بهذه القصيدة وأعطاني عليها أربعين ألفا
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثنا علي بن إبراهيم المروزي وكان أبوه من قواد طاهر قال حدثني أبي قال
لما خلع محمد المأمون وندب له علي بن عيسى ندب المأمون للقاء علي بن عيسى طاهر بن الحسين ذا اليمينين وجلس له لعرضه وعرض أصحابه فمر به ذو اليمينين معترضا وهو ينشد
( رُوَيدَ تَصَاهَلْ بالعراق جيادُنا ... كأنّك بالضحّاك قد قام نادبُهْ )
فتفاءل المأمون بذلك فاستدناه فاستعاده البيت فأعاد عليه فقال ذو الرياستين يا أمير المؤمنين هو حجر العراق قال أجل فلما صار ذو اليمينين إلى العراق سأل هل بقي من ولد بشار أحد فقالوا لا فتوهمت أنه قد كان هم لهم بخير

سرقة سلم الخاسر من معانيه
أخبرنا يحيى قال حدثنا أبي قال أخبرني أحمد بن صالح وكان أحد الأدباء قال
غضب بشار على سلم الخاسر وكان من تلامذته ورواته فاستشفع عليه بجماعة من إخوانه فجاءوه في أمره فقال لهم كل حاجة لكم مقضية إلا سلما

قالوا ما جئناك إلا في سلم ولا بد من أن ترضى عنه لنا فقال أين هو الخبيث قالوا ها هو هذا فقام إليه سلم فقبل رأسه ومثل بين يديه وقال يا أبا معاذ خريجك وأديبك فقال يا سلم من الذي يقول
( مَنْ راقَبَ الناسَ لم يَظفَرْ بحاجته ... وفازَ بالطّيباتِ الفاتِكُ اللَّهجُ )
قال أنت يا أبا معاذ جعلني الله فداءك قال فمن الذي يقول
( مَنْ راقَبَ الناسَ مات غَمّاً ... وفاز باللَّذَّةِ الجَسُورُ )
قال خريجك يقول ذلك يعني نفسه قال أفتأخذ معاني التي قد عنيت بها وتعبت في استنباطها فتكسوها ألفاظا أخف من ألفاظي حتى يروى ما تقول ويذهب شعري لا أرضى عنك أبدا قال فما زال يتضرع إليه ويشفع له القوم حتى رضي عنه
وفي هذه القصيدة يقول بشار
( لو كنتِ تَلْقِينَ ما نَلْقَى قَسَمتِ لنا ... يوماً نَعيِشُ به منكم ونَبتَهجُ )

صوت
( لا خيرَ في العيش إن كنّا كذاَ أبدا ... لا نَلتقي وسبيلُ الملتَقى نَهَجُ )
( قالوا حرامٌ تلاقِينَا فقلت لهم ... ما في التَّلاقِيَ ولا في قُبْلَةٍ حَرَجُ )
( مَنْ راقَب الناسَ لم يَظْفَرْ بحاجتِه ... وفاز بالطّيّباتِ الفاتِكُ اللَّهجُ )
( أشكو إلى الله هَما ما يُفَارِقُنِي ... وشُرَّعاً في فُؤادي الدّهرَ تعتَلِجُ )
أخبرنا محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال

حدثنا أحمد بن خلاد قال أنشدت الأصمعي قول بشار يهجو باهلة
( ودعاني مَعشرٌ كُلٌّهُمُ ... حُمُقٌ دام لهمْ ذاكَ الحُمُقْ )
( ليس من جُرْمٍ ولكن غاظَهُم ... شَرَفِي العارِضُ قد سَدَّ الأُفُقْ )
فاغتاظ الأصمعي فقال ويلي على هذا العبد القن ابن القن
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني عباس بن خالد قال سمعت غير واحد من أهل البصرة يحدث
أن امرأة قالت لبشار أي رجل أنت لو كنت أسود اللحية والرأس قال بشار أما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان فقالت له أما قولك فحسن في السمع ومن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع فكان بشار يقول ما أفحمني قط غير هذه المرأة
ونسخت من كتابه حدثني علي بن مهدي قال حدثني إسحاق بن كلبة قال قال لي أبو عثمان المازني
سئل بشار أي متاع الدنيا آثر عندك فقال طعام مز وشراب مر وبنت عشرين بكر

