كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن عبد الأعلى القرشي قال
قال معاوية يوما لجلسائه أخبروني بأشجع بيت وصف به رجل قومه فقال له روح بن زنباع قول كعب بن مالك
( نصل السيوفَ إذا قَصُرْن بخطونا ... قِدْماً ونُلْحِقها إذا لم تَلْحَقِ )
فقال له معاوية صدقت
وأما أبوه مالك بن أبي كعب أبو كعب بن مالك فإني أذكر قبل أخباره شيئا مما يغنى فيه من شعره فمن ذلك قوله

صوت
( لَعمرُ أبيها لا تقول حليلتي ... ألا فَرَّ عني مالك بن أبي كعبِ )
( وهم يضربون الكبش يَبْرُق بيضه ... ترى حوله الأبطال في حَلَقٍ شُهْب )
الشعر لمالك بن أبي كعب والغناء لمالك - ثقيل - أول بالبنصر عن يونس والهشامي وفيه لإبراهيم - خفيف ثقيل - بالوسطى جميعا عن الهشامي وزعم ابن المكي أن خفيف الثقيل هو لحن مالك
الخصومة بين أبيه وبرذع بن عدي
وهذا الشعر يقوله مالك بن أبي كعب في حرب كانت بينه وبين رجل من بني ظفر يقال له برذع بن عدي

وكان السبب فيما ذكره جعفر العاصمي عن عيينة بن المنهال ونسخته من كتاب أعطانيه علي بن سليمان الأخفش
أن رجلا من طيىء قدم يثرب بإبل له يبيعها فنزل في جوار برذع بن عدي أخي بني ظفر فباع إبله واقتضى أثمانها وكان مالك بن أبي كعب بن القين أخو بني سلمة اشترى منه جملا فجعله ناضحا فمطله مالك بن أبي كعب بثمن جمله وحضر شخوص الطائي فشكا ذلك إلى برذع فمشى معه إلى منزل مالك ليكلمه أن يوفيه ثمن جمله أو يرده عليه فلم يجدا مالكا في منزله ووجدا الجمل باركا بالفناء فبعثه برذع وقال للطائي انطلق بجملك ثم خرجا مسرعين حتى دخلا في دار النبيت فأمنا فارتحل الطائي بالجمل إلى بلاده وبلغ مالكا ما صنع برذع فكره أن ينشب بين قومه وبين النبيت حرب فكف وقد أغضبه ذلك وجعل يسفه برذعا في جراءته عليه وما صنع فقال برذع بن عدي في ذلك
( أمِن شَحْط دار من لُبابة تجزعُ ... وصرف النوى مما يُشِتُّ ويَجمعُ )
( وليس بها إلا ثلاثٌ كأنها ... مُسَفَّعة أو قد علاهنَّ أَيدع )
( قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جَداء ولكن قد تضَن وتمنع )
( وكان لها بالمنحنَى وجُنوبِه ... مصيف ومشتىً قبل ذلك ومَرْبع )
( أتاني وعيد الخزرجيّ كأنني ... ذليل له عند اليهوديّ مَضْرَع )
( متى تَلْقني لا تلقَ نُهْزةَ واجد ... وتعلمُ أني في الهَزاهز أروع )
( معي سَمْحة صفراء من فَرْع نَبعةٍ ... ولَيْنٌ إذا مسّ الضريبةَ يقطع )

( ومطَّرِدٌ لَدْنٌ إذا هُزَّ متنهُ ... متين كخرْصِ الذابلات وأهزع )
( فلا وإلهي لا يقول مجاوري ... ألا إنني قد خانني اليوم برذع )
( وأحفظ جاري أن أخاتلَ عِرسه ... ومولاي بالنَّكراء لا أتطلع )
( وأجعل مالي دون عِرضِيَ إنه ... على الوُجْد والإِعدام عِرض ممنَّع )
( وأصبرِ نفسي في الكريهة إنه ... لِذِي كل نفس مستقر ومصرع )
( وإني بحمد الله لا ثوبَ فاجر ... لبِست ولا من خَزْيةٍ أتقنع )
فأجابه مالك بن أبي كعب فقال

صوت
( هل للفؤاد لدى شَنْباءَ تنويلُ ... أم لا نوالٌ فإعراضٌ وتحميل )
( إن النساء كأشجار نبتن معاً ... منهن مُرَ وبعض المُرّ مأكول )
( إنَّ النساء ولو صُوّرن من ذهب ... فيهن من هفوات الجهل تخبيل )
الغناء لسليم هزج بالوسطى عن الهشامي وبذل
( إنك إن تنهَ إحداهن عن خلق ... فإنه واجب لا بدّ مفعول )
( ونعجةٍ من نِعاج الرملِ خاذلةٍ ... كأن مَأْقِيهَا بالحسنِ مكحول )
( ودَّعتها في مُقامي ثم قلت لها ... حياك ربك إني عنكِ مشغول )
( وليلةٍ من جُمادَى قد شربت بها ... والزِّق بيني وبين الشَّرج مَعدول )

( ومُرْجَحنٍّ على عمد دَلَفْت به ... كأنه رجل في الصفّ مقتول )
( ولا أهاب إذا ما الحرب حَرَّشها الأْبطال ... واضطربت فيها البهاليل )
( أمضِي أمامَهُمُ والموت مكتنِعٌ ... قُدْماً إذا ما كبا فيها التَّنابيل )
( عليَّ فَضْفاضة كالنِّهي سابغة ... وصارم مثل لون المِلح مصقولُ )
( ولدنةٌ في يدي صفراء تعْلُبها ... بعامل كشهاب النار موصول )
( إني من الخزرج الغُرِّ الذين هُم ... أهلُ المكارم لا يلفى لهم جيل )
( في الحرب أَنْهكَ منهم للعدوّ إذا ... شُبت وأعظَم نَيلاً إن هم سِيلوا )
( أشبهتُ من والدي عِزَاً ومَكْرُمةً ... وبرذعٌ مُدغَم في الأوس مجهول )
( نُبِّئته يدَّعي عزاً ويُوعِدني ... نُوكاً وعندي له بالسيف تنكيل )
قال ثم إن مالك بن أبي كعب خرج يوما لبعض حاجته فبينا هو يمشي وحده إذ لقيه برذع ومعه رجلان من بني ظفر فلما رأوا مالكا أقبلوا نحوه فبدرهم مالك إلى مكان من الحرة كثير الحجارة مشرف فقام عليه وأخذ في يده أحجارا وأقبلوا حتى دنوا منه فشاتموه وراموه بالحجارة وجعل مالك يلتفت إلى الطريق الذي جاء منه كأنه يستبطىء ناسا فلما رآه برذع وصاحباه يكثر الالتفات ظنوا أنه ينتظر ناسا كانوا معه وخشوا أن يأتوهم على تلك الحال فانصرفوا عنه فقال مالك بن أبي كعب في ذلك
( لعمرُ أبيها لا تقول حليلتي ... ألا فرَّ عني مالك بن أبي كَعْبِ )

( أقاتل حتى لا أرى لي مُقاتِلا ... وأنجو إذا غُمّ الجبان من الكَرْب )
( أبى لِيَ أن أُعْطَى الصَّغار ظلامةً ... جدودي وآبائي الكرامُ أولو السَّلْب )
( همُ يضربون الكبشَ يَبرقُ بيضُه ... ترى حوله الأبطال في حَلَق شُهْب )
( وهم أورثوني مجدَهم وفَعالَهم ... فأُقسم لا يُزْرِي بهم أبدا عَقْبي )
ويروى لا يخزيهم
( وأرعَى لجاري ما حييتُ ذِمامه ... وأعرِف ما حقُّ الرفيق على الصحْبِ )
( ولا أُسمِع النَّدْمان شيئاً يَريبه ... إذا الكأس دارت بالمدام على الشَّرْبِ )
( إذا ما اعترى بعضُ الندامَى لحاجةٍ ... فقولي له أهلاً وسهلاً وفي الرحب )
( إذا أنفدُوا الزِّق الرويّ وصُرِّعوا ... نَشَاوَى فلم أقنع بقولهمُ حَسْبي )
( بعثت إلى حانوتها فاسْتبأتُها ... بغير مِكاس في السَّوام ولا غصْب )
( وقلت اشربوا رِيًّا هنيئاُ فإنها ... كماء القَليب في اليسارة والقُرب )
( يطاف عليهم بالسَّديف وعندهم ... قيانٌ يلَهِّينَ المزاهرَ بالضربِ )
( فإن يصبِروا لِي الدهرَ أَصبِرهم بها ... ويَرْحُبْ لهم باعي ويغزرْ لهم شِرْبي )
( وكان أبي في المَحْل يطعم ضيفه ... ويُروِي نداماه ويصبِرُ في الحرب )
( ويمنع مولاه ويدرك تَبْلهَ ... ولو كان ذاك التبلُ في مركبٍ صعب )

( إذا ما منعت المال منكم لثروةٍ ... فلا يَهْنني مالي ولا ينمُ لي كسبي )
وقد روي أن الشعر المنسوب إلى مالك بن أبي كعب لرجل من مراد يقال له مالك بن أبي كعب وذكر له خبر في ذلك
أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عباس عن مجالد عن الشعبي قال
كان رجل من مراد يكنى أبا كعب وكان له ابن يدعى مالكا وبنت يقال لها طريفة فزوج ابنه مالكا امرأة من أرحب فلم تزل معه حتى مات أبو كعب فقالت الأرحبية لمالك إني قد اشتقت إلى أهلي ووطني ونحن هاهنا في جدب وضيق عيش فلو ارتحلت بأهلك وبي فنزلت على أهلي لكان عيشنا أرغد وشملنا أجمع فأطاعها وارتحل بها وبأمه وبأخته إلى بلاد أرحب فمر بحي كان بينهم وبين أبيه ثأر فعرفوا فرسه فخرجوا إليه وأحدقوا به وقالوا له استسلم وسلم الظعينة فقال أما وسيفي بيدي وفرسي تحتي فلا وقاتلهم حتى صرع فقال وهو يجود بنفسه
( لعمر أبيها لا تقول حليلتي ... ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب )
وذكر باقي الأبيات التي تقدم ذكرها قبل هذا الخبر
قال مؤلف هذا الكتاب وأحسب هذا الخبر مصنوعا وأن الصحيح هو الأول

صوت
( خُيِّرتُ أمرين ضاع الحزم بينهما ... إما الضَّياعُ وإما فِتنة عَمَمُ )
( فقد هممت مِراراً أن أساجلهم ... كأسَ المنيةِ لولا اللهُ والرَّحِمُ )
الشعر لعيسى بن موسى الهاشمي والغناء لمتيم الهاشمية - خفيف رمل - من روايتي ابن المعتز والهشامي

أخبار عيسى بن موسى ونسبه
عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وقد مضى في عدة مواضع من هذا الكتاب ما تجاوزه نسب هاشم إلى أقصى مدى الأنساب وأمه وأم سائر إخوته وأخواته أم ولد
وعيسى ممن ولد ونشأ بالحميمة من أرض الشام وكان من فحول أهله وشجعانهم وذوي النجدة والرأي والبأس والسودد منهم وقبل أن أذكر أخباره فإني أبدأ بالرواية في أن الشعر له إذ كان الشعر ليس من شأنه ولعل منكرا أن ينكر ذلك إذا قرأه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد ورأيت هذا الخبر بعد ذلك في بعض كتب ابن أبي سعد فقابلت به ما روياه فوجدته موافقا
قال ابن أبي سعد حدثني علي بن النطاح قال حدثني أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى قال
لما خلع أبو جعفر عيسى بن موسى وبايع للمهدي قال عيسى بن موسى

( خُيِّرْت أمرين ضاع الحزم بينهما ... إما صَغار وإما فتنة عَمَمُ )
( وقد هممت مِراراً أن أساقِيَهم ... كأس المنية لولا اللهُ والرَّحِم )
( ولو فعلت لزالت عنهمُ نِعَمٌ ... بكفر أمثالها تُسْتَنْزَل النّقَمُ )
على هذه الرواية في الشعر روى من ذكرت وعلى ما صدرت من الخلاف في الألفاظ يغنى
أنشدني طاهر بن عبد الله الهاشمي قال أنشدني ابن بريهة المنصوري هذه الأبيات وحكى أن ناقدا خادم عيسى كان واقفا بين يديه ليلة أتاه خبر المنصور وما دبره عليه من الخلع قال فجعل يتململ على فراشه ويهمهم ثم جلس فأنشد هذه الأبيات فعلمت أنه كان يهمهم بها وسألت الله أن يلهمه العزاء والصبر على ما جرى شفقة عليه
قال ابن أبي سعد في الخبر الذي قدمت ذكره عنهم وحدثني محمد بن يوسف الهاشمي قال حدثني عبد الله بن عبد الرحيم قال حدثتني كلثم بنت عيسى قالت قال موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
رأيت في المنام كأني دخلت بستانا فلم آخذ منه إلا عنقودا واحدا عليه من الحب المرصف ما الله به عليم فولد له عيسى بن موسى ثم ولد لعيسى من قد رأيت
قال ابن أبي سعد في خبره هذا وحدثني علي بن مسلم الهاشمي قال حدثني عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن مالك مولى عيسى بن موسى قال حدثني أبي قال
كنا مع عيسى بن موسى لما سكن الحيرة فأرسل إلي ليلة من الليالي فأخرجني من منزلي فجئت إليه فإذا هو جالس على كرسي فقال لي يا عبد الرحمن لقد سمعت الليلة في داري شيئا ما دخل سمعي قط إلا ليلة بالحميمة

والليلة فانظر ما هو فدخلت أستقري الصوت فإذا هو في المطبخ وإذا الطباخون قد اجتمعوا وعندهم رجل من أهل الحيرة يغنيهم بالعود فكسرت العود وأخرجت الرجل وعدت إليه فأخبرته فحلف لي أنه ما سمعه قط إلا تلك الليلة بالحميمة وليلته هذه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن محمد بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام بن عروة عن أبيها قال
كان عيسى بن موسى إذا حج يحج ناس كثير من أهل المدينة يتعرضون لمعروفه فيصلهم قالت فمر أبي بأبي الشدائد الفزاري وهو ينشد بالمصلى
( عصابة إن حج عيسى حجُّوا ... )
( وإن أقام بالعراق دَجُّوا ... )
( قد لَعِقوا لُعَيقةً فلَجُّوا ... )
( فالقوم قوم حَجُّهم مُعْوَجُّ ... )
( ما هكذا كان يكون الحج ... )
قال ثم لقي أبو الشدائد بعد ذلك أبي فسلم عليه فلم يردد عليه فقال له مالك يا أبا عبد الله لا ترد السلام علي فقال ألم أسمعك تهجو حاج بيت الله الحرام فقال أبو الشدائد
( إني وَربِّ الكعبةِ المبنيَّهْ ... )
( واللهِ ما هجوتُ مِن ذِي نيهْ ... )
( ولا امرىء ذي رِعَةٍ نقيهْ ... )

( لكنني أُرعي على البريهْ ... )
( من عُصبةٍ أَغْلَوا على الرِعيهْ ... )
( بغير أخلاق لهم سَرِيهْ ... )
صوت
( آثار ربع قَدُما ... أعيا جواباً صَمَما )
( سحت عليه دِيمٌ ... بمائها فانهدَما )
( كان لسُعَدَى علماً ... فصار وَحْشاً رِمَما )
( أيامَ سُعدَى سَقَمٌ ... وهي تداوي السَّقَمَا )
الشعر للرقاشي والغناء لابن المكي رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة

أخبار الرقاشي ونسبه
هو الفضل بن عبد الصمد مولى رقاش وهو من ربيعة وكان مطبوعا سهل الشعر نقي الكلام وقد ناقض أبا نواس وفيه يقول أبو نواس
( وجدنا الفضل أكرم مِن رقاشٍ ... لأن الفضل مولاه الرسول )
أراد أبو نواس بهذا نفيه عن ولائه لأنه كان أكرم ممن ينتمي إليه وذهب أبو نواس إلى قول النبي أنا مولى من لا مولى له
وذكر إبراهيم بن تميم عن المعلى بن حميد
أن الرقاشي كان من العجم من أهل الري
الرقاشي شاعر آل برمك
وقد مدح الرقاشي الرشيد وأجازه إلا أن انقطاعه كان إلى آل برمك فأغنوه عن سواهم
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال
كان الفضل الرقاشي منقطعا إلى آل برمك مستغنيا بهم عن سواهم وكانوا يصولون به على الشعراء ويروون أولادهم أشعاره ويدونون القليل والكثير منها تعصبا له وحفظا لخدمته وتنويها باسمه وتحريكا لنشاطه فحفظ ذلك لهم فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم فأقام معهم مدة أيامهم

ينشدهم ويسامرهم حتى ماتوا ثم رثاهم فأكثر ونشر محاسنهم وجودهم ومآثرهم فأفرط حتى نشر منها ما كان مطويا وأذاع منها ما كان مستورا وجرى على شاكلته بعدهم وكان كالموقوف المديح على جميعهم صغيرهم وكبيرهم ثم انقطع إلى طاهر وخرج معه إلى خراسان فلم يزل بها معه حتى مات
وكان مع تقدمه في الشعر ماجنا خليعا متهاونا بمروءته ودينه وقصيدته التي يوصي فيها بالخلاعة والمجون مشهورة سائرة في الناس مبتذلة في أيدي الخاصة والعامة وهي التي أولها
( أوصَى الرقاشيُّ إلى إخوانِه ... وصِية المحمودِ في نُدْمانِهِ )
وقد رأيت هذه القصيدة بعينها بخط الجاحظ في شعر أبي نعامة من جملة قصيدة له طويلة يهجو فيها جماعة ويأتي في وسطها بقصيدة الرقاشي
وقال عبد الله بن المعتز حدثني ابن أبي الخنساء عن أبيه قال
لما قال أبو دلف

صوت
( ناوليني الرمح قد طال ... عن الحرب جَمامِي )
( مرّ لي شهران مذْ لم ... أرمِ قوماً بِسِهامِي )
قال الرقاشي يعارضه
( جنبِيني الدّرعَ قد طال ... عن القَصْف جَمامِي )
( واكسِرِي المِطْرد والبِيْض ... وأثني بالحُسامِ )
( واقذفي في لُجَّة البحرِ ... بقوسِي وسِهامِي )
( وبتُرسِي وبرُمحي ... وبِسرجي ولجامِي )
( فبحسبي أن تَرَيْني ... بين فِتيانٍ كِرام )
( سادةٍ نغدو مُجدين ... على حَرْب المدامِ )
( واصطِفاقِ العودِ والناياتِ ... في جوف الظلامِ )
( هَزْم أرواح دِنانٍ ... لم ننلها باصطلامِ )
( نهزِم الراح إذا ما ... هَمَّ قوم بانهزامِ )
( ثم خلِّ الضرب والطعن ... لأجساد وهامِ )
( لِشقِيّ قال قد طال ... عن الحرب جَمامِي )
رثاؤه العباس البرمكي وجعفر البرمكي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى عن ابن النطاح قال
توفي العباس بن محمد بن خالد بن برمك بالخلد والرشيد بالرصافة

في يوم جمعة فأخرجت جنازته مع العصر وحضر الرشيد والأمين وأخرجت المضارب إلى مقابر البرامكة بباب البردان وفرش للرشيد في مسجد هناك وجاء الرشيد في الحلق بالأعلام والحراب فصلى عليه ووقف على قبره حتى دفن فلما خرج يحيى ومحمد أخواه من القبر قبلا يد الرشيد وسألاه الانصراف فقال لا حتى يسوى عليه التراب ولم يزل قائما حتى فرغ من أمره وعزاهما وأمرهما بالركوب فقال الرقاشي يرثي العباس بن محمد بن خالد بن برمك
( أتحسِبني باكرتُ بعدك لذة ... أبا الفضل أو رَفَّعت عن عاتقٍ سِترا )
( أوِ انتفعت عينايَ بعدُ بنظرة ... أَو ادْنيتُ من كأسٍ بمشمولة ثغرا )
( جفانِي إذن يوما إلى الليل مؤنِسي ... وأضحت يميني من ذخائرها صفرا )
( ولكنني استشعرت ثوب استكانة ... وبِتُّ كأن الموت يحفِر لي قبرا )
غنى في الأول والثاني من هذه الأبيات الرف ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي وعبد الله بن موسى وفيه ثقيل أول مجهول أحسبه لبعض جواري البرامكة وفيهما لإبراهيم بن المهدي خفيف رمل عن عبد الله بن موسى
ومن ذلك قوله في جعفر
( كم هاتفٍ بك من باكٍ وباكيةٍ ... يا طيبَ للضيفِ إذ تُدْعَى وللجارِ )

( إن يُعْدَمِ القطر كنتَ المُزنَ بارقُه ... لمعُ الدنانيرِ لا ما خيِّل السارِي )
وقوله
( لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المَعايِرُ )
( وما أحد حيٌّ وإن كان سالماً ... بأسلم ممن غيبته المقابرُ )
( ومن كان مما يُحدث الدهر جازِعاً ... فلا بد يوماً أن يُرِى وهو صابر )
( وليس لذي عيش عن الموت مَقْصَرٌ ... وليس على الأيام والدهر غابر )
( وكل شباب أو جديد إلى البِلى ... وكل امرىء يوماً إلى الله صائر )
( فلا يُبْعدَنْك الله عني جعفراً ... بِروحي ولو دارت عليَّ الدّوائر )
( فآليْت لا أنفكُّ أَبكيك ما دَعتْ ... على فَنَنٍ ورقاءُ أو طار طائر )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان عن عبد العزيز بن أبي ثابت عن محمد بن عبد العزيز
أن الرقاشي الشاعر فني في حب البرامكة حتى خيف عليه
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن أبي عكرمة قال
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن موسى عن إسماعيل بن مجمع عن أحمد بن الحارث عن المدائني
أنه لما دارت الدوائر على آل برمك وأمر بقتل جعفر بن يحيى وصلب

اجتاز به الرقاشي الشاعر وهو على الجذع فوقف يبكي أحر بكاء ثم أنشأ يقول
( أما واللهِ لولا خوف واشٍ ... وعين للخليفة لا تنامُ )
( لَطُفنا حول جِذعك واستلمنا ... كما للناس بالحَجَر استلام )
( فما أبصرتُ قبلك يابن يحيى ... حساماً قدَّهُ السيفُ الحسام )
( على اللذات والدنيا جميعاً ... ودولة آلِ برمكٍ السلام )
فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد فأحضره فقال له ما حملك على ما قلت فقال يا أمير المؤمنين كان إلي محسنا فلما رأيته على الحال التي هو عليها حركني إحسانه فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلت قال وكم كان يجري عليك قال ألف دينار في كل سنة قال فإنا قد أضعفناها لك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال
كان الفضل الرقاشي يجلس إلى إخوان له يحادثهم ويألفونه ويأنسون به فتفرقوا في طلب المعاش وترامت بهم الأسفار فمر الرقاشي بمجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه فوقف فيه طويلا ثم استعبر وقال
( لولا التطيُّر قلتُ غيَّركم ... ريبُ الزمان فخنتُم عهدي )
( درستْ معالمُ كنت آلِفُها ... من بعدكمْ وتغيرتْ عندِي )
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أبو هفان عن يوسف بن الداية قال
كان أبو نواس والفضل الرقاشي جالسين فجاءهما عمرو الوراق

فقال رأيت جارية خرجت من دور آل سليمان بن علي فما رأيت جارية أحسن منها هيفاء نجلاء زجاء دعجاء كأنها خوط بان أو جدل عنان فخاطبتها فأجابتني بأحلى لفظ وأحسن لسان وأجمل خطاب فقال الرقاشي قد والله عشقتها فقال أبو نواس أو تعرفها قال لا والله ولكن بالصفة ثم أنشأ يقول
( صفاتٌ وظَنٌّ أورثا القلب لوعةً ... تضرَّم في أحشاء قلب متيَّمِ )
( تُمَثِّلها نفسي لعيني فانثنى ... إليها بطرف الناظر المتوسِّم )
( يحمِّلني حبِّي لها فوق طاقتي ... من الشوق دأْبَ الحائرِ المتقسَّم )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد الحراني قال
قيل لابن دراج الطفيلي أتتطفل على الرؤوس قال وكيف لي بها قيل إن فلانا وفلانا قد اشترياها ودخلا بستان ابن بزيع فخرج يحضر خوفا من فوتهما فوجدهما قد لوحا بالعظام فوقف عليها ينظر ثم استعبر وتمثل قول الرقاشي

( آثار رَبْع قَدُما ... أعيا جوابي صَمَمَا )
وابن دراج هذا يقال له عثمان وهو مولى لكندة وكان في زمن المأمون وله شعر مليح وأدب صالح وأخبار طيبة يجري ذكرها ههنا

أخبار ابن دراج الطفيلي
أخبرني الجوهري عن ابن مهرويه عن أبيه قال
قيل لعثمان بن دراج أتعرف بستان فلان قال إي والله وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا قيل له فلم لا تدخل إليه فتأكل من ثماره تحت أشجاره وتسبح في أنهاره قال لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال
أخبرني الجوهري قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الرحيم بن أحمد بن زيد الحراني قال
كان عثمان بن دراج يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابي أحد ولد زيد بن الخطاب فقال له ويحك إني أبخل بأدبك وعلمك وأصونك وأضن بك عما أنت فيه من التطفيل ولي وظيفة راتبة في كل يوم فالزمني وكن مدعوا أصلح لك مما تفعل فقال رحمك الله أين يذهب بك فأين لذة الجديد وطيب التنقل كل يوم من مكان إلى مكان وأين نيلك ووظيفتك من احتفال الأعراس وأين ألوانك من ألوان الوليمة قال فأما إذا أبيت ذاك فإذا ضاقت عليك المذاهب فإني فيئة لك قال أما هذا فنعم
فبينا هو عنده ذات يوم إذ أتت الخطابي مولاة له فقالت جعلت فداك زوجت ابنتي من ابن عم لها ومنزلي بين قوم طفيليين لا آمنهم أن يهجموا علي فيأكلوا ما صنعت ويبقى من دعوت فوجه معي بمن يمنعهم فقال

نعم هذا أبو سعيد قم معها يا أبا سعيد فقال مري بين يدي وقام وهو يقول
( ضجت تميمٌ أن تُقَتَّل عامرٌ ... يومَ النسار فأُعتِبوا بالصَّيْلم )
قال وقال الخطابي هذا لابن دراج كيف تصنع بأهل العرس إذا لم يدخلوك قال أنوح على بابهم فيتطيرون بذلك فيدخلوني
قال وقال له رجل ما هذه الصفرة في لونك قال من الفترة بين القصفين ومن خوفي كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع
أخبرني أحمد قال حدثنا ابن مهرويه عن عبد الرحيم بن أحمد
أن ابن دراج صار إلى باب علي بن زيد أيام كان يكتب للعباس بن المأمون فحجبه الحاجب وقال ليس هذا وقتك قد رأيت القواد يحجبون فكيف يؤذن لك أنت قال ليست سبيلي سبيلهم لأنه يحب أن يراني ويكره أن يراهم فلم يأذن له فبيناهما على ذلك إذ خرج علي بن زيد فقال ما منعك يا أبا سعيد أن تدخل فقال منعني هذا البغيض فالتفت إلى الحاجب فقال بلغ بك بغضك أن تحجب هذا ثم قال يا أبا سعيد ما أهديت إلي من النوادر قال مرت بي جنازة ومعي ابني ومع الجنازة امرأة تبكيه تقول بك يذهبون إلى بيت لا فرش فيه ولا وطاء ولا ضيافة ولا غطاء ولا خبز فيه ولا ماء فقال لي ابني يا أبة إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة فقلت له وكيف ويلك قال لأن هذه صفة بيتنا فضحك علي وقال قد أمرت لك بثلاث مئة درهم قال قد وفر الله عليك نصفها على أن أتغدى معك قال

وكان عثمان مع تطفيله أشره الناس فقال هي عليك موفرة كلها وتتغدى معنا
وعثمان بن دراج الذي يقول
( لذةَ التطفيل دُومي ... وأقيمي لا تَرِيمي )
( أنتِ تشفين غليلي ... وتسلِّين همومي )
عود إلى الرقاشي
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العكلي قال
دخل الرقاشي على بعض أمراء الصدقة فقال له قد أصبح خضابك قانيا قال لأني أمسيت له معانيا قال وكيف تفعله قال أنعم الحناء عجنا واجعل ماءه سخنا وأروي شعري قبله دهنا فإن بات قنا وإن لم يفعل أغنى

صوت
( من لعين رأت خيالاً مطِيفا ... واقفاً هكذا علينا وقوفا )
( طارقا موهِناً ألم فحيا ... ثم ولَّى فهاج قلباً ضعيفاً )
( ليت نفسي وليت أنفس قومِي ... يا يزيد الندى تقيك الحتوفا )
( عَتَكِي مُهَلَّبي كريم ... حاتمي قد نال فرعا منيفا )
عروضه من الخفيف والشعر لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم المهلبي والغناء لعبد الرحيم الرف - خفيف رمل - بالوسطى عن عمرو

أخبار ربيعة الرقي ونسبه
هو ربيعة بن ثابت الأنصاري ويكنى أبا شبابة وقيل إنه كان يكنى أبا ثابت وكان ينزل الرقة وبها مولده ومنشؤه فأشخصه المهدي إليه فمدحه بعدة قصائد وأثابه عليها ثوابا كثيرا وهو من المكثرين المجيدين وكان ضريرا وإنما أخمل ذكره وأسقطه عن طبقته بعده عن العراق وتركه خدمة الخلفاء ومخالطة الشعراء وعلى ذلك فما عدم مفضلا لشعره مقدما له
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن داود عن ابن أبي خيثمة عن دعبل قال
قلت لمروان بن أبي حفصة من أشعركم جماعة المحدثين يا أبا السمط قال أشعرنا أسيرنا بيتا قلت ومن هو قال ربيعة الرقي الذي يقول
( لَشتانَ ما بين اليزيدينِ في الندى ... يزيد سُلَيم والأغر ابن حاتم )
وهذا البيت من قصيدة له مدح بها يزيد بن حاتم المهلبي وهجا

يزيد بن أسيد السلمي وبعد البيت الذي ذكره مروان
( يزيد سُلَيم سالم المالِ والفتى ... أخو الأزدِ للأموال غير مُسالِم )
( فهَمُّ الفتى الأزديّ إتلاف مالِه ... وهم الفتى القيسيّ جمع الدراهم )
( فلا يحسَبِ التَّمتام أني هجوتُه ... ولكنني فضلت أهل المكارمِ )
( فيابن أُسَيد لا تسامِ ابن حاتم ... فتقرَعَ إن ساميتَه سِنَّ نادم )
( هو البحر إن كَلَّفت نفسك خوضه ... تهالكتَ في موج له متلاطمِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أسيد بن خالد الأنصاري قال
قلت لأبي زيد النحوي إن الأصمعي قال لا يقال شتان ما بينهما إنما يقال شتان ما هما وأنشد قول الأعشى
( شتانَ ما يومى على كُورها ... )
فقال كذب الأصمعي يقال شتان ما هما وشتان ما بينهما وأنشدني لربيعة الرقي واحتج به
( لشتانَ ما بين اليزيدينِ في الندى ... يزيد سُلَيم والأغرّ ابن حاتم )
وفي استشهاد مثل أبي زيد على دفع مثل قول الأصمعي بشعر ربيعة الرقي كفاية له في تفضيله

وذكره عبد الله بن المعتز فقال كان ربيعة أشعر غزلا من أبي نواس لأن في غزل أبي نواس بردا كثيرا وغزل هذا سليم سهل عذب
نسخت من كتاب لعمي حدثنا ابن أبي فنن قال
اشتهى جواري المهدي أن يسمعن ربيعة الرقي فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة وحمل على البريد حتى قدم به على المهدي فأدخل عليه فسمع ربيعة حسا من وراء الستر فقال إني أسمع حسا يا أمير المؤمنين فقال اسكت يابن اللخناء واستنشده ما أراد فضحك وضحكن منه قال وكان فيه لين وكذلك كان أبو العتاهية ثم أجازه جائزة سنية فقال له
( يا أمير المؤمنينَ اللّه ... سَمّاك الأمينا )
( سَرقوني من بلادِي ... يا أمير المؤمنينا )
( سرقوني فاقضِ فيهم ... بجزاءِ السارقينا )
قال قد قضيت فيهم أن يردوك إلى حيث أخذوك ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الرقة
وفي يزيد بن حاتم يقول أيضا
( يزيدَ الأزدِ إن يزيدَ قومِي ... سميَّك لا يجود كما تجودُ )
( يقودُ جماعة وتقودُ أخرى ... فترزُقُ من تقود ومن يقود )
( فما تِسعون يَحقرها ثلاث ... يقيم حسابَها رجل شديد )
( وكفّ شَثْنة جُمِعَتْ لوَجْءٍ ... بأنكدَ من عطائك يا يزيد )

كان السبب في غضب الرشيد على العباس بن محمد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال
امتدح ربيعة الرقي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بقصيدة لم يسبق إليها حسنا وهي طويلة يقول فيها
صوت
( لو قيل للعباس يا بن محمدٍ ... قل لا وأنت مخلَّد ما قالِها )
( ما إن أَعُدُّ من المكارم خَصْلة ... إلا وجدتك عمها أو خالَها )
( وإذا الملوك تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالَها )
( إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عِقَالها )
في البيت الأول والبيت الأخير - خفيف رمل - بالوسطى يقال إنه لإبراهيم ويقال إنه للحسين بن محرز
قال فبعث إليه بدينارين وكان يقدر فيه ألفين فلما نظر إلى الدينارين كاد يجن غيظا وقال للرسول خذ الدينارين فهما لك على أن ترد الرقعة من حيث لا يدري العباس ففعل الرسول ذلك فأخذها ربيعة وأمر من كتب في ظهرها
( مدحتك مِدحةَ السيفِ المُحَلَّى ... لتجريَ في الكرامِ كما جريتُ )
( فهبها مِدحةً ذهبت ضَياعا ... كذبتُ عليك فيها وافتريتُ )
( فأنت المرءُ ليس له وفاءٌ ... كأني إذ مدحتك قد رثَيتُ )
ثم دفعها إلى الرسول وقال له ضعها في الموضع الذي أخذتها منه فردها الرسول في موضعها فلما كان من الغد أخذها العباس فنظر فيها فلما قرأ الأبيات غضب وقام من وقته فركب إلى الرشيد وكان أثيرا عنده يبجله

ويقدمه وكان قد هم أن يخطب إليه ابنته فرأى الكراهة في وجهه فقال ما شأنك قال هجاني ربيعة الرقي فأحضر فقال له الرشيد يا ماص كذا وكذا من أمه أتهجو عمي وآثر الخلق عندي لقد هممت أن أضرب عنقك فقال والله يا أمير المؤمنين لقد مدحته بقصيدة ما قال مثلها أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء ولقد بالغت في الثناء وأكثرت في الوصف فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بإحضارها فلما سمع الرشيد ذلك منه سكن غضبه وأحب أن ينظر في القصيدة فأمر العباس بإحضار الرقعة فتلكأ عليه العباس ساعة فقال له الرشيد سألتك بحق أمير المؤمنين إلا أمرت بإحضارها فعلم العباس أنه قد أخطأ وغلط فأمر بإحضارها فأحضرت فأخذها الرشيد وإذا فيها القصيدة بعينها فاستحسنها واستجادها وأعجب بها وقال والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها لقد صدق ربيعة وبر ثم قال للعباس كم أثبته عليها فسكت العباس وتغير لونه وجرض بريقه فقال ربيعة أثابني عليها يا أمير المؤمنين بدينارين فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة على العباس فقال بحياتي يا رقي كم أثابك قال وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابني إلا بدينارين فغضب الرشيد غضبا شديدا ونظر في وجه العباس بن محمد وقال سوءة لك أية حال قعدت بك عن إثابته أقلة المال فوالله لقد مولتك جهدي أم انقطاع المادة عنك فوالله ما انقطعت عنك أم أصلك فهو الأصل لا يدانيه شيء أم نفسك فلا ذنب لي بل نفسك فعلت ذلك بك حتى فضحت أباك وأجدادك وفضحتني ونفسك فنكس العباس رأسه ولم ينطق

