كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

أخبار البردان
البردان لقب غلب عليه ومن الناس من يقول بردان من أهل المدينة وأخذ الغناء عن معبد وقبله عن جميلة وعزة الميلاء وكان معدلا مقبول الشهادة وكان متولي السوق بالمدينة
قال هارون بن الزيات حدثني أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال هو بردان بضم الباء وتسكين الراء
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر وحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال قال إسحاق
كان بردان متولي السوق بالمدينة فقدم إليه رجل خصما يدعي عليه حقا فوجب الحكم عليه فأمر به إلى الحبس فقال له الرجل أنت بغير هذا أعلم منك بهذا فقال ردوه فرد فقال لعلك تعني الغناء إني والله به لعارف ولو سمعت شيئا جاء البارحة لازددت علماً بأني عارف ومهما جهلت فإني بوجوب الحق عليك عالم اذهبوا به إلى الحبس حتى يخرج إلى غريمه من حقه
سياط المغني يأخذ عنه أصواتا
ً
قال وحدثني أبو أيوب عن حماد عن أبيه عن ابن جامع عن سياط قال

رأيت البردان بالمدينة يتولى سوقها وقد أسن فقلت له يا عم إني رويت لك صوتا صنعته وأحببت أن تصححه لي فضحك ثم قال نعم يا بني وحبا وكرامة لعله
( كم أتى دون عهد أمّ جميل ... )
فقلت قال مل بنا إلى ها هنا فمال بي إلى دار في السوق ثم قال غنه فقلت بل تتم إحسانك يا عم وتغنيني به فإنه أطيب لنفسي فإن سمعته كما أقول غنيته وأنا غير متهيب وإن كان فيه مستصلح استعدته فضحك ثم قال أنت لست تريد أن تصحح غناءك إنما تريد أن تقول سمعتني وأنا شيخ وقد انقطعت وأنت شاب فقلت للجماعة إن رأيتم أن تسألوه أن يشفعني فيما طلبت منه فسألوه فاندفع فغناه فأعاده ثلاث مرات فما رأيت أحسن من غنائه على كبر سنه ونقصان صوته ثم قال غنه فغنيته فطرب الشيخ حتى بكى وقال اذهب يا بني فأنت أحسن الناس غناء ولئن عشت ليكونن لك شأن قال وكان بردان خفيف الروح طيب الحديث مليح النادرة مقبول الشهادة قد لقي الناس فكان بعد ذلك إذا رآني يدعوني فيأخذني معه إلى منزله ويسألني أن أغنيه فأفعل فإذا طابت نفسه سألته أن يطرح علي شيئاً من أغاني القدماء فيفعل إلى أن أخذت عنه عدة أصوات

صوت من المائة المختارة
( لمِنِ الدِّيارُ بحائِلٍ فُوعَالِ ... دَرَستْ وَغَيَّرها سِنُونَ خَوالِي )
( دَرَج البَوارِحُ فوقها فتنكَّرتْ ... بعد الأنيس مَعارِفُ الأطلال )

( دِمَنٌ تُذَعْذِعها الرياحُ وتارةً ... تعفو بمُرتَجِزٍ السَّحابِ ثِقَالِ )
( فكأنما هي من تَقادُمِ عهدِها ... وَرَقٌ نُشِرنَ من الكتاب بَوالِي )
الشعر للأخطل والغناء لسائب خاثر ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر من أصوات قليلة الأشباه وذكر عمرو بن بانة أن في الثاني والرابع من الأبيات للأبجر ثقيلا أول وذكر حبش أن لمعبد فيه ثقيلاً أول بالوسطى وأنه أحد السبعة وأن لإسحاق فيه ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن لحن إسحاق خفيف ثقيل

ذكر الأخطل وأخباره ونسبه
هو غياث بن غوث بن الصلت بن الطارقة ويقال ابن سيحان بن عمرو بن الفدوكس بن عمرو بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ويكنى ابا مالك وقال المدائني هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة قال ويقال لسلمة سلمة اللحام قال وبعث النعمان بن المنذر بأربعة أرماح لفرسان العرب فأخذ ابو براء عامر بن مالك رمحا وسلمة بن طارقة اللحام رمحا وهو جد الأخطل وأنس بن مدرك رمحا وعمرو بن معديكرب رمحا
والأخطل لقب غلب عليه ذكر هارون بن الزيات عن ابن النطاح عن أبي عبيدة أن السبب فيه أنه هجا رجلا من قومه فقال له يا غلام إنك الأخطل فغلبت عليه وذكر يعقوب بن السكيت أن عتبة بن الزعل بن عبد الله بن عمر بن عمرو بن حبيب بن الهجرس بن تيم بن سعد بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب حمل حمالة فأتى قومه يسأل فيها فجعل الأخطل يتكلم وهو يومئذ غلام فقال عتبة من هذا الغلام الأخطل فلقب به

قال يعقوب وقال غير أبي عبيدة إن كعب بن جعيل كان شاعر تغلب وكان لا يأتي منهم قوماً إلا أكرموه وضربوا له قبة حتى إنه كان تمد له حبال بين وتدين فتملأ له غنماً فأتى في مالك بن جشم ففعلوا ذلك به فجاء الأخطل وهو غلام فأخرج الغنم وطردها فسبه عتبة ورد الغنم إلى مواضعها فعاد وأخرجها وكعب ينظر إليه فقال إن غلامكم هذا الأخطل والأخطل السفيه فغلب عليه ولج الهجاء بينهما فقال الأخطل فيه
( سُمِّيتَ كعباً بشرّ العظام ... وكان أبوك يُسَمَّى الجُعَلْ )
( وإنّ مَحَلَّك من وائلٍ ... محلُّ القُرَاد من است الجمل )
فقال كعب قد كنت أقول لا يقهرني إلا رجل له ذكر ونبأ ولقد أعددت هذين البيتين لأن أهجى بهما منذ كذا وكذا فغلب عليهما هذا الغلام
وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي قال حدثني عيسى بن إسماعيل قال حدثني القحذمي قال
وقع بين ابني جعيل وأمهما ذرء من كلام فأدخلوا الأخطل بينهم فقال الأخطل
( لَعَمْرُك إنني وابْنَيْ جُعَيْلٍ ... وأُمَّهما لإستارٌ لئيمُ )
فقال ابن جعيل يا غلام إن هذا لخطل من رأيك ولولا أن أمي سمية

أمك لتركت أمك يحدو بها الركبان فسمي الأخطل بذلك وكان اسم أمهما وأم الأخطل ليلى
وقال هارون حدثني إسماعيل بن مجمع عن ابن الكلبي عن قوم من تغلب في قصة كعب بن جعيل والأخطل بمثل ما ذكره يعقوب عن غير أبي عبيدة ممن لم يسمه وقال فيها وكان الأخطل يومئذ يقرزم والقرزمة الابتداء بقول الشعر فقال له أبوه أبقرزمتك تريد أن تقاوم ابن جعيل وضربه قال وجاء ابن جعيل على تفئة ذلك فقال من صاحب الكلام فقال أبوه لا تحفل به فإنه غلام أخطل فقال له كعب
( شَاهِدُ هذا الوجه غِبَّ الحُمَّهْ ... )
فقال الأخطل
( فناك كعبُ بن جُعَيْلٍ أُمَّهْ ... )
فقال كعب ما اسم أمك قال ليلى قال أردت أن تعيذها باسم أمي قال لا أعاذها الله إذا وكان اسم أم الأخطل ليلى وهي امرأة من إياد فسمي الأخطل يومئذ وقال
( هجا الناسُ ليلى أُمَّ كَعْبٍ فمُزِّقتْ ... فلم يبقَ إلا نَفْنَفٌ أنا رافعُهْ )
وقال فيه أيضا
( هجاني المُنْتِنَانِ ابنا جُعَيْلٍ ... وأيُّ الناسِ يقتله الهجاءُ )
( وُلِدتم بعد إخوتكم منَ استٍ ... فهَلاَّ جئتُمُ من حيث جاؤوا )
فانصرف كعب ولج الهجاء بينهما

من هو الأشعر الأخطل أم جرير أم الفرزدق
وكان نصرانيا من أهل الجزيرة ومحله في الشعر أكبر من أن يحتاج إلى وصف وهو وجرير والفرزدق طبقة واحدة فجعلها ابن سلام أول طبقات الإسلام ولم يقع إجماع على أحدهم أنه أفضل ولكل واحد منهم طبقة تفضله عن الجماعة
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن أبي عبيدة قال
جاء رجل إلى يونس فقال له من أشعر الثلاثة قال الأخطل قلنا من الثلاثة قال أي ثلاثة ذكروا فهو أشعرهم قلنا عمن تروي هذا قال عن عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق الحضرمي وأبي عمرو بن العلاء وعنبسة الفيل وميمون الأقرن الذين ماشوا الكلام وطرقوه أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز قال قال أبو عبيدة عن يونس فذكر مثله وزاد فيه لا كأصحابك هؤلاء لا بدويون ولا نحويون فقلت للرجل سله وبأي شيء فضلوه قال بأنه كان أكثرهم عدد طوال جياد ليس فيها سقط ولا فحش وأشدهم تهذيبا للشعر فقال ابو وهب الدقاق أما إن حماداُ وجناداً كانا لا يفضلانه فقال وما حماد وجناد لا نحويان ولا بدويان ولا يبصران الكسور ولا يفصحان وأنا

أحدثك عن أبناء تسعين أو أكثر أدوا إلى أمثالهم ماشوا الكلام وطرقوه حتى وضعوا أبنيته فلم تشذ عنهم زنة كلمة وألحقوا السليم بالسليم والمضاعف بالمضاعف والمعتل بالمعتل والأجوف بالأجوف وبنات الياء بالياء وبنات الواو بالواو فلم تخف عليهم كلمة عربية وما علم حماد وجناد
قال هارون حدثني القاسم بن يوسف عن الأصمعي
أن الأخطل كان يقول تسعين بيتاً ثم يختار منها ثلاثين فيطيرها
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال أخبرنا محمد بن سلام قال سمعت سلمة بن عياش وذكر أهل المجلس جريراً والفرزدق والأخطل ففضله سلمة عليهما قال وكان إذا ذكر الأخطل يقول ومن مثل الأخطل وله في كل بيت شعر بيتان ثم ينشد قوله
( ولقد علمت إذا العِشارُ تَرَوَّحتْ ... هَدَجَ الرِّئال تَكُبُّهُنَّ شَمَالا )
( أنَّا نُعَجِّلُ بالعَبِيطِ لضيفِنا ... قبل العِيال ونضرب الأبطالا )
ثم يقول ولو قال
( ولقد علمت إذا العِشارُ ... تروّحت هَدَجَ الرئال )
كان شعراً وإذا زدتَ فيه تكبهن شمالا كان أيضا شعراً من روي آخر
أخبرنا ابو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال

كعب بن جعيل لقبه الأخطل سمعه ينشد هجاء فقال يا غلام إنك لأخطل اللسان فلزمته
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثنا بعض أصحابنا عن رجل من بني سعد قال
كنت مع نوح بن جرير في ظل شجرة فقلت له قبحك الله وقبح أباك أما أبوك فأفنى عمره في مديح عبد ثقيف يعني الحجاج وأما أنت فامتدحت قثم بن العباس فلم تهتد لمناقبه ومناقب آبائه حتى امتدحته بقصر بناه فقال والله لئن سؤتني في هذا الموضع لقد سؤت فيه أبي بينا أنا آكل معه يوماً وفي فيه لقمة وفي يده أخرى فقلت يا ابت أنت أشعر أم الأخطل فجرض باللقمة التي في فيه ورمى بالتي في يده وقال يا بني لقد سررتني وسؤتني فأما سرورك إياي فلتعهدك لي مثل هذا وسؤالك عنه وأما ما سؤتني به فلذكرك رجلا قد مات يا بني أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني به ولكني أعانتني عليه خصلتان كبر سن وخبث دين
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال
( سئل حماد الراوية عن الأخطل فقال ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية
قال إسحاق وحدثني ابو عبيدة قال قال أبو عمرو لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً
قال إسحاق وحدثني الأصمعي أن أبا عمرو أنشد بيت شعر فاستجاده وقال لو كان للأخطل ما زاد