قوله بعد امتناع امرأة عنه
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد وأخبرنا الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة عن صالح بن عطية قال

كان النساء المتظرفات يدخلن إلى بشار في كل جمعة يومين فيجتمعن عنده ويسمعن من شعره فسمع كلام امرأة منهن فعلقها قلبه وراسلها يسألها أن تواصله فقالت لرسوله وأي معنى فيك لي أو لك في وأنت أعمى لا تراني فتعرف حسني ومقداره وأنت قبيح الوجه فلا حظ لي فيك فليت شعري لأي شيء تطلب وصال مثلي وجعلت تهزأ به في المخاطبة فأدى الرسول الرسالة فقال له عد إليها فقل لها
( أيرِي له فضلٌ على آيارهم ... وإذا أشظّ سجَدْنَ غير أوابي )
( تلقاه بعد ثلاثَ عشْرةَ قائماً ... فعلَ المؤذِّن شكّ يوم سَحابِ )
( وكأنّ هامةَ رأسه بطّيخَةٌ ... حُمِلتْ إلى مَلِكٍ بدجلةَ جابي )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا أبو هفان قال أخبرني أحمد بن عبد الأعلى الشيباني عن أبيه قال
قال مروان لبشار لما أنشده هذا البيت
( وإذا قلتُ لها جُودي لنا ... خرجَتْ بالصَّمت مِن لاَ ونَعَمْ )
جعلني الله فداءك يا أبا معاذ هلا قلت خرست بالصمت قال إذا أنا في عقلك فض الله فاك أأتطير على من أحب بالخرس

خالد البرمكي يجيزه على مدحه
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني بعض أصحابنا قال

وفد بشار إلى خالد بن برمك وهو على فارس فأنشده
( أخالدُ لم أَخْبِطْ إليك بذمّةٍ ... سوى أنّني عَافٍ وأنتَ جَوادُ )
( أخالدُ بينَ الأجر والحمدِ حاجتي ... فأيّهما تأتي فأنتَ عِمادُ )
( فإِن تُعطني أُفرغْ عليك مدائحي ... وإِن تأبَ لم يُضرَبْ عليّ سِدادُ )
( رِكابي على حَرْفٍ وقلبي مُشَيَّعٌ ... ومالي بأرض الباخلينَ بِلادُ )
( إذا أنكرتْنِي بَلدةٌ أو نَكِرتْهُا ... خرجتُ مع البازِي عليّ سَوادُ )
قال فدعا خالد بأربعة آلاف دينار في أربعة أكياس فوضع واحدا عن يمينه وواحدا عن شماله وآخر بين يديه وآخر خلفه وقال يا أبا معاذ هل استقل العماد فلمس الأكياس ثم قال استقل والله أيها الأمير

الهيثم بن معاوية يجيزه على مدحه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن الحجاج حدثني بشار قال
دخلت على الهيثم بن معاوية وهو أمير بالبصرة فأنشدته