فقال الرشيد يا غلام أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة واحمله على بغلة فلما حمل المال بين يديه والبس الخلعة قال له الرشيد بحياتي يا رقي لا تذكره في شيء من شعرك تعريضا ولا تصريحا وفتر الرشيد عما كان هم به أن يتزوج إليه وظهر منه له بعد ذلك جفاء كثير واطراح

عبثه بالعباس بن محمد بحضرة الرشيد
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أحمد بن أبي فنن الشاعر قال حدثني من لا أحصي من الجلساء
أن ربيعة الرقي كان لا يزال يعبث بالعباس بن محمد بحضرة الرشيد العبث الذي يبلغ منه منذ جرى بينهما في مديحه إياه ما جرى من حيث لا يتعلق عليه فيه بشيء فجاء العباس يوما إلى الرشيد ببرنية فيها غالية فوضعها بين يديه ثم قال هذه يا أمير المؤمنين غالية صنعتها لك بيدي اختير عنبرها من شحر عمان ومسكها من مفاوز التبت وبانها من قعر تهامة فالفضائل كلها مجموعة فيها والنعت يقصر عنها
فاعترضه ربيعة فقال ما رأيت أعجب منك ومن صفتك لهذه الغالية عند من إليه كل موصوف يجلب وفي سوقه ينفق وبه إليه يتقرب وما قدر غاليتك هذه أعزك الله حتى تبلغ في وصفها ما بلغت أأجريت بها إليه نهرا أم حملت إليه منها وقرا إن تعظيمك هذا عند من تجبى إليه خزائن الأرض وأموالها من كل بلدة وتذل لهيبته جبابرة الملوك المطيعة والمخالفة وتتحفه بطرف بلدانها وبدائع ممالكها حتى كأنك قد فقت به على كل ما عنده أو

أبدعت له ما لا يعرفه أو خصصته بما لم يحوه ملكه لا تخلو فيه من ضعف أو قصر همة أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلا جعلت حظي من كل جائزة وفائدة توصلها إلي مدة سنتي الغالية حتى أتلقاها بحقها فقال ادفعوها إليه فدفعت إليه فأدخل يده فيها وأخرج ملئها وحل سراويله وأدخل يده فطلى بها استه وأخذ حفنة أخرى وطلى بها ذكره وأنثييه وأخرج حفنتين فجعلهما تحت إبطيه ثم قال يا أمير المؤمنين مر غلامي أن يدخل إلي فقال أدخلوه إليه وهو يضحك فأدخلوه إليه فدفع إليه البرنية غير مختومة وقال اذهب إلى جاريتي فلانة بهذه البرنية وقل لها طيبي بها حرك واستك وإبطيك حتى أجيء الساعة وأنيكك فأخذها الغلام ومضى وضحك الرشيد حتى غشي عليه وكاد العباس يموت غيظا ثم قام فانصرف وأمر الرشيد لربيعة بثلاثين ألف درهم
وذكر علي بن الحسين بن عبد الأعلى أنه رأى قصيدة لربيعة الرقي مكتوبة في دور بساط من بسط السلطان قديم وكان مبسوطا في دار العامة بسر من رأى فنسخها منه وهي قوله

صوت
( وتزعم أني قد تبدَّلت خُلَّةً ... سِواها وهذا الباطل المتقَوَّلُ )
( لحا الله من باع الصديقَ بغيرِه ... فقالت نعم حاشاك إن كنت تفعلُ )
( سَتصرِم إنساناً إذا ما صَرَمتني ... يحبكَ فانظر بعدَه من تَبدَّل )
في هذه الأبيات الثلاثة الأبيات لحن من الثقيل الأول ينسب إلى إبراهيم

الموصلي وإلى إبراهيم بن المهدي وفيه لعريب رمل من رواية ابن المعتز
وكان سبب إغراق ربيعة في هجاء يزيد بن أسيد أنه زاره يستميحه لقضاء دين كان عليه فلم يجد عنده ما أحب وبلغ ذلك يزيد بن حاتم المهلبي فطفل على قضاء دينه وبره فاستفرغ ربيعة جهده في مدحه وله فيه عدة قصائد مختارة يطول ذكرها وقد كان أبو الشمقمق عارضه في قوله
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم )
في قصيدة مدح بها يزيد بن مزيد وسلخ بيت الرقي بل نقله وقال
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... إذا عُد في الناس المكارمُ والمجدُ )
( يزيدُ بني شَيبانَ أكرم منهما ... وإن غضبت قيسُ بن عَيلانَ والأَزدُ )
( فتى لم تلِده من رُعَين قبيلةٌ ... ولا لَخْمُ تنميه ولم تنمه نَهْدُ )
( ولكن نمته الغُرُّ من آل وائلٍ ... وبَرّةُ تَنميه ومِن بعدها هند )
ولم يسر في هذا المعنى شيء كما سار بيت ربيعة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح

قال حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال
عرض نخاس على أحمد بن يزيد بن أسيد الذي هجاه ربيعة جواري فاختار جاريتين منهن ثم قال للنخاس أيتهما أحب إليك قال بينهما أعز الله الأمير كما قال الشاعر
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيدِ سليم والأغرّ ابن حاتم )
فأمر بجر رجله وجواريه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال
لما حج الرشيد لقيه قبل دخوله مكة رجلان من قريش فانتسب له أحدهما ثم قال يا أمير المؤمنين نهكتنا النوائب وأجحفت بأموالنا المصائب ولنا بك رحم أنت أولى من وصلها وأمل أنت أحق من صدقه فما بعدك مطلب ولا عنك مذهب ولا فوقك مسؤول ولا مثلك مأمول وتكلم الآخر فلم يأت بشيء فوصلهما وفضل الأول تفضيلا كثيرا ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال يا فضل
( لشتانَ ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سُلَيم والأغرّ ابن حاتم )

سبب هجائه ليزيد بن أسيد
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أبو دعامة علي بن زيد بن عطاء الملط قال
لما هجا ربيعة يزيد بن أسيد السلمي وكان جليلا عند المنصور والمهدي وفضل عليه يزيد بن حاتم قلت لربيعة يا أبا شبابة ما حملك على أن

هجوت رجلا من قومك وفضلت عليه رجلا من الأزد فقال أخبرك
أملقت فلم يبق لي شيء إلا داري فرهنتها على خمس مئة درهم ورحلت إليه إلى أرمينية فأعلمته ذلك ومدحته وأقمت عنده حولا فوهب لي خمس مئة درهم فتحملت وصرت بها إلى منزلي فلم يبقي معي كبير شيء فنزلت في دار بكراء فقلت لو أتيت يزيد بن حاتم ثم قلت هذا ابن عمي فعل بي هذا الفعل فكيف غيره ثم حملت نفسي على أن أتيته فأعلم بمكاني فتركني شهرا حتى ضجرت فأكريت نفسي من الحمالين وكتبت بيتا في رقعة وطرحتها في دهليزه والبيت
( أراني ولا كفران لله راجعا ... بخُفَّيْ حنينٍ من يزيدَ بن حاتم )
فوقعت الرقعة في يد حاجبه فأوصلها إليه من غير علمي ولا أمري فبعث خلفي فلما دخلت عليه قال هيه أنشدني ما قلت فتمنعت فقال والله لتنشدني فأنشدته فقال والله لا ترجع كذلك ثم قال انزعوا خفيه فنزعا فحشاهما دنانير وأمر لي بغلمان وجوار وكسا أفلا ترى لي أن أمدح هذا وأهجو ذاك قلت بلى والله ثم قال وسار شعري حتى بلغ المهدي فكان سبب دخولي إليه
أخبرني الحسن بن علي الأدمي قال حدثني محمد بن الحسن بن عباد بن الشهيد القرقيسياني قال حدثني عمي عبد الله بن عباد
أن ربيعة بن ثابت الرقي الأسدي كان يلقب الغاوي وكان يهوى جارية

يقال لها عثمة أمة لرجل من أهل قرقيسياء يقال له ابن مرار وكان بنو هاشم في سلطانهم قد ولوه مصر فأصاب بها مالا عظيما وبلغه خبر ربيعة مع جاريته فأحضره وعرض عليه أن يهبها له فقال لا تهبها لي فإن كل مبذول مملول وأكره أن يذهب حبها من قلبي ولكن دعني أواصلها هكذا فهو أحب إلي
قال وقال فيها
( اعتاد قلبَك من حبيبك عِيدُهُ ... شوقٌ عَراك فأنت عنه تذُودُهُ )
( والشوق قد غلب الفؤاد فقاده ... والشوق يغلب ذا الهوى فيقودُه )
( في دار مَرَّار غزالُ كَنِيسة ... عَطِرٌ عليه خُزوزه وبُروده )
( ريِمٌ أغر كأنه من حسنه ... صنم يُحَجُّ ببِيعه معبوده )
( عيناه عينا جؤذَر بصَريمة ... وله من الظبي المربَّب جِيده )
( ما ضرُّ عَثْمة أن تُلِم بعاشق ... دنِفِ الفؤاد متيم فتعودُه )
( وتَلُده من رِيقها فلربما ... نفع السقيم من السَّقام لَدودُه )
وهي قصيدة طويلة مدح فيها بعض ولد يزيد بن المهلب
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق بن إبراهيم

الموصلي عن أبي بشر الفزاري قال
لقي ربيعة الرقي معن بن زائدة في قدمة قدمها إلى العراق فامتدحه بقصيدة وأنشده إياها راويته فلم يهش له معن ولا رضي ربيعة لقاءه إياه وأثابه ثوابا نزرا فرده ربيعة وهجاه هجاء كثيرا فمما هجاه به قوله
( معنُ يا معنُ يا بنَ زائدةِ الكلْب ... التي في الذراع لا في البنانِ )
( لا تفاخر إذا فخرت بآبائك ... وافخر بعمك الحَوْفزانِ )
( فهشام من وائلٍ في مكانٍ ... أنت ترضى بدون ذاك المكانِ )
( ومتى كنت يابن ظَبية ترجو ... أن تُثَنِّي على ابنةِ الغضَبان )
( وهي حَوْراء كالمَهاة هِجانٌ ... لهجانٍ وأنت غير هِجان )
( وبنات السَّلِيل عند بني ظبية ... أفٍّ لكم بني شيبانِ )
( قيل معن لنا فلما اختبرنا ... كان مرعىً وليس كالسَّعْدانِ )
قال أبو بشر ظبية التي عيره بها أمة كانت لبني نهار بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان لقيها عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك وكانت راعية لأهلها وهي في غنمها فسرقها ووقع عليها فولدت له زائدة بن عبد الله أبا معن بن زائدة ودجاجة بنت عبد الله قال وبنت السليل التي عناها امرأة من ولد الحوفزان

أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر الفزاري قال
كان ربيعة الرقي يهوى جارية لرجل من أهل الكوفة يقال لها عثمة وكان أهلها ينزلون في جوار جعفي فقال فيها في أبيات له
( جُعْفيّ جيرانُها فقد عَطِرت ... جعفِيّ من نشرِها ورياها )
فقال له رجل من جعفي وأنا جار لها بيت بيت والله ما شممت من دارهم ريحا طيبة قط فتشمم ربيعة رائحته وقال وما ذنبي إذا كنت أخشم والله إني لأجد ريحها وريح طيبها منك وأنت لا تجده من نفسك
أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر قال
كنت حاضرا ربيعة الرقي يوما وجاءته امرأة من منزل هذه الجارية فقالت تقول لك فلانة إن بنت مولاي محمومة فإن كنت تعرف عوذة تكتبها لها فافعل فقال اكتب لها يا أبا بشر هذه العوذة
( تفُو تفُو باسم إلهي الذي ... لا يعرِض السقم لمن قد شَفَى )
( أعِيذ مولاتِي ومولاتَها ... وابنتها بعُوذة المصطفَى )
( من شرّ ما يعرِض من عِلة ... في الصبح والليل إذا أسْدفا )
قال فقلت له يا أبا ثابت لست أحسن أن أكتب تفو تفو فكيف أكتبها قال انضح المداد من رأس القلم في موضعين حتى يكون كالنفث وادفع العوذة إليها فإنها نافعة ففعلت ودفعتها إليها فلم تلبث أن جاءتنا الجارية وهي لا تتمالك ضحكا فقالت له يا مجنون ما فعلت بنا كدنا والله نفتضح بما صنعت قال فما أصنع بك أشاعر أنا أم صاحب تعاويذ

صوت
( ألا مَنْ بَيّن الأَخَوينِ ... أُمُّهما هي الثكلى )
( تسائل من رأى ابنيها ... وتستشفي فما تُشفَى )
( فلما استيأست رجعت ... بعبرة والهٍ حَرَّى )
( تتابِعُ بين وَلولة ... وبين مدامعٍ تَتْرى )
عروضه من - الهزج - الشعر لجويرية بنت خالد بن قارظ الكنانية وتكنى أم حكيم زوجة عبيد الله بن عبد المطلب في ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطأة أحد بني عامر بن لؤي باليمن
والغناء لابن سريج ولحنه من القدر الأوسط من - الثقيل - الأول بالخنصر في مجرى البنصر وفيه لحنين الحيري ثاني - ثقيل - عن الهشامي وفيه لأبي سعيد مولى فائد - خفيف ثقيل - الأول مطلق في مجرى الوسطى

ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب
أخبرني بالسبب في ذلك محمد بن أحمد بن الطلاس قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا علي بن محمد المدائني عن أبي مخنف عن جويرية بن أسماء والصقعب بن زهير وأبي بكر الهذلي عن أبي عمرو الوقاصي
أن معاوية بن أبي سفيان بعث بسر بن أرطاة أحد بني عامر بن لؤي بعد تحكيم الحكمين وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ حي وبعث معه جيشا ووجه برجل من غامد ضم إليه جيشا آخر ووجه الضحاك بن قيس الفهري في جيش آخر وأمرهم أن يسيروا في البلاد فيقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه وأن يغيروا على سائر أعماله ويقتلوا أصحابه ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان فمضى بسر لذلك على وجهه حتى انتهى إلى المدينة فقتل بها ناسا من أصحاب علي عليه السلام وأهل هواه وهدم بها دورا من دور القوم ومضى إلى مكة فقتل نفرا من آل أبي لهب ثم أتى السراة فقتل من بها من أصحابه وأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان الحارثي وابنه وكانا من أصهار بني

العباس ثم أتى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس عاملا لعلي بن أبي طالب وكان غائبا وقيل بل هرب لما بلغه خبر بسر فلم يصادفه بسر ووجد ابنين له صبيين فأخذهما بسر لعنه الله وذبحهما بيده بمدية كانت معه ثم انكفأ راجعا إلى معاوية وفعل مثل ذلك سائر من بعث به فقصد الغامدي إلى الأنبار فقتل ابن حسان البكري وقتل رجالا ونساء من الشيعة

خطبة الجهاد لعلي
فحدثني العباس بن علي بن العباس النسائي قال حدثنا محمد بن حسان الأزرق قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا قيس بن الربيع عن عمرو بن قيس عن أبي صادق قال
أغارت خيل لمعاوية على الأنبار فقتلوا عاملا لعلي عليه السلام يقال له حسان بن حسان وقتلوا رجالا كثيرا ونساء فبلغ ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فخرج حتى أتى المنبر فرقيه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال
إن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلة وشمله البلاء وديث بالصغار وسيم الخسف وقد قلت لكم اغزوهم قبل أن

يغزوكم فإنه لم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم وتركتم قولي وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات هذا أخو غامد قد جاء الأنبار فقتل عاملي عليها حسان بن حسان وقتل رجالا كثيرا ونساء والله لقد بلغني أنه كان يأتي المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع حجلها ورعاثها ثم ينصرفون موفورين لم يكلم أحد منهم كلما فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا لم يكن عليه ملوما بل كان به جديرا يا عجبا عجبا يميت القلب ويشعل الأحزان من اجتماع هؤلاء القوم على ضلالتهم وباطلهم وفشلكم عن حقكم حتى صرتم غرضا ترمون ولا ترمون وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون إذا قلت لكم اغزوهم في الحر قلتم هذه حمارة القيظ فأمهلنا وإذا قلت لكم اغزوهم في البرد قلتم هذا أوان قر وصر فأمهلنا فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم والله من السيف أشد فرارا يا أشباه الرجال ولا رجال ويا طغام الأحلام وعقول ربات الحجال وددت والله أني لم أعرفكم بل وددت أني لم أركم معرفة والله جرعت بلاء وندما وملأتم جوفي غيظا بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ويحهم هل فيهم أشد مراسا لها

مني والله لقد دخلت فيها وأنا ابن عشرين وأنا الآن قد نيفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع
فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أنا كما قال الله تعالى ( لا أملك إلا نفسي وأخي ) فمرنا بأمرك فوالله لنطيعنك ولو حال بيننا وبينك جمر الغضى وشوك القتاد قال وأين تبلغان مما أريد هذا أو نحوه ثم نزل

رسائل بين علي وأخيه عقيل
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله بن محمد قال حدثني جعفر بن بشير قال حدثني صالح بن يزيد الخراساني عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن ابن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد قال
كتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي بن أبي طالب عليه السلام
أما بعد فإن الله عز و جل جارك من كل سوء وعاصمك من المكروه إني خرجت معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء فقلت لهم وعرفت المنكر في وجوههم يا أبناء الطلقاء العداوة والله لنا منكم غير مستنكرة قديما تريدون بها إطفاء نور الله وتغيير أمره فأسمعني القوم وأسمعتهم ثم قدمت مكة وأهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموال أهلها ما شاء ثم انكفأ راجعا فأف لحياة

في دهر جرأ عليك الضحاك وما الضحاك وهل هو إلا فقع بقرقرة وقد ظننت وبلغني أن أنصارك قد خذلوك فاكتب إلي يابن أم برأيك فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أبيك وولد أخيك فعشنا ما عشت ومتنا معك فوالله ما أحب أن أبقى بعدك فواقا وأقسم بالله الأعز الأجل أن عيشا أعيشه في هذه الدنيا بعدك لعيش غير هنيء ولا مريء ولا نجيع والسلام
فأجابه علي بن أبي طالب عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد فقد قدم علي عبد الرحمن بن عبيد الأزدي بكتابك تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء وإن بني أبي سرح طال ما كاد الله ورسوله وكتابه وصد عن سبيله وبغاها عوجا فدع بني أبي سرح عنك ودع قريشا وتركاضهم في الضلالة وتجوالهم في الشقاق فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك إجماعها على حرب رسول الله قبل اليوم فأصبحوا قد جهلوا حقه وجحدوا فضله وبادوه بالعداوة ونصبوا له الحرب وجهدوا عليه كل الجهد وساقوا إليه جيش الأمرين اللهم فاجز عني قريشا الجوازي فقد قطعت رحمي وتظاهرت علي والحمد لله على كل حال
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك بن قيس على الحيرة فهو أقل وأذل من أن يقرب الحيرة ولكنه جاء في خيل جريدة فلزم الظهر وأخذ على

السماوة فمر بواقصة وشراف وما والى ذلك الصقع فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين فلما بلغه ذلك جاز هاربا فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن في السير وقد طفلت الشمس للإياب فاقتتلوا شيئا كلا ولا فولى ولم يصبر وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا
وأما ما سألت عنه أن أكتب إليك فيه برأيي فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا نفرقهم عني وحشة لأني محق والله مع الحق وأهله وما أكره الموت على الحق وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا
وأما ما عرضته علي من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا مهديا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الزمان والناس متضرعا متخشعا لكني أقول كما قال أخو بني سليم
( فإن تسأليني كيف أنتَ فإنني ... صبور على ريب الزمان صَلِيب )

( يعِزُّ عليّ أن تُرَى بي كآبة ... فيشمتَ عادٍ أو يُساءَ حبيب )
والسلام

رجع الخبر إلى سياقة مقتل الصبيين
ثم إن بسر بن أرطأة كر راجعا وانتهى خبره إلى علي عليه السلام أنه قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله بن العباس فسرح حارثة بن قدامة السعدي في طلبه وأمره أن يغذ السير فخرج مسرعا فلما وصل إلى المدينة وانتهى إليه قتل علي بن أبي طالب عليه السلام وبيعة الحسن رضي الله تعالى عنه ركب في السلاح ودعا أهل المدينة إلى البيعة للحسن فامتنعوا فقال والله لتبايعن ولو بأستاهكم فلما رأى أهل المدينة الجد منه بايعوا للحسن وكر راجعا إلى الكوفة فأصاب أم حكيم بنت قارظ ولهى على ابنيها فكانت لا تعقل ولا تصغي إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا ولا تزال تطوف في المواسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات
صوت
( يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... كالدَّرَّتين تَشظَّى عنهما الصدفُ )
( يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختَطَف )
( يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... مُخُّ العظام فمخي اليوم مُزْدَهَفُ )
( نُبئت بُسْراً وما صدّقت ما زعموا ... من قولهم ومِن الإِفك الذي اقترفوا )
( أنحى على ودَجَيْ ابنيَّ مُرْهَفَةً ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف )

( حتى لقِيت رجالاً من أرومته ... شم الأنوف لهم في قومهم شرف )
( فالآن ألعن بُسْراً حقَّ لعنته ... هذا لعمر أبي بُسْرٍ هو السَّرَف )
( من دّلَّ والهةً حَرَّى مُدَلَّهة ... على صبيينِ ضلا إذ هوى السلف )
الغناء لأبي سعيد مولى فائد - ثقيل - أول بالوسطى عن عمرو وفيه - خفيف ثقيل - يقال إنه له أيضا وفيه لعريب - رمل - نشيد
قالوا ولما بلغ علي بن أبي طالب عليه السلام قتل بسر الصبيين جزع لذلك جزعا شديدا ودعا على بسر لعنه الله فقال اللهم اسلبه دينه ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله فأصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه حتى يسأم ثم مات لعنه الله
ولما كانت الجماعة واستقر الأمر على معاوية دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أرطأة فقال له عبيد الله أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ قال بسر نعم أنا قاتلهما فقال عبيد الله أما والله لوددت أن الأرض كانت أنبتتني عندك فقال بسر فقد أنبتتك الآن عندي فقال عبيد الله إلى السيف فقال له بسر هاك سيفي فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر أخزاك الله شيخا قد كبرت وذهب عقلك تعمد إلى رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه تدفع إليه سيفك إنك لغافل عن قلوب بني هاشم والله لو تمكن منه لبدأ بي قبلك فقال عبيد الله أجل والله ثم إذن لثنيت به

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني محمد بن مسروق قال قال الأصمعي
سمع رجل من أهل اليمن وقد قدم مكة امرأة عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب تندب ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطأة بقولها
( يا من أحس بُبَنَّييَّ اللذين هما ... كالدرتين تشظَّى عنهما الصَّدف )
فرق لها فاتصل ببسر حتى وثق به ثم احتال لقتل ابنيه فخرج بهما إلى وادي أوطاس فقتلهما وهرب وقال
( يا بسرُ بسرَ بني أرطاةَ ما طلعت ... شمس النهارِ ولا غابت على ناسِ )
( خيرٍ من الهاشمِّيين الذين هُمُ ... عين الهدى وسِمام الأشوس القاسي )
( ماذا أردت إلى طفلي مُدَلَّهة ... تبكي وتندب من أثكلت في الناسِ )
( إما قتلتهما ظلما فقد شرِقت ... في صاحبيك قناتي يوم أوطاسِ )
( فاشرب بكأسهما ثُكلا كما شربت ... أم الصبيَّين أو ذاق ابن عباس )
صوت
( ألا فاسقياني من شرابكما الوَرْدِي ... وإن كنت قد أنفدتُ فاستَرهِنا بُردي )
( سِواري ودُملوجي وما ملكت يدي ... مباح لكم نَهْبٌ فلا تقطعوا وِرْدِي )
عروضه من - الطويل - والشعر لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس والغناء لإبراهيم الموصلي - رمل - بالوسطى من رواية عمرو بن بانة

ذكر أم حكيم وأخبارها
قد مضى ذكر نسبها
وأمها زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وكانت هي وأمها من أجمل نساء قريش فكانت قريش تقول لأم حكيم الواصلة بنت الواصلة وقيل الموصلة بنت الموصلة لأنهما وصلتا الجمال بالكمال
وأم زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي خارجة بن عوف بن أبي حارثة بن لأم الطائي وكانت سعدى بنت عوف عند عبد الله بن الوليد بن المغيرة فولدت له سلمة وريطة ثم توفي عنها فخلف عليها طلحة بن عبيد الله فولدت له يحيى وعيسى ثم قتل عنها فخطبها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فتكلم بنوها وكرهوا أن تتزوج وقد صاروا رجالا فقالت إنه قد بقي في رحم أمكم فضلة شريفة لا بد من خروجها فتزوجها فولدت له المغيرة بن عبد الرحمن الفقيه وزينب وهي أم حكيم
وكان المغيرة أحد أجواد قريش والمطعمين منهم وقد قدم الكوفة على عبد الملك بن بشر بن مروان وكان صديقه وبها جماعة يطعمون الناس من قريش وغيرهم فلما قدم تغيبوا فلم يظهر أحد منهم حتى خرج وبث المغيرة

الجفان في السكك والقبائل يطعم الناس فقال فيه شاعر من أهل الكوفة
( أتاك البحرُ طَمَّ على قُريشٍ ... مُغِيريّ فقد راغ ابنُ بِشر )
قال مصعب الزبيري هو - يعني المغيرة - مطعم الجيش بمنى وهو إلى الآن يطعم عنه قال وكانت أخته زينب أحسن الناس وجها وقدا وكأن أعلاها قضيب وأسفلها كثيب فكانت تسمى الموصلة وسميت بنتها أم حكيم بذلك لأنها أشبهتها

زواجها من يحيى بن الحكم
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني علي بن محمد بن يحيى الكناني عن أبيه قال
كانت زينب بنت عبد الرحمن من لين جسدها يقال لها الموصلة
قال مصعب فتزوج زينب أبان بن مروان بن الحكم فولدت له عبد العزيز بن أبان ثم مات عنها فخطبها يحيى بن الحكم وعبد الملك بن مروان فمالوا إلى عبد الملك فأرسل يحيى إلى المغيرة بن عبد الرحمن كم الذي تأمل من عبد الملك والله لا يزيدها على ألف دينار ولا يزيدك على خمس مئة دينار ولها عندي خمسون ألف دينار ولك عندي عشرة آلاف دينار إن زوجتنيها فزوجه إياها على ذلك فغضب عليه عبد الملك وقال دخل علي في خطبتي والله لا يخطب على منبر ما دمت حيا ولا رأى مني ما يحب فأسقطه فقال يحيى لا أبالي كعكتان وزينب

قال ابن أبي سعد وأخبرت عن محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثني عبد الملك بن إبراهيم الطلحي
أنها لما خطبت قالت لا أتزوج والله أبدا إلا من يغني أخي المغيرة فأرسل إليها يحيى بن الحكم أيغنيه خمسون ألف دينار قالت نعم قال فهي له ولك مثلها فقالت ما بعد هذا شيء أرسل إلى أهلك شيئا من طيب وشيئا من كسوة
قال ويقال إن عبد الملك لما تزوجها يحيى قال لقد تزوجت أفوه غليظ الشفتين فقالت زينب هو خير من أبي الذبان فما فما له يعيبه بفمه وقال يحيى قولوا له أقبح من فمي ما كرهت من فمك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان عن عبد العزيز بن أبي ثابت عن عمه محمد بن عبد العزيز
أن عبد الملك خطب زينب إلى المغيرة أخيها وكتب إليه أن يلحق به وكان بفلسطين أو بالأردن فعرض له يحيى بن الحكم فقال له أين تريد قال أريد أمير المؤمنين قال وما تصنع به فوالله لا يزيدك على ألف دينار يكرمك بها وأربع مئة دينار لزينب ولك عندي ثلاثون ألف دينار سوى صداق زينب فقال المغيرة أو تنقل إلي المال قبل عقد النكاح قال نعم فنقل إليه المال فتجهز المغيرة وسير ثقله ثم دخل على يحيى فزوجه وخرج إلى المدينة فجعل عبد الملك ينتظر المغيرة فلما أبطأ عليه قيل له يا أمير المؤمنين إنه زوج يحيى بن الحكم زينب بنت عبد الرحمن بثلاثين ألف دينار وأعطاه إياها ورجع إلى منزله فغضب على يحيى وخلعه عن ماله وعزله عن عمله فجعل يحيى يقول

( ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهرُ ... إذا بقيت لي كعكتان وزينب )

زواج أم حكيم من عبد العزيز بن الوليد
قال وكانت زينب تسمى الموصلة من حسن جسدها وكانت أم حكيم تحت عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك تزوجها في حياة جده عبد الملك ولما عقد النكاح بينهما عقد في مجلس عبد الملك وأمر بإدخال الشعراء ليهنئوهم بالعقد ويقولوا في ذلك أشعارا كثيرة يرويها الناس فاختير منهم جرير وعدي بن الرقاع فدخلا وبدأ عدي لموضعه منهم فقال
( قمرُ السماء وشمسُها اجتمعا ... بالسَّعد ما غابا وما طلعا )
( ما وارت الأستارُ مثلَهما ... مَن ذا رأى هذا ومن سمِعا )
( دام السرور له بها ولها ... وتَهنَّيا طول الحياة معا )
وقال جرير
( جَمع الأمير إليه أكرم حرةٍ ... في كل ما حالٍ من الأحوال )
( حَكَميّة عَلتِ الروابِيَ كلَّها ... بمفاخر الأعمام والأخوالِ )
( وإذا النساء تفاخرت ببعولةٍ ... فخرتهمُ بالسَّيِّد المفضال )
( عبد العزيز ومن يكلفْ نفسه ... أخلاقه يلْبَثْ بأكسف بال )
( هنأتكم بمودّة ونصيحة ... وصدقت في نفسي لكم ومقالي )
( فلتهنِك النِّعَم التي خُوِّلتَها ... يا خير مأمول وأفضل وال )
فأمر له عبد الملك بعشرة آلاف درهم ولعدي بن الرقاع بمثلها وقضى

لأهله ومواليه يومئذ مئة حاجة وأمر لجميع من حضر من الحرس والكتاب بعشرة دنانير عشرة دنانير فلم تزل أم حكيم عند عبد العزيز مدة ثم تزوج ميمونة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر فملكته وأحبها وذهبت بقلبه كل مذهب فلم ترض منه إلا بطلاق أم حكيم فطلقها فتزوجها هشام بن عبد الملك ثم مات عبد العزيز فتزوج هشام ميمونة أيضا وكان شديد المحبة لأم حكيم فطلق لها ميمونة اقتصاصا لها منها فيما فعلته بها في اجتماعهما عند عبد العزيز وقال لها هل أرضيتك منها فقالت نعم فولدت أم حكيم من هشام ابنه يزيد بن هشام وكان من رجالات بني أمية وكان أحد من يطعن على الوليد بن يزيد بن عبد الملك ويغري الناس به

كأس أم حكيم
قد وكانت أم حكيم منهومة بالشراب مدمنة عليه لا تكاد تفارقه وكأسها الذي كانت تشرب فيه مشهور عند الناس إلى اليوم وهو في خزائن الخلفاء حتى الآن وفيه يقول الوليد بن يزيد
صوت
( عَلِّلاني بعاتقات الكرومِ ... واسقياني بكأس أم حكيمِ )
( إنها تشربُ المدامة صِرفا ... في إناء من الزجاج عظيم )
( جَنِّبوني أذاة كل لئيم ... إنه ما علمتُ شرُّ نديم )
( ثم إن كان في النَّدامى كريم ... فأَذيقوه مَس بعض النعيم )
( ليت حظي من النساء سُلَيْمَى ... ان سَلْمايَ جَنّتِي ونعيمي )
( فدعوني من الملامة فيها ... إنَّ من لامني لغيرُ حليم )
عروضه من - الخفيف - غناء عمر الوادي من رواية يونس وفي رواية

إسحاق غناه الغزيل أبو كامل خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر
فيقال إن هذا الشعر بلغ هشاما فقال لأم حكيم أتفعلين ما ذكره الوليد فقالت أو تصدقه الفاسق في شيء فتصدقه في هذا قال لا قالت فهو كبعض كذبه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان يزيد بن هشام هجا الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال
( فحسْب أبي العباس كأس وقَيْنةٌ ... وزِقّ إذا دارت به في الذوائب )
( ومن جلساء الناس مثلُ ابن مالك ... ومثل ابن جَزْء والغلام ابن غالِب )
فقال الوليد يهجوه ويعيره بشرب أمه الشراب
( إن كأس العجوز كأسٌ رَواءٌ ... ليس كأس ككأس أمِّ حكيمِ )
( إنها تشرب الرَّساطون صِرْفا ... في إناء من الزجاج عظيم )
( لو به يشرب البعيرُ أو الفيل ... لظَلاّ في سَكرة وغُموم )
( ولدته سَكْرى فلم تحسن الطَّلْق ... فوافى لذاك غير حليم )
وكان لهشام منها ابن يقال له مسلمة ويكنى أبا شاكر وكان هشام ينوه باسمه وأراد أن يوليه العهد بعده وولاه الحج فحج بالناس وفيه يقول عروة بن أذينة - لما وفد على هشام - وفرق في الحجاز على أهلها مالا كثيرا

وأحبه الناس ومدحوه
( أتينا نَمُتُّ بأرحامنا ... وجئنا بأمر أبي شاكرِ )
وفيه يقول الوليد بن يزيد بن عبد الملك في حياة أبيه وأشاع ذلك وغنى فيه وأراد أن يعيره بذلك
صوت
( يا أيها السائلُ عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر )
( نشربُها صِرْفاً وممزوجةً ... بالسخن أحياناً وبالفاترِ )
فقال بعض شعراء أهل الحجاز يجيبه
( يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر )
( الواهبِ البُزْلِ بأرسانها ... ليس بزنديقٍ ولا كافرِ )
فذكر أحمد بن الحارث عن المدائني
أن هشاما لما أراد أن يوليه العهد كتب بذلك إلى خالد بن عبد الله القسري فقال خالد أنا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر فبلغ قوله هشاما فكان سبب إيقاعه به
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن موسى قمطر

عن إسماعيل بن مجمع قال
كنا نخرج ما في خزائن المأمون من الذهب والفضة فنزكي عنه فكان فيما يزكى عنه قائم كأس أم حكيم وكان فيه من الذهب ثمانون مثقالا قال محمد بن موسى سألت إسماعيل بن مجمع عن صفته فقال كأس كبير من زجاج أخضر مقبضه من ذهب هكذا ذكر إسماعيل
وقد حدثني علي بن صالح بن الهيثم بمثله قال حدثنا إبراهيم بن أحمد المادرائي قال
لما أخرج المعتمد ما في الخزائن ليباع في أيام ظهور الناجم بالبصرة أخرج إلينا كأس أم حكيم فكان كأسا مدورا على هيئة القحف يسع ثلاثة أرطال فقوم بأربعة دراهم فعجبنا من حصول مثله في الخزانة مع خساسة قدره فسألنا الخازن عنه فقال هذا كأس أم حكيم فرددناه إلى الخزانة ولعل الذهب الذي كان عليه أخذ منه حينئذ ثم أخرج ليباع
قال محمد بن موسى وذكر لي عبيد الله بن محمد عن أبي الأغر قال كنا مع محمد بن الجنيد الختلي أيام الرشيد فشرب ذات ليلة فكان صوته
( عَلِّلاني بعاتقات الكرومِ ... واسقياني بكأس أم حكيم )
فلم يزل يقترحه ويشرب عليه حتى السحر فوافاه كتاب خليفته في دار الرشيد إن الخليفة على الركوب وكان محمد أحد أصحاب الرشيد ومن يقدم دابته فقال ويحكم كيف أعمل والرشيد لا يقبل لي عذرا وأنا سكران فقالوا لا بد من الركوب فركب على تلك الحال فلما قدم إلى الرشيد دابته قال له يا