وذكر يعقوب بن السكيت عن الأصمعي عن أبي عمرو
أن جريراً سئل أي الثلاثة أشعر فقال أما الفرزدق فتكلف مني ما لا يطيق وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للفرائص وأما أنا فمدينة الشعر
وقال ابن النطاح حدثني الأصمعي قال
إنما أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم وكان الأخطل أسن من جرير وكان جرير يقول أدركته وله ناب واحد ولو أدركت له نابين لأكلني قال وكان أبو عمرو يقول لو أدرك الأخطل يوما واحداً من الجاهلية ما فضلت عليه أحداً
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
قال العلاء بن جرير إذا لم يجىء الأخطل سابقاً فهو سكيت والفرزدق لا يجىء سابقاً ولا سكيتاً وجرير يجيء سابقا ومصلياً وسكيتاً
وقال يعقوب بن السكيت قال الأصمعي
قيل لجرير ما تقول في الأخطل قال كان أشدنا اجتزاء بالقليل وأنعتنا للحمر والخمر
وروى إسماعيل عن عبيد الله عن مؤرج عن شعبة عن سماك بن حرب
أن الفرزدق دخل الكوفة فلقيه ضوء بن اللجلاج فقال له من أمدح

أهل الإسلام فقال له وما تريد إلى ذلك قال تمارينا فيه قال الأخطل أمدح العرب
وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مسلم عن حفص بن عمر قال
سمعت شيخاً كان يجلس إلى يونس كان يكنى أبا حفص فحدثه انه سأل جريراً عن الأخطل فقال أمدح الناس لكريم وأوصفه للخمر قال وكان ابو عبيدة يقول شعراء الإسلام الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق قال أبو عبيدة وكان ابو عمرو يشبه الأخطل بالنابغة لصحة شعره
وقال ابن النطاح حدثني عبد الله بن رؤية بن العجاج قال
كان أبو عمرو يفضل الأخطل
وقال ابن النطاح حدثني عبد الرحمن بن برزخ قال كان حماد يفضل الأخطل على جرير والفرزدق فقال له الفرزدق إنما تفضله لأنه فاسق مثلك فقال لو فضلته بالفسق لفضلتك
قال ابن النطاح قال لي إسحاق بن مرار الشيباني الأخطل عندنا أشعر الثلاثة فقلت يقال أنه أمدحهم فقال لا والله ولكن أهجاهم من منهما يحسن أن يقول
( ونحن رفعنا عن سَلُولَ رماحَنا ... وعَمْداً رَغِبنا عن دماء بني نَصْرِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال
قال الأخطل أشعر الناس قبيلة بنو قيس بن ثعلبة وأشعر الناس بيتا آل

أبي سلمى وأشعر الناس رجل في قميصي

عبد الملك بن مروان يجيزه على مدحه
أخبرني الحسن قال حدثني محمد قال حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن حماد هكذا قال وأظنه علي بن مجاهد قال
قال الأخطل لعبد الملك يا امير المؤمنين زعم ابن المراغة أنه يبلغ مدحتك في ثلاثة أيام وقد أقمت في مدحتك
( خَفّ القَطِينُ فراحوا منك أو بَكَرُوا ... )
سنة فما بلغت كل ما أردت فقال عبد الملك فأسمعناها يا أخطل فأنشده إياها فجعلت أرى عبد الملك يتطاول لها ثم قال ويحك يا أخطل أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب قال أكتفي بقول أمير المؤمنين وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت دراهم وألقى عليه خلعا وخرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول هذا شاعر أمير المؤمنين هذا أشعر العرب
وقال ابن الزيات حدثني جعفر بن محمد بن عيينة بن المنهال عن هشام عن عوانة قال
أنشد عبد الملك قول كثير فيه
( فما تركوها عَنْوةً من مودَّةٍ ... ولكن بحَدِّ المَشْرَفِيّ استقالَها )
فأعجب به فقال له الأخطل ما قلت لك والله يا أمير المؤمنين أحسن

منه قال وما قلت قال قلت
( أَهَلُّوا من الشهر الحَرَامِ فأصبحوا ... مَوالِيَ مُلْكٍ لا طَرِيفٍ ولا غَصْبِ )
جعلته لك حقا وجعلك أخذته غصبا قال صدقت

ادعاؤه بأنه اشعر من جرير والفرزدق
قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال أخبرنا عمر بن شبة قال أخبرنا أبو دقاقة الشامي مولى قريش عن شيخ من قريش قال
رأيت الأخطل خارجا من عند عبد الملك فلما انحدر دنوت منه فقلت يا أبا مالك من أشعر العرب قال هذان الكلبان المتعاقران من بني تميم فقلت فأين أنت منهما قال أنا واللات أشعر منهما قال فحلف باللات هزؤا واستخفافا بدينه
وروى هذا الخبر أبو أيوب المديني عن المدائني عن عاصم بن شبل الجرمي أنه سأل الأخطل عن هذا فذكر نحوه وقال واللات والعزى
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال ذكر الحرمازي
أن رجلا من بني شيبان جاء إلى الأخطل فقال له يا أبا مالك إنا وإن كنا بحيث تعلم من افتراق العشيرة واتصال الحرب والعداوة تجمعنا ربيعة وإن لك عندي نصحا فقال هاته فما كذبت فقلت إنك قد هجوت جريرا ودخلت بينه وبين الفرزدق وأنت غني عن ذلك ولا سيما أنه يبسط لسانه بما ينقبض عنه لسانك ويسب ربيعة سبا لا تقدر على سب مضر بمثله والملك فيهم والنبوة قبله فلو شئت أمسكت عن مشارته ومهارته فقال صدقت في

نصحك وعرفت مرادك وصلتك رحم فوالصليب والقربان لأتخلصن إلى كليب خاصة دون مضر بما يلبسهم خزيه ويشملهم عاره ثم اعلم أن العالم بالشعر لا يبالي وحق الصليب إذا مر به البيت المعاير السائر الجيد أمسلم قاله أم نصراني
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني عن أبي الحسن المدائني قال
أصبح عبد الملك يوما في غداة باردة فتمثل قول الأخطل
( إذا اصطبح الفتى منها ثلاثاً ... بغير الماءِ حاول أن يَطُولاَ )
( مَشَى قرشيَّةً لا شكَّ فيها ... وأرخَى من مآزِرِه الفُضولا )
ثم قال كأني أنظر إليه الساعة مجلل الإزار مستقبل الشمس في حانوت من حوانيت دمشق ثم بعث رجلا يطلبه فوجده كما ذكره
وقال هارون بن الزيات حدثني طائع عن الأصمعي قال أنشد أبو حية النميري يوما أبا عمرو
( يا لَمَعَدٍّ ويا لَلَّناسِ كلِّهمُ ... ويا لَغائبهم يوماً ومَنْ شَهِدا )
كأنه معجب بهذا البيت فجعل أبو عمرو يقول له إنك لتعجب بنفسك كأنك الأخطل

حواره مع عبد الملك بعد أن عرض عليه الإسلام
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الغلابي عن عبد الرحمن التيمي عن

هشام بن سليمان المخزومي
أن الأخطل قدم على عبد الملك فنزل على ابن سرحون كاتبه فقال عبد الملك على من نزلت قال على فلان قال قاتلك الله ما أعلمك بصالح المنازل فما تريد أن ينزلك قال درمك من درمككم هذا ولحم وخمر من بيت رأس فضحك عبد الملك ثم قال له ويلك وعلى أي شيء اقتتلنا إلا على هذا ثم قال ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف قال فكيف بالخمر قال وما تصنع بها وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر فقال أما إذا قلت ذلك فإن فيما بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع فضحك ثم قال ألا تزور الحجاج فإنه كتب يستزيرك فقال أطائع ام كاره قال بل طائع قال ما كنت لأختار نواله على نوالك ولا قربه على قربك إنني إذا لكما قال الشاعر
( كَمُبْتاعٍ ليركبَه حماراً ... تَخَيَّره من الفرس الكبير )
فأمر له بعشرة آلاف درهم وأمره بمدح الحجاج فمدحه بقوله
( صَرَمتْ حِبالَك زينبٌ ورَعُومُ ... وبَدَا المُجَمْجَمُ منهما المكتومُ )
ووجه بالقصيدة مع ابنه إليه وليست من جيد شعره
وقال هارون بن الزيات حدثني محمد بن إسماعيل عن أبي غسان قال

ذكروا الفرزدق وجريرا في حلقة المدائني فقلت لصباح بن خاقان أنشدك بيتين للأخطل وتجيء لجرير والفرزدق بمثلهما قال هات فأنشدته
( ألَمْ يأتِها أنّ الأرَاقِمَ فَلَّقَتْ ... جَمَاجِمَ قَيْسٍ بين رَاذَانَ والحَضْرِ )
( جَمَاجِم قومٍ لم يَعافوا ظُلامَةً ... ولم يعرِفوا أين الوفاءُ من الغَدْرِ )
قال فسكت
قال إسحاق وحدثني أبو عبيدة أن يونس سئل عن جرير والفرزدق والأخطل أيهم أشعر قال أجمعت العلماء على الأخطل فقلت لرجل إلى جنبه سله ومن هم فقال من شئت ابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن هؤلاء طرقوا الكلام وماشوه لا كمن تحكمون عنه لا بدويين ولا نحويين فقلت للرجل سله وبأي شيء فضل على هؤلاء قال بأنه كان أكثرهم عدد قصائد طوال جياد ليس فيها فحش ولا سقط قال أبو عبيدة فنظرنا في ذلك فوجدنا للأخطل عشرا بهذه الصفة وإلى جانبها عشرا إن لم تكن مثلها فليست بدونها ووجدنا لجرير بهذه الصفة ثلاثا قال إسحاق فسألت أبا عبيدة عن العشر فقال
( عَفَا واسِطٌ من آل رَضْوَى فنَبْتَلُ ... ) و
( تأبَّد الرَّبْعُ من سَلْمَى بأحفارِ ... )

و
( خَفّ القَطينُ فراحوا منك وابتكَروا ... ) و
( كَذَبْتك عينُك أم رأيتَ بواسطٍ ... ) و
( دَعِ المُعَمَّر لا تسأل بمَصْرَعِه ... ) و
( لمن الديارُ بحائلٍ فوُعَالِ ... )
قال إسحاق ولم احفظ بقية العشر قال وقصائد جرير
( حيِّ الهِدَمْلةَ من ذات المَوَاعِيسِ ... ) و
( أَلاَ طرقتَكَ وأهلي هُجُودُ ... ) و
( أَهَوًى أَراكَ برامَتَيْنِ وُقودا ... )
قال وقال أبو عبيدة الأخطل أشبه بالجاهلية وأشدهم أسر شعر وأقلهم سقطا
واخبرنا الجوهري عن عمر بن شبة عن أبي عبيدة مثله
وفي بعض هذه القصائد التي ذكرت للأخطل اغان هذا موضع ذكرها
منها

صوت
( تأبّد الرَّبْعُ من سَلْمَى بأحفارِ ... وأَقْفرتْ من سُلَيْمَى دِمْنةُ الدارِ )
( وقد تَحُلُّ بها سَلْمَى تُجاذِبُني ... تَسَاقُطَ الحَلْي حاجاتي وأسراري )
غناه عمر الوادي هزجا بالسبابة في مجرى الوسطى وسنذكر خبر هذا الشعر في أخبار عبد الرحمن بن حسان لما هجاه الأخطل وهجا الأنصار إذ كان هذا الشعر قيل في ذلك

ومنها
صوت
( خَفّ القَطِينُ فراحوا منك وابتكروا ... وأزعجتْهم نَوَّى في صَرْفِها غِيَرُ )
( كانَّني شاربٌ يوم استُبِدَّ بهم ... من قَهْوةٍ ضُمِّنَتْها حِمْصُ أو جَدَرُ )
( جادتْ بها من ذواتِ القارِ مُتْرَعةٌ ... كَلْفاءُ يَنْحَتُّ عن خُرْطومها المَدَر )
غناه إبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر ولابن سريج فيه رمل بالوسطى عن عمرو وفيه رمل آخر يقال إنه لعلويه ويقال إنه لإبراهيم وفيه لعلويه خفيف ثقيل آخر لا يشك فيه

بماذا أجاب عمر بن الوليد عندما سأله عن أشعر الناس
وقال هارون بن الزيات حدثني ابن النطاح عن أبي عمرو الشيباني عن رجل من كلب يقال له مهوش عن أبيه
أن عمر بن الوليد بن عبد الملك سأل الأخطل عن أشعر الناس قال الذي كان إذا مدح رفع وإذا هجا وضع قال ومن هو قال الأعشى قال ثم من قال ابن العشرين يعني طرفة قال ثم من قال أنا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثنا أبو قحافة المري عن أبيه قال
دخل الأخطل على بشر بن مروان وعنده الراعي فقال له بشر أنت