( إنّ السّلام أيّها الأميرُ ... عليكَ والرّحمةُ والسّرورُ )
فسمعته يقول إن هذا الأعمى لا يدعنا أو يأخذ من دراهمنا شيئا فطمعت فيه فما برحت حتى انصرفت بجائزته
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن محمد بن سلام قال
وقف رجل من بني زيد شريف لا أحب أن أسميه على بشار فقال له يا بشار قد أفسدت علينا موالينا تدعوهم إلى الانتفاء منا وترغبهم في الرجوع إلى أصولهم وترك الولاء وأنت غير زاكي الفرع ولا معروف الأصل فقال له بشار والله لأصلي أكرم من الذهب ولفرعي أزكى من عمل الأبرار وما في الأرض كلب يود أن نسبك له بنسبه ولو شئت أن أجعل جواب كلامك كلاما لفعلت ولكن موعدك غدا بالمربد فرجع الرجل إلى منزله وهو يتوهم أن بشارا يحضر معه المربد ليفاخره فخرج من الغد يريد المربد فإذا رجل ينشد
( شهِدتُ على الزَّيديّ أنّ نِساءه ... ضِياعٌ إلى أير العُقيليّ تَزفِرُ )
فسأل عمن قال هذا البيت فقيل له هذا لبشار فيك فرجع إلى منزله من فوره ولم يدخل المربد حتى مات
قال ابن سلام وأنشد رجل يوما يونس في هذه القصيدة وهي
( بَلَوتُ بني زيدٍ فما في كِبارِهم ... حُلومٌ ولا في الأصغَرِين مُطهَّرُ )
( فأبلغ بني زيد وقل لسراتهم ... وإِن لم يكن فيهم سَراةٌ تُوقَّرُ )

( لأمِّكم الوَيلاتُ إنّ قصائدي ... صَواعقُ منها مُنجدٌ ومغوِّر )
( أجَدَّهُم لا يتَّقون دَنِيّةً ... ولا يُؤثِرون الخير والخير يؤثر )
( يَلُفُّون أولاد الزّنا في عِدادهم ... فعِدّتُهم من عِدّة الناس أكثرُ )
( إذا ما رأوا مَنْ دأبُه مثلُ دأبهم ... أطافوا به والغَيُّ للغيِّ أصوَرُ )
( ولو فارقوا من فيهمُ من دَعَارةٍ ... لما عرفتْهم أُّمهُّم حين تَنظُرُ )
( لقد فَخروا بالمُلحَقِينَ عشيَّةً ... فقلتُ افخروا إن كان في اللؤم مفخَرُ )
( يريدون مَسْعَاتِي ودون لقائها ... قناديلُ أبواب السَّمواتِ تَزْهَرُ )
( فقل في بني زيدٍ كما قال مُعْرِبٌ ... قَوَارِيرُ حَجَّامٍ غداً تَتكسَّرُ )
فقال يونس للذي أنشده حسبك حسبك من هيج هذا الشيطان عليهم قيل فلان فقال رب سفيه قوم قد كسب لقومه شرا عظيما
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني عبد الله بن بشر بن هلال قال حدثني محمد بن محمد البصري قال حدثني النضر بن طاهر أبو الحجاج قال
قال بشار دعاني عقبة بن سلم ودعا بحماد عجرد وأعشى باهلة فلما

اجتمعنا عنده قال لنا إنه خطر ببالي البارحة مثل يتمثله الناس ذهب الحمار يطلب قرنين فجاء بلا أذنين فأخرجوه من الشعر ومن أخرجه فله خمسة آلاف درهم وإن لم تفعلوا جلدتكم كلكم خمسمائة فقال حماد أجلنا أعز الله الأمير شهرا وقال الأعشى أجلنا أسبوعين قال وبشار ساكت لا يتكلم فقال له عقبة مالك يا أعمى لا تتكلم أعمى الله قلبك فقال أصلح الله الأمير قد حضرني شيء فإن أمرت قلته فقال قل فقال
( شَطَّ بِسَلْمَى عاجلُ البينِ ... وجاورتْ أُسْدَ بَنِي القَيْنِ )
( ورَنَّتِ النفسُ لها رَنَّةً ... كادتْ لها تنشَقُّ نصفَيْنِ )
( يابنةَ مَن لا أشتهِي ذكرَه ... أخشَى عليهِ عُلَقَ الشَّيْنِ )
( والله لو ألقاكِ لا أتّقي ... عيناً لقبَّلتُكِ ألفيْنِ )
( طالبتُها دَينِي فراغَتْ به ... وعَلَّقَتْ قلبي مع الدّيْنِ )
( فصِرتُ كالعَيْرِ غدا طالباً ... قَرْناً فلم يَرجِعْ بأُذْنيْنِ )
قال فانصرف بشار بالجائزة