محمد ما هذه الحال التي أراك عليها قال لم أعلم برأي أمير المؤمنين في الركوب فشربت ليلي أجمع قال فما كان صوتك فأخبره
فقال له عد إلى منزلك فلا فضل فيك فرجع إلينا وخبرنا بما جرى وقال خذوا بنا في شأننا فجلسنا على سطح فلما متع النهار إذا خادم من خدم أمير المؤمنين قد أقبل إلينا على برذون في يده شيء مغطى بمنديل قد كاد ينال الأرض فصعد إلينا وقال لمحمد أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك قد بعثنا إليك بكأس أم حكيم لتشرب فيه وبألف دينار تنفقها في صبوحك فقام محمد فأخذ الكأس من يد الخادم وقبلها وصب فيها ثلاثة أرطال وشربها قائما وسقانا مثل ذلك ووهب للخادم مئتي دينار وغسل الكأس وردها إلى موضعها وجعل يفرق علينا تلك الدنانير حتى بقي معه أقلها

صوت
( علقمَ ما أنت إلى عامرِ ... الناقضِ الأوتارِ والواترِ )
( إن تَسُد الحُوصَ فلم تعدُهْم ... وعامر سادَ بني عامرِ )
( عهدي بها في الحي قد دُرِّعت ... صفراء مثل المُهْرة الضامرِ )
( قد حَجَم الثديُ على صدرها ... في مُشْرِق ذي بهجة ناضِر )

( لو أسندت مَيتاً إلى نحرها ... عاش ولم يُحْمَل إلى قابر )
( حتى يقولَ الناس مما رأوا ... يا عَجَبا للميّتِ الناشِرِ )
عروضه من - السريع - والشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة يمدح عامر بن الطفيل ويهجو علقمة بن علاثة
والغناء لمعبد في الثالث وما بعده خفيف ثقيل الأول بالبنصر وفي الأبيات لحنين - ثقيل - أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيها أيضا لحن آخر ذكره في المجرد ولم يجنسه ولم ينسبه إلى أحد

الخبر في هذه القصة وسبب منافرة عامر وعلقمة وخبر الأعشى وعلقمة وغيره
معهما فيها
أخبرني بذلك محمد بن الحسين بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ونسخت من روايات ابن الكلبي عن أبيه ومن رواية دماذ والأثرم عن أبي عبيدة والأصمعي ومن رواية ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل ومن رواية أبي عمرو الشيباني عن أصحابه فجمعت رواياتهم ولكل امرىء منهم زيادة على صاحبه ونقصان عنه واللفظ مشترك في الروايات إلا ما حكيته مفردا
قال ابن الكلبي حدثني أبي ومحرز بن جعفر وجعفر بن كلاب الجعفري عن بشر بن عبد الله بن حبان بن سلمى بن مالك بن جعفر عن أبيه عن أشياخه وذكر بعضه أبو مسكين قالوا
سبب المنافرة بين عامر وعلقمة
أول ما هاج النفار بين عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر وبين علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص
وأم عامر كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن جعفر وأمها أم الظباء بنت معاوية فارس الهرار ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة وأمها خالدة بنت جعفر بن كلاب وأمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف وأم

أبيه الطفيل أم البنين بنت ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة
قال أبو الحسن الأثرم وكانت أم علقمة ليلى بنت أبي سفيان بن هلال بن النخع سبية وأم أبيه ماوية بنت عبد الله بن الشيطان بن بكر بن عوف بن النخع مهيرة
أن علقمة كان قاعدا ذات يوم يبول فبصر به عامر فقال لم أر كاليوم عورة رجل أقبح فقال علقمة أما والله ما تثب على جاراتها ولا تنازل كناتها يعرض بعامر فقال عامر وما أنت والقروم والله لفرس أبي حنوة أذكر من أبيك ولفحل أبي غيهب أعظم ذكرا منك في نجد قال وكان فرسه فرسا جوادا نجا عليه يوم بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وكان فحله فحلا لبني حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان
قال الأثرم وأخبرني رجل من جهينة بدمشق قال هو الأشعر بن صرمة
قال الأثرم سمي صرمة غيهب لسواده
قال ابن الكلبي فاستعاره منهم يستطرقه فغلبهم عليه فقال علقمة أما فرسكم فعارة وأما فحلكم فغدرة ولكن إن شئت نافرتك فقال قد شئت

فقال عامر والله أنا أكرم منك حسبا وأثبت منك نسبا وأطول منك قصبا
فقال علقمة لأنا خير منك ليلا ونهارا
فقال عامر لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك
فقال علقمة على ماذا تنافرني يا عامر
فقال عامر أنافرك على أني أنحر منك للقاح وخير منك في الصباح وأطعم منك في السنة الشياح
فقال علقمة أنت رجل تقاتل والناس يزعمون أني جبان ولأن تلقى العدو وأنا أمامك أعز لك من أن تلقاهم وأنا خلفك وأنت جواد والناس يزعمون أني بخيل ولست كذلك ولكن أنافرك أني خير منك أثرا وأحد منك بصرا وأعز منك نفرا وأسرح منك ذكرا
فقال عامر ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد وبصري ناقص وبصرك صحيح ولكني أنافرك على أني أنشر منك أمة وأطول منك قمة وأحسن منك لمة وأجعد منك جمة وأبعد منك همة

قال علقمة أنت رجل جسيم وأنا رجل قضيف وأنت جميل وأنا قبيح ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي
فقال عامر آباؤك أعمامي ولم أكن لأنافرك بهم ولكني أنافرك أني خير منك عقبا وأطعم منك جدبا
قال علقمة قد علمت أن لك عقبا في العشيرة وقد أطعمت طيبا إذ سارت ولكني أنافرك أني خير منك وأولى بالخيرات منك وقد أكثرنا المراجعة منذ اليوم
قال فخرجت أم عامر وكانت تسمع كلامهما فقالت يا عامر نافره أيكما أولى بالخيرات
قال أبو المنذر قال أبو مسكين قال عامر في مراجعته والله لأنا أركب منك في الحماة وأقتل منك للكماة وخير منك للمولى والمولاة
فقال له علقمة والله إني أعز منك إني لبر وإنك لفاجر وإني لوفي وإنك لغادر ففيم تفاخرني يا عامر فقال عامر والله إني لأنزل منك للقفرة وأنحر منك للبكرة وأطعم منك للهبرة وأطعن منك للثغرة
فقال علقمة والله إنك لكليل البصر نكد النظر وثاب على جاراتك بالسحر
فقال بنو خالد بن جعفر وكانوا يدا مع بني الأحوص على بني مالك بن

جعفر لن تطيق عامرا ولكن قل له أنافرك بخيرنا وأقربنا إلى الخيرات وخذ عليه بالكبر فقال له علقمة هذا القول
فقال عامر عنز وتيس وتيس وعنز فذهبت مثلا نعم على مئة من الإبل إلى مئة من الإبل يعطاها الحكم أينا نفر عليه صاحبه أخرجها ففعلوا ذلك ووضعوا بها رهنا من أبنائهم على يدي رجل من بني الوحيد فسمي الضمين إلى الساعة وهو الكفيل
قال وخرج علقمة ومن معه من بني خالد وخرج عامر فيمن معه من بني مالك وقد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك وهو أبو براء فقال يا عماه أعني فقال يابن أخي سبني فقال لا أسبك وأنت عمي قال فسب الأحوص فقال عامر ولا أسب والله الأحوص وهو عمي فقال فكيف إذن أعينك ولكن دونك نعلي فإني قد ربعت فيها أربعين مرباعا فاستعن بها في نفارك
وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية فلم يقل بينهما شيئا وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما وقال أنتما كركبتي البعير الأدرم تقعان بالأرض قالا فأينا اليمين فقال كلاكما اليمين وأبى أن يقضي بينهما فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام فأبى أن يحكم بينهما فوثب مروان بن سراقة ابن قتادة بن عمرو بن الأحوص بن جعفر فقال

( يالَ قريشٍ بيِّنوا الكلاما ... إنا رضينا منكم الأحكاما )
( فبيِّنوا إن كنتمُ حكّاما ... كان أبونا لهمُ إماما )
( وعبد عمْروٍ منع الفِئاما ... في يوم فخر مُعْلَم إعلاما )
( ودَعْلَجٌ أقدمه إقداما ... لولا الذي أجشمهم إجشاما )
( لا تخذتْهم مَذْحِج نَعاما ... )
قال فأبوا أن يقولوا بينهما شيئا
وقد كانت العرب تحاكم إلى قريش فأتيا عيينة بن حصن بن حذيفة فأبى أن يقول بينهما شيئا فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري فانطلقا حتى نزلا به

هرم بن قطبة يحكم بينهما
وقال بشر بن عبد الله بن حبان بن سلمى إنهما ساقا الإبل معهما حتى أشتت وأربعت لا يأتيان أحدا إلا هاب أن يقضي بينهما فقال هرم لعمري لأحكمن بينكما ثم لأفصلن ثم لست أثق بواحد منكما فأعطياني موثقا

أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول وتسلما لما قضيت بينكما وأمرهما بالانصراف ووعدهما ذلك اليوم من قابل فانصرفا حتى إذا بلغ الأجل من قابل خرجا إليه فخرج علقمة ببني الأحوص فلم يتخلف منهم أحد معهم القباب والجزر والقدور ينحرون في كل منزل ويطعمون وجمع عامر بني مالك فقال إنما تخاطرون عن أحسابكم فأجابوه وساروا معه ولم ينهض أبو براء معهم وقال لعامر والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخا بها وكره أبو براء ما كان من أمرهما فقال عامر فيما كره من منافرتهما ودعاء عامر إياه أن يسير معه
( أَأوُمر أن أَسُبَّ أبا شُريح ... ولا والله أفعلُ ما حييتُ )
( ولا أُهدي إلى هرم لِقاحا ... فيُحيي بعد ذلك أو يُميتُ )
( أُكَلَّف سعيَ لُقمانِ بن عاد ... فيال أبي شُريْح ما لقيتُ )
قال وأبو شريح هو الأحوص فكره كل واحد من البطنين ما كان بينهما وقال عبد عمرو بن شريح بن الأحوص
( لَحَى الله وَفْدينا وما ارتحلا به ... من السَّوءة الباقي عليهم وبالُها )
( ألا إنما بُرْدي صِفاق متينة ... أبى الضيم أعلاها وأُثبتَ حالُها )
فقال فسار عامر وبنو عامر على الخيل مجنبي الإبل وعليهم السلاح قال رجل من غني يا عامر ما صنعت أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص

ومعهم القباب والجزر وليس معك شيء تطعمه الناس ما أسوأ ما صنعت فقال عامر لرجلين من بني عمه أحصيا كل شيء مع علقمة من قبة أو قدر أو لقحة ففعلا فقال عامر يا بني مالك إنها المقارعة عن أحسابكم فاشخصوا بمثل ما شخصوا به ففعلوا وثار مع عامر لبيد بن ربيعة والأعشى ومع علقمة الحطيئة وفتيان من بني الأحوص منهم السندري بن يزيد بن شريح ومروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص وهم يرتجزون فقال لبيد
( يا هرِما وأنت أهلُ عدلِ ... إن نُفِّر الأحوص يوما قبلي )
( ليذهَبنَّ أهلُه بأهلي ... لا تَجْمَعَنَّ شكلَهم وشكلي )
( ونسلَ آبائِهم ونسلي ... )
وقال أيضا
( إني امرؤ من مالك بن جعفرِ ... علقم قد نافرت غيرَ مُنْفَرِ )
( نافرتَ سَقْبا من سِقاب العَرْعَر ... )
فقال قحافة بن عوف بن الأحوص
( نهنهْ إليك الشعرَ يا لَبيدُ ... واصْدُد فقد ينفعك الصُّدود )
( ساد أبونا قبل أن تَسودوا ... سُؤدُدُكم مُطَّرف زَهيد )

وقال أيضا
( إني إذا ما نُسي الحياءُ ... وضاع يوم المَشهد اللِّواء )
( أُنْمَى وقد حُقَّ ليَ النماءُ ... إلى ذكور ذِكرها سناء )
( إذ لا تزال جَلدةٌ كومَاء ... مبقورة لسَقْبها دعاء )
( لم يَنْهنا عن نحرها الصفاء ... لنا عليكم سُورَة وِلاءُ )
( المجدُ والسؤْدُدُ والعَطاء ... )
وقال أيضا
( أنتم هَزَلْتمْ عامرَ بنَ مالكِ ... في شَتَواتِ مُضَرَ الهوالكِ )
( يا شَرَّ أحياءٍ وشرَّ هالك ... )
قال وأنشدها السندري يومئذ ورفع صوته فقيل من هذا فقال
( أنا لمن أنكر صوتي السَّنْدَريّ ... أنا الفتى الجعد الطويل الجعفريّ )
( من ولد الأحوص أخوالي غَنِيّ ... )
فقال عامر أجب يا لبيد فرغب لبيد عن إجابته وذلك لأن السندري كانت جدته أمة اسمها عيساء فقال
( لما دعاني عامرٌ لأسُبَّهم ... أَبَيتُ وإن كان ابن عَيْساء ظالما )
( لكيما يكونَ السَّندَريُّ نَدِيدتِي ... وأشتُمَ أعماماً عُموماً عَماعما )
( وأُنْشِرَ من تحت القبورِ أُبُوّةً ... كراماً هم شَدُّوا عليّ التّمائما )

( لعِبت على أكتافهمْ وحُجُورهم ... وليداً وسَمَّوني مُفيداً وعاصما )
( ألا أينا ما كان شراً لمالكٍ ... فلا زال في الدنيا مَلُوماً ولائما )
قال ووثب الحطيئة فقال
( ما يحبس الحُكّام بالفصْل بعدما ... بدا سابقٌ ذو غُرَّة وحُجُولِ )
وقال أيضا
( يا عامِ قد كنت ذا باع ومكرمة ... لو أن مَسعاة من جاريتَه أَمَمُ )
( جاريت قَرْماً أجاد الأَحوصان به ... سمحَ اليدين وفي عِرْنينه شَمَمُ )
( لا يصعُبُ الأمرُ إلاّ ريثَ يركبُه ... ولا يبيت على مالٍ له قَسَمُ )
( هابتْ بنو مالك مجداً ومَكْرُمَةً ... وغايةً كان فيها الموتُ لو قَدِموا )
( وما أساؤوا فِراراً عن مُجَلِّحةٍ ... لا كاهنٌ يَمترِي فيها ولا حَكَمُ )

دهاء هرم بن قطبة وذكاؤه
قال وأقام القوم عنده أياما وأرسل إلى عامر فأتاه سرا لا يعلم به علقمة فقال يا عامر قد كنت أرى لك رأيا وأن فيك خيرا وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك أتنافر رجلا لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه فما الذي أنت به خير منه
قال عامر أنشدك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي فإن كنت لا بد فاعلا فسو بيني وبينه قال انصرف فسوف أرى رأيي فخرج عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه

ثم أرسل إلى علقمة سرا لا يعلم به عامر فأتاه فقال يا علقمة والله إن كنت لأحسب فيك خيرا وأن لك رأيا وما حسبتك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك أتفاخر رجلا هو ابن عمك في النسب وأبوه أبوك وهو مع هذا أعظم قومك غناء وأحمدهم لقاء فما الذي أنت به خير منه عشرا علقمة أنشدك الله والرحم ألا تنفر علي عامرا اجزز ناصيتي واحتكم في مالي وإن كنت لا بد أن تفعل فسو بيني وبينه فقال انصرف فسوف أرى رأيي فخرج وهو لا يشك أنه سيفضل عليه عامرا
قال أبي وسمعت أن هرما قال لعامر حين دعاه يا عامر كيف تفاضل علقمة فقال عامر ولم يا هرم قال لأنه أنجل منك عينا في النساء وأكثر منك نفيرا عند ثورة الدعاء قال عامر هل غير هذا قال نعم هو أكثر منك نائلا في الثراء وأعظم منك حقيقة عند الدعاء ثم قال لعلقمة كيف تفاضل عامرا قال ولم يا هرم قال هو أنفذ منك لسانا وأمضى منك سنانا قال علقمة فهل غير هذا قال نعم هو أقتل منك للكماة وأفك منك للعناة
قال ثم إن هرما أرسل إلى بنيه وبني أبيه إني قائل غدا بين هذين الرجلين مقالة فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة ويطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن عامر وفرقوا بين الناس لا تكون لهم جماعة
وأصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل الناس وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا فقام لبيد فقال
( يا هرَم ابنَ الأكرمين مَنصِبا ... إنك قد وُلِّيتَ حُكما مُعْجِبا )
( فاحكم وصوِّب رأس من تصوّبا ... إن الذي يعلو علينا تُرتُبا )

( لخَيرُنا عماً وأماً وأبا ... وعامرٌ خيرهما مُرَكَّبا )
( وعامر أدنى لقيسٍ نسبا ... )
فقام هرم فقال يا بني جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم تقعان إلى الأرض معا وليس فيكما أحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم
وعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجزر فنحروها حيث أمرهم هرم عن علقمة عشرا وعن عامر عشرا وفرقوا الناس فلم يفضل هرم واحدا منهما على صاحبه وكره أن يفعل وهما ابنا عم فيجلب عداوة ويوقع بين الحيين شرا
قال وكان الأعشى حين رجع من عند قيس بن معد يكرب بما أعطاه طلب الجوار والخفرة من علقمة فلم يكن عنده ما طلب وأجاره وخفره عامر حتى إذا أداه وماله إلى أهله قال
( عَلْقَمَ ما أنت إلى عامرِ ... الناقضِ الأوتارِ والواترِ )
ثم أتمها بعد النفار فلما بلغ علقمة ما قال الأعشى وأشاع في العرب أن هرما قد فضل عامرا توعد الأعشى فقال الأعشى
( لعمري لئن أمسي من الحيّ شاخصا ... )
قال ابن الكلبي حدثني أبي قال فعاش هرم حتى ادرك سلطان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عمر فقال يا هرم أي الرجلين كنت مفضلا لو فضلت فقال لو قلت ذاك يا أمير المؤمنين لعادت جذعة ولبلغت شعاف هجر فقال عمر نعم مستودع السر ومسند الأمر إليه أنت يا هرم مثل هذا

فليسد العشيرة وقال إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم

إسلام علقمة
قال مؤلف الكتاب
وقد أدرك علقمة بن علاثة الإسلام فأسلم ثم ارتد فيمن ارتد من العرب فلما وجه أبو بكر خالد بن الوليد المخزومي إلى بني كلاب ليوقع بهم وعلقمة يومئذ رئيسهم هرب وأسلم ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه فأعلمه أنه قد نزع عما كان عليه فقبل إسلامه وأمنه هكذا ذكر المدائني
وأما سيف بن عمر فإنه روى عن الكوفيين غير ذلك
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا السري بن يحيى قال حدثنا شعيب بن إبراهيم عن سيف بن عمر عن سهل بن يوسف قال
كان علقمة بن علاثة على كلاب ومن لافها وقد كان علقمة أسلم ثم ارتد في حياة النبي ثم خرج بعد فتح الطائف حتى لحق بالشام مرتدا فلما توفي النبي أقبل مسرعا حتى عسكر في بني كعب مقدما رجلا ومؤخرا أخرى وبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه فبعث إليه سرية وأمر عليها القعقاع بن عمرو وقال يا قعقاع سر حتى تغير على علقمة بن علاثة لعلك تأخذه لي أو تقتله واعلم أن شفاء النفس الحوص فاصنع ما عندك فخرج في تلك السرية حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة وكان لا يبرح أن

يكون على رحل فسابقهم على فرسه مراكضة وأسلم أهله وولده واستبى القعقاع امرأة علقمة وبناته ونساءه ومن أقام من الرجال فاتقوه بالإسلام فقدم بهم على أبي بكر رضي الله عنه فجحدت زوجته وولده أن يكونوا مالؤوا علقمة على أمره وكانوا مقيمين في الدار ولم يكن بلغه عنهم غير ذلك وقالوا لأبي بكر ما ذنبنا نحن فيما صنع علقمة فأرسلهم ثم أسلم علقمة فقبل ذلك منه
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمرو بن عثمان قال
كان رسول الله ربما حدث أصحابه وربما تركهم يتحدثون ويصغي إليهم ويتبسم فبينا هم يوما على ذلك يتذاكرون الشعر وأيام العرب إذ سمع حسان بن ثابت ينشد هجاء أعشى بن قيس بن ثعلبة علقمة بن علاثة ومديحه عامر بن الطفيل
( علقمَ ما أنت إلى عامرِ ... الناقِض الأوتارِ والواترِ )
( إن تسُد الحُوص فلم تَعْدُهمْ ... وعامرٌ سادَ بني عامر )
( ساد وألْفى رهطه سادة ... وكابرا سادوك عن كابرِ )
فقال رسول الله كف عن ذكره يا حسان فإن أبا سفيان لما شعث مني عند هرقل رد عليه علقمة فقال حسان بن ثابت بأبي أنت وأمي يا رسول الله من نالتك يده فقد وجب علينا شكره

علقمة يموت قبل وصول الحطيئة إليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
لما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة من حبسه قال له

يا أمير المؤمنين اكتب لي كتابا إلى علقمة بن علاثة لأقصده به فقد منعتني التكسب بشعري فقال لا أفعل فقيل له يا أمير المؤمنين وما عليك من ذلك إن علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم وإنما هو رجل من المسلمين تشفع له إليه فكتب له بما أراد فمضى الحطيئة بالكتاب فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون عن قبره فوقف عليه ثم أنشد قوله
( لعمري لنعم المرءُ من آل جعفرٍ ... بحَوران أمسى أعْلَقَته الحبائلُ )
( فإن تحيَ لا أملَل حياتي وإن تمت ... فما في حياةٍ بعد موتك طائل )
( وما كان بيني لو لقيتُك سالما ... وبين الغِنى إلا ليالٍ قلائلُ )
فقال له ابنه يا حطيئة كم ظننت أن علقمة يعطيك قال مئة ناقة قال فلك مئة ناقة يتبعها مئة من أولادها فأعطاه إياها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمر بن أبي بكر قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد والضحاك بن عثمان قالا
لما قدم علقمة بن علاثة المدينة وكان قد ارتد عن الإسلام وكان لخالد بن الوليد صديقا لقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد في جوف الليل وكان عمر يشبه بخالد وذلك أن أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فسلم عليه وظن أنه خالد فقال أعزلك قال كان ذلك قال والله ما هو إلا نفاسة عليك وحسد لك

فقال له عمر فما عندك معونة على ذلك قال معاذ الله إن لعمر علينا سمعا وطاعة وما نخرج إلى خلافه فلما أصبح عمر رضي الله عنه أذن للناس فدخل خالد وعلقمة فجلس علقمة إلى جنب خالد فالتفت عمر إلى علقمة فقال إيه يا علقمة أأنت القائل لخالد ما قلت فالتفت علقمة إلى خالد فقال يا أبا سليمان أفعلتها قال ويحك والله ما لقيتك قبل ما ترى وإني لأراك لقيت الرجل قال أراه والله ثم التفت إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين ما سمعت إلا خيرا قال أجل فهل لك أن أوليك حوران قال نعم فولاه إياها فمات بها فقال الحطيئة يرثيه
( لَعمري لنعم الحيُّ من آل جعفرِ ... بحَوْران أمسى أقصدته الحبائل )
( لقد أقصدَتْ جُوداً ومجداً وسؤدداً ... وحلماً أصيلاً خالفته المجَاهَل )
( فإن تَحي لا أَمْلَلْ حياتي وإن تمت ... فما في حياةِ بعد موتك طائلُ )
وفي أول هذه القصيدة التي رثى بها الحطيئة علقمة غناء نسبته

صوت
( أرى العِيسَ تَخْدِي بين قَوٍّ فضارجٍ ... كما لاح في الصبح الأَشاءُ الحواملُ )
( فأَتبعتهمْ عينيّ حتى تفرقَتْ ... مع الليل عن ساق الفريدِ الجمَائل )
( فلأْياً قصرتُ الطرفَ عنهم بِجسرةٍ ... أمونٍ إذا واكلتُها لا تواكِلُ )

غنى في هذه الأبيات سائب خاثر ثاني - ثقيل - بالوسطى من رواية حماد بن إسحاق والهشامي
صوت
( لَيتَ شعري أفاحَ رائحةُ المسكِ ... وما إِنْ إِخال بالخَيْفِ إنْسِي )
( حينَ غابَتْ بنو أُمَيَّة عنه ... والبهاليلُ من بني عبد شمسِ )
( خُطَباءٌ على المنابر فُرْسانٌ ... علَيها وقالةٌ غيرُ خُرْسِ )
إخال أظن خلت كذا وكذا فأنا إخاله إذا ظننته وخال علي الشيء يخيل إذا شككت فيه وليت شعري كلمة تقولها العرب عند الشيء تحب علمه وتسأل عنه
وأخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عمر بن شبة قال سأل رجل أبا عبيدة ما أصل ليت شعري فقال كأنه قال ليتني شعرت بكذا وكذا ليتني علمت حقيقته
الشعر لأبي العباس الأعمى والغناء لابن سريج - رمل - بالبنصر في مجراها

أخبار أبي العباس الأعمى
هو السائب بن فروخ مولى بني ليث وقيل إنه مولى بني الديل وهذا القول هو الصحيح
ذكر محمد بن معاوية الأسدي عن المدائني والواقدي
أن أبا العباس الأعمى الذي يروي عنه حبيب بن أبي ثابت مولى جذيمة بن علي بن الديل بن بكر بن عبد مناة وكان من شعراء بني أمية المعدودين المقدمين في مدحهم والتشيع لهم وانصباب الهوى إليهم وهو الذي يقول في أبي الطفيل عامر بن واثلة صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام
( لعمرَكَ إنني وأبا طُفَيلٍ ... لمختلفان والله الشهيدُ )
( أرى عثمانَ مهتدياً ويأبى ... متابعتي وآبَى ما يريد )
أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبيه عن عبد الله بن أبي سعد
وقد روى أبو العباس الأعمى عن صدر من الصحابة الحديث وروى عنه عطاء وعمرو بن دينار وحبيب بن أبي ثابت
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال

حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء عن أبي العباس الأعمى الشاعر عن عبد الله بن عمر قال إنما جمع منزل تدلج منه إذا شئت
قال حدثنا أحمد بن محمد بن دلان الخيشي قال حدثنا أحمد بن إسماعيل قال حدثنا أبو ضمرة قال حدثني أبو الحارث بن عبد الرحمن عن أبي ذئب عن أبي العباس عن سعيد بن المسيب قال قال علي بن أبي طالب قال رسول الله
إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلا
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي قال حدثنا أبو قلابة قال حدثنا بشر بن عمر قال حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال
سمعت أبا العباس السائب بن فروخ الأعمى الشاعر يحدث عن عبد الله بن عمر قال
جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال أحي والداك قال نعم قال فيهما فجاهد
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثنا الفضل بن عبد الله الخلنجي بجرجان قال حدثني مسلم بن الوليد الأنصاري قال سمعت يزيد بن مزيد يقول سمعت هارون

الرشيد يقول سمعت المهدي يقول سمعت المنصور يقول
خرجت أريد الشأم أيام مروان بن محمد فصحبني في الطريق رجل ضرير فسألته عن مقصده فأخبرني أنه يريد مروان بشعر امتدحه به فاستنشدته إياه فأنشدني
( ليتَ شِعري أفاح رائحة المِسك ... وما إن إخال بالخَيف إنسِي )
( حين غابت بنو أميّةَ عنه ... والبهاليلُ من بني عبد شمسِ )
( خطباء على المنابر فُرْسانَ ... عليها وقالةٌ غير خُرْسِ )
( لا يُعابون صامتين وإن قالوا ... أصابوا ولم يقولوا بلَبْس )
( بِحُلوم إذا الحلوم تقضَّتْ ... ووجوه مثل الدنانير مُلْسِ )
ويروى مكان تقضت اضمحلت قال فوالله ما فرغ من إنشاده حتى توهمت أن العمى قد أدركني وافترقنا فلما أفضت الخلافة إلي خرجت حاجا فنزلت أمشي بجبلي زرود فبصرت بالضرير ففرقت من كان معي ثم

دنوت منه فقلت أتعرفني قال لا فقلت أنا رفيقك وأنت تريد الشام أيام مروان فقال أوه
( آمتْ نساءُ بني أميّة منهمُ ... وبناتُهُمْ بمَضِيعةٍ أيتامُ )
( نامتْ جدودُهم وأُسْقِط نجمهمْ ... والنجم يَسْقُط والجدود تَنام )
( خَلَتِ المنابرُ والأسرّةُ منهمُ ... فعليهمُ حتى المماتِ سلامُ )
فقلت وكم كان مروان أعطاك بأبي أنت قال أغناني أن أسأل أحدا بعده فهممت بقتله ثم ذكرت حق الاسترسال والصحبة فأمسكت عنه وغاب عن عيني فبدا لي فيه فأمرت بطلبه فكأنما البيداء بادت به
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة
هوي أبو العباس الأعمى امرأة ذات بعل فراسلها فأعلمت زوجها فقال أطمعيه فأطمعته ثم قال أرسلي إليه فليأتك فأرسلت إليه فأتاها وجلس زوجها إلى جانبها فقال لها أبو العباس إنك قد وصفت لنا وما نراك فألمسينا فأخذت يده فوضعتها على أيرها فنفر وعلم أن قد كيد فنهض من عندها وقال

صوت
( عليَّ أَلِيَّةٌ ما دمت حيّا ... أَمَسُّك طائعاً إلا بعُودِ )
( ولا أُهدِي لأرضٍ أنتِ فيها ... سلامَ الله إلا من بعيدِ )
( رجوتُ غنيمة فوضعت كفّي ... على أيرٍ أشدَّ من الحديدِ )
( فخير منكِ من لا خيرَ فيهِ ... وخيرٌ من زيارتكم قُعودِي )
وقرأت هذه الحكاية مروية عن الأصمعي غير مذكور راويها عنه وزعم أن بشارا صاحب القصة وأنه كان له مجلس يسميه البردان يجتمع إليه فيه

النساء فعشق هذه المرأة وقد سمع كلامها ثم ذكر الخبر بطوله وقال فيه فلما وصل إليها أنشأ يقول
( مُلَيكةُ قد وُصِفتِ لنا بحسنٍ ... وإنا لا نراكِ فأَلمِسِينا )
فأخذ زوجها يده فوضعها على أيره
ذكر إسحاق أن في البيتين الأولين والرابع من هذه الأبيات لحنا من خفيف الثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى ولم ينسبه إلى أحد ووجدته في غناء عمرو بن بانة في هذه الطريقة منسوبا إليه فلا أدري هو ذلك اللحن أو غيره
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أيوب بن عمر أبو سلمة قال
قال أبو العباس الأعمى مولى بني الديل بن بكر يحض بني أمية على عبد الله بن الزبير
( أبني أميّةَ لا أرى لَكُم ... شِبْهاً إذا ما التفَّتِ الشِّيَعُ )
( سَعَةً وأحلاماً إذا نَزِعَتْ ... أهلُ الحلومِ فضرَّها النَّزَعُ )
( وحفيظةً في كل نائبةٍ ... شَهباءَ لا يُنْهَى لها الرُّبَعُ )
( اللهُ أعطاكمْ وإنْ رغِمتْ ... من ذاك أنفُ معاشِرٍ رَتَعُوا )
( أبني أميةَ غيرَ أنكمُ ... والناس فيما أُطمِعوا طَمِعوا )
( أَطْمَعْتُمُ فيكمْ عَدُوَّكُم ... فسما بهمْ في ذاكُمُ الطَّمَعُ )
( فَلَو انَّكُم كنتمْ لقولكُم ... مثلَ الذي كانوا لكمْ رجَعوا )
( عما كرهتمْ أو لَرَدَّهُمُ ... حذرُ العقوبة إنها تَزَعُ )

وله أشعار كثيرة في مدائح بني أمية وهجاء آل الزبير وأكثرها في هجاء عمرو بن الزبير ليس ذكرها مما قصدنا له

أبو العباس يهجو ابن الزبير والمجاشعي
ونسخت من كتاب قعنب بن المحرز قال حدثنا المدائني عن جويرية بن أسماء
أن ابن الزبير رأى رجلا من حلفاء بني أسد بن عبد العزى في حالة رثة فكساه ثوبين وأمر له ببر وتمر فقال أبو العباس الأعمى في ذلك
صوت
( كَسَتْ أسدٌ إخوانَها ولَوَ انني ... ببلدةِ إخواني إذاً لكُسِيتُ )
( فلم تر عيني مثل حيٍّ تَحمَّلوا ... إلى الشأم مظلومين منذ بُرِيتُ )
غنى في هذين البيتين دحمان - ثقيل - أول بالبنصر من رواية ابن المكي ورأيت في بعض الكتب لزرزور غلام المارقي فيهما صنعة أيضا
وقال محمد بن معاوية حدثني المدائني قال
قدم البعيث المجاشعي مكة وكان أبو العباس الأعمى الشاعر لا يكاد

يفارقها وكانت جوائز أمية تأتيه من الشام وكانت قريش كلها تبره للسانه وتقربا إلى بني أمية ببره قال فصلى البعيث مع الناس وسأل في حمالة كانت عليه وكان سؤولا ملحا شديد الطمع وكان الرجل من قريش يأتيه بالشيء يتحمله عنه فيقول لا أقبله إلا أن تجيء معي إلى الصراف حتى ينقده ويزنه فإن لم يفعل ذمه وهجاه فشكوه إلى أبي العباس الأعمى فقال قودوني إليه ففعلوا فلما عرف مجلسه رفع عصاه فضرب بها رأسه ثم قال له
( فهلْ أنتَ إلا مُلْصَقٌ في مُجاشِعٍ ... نَفاكَ جريرٌ فاضْطُرِرْتَ إلى نَجْدِ )
( نفاك جرير بالهجاء إلى نجد ... )
ويروى
( تظلُّ إذا أُعطيتَ شيئاً سأَلتَه ... تطالبُ من أعطاك بالوزن والنقدِ )
( فلا تطْمَعَنْ من بعدِ ذا في عطيّةٍ ... وثِقْ بقبيح المنعِ والدفعِ والردِّ )
( فلستَ بمُبْقٍ في قريشٍ خِزاية ... تُذَم ولو أبْعَدْت فيه مَدَى الجَهْدِ )
قال فتضاحك به من حضر واستحيا ولم يحر جوابا فلما جن الليل عليه هرب من مكة
وقال قعنب بن المحرز حدثني المدائني قال
قال عبد الملك بن مروان لأبي العباس الأعمى مولى بني الديل أنشدني مديحك مصعبا فاستعفاه فقال يا أمير المؤمنين إنما رثيته بذلك لأنه كان صديقي وقد علمت أن هواي أموي قال صدقت ولكن أنشدني ما قلته فأنشده