أشعر أم هذا قال أنا أشعر منه واكرم فقال للراعي ما تقول قال أما أشعر مني فعسى وأما اكرم فإن كان في أمهاته من ولدت مثل الأمير فنعم فلما خرج الأخطل قال له رجل أتقول لخال الأمير أنا أكرم منك قال ويلك إن أبا نسطوس وضع في رأسي أكؤساً ثلاثا فوالله ما أعقل معها

أنشد عبد الملك وهو نشوان
قال ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده فقال قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال اسقوه ماء فقال شراب الحمار وهو عندنا كثير قال فاسقوه لبنا قال عن اللبن فطمت قال فاسقوه عسلا قال شراب المريض قال فتريد ماذا قال خمرا يا أمير المؤمنين قال أوعهدتني اسقي الخمر لا أم لك لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت فخرج فلقي فراشا لعبد الملك فقال ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي فاسقني شربة خمر فسقاه فقال اعدله بآخر فسقاه آخر فقال تركتهما يعتركان في بطني اسقني ثالثا فسقاه ثالثاً فقال تركتني أمشي على واحدة اعدل ميلي برابع فسقاه رابعا فدخل على عبد الملك فأنشده
( خَفّ القطينُ فراحوا منك وابتكَروا ... وأزعجتْهم نَوًى في صرفها غِيَرُ )
فقال عبد الملك خذ بيده يا غلام فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره واحسن جائزته وقال إن لكل قوم شاعرا وإن شاعر بني أمية الأخطل
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال قال أبان بن عثمان حدثني سماك بن حرب عن ضوء بن اللجلاج قال

دخلت حماما بالكوفة وفيه الأخطل قال فقال ممن الرجل قلت من بني ذهل قال أتروي للفرزدق شيئا قلت نعم قال ما أشعر خليلي على أنه ما أسرع ما رجع في هبته قلت وما ذاك قال قوله
( أَبَني غُدَانَةَ إنَّني حَرَّرتكم ... فوَهبتُكم لعطيَّة بن جِعَالِ )
( لولا عَطِيَّةُ لاجتدعتُ أُنوفَكم ... من بين ألأم آنُفٍ وسِبَالِ )
وهبهم في الأول ورجع في الآخر فقلت لو أنكر الناس كلهم هذا ما كان ينبغي أن تنكره أنت قال كيف قلت هجوت زفر بن الحارث ثم خوفت الخليفة منه فقلت
( بني أُميَّةَ إنِّي ناصحٌ لكمُ ... فلا يَبِيتنَّ فيكم آمِناً زُفَرُ )
( مفترشاً كافتراش اللَّيث كَلْكَلَه ... لوقعةٍ كائنٍ فيها له جَزَرُ )
مدحت عكرمة بن ربعي فقلت
( قد كنتُ أحسَبه قَيْناً وأُخْبَرُه ... فاليومَ طُيِّرَ عن أثوابه الشَّرَرُ )
قال لو أردت المبالغة في هجائه ما زدت على هذا فقال له الأخطل والله لولا أنك من قوم سبق لي منهم ما سبق لهجوتك هجاء يدخل معك قبرك ثم قال
( ما كنتَ هاجِيَ قوم بعد مَدْحِهِمُ ... ولا تُكَدَّرُ نُعْمَى بعد ما تَجِبُ )

أخرج عني
وقال هارون بن الزيات حدثني أحمد بن إسماعيل الفهري عن أحمد بن عبد العزيز بن علي بن ميمون عن معن بن خلاد عن ابيه قال
لما استنزل عبد الملك زفر بن الحارث الكلابي من قرقيسيا أقعده معه على سريره فدخل عليه ابن ذي الكلاع فلما نظر إليه مع عبد الملك على السرير بكى فقال له ما يبكيك فقال يا أمير المؤمنين كيف لا أبكي وسيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافه عليك ثم هو معك على السرير وأنا على الأرض قال إني لم أجلسه معي أن يكون أكرم علي منك ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني فبلغت الأخطل وهو يشرب فقال أما والله لأقومن في ذلك مقاما لم يقمه ابن ذي الكلاع ثم خرج حتى دخل على عبد الملك فلما ملأ عينه منه قال
( وكأسٍ مثلِ عين الدِّيكِ صِرْفٍ ... تُنَسِّي الشاربين لها العقولاَ )
( إذا شَرِب الفَتَى منها ثلاثاً ... بغير الماءِ حاول أن يَطُولاَ )
( مَشَى قُرَشية لا شكَّ فيها ... وأرخَى من مآزره الفُضولاَ )
فقال له عبد الملك ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك قال اجل والله يا أمير المؤمنين حين تجلس عدو الله هذا معك على السرير وهو القائل بالأمس
( وقد يَنْبُت المَرْعَى على دِمَنِ الثَّرَى ... وتبقَى حزازاتُ النفوسِ كما هيا )

قال فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير وقال أذهب الله حزازات تلك الصدور فقال أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعهد الذي أعطيتني فكان زفر يقول ما أيقنت بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال
وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مسلم عن سعيد بن الحارث عن عبد الخالق بن حنظلة الشيباني قال
قال الأخطل فضلت الشعراء في المديح والهجاء والنسيب بما لا يلحق بي فيه فأما النسيب فقولي
( أَلاَ يا اسْلَمِي يا هندُ هندَ بني بَدْرِ ... وإن كان حيَّانَا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ )
( من الخَفِراتِ البِيضِ أمَّا وِشَاحُها ... فيجري وأمَّا القُلْبُ منها فلا يجري )
( تموت وتحيا بالضجيع وتلتوي ... بمُطَّرِد المَتْنَيْن مُنْبَترِ الخَصْرِ )
وقولي في المديح
( نفسِي فداءُ أمير المؤمنين إذا ... أبدى النَّواجِذَ يوماً عارِمٌ ذَكَرُ )
( الخائضُ الغمرةِ الميمونُ طائرهُ ... خليفةُ اللَّه يُسْتَسْقَى به المَطَرُ )
وقولي في الهجاء
( وكنتَ إذا لَقِيتَ عبيدَ تَيْمٍ ... وتيماً قلتَ أيُّهمُ العبيدُ )
( لئيمُ العالَمين يَسُودُ تَيْماً ... وسيِّدُهم وإن كَرِهوا مَسُودُ )
قال عبد الخالق وصدق لعمري لقد فضلهم

طلق زوجته وتزوج من مطلقة
أخبرني احمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية عن محمد بن داود قال
طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك فبينا هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست فقال الأخطل
( كِلاَنَا على هَمٍّ يبيتُ كأنما ... بجَنْبَيْهِ من مَسِّ الفِراش قُروحُ )
( على زوجِها الماضي تنوحُ وإنني ... على زوجتي الأُخْرى كذاك أنوحُ )
أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش
أن الأخطل قال لعبد الملك بن المهلب ما نازعتني نفسي قط إلى مدح أحد ما نازعتني إلى مدحكم فأعطني عطية تبسط بها لساني فوالله لأردينكم أردية لا يذهب صقالها إلى يوم القيامة فقال أعلم والله يا أبا مالك أنك بذلك مليء ولكني أخاف أن يبلغ أمير المؤمنين أني أسأل في غرم وأعطي الشعراء فأهلك ويظن ذلك مني حيلة فلما قدم على إخوته لاموه كل اللوم فيما فعله فقال قد أخبرته بعذري
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال أبو الخطاب حدثني نوح بن جرير قال
قلت لأبي أنت أشعر أم الأخطل فنهرني وقال بئس ما قلت وما أنت وذاك لا أم لك فقلت وما أنا وغيره قال لقد أعنت عليه بكفر وكبر سن وما رأيته إلا خشيت أن يبتلعني

أخبرني عمَّي عن الكراني عن دماذ عن أبي عبيدة قال
( قال رجل لأبي عمرو يا عجباً للأخطل نصراني كافر يهجو المسلمين فقال أبو عمرو يا لكع لقد كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وحرز خز في عنقه سلسة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمراً حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن

ابو العسكر يصنف الشعراء الثلاثة
وقال هارون حدثني أحمد بن إسماعيل الفهري عن أحمد بن عبد الله بن علي الدوسي عن معقل بن فلان عن أبيه عن أبي العسكر قال
كنا بباب مسلمة بن عبد الملك فتذاكرنا الشعراء الثلاثة فقال أصحابي حكمناك وتراضينا بك فقلت نعم هم عندي كأفراس ثلاثة أرسلتهن في رهان فأحدها سابق الدهر كله وأحدها مصل وأحدها يجيء أحيانا سابق الريح وأحيانا سكيتا وأحيانا متخلفاً فأما السابق في كل حالاته فالأخطل وأما المصلي في كل حالاته فالفرزدق وأما الذي يسبق الريح أحيانا ويتخلف أحيانا فجرير ثم أنشد له
( سَرَى لهمُ ليلٌ كأنّ نجومَه ... قناديلُ فيهنّ الذُّبَالُ المُفَتَّلُ )
وقال أحسن في هذا وسبق ثم أنشد
( التَّغْلَبِيَّةُ مَهْرُها فَلْسانِ ... والتغلَبيّ جنازةُ الشَّيْطانِ )
وقال تخلف في هذه فخرجنا من عنده على هذا

وقال هارون بن الزيات حدثني محمد بن عمرو الجرجاني عن أبيه
أن الفرزدق والأخطل بينا هما يشربان وقد اجتمعا بالكوفة في إمارة بشر بن مروان إذ دخل عليهما فتًى من أهل اليمامة فقالا له هل تروي لجرير شيئاً فأنشدهما
( لو قد بعثتُ على الفرزدقِ مِيسمِي ... وعلى البَعِيثِ لقد نكحتُ الأخطلاَ )
فأقبل الفرزدق فقال يا ابا مالك أتراه إن وسمني يتوركك على كبر سنك ففزع الفتى فقام وقال أنا عائذ بالله من شركما فقالا اجلس لا بأس عليك ونادماه بقية يومهما

الفرزدق في ضيافته
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو يعلى قال حدثني عبد السلام بن حرب قال
نزل الفرزدق على الأخطل ليلاً وهو لا يعرفه فجاءه بعشاء ثم قال له إني نصراني وأنت حنيف فأي الشراب أحب إليك قال شرابك ثم جعل الأخطل لا ينشد بيتا إلا أتم الفرزدق القصيدة فقال الأخطل لقد نزل بي الليلة شر من أنت قال الفرزدق بن غالب قال فسجد لي وسجدت له فقيل للفرزدق في ذلك فقال كرهت أن يفضلني فنادى الأخطل يا بني تغلب هذا الفرزدق فجمعوا له إبلاً كثيرة فلما اصبح فرقها ثم شخص
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان مما يقدم به الأخطل أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف عن الفحش وقال الأخطل ما هجوت أحداً قط بما تستحي العذراء أن تنشده أباها

أخبرني أحمد وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عباد الموصلي قال
خرج يزيد بن معاوية معه عام حج بالأخطل فاشتاق يزيد أهله فقال
( بكَى كلُّ ذي شَجْوٍ من الشام شاقَهُ ... تَهامٍ فأنَّى يلتقي الشَّجِيَانِ )
أجز يا أخطل فقال
( يغُور الذي بالشام أو يُنْجِدُ الذي ... بغَوْرِ تهاماتٍ فيلتقيان )
أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال
قيل لأبي العباس أمير المؤمنين إن رجلاً شاعراً قد مدحك فتسمع شعره قال وما عسى أن يقول في بعد قول ابن النصرانية في بني أمية
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتقادَ لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا )

خبر له مع أمه
أخبرني به وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي بمثله
قال هارون وحدثني هارون بن سليمان عن الحسن بن مروان التميمي عن أبي بردة الفزاري عن رجل من تغلب قال
لحظ الأخطل شكوة لأمه فيها لبن وجرابا فيه تمر وزبيب وكان جائعا وكان يضيق عليه فقال لها يا أمّه آل فلان يزورونك ويقضون حقك وأنت لا تأتينهم وعندهم عليل فلو أتيتهم لكان اجمل وأولى بك قالت جزيت خيراً يا بني لقد نبهت على مكرمة وقامت فلبست ثيابها ومضت إليهم فمضى