خبره مع قوم من قيس عبلان
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثنا علي بن مهدي قال حدثني عبد الله بن عطية الكوفي قال حدثني عثمان بن عمرو الثقفي قال قال أبان بن عبد الحميد اللاحقي
نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس عيلان وكان فيهم بيان وفصاحة فكان بشار يأتيهم وينشدهم أشعاره التي يمدح بها قيسا فيجلونه لذلك ويعظمونه وكان نساؤهم يجلسن معه ويتحدثن إليه وينشدهن أشعاره في الغزل وكن يعجبن

به وكنت كثيرا ما آتي ذلك الموضع فاسمع منه ومنهم فأتيتهم يوما فإذا هم قد ارتحلوا فجئت إلى بشار فقلت له يا أبا معاذ أعلمت أن القوم قد ارتحلوا قال لا فقلت فاعلم قال قد علمت لا علمت ومضيت فلما كان بعد ذلك بأيام سمعت الناس ينشدون
( دعا بِفراق مَنْ تَهْوَى أبانُ ... ففاضَ الدّمعُ واحترقَ الجَنانُ )
( كأن شَرارةً وقعَتْ بقلبي ... لها في مُقْلتِي ودَمِي استِنَانُ )
( إذا أنشَدتُ أو نَسَمَتْ عليها ... رياحُ الصّيفِ هاجَ لها دُخَانُ )
فعلمت أنها لبشار فأتيته فقلت يا أبا معاذ ما ذنبي إليك قال ذنب غراب البين فقلت هل ذكرتني بغير هذا قال لا فقلت أنشدك الله ألا تزيد فقال امض لشأنك فقد تركتك
ونسخت من كتابه حدثني علي بن مهدي قال حدثني يحيى بن سعيد الأيوزرذي المعتزلي قال حدثني أحمد بن المعذل عن أبيه قال
أنشد بشار جعفر بن سليمان
( أقِلّي فإنّا لاحِقونَ وإِنّما ... يُؤَخِّرنا أنَّا يُعَدُّ لنا عَدًا )
( وما كنتُ إلا كالأغرّ ابن جعفرٍ ... رأى المالَ لا يبقَى فأبقَى به حَمدا )
فقال له جعفر بن سليمان من ابن جعفر قال الطيار في الجنة فقال لقد ساميت غير مسامي فقال والله ما يقعدني عن شأوه بعد النسب لكن قلة النشب وإني لأجود بالقليل وإن لم يكن عندي الكثير وما على من جاد بما

يملك ألا يهب البدور فقال له جعفر لقد هززت أبا معاذ ثم دعا له بكيس فدفعه إليه
ونسخت من كتابه حدثني علي بن مهدي قال حدثني أحمد بن سعيد الرازي عن سليمان بن سليمان العلوي قال
قيل لبشار إنك لكثير الهجاء فقال إني وجدت الهجاء المؤلم آخذ بضبع الشاعر من المديح الرائع ومن أراد من الشعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح فليستعد للفقر وإلا فليبالغ في الهجاء ليخاف فيعطى

بعض من سيرة حياته في صباه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
كان برد أبو بشار طيانا حاذقا بالتطيين وولد له بشار وهو أعمى فكان يقول ما رأيت مولودا أعظم بركة منه ولقد ولد وما عندي درهم فما حال الحول حتى جمعت مائتي درهم
ولم يمت برد حتى قال بشار الشعر
وكان لبشار أخوان يقال لأحدهما بشر وللآخر بشير وكانا قصابين وكان بشار بارا بهما على أنه كان ضيق الصدر متبرما بالناس فكان يقول اللهم إني قد تبرمت بنفسي وبالناس جمعيا اللهم فأرحني منهم
وكان إخوته يستعيرون ثيابه فيوسخونها وينتنون ريحها فاتخذ قميصا له جيبان وحلف ألا يعيرهم ثوبا من ثيابه فكانوا يأخذونها بغير إذنه فإذا دعا بثوبه فلبسه فأنكر رائحته فيقول إذا وجد رائحة كريهة من ثوبه أينما أتوجه ألق سعدا
فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45