( يرحمُ الله مصعباً فلقد ماتَ ... كريما ورامَ أمراً جسيمَا )
فقال عبد الملك أجل لقد مات كريما ثم تمثل
( ولكنه رام التي لا يرومُها ... من الناس إلا كلّ خِرْق مُعَمَّمِ )
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إسحاق بن محمد الأموي قال
لما حج عبد الملك بن مروان جلس للناس بمكة فدخلوا إليه على مراتبهم وقامت الشعراء والخطباء فتكلموا ودخل أبو العباس الأعمى فلما رآه عبد الملك قال مرحبا بك يا أبا العباس أخبرني بخبر الملحد المحل حيث كسا أشياعه ولم يكسك وأنشدني ما قلت في ذلك
فأخبره بخبر ابن الزبير وأنه كسا بني أسد وأحلافها ولم يكسه وأنشده الأبيات فقال عبد الملك أقسم على كل من حضرني من بني أمية وأحلافهم ومواليهم ثم على كل من حضرني من أوليائي وشيعتي على دعوتهم إلا كسا أبا العباس
فخلعت والله حلل الوشي والخز والقوهي وجعلت ترمى عليه حتى إذا غطته نهض فجلس فوق ما اجتمع منها وطرح عليه قال حتى رأيت في الدار من الثياب ما ستر عني عبد الملك وجلساءه وأمر له عبد الملك بمئة ألف درهم

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي وأهلي
أن عبد الله بن الزبير لما غلب على الحجاز جعل يتتبع شيعة بني مروان فينفيهم عن المدينة ومكة حتى لم يبق بهما أحد منهم ثم بلغه عن أبي العباس الأعمى الشاعر نبذ من كلام وأنه يكاتب بني مروان بعوراته ويمدح عبد الملك وتجيئه جوائزه وصلاته فدعا به ثم أغلظ له وهم به ثم كلم فيه وقيل له رجل مضرور فعفا عنه ونفاه إلى الطائف فأنشأ يقول يهجوه ويهجو آل الزبير
( بني أسد لا تذكروا الفخرَ إنكمْ ... متى تذكروه تُكْذَبوا وتُحَمَّقوا )
( بُعَيْدات بَيْنٍ خيرُكم لصديقكم ... وشرُّكُم يغدو عليه ويَطْرُق )
( متى تُسألوا فضلاً تَضَنّوا وتبخلوا ... ونيرانكم بالشر فيها تَحَرُّقُ )
( إذا استبقت يوماً قريش خرجْتُمُ ... بني أسدٍ سَكْتاً وذو المجد يسبق )
( تجيئون خلف القوم سوداً وجوهكمْ ... إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا )
( وما ذاك إلا أن للّؤم طابَعاً ... يلوح عليكم وسْمه ليس يَخْلُق )

أبو العباس وعمر بن أبي ربيعة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني عمي مصعب قال
قال عمر بن أبي ربيعة لأبي العباس الأعمى الشاعر مولى بني الديل بن بكر
( أفْتِني إن كنتَ ثَقْفاً شاعراً ... عن فتىً أعرجَ أعمى مختلِفْ )

( سيىءِ السَّحْنة كابٍ لونُه ... مثلِ عود الخروعِ البالي القصِف )
فقال أبو العباس يرد عليه
( أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى ... وسيدُنا لولا خلائقُ أربعُ )
( نُكُولك في الهيجا وتَقْوالُك الخنا ... وشتمك للمولَى وأنك تُبَّعُ )
قال الزبير يقال رجل تبع نساء وتبع نساء إذا كان كلفا بهن
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال حدثني المكيون
أن عمر بن أبي ربيعة كان يرامي جارية لأبي العباس الأعمى ببنادق الغالية فبلغ ذلك أبا العباس فقال لقائده قفني على باب بني مخزوم فإذا مر عمر بن أبي ربيعة فضع يدي عليه فلما مر عمر وضع يده عليه فأخذ بحجزته وقال
( ألا من يشتري جارا نؤوماً ... بجارٍ لا ينام ولا يُنِيمُ )
( ويلبس بالنهار ثيابَ ناسٍ ... وشَطْرَ الليلِ شيطانٌ رجيمُ )
فنهضت إليه بنو مخزوم فأمسكوا فمه وضمنوا له عن عمر أن لا يعاود ما يكرهه

صوت
( ألا حيِّ من أجل الحبيب المَغانيا ... لبِسن البلى لما لَبِسن الليالِيا )
( إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا )
الشعر لأبي حية النميري والغناء لأحمد بن يحيى المكي - خفيف رمل - بالبنصر عن الهشامي

أخبار أبي حية النميري ونسبه
أبو حية الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن جناب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
وكان يقال لمالك الأصقع وقال قوم إن الأصقع هو الأصم بن مالك بن جناب بن كعب
وأبو حية شاعر مجيد مقدم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وقد مدح الخلفاء فيهما جميعا وكان فصيحا مقصدا راجزا من ساكني البصرة وكان أهوج جبانا بخيلا كذابا معروفا بذلك أجمع وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه وقيل إنه كان يصرع
طرائف من أخباره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني محمد بن سلام الجمحي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا
كان لأبي حية سيف يسميه لعاب المنية ليس بينه وبين الخشبة فرق وكان من أجبن الناس
قال فحدثني جار له قال دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصا فأشرفت

عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية وهو واقف في وسط الدار وهو يقول أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة ضربته لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك إني والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها وما قيس تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها فبينا هو كذلك إذ خرج الكلب فقال الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفاني حربا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن علي بن حمزة قال حدثني أبو عثمان المازني قال حدثني سعيد بن مسعدة الأخفش قال
قال أبو حية النميري أتدري ما يقول القدريون قلت لا قال يقولون الله لا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يسالهم ما لا يجدون وصدق والله القدريون ولكني لا أقول كما يقولون
قال محمد بن علي بن حمزة وحدثني أبو عثمان قال
قال سلمة بن عياش لأبي حية النميري أتدري ما يقول الناس قال وما يقولون قال يقولون إني اشعر منك قال إنا لله هلك والله الناس
قال وكان أبو حية النميري مجنونا يصرع وقد أدرك هشام بن عبد الملك

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال سمعت عمي يقول
أبو حية في الشعراء كالرجل الربعة لا يعد طويلا ولا قصيرا
قال وسمعت أبا عمرو يقول هو أشعر في عظم الشعر من الراعي
أخبرني الحسن بن علي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل وأخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قالوا
كان ابو حية النميري من أكذب الناس فحدث يوما أنه يخرج إلى الصحراء فيدعو الغربان فتقع حوله فيأخذ منها ما شاء فقيل له يا أبا حية ارأيت إن أخرجناك إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك فما نصنع بك قال أبعدها الله إذن
قال وحدثنا يوما قال عن لي ظبي يوما فرميته فراغ عن سهمي فعارضه السهم ثم راغ فعارضه السهم فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات
قال وقال يوما رميت والله ظبية فلما نفذ سهمي عن القوس ذكرت بالظبية حبيبة لي فعدوت خلف السهم حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها
وذكر يحيى بن علي عن الحسن بن عليل العنزي قال قال الرياشي عن الأصمعي قال
وفد أبو حية النميري على المنصور وقد امتدحه وهجا بني حسن

بقصيدته التي أولها
( عُوجا نحيِّ ديار الحيّ بالسندِ ... وهل بتلك الديارِ اليوم من أحدِ )
يقول فيها
( أحين شِيمَ فلم يتركْ لهم ترَةً ... سيفٌ تقلّده الرئبال ذو اللِّبَدِ )
( سللتموه عليكمَ يا بني حسنٍ ... ما إنْ لكم من فلاحٍ آخرَ الأبد )
( قد أصبحتْ لبنِي العباس صافيةً ... لجدع آناف أهل البغي والحسد )
( وأصبحت كلَهاة الليثِ في فمه ... ومَنْ يحاولُ شيئاً في فم الأسد )
فوصله أبو جعفر بشيء دون ما كان يؤمل فاحتجن لعياله أكثره وصار إلى الحيرة فشرب عند خمارة بها فأعجبه الشرب فكره إنفاد ما معه وأحب أن يدوم له ما كان فيه فسأل الخمارة أن تبيعه بنسيئة وأعلمها أنه مدح الخليفة وجماعة من القواد ففعلت وشرهت إلى فضل النسيئة وكان لأبي حية أير كعنق الظليم فأبرز لها عنه فتدلهت وكانت كلما سقته خطت في الحائط فأنشأ أبو حية يقول
( إذا أسقيتِني كُوزاً بخَطٍّ ... فخُطِّي ما بدا لك في الجدار )
( فإن أعطيتني عيناً بدين ... فهاتي العَيْن وانتظري ضِماري )
( خرقتُ مقدّماً من جنب ثوبي ... حِيال مكان ذاك من الإِزار )

( فقالت ويلَها رجل ويمشي ... بما يمشي به عُجَرُ الحمار )
( وقالت ما تريد فقلت خيراً ... نسيئةَ ما عليّ إلى يساري )
( فصدّت بعدما نظرت إليه ... وقد ألمحتُها عُنُق الحُوار )
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال
لقي ابن مناذر أبا حية فقال له أنشدني بعض شعرك فأنشده
( ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... )
فقال له ابن مناذر وهذا شعر فقال أبو حية ما في شعري عيب هو شر من أنك تسمعه ثم أنشده ابن مناذر شيئا من شعره فقال له أبو حية قد عرفتك ما قصتك
وهذه القصيدة يفخر فيها أبو حية ويذكر يوم النشاش وهو يوم لبني نمير

أخبار أحمد بن يحيى المكي
أحمد بن يحيى بن مرزوق المكي ويكنى أبا جعفر وكان يلقب ظنينا وقد تقدم ذكر أبيه وأخباره وهو أحد المحسنين المبرزين الرواة للغناء المحكمي الصنعة وكان إسحاق يقدمه ويؤثره ويشيد بذكره ويجهر بتفضيله وكتابه المجرد في الأغاني ونسبها أصل من الأصول المعمول عليها وما أعرف كتابا بعد كتاب إسحاق الذي ألفه لشبحا يقارب كتابه ولا يقاس به وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته أحد الضراب الموصوفين المتقدمين
أخبرني عمي قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن محمد بن أحمد المكي
أن أباه جمع لمحمد بن عبد الله بن طاهر ديوانا للغناء ونسبه وجنسه فكان محتويا على أربعة عشر ألف صوت
أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيى ونسخت من بعض الكتب حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني علي بن يحيى قال
قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وقد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي يا أبا محمد لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكا كم كان يساوي فقال أخبرك عن ذلك
انصرفت ليلة من دار الواثق فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت

إليه فإذا أحمد عنده فلما قام لصلاة العشاء الآخرة قال لي الحسن بن وهب كم يساوي أحمد لو كان مملوكا قلت يساوي عشرين ألف دينار قال ثم رجع فغنى صوتا فقال لي الحسن بن وهب يا أبا محمد أضعفها قال ثم تغني صوتا آخر فقلت للحسن يا أبا علي أضعفها ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد غنني

صوت
( لولا الحياءُ وأن السَّتْر من خُلُقي ... إذن قعدتُ إليكَ الدهرَ لم أَقُم )
( أليس عندك شُكر للتي جعلت ... ما ابيضَّ من قادمات الرأس كالحُمَمِ )
الغناء فيه لمعبد خفيف ثقيل أول في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لمالك وليس كما قال لحن مالك ثقيل أول ذكره الهشامي ودنانير وغيرهما
قال فغناه أحمد بن يحيى المكي فأحسن فيه كل الإحسان فلما قمت للانصراف قلت للحسن يا أبا علي أضعف الجميع فقال له أحمد ما هذا الذي أسمعكما تقولانه ولست أدري ما معناه قال نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدري
وأخبرنا بهذا الخبر يحيى بن علي بن يحيى عن أخيه أحمد بن علي

عن عافية بن شبيب عن أبي حاتم قال
كان إسحاق عندنا في منزل أبي علي الحسن بن وهب وعندنا ظنين بن المكي وذكر الحديث مثله وقال فيه إنه قومه مئة ألف درهم وذكر أن الصوت الذي غناه آخرا
صوت
( أمِن دِمنٍ وخَيم بالياتِ ... وسُفْعٍ كالحمائم جاثماتِ )
( أرِقتَ لهنّ شطرَ الليل حتى ... طلعن من المناقب مُنجداتِ )
وأن إسحاق لما سمعه قال كم كنت قومته قال مئة ألف درهم قال أضعفوا القيمة قيمته مئتا ألف درهم
في هذين البيتين لحن من القدر الأوسط من - الثقيل - الأول بالسبابة في مجرى الوسطى ينسب إلى ابن مسجح وإلى ابن محرز وفيه لابن سريج ثاني - ثقيل - بالوسطى عن عمرو وللغريض - خفيف ثقيل - عن الهشامي

مناظرته للمغنين
أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال
ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم وطال تلاحيهما في الغناء فقال أبي للمعتصم يا أمير المؤمنين من شاء منهم فليغن عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة لا يعرف أحد منهم صوتا منها فقال إسحاق صدق يا أمير المؤمنين واتبعه ابن بسختر وعلويه

فقالا صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله فأمر له بعشرين ألف درهم
قال محمد ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظته يوما فقال له قد دعوتك إلى النصفة فلم تقبل وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه فاندفع فغنى عشرة أصوات فلم يعرف أحد منهم منها صوتا واحدا كلها من الغناء القديم والغناء اللاحق به من صنعة المكيين الحذاق الخاملي الذكر فاستحسن المعتصم منها صوتا وأسكت المغنين له واستعاده مرات عدة ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه وأمر ألا يراجع أحدا من المغنين كلاما ولا يعارضه أحد منهم إذ كان قد أبر عليهم وأوضح الحجة في انقطاعهم وإدحاض حججهم
كان الصوت الذي اختاره المعتصم عليه وأمر له لما سمعه بألفي دينار

صوت
( لعنَ الله من يلوم محبًّا ... ولحى الله من يُحَبُّ فيَابَى )
( رُبَّ إلفين أضمرا الحُبَّ دهرا ... فعفا الله عنهما حين تابا )
الغناء ليحيى المكي - رمل -
قال محمد قال أبي
وكان المعتصم قد خلع علينا في ذلك اليوم مماطر لها شأن من ألوان

شتى فسألني عبد الوهاب بن علي أن أرد عليه هذا الصوت وجعل لي ممطره فغنيته إياه فلما خرجنا للانصراف إلى منازلنا أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلماني فسلموه إليهم
أخبرني عبد الله بن الربيع عن أبيه قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
سألني إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما من بقي من المغنين قلت وجه القرعة محمد بن عيسى مولى عيسى بن جعفر فقال صالح كيس ومن أيضا قلت أحمد بن يحيى المكي قال بخ بخ ذاك المحسن المجمل الضارب المغني القائم بمجلسه لا يحوج أهل المجلس إلى غيره ومن بأبي أنت قلت ابن مقامرة قال لا والله ما سمعت بهذا قط فمن مقامرة هذه زامرة أم نائحة أم مغنية قلت لا ولكنها من الناس وليست من أهل صناعته قال ومن أيضا بأبي أنت قلت يحيى بن القاسم ابن أخي سلمة قال الذي كان له أخ يغني مرتجلا قلت نعم قال لم يحسن ذاك ولا أبوه شيئا قط ولا أشك أن هذا كذلك لأنهما مؤدباه
وذكر ابن المكي عن أبيه قال
قال المعتصم يوما لجلسائه ونحن عنده خلعت اليوم على فتى شريف ظريف نظيف حسن الوجه شجاع القلب ووليته المصيصة ونواحيها

فقلنا من هذا يا أمير المؤمنين فقال خالد بن يزيد بن مزيد فقال علويه يا أحمد غن أمير المؤمنين صوتك في مدح خالد فأمسكت عنه فقال المعتصم مالك لا تجيبه فقلت يا أمير المؤمنين ليس هو مما يغنى بحضرة الخليفة فقال ما من أن تغنيه بد قال فغنيته صنعة لي في هذا الشعر

صوت
( علَّمَ النَّاسَ خالدُ بنُ يزيدٍ ... كلَّ حلم وكل بأسٍ وجُودِ )
( فترى الناسِ هيبةً حين يبدو ... مِن قيامٍ ورُكَّعٍ وسجودِ )
فقال المعتصم يا سمانة خذ أحمد بإلقاء هذا الصوت على الجواري في غد وأمر لي بعشرة آلاف درهم
قال وغنى أبي يوما محمدا الأمين
صوت
( فعش عُمرَ نوحٍ في سرورٍ وغِبْطَةٍ ... وفي خفض عيش ليس في طوله إثمُ )
( تساعدُك الأقدارُ فيه وتنثنِي ... إليك وترعَى فضلَك العُرْبُ والعُجْم )
فأمر له بخمس مئة دينار
وتوفي أحمد بن يحيى المكي في خلافة المستعين في أولها

أخبرني بذلك جحظة البرمكي عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي أن أباه توفي في هذا الوقت
انقضت أخباره
صوت
( إن الذين غَدَوا بلُبِّك غادروا ... وشَلاً بعينك ما يزال مَعِينا )
( غَيَّضْن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
غادروا تركوا والوشل الماء القليل والمعين الماء الصافي الجاري وغيضن من عبراتهن أي كففنها ومسحنها حتى تغيض
الشعر لجرير والغناء لإسحاق - رمل - بالوسطى عن عمرو وهو من طريف أرمال إسحاق وعيونها وفيه لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وعمرو وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج رملا آخر وذكر عيسى أن الثقيل الأول لإبراهيم وأن فيه للهذلي ثاني - ثقيل - بالوسطى ولإبراهيم أيضا ماخوري بالبنصر

من غزل جرير
وقد أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة
أن هذين البيتين للمعلوط وأن جريرا سرقهما منه وأدخلهما في شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي وغيره قالوا
غدا عبد الله بن مسلم ابن جندب الهذلي على أبي السائب المخزومي في منزله فلما خرج إليه أبو السائب أنشده قول جرير
( إن الذين غَدَوا بلبك غادَروا ... وشَلاً بعينك لا يزال مَعينا )
البيتين فحلف أبو السائب ألا يرد على أحد سلاما ولا يكلمه إلا بهذين البيتين حتى يرجع إلى منزله فخرجا فلقيهما عبد العزيز بن المطلب وهو قاض وكانا يدعيان القرينين لملازمتهما فلما رآهما قال كيف أصبح القرينان فغمز أبو السائب ابن جندب أن أخبره بالقصة وابن جندب يتغافل فقال لابن جندب ما لأبي السائب فجعل أبو السائب يغمزه أي أخبره بيميني قال ابن جندب أحمد الله إليك ما زلت منكرا لفعله منذ خرجنا فانصرف ابن المطلب إلى منزله والخصوم ينتظرونه فصرفهم ودخل منزله مغتما فلما أتى أبو السائب منزله وبرت يمينه خرج إلى ابن جندب فقال اذهب بنا إلى ابن المطلب فإني أخاف أن يرد شهادتي فاستأذنا عليه فأذن

لهما فقال له أبو السائب قد علمت - أعزك الله - غرامي بالشعر وإن هذا الضال جاءني حين خرجت من منزلي فأنشدني بيتين فحلفت ألا أرد على أحد سلاما ولا أكلمه إلا بهما حتى أرجع إلى منزلي فقال ابن المطلب اللهم غفرا ألا تترك المجون يا أبا السائب
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد المطلب بن عبد العزيز قال
أنشدت أبا السائب قول جرير
( غَيَّضْنَ مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فقال يابن أخي أتدري ما التغييض قلت لا قال هكذا وأشار بأصبعه إلى جفنه كأنه يأخذ الدمع ثم ينضحه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا المدائني وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن زهير عن الزبير بن بكار قال عن المدائني قال
شهد رجل عند قاض بشهادة فقيل له من يعرفك قال ابن أبي عتيق فبعث إليه يسأله عنه فقال عدل رضا فقيل له أكنت تعرفه قبل اليوم قال لا ولكني سمعته ينشد
( غَيَّضْنً مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن فشهدت له بالعدالة
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الحسن ومحمد بن الضحاك قالا
كان أبو السائب المخزومي واقفا على رأس بئر فأنشده ابن جندب

( إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشَلاً بعينك لا يزال مَعينا )
فرمى بنفسه في البئر بثيابه فبعد لأي ما أخرجوه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن الزرقي قال حدثنا العلاء بن عمرو الزبيري من ولد عمرو بن الزبير قال حدثنا يحيى بن أبي قتيلة قال حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي عليهم السلام عن أشعب قال
جاءني فتية من قريش فقالوا لي نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتا من الغناء وتعلمنا ما يقول لك وجعلوا لي في ذلك جعلا فدخلت عليه فقلت يا أبا عمرو لي مجالسة وحرمة ومودة وسن وأنا مولع بالترنم قال وما الترنم قلت الغناء قال وفي أي وقت قلت في الخلوة ومع الإخوان في الخارج وأحب أن أسمعك فإن كرهته أمسكت عنه ثم غنيته فقال ما أرى بأسا فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا وما غنيته فقلت غنيته
( قَرِّبا مَرْبَطَ النعامةِ مِني ... لقِحَتْ حربُ وائلٍ عن حيالِ )
قالوا هذا بارد لا حركة فيه ولسنا نرضى فلما رأيت دفعهم إياي وخفت ذهاب ما جعلوا لي رجعت إليه فقلت يا أبا عمرو آخر قال ما لي ولك ولم أملكه أمره حتى غنيت فقال ما أرى بأسا فخرجت إليهم فأعلمتهم قالوا وما غنيته قلت
( لم يُطِيقوا أن ينزِلوا ونزلْنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا )
قالوا وليس هذا بشيء فرجعت إليه فقلت آخر فاستكفني فلم

أملكه القول حتى غنيته
( غَيَّضْنَ مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فقال مهلا مهلا قلت لا والله إلا بذاك الذي فيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال هو لك فخرجت عليهم به وأنا أخطر فقالوا مه فقلت أطربت الشيخ حتى أعطاني هذا وقال مرة أخرى حتى فرض لي هذا قال ووالله ما فعل وإنما كان فدية لأصمت وأخذت منهم الجعل
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال حدثت عن حماد بن إسحاق قال حدثني علويه الأعسر قال
أتيت أباك في داره هذه يوما وقد بنى إيوانها وسائرها خراب فجلسنا على تل من تراب فغناني لحنه في
( غَيَّضْنً مِن عَبَراتهن وقُلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا )
فسألته أن يعيده علي ففعل وأتانا رسول أبيه بطبق رطب فقال للرسول قل له سأرسل إليك برطب أطيب من الرطب الذي بعثت به إلي فأبلغه الرسول ذلك فقال له ومن عنده فأخبره أنني عنده فقال ما أخلقه أن يكون قد أتاني بآبدة أتانا رسوله بعد ساعة فقال ما آن لرطبكم أن يأتينا فأرسلني إليه وقد أخذت الصوت فغنيته إياه فقال أجاد والله أألام على هذا وحبه والله لو لم يكن بيني وبينه قرابة لأحببته فكيف وهو ابني

صوت
( ألست ترى يا ضبُّ بالله أنني ... مصاحبة نحو المدينة ارْكُبا )

( إذا قطعوا حَزْنا تَخُبُّ رِكابُهم ... كما حرّكتْ ريحٌ يَراعاً مُثَقَّبا )
عروضه من - الطويل - والشعر لنائلة بنت الفرافصة والغناء لابن عائشة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى ووجدت في كتاب بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة

أخبار نائلة بنت الفرافصة ونسبها
هي نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو وقيل ابن عفر بن ثعلبة وقيل عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبية زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه تقوله لأخيها لما نقلها إلى عثمان
أخبرني بخبره وخبرها أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد عن أبيه قال
تزوج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هند بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة فبلغ ذلك عثمان فكتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب فاكتب إلي بنسبها وجمالها
فكتب إليه
أما بعد فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأحوص وجمالها أنها بيضاء مديدة القامة
فكتب إليه إن كانت لها أخت فزوجنيها
فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب إحدى بناته على عثمان فأمر

الفرافصة ابنه ضبا فزوجها إياه وكان ضب مسلما وكان الفرافصة نصرانيا فلما أرادوا حملها إليه قال لها أبوها يا بنية إنك تقدمين على نساء من نساء قريش هن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني خصلتين تكحلي وتطيبي بالماء حتى يكون ريحك ريح شن أصابه مطر
فلما حملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها فأنشأت تقول
( ألستَ تَرى يا ضبُّ بالله أنني ... مصاحبةٌ نحو المدينة أَرْكُبا )
( إذا قطعوا حَزْناً تَخُبّ رِكابُهم ... كما حرّكتْ ريحٌ يَراعاً مُثَقَّبا )
( لقد كان في أبناء حِصْن بن ضَمْضمٍ ... لكَ الويلُ ما يغني الخِباءَ المطَنّبا )
فلما قدمت على عثمان رضي الله عنه قعد على سريره ووضع لها سريرا حياله فجلست عليه فوضع عثمان قلنسيته فبدا الصلع فقال يا بنة الفرافصة لا يهولنك ما ترين من صلعي فإن وراءه ما تحبين فسكتت فقال إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فقالت أما ما ذكرت من الصلع فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع وأما قولك إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فوالله ما تجشمت من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك بل أقوم إليك فقامت فجلست إلى جنبه فمسح رأسها ودعا لها بالبركة ثم قال لها اطرحي عنك رداءك فطرحته ثم قال لها اطرحي خمارك فطرحته ثم قال لها انزعي درعك فنزعته ثم قال حلي إزارك فقالت ذاك إليك فحل إزارها فكانت من أحظى نساءه عنده
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال

( إذا قطعوا حَزْنا تَخُبُّ رِكابُهم ... كما حرّكتْ ريحٌ يَراعاً مُثَقَّبا )
عروضه من - الطويل - والشعر لنائلة بنت الفرافصة والغناء لابن عائشة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى ووجدت في كتاب بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة

كتاب نائلة إلى معاوية
أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثنا علي بن محمد عن أبي مخنف عن نمير بن وعلة عن الشعبي ومسلمة بن محارب عن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية
أن نائلة بنت الفرافصة كتبت إلى معاوية بن أبي سفيان وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير أو عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان
أما بعد فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة وأنقذكم من الكفر ونصركم على العدو وأسبغ النعمة وأنشدكم بالله وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه وبعزمة الله عليكم فإنه عز و جل يقول ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) وإن أمير المؤمنين بغي عليه ولو لم يكن له عليكم حق إلا حق الولاية ثم أتي بما أتي لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه في الإسلام وحسن بلائه وأنه أجاب داعي الله وصدق كتابه والله أعلم به إذ انتجبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة
وإني أقص عليكم خبره لأني كنت مشاهدة أمره كله حتى أفضي إليه
وإن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم قيام على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء يحضرونه

الأذى ويقولون له الإفك فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وكان علي مع المحرضين من أهل المدينة ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من مزينة وجهينة وأنباط يثرب ولا أرى سائرهم ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره ثم إنه رمي بالنبل والحجارة فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر فأتوه يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم عنه وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة وفي الأمر إلا إغراء ثم أحرقوا باب الدار فجاءه ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا إن في المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل فأخرج إلى المسجد حتى يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية وما أرى أحدا يعدل فدخل الدار وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح فلبس درعه وقال لأصحابه لولا أنتم ما لبست درعا فوثب عليه القوم فكلمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقا في صحيفة بعث بها إلى عثمان إن عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعروه بشيء فكلموه وتحرجوا فوضع السلاح فلم يكن إلا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر حتى أخذوا بلحيته ودعوه باللقب فقال أنا عبد الله وخليفته فضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات

وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا به فأتتني بنت شيبة بن ربيعة فألقت نفسها معي عليه فوطئنا وطئا شديدا وعرينا من ثيابنا وحرمة أمير المؤمنين أعظم فقتلوه رحمة الله عليه في بيته وعلى فراشه وقد أرسلت إليكم بثوبه وعليه دمه وإنه والله لئن كان أثم من قتله لما يسلم من خذله فانظروا أين أنتم من الله جل وعز فإنا نشكي ما مسنا إليه ونستنصر وليه وصالح عباده ورحمة الله على عثمان ولعن الله من قتله وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور
فحلف رجال من أهل الشام ألا يطأوا النساء حتى يقتلوا قتلته أو تذهب أرواحهم

صوت
( فيا راكباً إما عرضْت فبلِّغنْ ... ندامايَ من نجرانَ أَنْ لاَ تلاقَيا )
( أبَا كرِبٍ والأَيْهَمين كليهما ... وقيساً بأعلى حضرموت الْيَمانِيَا )
( وتضحكُ مِنّي شَيْخةٌ عَبْشَميّةٌ ... كأن لم تَرَا قبلي أسيراً يمانِيا )
( أقول وقد شَدُّوا لساني بِنسْعةٍ ... أمعشَر تيْمٍ أطلِقوا عن لِسانيا )
الشعر لعبد يغوث بن صلاءة الحارثي والغناء لإسحاق - ثقيل - أول

أخبار عبد يغوث ونسبه
هو عبد يغوث بن صلاءة وقيل بل هو عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة - وهو قول ابن الكلبي - بن المغفل واسم المغفل ربيعة بن كعب الأرت بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
قال ابن الكلبي قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح قال وكان يقال ليعرب المرعف
وكان عبد يغوث بن صلاءة شاعرا من شعراء الجاهلية فارسا سيدا لقومه من بني الحارث بن كعب وهو كان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وفي ذلك اليوم أسر فقتل وعبد يغوث من أهل بيت شعر معرق لهم في الجاهلية والإسلام منهم اللجلاج الحارثي وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة وأخوه مسهر فارس شاعر وهو الذي طعن عامر بن الطفيل في عينه يوم فيف الريح ومنهم ممن أدرك الإسلام جعفر بن علبة بن

ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث بن الحارث بن معاوية بن صلاءة وكان فارسا شاعرا صعلوكا أخذ في دم فحبس بالمدينة ثم قتل صبرا وخبره يذكر منفردا لأن له شعرا فيه غناء
والشعر المذكور في هذا الموضع لعبد يغوث بن صلاءة يقوله في يوم الكلاب الثاني وهو اليوم الذي جمع فيه قومه وغزا بني تميم فظفرت به بنو تميم وأسروه وقتل يومئذ

حديث يوم الكلاب
وكان من حديث هذا اليوم فيما ذكر أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء وهشام بن الكلبي عن أبيه والمفضل بن محمد الضبي وإسحاق بن الجصاص عن العنبري قالوا
لما أوقع كسرى ببني تميم يوم الصفا بالمشقر فقتل المقاتلة وبقيت الأموال والذراري بلغ ذلك مذحجا فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا اغتنموا بني تميم ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة فقالت مذحج للمأمور الحارثي وهو كاهن ما ترى فقال لهم لا تغزوا بني تميم

فإنهم يسيرون أغبابا ويردون مياها جبابا فتكون غنيمتكم ترابا قال أبو عبيدة فذكر أنه اجتمع من مذحج ولفها اثنا عشر ألفا وكان رئيس مذحج عبد يغوث بن صلاءة ورئيس همدان يقال له مسرح ورئيس كندة البراء بن قيس بن الحارث فأقبلوا إلى تميم فبلغ ذلك سعدا والرباب فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفي وهو قاضي العرب يومئذ فاستشاروه فقال لهم أقلوا الخلاف على أمرائكم واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل والمرء يعجز لا محالة يا قوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب عجلة تهب ريثا واتزروا للحرب وادرعوا الليل فإنه أخفى للويل ولا جماعة لمن اختلف
فلما انصرفوا من عند أكثم تهيؤوا واستعدوا للحرب وأقبل أهل اليمن من بني الحارث من أشرافهم يزيد بن عبد المدان ويزيد بن مخرم ويزيد بن الطيثم بن المأمور ويزيد بن هوبر حتى إذا كانوا

بتيمن نزلوا قريبا من الكلاب ورجل من بني زيد بن رياح بن يربوع يقال له مشمت بن زنباع في إبل له عند خال له من بني سعد يقال له زهير بن بو فلما أبصرهم المشمت قال لزهير دونك الإبل وتنح عن طريقهم حتى آتي الحي فأنذرهم قال فركب المشمت ناقة ثم سار حتى أتى سعدا والرباب وهم على الكلاب فأنذرهم فأعدوا للقوم وصبحوهم فأغاروا على النعم فطردوها وجعل رجل من أهل اليمن يرتجز ويقول
( في كل عام نَعَمٌ ننتابُهُ ... على الكُلاب غُيَّبا أربابُهُ )
قال فأجابه غلام من بني سعد كان في النعم على فرس له فقال
( عما قليل سَتُرى أربابُهُ ... صُلْبَ القناةِ حازماً شبابُهُ )
( على جيادٍ ضُمَّرٍ عيابه ... )
قال فأقبلت سعد والرباب ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس بني سعد قيس بن عاصم المنقري قال أبو عبيدة اجتمع العلماء على أن الرئيس كان يومئذ قيس بن عاصم فقال ضبي حين دنا من القوم
( في كلِّ عام نعمٌ تحوُونَهُ ... يُلْقِحُهُ قوم وَتَنْتِجُونَهُ )
( أربابُه نوكَى فلا يَحْمونه ... ولا يلاقون طِعاناً دونَهُ )

( أَنَعَمَ الأبناءِ تَحْسِبُونَهُ ... هيهاتَ هيهاتَ لما تَرْجُونَهُ )
فقال ضمرة بن لبيد الحماسي انظروا إذا سقتم النعم فإن أتتكم الخيل عصبا عصبا وثبتت الأولى للأخرى حتى تلحق فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم فلم ينظروا إليكم حتى يردوا وجوه النعم ولا ينتظر بعضهم بعضا فإن أمر القوم شديد وتقدمت سعد والرباب فالتقوا في أوائل الناس فلم يلتفتوا إليهم واستقبلوا النعم من قبل وجوهها فجعلوا يصرفونها بأرماحهم واختلط القوم فاقتتلوا قتالا شديدا يومهم حتى إذا كان من آخر النهار قتل النعمان بن جساس قتله رجل من أهل اليمن كانت أمه من بني حنظلة يقال له عبد الله بن كعب وهو الذي رماه فقال للنعمان حين رماه خذها وأنا ابن الحنظلية فقال النعمان ثكلتك أمك رب حنظلية قد غاظتني فذهبت مثلا وظن أهل اليمن أن بني تميم سيهدهم قتل النعمان فلم يزدهم ذلك إلا جراءة عليهم فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل فباتوا يحرس بعضهم بعضا فلما أصبحوا غدوا على القتال فنادى قيس بن عاصم يال سعد ونادى عبد يغوث يال سعد قيس بن عاصم يدعو سعد بن زيد مناة بن تميم وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة فلما سمع ذلك قيس نادى يال كعب فنادى عبد يغوث يال كعب قيس يدعو كعب بن سعد وعبد يغوث يدعو كعب بن عمرو فلما رأى ذلك قيس من صنيع عبد يغوث قال ما لهم أخزاهم الله ما ندعو بشعار إلا دعوا بمثله فنادى قيس يال مقاعس يعني بني الحارث بن عمرو بن كعب وكان يلقب مقاعسا فلما سمع وعلة بن عبد الله الجرمي الصوت وكان صاحب اللواء يومئذ طرحه وكان أول من انهزم من اليمن وحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم أفظع هزيمة وجعل رجل منهم يقول
( يا قومُ لا يُفْلِتْكُمُ اليزيدانْ ... مُخَرِّماً أعني به والدَّيانْ )