الأخطل إلى الشكوة ففرغ ما فيها وإلى الجراب فأكل التمر والزبيب كله وجاءت فلحظت موضعها فرأته فارغاً فعلمت أنه قد دهاها وعمدت إلى خشبة لتضربه بها فهرب وقال
( أَلَمَّ على عِنَبات العجوزِ ... وشَكْوَتها من غِيَاثٍ لَمَمْ )
( فظلَّت تُنادي أَلاَ وَيْلَها ... وتَلْعَن واللعنُ منها أَمَمْ )
وذكر يعقوب بن السكيت هذه القصة فحكى أنها كانت مع امرأة لأبيه لها منه بنون فكانت تؤثرهم باللبن والتمر والزبيب وتبعث به يرعى أعنزاً لها وسائر القصة والشعر متفق وقال في خبره وهذا أول شعر قاله الأخطل

نسيبه بأمامة ورعوم
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن فيروز عن الأصمعي عن أمامة ورعوم اللتين قال فيهما الأخطل
( صَرَمتْ أَمَامَةُ حبلَها ورَعومُ ... )
ورعوم وأمامة بنتا سعيد بن إياس بن هانىء بن قبيصة وكان الأخطل نزل عليه فأطعمه وسقاه خمراً وخرجتا وهما جويريتان فخدمتاه ثم نزل عليه ثانية وقد كبرتا فحجبتا عنه فسأل عنهما وقال فأين ابنتاي فأخبر بكبرهما فنسب بهما قال والرعوم هي التي كانت عند قتيبة بن مسلم وكان يقال لها أم الأخماس تزوجت في أخماس البصرة محمد بن المهلب وعامر بن مسمع وعباد بن الحصين وقتيبة بن مسلم وكان يقال لها الجارود

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال قال أبو عبد الملك
كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل وكان يدخل المسجد فيقدمون إليه قال فرأيته بالجزيرة وقد شكي إلى القس وقد أخذ بلحيته وضربه بعصاه وهي يصيء كما يصيء الفرخ فقلت له أين هذا مما كنت فيه بالكوفة فقال يابن أخي إذا جاء الدين ذللنا
وقال يعقوب بن السكيت زعم غيلان عن يحيى بن بلال عن عمر بن عبد الله عن داود بن المساور قال
( دخلت إلى الأخطل فسلمت عليه فنسبني فانتسبت واستنشدته فقال أنشدك حبة قلبي ثم أنشدني
( لَعَمْرِي لقد أَسْريتُ لا ليلَ عاجز ... بسَلْهَبَةِ الخَدَّيْنِ ضاويةِ القُرْبِ )
( إليكَ أميرَ المؤمنين رَحَلْتُها ... على الطائِر الميمون والمنزل الرَّحْبِ )
فقلت من أشعر الناس قال الأعشى قلت ثم من قال ثم أنا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن أبي أيوب المديني عن المدائني قال
امتدح الأخطل هشاما فأعطاه خمسمائة درهم فلم يرضها وخرج فاشترى بها تفاحاً وفرقه على الصبيان فبلغ ذلك هشاماً فقال قبحه الله ما ضر إلا نفسه

وقال يعقوب بن السكيت حدثني سلمة النميري وتوفي وله مائة وأربعون سنة أنه حضر هشاماً وله يومئذ تسع عشرة سنة وحضر جرير والفرزدق والأخطل عنده فأحضر هشام ناقة له فقال متمثلا
( أنيخها ما بَدَا لِي ثم أَرْحَلُها ... )
( ثم قال أيكم أتم البيت كما أريد فهي له فقال جرير
( كأنَّها نِقْنِقٌ يَعْدُو بصَحْراءِ ... )
( فقال لم تصنع شيئا فقال الفرزدق
( كأنَّها كاسِرٌ بالدَّوّ فَتْخاءُ ... )
فقال لم تغن شيئاً فقال الأخطل
( تُرْخِي المَشافِرَ واللَّحْيينِ إرخاءَ ... ) فقال اركبها لا حملك الله

هجا جارية بعد أن هجته
وقال هارون بن الزيات حدثني الخراز عن المدائني قال
هجت الأخطل جارية من قومه فقال لأبيها يا أبا الدلماء إن ابنتك تعرضت لي فاكففها فقال له هي امرأة مالكة لأمرها فقال الأخطل
( أَلاَ أَبْلِغْ أبا الدَّلْمَاءِ عنِّي ... بأن سِنانَ شاعركم قصيرُ )
( فإنْ يَطْعُنْ فليس بذي غَناءٍ ... وإن يُطْعَنْ فمَطْعنَهُ يسيرُ )
( متى ما ألقَه ومعي سِلاحي ... يخِرّ على قفاه فلا يُحِيرُ )

فمشى أبوها في رجال من قومه إلى الأخطل فكلموه فقال أما ما مضى فقد مضى ولا أزيد
أخبرنا ابو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال
لما حضرت الأخطل الوفاة قيل له يا أبا مالك ألا توصي فقال
( أوَصِّي الفرزدق عند المماتِ ... بأُمِّ جريرٍ وأعيارِها )
( وزار القبورَ ابو مالكٍ ... برغم العُداة وأَوْتارِها )

راي كبار الرواة فيه
أخبرنا أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال قال لي معاوية بن أبي عمرو بن العلاء أي البيتين عندك أجود قول جرير
( ألستم خيرَ مَنْ رَكِب المَطَايَا ... وأَنْدَى العالمين بُطُونَ رَاحِ )
أم قول الأخطل
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتَقادَ لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا )
فقلت بيت جرير أحلى وأسير وبيت الأخطل أجزل وأرزن فقال صدقت وهكذا كانا في أنفسهما عند الخاصة والعامة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الحلبي وجعفر بن سعيد أن رجلاً سأل حماداً الراوية عن الأخطل فقال ويحكم ما أقول في شعر رجل قد والله حبب إلي شعره النصرانية
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن أبي عبيدة قال كان يونس بن حبيب وعيسى بن عرم وابو عمرو يفضلون الأخطل على الثلاثة

وقال هارون بن الزيات حدثني أبو عثمان المازني عن العتبي عن أبيه
أن سليمان بن عبد الملك سأل عمر بن عبد العزيز أجرير اشعر أم الأخطل فقال له أعفني قال لا والله لا أعفيك قال إن الأخطل ضيق عليه كفره القول وإن جريراً وسع عليه إسلامه قوله وقد بلغ الأخطل منه حيث رأيت فقال له سليمان فضلت والله الأخطل
قال هارون وحدثني أبو عثمان عن الأصمعي عن خالد بن كلثوم قال
قال عبد الملك للفرزدق من أشعر الناس في الإسلام قال كفاك بابن النصرانية إذا مدح

قصة أبي سواج
أخبرنا أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال
حدثت أن الحجاج بن يوسف أوفد وفداً إلى عبد الملك وفيهم جرير فجلس لهم ثم أمر بالأخطل فدعي له فلما دخل عليه قال له يا أخطل هذا سبك يعني جريراً وجرير جالس فأقبل عليه جرير فقال أين تركت خنازير أمك قال راعية مع أعيار أمك وإن أتيتنا قريناك منها فأقبل جرير على عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين إن رائحة الخمر لتفوح منه قال صدق يا أمير المؤمنين وما اعتذاري من ذلك
( تَعِيبُ الخمرَ وهي شرابُ كِسْرَى ... ويشرَب قومُك العَجَبَ العجيبَا )
( مَنِيُّ العبد عبدِ ابي سُوَاج ... ( أَحَقُّ من المُدامةِ أن تَعِيبا )
فقال عبد الملك دعوا هذا وأنشدني يا جرير فأنشده ثلاث قصائد كلها في الحجاج يمدحه بها فأحفِظ عبد الملك وقال له يا جرير إن الله

لم ينصر الحجاج وإنما نصر خليفته ودينه ثم أقبل على الأخطل فقال
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُستقادَ لهم ... وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قَدروا )
فقال عبد الملك هذه المزمرة والله لو وضعت على زبر الحديد لأذابتها ثم أمر له بخلع فخلعت عليه حتى غاب فيها وجعل يقول إن لكل قوم شاعراً وإن الأخطل شاعر بني أمية
فأما قول الأخطل
( مَنيّ العبدِ عبدِ أبي سُوَاجٍ ... )
فأخبرني بخبر أبي سواج علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب وابو غسان دماذ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن ابا سواج وهو عباد بن خلف الضبي جاور بني يربوع وكانت له فرس يقال لها بذوة وكان لصرد بن جمرة اليربوعي فرس يقال لها القضيب فتراهنا عشرين بعشرين فسبقت بذوة فظلمه ابن جمرة حقه ومنعه سبقه وجعل يفجر بامرأته ثم إن ابا سواج ذهب إلى البحرين يمتار فلما اقبل راجعاً وكان رجلاً شديداً معجباً بنفسه جعل يقول وهو يحدو
( يا ليتَ شِعْرِي هل بَغَتْ من بَعْدي ... )
فسمع قائلاً يقول من خلفه
( نَعَمْ بمكوِيٍّ قَفاهُ جَعْدِي ... )
فعاد إلى قوله فأجابه بمثل ذلك وقدم إلى منزله فأقام به مدة فتغاضب

صرد على امرأة أبي سواج وقال لا أرضى أو تقدي من است أبي سواج سيراً فأخبرت زوجها بذلك فقام إلى نعجة له فذبحها وقد من باطن أليتيها سيراً فدفعه إليها فجعله صرد بن جمرة في نعله فقال لقومه إذا أقبلت وفيكم أبو سواج فسلوني من أين أقبلت ففعلوا فقال من ذي بليان وأريد ذابليان وفي نعلي شراكان من است إنسان فقام ابو سواج فطرح ثوبه وقال أنشدكم الله هل ترون بأساً ثم أمر أبو سواج غلامين له راعيين أن يأخذا أمة له فيتراوحاها ودفع إليهما عساً وقال لئن قطرت منكما قطرة في غير العس لأقتلنكما فباتا يتراوحانها ويصبان ما جاء منهما في العس وأمرهما أن يحلبا عليه فحلبا حتى ملآه ثم قال لامرأته والله لتسقنه صرد أو لأقتلنك واختبأ وقال ابعثي إليه حتى يأتيك ففعلت واتاها لعادتها كما كان يأتيها فرحبت به واستبطأته ثم قامت إلى العس فناولته إياه فلما ذاقه رأى طعماً خبيثاً وجعل يتمطق من اللبن الذي يشرب وقال إني أرى لبنكم خاثراً أحسب إبلكم رعت السعدان فقالت إن هذا من طول مكثه في الإناء أقسمت عليك إلا شربته فلما وقع في بطنه وجد الموت فخرج إلى أهله ولا يعلم أصحابه بشيء من أمره فلما جن على أبي سواج الليل أتى أهله وغلمانه فانصرفوا إلى قومه وخلف الفرس وكلبه في الدار فجعل الكلب ينبح والفرس يصهل وذلك ليظن القوم أنه لم يرتحل فساروا ليلتهم والدار ليس فيها غيره وكلبه وفرسه وعسه فلما اصبح ركب فرسه وأخذ العس فأتى مجلس بني يربوع فقال جزاكم الله من جيران خيراً فقد أحسنتم الجوار وفعلتم ما كنتم له أهلاً فقالوا له

يا أبا سواج ما بدا لك في الانصراف عنا قال إن صرد بن جمرة لم يكن فيما بيني وبينه محسنا وقد قلت في ذلك
(
( إن المَنيَّ إذا سَرَى ... في العبد اصبح مُسْمَغِدَّا )
( أتُنالُ سَلْمَى باطلاً ... وخُلِقْتُ يوم خُلِقتُ جَلْدَا )
( صُرَدَ بنَ جمرةَ هل لَقِيتَ ... رثيئةً لبناً وعَصْدَا )
واعلموا أن هذا القدح قد أحبل منكم رجلاً وهو صرد بن جمرة ثم رمى بالعس على صخرة فانكسر وركض فرسه وتنادوا عليكم الرجل فأعجزهم ولحق بقومه وقال في ذلك عمر بن لجأ التيمي
( تُمَسِّحُ يربوعٌ سبالاً لئميةً ... بها من مَنِيِّ العبدِ رَطْبٌ ويابسُ )
وإياه عنى الأخطل بقوله
( ويشرَب قومُك العجبَ العجيبا ... )
حبسه القس ثم أطلقه بعد شفاعة
أخبرنا ابو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال زعم محمد بن حفص بن عائشة التيمي عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب قال