وجعل قيس بن عاصم ينادي يال تميم لا تقتلوا إلا فارسا فإن الرجالة لكم وجعل يرتجز ويقول
( لما تَوَلَّوا عُصَبا شَوازبا ... أقسمت لا أطعنُ إلاَّ راكبا )
( إني وجدت الطعنَ فيهم صائبا ... )
وجعل يأخذ الأسارى فإذا أخذ أسيرا قال له ممن أنت فيقول من بني زعبل وهو زعبل بن كعب أخو الحارث بن كعب وهم أنذال فكأن الأسارى يريدون بذلك رخص الفداء فجعل قيس إذا أخذ أسيرا منهم دفعه إلى من يليه من بني تميم ويقول أمسك حتى أصطاد لك زعبلة أخرى فذهبت مثلا فما زالوا في آثارهم يقتلون ويأسرون حتى أسر عبد يغوث أسره فتى من بني عمير بن عبد شمس وقتل يومئذ علقمة بن سباع القريعي وهو فارس هبود وهبود فرس عمرو بن الجعيد المرادي وكان علقمة قتل عمرا وأخذ فرسه من تحته وأسر الأهتم واسمه سنان بن سمي بن خالد بن منقر ويومئذ سمي الأهتم - رئيس كندة البراء بن قيس وقتلت التيم الأوبر الحارثي وآخر من بني الحارث يقال له معاوية قتلهما النعمان بن جساس وقتل يومئذ من أشرافهم خمسة وقتلت بنو ضبة ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن قتله قبيصة بن ضرار بن عمرو الضبي
وأما عبد يغوث فانطلق به العبشمي إلى أهله وكان العبشمي أهوج فقالت له أمه - ورأت عبد يغوث عظيما جميلا جسيما - من أنت قال أنا سيد القوم فضحكت وقالت قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج فقال عبد يغوث

( وتَضْحَكُ مني شيخةٌ عَبْشَمِيّة ... كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانيا )
ثم قال لها أيتها الحرة هل لك إلى خير قالت وما ذاك قال أعطى ابنك مئة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أتخوف أن تنتزعني سعد والرباب منه فضمن له مئة من الإبل وأرسل إلى بني الحارث فوجهوا بها إليه فقبضها العبشمي فانطلق به إلى الأهتم وأنشأ عبد يغوث يقول
( أأهتمُ يا خيرَ البرية والدا ... ورَهْطا إذا ما الناسُ عَدُّوا المساعيا )
( تداركْ أسيراً عانياً في بلادكم ... ولا تثقفنّي التيمُ أَلْقَى الدواهيا )
فمشت سعد والرباب فيه فقالت الرباب يا بني سعد قتل فارسنا ولم يقتل لكم فارس مذكور فدفعه الأهتم إليهم فأخذه عصمة بن أبير التيمي فانطلق به إلى منزله فقال عبد يغوث يا بني تيم اقتلوني قتلة كريمة فقال له عصمة وما تلك القتلة قال اسقوني الخمر ودعوني أنح على نفسي فقال له عصمة نعم فسقاه الخمر ثم قطع له عرقا يقال له الأكحل وتركه ينزف ومضى عنه عصمة وترك معه ابنين له فقالا جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا فكيف رأيت الله صنع بك فقال عبد يغوث في ذلك
( ألا لا تلوماني كفى اللومَ ما بيا ... فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا )

( ألم تعلما أن المَلامة نفعُها ... قليل وما لومي أخي مِن شِماليا )
( فيا راكباً إما عرضت فبلِّغنْ ... ندامايَ من نَجْرانَ أنْ لا تلاقيا )
( أبا كَرِبٍ والأَيهمينِ كليهما ... وقيْساً بأعلى حضرموت اليمانيا )
( جزى الله قومي بالكُلاب ملامةً ... صريحَهم والآخرينَ المَواليا )
( ولو شئتُ نَجَّتْني من الخيل نَهْدةٌ ... ترى خَلْفَها الحُوَّ الجيادَ تواليا )
( ولكنني أحمي ذمار أبيكم ... وكان الرماح يختطفن المحاميا )
( وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانيا )
( وقد علمتْ عرسي مُلَيْكَة أننِي ... أنا الليثُ معدوّاً عليه وعاديا )
( أقول وقد شدّوا لساني بنِسعةٍ ... أمعشر تيم أطلقوا لِي لسانيا )
( أمعشر تيم قد ملكتمْ فأَسْجِحُوا ... فإن أخاكم لم يكن من بَوائيا )
( فإن تقتلوني تقتلوا بيَ سيدا ... وإن تطلقوني تَحْرُبُوني بما ليا )
( أحقًّا عبادَ الله أنْ لست سامعا ... نشيدَ الرِّعاء المُعْزِبين المَتاليا )
( وقد كنت نحار الجزور ومُعْمِلَ الْمَطيّ ... وأمضى حيث لا حيَّ ماضيا )

( وأنحر للشّرْب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القَينتين ردائيا )
( وعاديةٍ سومَ الجراد وزَعتها ... بكفِّي وقد أنحوا إليَّ العواليا )
( كأنيَ لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيليَ كُرِّي نَفِّسي عن رجاليا )
( ولم أَسْبأ الزِّقّ الرويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضَوْء ناريا )
قال فضحكت العبشمية وهم آسروه وذلك لما أسروه شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم وأبوا إلا قتله فقتلوه بالنعمان بن جساس
فقالت صفية بنت الخرع ترثي النعمان
( نِطاقه هُنْدُوانيُّ وجُبَّتُهُ ... فَضْفاضة كَأَضاة النَّهْيِ مَوْضونهْ )
( لقد أخذنا شفاء النفس لو شُفِيت ... وما قتلْنا به إلا امرأً دونهْ )
وقال علقمة بن سباع لعمرو بن الجعيد
( لما رأيت الأمر مَخْلُوجةً ... أكرهت فيه ذابلا مارِنا )
( قلت له خذها فإني امرؤ ... يعرف رمحي الرجلَ الكاهنا )
قوله يعرف رمحي الرجل الكاهنا يريد أن عمرو بن الجعيد كان كاهنا وهو أحد بني عامر بن الديل بن شن بن أفصى بن عبد القيس ولم يزل ذلك في ولده ومنهم الرباب بن البراء كان يتكهن ثم طلب خلاف أهل الجاهلية فصار على دين المسيح عليه السلام فذكر أبو اليقظان أن الناس سمعوا في زمانه مناديا ينادي في الليل وذلك قبل مبعث النبي خير أهل

الأرض رباب الشني وبحيرا الراهب وآخر لم يأت بعد قال وكان لا يموت أحد من ولد الرباب إلا رأوا على قبره طشا ومن ولده مخربة وهو أحد أجواد العرب وإنما سمي مخربة لأن السلاح خربه لكثرة لبسه إياه وقد أدرك النبي فأسلم فأرسله إلى ابن الجلندى العماني وابنه المثنى بن مخربة أحد وجوه أصحاب المختار وكان قد وجهه إلى البصرة ليأخذها فحاربه عباد بن الحصين فهزمه وكان ابنه بلج بن المثنى جوادا وفيه يقول بعض شعراء عبد القيس
( ألا يا بلْجُ بلجَ بني المُثَنَّى ... وأنت لكل مَكرُمة كِفاءُ )
( ألومُك طائعاً ما دمتُ حيًّا ... عليّ إذَنْ من الله العَفاء )
( كَفَى قوماً مكارمَ ضَيَّعوها ... وأحسنَ حين أبصرهم أساؤوا )

رجع الخبر إلى سياقة حديث عبد يغوث والوقعة
قال فأما وعلة بن عبد الله الجرمي فإنه لحقه رجل من بني سعد فعقر به فنزل وجعل يحضر على رجليه فلحق رجلا من بني نهد يقال له سليط بن قتب من بني رفاعة فقال له لما لحقه أردفني فأبى فطرحه عن فرسه وركب عليها وأدركت الخيل النهدي فقتلوه فقال وعلة في ذلك
( ولما سمعت الخيل تدعوا مقاعِساً ... علمتُ بأن اليوم أغبرُ فاجرُ )
( نجوتُ نجاءً ليس فيه وتِيرة ... كأني عُقاب دون تَيْمَنَ كاسر )
( خُداريَّةٌ صَقْعاء لَبَّد ريشها ... بِطَخفة يومٌ ذو أهاضيبَ ماطر )

( وقد قلت للنهديّ هل أنت مردِفِي ... وكيف رِداف الفَلِّ أمك عاثر )
( فإن أستطع لا تَبْتئِس بي مقاعِس ... ولا يرني باديهم والحواضِر )
( فِدَى لكما رِجليّ أمي وخالتي ... غداة الكُلاب إذ تحز الحناجر )
( فمن كان يرجو في تميم هوادة ... فليست لجَرم في تميم أواصر )
وقالت نائحة عمرو بن الجعيد
( أشابَ قَذال الرأس مَصْرَعُ سيِّد ... وفارسُ هَبُّودٍ أشاب النواصيا )
وقال محرز بن مكعبر الضبي
( فِدىً لقوميَ ما جمَّعت من نَشَبٍ ... إذ ساقت الحرب أقواماً لأقوامِ )
( قد حَدَّثتْ مَذْحج عنا وقد كَذَبَتْ ... أن لا يُوَرِّع عن نسواننا حامِ )
( دارت رحاهمْ قَليلاً ثم واجههمْ ... ضرب يصبّح منهم مَسْكَن الهامِ )
( ساروا إلينا وهم صِيد رؤوسهمُ ... فقد جعلنا لهمْ يوماً كأيام )
( ظلّتْ ضباعُ مُجيراتٍ يَعُدْنَهُمُ ... وألحموهن منهمْ أيَّ إلْحامِ )
( ظلت تدوس بني كعب بكَلْكلها ... وهَم يومُ بني نهدٍ بإظلامِ )
وقال أوس بن مغراء

( وفي يوم الكُلاب إذ اعترتنا ... قبائلُ أقبلوا متناسِبِينا )
( قبائلُ مذحِجَ اجتمعتْ وجَرْمٍ ... وهَمْدانٍ وكِندةَ أجمعينا )
( وحمِيرَ ثم ساروا في لُهامٍ ... على جُرْدٍ جميعاً قادِرِينا )
( فلما أن أتونا لم نُكَذِّب ... ولم نَسْأَلهُم أن يُمهِلونا )
( قتلنا منهم قَتْلَى وولَى ... شِريدُهم شَعاعا هاربينا )
( وفاظتْ منهم فينا أُسارَى ... لدينا منهمُ مُتَخَشِّعِينا )
وقال ذو الرمة غيلان بن عقبة في ذلك
( وعمِّي الذي قاد الرِّباب جماعةً ... وسَعدُهُمُ الرأسُ الرئيسُ المؤَمَّر )
( عشيةَ أعطتنا أزمَّةَ أمرِها ... ضِرارٌ بنو القَرْم الأغرّ ومِنْقر )
( وعبدُ يغوثٍ تَحجِل الطيرُ حولَه ... قد احتَزَّ عُرْشَيه الحسام المذكَّرُ )
العرشان عرقان في العنق
( عشيّةَ فرّ الحارِثِيون بعدما ... قضى نَحْبَه في مَعْرَك الخيل هَوْبَر )
( وقال أخو جَرْمٍ ألا لا هوادةٌ ... ولا وَزَرٌ إلا النجاءُ المشمر )

( أبى اللهُ إلاَّ أننا آل خِندِفٍ ... بنا يَسْمَع الصوتَ الأنام ويُبْصر )
( إذا ما تمضَّرنا فلا ناسَ غيرُنا ... ونُضْعِف أحيانا ولا نتمضَّر )
وقال أيضا
( فما شَهدت خيلُ امرىء القيس غارةً ... بثهلانَ تحمِي عن ثغورِ الحقائقِ )
( أثَرنا بِهِ نَقْعَ الكُلاب وأنتُم ... تُثِيرونَ نقعَ الملتقَى بالمعازقِ )
( أَدَرْنا على جَرْمٍ وأفناءِ مذحِجٍ ... رَحَى الموت فوق العاملاتِ الخوافِق )
( صدمناهُم دُونَ الأمانيّ صَدْمةً ... عَماساً بأطوادٍ طِوالٍ شواهقِ )
( إذا نطحتْ شهباءُ شهباءَ بينها ... شُعاع القَنا والمشرِفيِّ البوارقِ )
وقال البراء بن قيس الكندي
( قَتَلَتْنا تميمُ يوماً جديدا ... قتل عادٍ وذاكَ يومُ الكُلابِ )
( يوم جئنا يَسوقنا الحَين سوقا ... نحو قَومٍ كأنهم أسدُ غابِ )
( سرتُ في الأزد والمذاحج طُرًّا ... بين صِلٍّ وكاشِر الأنيابِ )
( وبني كِندة الملوكِ ولخمٍ ... وجُذامٍ وحمِيرَ الأربابِ )
( ومُرادٍ وخَثْعم وزُبيد ... وبني الحارث الطوالِ الرِّغاب )
( وحشدنا الصميمَ نرجو نِهابا ... فلقِينا البَوار دون النِّهاب )
( لَقِيتْنا أسود سَعدٍ وسعدٌ ... خُلِقت في الحروب سَوْط عذاب )
( تركوني مُسهَّداً في وَثاق ... أرقب النجم ما أُسيغُ شرابي )
( خائفاً للردَى ولولا دفاعي ... بمئينٍ عن مهجتي كالهضابِ )
( لسُقِيت الرّدَى وكنت كقومِي ... في ضريح مغيّباً في التراب )

( تذرفُ الدمع بالعوِيلِ نسائي ... كنساءٍ بكت قتيلَ الرِّبابِ )
( فلِعيني على اللأُلَى فارقوني ... دِرَر من دموعها بانسكاب )
( كيف أبغي الحياة بعد رجالٍ ... قُتلوا كالأسودِ قتل الكلاب )
( منهم الحارثيُّ عبدُ يغوثٍ ... ويزيدُ الفتيانِ وابن شهابِ )
( في مِئينٍ نعدّها ومئينٍ ... بعد ألف مُنوا بقوم غِضاب )
( برجال من العرانين شُمٍّ ... أسْدِ حربٍ ممحوضةِ الأنسابِ )
وقال وعلة بن عبد الله الجرمي
( عَذَلتني نهد فقلت لنهدِ ... حين حاست على الكُلاب أخاها )
( يوم كنا عليهمُ طيرَ ماء ... وتميم صُقورَها وبُزاها )
( لا تلوموا على الفِرار فسعدٌ ... يال نَهْد يخافها من يراها )
( إنما هَمُّها الطِّعان إذا ما ... كَرِه الطعن والضراب سِواها )
( تركوا مَذْحِجاً حديثاً مشاعاً ... مثل طَسْم وحِمْيَرِ وصُداها )
( يالَ قحطانَ وادِعوا حَيَّ سعدٍ ... وابتغوا سَلمْها وفضل نداها )
( إن سعد السعود أُسْدُ غِياض ... باسل بأسها شديد قُواها )
( فُضِحتْ بالكُلاب حارِ بنُ كعبٍ ... وبنو كندةَ الملوكُ أباها )
( أسلموا للمنون عبدَ يغوثٍ ... ولعِضّ الكبول حولاً يَراها )
( بعد ألف سُقوا المنُيّةَ صِرفا ... فأصابت في ذاك سَعْدٌ مُناها )
( ليتَ نَهْداً وجَرْمها ومُراداً ... والمذاحيج ذو أناةٍ نَهاها )
( عن تميم فلم تكن فَقْع قاعٍ ... تبتدرْها رِبابُها ومَناها )

( قل لبكر العراق تَستُر عَمراً ... عمروَ قيسٍ فرأيُ عمرو قَراها )
( عن تميم ولو غزتها لكانت ... مثل قطحانَ مستباحاً حماها )

صوت
( ما بالُ شمس أبي الخطاب قد حُجِبَتْ ... أَظُنّ يا صاحبيَّ الساعةَ اقتربتْ )
( أوْلا فما بال ريح كنت آنَسُها ... عادتْ عليَّ بِصرٍّ بعدما جَنَبَتْ )
( أشكو إليك أبا الخطاب جارية ... غريرةً بفؤادي اليوم قد لَعِبتْ )
( وأنت قَيِّمها فانظر لعاشقها ... يا ليتَ قد قَرَّبت مني وما بَعُدَتْ )
عروضه من - البسيط - الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي - رمل - بالبنصر عن الهشامي وعلي بن يحيى وذكر محمد بن الحارث بن بسخنز أن فيه هزجا بالبنصر لإبراهيم بن المهدي وذكر عمرو بن بانة أنه لإبراهيم الموصلي أيضا
وأبو الخطاب الذي عناه إبراهيم في شعره هذا رجل نخاس يعرف بقرين مولى العباسة بنت المهدي وكان إبراهيم يهوى جارية له يقال لها خنث وكانت من أجمل النساء وأكملهن وكان لها خال فوق شفتها العليا وكانت تعرف بذات الخال ولإبراهيم ولغيره فيها أشعار كثيرة نذكر منها كل ما كان فيه غناء بعد خبرها إن شاء الله

أخبار ذات الخال
أخبرني بخبرها الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي
أن جدي كان يتعشق جارية لقرين المكنى بأبي الخطاب النخاس وكان يقول فيها الشعر ويغني فيه فشهرها بشعره وغنائه وبلغ الرشيد خبرها فاشتراها بسبعين ألف درهم فقال لها ذات يوم أسألك عن شيء فإن صدقتني وإلا صدقني غيرك وكذبتك قالت له بل أصدقك قال هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلي شيء قط وأنا أحلفه أن يصدقني قال فتلكأت ساعة ثم قالت نعم مرة واحدة فأبغضها وقال يوما في مجلسه أيكم لا يبالي أن يكون كشخانا حتى أهب له ذات الخال فبدر حمويه الوصيف فقال أنا فوهبها له وفيها يقول إبراهيم
( أتحسِب ذات الخال راجية رَبّا ... وقد فَتَنَتْ قلباً يَهِيم بها حُبَّا )
( وما عُذْرها نفسي فداها ولم تدَع ... على أعظمي لحماً ولم تُبقِ لي لُبَّا )
الشعر والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى
وذكر أحمد بن أبي طاهر
أن الرشيد اشتراها بسبعين ألف درهم وذكر قصة حمويه كما ذكرها حماد وقال في خبره فاشتاقها الرشيد يوما بعدما وهبها لحمويه فقال له

ويلك يا حمويه وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك فقال يا أمير المؤمنين مر فيها بأمرك قال نحن عندك غدا فمضى فاستعد لذلك واستأجر لها من بعض الجوهريين بدنة وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار فأخرجها إلى الرشيد وهو عليها فلما رآها أنكره وقال ويلك يا حمويه من أين لك هذا وما وليتك عملا تكسب فيه مثله ولا وصل إليك مني هذا القدر فصدقه عن أمره فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر فأحضرهم واشترى الجوهر منهم ووهبه لها ثم حلف ألا تسأله يومه ذلك شيئا إلا أعطاها ولا حاجة إلا قضاها فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين ففعل ذلك وكتب له عهده به وشرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته

قصة خالها
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله العاصمي قال حدثني أحمد بن عبد الله طماس عن عبد الله وإبراهيم ابني العباس الصولي قالا
كانت للرشيد جارية تعرف بذات الخال فدعته يوما فوعدها أن يصير إليها وخرج يريدها فاعترضته جارية فسألته أن يدخل إليها فدخل وأقام عندها فشق ذلك على ذات الخال وقالت والله لأطلبن له شيئا أغيظه به وكانت أحسن الناس وجها ولها خال على خدها لم ير الناس أحسن منه في موضعه فدعت بمقراض فقصت الخال الذي كان في خدها وبلغ ذلك

الرشيد فشق عليه وبلغ منه فخرج من موضعه وقال للفضل بن الربيع انظر من بالباب من الشعراء فقال الساعة رأيت العباس بن الأحنف فقال أدخله فأدخله فعرفه الرشيد القصة وقال اعمل في هذا شيئا على معنى رسمه له فقال

صوت
( تخلَّصْتُ ممن لم يكن ذا حَفِيظةٍ ... وملْت إلى من لا يغيِّره حالُ )
( فإن كان قطعُ الخال لما تطلعتْ ... الى غيرها نفسي فقد ظُلِمَ الخالُ )
غناه إبراهيم فنهض الرشيد إلى ذات الخال مسرعا مسترضيا لها وجعل هذين البيتين سببا وأمر للعباس بألفي دينار وأمر إبراهيم الموصلي فغناه في هذا الشعر
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن الفضل قال
كان محمد بن موسى المنجم يعجبه التقسيم في الشعر ويشغف بجيد الأشعار فكان مما يعجبه قول نصيب
صوت
( أيا بعلَ لَيلَى كيف تجمعُ سَلْمَها ... وحَرْبي وفيما بيننا شَبَّتِ الحربُ )
( لها مثلُ ذنبي اليومَ إن كنتُ مذنبا ... ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنبُ )
عروضه من - الطويل - والشعر لنُصَيب ويروى للمجنون ويروى

لكعب بن مالك الخثعمي والغناء لمالك ثاني - ثقيل - بالوسطى عن عمرو
قال وكان محمد بن موسى ينشد كثيرا للعباس بن الأحنف

صوت
( ألا ليتَ ذاتَ الخال تَلْقَى من الهوى ... عَشِير الذي أَلْقَى فيلتئمَ الشَّعْبُ )
( إذا رَضِيتْ لم يَهْنِني ذلك الرضا ... لعلمي به أن سوف يتبعُه العَتب )
( وأبكي إذا ما أذنبتْ خوفَ صَدّها ... وأسألها مَرضاتها ولها الذنب )
( وصالُكمُ صُرْمٌ وحبُّكمُ قِلىً ... وعطفُكُم صَدّ وسَلْمُكم حَرْب )
ويقول ما أحسن ما قسم حتى جعل بإزاء كل شيء ضده والله إن هذا لأحسن من تقسيمات إقليدس
الغناء في هذه الأبيات الأربعة لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي
وكانت ذات الخال إحدى الثلاث الجواري اللواتي كان الرشيد يهواهن ويقول الشعر فيهن وهن سحر وضياء وخنث وفيهن يقول الرشيد
( إن سِحْراً وضياءً وخُنُثْ ... هنَّ سحر وضياءٌ وخُنُثْ )
( أَخَذَتْ سِحْرٌ ولا ذنبَ لها ... ثُلُثَيْ قلبي وتِرْباها الثُّلُثْ )
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف السدوسي قال حدثني محمد بن إسماعيل بن صبيح قال
وجه الرشيد إلى جاريته سحر لتصير إليه فاعتلت عليه ذلك اليوم بعلة

ثم جاءته من الغد فقال الرشيد
( أيا مَنْ رَدَّ وُدِّي أَمْسِ ... لا أُعْطيكَهُ اليومَا )
( ولا والله لا أعطيك ... إلا الصدَّ واللَّوْمَا )
( وإن كان بقلبي منك ... حُبٌّ يمنع النَّوما )
( أيا من سُمْتُه الوَصْلَ ... فأغلى المَهْرَ والسَّوْما )
قال وفيهن يقول وقد قيل إن العباس بن الأحنف قالها على لسانه
صوت
( مَلَكَ الثَّلاثُ الآنساتُ عِنانِي ... وحَلَلْن من قلبي بكلِّ مَكانِ )
( ما لي تُطاوعني البريةُ كلها ... وأطيعُهُن وهنّ في عصياني )
( ما ذاك إلا أن سُلْطان الهوى ... وبه عَزَزْن أعزّ من سلطاني )
غنته عريب - خفيف ثقيل - الأول بالوسطى

الرشيد وذات الخال
وروى أحمد بن أبي طاهر عن إسحاق قال
وجه الرشيد إلى ذات الخال ليلة وقد مضى شطر الليل فحضرت فأخرج إلي جارية كأنها المهاة فأجلسها في حجره ثم قال غنني فغنته
( جِئْنَ مِنَ الروم وقالِيقَلا ... يرفُلْن في المِرْط ولين المُلاَ )

( مُقَرْطَقاتٌ بصُنوف الحُِلَى ... يا حَبَّذا البيْضُ وتلك الحُِلَى )
فاستحسنه وشرب عليه ثم استؤذن للفضل بن الربيع فأذن له فلما دخل قال ما وراءك في هذا الوقت قال كل خير يا أمير المؤمنين ولكن جرى الساعة لي سبب لم يجز لي كتمانه أمير المؤمنين قال وما ذاك قال أخرج إلي في هذا الوقت ثلاث جوار لي مكية ومدينية وعراقية فقبضت المدينية على ذكري فلما أنعظت وثبت المكية فقعدت عليه فقالت لها المدينية ما هذا التعدي ألم تعلمي أن مالكا حدثنا عن الزهري عن عبد الله بن ظالم عن سعيد بن زيد أن النبي قال من أحيا أرضا ميتة فهي له فقالت الأخرى أو لم تعلمي أن سفيان حدثنا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي قال الصيد لمن صاده لا لمن أثاره فدفعتهما العراقية عنه ووثبت عليه وقالت هذا لي وفي يدي حتى تصطلحا فضحك الرشيد وأمره بحملهن إليه ففعل وحظين عنده وفيهن يقول
( ملكَ الثلاثُ الآنساتُ عِنانِي ... وحَلَلْن من قلبي بكل مكانِ )
حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال
حججنا مع الرشيد آخر حجة فكان الناس يتناشدون له في جواريه
( ثلاث قد حَلَلن حِمَى فؤادي ... ويُعْطَين الرغائب من وِدادي )
( نظمت قلوبَهُن بخيطِ قلْبي ... فهنَّ قرابتي حتى التنادِي )
( فمن يكُ حلّ من قلب مَحَلاًّ ... فهن مع النواظر والسَّواد )

ومما قاله إبراهيم وغيره في ذات الخال وغنى فيه

صوت
( أذاتَ الخالِ أَقصَيْتِ ... مُحبًّا بكُمُ صَبّا )
( فلا أَنْسَى حياتَي ما ... عَبدْتُ الدهرَ لي رَبّا )
( وقد قلت أنيليني ... فقالت أَفْرَقُ الذَّنْبا )
الشعر والغناء لإبراهيم - هزج - بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( أذات الخال قد طالَ ... بمن أسقمتِهِ الوجَعُ )
( وليس إلى سواكم في الْلَذِي ... يلقَى له فَزَع )
( أما يمنعُك الإِسلامُ ... من قتلي ولا الوَرَع )
( وما ينفكُّ لي فيكِ ... هوىً تَغتَرُّه خُدَعُ )
الشعر والغناء لإبراهيم - هزج - بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( ثَعلَبُ يا هذا الكثيرُ العَبَثِ ... بالله لَمَّا قُلْتَ لي عن خُنُث )
( عن ظبيةٍ تميس في مِشيتها ... أحسنُ من أبصرتُه في شَعَث )
( فقال قالت قل له أنت امرؤ ... مُوَكَّل فيما ترى بالعَبثِ )
( والله لولا خَصْلَةٌ أرقبُها ... لقَلّ في الدنيا لما بي لَبَثي )
الشعر لإبراهيم وله فيه لحنان أحدهما - ثقيل - الأول عن أبي العنبس والآخر هزج بالبنصر عن عمرو وفيه لعريب - ثقيل - أول آخر وذكر حبش أن فيه لابن جامع هزجا آخر بالوسطى
وذكر هارون بن الزيات أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه

أن ثعلبا هذا كان مملوكا لإبراهيم فقال هذه الأبيات في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي وكانت مغنية محسنة وخاطب ثعلبا فيها مستخبرا له
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه
أنه قال في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي وخاطب في شعره غلاما يقال له ثعلب وكانت خنث مغنية محسنة وكانت تعرف بذات الخال

صوت
( ثعلبُ يا هذا الكثيرَ الخُبُث ... بالله إلا قلت لي عن خُنُث )
وذكر الأبيات
قال وقال له أيضا
صوت
( أبد لذات الخال يا ثعلبُ ... قولَ امرىء في الحبّ لا يكذبُ )
( إني أقول الحق فاستيقِني ... كل امرىء في حُبِّه يلعبُ )
الشعر والغناء لإبراهيم له فيه لحنان - رمل - وخفيف ثقيل - عن ابن المكي ومنها
صوت
( جزى الله خيراً من كلِفت بحبِه ... وليس به إلا المموهُ من حُبِّي )
( وقالوا قلوب العاشقين رقيقة ... فما بال ذات الخالِ قاسية القلبِ )
( وقالوا لها هذا محبك مُعرضاً ... فقالت أرى إعراضه أيسر الخطبِ )
( فما هو إلا نظرة بتبسم ... فتنشَب رجلاه ويسقُطَ للجنب )
ومنها

صوت
( إذا لم يكن حب ذات الخال عَنَّاني ... إذنْ فَحُوِّلْتُ في مَسْكِ ابن زَيدان )
( فإنَّ هذي يمين ما حلفت بها ... إلا على الحق في سري وإعلاني )
الشعر والغناء لإبراهيم - هزج - بالبنصر
ومنها
صوت
( لقد أخلو بذات الخالِ ... والحراسُ قد هَجَعُوا )
( فمن يُبْصِرْ أبا الخطَّاب ... يطلُبُها ويتَّبِعُ )
( ألا لم تَرَ محزونا ... تَسَنَّم صبْرَهُ الجزع )
( وقارعَني ففزْت بها ... وحازتها لي القُرَعُ )
غناه إبراهيم من رواية بَذْل عنه ولم تذكر طريقته
إبراهيم الموصلي وذات الخال
قال علي بن محمد الهشامي حدثني جدي يعني ابن حمدون قال حدثني مخارق قال
كنت عند إبراهيم الموصلي ومعي ابن زيدان صاحب البرامكة وإبراهيم يلاعبه بالشطرنج فدخل علينا إسحاق فقال له أبوه ما أفدت اليوم فقال أعظم فائدة سألني رجل ما أفخم كلمة في الفم فقلت لا إله إلا الله فقال له أبوه إبراهيم أخطأت هلا قلت دنيا ودينا فأخذ ابن زيدان الشاه فضرب به رأس إبراهيم وقال له يا زنديق أتكفر بحضرتي فأمر إبراهيم غلمانه فضربوا ابن زيدان ضربا شديدا فانصرف من ساعته إلى جعفر بن يحيى

فحدثه بخبره قال وعلم إبراهيم أنه قد أخطأ وجنى فركب إلى الفضل بن يحيى فاستجار به فاستوهبه الفضل من جعفر فوهبه له فانصرف وهو يقول

صوت
( إن لم يكن حب ذات الخال عَنَّاني ... إذاً فَحُوِّلتُ في مَسْك ابن زَيْدان )
( فإن هذي يمين ما حلَفْت بها ... إلا على الصدق في سري وإعلاني )
قال وله في هذين البيتين صنعة وهي - هزج -
منها
صوت
( مَنْ يرحمُ محزونَا ... بذات الخالِ مَفْتونَا )
( أبى فيها فما يسلو ... وكل الناس يَسْلُونا )
( فقد أودى به السُّقْمُ ... وقد أصبح مَجنونا )
( فإن دام على هذا ... ثَوَى في اللحد مدفونا )
الشعر والغناء لإبراهيم - خفيف ثقيل - عن الهشامي
ومنها
صوت
( لذات الخال أرَّقني ... خيالٌ بات يَلْثمنِي )
( بكى وجرى له دمع ... لما بالقلب من حَزَن )
( فلا أنساه أو أنسَى ... إذا أُدْرِجْت في كَفَني )
الشعر والغناء لإبراهيم - خفيف رمل - بالوسطى عن الهشامي
ومنها

صوت
( هل علمتَ اليومَ يا عاصمُ ... يا خيرَ خَدينِ )
( أنّ ذات الخال تأتيِنِي ... على رَغمِ قَرينِ )
( لا تلُمْني إنّ ذات الخالِ ... دنيايَ وديني )
( وإلى حفص خليلي ... ووَزيري وأميني )
( بُحْت لا أكتُمه شيئاً ... من الداء الدفين )
( إنّ بي من حب ذات الخال ... شيئاً كالجنون )
فيه لإبراهيم - هزج - بالوسطى عن ابن المكي
ومنها
صوت
( تقول ذات الخالِ ... لي يا خَلِيّ البالِ )
( فقلتُ حاشاكِ من أنْ ... يكونَ حالُك حالِي )
( أعرَضْتِ عَنِّيَ لمّا ... أوقعتنِي في الحبال )
( إن الخليّ هو الغافِلُ ... الذي لا يُبالي )
لإبراهيم من كتابه عن حبش فيه لحن وذكر ابن المكي أنه - رمل -
ومنها
صوت
( أما تعلمُ ذات الخالِ ... فوقَ الشفة العليا )
( بأني لست أهوى غير ... هاشيئاً من الدنيا )
( وأني عن جميع الناس ... إلا عنهُم أعمى )
( وأني لو سُقِيت الدَّه ... من ريقك لا أَرْوَى )
الشعر والغناء لإبراهيم رمل بالوسطى عن عمرو وابن المكي وغيرهما

وقد روي أما تعلم يا ذا الخال وهذا هو الصحيح
ومنها

صوت
( يا ليت شِعريَ كيفَ ذاتُ الخالِ ... أمْ أينَ تَحسِبُ حالَها من حالِي )
( هل أَنْسَيَنْ منها وضَمَّتْ مرةً ... رأسي إليها ثم قالت مالي )
( ألِزَلَّة أقصيتَني نفسي الفدا ... لك أم أطعت مَقالَة العذال )
( والله ما استحسنتُ شيئاً مُونِقا ... ألتذُّه إلاّ خَطَرْت ببالي )
الشعر والغناء لإبراهيم وله فيه لحنان هزج بالأصابع كلها عن ابن المكي - وثقيل - أول بالوسطى عن حبش
ومنها
صوت
( يا ليتَ شِعريَ والنساءُ غوادِرٌ ... خُلْفُ العِداتِ وفَاؤُهن قليلُ )
( هل وصلُ ذاتِ الخال يوماً عائدٌ ... فتزولَ لَوْعاتي وحَرُّ غليلِي )
( أم قد تناستْ عهدَنا وأحالَها ... عن ذاك مَلْك حال دون خليلِ )
الشعر والغناء لإبراهيم من كتابه - ثقيل - أول بالبنصر عن إسحاق بن إبراهيم وابن المكي والهشامي
انقضت أخبارها
صوت
( إن من غَرَّهُ النساءُ بشيء ... بعد هندٍ لجَاهلٌ مغرورُ )

( حُلْوة القول واللسان ومُرٌّ ... كل شيء أَجَنَّ منها الضميرُ )
( كل أنثى وإن بدا لك منها ... آيةُ الحبّ حبُّها خَيْتَعُور )
الشعر لحجر بن عمرو آكل المرار والغناء لحنين ثاني - ثقيل - بالبنصر عن الهشامي وفيه لنبيه - ثقيل - أول بالوسطى عن حبش وفيه - رمل - له

نسب حجر بن عمرو والسبب الذي من أجله قال هذا الشعر
هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع واسمه عمرو بن ثور وقيل ابن معاوية بن ثور وهو كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
حجر وزياد بن الهبولة
أخبرني بخبره محمد بن الحسن بن دريد إجازة قال حدثني عمي عن ابن الكلبي عن أبيه عن الشرقي بن القطامي قال
أقبل تبع أيام سار إلى العراق فنزل بأرض معد فاستعمل عليهم حجر بن عمرو وهو آكل المرار فلم يزل ملكا حتى خرف وله من الولد عمرو ومعاوية وهو الجون ثم إن زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة بن سعد بن سليح القضاعي أغار عليه وهو ملك في ربيعة بن نزار ومنزله بغمر ذي كندة وكان قد غزا بربيعة البحرين فبلغ زيادا غزاته فأقبل حتى أغار في مملكة حجر فأخذ مالا كثيرا وسبى امرأة حجر وهي هند ابنة ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية وأخذ نسوة من نساء بكر بن وائل
فلما بلغ حجرا وبكر بن وائل مغاره وما أخذ أقبلوا معه ومعه يومئذ أشراف بكر بن وائل منهم عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان وصليع بن عبد

غنم بن ذهل بن شيبان وسدوس بن شيبان بن ذهل وضبيعة بن قيس بن ثعلبة وعامر بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة فتعجل عمرو بن معاوية وعوف بن محلم قالا لحجر إنا متعجلان إلى الرجل لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا فلقياه دون عين أباغ فكلمه عوف بن محلم وقال يا خير الفتيان اردد علي ما أخذته مني فأعطاه إياه وكلمه عمرو بن معاوية في فحل إبله فقال خذه فأخذه عمرو وكان قويا فجعل الفحل ينزع إلى الإبل فاعتقله عمرو فصرعه فقال له ابن الهبولة أما والله يا بني شيبان لو كنتم تعتقلون الرجال كما تعتقلون الإبل لكنتم أنتم أنتم فقال عمرو أما والله لقد وهبت قليلا وشتمت جليلا ولقد جررت على نفسك شرا ولتجدني عند ما ساءك ثم ركض حتى صار إلى حجر فأخبره الخبر
فأقبل حجر في أصحابه حتى إذا كان بمكان يقال له الحفير بالبر وهو دون عين أباغ بعث سدوسا وصليعا يتجسسان له الخبر ويعلمان له علم العسكر فخرجا حتى هجما على عسكره وقد أوقد نارا ونادى مناد له من جاء بحزمة من حطب فله فدرة من تمر وكان ابن الهبولة قد أصاب في عسكر حجر تمرا كثيرا فضرب قبابه وأجج ناره ونثر التمر بين يديه فمن جاء بحطب أعطاه تمرا فاحتطب سدوس وصليع ثم أتيا به ابن الهبولة فطرحاه بين يديه فناولهما من التمر وجلسا قريبا من القبة فأما صليع فقال هذه آية وعلم ما يريد فانصرف إلى حجر فأعلمه بعسكره وأراه التمر وأما سدوس فقال لا أبرح حتى آتيه بأمر جلي فلما ذهب هزيع من الليل أقبل ناس من أصحابه يحرسونه وقد تفرق أهل العسكر في كل ناحية فضرب سدوس

بيده إلى جليس له فقال له من أنت مخافة أن يستنكر فقال أنا فلان ابن فلان قال نعم ودنا سدوس من القبة فكان حيث يسمع الكلام فدنا ابن الهبولة من هند امرأة حجر فقبلها وداعبها ثم قال لها فيما يقول ما ظنك الآن بحجر لو علم بمكاني منك قالت ظني به والله أنه لن يدع طلبك حتى يطالع القصور الحمر وكأني أنظر إليه في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه وهو شديد الكلب سريع الطلب يزبد شدقاه كأنه بعير آكل مرار فسمي حجر آكل المرار يومئذ قال فرفع يده فلطمها ثم قال ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له فقالت والله ما أبغضت ذا نسمة قط بغضي له ولا رأيت رجلا قط أحزم منه نائما ومستيقظا إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه حي لا ينام وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسا مملوءا لبنا فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريبة منه أنظر إليه إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه فمال إلى يديه وإحداهما مقبوضة والأخرى مبسوطة فأهوى إليها فقبضها فمال إلى رجليه وقد قبض واحدة وبسط الأخرى فأهوى إليها فقبضها فمال إلى العس شربه ثم مجه فقلت يستيقظ فيشرب فيموت فأستريح منه فانتبه من نومه فقال علي بالإناء فناولته فشمه فاضطربت يداه حتى سقط الإناء فأهريق وذلك كله بأذن سدوس فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته حتى صبح حجرا فقال
( أتاك المرجفون برجم غيبٍ ... على دَهَش وجئتك باليقينِ )

( فمن يَكُ قد أتاك بأمر لبْس ... فقد آتِي بأمر مُستبين )
ثم قص عليه جميع ما سمع
فأسف ونادى في الناس الرحيل فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهبولة فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب ابن الهبولة وعرفه سدوس فحمل عليه فاعتنقه وصرعه فقتله وبصر به عمرو بن معاوية فشد عليه فأخذ رأسه منه وأخذ سدوس سلبه وأخذ حجر هندا فربطها بين فرسين ثم ركضا بها حتى قطعاها قطعا
هذه رواية ابن الكلبي
وأما أبو عبيدة فإنه ذكر أن ابن الهبولة لما غنم عسكر حجر غنم مع ذلك زوجته هند بنت ظالم وأم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني وهي أم الحارث بن حجر وهند بنت حجر ولابنها الحارث ابن يقال له عمرو وله يقول بشر بن أبي خازم
( فإلى ابن أم أناسَ أُعْمِل ناقتي ... عمروٍ فتنجَحُ حاجتي أم تُرْجَفُ )
( مَلِك إذا نزل الوفودُ ببابه ... غَرَفوا غواربَ مُزبد ما يُنزَف )
قال وبنتها هند هي التي تزوجها المنذر بن ماء السماء اللخمي قال وكان ابن الهبولة بعد أن غنم يسوق ما معه من السبايا والنعم ويتصيد في

المسير ولا يمر بواد إلا أقام به يوما أو يومين حتى أتى على ضرية فوجدها معشبة فأعجبته فأقام بها أياما وقالت له أم أناس إني لأرى ذات ودك وسوء درك كأني قد نظرت إلى رجل أسود أدلم كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبته فسمي حجر آكل المرار بذلك وذكر باقي القصة نحو ما مضى
وقال في خبر ابن الهبولة إن سدوسا أسره وإن عمرو بن معاوية لما رآه معه حسده فطعنه فقتله فغضب سدوس لذلك وقال قتلت أسيري وديته دية الملوك وتحاكما إلى حجر فحكم لسدوس على عمرو وقومه بدية ملك وأعانهم في ذلك بماله وقال سدوس في ذلك يعاتب بني شيبان
( ما بعدكُم عيشٌ ولا مَعْكُمُ ... عيشٌ لذي أَنَف ولا حَسَب )
( لولا بنو ذهل وجَمْعُ بني ... قيس وما جَمَّعْت من نَشَبِ )
( ما سُمْتُمونِي خُطَّة غَبَناً ... وعلى ضَرِيَّةَ رمتُم غَلَبِي )
قال وقد روي أن حجرا ليس بآكل المرار وإنما أبوه الحارث آكل المرار وروي أيضا أنه إنما سمي آكل المرار لأن سدوسا لما أتاه بخبر ابن الهبولة ومداعبته لهند وأن رأسه كان في حجرها وحدثه بقولها وقوله فجعل يسمع ذلك وهو يعبث بالمرار وهو نبت شديد المرارة وكان جالسا في موضع فيه منه شيء كثير فجعل يأكل من ذلك المرار غضبا وهو يسمع من سدوس ولا يعلم أنه يأكله من شدة الغضب حتى انتهى سدوس إلى آخر الحديث فعلم حينئذ بذلك ووجد طعمه فسمي يومئذ آكل المرار
قال ابن الكلبي وقال حجر في هند
( لمن النارُ أُوقدَتْ بحَفيرِ ... لم تَنمْ عند مُصْطِلٍ مَقْرورِ )

( أوقدتْها إحدى الهنود وقالت ... أنت ذا مُوثَقٌ وثاق الأسيرِ )
( انّ من غَرّه النساء بشيء ... بعدَ هند لجاهلٌ مغرورُ )
وبعده باقي الأبيات المذكورة متقدما وفيها الغناء

صوت
( طَرِبَ الفؤادُ وعاودتْ أحزانُه ... وتفرّقت فِرقاً به أشجانُهُ )
( وبدا له من بعد ما اندمل الهَوى ... برقٌ تألقَ مَوْهنا لَمَعانُه )
( يبدو كحاشية الرداءِ ودونه ... صعبُ الذَّرَى متمنِّع أركانه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضُلوعه ... والماء ما جادت به أجفانه )
الشعر لمحمد بن صالح العلوي والغناء لرذاذ ويقال إنه لبنان خفيف ثقيل وفيه ثقيل أول يقال إنه لأبي العنبس ويقال إنه للقاسم بن زرزور وفيه لعمرو الميداني - رمل - طنبوري وهو لحن مشهور

أخبار محمد بن صالح العلوي ونسبه
هو محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ويكنى أبا عبد الله شاعر حجازي ظريف صالح الشعر من شعراء أهل بيته المتقدمين وكان جده موسى بن عبد الله أخا محمد وإبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن الحجازيين الخارجين في أيام المنصور أمهم جميعا هند بنت أبي عبيدة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار وأخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثني الزبير بن بكار
أن هندا حملت بموسى بن عبد الله ولها ستون سنة قال ولا تحمل لستين إلا قرشية ولا تحمل لخمسين إلا عربية قال وكان موسى آدم شديد الأدمة وله تقول أمه هند
( إنك أنْ تكونَ جَوْنا أنزعا ... أجدرُ أن تضرَّهُمْ وتنفعا )
( وتسلكَ العيش طريقاً مَهْيعا ... فرْداً من الأصحاب أو مُشَيَّعا )
وكان موسى استتر بعد قتل أخويه زمانا ثم ظفر به أبو جعفر فضربه

بالسوط وحبسه مدة ثم عفا عنه وأطلقه
وله أخبار كثيرة ليس هذا موضعها

خروج محمد بن صالح على المتوكل
وكان محمد بن صالح خرج على المتوكل مع من بيض في تلك السنة فظفر به وبجماعة من أهل بيته أبو الساج فأخذهم وقيدهم وقتل بعضهم وأخرب سويقة وهي منزل للحسنيين ومن جملة صدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وقعر بها نخلا كثيرا وحرق منازل لهم بها وأثر فيهم آثارا قبيحة وحمل محمد بن صالح فيمن حمل منهم إلى سر من رأى فحبس ثلاث سنين ثم مدح المتوكل فأنشده الفتح قصيدته بعد أن غني في شعره المذكور فطرب وسأل عن قائله فعرفه وتلا ذلك إنشاد الفتح قصيدته فأمر بإطلاقه
وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال
أنكر موسى بن عبد الله بن موسى على ابن أخيه محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بعض ما ينكره العمومة على بني أخيهم في شيء من أمور السلطان وكان محمد بن صالح قد خرج بسويقة فصار أبو الساج إلى سويقة فأسلمه عمه موسى وبنوه بعد أن أعطاه أبو الساج الأمان فطرح سلاحه ونزل إليه فقيده وحمله إلى سر من رأى فلم يزل محبوسا بها ثلاث سنين ثم أطلق وأقام بها إلى أن مات وكان سبب موته أنه جدر فمات في الجدري وهو الذي يقول في الحبس
( طرِبَ الفؤادُ وعاودتْ أحزانُه ... وتشعبتْ شُعَباً به أشجانُهُ )

( وبدا له من بعد ما اندملَ الهوى ... بَرْق تألَّق مَوْهِناً لَمَعانه )
( يبدو كحاشية الرِّداء ودونَهُ ... صعْب الذُّرَا متمنعٌ أركانه )
( فدنا لينظر كيف لاح فلم يُطِق ... نظرا إليه ورده سَجّانُه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضُلوعه ... والماءُ ما سَحَّت به أجفانه )
( ثم استعاذ من القبيح وردَّهُ ... نحوَ العزاء عن الصِّبا إيقانه )
( وبدا له أن الذي قد ناله ... ما كان قدَّره له دَيّانه )
( حتى اطمأن ضميرُه وكأنما ... هتكَ العلائقَ عاملٌ وسنانه )
( يا قلبُ لا يذهبَ بحلمك باخلٌ ... بالنَّيْل باذِلُ تافهٍ مَنّانه )
( يعِدُ القضاءَ وليس ينجز مَوعداً ... ويكونُ قبل قضائه لَيّانه )
( خَدَلُ الشَّوَى حَسن القَوام مُخَصَّر ... عذبٌ لَمَاه طيِّب أردانه )
( واقنع بما قسم الإله فأمرُهُ ... ما لا يزال على الفتى إتيانه )
( والبؤس ماض ما يدوم كما مضى ... عصرُ النعيم وزال عنك أوانه )
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
كنت مع أبي عبد الله محمد بن صالح في منزل بعض إخواننا فأقمنا إلى أن انتصف الليل وأنا أرى أنه يبيت فإذا هو قد قام فتقلد سيفه وخرج فأشفقت عليه من خروجه في ذلك الوقت وسألته المقام والمبيت وأعلمته خوفي عليه فالتفت إلي متبسما وقال

( إذا ما اشتملتُ السيفَ والليلَ لم أُهَلْ ... لِشيءٍ ولم تَقْرَع فؤادي القوارعُ )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
مر محمد بن صالح بقبر لبعض ولد المتوكل فرأى الجواري يلطمن عنده فأنشدني لنفسه
( رأيت بسامَرّا صَبيحةَ جمعة ... عيونا يروق الناظرين فُتورُها )
( تزور العِظام الباليات لدى الثَّرَى ... تَجاوزَ عن تلك العظام غَفورُها )
( فلولا قضاءُ الله أن تَعْمُرَ الثرى ... الى أن يُنادَى يوم يُنْفَخُ صُورُها )
( لقلتُ عساها أن تَعِيش وأنها ... ستُنْشَرُ من جَرّا عيونٍ تزورها )
( أسيلاتِ مجرى الدمع إمّا تهلّلتْ ... شُؤون المآقِي ثم سَحّ مَطِيرها )
( بوبْلٍ كأتْوام الجمان يُفيضُه ... على نحرها أنفاسُها وزفيرها )
( فيا رحمةَ ما قد رحمتِ بَواكيا ... ثقالا تواليها لِطافا خُصورها )

أخبار زوجته حمدونة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال
جاءني محمد بن صالح الحسني فسألني أن أخطب عليه بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري أو أخته حمدونة ففعلت ذلك وصرت إلى عيسى فسألته أن يجيبه فأبى وقال لي لا أكذبك والله ما أرده لأني لا أعرف أشرف وأشهر منه لمن يصاهره ولكني أخاف المتوكل وولده بعده على نعمتي ونفسي فرجعت إليه فأخبرته بذلك فأضرب عن ذلك مدة ثم عاودني بعد

ذلك وسألني معاودته فعاودته ورفقت به حتى أجاب فزوجه أخته فأنشدني بعد ذلك محمد
( خطبتُ إلى عيسى بن موسى فردَّني ... فلِلَّهِ والي حُرَّة وعَليقُها )
( لقد ردني عيسى ويعلم أنني ... سليلُ بنات المصطفى وعريقها )
( وإن لنا بعد الولادة نبعةً ... نبيُّ الإِله صِنوُها وشقيقُها )
( فلما أبى بُخْلاً بها وتمنُّعا ... وصَّيرني ذا خُلَّة لا يُطيقها )
( تداركني المرءُ الذي لم يزل له ... من المكرُمات رحبُها وطليقُها )
( سَمِيُّ خليلِ اللهِ وابنُ وليه ... وحَمّالُ أعباء العُلا وطريقُها )
( وزوَّجها والمنُّ عندي لغيره ... فيا بيعةً وقَّتْنِي الربح سوقُها )
( ويا نعمةً لابن المدبِّر عندنا ... يجدّ على كر الزمان أنيقها )
قال ابن مهرويه قال لي إبراهيم بن المدبر
فلما نقلت حمدونة إليه شغف بها وكانت امرأة جميلة عاقلة فأنشدني لنفسه فيها
( لعمرُ حمدونةَ إنّي بها ... لمغرمُ القلبِ طويلُ السَّقامْ )
( مجاوز للقدر في حُبِّها ... مباينٌ فيها لأهل الملامْ )
( مُطَّرِحٌ للعذل ماضٍ على ... مخافة النفس وهولِ المَقام )
( مُشايعي قلب يخاف الخَنا ... وصارمٌ يقطع صُمّ العظام )
( جَشَّمني ذلك وَجْدي بها ... وفضلُها بين النساء الوسام )
( ممكورة الساقِ رُدَيْنيَّةٌ ... مع الشَّوَى الخَدْلِ وحسن القَوام )
( صامتة الحِجْل خَفوق الحَشَا ... مائرة الساق ثَقالُ القِيام )

( ساجية الطَّرْف نؤوم الضُّحَى ... منيرة الوجه كَبَرْقِ الغَمام )
( زينها اللهُ وما شانَها ... وأُعطيت مُنيتَها من تَمام )
( تلك التي لولا غرامي بها ... كنتُ بسامرَّا قليلَ المُقام )
هكذا روى ابن مهرويه عن ابن المدبر في خبر محمد بن صالح وتزويجه حمدونة
وحدثني عمي عن أبي جعفر بن الدهقانة النديم قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال
جاءني يوما محمد بن صالح الحسني العلوي بعد أن أطلق من الحبس فقال لي إني أريد المقام عندك اليوم على خلوة لأبثك من أمري شيئا لا يصلح أن يسمعه غيرنا فقلت أفعل فصرفت من كان بحضرتي وخلوت معه وأمرت برد دابته وأخذ ثيابه فلما اطمأن وأكلنا واضطجعنا قال لي أعلمك أني خرجت في سنة كذا وكذا ومعي أصحابي على القافلة الفلانية فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم وملكنا القافلة فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال إذ طلعت علي امرأة من العمارية ما رأيت قط أحسن منها وجها ولا أحلى منطقا فقالت يا فتى إن رأيت أن تدعو لي بالشريف المتولي أمر هذا الجيش فقلت وقد رأيته وسمع كلامك فقالت سألتك بحق الله وحق رسوله أنت هو فقلت نعم وحق الله وحق رسوله إني لهو فقالت أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري ولأبي محل من سلطانه ولنا نعمة إن كنت ممن سمع بها فقد كفاك ما سمعت وإن كنت لم تسمع بها فسل عنها غيري ووالله لا استأثرت عنك بشيء أملكه ولك بذلك عهد الله وميثاقه علي وما أسألك إلا أن تصونني وتسترني وهذه ألف دينار معي لنفقتي فخذها حلالا وهذا حلي علي من خمس مئة دينار فخذه وضمني ما شئت بعده

خذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه وادفع عني واحمني من أصحابك ومن عار يلحقني فوقع قولها من قلبي موقعا عظيما فقلت لها قد وهب الله لك مالك وجاهك وحالك ووهب لك القافلة بجميع ما فيها ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا فناديت فيهم إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها وخفرتها وحميتها ولها ذمة الله وذمة رسوله وذمتي فمن أخذ منها خيطا أو عقالا فقد آذنته بحرب فانصرفوا معي وانصرفت
فلما أخذت وحبست بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان وقال لي إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك وقد أذنت لهما وهما في الدهليز فاخرج إليهما إن شئت ففكرت فيمن يجيئني في هذا البلد وأنا به غريب لا أعرف أحدا ثم قلت لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي فخرجت إليهما فإذا بصاحبتي فلما رأتني بكت لما رأت من تغير خلقي وثقل حديدي فأقبلت عليها الأخرى فقالت أهو هو فقالت إي والله إنه لهو هو ثم أقبلت علي فقالت فداك أبي وأمي والله لو استطعت أن أقيك مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت وكنت بذلك مني حقيقا ووالله لا تركت المعاونة لك والسعي في حاجتك وخلاصك بكل حيلة ومال وشفاعة وهذه دنانير وثياب وطيب فاستعن بها على موضعك ورسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك حتى يفرج الله عنك ثم أخرجت إلي كسوة وطيبا ومائتي دينار وكان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف وتواصل برها بالسجان فلا يمتنع من كل شيء أريده
فمن الله بخلاصي ثم راسلتها فخطبتها فقالت أما من جهتي فأنا لك متابعة مطيعة والأمر إلى أبي فأتيته فخطبتها إليه فردني وقال ما كنت لأحقق عليها ما قد شاع في الناس عنك في أمرها وقد صيرتها فضيحة فقمت

من عنده منكسا مستحيا وقلت له في ذلك
( رَمَوْني وإياها بشنعاءَ هُمْ بها ... أحقّ أدال الله منهمْ فعجَّلاَ )
( بأمر تركناه وربِّ محمد ... عِيانا فإما عِفَّة أو تجمُّلا )
فقلت له إن عيسى صنيعة أخي وهو لي مطيع وأنا أكفيك أمره
فلما كان من الغد لقيت عيسى في منزله وقلت له قد جئتك في حاجة لي فقال مقضية ولو كنت استعملت ما أحبه لأمرتني فجئتك وكان أسر إلي فقلت له قد جئتك خاطبا إليك ابنتك فقال هي لك أمة وأنا لك عبد وقد أجبتك فقلت إني خطبتها على من هو خير مني أبا وأما وأشرف لك صهرا ومتصلا محمد بن صالح العلوي فقال لي يا سيدي هذا رجل قد لحقتنا بسببه ظنه وقيلت فينا أقوال فقلت أفليست باطلة قال بلى والحمد لله قلت فكأنها لم تقل وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع ولم أزل أرفق به حتى أجاب وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته وما برحت حتى زوجته وسقت الصداق عنه

مدحه إبراهيم بن المدبر
قال أبو الفرج الأصبهاني
وقد مدح محمد بن صالح إبراهيم بن المدبر مدائح كثيرة لما أولاه من هذا الفعل ولصداقة كانت بينهما فمن جيد ما قاله فيه قوله
( أتخبِر عنهم الدِّمَنُ الدثور ... وقد يُنبِي إذا سُئِل الخبيرُ )
( وكيف تُبَيِّنُ الأنباءَ دارٌ ... تعاقَبَها الشمائلُ والدَّبُورُ )
يقول فيها في مدحه

( فهلاَّ في الذي أولاكَ عُرْفا ... تُسَدِّي من مقالك ما تُنِير )
( ثناءً غيرَ مختلَق ومَدْحا ... مع الركبان يُنْجد أو يَغُور )
( أخ واساك في كَلَب الليالي ... وقد خَذَلَ الأقارب والنصيرُ )
( حِفاظاً حين أسلمك الموالي ... وضَنّ بنفسه الرجلُ الصبور )
( فإن تشكر فقد أولى جميلا ... وإن تكفر فإنك لَلْكَفُور )
( وما في آل خاقانَ اعتصامٌ ... إذا ما عُمِّم الخَطْبُ الكبير )
( لئام الناس إثراء وفقرا ... وأعجزُهم إذا حمي القَتير )
( قُوَيْم لا يزوّجهم كريمٌ ... ولا تُسْنَى لنسوتهم مُهور )
وإنما ذكر آل خاقان ههنا لأن عبيد الله بن يحيى قصر به وتحامل عليه وكان يقول ما يكره ويؤكد ما يوجب حبسه وكان فيه وفي ولده نصب شديد
ولمحمد بن صالح في آل المدبر مدائح كثيرة لا معنى لذكرها في هذا الكتاب
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال حدثني عبد الله بن طالب الكاتب قال
كان محمد بن صالح العلوي حلو اللسان ظريفا أديبا فكان بسر من رأى مخالطا لسراة الناس ووجوه أهل البلد وكان لا يكاد يفارق سعيد بن

حميد وكانا يتقارضان الأشعار ويتكاتبان بها وفي سعيد يقول محمد بن صالح العلوي
( أصاحِبُ من صاحبتُ ثُمَّتَ أَنثَنِي ... إليك أبا عثمانَ عطشانَ صاديا )
( أبى القلبُ أن يُرْوى بهمْ وهو حائمٌ ... إليك وإن كانوا الفروعَ العواليا )
( ولكن إذا جئناكَ لم نبغ مشرَباً ... سِواك ورَوَّيْنا العظامَ الصَّواديا )
قال عبد الله بن طالب
وكان بعض بني هاشم دعاه فمضى إليه وكتب سعيد إليه يسأله المصير إليه فأخبر بموضعه عند الهاشمي فلما عاد عرف خبر سعيد وإرساله إليه فكتب إليه بهذه الأبيات
قال عبد الله وشرب يوما هو وسعيد بن حميد فسكر محمد بن صالح قبله فقام لينصرف والتفت إلى سعيد وقال له
( لعمرُك إنني لما افترقنا ... أخو ضِنّ بخُلصاني سعيدِ )
( تبقَّته المدامُ وأزعجتنِي ... إلى رحلي بتعجيل الورودِ )

سعيد بن حميد يرثي صديقه محمد بن صالح
قال وتوفي محمد بن صالح بسر من رأى وكان يجهد في أن يؤذن له في الرجوع إلى الحجاز فلا يجاب إلى ذلك فقال سعيد يرثيه
( بأيّ يد أسطو على الدهرِ بعدما ... أبان يدي عضْبُ الذُّبابين قاضبُ )
( وهاضَ جَناحي حادثٌ جَلَّ خطبُه ... وسُدَّت عن الصبر الجميل المذاهب )

( ومن عادة الأيام أنَّ صروفها ... إذا سَرَّ منها جانبٌ ساءَ جانب )
( لعمري لقد غال التجلدَ أننا ... فقدناك فقد الغيثِ والعامُ جادب )
( فما أعرفُ الأيامَ إلا ذميمةً ... ولا الدهرَ إلا وهو بالثأرِ طالب )
( ولا لي من الإخوان إلا مكاشِرٌ ... فوجه له راضٍ ووجه مُغاضِب )
( فقدتُ فتىً قد كان للأرض زِينة ... كما زَيَّنَتْ وجهَ السماء الكواكب )
( لعمري لئن كان الردَى بك فاتني ... وكلُّ امرىء يوما إلى الله ذاهب )
( لقد أخذتْ مني النوائبُ حكمَها ... فما تركتْ حَقا عليَّ النوائب )
( ولا تركتني أرهبُ الدهرَ بعدَه ... لقد كلَّ عني نابُه والمخالب )
( سقى جَدَثاً أمسى الكريمُ ابنُ صالح ... يَحُلّ به دان من المزن ساكب )
( إذا بشَّرَ الرُّواد بالغيث برقه ... مَرَتْه الصَّبا واستحْلبته الجنائب )
( فغادر باقي الدهر تأثيرُ صَوْبه ... رَبيعا زَهَت منه الرُّبا والمَذائب )
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني المبرد قال
لم يزل محمد بن صالح محبوسا حتى توصل بنان له بأن غنى بين يدي المتوكل في شعره
( وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق مَوْهِنا لمعانُهُ )
فاستحسن المتوكل الشعر واللحن وسأل عن قائله فأخبر به وكلم في أمره وأحسنت الجماعة رفده وقام الفتح بأمره قياما تاما فأمر بإطلاقه من حبسه على أن يكون عند الفتح وفي يده حتى يقيم كفيلا بنفسه ألا يبرح من سر من رأى فأطلق وأخذ عليه الفتح الأيمان الموثقة ألا يبرح من سر من رأى إلا بإذنه ثم أطلقه

مدحه المتوكل والمنتصر وهجاؤه أبا الساج
ولمحمد بن صالح في المتوكل والمنتصر مدائح جياد كثيرة منها قوله في المتوكل
( ألِفَ التُّقَى ووفَى بنذر الناذِرِ ... وأبى الوقوفَ على المحل الداثرِ )
( ولقدْ تَهِيج له الديارُ صبابةً ... حينا وتَكْلَف بالخليط السائر )
( فرأى الهدايةَ أن أناب وأنهُ ... قصرَ المديحَ على الإِمام العاشر )
( يابن الخلائف والذين بهَديهمْ ... ظهرَ الوفاء وبانَ غدرُ الغادرِ )
( وابن الذين حَوَوْا تُراث محمدٍ ... دون الأقارب بالنصيب الوافرِ )
( نَطَق الكتابُ لكم بذاكَ مُصدِّقا ... ومضتْ به سُنَنُ النبيّ الطاهرِ )
( ووصلتَ أسبابَ الخلافة بالهُدَى ... إذ نِلْتها وأنمتَ عين الساهرِ )
( أحييتَ سنة من مضى فتجدّدتْ ... وأبنتَ بدعة ذي الضلالِ الخاسرِ )
( فافخرْ بنفسك أو بجَدِّك مُعْلِنا ... أو دعْ فقد جاوزتَ فخرَ الفاخرِ )
( ما للمكارم غيرُكُم من أولٍ ... بعدَ النبيّ وما لَها من آخرِ )
( إني دعوتُك فاستجبتَ لدعوتِي ... والموتُ مني قِيدُ شِبْر الشابرِ )
( فانتشتَني من قَعْر مَوْرِدة الردَى ... أمْنا ولم تسمع مقالة زاجرِ )
( وفككتَ أسري والبلاءُ مُوَكَّل ... وجبرتَ كَسْرا ما له من جابرِ )
( وعطفتَ بالرَّحمِ التي ترجُو بها ... قربَ المَحَلِّ من المليك القادرِ )
( وأنا أعوذ بفضل عفوِك أن أُرَى ... غَرَضَاً ببابك للمُلِم الفاقِرِ )
( أو أن أُضَيَّع بعدما أنقذتَني ... من رَيب مُهْلِكة وجَدٍّ عاثرِ )
( ولقد مننتَ فكنتَ غيرَ مكَدِّر ... ولقد نهضتُ بها نهوضَ الشاكرِ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن خلف بن وكيع قالا حدثنا الفضل بن سعيد بن أبي حرب قال حدثني أبو عبد الله الجهني قال

دخلت على محمد بن صالح الحسني في حبس المتوكل فأنشدني لنفسه يهجو أبا الساج
( ألم يحزِنْك يا ذلفاءُ أَنِّي ... سكنتُ مساكن الأموات حَيَّا )
( وأنَّ حمائلي ونجادَ سيفي ... علونَ مُجَدَّعا أَشْرُوسَنِيّا )
( فقصَّرَهنّ لما طُلْنَ حتى أستوين ... عليه لا أمْسَى سَويا )
( أما والراقصاتِ بذات عرق ... تريدُ البيت تحسبها قِسيا )
( لو أمكنني غداتَئذٍ جِلاد ... لألفوني به سَمْحاً سَخيا )
قال ابن عمار وأنشدني عبيد الله بن طاهر أبو محمد لمحمد بن صالح أيضا
( نظرتُ ودوني ماءُ دجلة مَوْهِناً ... بمطروفة الإنسان محسورة جدا )
( لتُؤْنِس لي ناراً بليلٍ توقَّدتْ ... وتالله ما كلفتها نظرا قَصْدا )
( فلو أنها منها لقلتُ كأنني ... أرى النارَ قد أمست تضيء لنا هِنْدا )
( تضيء لنا منها جَبيناً ومَحْجِراً ... ومبتسَماً عَذْباً وذا غُدَر جَعْدا )
انقضت أخباره

صوت
( يا عدِيّا لقلبكَ المهتاجِ ... أن عفا رسمُ منزلٍ بالنِّباجِ )

( غيرته الصَّبَا وكُلُّ مُلِثٍّ ... دائم الودق ذي أهاضيبَ داج )
( وحملنا غلامَنا ثم قُلنا ... هاجرُ العِيس ليس منك بناج )
( فانتحى مثل ما انتحى بازُ دَجْنِ ... جَوَّعته القُنّاص للدُّرّاج )
الشعر لأبي دواد الإيادي والغناء لحنين ثاني - ثقيل - بالبنصر في مجراها عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لابن عائشة وفيه لعريب - هزج - وفيه - ثقيل - أول ينسب إلى يزيد الحذاء وإلى أحمد النصيبي

ذكر أخبار أبي دواد الإيادي ونسبه
هو فيما ذكر يعقوب بن السكيت جارية بن الحجاج وكان الحجاج يلقب حمران بن بحر بن عصام بن منبه بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار بن معد وقال ابن حبيب هو جارية بن الحجاج أحد بني برد بن دعمي بن إياد بن نزار شاعر قديم من شعراء الجاهلية وكان وصافا للخيل وأكثر أشعاره في وصفها وله في غير وصفها تصرف بين مدح وفخر وغير ذلك إلا أن شعره في وصف الفرس أكثر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الهيثم بن عدي وابن الكلبي عن أبيه والشرقي
أن أبا دواد الإيادي مدح الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة ثم مات ابن لأبي دواد وهو في جواره فوداه فمدحه أبو دواد فحلف له الحارث أنه لا يموت له ولد إلا وداه ولا يذهب له مال إلا أخلفه فضربت العرب المثل بجار أبي دواد وفيه يقول قيس بن زهير
( أُطوّف ما أُطوّفُ ثم آوِي ... إلى جار كجار أبي دُوادِ )
هذه رواية هؤلاء وأبو عبيدة يخالف ذلك
أخبرني ابن دريد قال أخبرني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال جاور أبو دواد الإيادي كعب بن مامة الإيادي فكان إذا هلك له بعير أو شاة أخلفها

وفيه يقول طرفة يمدح عمرو بن هند
( جارٌ كجار الحُذاقيّ الذي انتصفا ... )
وكان لأبي دواد ابن يقال له دواد شاعر وهو الذي يقول يرثي أباه
( فبات فينا وأمسى تحتَ هائرة ... ما بعد يومك من مُمْسًى وإصباحِ )
( لا يدفع السُّقْمَ إلا أنْ نُفَدِّيَهُ ... ولو ملكنا مسكنا السُّقْم بالراحِ )
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال أخبرنا أبو المنذر عن أبيه قال
تزوج أبو دواد امرأة من قومه فولدت له دوادا ثم ماتت ثم تزوج أخرى فأولعت بدواد وأمرت أباه أن يجفوه ويبعده وكان يحبها فلما أكثرت عليه قالت أخرجه عني فخرج به وقد أردفه خلفه إلى أن انتهى إلى أرض جرداء ليس فيها شيء فألقى سوطه متعمدا وقال أي دواد انزل فناولني سوطي فنزل فدفع بعيره وناداه
( أدوادُ إن الأمر أصبح ما ترى ... فانظر دوادُ لأي أرض تُعْمِدُ )
فقال له دواد على رسلك فوقف له فناداه
( وبأي ظنك أن أقيمَ ببلدةٍ ... جرداءَ ليس بغيرها مُتَلدَّدُ )
فرجع إليه وقال له أنت والله ابني حقا ثم رده إلى منزله وطلق امرأته

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عمرو الشيباني قال
كانت لأبي دواد امرأة يقال لها أم حبتر وفيها يقول
( في ثلاثين ذعْذَعتها حقوقٌ ... أصبحت أم حَبتر تشكوني )
( زعمت لي بأنني أُفسد المالَ ... وأَزويه عن قضاء ديوني )
( أَمَّلت أَن أكون عبداً لمالي ... وتَهَنَّا بنافع المال دوني )
وهي طويلة قال ولها يقول وقد عاتبته على سماحته بماله فلم يعتبها فصرمته
( حاولتُ حين صَرَمْتِنِي ... والمرءُ يعجز لا مَحالهْ )
( والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغُ من ثُعالهْ )
( والمرء يكسِب مالَهُ ... والشُّحّ يُورِثُهُ الكَلالَه )
( والعبدُ يُقْرع بالعصا ... والحرُّ تكفيه المقاله )
( والسَّكْت خير للفتى ... فالحَينُ من بعض المقاله )

أبو دواد شاعر الخيل
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي عن إسحاق عن الأصمعي قال
ثلاثة كانوا يصفون الخيل لا يقاربهم أحد طفيل وأبو دواد

والجعدي فأما أبو دواد فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر وأما طفيل فإنه كان يركبها وهو أغرل إلى أن كبر وأما الجعدي فإنه سمع ذكرها من أشعار الشعراء فأخذ عنهم
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
أبو دواد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن ابن الأعرابي قال
لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد ولا وصف الخمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر ولا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن

عبدة ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني
أخبرني عمي قال حدثني جعفر بن محمد العاصمي قال حدثنا عيينة بن المنهال قال حدثنا شداد بن عبيد الله قال حدثني عبيد الله بن الحر العنزي القاضي عن أبي عرادة قال
كان علي صلوات الله عليه يفطر الناس في شهر رمضان فإذا فرغ من العشاء تكلم فأقل وأوجز فأبلغ فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس فقال علي عليه السلام لأبي الأسود الدؤلي قل يا أبا الأسود فقال أبو الأسود وكان يتعصب لأبي دواد الإيادي أشعرهم الذي يقول
( ولقد أغتدِي يدافعُ رُكني ... أَحْوَزِيٌّ ذو مَيْعة إضْريجُ )
( مِخْلط مِزْيَل مِكَرٌّ مِفَرّ ... مِنْفَح مِطْرَح سَبَوحٌ خَروج )
( سَلْهَبٌ شَرْجَبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلْته وفي السراة دُموج )
وكان لأبي الأسود رأي في أبي دواد فأقبل علي على الناس فقال كل شعرائكم محسن ولو جمعهم زمان واحد وغاية واحدة ومذهب واحد في

القول لعلمنا أيهم أسبق إلى ذلك وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه وإن يكن أحد فضلهم فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر فإنه كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة

أبو دواد يخالف مذاهب الشعراء
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق عن الأصمعي قال
كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء قال وكان أبو دواد على خيل المنذر بن ماء السماء فأكثر وصفه للخيل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني ابن أبي الهيذام قال
اسم أبي دواد الإيادي جويرية بن الحجاج وكانت له ناقة يقال لها الزباء فكانت بنو إياد يتبركون بها فلما أصابتهم السنة تفرقوا ثلاث فرق فرقة سلكت في البحر فهلكت وفرقة قصدت اليمن فسلمت وفرقة قصدت أرض بكر بن وائل فنزلوا على الحارث بن همام

وكان السبب في ذلك أنهم أرسلوا الزباء وقالوا إنها ناقة ميمونة فخلوها فحيث توجهت فاتبعوها وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا نجعة فخرجت تخوض العرب حتى بركت بفناء الحارث بن همام وكان أكرم الناس جوارا وهو جار أبي دواد المضروب به المثل فقال أبو دواد يمدح الحارث ويذكر ناقته الزباء
( فإلَى ابن هَمّام بن مُرّة اصعدتْ ... ظُعُن الخليط بهم فقلّ زِيالُها )
( أنعمتَ نِعمةَ ماجد ذي مِنة ... نُصِبَت عليه من العُلا أظلالها )
( وجعلتنا دون الوليّ فأصبحت ... زباءُ منقطعاً إليك عَقالُها )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد قال
كانت إياد تفخر على العرب تقول منا أجود الناس كعب بن مامة ومنا أشعر الناس أبو دواد ومنا أنكح الناس ابن ألغز
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني القحذمي قال
كان ابن ألغز أيرا فكان إذا أنعظ احتكت الفصال بأيره قال وكان في إياد امرأة تستصغر أيور الرجال فجامعها ابن ألغز فقالت يا معشر إياد

أبالركب تجامعون النساء قال فضرب بيده على أليتها وقال ما هذا فقالت وهي لا تعقل ما تقول هذا القمر فضرب العرب بها المثل أريها استها وتريني القمر وأنشد وقد كان الحجاج منع من لحوم البقر خوفا من قلة العمارة في السواد فقيل فيه
( شكونا إليه خرابَ السوادِ ... فحرَّم فينا لُحومَ البقَرْ )
( فكنا كمن قال منْ قبلنا ... أُريها اسْتَها وتريني القَمَرْ )

رأي الحطيئة في أبي دواد
أخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي بنحوه
وأخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثني العمري عن لقيط قال أخبرني التوزي عن أبي عبيدة قال
كان الحطيئة عند سعيد بن العاص ليلة فتذاكروا الشعراء وفضلوا بعضهم على بعض وهو ساكت فقال له يا أبا مليكة ما تقول فقال ما ذكرتم والله أشعر الشعراء ولا أنشدتم أجود الشعر فقالوا فمن أشعر الناس فقال الذي يقول
( لا أعدُّ الإقتار عُدماً ولكن ... فقدُ من قد رُزِئته الإعْدام )
والشعر لأبي دواد الإيادي قالوا ثم من قال ثم عبيد بن الأبرص

قالوا ثم من قال كفاكم والله بي إذا أخذتني رغبة أو رهبة ثم عويت في إثر القوافي عواء الفصيل في إثر أمه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثنا عمي وأخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن هجاس بن مرير الإيادي عن أبيه وكان قد أدرك الجاهلية قال
بينا أبو دواد وزوجته وابنه وابنته على ربوة وإياد إذ ذاك بالسواد إذ خرج ثور من أجمة فقال أبو دواد
( وبَدَتْ له أُذُن توجَّسُ ... حُرَّةٌ وأحمُّ واردْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع زوائد )
( كمقاعد الرقباء للضُّرَباء ... أيديهمْ نواهد )
ثم قال أنفذي يا أم دواد فقالت
( وبَدَت له أُذُن تَوَجَّسُ ... حُرَّة وأحُمُّ مُولَقْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع مُعَلَّقْ )
( كمقاعد الرقباء ... للضُّرَباء أيديهمْ تأَلَّقْ )
ثم قال أنفذ يا دواد فقال
( وبَدَتْ له أُذُن توجَّسُ ... حُرَّة وأحُمُّ مُرْهَفْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع مُلفَّفْ )
( كمقاعد الرقباء للضُّرَباء ... أيديهمْ تلَقَّفْ )

ثم قال أنفذي يا دوادة قالت وما أقول مع من أخطأ قالوا ومن أين أخطأناه قالت جعلتم له قرنا واحدا وله قرنان قالوا فقولي قالت
( وبَدَتْ له أُذُن توجَّسُ ... حُرَّة وأحَمّتانْ )
( وقوائمٌ عُوج لها ... من خلفها زَمَع ثَمانْ )
( كمقاعد الرقباء للضُّرَباء ... أيديهمْ دّوانْ )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال
كان أبو دواد الإيادي الشاعر جارا للمنذر بن ماء السماء وإن أبا دواد نازع رجلا بالحيرة من بهراء يقال له رقبة بن عامر بن كعب بن عمرو فقال له رقبة صالحني وحالفني فقال أبو دواد فمن أين تعيش إياد إذا فوالله لولا ما تصيب من بهراء لهلكت وانصرفا على تلك الحال
ثم إن أبا دواد أخرج بنين له ثلاثة في تجارة إلى الشام فبلغ ذلك رقبة البهراني فبعث إلى قومه فأخبرهم بما قال له أبو دواد عند المنذر وأخبرهم أن القوم ولد أبي دواد فخرجوا إلى الشام فلقوهم فقتلوهم وبعثوا برؤوسهم إلى رقبة فلما أتته الرؤوس صنع طعاما كثيرا ثم أتى المنذر فقال له قد اصطنعت لك طعاما كثيرا فأنا أحب أن تتغدى عندي فأتاه المنذر وأبو دواد معه فبينا الجفان ترفع وتوضع إذا جاءته جفنة عليها بعض رؤوس بني أبي دواد فوثب وقال أبيت اللعن إني جارك وقد ترى ما صنع بي وكان رقبة أيضا جارا للمنذر فوقع المنذر منهما في سوءة وأمر برقبة فحبس وقال لأبي دواد أما يرضيك توجيهي بكتيبتي الشهباء والدوسر إليهم قال بلى قال قد فعلت فوجه إليهم بالكتيبتين

فلما بلغ ذلك رقبة قال لامرأته ويحك الحقي بقومك فأنذريهم فعمدت إلى بعض إبل زوجها فركبته ثم خرجت حتى أتت قومها فلما قربت منهم تعرت من ثيابها وصاحت وقالت أنا النذير العريان فأرسلتها مثلا فعرف القوم ما تريد فصعدوا إلى أعالي الشأم وأقبلت الكتيبتان فلم تصيبا منهم أحدا فقال المنذر لأبي دواد قد رأيت ما كان منهم وأنا أدي كل ابن لك بمئتي بعير فأمر له بست مئة بعير فرضي بذلك فقال فيه قيس بن زهير العبسي
( سأفعل ما بدا ليَ ثم آوِي ... الى جارٍ كجار أبي دُواد )

صوت
( ورَكْب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليلُ داج غياهبه )
( لأمْرٍ عليهم أن تتمَّ صدورُه ... وليس عليهم أن تتم عواقبُهْ )
الشعر لأبي تمام الطائي والغناء للقاسم بن زرزور ثاني - ثقيل - بالوسطى في مجرى البنصر وفيه لجعفر بن رفعة خفيف ثقيل
أخبرني إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه وحدثني المظفر بن كيغلغ عن القاسم أيضا

أن المكتفي بالله أخرج إليهم هذين البيتين بالرقة في رقعة وهو أمير وأمر أن يصنع فيهما لحن فصنع القاسم هذا اللحن وصنع جعفر خفيف الثقيل

أخبار أبي تمام ونسبه
أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من نفس طيىء صليبة مولده ومنشؤه منبج بقرية منها يقال لها جاسم شاعر مطبوع لطيف الفطنة دقيق المعاني غواص على ما يستصعب منها ويعسر متناوله على غيره وله مذهب في المطابق هو كالسابق إليه جميع الشعراء وإن كانوا قد فتحوه قبله وقالوا القليل منه فإن له فضل الإكثار فيه والسلوك في جميع طرقه والسليم من شعره النادر شيء لا يتعلق به أحد وله أشياء متوسطة ورديئة رذلة جدا
وفي عصرنا هذا من يتعصب له فيفرط حتى يفضله على كل سالف وخالف وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك ليقول الجاهل بهم إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل وعلم ثاقب وهذا مما يتكسب به كثير من أهل هذا الدهر ويجعلونه وما جرى مجراه من ثلب الناس وطلب معايبهم سببا للترفع وطلبا للرياسة وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسانه ولو كثرت إساءته أيضا ثم أحسن لم يقل له عند الإحسان أسأت ولا عند الصواب أخطأت والتوسط في كل شيء أجمل والحق أحق أن يتبع
وقد روي عن بعض الشعراء أن أبا تمام أنشده قصيدة له أحسن في

جميعها إلا في بيت واحد فقال له يا أبا تمام لو ألقيت هذا البيت ما كان في قصيدتك عيب فقال له أنا والله أعلم منه مثل ما تعلم ولكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط وكلهم حلو في نفسه فهو وإن أحب الفاضل لم يبغض الناقص وإن هوي بقاء المتقدم لم يهو موت المتأخر واعتذاره بهذا ضد لما وصف به نفسه في مدحه الواثق حيث يقول
( جاءتكَ من نظم اللسان قِلادَةٌ ... سِمطانِ فيها اللؤلؤُ المكنونُ )
( أَحْذاكَهَا صَنَعُ اللسان يُمدُّه ... جَفْرٌ إذا نَضَب الكلامُ مَعِين )
( ويُسيءُ بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون )
فلو كان يسيء بالإساءة ظنا ولا يفتتن بشعره كنا في غنى عن الاعتذار له
وقد فضل أبا تمام من الرؤساء والكبراء والشعراء من لا يشق الطاعنون عليه غباره ولا يدركون - وإن جدوا - آثاره وما رأى الناس بعده إلى حيث انتهوا له في جيده نظيرا ولا شكلا ولولا أن الرواة قد أكثروا في الاحتجاج له وعليه وأكثر متعصبوه الشرح لجيد شعره وأفرط معادوه في التسطير لرديئه والتنبيه على رذله ودنيئه لذكرت منه طرفا ولكن قد أتى من ذلك ما لا مزيد عليه

المعجبون بشعره كثيرون
أخبرني عمي قال حدثني أبي قال سمعت محمد بن عبد الملك الزيات يقول أشعر الناس طرا الذي يقول
( وما أبالي وخيرُ القولِ أصدقُهُ ... حقنتَ لي ماء وجهي أو حَقَنتَ دمي )
فأحببت أن أستثبت إبراهيم بن العباس وكان في نفسي أعلم من

محمد وآدب فجلست إليه وكنت أجرى عنده مجرى الولد فقلت له من أشعر أهل زماننا هذا فقال الذي يقول
( مطر أبوك أبو أهلَّة وائلٍ ... ملأ البسيطةَ عُدَّةً وعَديدَا )
( نسبٌ كأنّ عليه من شمس الضُّحَى ... نُوراً ومن فَلَق الصباح عَمُودا )
( ورثوا الأُبوَّة والحظوظَ فأصبحوا ... جمعوا جُدودا في العلا وجُدودا )
فاتفقا على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال
قدم عمارة بن عقيل بغداد فاجتمع الناس إليه فكتبوا شعره وشعر أبيه وعرضوا عليه الأشعار فقال بعضهم ها هنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طرا ويزعم غيرهم ضد ذلك فقال أنشدوني قوله فأنشدوه
( غَدَتْ تستجيرُ الدمعَ خوفَ نَوَى غَدِ ... وعادَ قَتاداً عندها كلُّ مَرقَدِ )
( وأنقذها من غَمرة الموت أَنَّهُ ... صُدُودُ فراقٍ لا صدودُ تَعَمُّدِ )
( فأجرَى لها الإِشفاقُ دمعاً مُوَرَّداً ... من الدم يجري فوق خد مُوَرَّدِ )
( هِيَ البدرُ يغنيها تودَّدُ وجهِها ... الى كلِّ من لاقتْ وإن لم تَوَدَّدِ )

ثم قطع المنشد فقال له عمارة زدنا من هذا فوصل نشيده وقال
( ولكنني لم أحوِ وَفْرا مُجَمَّعا ... ففزْتُ به إلا بشَمْل مُبَدَّدِ )
( ولم تُعْطني الأيام نوماً مُسَكَّنا ... أَلَذُّ به إلا بنوم مُشَرَّدِ )
فقال عمارة لله دره لقد تقدم في هذا المعنى من سبقه إليه على كثرة القول فيه حتى لقد حبب إلي الاغتراب هيه فأنشده
( وطولُ مُقام المرء في الحيّ مُخْلِقٌ ... لديباجتيه فاغتربْ تتجدَّدِ )
( فإني رأيتُ الشمسَ زيدت محبّةً ... الى الناسِ أنْ ليستْ عليهمْ بسرْمَدِ )
فقال عمارة كمل والله لئن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واتساق الكلام فإن صاحبكم هذا أشعر الناس
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال سمعت علي بن الجهم يصف أبا تمام ويفضله فقال له رجل والله لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مدحك هذا فقال إن لم يكن أخا بالنسب فإنه أخ بالأدب والمودة أما سمعت ما خاطبني به حيث يقول
( إنْ يُكْدِ مُطَّرَفُ الإِخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد )
( أو يختلفْ ماء الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدَّرَ من غمام واحدِ )
( أو يفترقْ نسبٌ يؤلفْ بيننا ... أدبٌ أقمناه مَقَام الوالد )

أخبرني محمد قال حدثني هارون بن عبد الله المهلبي قال
كنا في حلقة دعبل فجرى ذكر أبي تمام فقال دعبل كان يتتبع معاني فيأخذها فقال له رجل في مجلسه وأي شيء من ذلك أعزك الله قال قولي
( وإن امرأً أَسْدَى إليّ بشافع ... إليه ويرجو الشكرَ مني لأحمقُ )
( شفيعَك فاشكر في الحوائج إنه ... يصونُك عن مكروهِها وهو يَخْلُق )
فقال الرجل فكيف قال أبو تمام فقال قال
( فلقيتُ بين يديكَ حُلْوَ عَطائِه ... ولقيت بين يديَّ مُرَّ سُؤالِه )
( وإذا امْرؤ أسدَى إليكَ صَنيعةً ... من جاهه فكأنها من مالِهِ )
فقال له الرجل أحسن والله فقال كذبت قبحك الله فقال والله لئن كان أخذه منك لقد أجاد فصار أولى به منك وإن كنت أخذته منه فما بلغت مبلغه فغضب دعبل وانصرف
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال
سمعت محمد بن حازم الباهلي يقدم أبا تمام ويفضله ويقول لو لم يقل إلا مرثيته التي أولها
( أصمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا ... )

وقوله
( لو يقدرونَ مَشَوْا على وَجَناتهم ... وجباههم فضلاً عن الأقدامِ )
لكفتاه
أخبرني عمي قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
كان عمارة بن عقيل عندنا يوما فسمع مؤدبا كان لولد أخي يرويهم قصيدة أبي تمام
( الحق أبلج والسيوف عَوارِ ... )
فلما بلغ إلى قوله
( سُودُ اللباسِ كأنما نَسَجَت لهم ... أيدي السَّموم مَدارِعا من قارِ )
( بَكَروا وأسْرَوا في مُتون ضوامرٍ ... قِيدَت لهم من مَرْبط النَّجارِ )
( لا يبرَحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سَفَر من الأسفارِ )
فقال عمارة لله دره ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه كأنه موقوف عليه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو ذكوان قال قال لي إبراهيم بن العباس ما اتكلت في مكاتبتي قط إلا على ما جاش به صدري وجلبه خاطري إلا أني قد استحسنت قول أبي تمام
( فإن باشر الإصحار فالبِيضُ والقنا ... قِراهُ وأحواضُ المنايا مناهلُه )

( وإن يَبن حِيطاناً عليهِ فإنما ... أولئك عُقَّالاتُهُ لا مَعاقلُه )
( وإلا فأعلمه بأنك ساخطٌ ... عليه فإن الخوف لا شكّ قاتلُه )
فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي فقلت فصار ما كان يحرزهم يبرزهم وما كان يعقلهم يعتقلهم قال ثم قال لي إبراهيم إن أبا تمام اخترم وما استمتع بخاطره ولا نزح ركي فكره حتى انقطع رشاء عمره
أخبرني محمد قال حدثني أبو الحسين بن السخي قال حدثني الحسين بن عبد الله قال
سمعت عمي إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام وقد أنشد شعرا له في المعتصم يا أبا تمام أمراء الكلام رعية لإحسانك
أخبرني محمد قال حدثني هارون بن عبد الله قال لي محمد بن جابر الأزدي وكان يتعصب لأبي تمام
أنشدت دعبل بن علي شعرا لأبي تمام ولم أعلمه أنه له ثم قلت له كيف تراه قال أحسن من عافية بعد يأس فقلت إنه لأبي تمام فقال لعله سرقه

مات أبو تمام فاقتسم الشعراء ما كان يأخذه
أخبرني محمد قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال
ما كان أحد من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهما بالشعر في حياة أبي

تمام فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه
أخبرني عمي والحسن بن علي ومحمد بن يحيى وجماعة من أصحابنا وأظن أيضا جحظة حدثنا به قالوا حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
لما قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء إليه وسألوه أن ينشدهم فقال قد وعدني الأمير أن أنشده غدا وستسمعوني فلما دخل على عبد الله أنشده
( هنَّ عوادي يوسف وصواحبُهْ ... فعزما فقدِما أدرك السؤلَ طالبُهْ )
فلما بلغ إلى قوله
( وقَلقلَ نأْيٌ من خراسان جأْشَها ... فقلتُ اطمئني أنضرُ الروض عازبُهْ )
( وركبٍ كأطراف الأسنة عَرَّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهِبه )
( لأمر عليهم أن تتم صُدورُه ... وليس عليهم أن تتم عواقبه )
فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس ما يستحق مثل هذا الشعر غير الأمير أعزه الله وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي لي عنده أعزه الله جائزة وعدني بها وقد جعلتها لهذا الرجل جزاء عن قوله للأمير فقال له بل نضعفها لك ونقوم له بما يجب له علينا فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئا فوجد عليه عبد الله وقال يترفع عن بري ويتهاون بما أكرمته به فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك
أخبرني أبو مسلم محمد بن بحر الكاتب وعمي عن الحزنبل عن سعيد بن جابر الكرخي عن أبيه

أنه حضر أبا دلف القاسم بن عيسى وعنده أبو تمام الطائي وقد أنشده قصيدته
( على مثلها من أربُعٍ وملاعبِ ... أُذيلتْ مصُونات الدموع السواكبِ )
فلما بلغ إلى قوله
( إذا افتخرت يوماً تميم بقوسِها ... وزادت على ما وطَّدت من مَناقِبِ )
( فأنتم بذي قارٍ أمالتْ سُيوفُكم ... عُروش الذين اسْتُرْهِنوا قوسَ حاجبِ )
( محاسنُ من مجد متى تَقْرُنوا بها ... محاسن أقوامٍ تكن كالمعايب )
فقال أبو دلف يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط فما عندكم لقائله فبادروه بمطارفهم يرمون بها إليه فقال أبو دلف قد قبلها وأعاركم لبسها وسأنوب عنكم في ثوابه تمم القصيدة يا أبا تمام فتممها فأمر له بخمسين ألف درهم وقال والله ما هي بإزاء استحقاقك وقدرك فاعذرنا فشكره وقام ليقبل يده فحلف ألا يفعل ثم قال له أنشدني قولك في محمد بن حميد
( وما مات حتى ماتَ مَضْرِب سيفهِ ... من الضرب واعتلت عليه القنا السُّمْرُ )
( وقد كان فوتُ الموت سهلاً فردّه ... إليه الحِفاظ المرُّ والخلُقُ الوعْر )
( فأثبت في مستنقَع الموت رجلَه ... وقال لها من تحت أُخْمُصِك الحشر )
( غدا غَدوةً والحمد نَسْجُ ردائهِ ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر )
( كأن بني نَبهانَ يوم مُصابه ... نجومُ سماء خرَّ من بينها البدر )
( يُعَزَّوْن عن ثاو يُعزَّى به العُلَى ... ويبكي عليه البأسُ والجود والشعر )
فأنشده إياها فقال والله لوددت أنها في فقال بل أفدي الأمير بنفسي

وأهلي وأكون المقدم فقال إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر أو مثله

الواثق وابن أبي دواد وخالد الشيباني يمدحونه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إسحاق بن يحيى الكاتب قال
قال الواثق لأحمد بن أبي دواد بلغني أنك أعطيت أبا تمام الطائي في قصيدة مدحك بها ألف دينار قال لم أفعل ذلك يا أمير المؤمنين ولكني أعطيته خمس مئة دينار رعاية للذي قاله للمعتصم
( فاشدُدْ بهارونَ الخلافةَ إنه ... سَكَنٌ لوَحشتها ودارُ قَرارِ )
( ولقد علمت بأن ذلك مِعْصمٌ ... ما كنتَ تتركه بغير سوارِ )
فابتسم وقال إنه لحقيق بذلك
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال
خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد وهو بأرمينية فامتدحه فأعطاه عشرة آلاف درهم ونفقة لسفره وقال تكون العشرة الآلاف موفورة فإن أردت الشخوص فاعجل وإن أردت المقام عندنا فلك الحباء والبر قال بل أشخص فودعه ومضت أيام وركب خالد يتصيد فرآه تحت شجرة وبين يديه زكرة فيها شراب وغلام يغنيه بالطنبور فقال أبو تمام قال خادمك وعبدك قال ما فعل المال فقال
( عَلَّمني جودُكَ السماحَ فما ... أبقيت شيئاً لديّ من صِلَتكْ )
( ما مرّ شهر حتى سمحتُ به ... كأنّ لي قدرةً كمقدُرتِك )
( تُنفق في اليوم بالهبات وفي الساعة ... ما تجتنيه في سَنَتك )

( فلستُ أدري من أين تنفق لولا ... أن ربي يَمُدّ في هبتك )
فأمر له بعشرة أخرى فأخذها وخرج
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال حدثنا محمد بن سعد أبو عبد الله الرقي وكان يكتب للحسن بن رجاء قال
قدم أبو تمام مادحا للحسن بن رجاء فرأيت منه رجلا عقله وعلمه فوق شعره فاستنشده الحسن ونحن على نبيذ قصيدته اللامية التي امتدحه بها فلما انتهى إلى قوله
( أنا مَن عَرَفْت فإن عرتكَ جَهالة ... فأنا المقيمُ قِيامةَ العُذّالِ )
( عادتْ له أيامه مُسْوَدَّة ... حتى توهم أنهن ليالِ )
فقال الحسن والله لا تسود عليك بعد اليوم فلما قال
( لا تنكري عَطَل الكريم من الغنى ... فالسيل حربٌ للمكان العالي )
( وتنظُّري حَيْث الركابُ ينصُّها ... محيي القريضِ إلى مميت المالِ )
فقام الحسن بن رجاء على رجليه وقال والله لا أتممتها إلا وأنا قائم فقام أبو تمام لقيامه وقال
( لما بلغنا ساحةَ الحَسن انقضَى ... عنا تملُّكُ دولةِ الإِمحالِ )
( بسطَ الرجاء لنا برغْم نوائبٍ ... كَثُرتْ بهن مصارعُ الآمالِ )
( أغلَى عَذارى الشعرِ إنّ مُهورَها ... عند الكرام وإن رَخُصن غَوالِ )
( تَرِدُ الظُّنونُ بنا على تصديقها ... ويُحَكِّم الآمالَ في الأموالِ )

( أضحى سميُّ أبيك فيك مصدِّقا ... بأجلّ فائدةٍ وأيمن فالِ )
( ورأيتني فسألتَ نفسك سَيْبَها ... لِي ثم جُدْت وما انتظرتَ سؤالِي )
( كالغيث ليس له - أُريد غمامه ... أو لم يرد - بُدٌّ من التَّهطالِ )
فتعانقا وجلسا وقال له الحسن ما أحسن ما جلوت هذه العروس فقال والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها
قال محمد بن سعد وأقام شهرين فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم وأخذ غير ذلك مما لم أعلم به على بخل كان في الحسن بن رجاء
أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال
شهدت دعبلا عند الحسن بن رجاء وهو يضع من أبي تمام فاعترضه عصابة الجرجرائي فقال يا أبا علي اسمع مني ما قاله فإن أنت رضيته فذاك وإلا وافقتك على ما تذمه منه وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه ثم أنشده قوله
( أما إنه لولا الخليطُ المودِّعُ ... ومغنًى عفا منه مَصِيفٌ ومَرْبَعُ )
فلما بلغ قوله
( هو السيلُ إن واجهته انقدْتَ طَوْعَه ... وتقتادُه من جانبيه فيَتبعُ )
( ولم أر نفعاً عند من ليس ضائراُ ... ولم أر ضُرّاً عند من ليس ينفع )
( مَعادُ الوَرَى بعد الممات وسيبُه ... معادٌ لنا قبل المماتِ ومَرجِع )
فقال له دعبل لم ندفع فضل هذا الرجل ولكنكم ترفعونه فوق قدره

وتقدمونه على من يتقدمه وتنسبون إليه ما قد سرقه فقال له عصابة إحسانه صيرك له عائبا وعليه عاتبا
أخبرني الصولي قال حدثنا الحسن بن وداع كاتب الحسن بن رجاء قال
حضرت أبا الحسين محمد بن الهيثم بالجبل وأبو تمام ينشده
( أَسْقَى ديارَهُمُ أجشُّ هَزيمُ ... وغدتْ عليهمْ نضرةٌ ونعيمُ )
قال فلما فرغ أمر له بألف دينار وخلع عليه خلعة حسنة وأقمنا عنده يومنا فلما كان من غد كتب إليه أبو تمام
( قد كسانا من كُسوةِ الصيف خِرْقٌ ... مكتسٍ من مَكارمٍ ومَساعِ )
( حُلَّةً سابريَّة ورِداءً ... كسَحا القيضِ أو رداءِ الشُّجاع )
( كالسَّراب الرَّقْراق في الحسن إلا ... أنه ليس مثلَه في الخِداع )
( قَصَبِيًّا تسترجِفُ الريحُ مَتنيه ... بأمرٍ من الهُبوب مطاع )
( رَجَفانا كأنه الدهرَ منه ... كبِدُ الضَّبِّ أو حشا المُرْتاع )
( لازما ما يليه تحسِبه جُزْءاً ... من المَتْنَتَيْنِ والأضلاع )
( يَطردُ اليومَ ذا الهَجير ولو شُبِّهَ ... في حرِّه بيوم الوَداع )
( خِلعةً من أغرَّ أرْوَعَ رَحْب الصَّدر ... رحب الفؤاد رحْب الذراع )
( سوف أكسوك ما يُعَفِّي عليها ... من ثناء كالبُرد بُرْدِ الصَّناع )

( حسن هاتيكَ في العيون وهذا ... حسنه في القلوب والأسماع )
فقال محمد بن الهيثم ومن لا يعطي على هذا ملكه والله لا بقي في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام فأمر له بكل ثوب كان يملكه في ذلك الوقت
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال لما شخص أبو تمام إلى عبد الله بن طاهر وهو بخراسان أقبل الشتاء وهو هناك فاستثقل البلد وقد كان عبد الله وجد عليه وأبطأ بجائزته لأنه نثر عليه ألف دينار فلم يمسسها بيده ترفعا عنها فأغضبه وقال يحتقر فعلي ويترفع علي فكان يبعث إليه بالشيء بعد الشيء كالقوت فقال أبو تمام
( لم يبق للصيف لا رسمٌ ولا طَلَلُ ... ولا قشيبٌ فَيُسْتكْسى ولا سَمَلُ )
( عدلٌ من الدمع أن يُبكى المَصيفُ كما ... يُبكى الشبابُ ويُبكى اللهوُ والغَزلُ )
( يُمْنَى الزمانِ انقضى معروفُها وغَدَتْ ... يُسْراه وهْي لنا من بعدها بَدَل )
فبلغت الأبيات أبا العميثل شاعر آل عبد الله بن طاهر فأتى أبا تمام واعتذر إليه لعبد الله بن طاهر وعاتبه على ما عتب عليه من أجله وتضمن له ما يحبه ثم دخل إلى عبد الله فقال أيها الأمير أتتهاون بمثل أبي تمام وتجفوه فوالله لو لم يكن له ماله من النباهة في قدره والإحسان في شعره والشائع من ذكره لكان الخوف من شره والتوقي لذمه يوجب على مثلك رعايته ومراقبته فكيف وله بنزوعه إليك من الوطن وفراقه السكن وقد قصدك عاقدا بك أمله

معملا إليك ركابه متعبا فيك فكره وجسمه وفي ذلك ما يلزمك قضاء حقه حتى ينصرف راضيا ولو لم يأت بفائدة ولا سمع فيك منه ما سمع إلا قوله
( تقولُ في قُومَسٍ صحبي وقد أخذتْ ... منا السُّرى وخُطَا المهريّة القُودِ )
( أمَطْلَع الشمس تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلت كَلاّ ولكن مَطْلِع الجودِ )
فقال له عبد الله لقد نبهت فأحسنت وشفعت فلطفت وعاتبت فأوجعت ولك ولأبي تمام العتبى ادعه يا غلام فدعاه فنادمه يومه وأمر له بألفي دينار وما يحمله من الظهر وخلع عليه خلعة تامة من ثيابه وأمر ببذرقته إلى آخر عمله

حديث المعاني وسرقة القصائد
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
مر أبو تمام بمخنث يقول لآخر جئتك أمس فاحتجبت عني فقال له السماء إذا احتجبت بالغيم رجي خيرها فتبينت في وجه أبي تمام أنه قد أخذ المعنى ليضمنه في شعره فما لبثنا إلا أياما حتى أنشدت قوله
( ليس الحجابُ بمقصٍ عنكَ لي أملا ... إنّ السماءَ تُرَجَّى حين تَحْتَجِبُ )
أخبرني أبو العباس أحمد بن وصيف وأبو عبد الله أحمد بن الحسن بن محمد الأصبهاني ابن عمي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال
كنا عند دعبل أنا والقاسم في سنة خمس وثلاثين ومئتين بعد قدومه من الشام فذكرنا أبا تمام فثلبه وقال هو سروق للشعر ثم قال لغلامه يا

ثقيف هات تلك المخلاة فجاء بمخلاة فيها دفاتر فجعل يمرها على يده حتى أخرج منها دفترا فقال اقرأوا هذا فنظرنا فيه فإذا فيه قال مكنف أبو سلمى من ولد زهير بن أبي سلمى وكان هجا ذفافة العبسي بأبيات منها
( إن الضُّراطَ به تصاعدَ جَدُّكُم ... فتعاظموا ضَرطاً بني القَعقاعِ )
قال ثم مات ذفافة بعد ذلك فرثاه فقال
( أبعد أبي العباس يُسْتَعذَبُ الدهرُ ... فما بعده للدهر حسنٌ ولا عُذْرُ )
( ألا أيُّها الناعي ذُفافةَ والندَى ... تَعَسْت وشَلَّت من أناملك العشر )
( أتنعَى لنا مِنْ قيس عيلانَ صَخرة ... تفلَّق عنها من جبالِ العِدا الصخر )
( إذا ما أبو العباس خَلَّى مكانه ... فلا حَمَلتْ أنثى ولا نالَها طُهْرُ )
( ولا أمطرتْ أرضاً سماءٌ ولا جرتْ ... نجومٌ ولا لذَّتْ لشاربها الخمر )
( كأنّ بني القعقاع يوم مُصابه ... نجومُ سماءٍ خَرَّ من بينها البدر )
( تُوُفِّيت الآمالُ يومَ وفاته ... وأصبح في شُغْل عن السَّفْر السفْر )
ثم قال سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة فأدخلها في قصيدته
( كذا فليجِلَّ الخطبُ ولْيفدَحِ الأمرُ ... وليسَ لعين لم يَفضْ ماؤُها عُذْر )
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال
كان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن بن وهب وكان الحسن يتعشق غلاما روميا لأبي تمام فرآه أبو تمام يوما يعبث بغلامه فقال له والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر فقال له الحسن لو شئت

حكَّمتنا واحتكمت فقال أبو تمام أنا أشبهك بداود عليه السلام وأشبه نفسي بخصمه فقال الحسن لو كان هذا منظوما خفناه فأما وهو منثور فلا لأنه عارض لا حقيقة له فقال أبو تمام
( أبا عليٍّ لصرِف الدهر والغِيَرِ ... وللحوادث والأيامِ والعِبَرِ )
( أذكرتني أمر داودٍ وكنتُ فتًى ... مُصَرَّف القلب في الأهواء والفِكر )
( أعندك الشمس لم يَحظ المغيبُ بها ... وأنت مضطربُ الأحشاء للقمر )
( إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى ... جآذر الرومِ أعنقنا إلى الخَزَر )
( إن القَطُوبَ له مني محلُّ هوًى ... يَحل مني محلَّ السمع والبصر )
( وربّ أمنعَ منه جانباً وحِمًى ... أمسى وتِكَّتُهُ منِّي على خَطَر )
( جَرَّدتُ فيه جنودَ العزم فانكشفت ... منه غَيابتُها عن نَيكة هَدَر )
( سبحانَ من سَبَّحتْهُ كلُّ جارحةٍ ... ما فيك من طَمَحان الأير والنظر )
( أنت المقيمُ فما تغدو رواحلُه ... وأيرُه أبدا منه على سفر )
أخبرني الصولي قال حدثني عبد الله بن الحسين قال حدثني وهب بن سعيد قال
جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد موت أبي تمام فقال له رجل في المجلس يا أبا علي أنت الذي تطعن علي من يقول
( شَهِدتُ لقد أقوتْ مغانيكُمُ بعدِي ... ومَحَّتْ كما محت وشائعُ من بُرْدِ )
( وأَنجدتم من بعد إتهام داركُمْ ... فيا دمعُ أنجدنِي على ساكني نجدِ )