قدمت الشام وأنا شاب مع أبي فكنت أطوف في كنائسها ومساجدها فدخلت كنيسة دمشق وإذا الأخطل فيها محبوس فجعلت أنظر إليه فسأل عني فاخبر بنسبي فقال يا فتى إنك لرجل شريف وإني أسألك حاجة فقلت حاجتك مقضية قال إن القس حبسني ها هنا فتكلمه ليخلي عني فأتيت القس فانتسبت له فرحب وعظم قلت إن لي إليك حاجة قال ما حاجتك قلت الأخطل تخلي عنه قال أعيذك بالله من هذا مثلك لا يتكلم فيه فاسق يشتم أعراض الناس ويهجوهم فلم أزل أطلب إليه حتى مضى معي متكئاً على عصاه فوقف عليه ورفع عصاه وقال يا عدو الله أتعود تشتم الناس وتهجوهم وتقذف المحصنات وهو يقول لست بعائد ولا أفعل ويستخذي له قال فقلت له يا ابا مالك الناس يهابونك والخليفة يكرمك وقدرك في الناس قدرك وأنت تخضع لهذا هذا الخضوع وتستخذي له قال فجعل يقول لي إنه الدين إنه الدين
أخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب عن الهيثم بن عدي قال
كانت امرأة الأخطل حاملا وكان متمسكا بدينه فمر به الأسقف يوما فقال لها الحقيه فتمسحي به فعدت فلم تلحق إلا ذنب حماره فتمسحت به ورجعت فقال لها هو وذنب حماره سواء
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا ابن سلام قال حدثني يونس قال قال أبو الغراف
سمع هشام بن عبد الملك الأخطل وهو يقول
( إذا افتقرتَ إلى الذخائِر لم تَجِدْ ... ذُخْراً يكون كصالح الأعمال )
فقال هنيئا لك أبا مالك هذا الإسلام فقال له يا أمير المؤمنين ما زلت مسلما في ديني

أخبرني أبو خليفة قال حدثنا ابن سلام قال حدثني يونس وعبد الملك وأبو الغراف فألفت ما قالوا قالوا
أتى الأخطل الكوفة فأتى الغضبان بن القبعثري الشيباني فسأله في حمالة فقال إن شئت أعطيتك ألفين وإن شئت أعطيتك درهمين قال وما بال الألفين وما بال الدرهمين قال إن أعطيتك ألفين لم يعطكها إلا قليل وإن أعطيتك درهمين لم يبق في الكوفة بكري إلا أعطاك درهمين وكتبنا إلى إخواننا بالبصرة فلم يبق بكري بها إلا أعطاك درهمين فخفت عليهم المؤنة وكثر لك النيل فقال فهذه إذا فقال نقسمها لك على أن ترد علينا فكتب بالبصرة إلى سويد بن منجوف السدوسي فقدم البصرة فقال يونس في حديثه فنزل على مال الصلت بن حريث الحنفي فأخبر من سمعه يقول والله لا أزال أفعل ذلك ثم رجع الحديث الأول فأتى سويدا فأخبره بحاجته فقال نعم وأقبل على قومه فقال هذا أبو مالك قد اتاكم يسألكم أن تجمعوا له وهو الذي يقول
( إذا ما قلتُ قد صالحتُ بَكْراً ... أَبَى البَغْضاءُ والنَّسبُ البعيدُ )
( وأيَّامٌ لنا ولَهُمْ طِوِالٌ ... يَعَضّ الهامَ فيهنّ الحديدُ )
( ومُهْراقُ الدماءِ بوارِدَاتٍ ... تَبِيدُ المُخْزِياتُ ولا تَبِيدُ )
( هُمَا أخوانِ يَصْطليانِ ناراً ... رِداءُ الحربِ بينهما جديدُ )
فقالوا فلا والله لا نعطيه شيئا فقال الأخطل
( فإنْ تَبْخَلْ سَدُوسُ بدِرْهَمَيْها ... فإنَّ الرِّيحَ طَيِّبةٌ قَبُولُ )

( تَوَاكَلَنِي بنو العلاَّت منهم ... وغالتْ مالكاً ويزيدَ غُولُ )
( صَرِيعَا وائلٍ هَلَكَا جميعاً ... كأنّ الأرضَ بعدهما مُحُولُ )
وقال في سويد بن منجوف وكان رجلا ليس بذي منظر
( وما جِذْعُ سَوْءٍ خَرَّب السُّوسُ أصلَه ... لِمَا حَمَّلتْه وائلٌ بمُطِيقِ )

كان مع مهارته يسقط أحيانا
أخبرنا أبو خليفة قال قال محمد بن سلام
كان الأخطل مع مهارته وشعره يسقط أحيانا كان مدح سماكا الأسدي وهو سماك الهالكي من بني عمرو بن أسد وبنو عمرو يلقبون القيون ومسجد سماك بالكوفة معروف وكان من أهلها فخرج أيام علي هاربا فلحق بالجزيرة فمدحه الأخطل فقال
( نعم المُجِيرُ سِمَاكٌ من بني أسَدٍ ... بالقاع إذ قتلت جيرانَها مُضَرُ )
( قد كنتُ أحسَبه قَيْناً وأُخْبَرُه ... فاليومَ طُيِّر عن أثوابه الشَّرَرُ )
( إنّ سماكاً بنى مجداً لأُسرته ... حتى المماتِ وفِعلُ الخير يُبتدرُ )
فقال سماك يا أخطل أردت مدحي فهجوتني كان الناس يقولون قولا فحققته فلما هجا سويدا قال له سويد والله يا أبا مالك ما تحسن تهجو ولا تمدح لقد أردت مدح الأسدي فهجوته يعني قوله

( قد كنتُ أحسَبه قَيْناً وأُنْبَؤُه ... فاليومَ طُيِّر عن أثوابه الشَّرَرُ )
( إنّ سماكاً بنى مجداً لأُسرته ... حتى المماتِ وفِعلُ الخير يُبتدرُ )
وأردت هجائي فمدحتني جعلت وائلا حملتني أمورها وما طمعت في بني تغلب فضلا عن بكر
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبان البجلي قال
مر الأخطل بالكوفة في بني رؤاس ومؤذنهم ينادي بالصلاة فقال له بعض فتيانهم ألا تدخل يا أبا مالك فتصلي فقال
( أُصَلِّي حيث تُدركني صَلاتِي ... وليس البِرُّ عند بني رُؤَاسِ )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو الحصين الأموي قال
بينا الأخطل قد خلا بخميرة له في نزهة مع صاحب له وطرأ عليهما طارىء لا يعرفانه ولا يستخفانه فشرب شرابهما وثقل عليهما فقال الأخطل في ذلك

صوت
( وليسَ القَذَى بالعُودِ يَسقُط في الإِنَا ... ولا بذُبابٍ خطْبُه أيسرُ الأمرِ )
( ولكنّ شخصاً لا نُسَرُّ بقُرْبِه ... رمتْنا به الغيطانُ من حيث لا ندري )
ويروى
( ولكن قَذَاها زائرٌ لا نُحِبّه ... )

وهو الجيد الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وقد أخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري قال حدثنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال
بينا الأخطل جالس عند امرأة من قومه وكان أهل البدو إذ ذاك يتحدث رجالهم إلى النساء لا يرون بذلك بأسا وبين يديه باطية شراب والمرأة تحدثه وهو يشرب إذ دخل رجل فجلس فثقل على الأخطل وكره أن يقول له قم استحياء منه وأطال الرجل الجلوس إلى أن أقبل ذباب فوقع في الباطية في شرابه فقال الرجل يا أبا مالك الذباب في شرابك فقال
( وليسَ القَذَى بالعود يَسقُط في الخمر ... ولا بذُبابٍ نَزْعُه أيسرُ الأمرِ )
( ولكن قَذَاها زائرٌ لا نُحِبُّه ... رمتْنا به الغيطانُ من حيث لا نَدْري )
قال فقام الرجل فانصرف
وأخبرني عمي رحمه الله بهذا الحديث عن الكراني عن الزيادي عن علي بن الحفار أخي أبي الحجاج
أن الأخطل جاء إلى معبد في قدمةٍ قدمها إلى الشام فقال له معبد إني أحب محادثتك فقال له وأنا أحب ذلك وقاما يتصبحان الغدران حتى وقفا على غدير فنزلا وأكلا فتبعهما أعرابي فجلس معهما وذكر الخبر مثل الذي قبله
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال أبان بن عثمان حدثني أبي قال
دعا الأخطل شاب من شباب أهل الكوفة إلى منزله فقال له يابن أخي

أنت لا تحتمل المئونة وليس عندك معتمد فلم يزل به حتى انتجعه فأتى الباب فقال يا شقراء فخرجت إليه امرأة فقال لأمه هذا أبو مالك قد أتاني فباعت غزلاً لها واشترت له لحما ونبيذا وريحانا فدخل خصا لها فأكل معه وشرب وقال في ذلك
( وبيتٍ كظهر الفيل جُلُّ مَتَاعِه ... أباريقُه والشاربُ المُتَقَطِّرُ )
( ترى فيه أثلامَ الأصِيصِ كأنَّها ... إذا بال فيها الشيخُ جَفْرٌ مُعَوَّرُ )
( لَعَمْرُك ما لاقيتُ يومَ معيشةٍ ... من الدهرِ إلاَّ يومُ شقراءَ أقصَرُ )
( حَوَارِيَّةٌ لا يدخل الذَّمُّ بيتَها ... مُطَهَّرةٌ يأوي إليها مُطَهَّرُ )
وذكر هارون بن الزيات هذا الخبر عن حماد عن أبيه أنه كان نازلا على عكرمة الفياض وأنه خرج من عنده يوما فمر بفتيان يشربون ومعهم قينة يقال لها شقراء وذكر الخبر مثل ما قبله وزاد فيه فأقام عندهم أربعة أيام وظن عكرمة أنه غضب فانصرف عنه فلما أتاه اخبره بخبره فبعث إلى الفتيان بألف درهم وأعطاه خمسة آلاف فمضى بها إليهم وقال استعينوا بهذه على أمركم ولم يزل ينادمهم حتى رحل

اجتماع الشعراء الثلاثة عند بشر بن مروان
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال
اجتمع الفرزدق وجرير والأخطل عند بشر بن مروان وكان بشر يغري بين الشعراء فقال للأخطل احكم بين الفرزدق وجرير فقال اعفني أيها الأمير

قال احكم بينهما فاستعفاه بجهده فأبى إلا أن يقول فقال هذا حكم مشؤوم ثم قال الفرزدق ينحت من صخر وجرير يغرف من بحر فلم يرض بذلك جرير وكان سبب الهجاء بينهما فقال جرير في حكومته
( يا ذَا الغباوةِ إنّ بِشْراً قد قَضَى ... ألاَّ تجوزَ حكومةُ النَّشْوانِ )
( فدَعُوا الحكومةَ لستُم من أهلها ... إنّ الحكومة في بني شَيْبانِ )
( قَتلوا كُلَيْبَكُم بِلَقْحةِ جارِهِمْ ... يا خُزْرَ تَغْلِبَ لستُم بهِجانِ )
فقال الأخطل يرد على جرير
( ولقد تَنَاسبتمْ إلى أحسابكم ... وجعلتُم حَكَماً من السُّلطان )
( فإذا كُلَيْبٌ لا تُسَاوِي دَارِماً ... حتى يُساوَى حَزْرَمٌ من بأَبَانِ )
( وإذا جعلتَ أباك في مِيزانهم ... رَجَحُوا وشال أبوك في المِيزانِ )
( وإذا وردتَ الماءَ كان لدارمٍ ... عِفْوَاتُه وسهولةُ الأعطانِ )
ثم استطار في الهجاء

مناقضة بينه وبين جرير
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو الغراف قال

لما قال جرير
( إذا أخَذتْ قَيْسٌ عليكَ وخِنْدِفٌ ... بأقطارِها لم تَدْرِ من اين تَسْرَحُ )
قال الأخطل لا أين سد والله علي الدنيا فلما أنشد قوله
( فما لك في نَجْدٍ حَصَاةٌ تَعُدُّها ... وما لك من غَوْرَيْ تِهامةَ أبطَحُ )
قال الأخطل لا أبالي والله ألا يكون فتح لي والصليب القول ثم قال
( ولكنْ لنا بَرُّ العِراقِ وبَحْرُه ... وحيث تَرَى القرْقُورَ في الماء يَسْبَحُ )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني محمد بن الحجاج الأسيدي قال
خرجت إلى الصائفة فنزلت منزلا ببني تغلب فلم أجد به طعاما ولا شرابا ولا علفاً لدوابي شرى ولا قرى ولم أجد ظلا فقلت لرجل منهم ما في داركم هذه مسجد يستظل فيه فقال ممن أنت قلت من بني تميم قال ما كنت أرى عمك جريراً إلا قد أخبرك حين قال
( فينا المساجدُ والإمامُ ولا ترى ... في آل تَغْلِبَ مسجداً معمورا )
أخبرني أبو خليفة قال أنبأنا محمد بن سلام قال حدثني شيخ من ضبيعة قال
خرج جرير إلى الشام فنزل منزلاً ببني تغلب فخرج متلثماً عليه ثياب سفره فلقيه رجل لا يعرفه فقال ممن الرجل قال من بني تميم قال أما سمعت ما قلت لغاوي بني تميم فأنشده مما قال لجرير فقال أما سمعت