فصاح دعبل أحسن والله وجعل يردد فيا دمع أنجدني على ساكني نجد ثم قال رحمه الله لو كان ترك لي شيئا من شعره لقلت إنه أشعر الناس
أخبرني علي بن سليمان ومحمد بن يحيى قالا حدثنا محمد بن يزيد قال
مات لعبد الله بن طاهر ابنان صغيران في يوم واحد فدخل عليه أبو تمام فأنشده
( ما زالت الأيامُ تخبرُ سائلا ... أن سَوفَ تفجعُ مُسْهِلاُ أو عاقِلا )
( مجدٌ تأوَّبَ طارقاً حتى إذا ... قلنا أقام الدهرَ أصبحَ راحلا )
( نجمان شاء الله ألا يَطْلُعا ... إلا ارتدادَ الطرف حتى يأفِلا )
( إن الفجيعة بالرياض نواضراً ... لأجل منها بالرياض ذَوابِلا )
( لو يُنْسبان لكان هذا غاربا ... للمكرُمات وكان هذا كاهلا )
( لَهْفي على تلك المخايلِ منهما ... لو أُمْهلَت حتى تكون شمائِلا )
( لغدا سكونُهما حِجًى وصِباهُما ... حِلْماً وتلك الأريحيةُ نائلا )
( إن الهلالَ إذا رأيت نموَّهُ ... أيقنتَ أنْ سيكونُ بدرا كاملا )

صوت
( بالله قلْ يا طَلَلُ ... أهلُك ماذا فعلُوا )
( فإن قلبي حَذِرٌ ... من أن يَبينوا وَجِلُ )
عروضه من - الرجز - الشعر لأبي الشيص والغناء لأحمد بن يحيى المكي - خفيف ثقيل - بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية ومن رواية الهشامي

أخبار أبي الشيص ونسبه
اسمه محمد بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل وقيل ابن بهيش - ابن خراش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقيا ابن عامر بن ثعلبة
وكان أبو الشيص لقبا غلب عليه وكنيته أبو جعفر وهو ابن عم دعبل بن علي بن رزين لحا وكان أبو الشيص من شعراء عصره متوسط المحل فيهم غير نبيه الذكر لوقوعه بين مسلم بن الوليد وأشجع وأبي نواس فخمل وانقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي وكان أميرا على الرقة فمدحه بأكثر شعره فقلما يروى له في غيره وكان عقبة جوادا فأغناه عن غيره
ولأبي الشيص ابن يقال له عبد الله شاعر أيضا صالح الشعر وكان منقطعا إلى محمد بن طالب فأخذ منه جامع شعر أبيه ومن جهته خرج إلى الناس
وعمي أبو الشيص في آخر عمره وله مراث في عينيه قبل ذهابهما وبعده نذكر منها مختارها مع أخباره
وكان سريع الهاجس جدا فيما ذكر عنه فحكى عبد الله بن المعتز أن أبا

خالد العامري قال له من أخبرك أنه كان في الدنيا أشعر من أبي الشيص فكذبه والله لكان الشعر عليه أهون من شرب الماء على العطشان وكان من أوصف الناس للشراب وأمدحهم للملوك
وهكذا ذكر ابن المعتز وليس توجد هذه الصفات كما ذكر في ديوان شعره ولا هو بساقط ولكن هذا سرف شديد
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن النضر بن عمر قال
قال لي أبو الشيص لما مدحت عقبة بن جعفر بقصيدتي التي أولها
( لا تُنكري صَدِّي ولا إعراضي ... ليس المقلُّ عن الزمان براضِ )
أمر بأن تعد وأعطاني لكل بيت ألف درهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدت إبراهيم بن المهدي أبيات أبي يعقوب الخريمي التي يرثي بها عينه يقول فيها
( إذا ما مات بعضُك فابكِ بعضاً ... فإن البعض من بعض قريبُ )
فأنشدني لأبي الشيص يبكي عينيه
( يا نفسُ بكّي بأدمع هُتُنِ ... وواكفٍ كالجُمان في سَنَنِ )
( على دليلي وقائدي ويدي ... ونور وجهي وسائسِ البدنِ )
( أبكي عليها بها مخافةَ أن ... تَقْرنَني والظلامَ في قَرنِ )
وقال أبو هفان حدثني دعبل أن امرأة لقيت أبا الشيص فقالت يا أبا الشيص عميت بعدي فقال قبحك الله دعوتني باللقب وعيرتني بالضرر

مجالس شعرية
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد قال
اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشيص ودعبل في مجلس فقالوا لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر فاندفع رجل كان معهم فقال اسمعوا مني أخبركم بما ينشد كل واحد منكم قبل أن ينشد قالوا هات فقال لمسلم أما أنت يا أبا الوليد فكأني بك قد أنشدت
( إذا ما علَتْ منا ذؤابةُ واحدٍ ... وإن كان ذا حلم دعته إلى الجهلِ )
( هل العيشُ إلا أن تروح مع الصِّبا ... وتغدو صريعَ الكأس والأعين النُّجْلِ )
قال وبهذا البيت لقب صريع الغواني لقبه به الرشيد فقال له مسلم صدقت
ثم أقبل على أبي نواس فقال له كأني بك يا أبا علي قد أنشدت
( لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هندِ ... واشربْ على الوَرْد من حمراءَ كالوردِ )
( تَسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سُكرين من بُدِّ )
فقال له صدقت
ثم أقبل على دعبل فقال له وأنت يا أبا علي فكأني بك تنشد قولك
( أين الشبابُ وأيَّةً سَلَكا ... لا أينَ يُطلَب ضلّ بلْ هَلَكا )
( لا تعجبي يا سَلْمَ من رجُل ... ضحكَ المشيبُ برأسه فبكى )
فقال صدقت ثم أقبل على أبي الشيص فقال له وأنت يا أبا جعفر فكأني بك وقد أنشدت قولك
( لا تنكري صدِّي ولا إعراضي ... ليس المقلُّ عن الزمان براضِ )

فقال له لا ما هذا أردت أن أنشد ولا هذا بأجود شيء قلته قالوا فأنشدنا ما بدا له فأنشدهم قوله

صوت
( وقف الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي ... متأخَّرٌ عنهُ ولا متقدَّمُ )
( أجدُ الملاَمَة في هواكِ لذيذةً ... حباً لذكرك فليلُمني اللُّوَّم )
( أشبهتِ أعدائي فصرتُ أُحبُّهْم ... إذ كان حظي منكِ حظِّي منهمُ )
( وأَهنتِني فأهنتُ نفسيَ صاغراً ... ما مَنْ يهون عليك ممن يُكْرَم )
لعريب في هذا الشعر لحنان ثقيل أول ورمل
قال فقال أبو نواس أحسنت والله جودت وحياتك لأسرقن هذا المعنى منك ثم لأغلبنك عليه فيشتهر ما أقول ويموت ما قلت قال فسرق قوله
( وقَف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ )
سرقا خفيا فقال في الخصيب
( فما جازه جودٌ ولا حل دُونَهُ ... ولكن يسير الجودُ حيث يسيرُ )
فسار بيت أبي نواس وسقط بيت أبي الشيص
نسخت من كتاب جدي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه
حدثني الحسن بن سعد قال حدثني رزين بن علي الخزاعي أخو دعبل قال
كنا عند أبي نواس أنا ودعبل وأبو الشيص ومسلم بن الوليد الأنصاري فقال أبو نواس لأبي الشيص أنشدني قصيدتك المخزية قال وما هي قال الضادية فما خطر بخلدي قولك

( ليس المقلُّ عن الزمان براضِ ... )
إلا أخزيتك استحسانا لها فإن الأعشى كان إذا قال القصيدة عرضها على ابنته وقد كان ثقفها وعلمها ما بلغت به استحقاق التحكيم الإختيار لجيد الكلام ثم يقول لها عدي لي المخزيات فتعد قوله
( أغَرُّ أرْوَعُ يُستسقَى الغمام به ... لو قارعَ الناسَ عن أحسابهم قَرَعا )
وما أشبهها من شعره قال أبو الشيص لا أفعل إنها ليست عندي عقد در مفصل ولكني أكاثر بغيرها ثم أنشده قوله
( وقَفَ الهوى بي حيثُ أنت فليسَ لي ... متأخَّر عنه ولا متقدَّم )
الأبيات المذكورة فقال له أبو نواس قد أردت صرفك عنها فأبيت أن تخلى عن سلبك أو تدرك في هربك قال بل أقول في طلبي فكيف رأيت هذا الطراز قال أرى نمطا خسروانيا مذهبا حسنا فكيف تركت
( في رِداء من الصَّفيح صَقِيلٍ ... وقميصٍ من الحديدِ مُذالِ )
قال تركته كما ترك مختار الدُّرّتين إحداهما بما سبق في ألحاظه وزين في ناظره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبي قال
حدثني من قال لأبي نواس من أشعر طبقات المحدثين قال الذي يقول
( يطوفُ علينا بها أحْورٌ ... يداه من الكأسِ مخضوبتان )
والشعر لأبي الشيص

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني الفضل بن موسى بن معروف الأصبهاني قال حدثني أبي قال
دخل أبو الشيص على أبي دلف وهو يلاعب خادما له بالشطرنج فقيل له يا أبا الشيص سل هذا الخادم أن يحل أزرار قميصه فقال أبو الشيص الأمير أعزه الله أحق بمسألته قال قد سألته فزعم أنه يخاف العين على صدره فقل فيه شيئا فقال
( وشادنٍ كالبدر يجلو الدُّجَى ... في الفرقِ منه المسكُ مذرورُ )
( يُحاذر العينَ على صَدْره ... فالجيبُ منه الدهرَ مزرور )
فقال أبو دلف وحياتي لقد أحسنت وأمر له بخمسة آلاف درهم فقال الخادم قد والله أحسن كما قلت ولكنك أنت ما أحسنت فضحك وأمر له بخمسة آلاف أخرى
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن سعد بن إياس الشيباني قال
تعشق أبو الشيص محمد بن رزين قينة لرجل من أهل بغداد فكان يختلف إليها وينفق عليها في منزل الرجل حتى أتلف مالا كثيرا فلما كف بصره وأخفق جعل إذا جاء إلى مولى الجارية حجبه ومنعه من الدخول فجاءني أبو الشيص فشكا إلي وجده بالجارية واستخفاف مولاها به وسألني المضي معه إليه فمضيت معه فاستؤذن لنا عليه فأذن فدخلت أنا وأبو الشيص فعاتبته في أمره وعظمت عليه حقه وخوفته من لسانه ومن إخوانه فجعل له يوما في الجمعة يزورها فيه فكان يأكل في بيته ويحمل معه نبيذه ونقله فمضيت معه ذات يوم إليها فلما وقفنا على بابهم سمعنا صراخا شديدا

من الدار فقال لي ما لها تصرخ أتراه قد مات لعنه الله فما زلنا ندق الباب حتى فتح لنا فإذا هو قد حسر كميه وبيده سوط وقال لنا ادخلا فدخلنا وإنما حمله على الإذن لنا الفرق مني فدخلنا وعاد الرجل إلى داخل يضربها فاستمعنا عليه وأطلعنا فإذا هي مشدودة على سلم وهو يضربها أشد ضرب وهي تصرخ وهو يقول وأنت أيضا فاسرقي الخبز فاندفع أبو الشيص على المكان يقول في ذلك
( يقولُ والسوط على كفّه ... قد حَزّ في جلدتها حَزَّا )
( وهي على السُّلَّم مشدودة ... وأنت أيضا فاسرقي الخُبْزا )
قال وجعل أبو الشيص يرددهما فسمعهما الرجل فخرج إلينا مبادرا وقال له أنشدني البيتين اللذين قلتهما فدافعه فحلف أنه لا بد من إنشادهما فأنشده إياهما فقال لي يا أبا الحسن أنت كنت شفيع هذا وقد أسعفتك بما تحب فإن شاع هذان البيتان فضحتني فقل له يقطع هذا ولا يسمعهما وله علي يومان في الجمعة ففعلت ذلك ووافقته عليه فلم يزل يتردد إليه يومين في الجمعة حتى مات
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن عبد الرحمن الكاتب عن أبيه قال
كانت لأبي الشيص جارية سوداء اسمها تِبْر وكان يتعشقها وفيها يقول
( لم تُنْصِفي يا سَمِية الذَّهَبِ ... تتلفُ نفسي وأنت في لَعبِ )
( يابنة عم المِسكِ الذكي ومَن ... لولاك لم يُتخَذْ ولم يَطِبِ )
( ناسَبَك المسكُ في السواد وفي الرِّيحِ ... فأكرم بذاك من نسبِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن عمه قال
كان أبو الشيص صديقا لمحمد بن إسحاق بن سليمان الهاشمي وهما

حينئذ مملقان فنال محمد بن إسحاق مرتبة عند سلطانه واستغنى فجفا أبا الشيص وتغير له فكتب إليه
( الحمدُ لله رب العالَمين على ... قُربِي وبعدِكَ مني يابن إسحاقِ )
( يا ليتَ شعري متى تُجْدِي عليّ وقد ... أصبحتَ رب دنانير وأوْراقِ )
( تُجْدي عليَّ إذا ما قيلَ مَنْ راقِ ... والتفت الساقُ عند الموت بالساقِ )
( يومٌ لَعمري تَهُمُّ الناسَ أنفُسهمْ ... وليس ينفع فيه رُقية الراقِي )
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو العباس بن الفرات قال
كنت أسير مع عبيد الله بن سليمان فاستقبله جعفر بن حفص على دابة هزيل وخلفه غلام له وشيخ على بغل له هرم وما فيهم إلا نضو فأقبل علي عبيد الله بن سليمان فقال كأنهم والله صفة أبي الشيص حيث يقول
( أكلَ الوجيفُ لحومَها ولحومَهم ... فأتَوكَ أنقاضاً على أنقاضِ )

مقتل أبي الشيص
وقال عبد الله بن المعتز حدثني أبو مالك عبد الله قال قال لي عبد الله بن الأعمش
كان أبو الشيص عند عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي يشرب فلما ثمل نام عنده ثم انتبه في بعض الليل فذهب يدب إلى خادم له فوجأه بسكين فقال له ويحك قتلتني والله وما أحب والله أن أفتضح أني قتلت في مثل هذا ولا تفضح أنت بي ولكن خذ دستيجة فاكسرها ولوثها بدمي

واجعل زجاجها في الجرح فإذا سئلت عن خبري فقل إني سقطت في سكري على الدستيجة فانكسرت فقتلتني ومات من ساعته ففعل الخادم ما أمره به ودفن أبو الشيص وجزع عقبة عليه جزعا شديدا فلما كان بعد أيام سكر الخادم فصدق عقبة عن خبره وأنه هو قتله فلم يلبثه أن قام إليه بسيفه فلم يزل يضربه حتى قتله

صوت
( هَلاّ سألتَ معالمَ الأطلالِ ... والرسمَ بعد تقادم الأحوالِ )
( دِمَناً تَهيجُ رسومُها بعد البلى ... طَرَباً وكيف سؤالُ أعجمَ بال )
( يمشين مشي قَطا البِطاح تأوُّدا ... قُبَّ البطون رواجح الأكفال )
( من كل آنسة الحديث حييَّةٍ ... ليست بفاحشةٍ ولا مِتْفالِ )
( أَقصى مذاهبها إذا لاقيتها ... في الشهر بين أسِرَّةٍ وحِجالِ )
( وتكونُ رِيقتُها إذا نبهتُها ... كالشهدِ أو كَسُلافة الجِريالِ )
المتفال المنتنة الريح والجريال فيما قيل اسم للون الخمر وقيل بل هو من أسمائها والدليل على أنه لونها قول الأعشى
( وسُلافةِ مما تعتق بابل ... كدمِ الذبيح سلبتُها جِرْيالِها )
قال سماك بن حرب حدثني يحنس بن متى الحيري راوية الأعشى أنه سأله عن هذا البيت فقال شربتها حمراء وبلتها بيضاء

الشعر في هذا الغناء المذكور للكميت بن زيد والغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وذكر المكي أنه لابن محرز وفيه لعطرد - خفيف ثقيل - وهذا الشعر من قصيدة للكميت يمدح بها مخلد بن يزيد بن المهلب يقول فيها
( قادَ الجيوشَ لخمسَ عَشْرةَ حِجَّةً ... ولِداتُهُ عن ذاك في أشغال )
( قَعَدتْ بهم هِماتُهُمْ وسَمَتْ به ... هممُ الملوك وسَوْرة الأبطال )
( فكأنما عاشَ المهلَّبُ بينهمْ ... بأغرَّ قاسَ مثالَه بمثالِ )
( في كَفِّه قَصَبات كلّ مُقَلَّدٍ ... يومَ الرِّهان وفوزُ كلِّ نِصَالِ )
( ومتى أزِنْك بمعشر وأَزنهمُ ... بك أُلْفِ وزنك أرجحَ الأثقالِ )
تم الجزء السادس عشر من كتاب الأغاني

ذكر الكميت ونسبه وخبره
هو الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن وهيب بن عمرو بن سبيع وقيل الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر مقدم عالم بلغات العرب خبير بأيامها من شعراء مضر وألسنتها والمتعصبين على القحطانية المقارنين المقارعين لشعرائهم العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها
وكان في أيام بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية ومات قبلها وكان معروفا بالتشيع لبني هاشم مشهورا بذلك وقصائده الهاشميات من جيد شعره ومختاره ولم تزل عصبيته للعدنانية ومهاجاته شعراء اليمن متصلة والمناقضة بينه وبينهم شائعة في حياته وبعد وفاته حتى ناقض دعبل وابن أبي عيينة قصيدته المذهبة بعد وفاته

وأجابهما أبو البلقاء البصري مولى بني هاشم عنها وذلك يذكر في موضع آخر يصلح له من هذا الكتاب إن شاء الله
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن خلف الأحمر أنه رأى الكميت يعلم الصبيان في مسجد بالكوفة قال ابن قتيبة في خبره خاصة وكانت بينه وبين الطرماح خلطة ومودة وصفاء لم يكن بين اثنين قال فحدثني بعض أصحابه عن محمد بن سهل راوية الكميت قال أنشدت الكميت قول الطرماح
( إذا قُبِضت نفس الطِّرِمّاح أخلقتْ ... عُرا المجد واسترخَى عِنان القصائدِ )
قال إي والله وعنان الخطابة والرواية قال وهذه الأحوال بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة كان الكميت شيعيا عصبيا عدنانيا من شعراء مضر متعصبا لأهل الكوفة والطرماح خارجي صفري قحطاني عصبي لقحطان من شعراء اليمن متعصب لأهل الشام فقيل لهما ففيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء قالا اتفقنا على بغض العامة
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط قال

الكميت عالم بأيام العرب وأشعارها
اجتمع الكميت بن زيد وحماد الراوية في مسجد الكوفة فتذاكرا أشعار العرب وأيامها فخالفه حماد في شيء ونازعه فقال له الكميت أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها قال وما هو إلا الظن هذا والله هو اليقين فغضب الكميت ثم قال له لكم شاعر بصير يقال له عمرو ابن فلان تروي ولكم شاعر أعور أو أعمى اسمه فلان ابن عمرو تروي فقال حماد قولا لم يحفظه فجعل الكميت يذكر رجلا رجلا من صنف صنف ويسأل حمادا هل يعرفه فإذا قال لا أنشده جزءا منه حتى ضجرنا ثم قال له الكميت فإني سائلك عن شيء من الشعر فسأله عن قول الشاعر
( طَرَحُوا أصحابَهُمْ في ورطةٍ ... قَذْفَكِ المَقْلَةَ شَطْرَ المُعْتَرَكْ )
فلم يعلم حماد تفسيره فسأله عن قول الآخر
( تَدَرَّيْنَنَا بالقَوْلِ حتى كأنما ... تَدَرَّيْنَ وِلْدَانا تَصِيدُ الرَّهادِنا )
فأفحم حماد فقال له قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما وسأل الكميت أن يفسرهما له فقال المقلة حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها فيكون ذلك علامة يقتسمون بها الماء والشطر النصيب والمعترك الموضع الذي يختصمون فيه في الماء فيلقونها هناك عند الشر وقوله تدريننا يعني النساء أي ختلننا فرميننا والرهادن طير بمكة كالعصافير

الكميت يحبس في المخيس
وكان خالد بن عبد الله القسري - فيما حدثني به عيسى بن الحسين الوراق قال أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاري عن ابن الأعرابي وذكره محمد بن أنس السلامي عن المستهل بن الكميت وذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد - قد بلغه أن الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن وهي
( ألا حُيِّيتِ عَنَّا يا مَدِينا ... )
فأحفظته عليه فروى جارية حسناء قصائده الهاشميات وأعدها ليهديها إلى هشام وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها
( فيا رَبِّ هل إلاَّ بكَ النَّصْرُ يُبْتَغَى ... ويا ربّ هل إلاّ عَلَيْكَ المُعَوَّلُ ! )
وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي وابنه الحسين بن زيد ويمدح بني هاشم فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره فأخذ وحبس في

المخيس وكان أبان بن الوليد عاملا على واسط وكان الكميت صديقه فبعث إليه بغلام على بغل وقال له أنت حر إن لحقته والبغل لك وكتب إليه قد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز و جل وأرى لك أن تبعث إلى حبى - يعني زوجة الكميت وهي بنت نكيف بن عبد الواحد وهي ممن يتشيع أيضا - فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها ولبست ثيابها وخرجت فإني أرجو ألا يؤبه لك
فأرسل الكميت إلى أبي وضاح حبيب بن بديل وإلى فتيان من بني عمه من مالك بن سعيد فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر وشاوره فيه فسدد رأيه ثم بعث إلى حبى امرأته فقص عليها القصة وقال لها أي ابنة عم إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك ولو خفته عليك لما عرضتك له فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له أقبل وأدبر ففعل فقالت ما أنكر منك شيئا إلا يبسا في كتفك فاخرج على اسم الله
وأخرجت معه جارية لها فخرج وعلى باب السجن أبو وضاح ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له ومشى والفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناسة فمر بمجلس من مجالس بني تميم فقال بعضهم رجل ورب الكعبة وأمر

غلامه فاتبعه فصاح به أبو الوضاح يا كذا وكذا لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم وأومأ إليه بنعله فولى العبد مدبرا وأدخله أبو الوضاح منزله
ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه فدخل ليعرف خبره فصاحت به المرأة وراءك لا أم لك فشق ثوبه ومضى صارخا إلى باب خالد فأخبره الخبر فأحضر حبى فقال لها يا عدوة الله احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدوه لأمثلن بك ولأصنعن ولأفعلن فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا ما سبيلك على امرأة منا خدعت فخافهم فخلى سبيلها
قال وسقط غراب على الحائط فنعب فقال الكميت لأبي وضاح إني لمأخوذ وإن حائطك لساقط فقال سبحان الله هذا ما لا يكون إن شاء الله فقال له لا بد من أن تحولني فخرج به إلى بني علقمة - وكانوا يتشيعون - فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب

خروجه إلى الشام
قال ابن الأعرابي قال المستهل وأقام الكميت مدة متواريا حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد على خوف ووجل وفيمن معه صاعد غلامه قال وأخذ الطريق على القطقطانة - وكان عالما بالنجوم مهتديا بها - فلما صار سحير صاح بنا هوموا يا فتيان فهومنا وقام يصلي
قال المستهل فرأيت شخصا فتضعضعت له فقال مالك قلت أرى

شيئا مقبلا فنظر إليه فقال هذا ذئب قد جاء يستطعمكم فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه وارتحلنا فجعل الذئب يعوي فقال الكميت ما له ويله ألم نطعمه ونسقه وما أعرفني بما يريد هو يعلمنا أنا لسنا على الطريق تيامنوا يا فتيان فتيامنا فسكن عواؤه فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم وأرسل إلى أشراف قريش - وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص - فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا يا أبا خالد هذه مكرمة قد أتاك الله بها هذا الكميت بن زيد لسان مضر وكان أمير المؤمنين كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا قال فمروه أن يعوذ بقبر معاوية ابن هشام بدير حنيناء فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال له يا أبا شاكر مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها قال وما هي فأخبره الخبر وقال إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله فقال علي خلاصه
فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول فقال هشام أجئت لحاجة قال نعم قال هي مقضية إلا أن يكون الكميت
فقال ما أحب أن تستثني علي في حاجتي وما أنا والكميت فقالت أمه والله لتقضين حاجته كائنة ما كانت قال قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها قال هي الكميت يا أمير المؤمنين وهو آمن بأمان الله عز و جل وأماني وهو شاعر مضر وقد قال فينا قولا لم يقل مثله قال قد أمنته وأجزت أمانك له فاجلس له مجلسا ينشدك فيه ما قال فينا

مدائحه في بني أمية
فعقد له وعنده الأبرش الكلبي فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط وامتدحه بقصيدته الرائية ويقال إنه قالها ارتجالا وهي قوله
( قِفْ بالديار وقوفَ زائرْ ... )
فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله
( ماذا عليك مِنَ الوُقُوف ... ِ بها وأنكَ غَيْرُ صاغِرْ )
( دَرَجَتْ عليها الغاديات ... ُ الرَّائحاتُ مِنَ الأعاصر )
وفيها يقول
( فالآن صِرْتُ إلى أُميَّة ... َ والأُمورُ إلى المَصايِرْ )
وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول اسمع اسمع ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فأنشده قوله
( سأبْكِيكَ للدُّنيا وللدِّين إنني ... رأيْتُ يدَ المعروفِ بعدك شَلَّتِ )
( فدامَتْ عليكَ بالسلام تحيةً ... ملائكةُ اللهِ الكرامُ وصلّتِ )
فبكى هشام بكاء شديدا فوثب الحاجب فسكته
ثم جاء الكميت إلى منزله آمنا فحشدت له المضرية بالهدايا وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم وأمر له هشام بأربعين ألف درهم وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته وأنه لا سلطان له عليهم
قال وجمعت له بنو أمية بينها مالا كثيرا قال ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلا ما حفظه الناس منها فألف وسئل عنها فقال ما أحفظ منها شيئا إنما هو كلام ارتجلته
فقال وودع هشاما وأنشده قوله فيه
( ذكر القلبُ إلْفَه المذكورَا ... )

قال محمد بن كناسة وكان الكميت يقول سبقت الناس في هذه القصيدة من أهل الجاهلية والإسلام إلى معنى ما سبقت إليه في صفة الفرس حين أقول
( يَبْحثُ التُّرْبَ عن كواسر في المَشْرب ... لا يُجْشِمُ السُّقاةَ الصَّفِيرا ... )
هذه رواية ابن عمار وقد روى فيه غير هذا

سبب المنافرة بين الكميت وخالد
وقيل في سبب المنافرة بين خالد والكميت غير هذا نسخته من كتاب محمد بن يحيى الخراز قال حدثني أحمد بن إبراهيم الحاسب قال حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي
قال كان حكيم بن عياش الأعور الكلبي ولعا بهجاء مضر فكانت شعراء مضر تهجوه ويجيبهم وكان الكميت يقول هو والله أشعر منكم قالوا فأجب الرجل قال إن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا أقدر أن أرد عليه قالوا فاسمع بأذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء وأنشدوه ذلك فحمى الكميت لعشيرته فقال المذهبة
( ألاَ حُيِّيتِ عنّا يا مَدِينَا ... )
فأحسن فيها وبلغ خالدا خبرها فقال لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر فأنشدوه قوله
( ومِنْ عَجَبٍ عليَّ لعَمْرُ أمِّ ... غذَتك وغير هاتيّا يمينا )
( تجاوزت المياهَ بلا دَليل ... ولا عَلَمٍ تعَسُّفَ مخطئينا )
فإنكَ والتحوّل مِنْ مَعَدّ ... كهيلةَ قَبْلَنَا والحالبينا )

( تخطّت خيرهم حَلَباً ونَسْئاً ... إلى المَوْلَى المغادِر هارِبينا )
( كعَنْزِ السّوء تنطحُ عالِفيها ... وترميها عِصيُّ الذابحينا )
فبلغ ذلك خالدا فقال فعلها والله لأقتلنه ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب فرواهن الهاشميات ودسهن مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن جميعا فلما أنس بهن استنطقهن فرأى فصاحة وأدبا فاستقرأهن القرآن فقرأن واستنشدهن الشعر فأنشدنه قصائد الكيمت الهاشميات فقال ويلكن من قائل هذا الشعر قلن الكميت بن زيد الأسدي قال وفي أي بلد هو قلن في العراق ثم بالكوفة فكتب إلى خالد وهو عامله على العراق ابعث إلي برأس الكميت بن زيد فبعث خالد إلى الكميت في الليل فأخذه وأودعه السجن ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قتله وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد فقال لأبان بن الوليد البجلي - وكان صديقا للكميت - انظر ما ورد في صديقك فقال عز علي والله ما به ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته

الكميت وهشام بن عبد الملك
ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه وقال فيه فأتى

مسملة بن عبد الملك فاستجار به فقال إني أخشى ألا ينفعك جواري عنده ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام فقال كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك ففعل مسلمة وقال لابن أخيه قد أتيتك بشرف الدهر واعتقاد الصنيعة في مضر وأخبره الخبر فأجاره مسلمة بن هشام وبلغ ذلك هشاما فدعا به ثم قال أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره فقال كلا ولكني انتظرت سكون غضبه قال أحضرنيه الساعة فإنه لا جوار لك فقال مسلمة للكميت يا أبا المستهل إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك قال أتسلمني يا أبا شاكر قال كلا ولكني أحتال لك ثم قال له إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره
فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر فقال من هذا فقالوا لعله مستجير بالقبر فقال يجار من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له فقيل فإنه الكميت قال يحضر أعنف إحضار فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا ولا تفضحنا فيمن استجار به فبكى هشام حتى انتحب ثم أقبل على الكميت فقال له يا كميت أنت القائل

( وإلاَّ تَقُولوا غيرها تتعرّفوا ... نَواَصِيها تَرْدِي بِنَا وهي شُزَّبُ )
فقال لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال أما بعد فإني كنت أتدهدى في غمرة وأعوم في بحر غواية أخنى علي خطلها واستفزني وهلها فتحيرت في الضلالة وتسكعت في الجهالة مهرعا عن الحق جائرا عن القصد أقول الباطل ضلالا وأفوه بالبهتان وبالا وهذا مقام العائذ مبصر الهدى ورافض العمى فاغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة واصفح عن الزلة واعف عن الجرمة ثم قال
( كَمْ قالَ قائُلُكم لَعالكً ... عند عَثْرتِهِ لعاثِرْ )
( وغَفَرْتُمُ لِذَوِي الذنُوب ... ِ من الأكابرِ والأصاغِرْ )
( أبني أُميةَ إنُكْم ... أهلُ الوسائل والأوَامِرْ )
( ثِقَتي لكُلِّ مُلِمَّةٍ ... وعشِيرتي دُونَ العشائرْ )
( أنْتُمْ مَعَادِنُ للخلافة ... فَةِ كابِراً مِنْ بَعْدِ كابِر )

( بالتِّسْعَةِ المتتابعين ... خلائفاً وبخيْرِ عاشِرْ )
( وإلى القيامةِ لا تزال ... ُ لِشافعٍ منكمْ وَوَاتِرْ )
ثم قطع الإنشاد وعاد إلى خطبته فقال إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته ومناط المنتجعين بحبله من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين فضلا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين
فقال له ويلك يا كميت من زين لك الغواية ودلاك في العماية قال الذي أخرج أبانا من الجنة وأنساه العهد فلم يجد له عزما فقال إيه أنت القائل
( فيا مُوقداً ناراً لغيرك ضَوْؤها ... ويا حاطِباً في غير حَبْلك تحطِبُ )
فقال بل أنا القائل
( إلى آلِ بَيْتِ أبي مالكٍ ... مناخٌ هو الأرْحَبُ الأسْهَلُ )
( نَمُتُّ بأرْحامنا الدَّاخِلات ... مِنْ حيْثُ لا يُنْكَرُ المدخَلُ )
( بِبَرَّةَ والنَّضْر والمالِكين ... َ رَهْط هم الأنبلُ الأنبلُ )
( وبابْنَى ] خُزَيمة بَدْر السماء ... والشمس مفتاح ما نَأْمُلُ )
( وجَدْنا قريشاً قريشَ البِطاح ... على ما بَنى الأوّلُ الأوّلُ )
( بهم صَلُح الناسُ بعد الفساد ... وحِيص من الفَتْق ما رَعْبَلُوا )
قال له وأنت القائل
( لا كعَبْد المَلِيك أو كَوليدْ ... أو سُليمان بَعْدُ أو كهشام )

( مَنْ يَمُتْ لا يَمُتْ فقِيداً ومن يَحيىْ ... فلا ذُو إلٍّ ولا ذُو ذِمام )
ويلك يا كميت جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة فقال بل أنا القائل يا أمير المؤمنين
( فالآنَ صَرْتُ إلى أُميّة ... والأُمورُ إلى المَصايِرْ )
( والآنَ صِرْتُ بها المُصِيب ... كمُهْتَدٍ بالأمْسِ حَائِرْ )
( يَابْنَ العقائل للْعقائِل ... ِ والجحاجحةِ الأخايرْ )
( مِنْ عَبْد شمسٍ والأكابِر ... مِنْ أُميَّةَ فالأكابِرْ )
( إنَّ الخلافة والإلافَ ... برَغْمِ ذِي حَسَدٍ ووَاغِرْ )
( دَلفاً مِنَ الشَّرفِ التَّلِيد ... إليكَ بالرِّفْدِ المُوافِرْ )
( فحللتَ مُعْتَلجَ البِطاح ... ِ وحلَّ غيرك بالظواهِرْ )
قال له إيه فأنت القائل
( فقُلْ لبني أُميَّةَ حيْثُ حَلُّوا ... وإنْ خِفْتَ المُهَنَّد والقَطِيعا )
( أجاعَ اللهُ مَنْ أشبعتموه ... وأشبعَ مَنْ بجَوْركمُ أُجِيعَا )
( بمرْضيِّ السياسةِ هاشميٍّ ... يكونُ حَيّاً لأُمَّتِهِ رَبِيعَا )

فقال لا تثريب يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب قال بماذا قال بقولي الصادق
( أورثَتْهُ الحصانُ أمُّ هِشامٍ ... حَسَباً ثاقِباً ووَجْهاً نَضِيرا )
( وتعاطَى به ابنُ عائشةَ البدر ... َ فأمسى له رَقيباً نَظِيرَا )
( وكساه أبو الخلائف مَرْوَان ... ُ سَنِيَّ المكارِم المأثورَا )
( لم تجهَّمْ لَهُ البِطاحُ ولكِنْ ... وَجَدَتْها لَهُ مغاراً ودُورا )
وكان هشام متكئا فاستوى جالسا وقال هكذا فليكن الشعر - يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه - ثم قال قد رضيت عنك يا كميت فقبل يده وقال يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي ولا تجعل لخالد علي إمارة قال قد فعلت وكتب له بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوبا هشامية وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته ويعطيها عشرين ألفا وثلاثين ثوبا ففعل ذلك

الكميت وخالد بن عبد الله
وله مع خالد أخبار بعد قدومه الكوفة بالعهد الذي كتب له منها أنه مر به خالد يوما وقد تحدث الناس بعزله عن العراق فلما جاز تمثل الكميت
( أراها - وإن كانت تُحَبُّ - كأنها ... سحابةُ صَيْفٍ عن قليل تَقَشَّعُ )
فسمعه خالد فرجع وقال أما والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد ثم أمر به فجرد فضربه مائة سوط ثم خلى عنه ومضى هذه رواية ابن حبيب

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45