ما قال لك غاوي بني تميم فأنشده ثم عاد الأخطل وعاد جرير في نقضه حتى كثر ذلك بينهما فقال التغلبي من أنت لا حياك الله والله لكأنك جرير قال فأنا جرير قال وأنا الأخطل

كان يدخل على عبد الملك وهو سكران
أخبرني عمي قال أنبأنا الكراني قال أنبأنا أبو عبد الرحمن عن المدائني قال
دخل الأخطل على عبد الملك وقد شرب فكلمه فخلط في كلامه فقال له ما هذا فقال
( إذا شرِب الفتى منها ثلاثاً ... بغير الماء حاول أن يَطُولاَ )
( مشى قُرَشِيَّةً لا عيبَ فيها ... وأرخَى من مآزره الفُضولا )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال أخبرني إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال أخبرني أبو محمد اليزيدي قال
خرج الفرزدق يؤم بعض الملوك من بني أمية فرفع له في طريقه بيت أحمر من أدم فدنا منه وسأل فقيل له بيت الأخطل فأتاه فقال انزل فلما نزل قام إليه الأخطل وهو لا يعرفه إلا أنه ضيف فقعدا يتحدثان فقال له الأخطل ممن الرجل قال من بني تميم قال فإنك إذاً من رهط أخي الفرزدق فقال تحفظ من شعره شيئا قال نعم كثيراً فما زالا يتناشدان ويتعجب الأخطل من حفظه شعر الفرزدق إلى أن عمل فيه الشراب وقد كان الأخطل قال له قبل ذلك أنتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا فقال له الفرزدق خفض قليلاً وهات من شرابك فاسقنا فلما عملت الراح في أبي فراس قال أنا والله الذي أقول في جرير فأنشده فقام إليه الأخطل

فقبل رأسه وقال لا جزاك الله عني خيرا لم كتمتني نفسك منذ اليوم وأخذا في شرابهما وتناشدهما إلى أن قال له الأخطل والله إنك وإياي لأشعر منه ولكنه أوتي من سير الشعر ما لم نؤته قلت أنا بيتاً ما أعلم أن أحداً أهجى منه قلت
( قومٌ إذا استنبح الأضيافُ كلبَهُمُ ... قالوا لأُمِّهمُ بُولِي على النارِ )
فلم يروه إلا حكماء أهل الشعر وقال هو
( والتغلَبيّ إذا تنحنح للقِرَى ... حَكّ اسْتَه وتمثَّلَ الأمثالا )
فلم تبق سقاة ولا أمثالها إلا رووه فقضيا له أنه أسير شعراُ منهما
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال المدائني
كان للأخطل الشاعر دار ضيافة فمر به عكرمة الفياض وهو لا يعرفه فقيل له هذا رجل شريف قد نزل بنا فلما أمسى بعث إليه فتعشى معه ثم قال له أتصيب من الشراب شيئاً قال نعم قال أيه قال كله إلا شرابك فدعا له بشراب يوافقه وإذا عنده قينتان هما خلفه وبينه وبينهما ستر وإذا الأخطل أشهب اللحية له ضفيرتان فغمز الستر بقضيب في يده وقال غنياني بأردية الشعر فغنتاه بقول عمرو بن شأس
( وبِيضٍ تَطَلَّى بالعَبيرِ كأنما ... يَطَأنَ وإن أَعنْقنَ في جُدَدٍ وَحْلاَ )
( لَهَوْنا بها يوماً ويوماً بشاربٍ ... إذا قلتَ مغلوباً وجدتَ له عقلا )

فأما السبب في مدح الأخطل عكرمة بن ربعي الفياض فأخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
قدم الأخطل الكوفة فأتى حوشب بو رويم الشيباني فقال إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي فنهره فأتى سيار بن البزيعة فسأله فاعتذر إليه فأتى عكرمة الفياض وكان كاتباً لبشر بن مروان فسأله وأخبره بما رد عليه الرجلان فقال أما إني لا أنهرك ولا أعتذر إليك ولكني أعطيك إحداهما عيناً والأخرى عرضاً قال وحدث أمر بالكوفة فاجتمع له الناس في المسجد فقيل له إن أردت أن تكافىء عكرمة يوماً فاليوم فلبس جبة خز وركب فرساً وتقلد صليباً من ذهب وأتى باب المسجد ونزل عن فرسه فلما رآه حوشب وسيار نفسا عليه ذلك وقال عكرمة يا ابا مالك فجاء فوقف وابتدأ ينشد قصيدته
( لِمَنِ الدِّيارُ بحائلٍ فوُعالِ )
حتى انتهى إلى قوله
( إنّ ابنَ رِبُعِيٍّ كَفَانِي سَيْبُه ... ضِغْنَ العدوِّ وغَدْرةَ المُحتالِ )
( أَغْلَيْتَ حين تواكَلَتْني وائلٌ ... إنّ المكارِمَ عند ذاك غَوالِ )
( ولقد منَنَتَ على ربيعةَ كلِّها ... وكَفَيْتَ كلَّ مُوَاكِلٍ خَذَّال )
( كابن البَزِيعة أو كآخَر مثلِه ... أَوْلَى لك ابنَ مُسِيمةِ الأجمالِ )
( إنّ اللَّئيم إذا سألتَ بَهَرْتَه ... وترى الكريمَ يَرَاحُ كالمختال )
( وإذا عدلتَ به رجالاً لم تَجِد ... فيضَ الفُرَات كراشحِ الأوشالِ )
قال فجعل عكرمة يبتهج ويقول هذه والله أحب إلي من حمر النعم

ومما في شعر الأخطل من الأصوات المختارة

صوت من المائة المختارة
( أراعكَ بالخابورِ نوقٌ وأجمال ... ودارٌ عَفَتْها الرِّيحُ بعدِي بأذيالِ )
( ومَبْنَى قِبَابِ المالكيَّة حَوْلَنا ... وجُرْدٌ تَعَادَى بين سَهْلٍ وأجبالِ )
عروضه من الطويل الشعر للأخطل والغناء لابن محرز ولحنه المختار من خفيف الثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف رمل في هذا الوجه نسبه يحيى المكي إلى ابن محرز وذكر الهشامي أنه منحول وفيه لحنين الحيري ثقيل أول عن الهشامي

ذكر سائب خاثر ونسبه
كان سائب خاثر مولى بني ليث وأصله من فيء كسرى واشترى عبد الله بن جعفر ولاءه من مواليه وقيل بل اشتراه فأعتقه وقيل بل كان على ولائه لبني ليث وإنما انقطع إلى عبد الله بن جعفر فلزمه وعرف به وكان يبيع الطعام بالمدينة واسم أبيه الذي أعتقه بنو ليث يشا
( قال ابن الكلبي وأبو غسان وغيرهما هو أول من عمل العود بالمدينة وغنى به وقال ابن خرداذبه كان عبد الله بن عامر اشترى إماء صناجات وأتى بهن المدينة فكان لهن يوم في الجمعة يلعبن فيه وسمع الناس منهن فأخذ عنهن ثم قدم رجل فارسي بنشيط فغنى فأعجب عبد الله بن جعفر به فقال له سائب خاثر أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربية ثم غدا على عبد الله بن جعفر وقد صنع
( لِمَنِ الدِّيارُ رسومُها قَفْرُ ... )
قال ابن الكلبي وهو أول صوت غني به في الإسلام من الغناء العربي المتقن الصنعة قال ثم اشترى عبد الله بن جعفر نشيطاً بعد ذلك فأخذ عن سائب خاثر الغناء العربي وأخذ عنه ابن سريج وجميلة ومعبد وعزة الميلاء وغيرهم
قال ابن الكلبي وحدثني أبو مسكين قال

كان سائب خاثر يكنى أبا جعفر ولم يكن يضرب بالعود إنما كان يقرع بقضيب ويغني مرتجلا ولم يزل يغني وقتل يوم الحرة ومر به بعض القرشيين وهو قتيل فضربه برجله وقال إن ها هنا لحنجرة حسنة وكان سائب من ساكني المدينة
قال ابن الكلبي وكان سائب تاجراً موسراً يبيع الطعام وكان تحته أربع نسوة وكان انقطاعه إلى عبد الله بن جعفر وكان مع ذلك يخالط سروات الناس وأشرافهم لظرفه وحلاوته وحسن صوته وكان قد آلى ألا يغني أحداً سوى عبد الله بن جعفر إلا أن يكون خليفة أو ولي عهد أو ابن خليفة فكان على ذلك إلى أن قتل قال وأخذ معبد عنه غناء كثيراً فنحل الناس بعضه إليه وأهل العلم بالغناء يعرفون ذلك وزعم ابن خرداذبه أن أم محمد بن عمرو الواقدي القاضي المحدث بنت عيسى بن جعفر بن سائب خاثر

هو أول من غنى بالعربية الغناء الثقيل
وقال ابن الكلبي سائب خاثر أول من غنى بالعربية الغناء الثقيل وأول لحن صنعه منه
( لِمَنْ الدِّيارُ رسومُها قَفْرُ ... )
قال فألفت هذا الصوت الفروح
قال وحدثني محمد بن يزيد أن أول صوت صنعه في شعر امرىء القيس
( أفاطِمَُ مَهْلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... )

وأن معبداً أخذ لحنه فيه فغنىّ عليه
( أمِنْ آل ليلى باللِّوَى مُتَرَبَّعُ ... )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن لقيط قال
وفد عبد الله بن جعفر على معاوية ومعه سائب خاثر فوقع له في حوائجه ثم عرض عليه حاجة لسائب خاثر فقال معاوية من سائب خاثر قال رجل من أهل المدينة ليثي يروي الشعر قال أوَكلّ من روى الشعر أراد أن نصله قال إنه حسنه قال وإن حسنه قال أفأدخله إليك يا أمير المؤمنين قال نعم قال فألبسته ممصرتين إزاراً ورداء فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته يتغنى
( لِمَنِ الديارُ رُسومُها قَفْرُ ... )
فالتفت معاوية إلى عبد الله بن جعفر فقال أشهد لقد حسنه فقضى حوائجه وأحسن إليه

نسبة هذا الصوت
( لِمَنِ الديارُ رُسُومُها قَفْرُ ... لَعِبتْ بها الأرواحُ والقَطْرُ )
( وخَلاَ لها من بعد ساكِنها ... حِجَجٌ مَضَينَ ثَمَانٍ اوْ عَشْرُ )
( والزَّعْفرانُ على تَرَائِبها ... شَرِقٌ به اللّبّاتُ والنَّحْرُ )
الشعر ينسب إلى أبي بكر بن المسور بن مخرمة الزهري وإلى الحارث بن خالد المخزومي وإلى بعض القرشيين من السبعة المعدودين

من شعراء العرب والغناء لسائب خاثر ثقيل أول بالسبابة عن الكلبي وحبش وذكر أن لحن سائب خاثر ثقيل أول بالوسطى ووافق إسحاق في ذلك وذكر أن الثقيل الأول لنشيط وذكر يونس أن فيه لحناً لمعبد ولم يجنسه وذكر الهشامي أن لحن معبد خفيف ثقيل وأن فيه لابن سريج خفيف رمل

سمعه معاوية فأعجب به
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني قبيصة بن عمرو قال حدثنا محمد بن المنهال عن رجل حدثه وذكر ذلك أيضا ابن الكلبي عن لقيط قال
أشرف معاوية بن أبي سفيان ليلاً على منزل يزيد ابنه فسمع صوتاً أعجبه واستخفه السماع فاستمع قائماً حتى مل ثم دعا بكرسي فجلس عليه واشتهى الاستزادة فاستمع بقية ليلته حتى مل فلما أصبح غدا عليه يزيد فقال له يا بني من كان جليسك البارحة قال أي جليس يا أمير المؤمنين واستعجم عليه قال عرفني فإنه لم يخف علي شيء من أمرك قال سائب خاثر قال فأخثر له يا بني من برك وصلتك فما رأيت بمجالسته بأساً
قال ابن الكلبي قدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم فأمر حاجبه بالإذن للناس فخرج الآذن ثم رجع فقال ما بالباب أحد فقال معاوية وأين الناس قال عند ابن جعفر فدعا ببغلته فركبها ثم توجه إليهم فلما جلس قال

بعض القرشيين لسائب خاثر مطرفي هذا لك وكان من خز إن أنت اندفعت تغني ومشيت بين السماطين وأنت تغني فقام ومشى بين السماطين وغنى
( لنا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نجدةٍ دَمَا )
فسمع منه معاوية وطرب وأصغى إليه حتى سكت وهو مستحسن لذلك ثم قام وانصرف إلى منزله وأخذ سائب خاثر المطرف

قتل يوم الحرة
أخبرني حبيب بن نصر عن عمر بن شبة عن الزبيري وأخبرني ابو بكر بن أبي شيبة البزاز قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني قال
( قتل سائب خاثر يوم الحرة وكان خشي على نفسه من أهل الشام فخرج إليهم وجعل يحدثهم ويقول أنا مغن ومن حالي وقصتي كيت وكيت وقد خدمت أمير المؤمنين يزيد وأباه قبله قالوا فغن لنا فجعل يغني فقام إليه أحدهم فقال له أحسنت والله ثم ضربه بالسيف فقتله وبلغ يزيد خبره ومر به اسمه في أسماء من قتل يومئذ فلم يعرفه وقال من سائب خاثر هذا فقيل له هو سائب خاثر المغني فعرفه فقال ويله ما له ولنا ألم نحسن إليه ونصله ونخلطه بأنفسنا فما الذي حمله على عداوتنا لا جرم أن بغيه صرعه وقال المدائني في خبره فقال إنا لله أو بلغ القتل إلى سائب خاثر وطبقته ما أرى أنه بقي بالمدينة أحد ثم قال قبحكم الله يا أهل الشام تجدهم صادفوه في حديقة أو حائط مستتراً منهم فقتلوه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال أنبأنا عمر بن شبة قال حدثني قبيصة بن

عمرو قال حدثني حاتم بن قبيصة قال حدثني ابن جعدبة قال حدثني مويلك عن أبيه قال قال لي سائب خاثر يوم الحرة هل سمعت شيئاً صنعته فغناني صوتاً

صوت
( لِمَنْ طَلَلٌ بين الكُرَاعِ إلى القَصْرِ ... يُغَيِّب عنا آية سَبَلُ القَطْرِ )
( إلى خالداتٍ ما تَرِيمُ وهامِد ... وأشعثَ تُرْسِيه الوَليدةُ بالفِهْرِ )
قال فسمعت عجباً معجباً ثم ذكر أهله وولده فبكى فقلت له وما يمنعك منهم فقال أما بعد شيء سمعته ورأيته من يزيد بن معاوية فلا ثم تقدم حتى قتل
صوت من المائة المختارة
( أقْفَر من أهلِه مَصِيفُ ... فبَطْنُ نَخْلَةَ فالعَرِيفُ )
( هل تُبْلِغَنِّي دِيارَ قومي ... مَهْرِيَّةٌ سَيْرُها زَفِيفُ )
( يا أمَّ نُعْمانَ نَوِّلينا ... قد ينفَعُ النائلُ الطَّفِيفُ )

( أعمامُها الصِّيدُ من لُؤَْيٍّ ... حَقّاً وأخوالُها ثَقِيفُ )
الشعر لأبي فرعة الكناني والغناء لجرادتي عبد الله بن جدعان ولحنه من خفيف الثقيل وفيه في الثالث والرابع ثقيل أول مطلق

ذكر جرادتي عبد الله بن جدعان وخبرهما وشيء من أخبار ابن جدعان
هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
قال ابن الكلبي كانت لابن جدعان أمتان تسميان الجرادتين تتغنيان في الجاهلية سماهما بجرادتي عاد ووهبهما عبد الله بن جدعان لأمية بن أبي الصلت الثقفي وقد كان امتدحه وكان ابن جدعان سيداً جواداً فرأى أمية ينظر إليهما وهو عنده فأعطاه إياهما
وأخبرني أبو الليث نصر بن القاسم الفرائضي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت
قلت يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه قال لا لم يقل يوما اغفر لي خطيئتي يوم الدين
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن الحسين قال حدثني إبراهيم بن أحمد قال
قدم أمية بن أبي الصلت على عبد الله بن جدعان فلما دخل عليه قال

له عبد الله أمر ما أتى بك فقال أمية كلاب غرماء نبحتني ونهشتني فقال له عبد الله قدمت علي وأنا عليل من حقوق لزمتني ونهشتني فأنظرني قليلا ما في يدي وقد ضمنتك قضاء دينك ولا اسأل عن مبلغه قال فأقام أمية أياماً فأتاه فقال
( أأذكُر حاجتي أم قد كَفَاني ... حياؤك إن شيِمتَك الحَياءُ )
( وعِلْمُك بالأمور وأنت قَرْمٌ ... لك الحسبُ المهذَّبُ والسَّناء )
( كريمٌ لا يُغَيِّره صباحٌ عن الخُلُق السَّنِيّ ولا مَساء )
( تُباري الرِّيحَ مَكْرُمةً وجوداً ... إذا ما الكلبُ أَجْحره الشتاء )
( إذا أَثْنَى عليك المرءُ يوماً ... كفاه من تَعرُّضه الثناءُ )
( إذا خلَّفتَ عبد اللَّه فاعلم ... بأن القوم ليس لهم جَزاء )
( فأرضُك كلُّ مَكْرُمةٍ بناها ... بنو تَيْمٍ وأنت لهم سماءُ )
( فأَبْرَز فضلَه حقّاً عليهم ... كما بَرزتْ لناظرها السماء )
( فهل تَخْفَى السماءُ على بَصيرٍ ... وهل بالشمس طالعةً خَفَاءُ )
فلما أنشده أمية هذا الشعر كانت عنده قينتان فقال خذ أيتهما شئت فأخذ إحداهما وانصرف فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا له لقد لقيته عليلاً فلو رددتها عليه فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتها كان ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حق ضمنه لك فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم ورجع إليه ليردها عليه فلما أتاه بها قال له ابن جدعان لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها وقالوا كذا وكذا فوصف لأمية ما قال له القوم فقال أمية والله ما أخطأت يا أبا زهير فقال عبد الله بن جدعان فما الذي قلت في ذلك فقال أمية

صوت
( عطاؤكَ زيْنٌ لامرىء إن حَبَوْتَه ... ببَذْلٍ وما كلُّ العطاء يَزِينُ )
( وليس بشَيْنٍ لامرىء بذلُ وجهه ... إليكَ كما بعضُ السؤال يَشين )
غنت فيه جرادتا عبد الله بن جدعان فقال عبد الله لأمية خذ الأخرى فأخذهما جمعاً وخرج فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول وقد أنشدنا هذه الأبيات أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة وفيها زيادة
( وما لي لا أحيِّيه وعندي ... مواهِبُ يَطَّلِعْنَ من النِّجادِ )
( لأبيضَ من بني تَيْم بن كَعْبٍ ... وهم كالمَشْرَفيَّاتِ الحِداد )
( لكل قبيلةٍ هادٍ ورأسٌ ... وأنت الرأسُ تَقْدُم كلَّ هادي )
( له بالخَيْف قد علمتْ مَعَدٌّ ... وإن البيت يُرْفَع بالعماد )
( له داعٍ بمكَّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخرُ فوق دارته يُنادي )
( إلى رُدُحٍ من الشِّيزَى مِلاءٍ ... لُبابَ البُرّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ )
وقال فيه أيضا
( ذُكِر ابنُ جُدْعانٍ بخيرٍ ... كلَّما ذُكِر الكرامُ )
( من لا يَخُون ولا يَعُقُّ ... ولا تُغَيِّره اللئامُ )
( نَجْبُ النَّجيبة والنجيب ... له الرِّحالةُ والزِّمامُ )

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق البغوي قال حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قال
كان ابن جدعان سيداً من قريش فوفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ فسأل عنه فقيل له هذا الفالوذ قال وما الفالوذ قالوا لباب البر يلبك مع عسل النحل قال ابغوني غلاماً يصنعه فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه ثم قدم به مكة معه ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد ثم نادى مناديه ألا من أراد الفالوذ فليحضر فحضر الناس فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت فقال فيه
( وما لي لا أُحيِّيه وعندي ... مواهبُ يَطَّلعْنَ من النِّجاد )
( إليّ وإنَّه للناس نِهْيٌ ... ولا يَعْتلُّ بالكَلِم الصَّوادِي )
وذكر باقي الأبيات التي مضت متقدماً
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرنا يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني محمد بن عمران الجرجاني وليس بصاحب إسحاق الموصلي قال وهو شيخ لقيته بجرجان قال حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال
( سألت سفيان بن عيينة فقلت يا أبا محمد ما تفسير قول النبي وعلى آله كان من أكثر دعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وإنما هو ذكر وليس فيه من الدعاء شيء فقال لي أعرفت حديث مالك بن الحارث يقول الله جل ثناؤه إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل

ما أعطي السائلين قلت نعم أنت حدثتنيه عن منصور عن مالك بن الحارث قال فهذا تفسير ذلك ثم قال أما علمت ما قال أمية بن الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله قلت لا أدري قال قال
( أأذكُر حاجتي أم قد كَفَانِي ... حياؤك إنّ شيمتَك الحياءُ )
( إذا أَثْنَى عليك المرءُ يوماً ... كفاه من تعرُّضه الثناءُ )
ثم قال سفيان فهذا مخلوق ينسب إلى الجود فقيل له يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي على حاجتنا فكيف بالخالق
( أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا حميد بن حميد قال حدثني جبار بن جابر قال
( دخل أمية بن أبي الصلت على عبد الله بن جدعان وهو يجود بنفسه فقال له أمية كيف تجدك أبا قال زهير إني لمدابر أي ذاهب فقال أمية
( علِمَ ابن جُدْعانَ بن عمروٍ ... أنَّه يوماً مُدَابِرْ )
( ومسافرٌ سفراً بعيداً ... لا يؤوب به المُسافِر )
( فقُدُورُه بفنائه ... للضيف مُتْرَعَةٌ زَوَاخِرْ )
( تبدو الكسورُ من انْضِراجِ ... الغَلْي فيها والكَرَاكِرْ )
( فكأنهنّ بما حَمِينَ ... وما شُحِنَّ بها ضَرَائر )
( بَذَّ المَعَاشِرَ كلَّها ... بالفضل قد علِم المَعاشِرْ )
( وعلا عُلُوَّ الشمس حتَّى ... ما يُفَاخرُه مُفَاخِرْ )

( دانت له أبناءُ فِهْرٍ ... مِن بني كعبٍ وعامر )
( أنتَ الجوادُ ابنُ الجوادِ ... بكم يُنَافِرُ من يُنَافِرْ )

شعره في ذم الخمر
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال أخبرني أبو عبد الرحمن الغلابي عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال
ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس ولقد عابها ابن جدعان قبل موته فقال
( شَرِبتُ الخمرَ حتى قال قَومي ... ألستَ عن السِّفَاه بمُستفيقِ )
( وحتى ما أُوسَّدُ في مَبِيتٍ ... أنام به سوى التُّرْبِ السَّحيقِ )
( وحتى أَغْلق الحانوتُ رَهْني ... وآنَسْتُ الهَوانَ من الصديق )
قال وكان سبب تركه الخمر أن أمية بن أبي الصلت شرب معه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب فقال له ما بال عينك فسكت فلما ألح عليه قال له أنت صاحبها أصبتها البارحة فقال أوبلغ مني الشراب الذي أبلغ معه من جليسي هذا لا جرم لأدينها لك ديتين فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال الخمر علي حرام أن أذوقها أبداً وتركها من يومئذ
صوت من المائة المختارة
( قد لَعَمْرِي بِتُّ لَيْلِي ... كأخي الداءِ الوَجيع )

( ونَجِيُّ الهمّ منِّي ... بات أدنى من ضجيعي )
( كلما أبصرتُ رَبْعاً ... خالياً فاضت دموعي )
( لا تَلُمْنا إن خَشَعْنا ... أو هَمَمْنا بالخشوع )
( إذ فقدْنا سيِّداً كان ... لنا غيرَ مُضِيعِ )
الشعر للأحوص والغناء لسلامة القس ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالوسطى في مجراها وقد قيل إن الشعر والغناء جميعاً لها وقد قيل إن الغناء لمعبد وإنها أخذته عنه

ذكر سلامة القس وخبرها
كانت سلامة مولدة من مولدات المدينة وبها نشأت وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح وذويهم فمهرت وإنما سميت سلامة القس لأن رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي من قراء أهل مكة وكان يلقب بالقس لعبادته شغف بها وشهر فغلب عليها لقبه واشتراها يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان وعاشت بعده وكانت إحدى من اتهم به الوليد من جواري أبيه حين قال له قتلته ننقم عليك أنك تطأ جواري أبيك وقد ذكرنا ذلك في خبر مقتله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كانت حبابة وسلامة القس من قيان أهل المدينة وكانتا حاذقتين ظريفتين ضاربتين وكانت سلامة أحسنهما غناء وحبابة أحسنهما وجهاً وكانت سلامة تقول الشعر وكانت حبابة تتعاطاه فلا تحسن وأخبرني بذلك المدائني عن جرير
وحدثني الزبيري قال حدثني من رأى سلامة قال
ما رأيت من قيان المدينة فتاة ولا عجوزاً أحسن غناء من سلامة وعن جميلة أخذت الغناء

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال
كانت حبابة وسلامة قينتين بالمدينة أما سلامة فكانت لسهيل بن عبد الرحمن ولها يقول ابن قيس الرقيات
( لقد فَتَنَتْ رَيَّا وسَلاَّمةُ القَسّا ... فلم تتركا للقَسِّ عقلاً ولا نَفْسَا )
( فتاتانِ أمَّا منهما فشبيهةُ الهلالِ ... وأُخرى منهما تُشبه الشمسا ...
وغناه مالك بن أبي السمح وفيها يقول ابن قيس الرقيات
( أُختانِ إحداهما كالشمس طالعةً ... في يوم دَجْنٍ وأُخرى تشبه القمرا )
قال وفتن القس بسلامة وفيها يقول
( أهابُكِ أن أقول بذلتُ نفسي ... ولو أنِّي أُطيع القلبَ قالا )
( حياءً منكِ حتى سُلّ جسمي ... وشَقّ عليّ كتماني وطالا )

سبب افتتان القس بها
قال والقس هو عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية وكان منزله بمكة وكان سبب افتتانه بها فيما حدثني خلاد الأرقط قال سمعت من شيوخنا أهل مكة يقولون كان القس من أعبد أهل مكة وكان يشبه بعطاء بن أبي رباح وأنه سمع غناء سلامة القس على غير تعمد منه لذلك فبلغ غناؤها منه كل مبلغ فرآه مولاها فقال له هل لك أن أخرجها إليك

أو تدخل فتسمع فأبى فقال مولاها أنا أقعدها في موضع تسمع غناءها ولا تراها فأبى فلم يزل به حتى دخل فأسمعه غناءها فأعجبه فقال له هل لك في أن أخرجها إليك فأبى فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه فتغنت فشغف بها وشغفت به وعرف ذلك أهل مكة فقالت له يوماً أنا والله أحبك قال وأنا والله أحبك قالت وأحب أن أضع فمي على فمك قال وأنا والله أحب ذلك قالت فما يمنعك فوالله إن الموضع لخال قال إني سمعت الله عز و جل يقول ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) وأنا أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النسك وقال من فوره فيها
( إنّ التي طَرَقَتْكَ بين ركائبٍ ... تَمْشي بمِزْهَرِها وأنتَ حَرَامُ )
( لَتَصِيدُ قلبَك أو جزاءَ مودَّةٍ ... إنّ الرفيق له عليك ذِمامُ )
( باتت تعلّلنا وتحسب أنَّنا ... في ذاك أيقاظٌ ونحن نِيامُ )
( حتى إذا سطَع الضّياءُ لناظرٍ ... فإذا وذلك بيننا أحلامُ )
( قد كنتُ أعذُِلُ في السَّفاهة أهلَها ... فاعجَبْ لِما تأتي به الأَّيامُ )
( فاليومَ أعذِرُهم وأعلم أنما ... سُبُلُ الضَّلالة والهُدَى أقسامُ )
ومن قوله فيها
( ألم تَرَها لا يُبْعِد اللَّه دارَها ... إذا رَجّعتْ في صوتها كيف تصنعُ )
( تَمُدّ نظامَ القولِ ثم تَرُدّه ... إلى صَلْصَلٍ في صوتها يترجَّع )

وفيها يقول
أَلاَ قُلْ لهذا القلبِ هل أنت مُبْصِرُ ... وهل أنت عن سَلاَّمةَ اليومَ مُقْصِرُ )
( ألا ليت أنِّي حين صارتْ بها النَّوى ... جليسٌ لسَلْمَى كلَّما عَجّ مِزْهَرُ )
وقال في قصيدة له
( سلاَّمُ وَيْحَكِ هل تُحبين مَنْ ماتا ... أو تَرْجعينَ على المحزون ما فاتا )
وقال أيضا
( سَلاَّمُ هلي لي منكمُ ناصرُ ... أم هل لقلبي عنكمُ زاجرُ )
( قد سمِع الناسُ بوجدي بكم ... فمنهمُ اللائّمُ والعاذرُ )
في أشعار كثيرة يطول ذكرها

هي وأختها ريا من أجمل النساء وأحسنهن غناء
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الجمحي قال
كانت سلامة وريا أختين وكانتا من أجمل النساء وأحسنهن غناء فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيات عندهما فقال لهما ابن قيس الرقيات إني أريد أن أمدحكما بأبيات وأصدق فيها ولا أكذب فإن أنتما غنيتماني بذلك وإلا هجوتكما ولا أقربكما قالتا فما قلت قال قلت
( لقد فتنتْ رَيَّا وسَلاَّمةُ القَسَّا ... فلم تتركا للقَسِّ عقلاً ولا نفسا )
( فتاتانِ أمَّا منهما فشبيهةُ الهلالِ ... وأُخْرَى منهما تُشبه الشمسا )

( تَكُنَّانِ أبشاراً رِقاقاً وأوجُهاً ... عِتَاقاً وأطرافاً مُخَضَّبةً مُلْسا )
فغنته سلامة واستحسنتاه وقالتا للأحوص ما قلت يا أخا الأنصار قال قلت

صوت
( أَسَلاَم هل لمتيَّم تنويلُ ... أم هل صَرَمْتِ وغالَ ودَّكِ غولُ )
( لا تَصْرِفِي عنِّي دلالَكِ إنَّه ... حَسَنٌ لديّ وإن بَخِلْتِ جميلُ )
( أَزَعمتِ أنّ صَبابتي أُكذوبةٌ ... يوماً وأنّ زيارتي تعليلُ )
الغناء لسلامة القس خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وحماد وفيه لإبراهيم لحنان أحدهما خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وعمرو والآخر ثقيل أوله استهلال عن الهشامي فغنت الأبيات فقال ابن قيس الرقيات يا سلامة أحسنت والله وأظنك عاشقة لهذا الحلقي فقال له الأحوص ما الذي أخرجك إلى هذا قال حسن غنائها بشعرك فلولا أن لك في قلبها محبة مفرطة ما جاءها هكذا حسنا على هذه البديهة فقال له الأحوص على قدر حسن شعري على شعرك هكذا حسن الغناء به وما هذا منك إلا حسد ونبين لك الآن ما حسدت عليه فقالت سلامة لولا أن الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردها أحد قال الأحوص فأنت من ذلك آمنة قال ابن قيس الرقيات كلا قد أمنت أن تكون الحكومة عليك فلذلك سبقت بالأمان لها قال الأحوص فرأيك يدلك على أن معرفتك بأن المحكوم عليه انت وتفرقا فلما صار الأحوص إلى منزله جاءه ابن قيس

الرقيات فقرع بابه فأذن له وسلم عليه واعتذر
ومما قاله الأحوص في سلامه القس وغني به
صوت
( أَسَلاَمُ إنك قد ملكتِ فأَسْجِحِي ... قد يملك الحرُّ الكريم فيُسْجِح )
( مُنِّي على عانٍ أَطَلْتِ عَناءَه ... في الغُلّ عندكِ والعُنَاةُ تُسَرَّحُ )
( إنِّي لأنصَحُكم وأعلَمُ أنَّه ... سِيَّانِ عندكِ من يَغُشّ ويَنصَحُ )
( وإذا شكوتُ إلى سَلاَمة حُبَّها ... قالت أجِدُّ منك ذا أم تمزَحُ )
الشعر للأحوص والغناء لابن مسجح في الأول والثاني ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ولدحمان في الأربعة الأبيات ثقيل أول بالبنصر فيه استهلال وفيه خفيف ثقيل يقال إنه لمالك ويقال إنه لسلامة القس
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال قال أيوب بن عباية
كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية وكان فقيها عابداً من عباد مكة يسمى القس لعبادته وكانت سلامة بمكة لسهيل وكان يدخل عليها الشعراء فينشدونها وتنشدهم وتغني من أحب الغناء ففتن بها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القس فشاع ذاك وظهر فسميت سلامة القس بذلك

غنت القس بشعر له
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال سألها عبد الرحمن بن

عبد الله بن أبي عمار القس أن تغنيه بشعر مدحها به ففعلت وهو
( ما بالُ قلبِكَ لا يزال يُهِيمُه ... ذِكَرٌ عَوَاقِبُ غَيِّهنّ سَقَامُ )
( إنّ التي طرقتْك بين ركائبٍ ... تمشِي بمِزْهَرِها وأنت حَرَامُ )
( لَتَصِيدُ قلبَك أو جزاءَ مَودَّةٍ ... إنّ الرفيقَ له عليك ذِمامُ )
( باتت تعلِّلنا وتحسَب أننا ... في ذاك أيقاظٌ ونحن نِيامُ )
( حتى إذا سطعَ الصباحُ لناظرٍ ... فإذا وذلك بيننا أحلامُ )
( قد كنتُ أعذِلُ في السَّفاهة أهلَها ... فاعْجَبْ لِمَا تأتي به الأيَّامُ )
( فاليومَ أعذرهم وأعلَمُ أنما ... سُبُلُ الغَوايةِ والهُدَى أقسامُ )
قال إسحاق وحدثني المدائني قال حدثني جرير قال
لما قدم يزيد بن عبد الملك مكة وأراد شراء سلامة القس وعرضت عليه أمرها أن تغنيه فكان أول صوت غنته
( إنّ الَّتي طرقتك بين ركائبٍ ... تمشي بمِزْهَرِها وأنت حرامُ )
( والبيضُ تَمْشِي كالبُدورِ وكالدُّمَى ... ونَوَاغِمٌ يَمْشين في الأَرْقام )
لَتَصِيدُ قلبَك أو جزاءَ مودَّةٍ ... إنّ الرفيق له عليك ذمامُ )
فاستحسنه يزيد فاشتراها فكان أول صوت غنته لما اشتراها
( أَلاَ قُلْ لهذا القلبِ هل أنت مبصرُ ... وهل أنت عن سَلاَّمةَ مُقْصِرُ )
( أَلاَ ليتَ أنِّي حين صار بها النَّوَى ... جليسٌ لسَلْمَى حيث ما عَجّ مِزْهَرُ )
( وإنِّي إذا ما الموتُ زالَ بنَفْسها ... يُزَالُ بنفسي قبلَها حين تُقْبَرُ )
( إذا أخذتْ في الصوتِ كاد جليسُها ... يطيرُ إليها قلبُه حين ينظُر )

( كأنَّ حَمَاماً راعِبِيّاً مُؤَدِّياً ... إذا نطقتْ من صدرها يَتَغَشْمَرُ )
فقال لها يزيد يا حبيبتي من قائل هذا الشعر فقصت عليه القصة فرق له وقال أحسن وأحسنت

غنت يزيد بن عبد الملك بشعر الأحوص
قال إسحاق وحدثني المدائني قال
لما اشترى يزيد بن عبد الملك سلامة وكان الأحوص معجباً بها وبحسن غنائها وبكثرة مجالستها فلما أراد يزيد الرحلة قال ابياتاً وبعث بها إلى سلامة فلما جاءها الشعر غنت به يزيد وأخبرته الخبر وهو
صوت
( عاودَ القلبَ من سَلاَمةَ نَصْبُ ... فلعينيّ من جَوَى الحُبِّ غَرْبُ )
( ولقد قلتُ أيها القلبُ ذُو الشوقِ ... الَّذي لا يُحبّ حُبَّك حِبُّ )
( إنه قد دنا فِراقُ سُلَيْمَى ... وغدَا مَطْلَبٌ عن الوصل صَعْبُ )
غناه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيه لابن عباد وعلويه رملان وفيه لدحمان خفيف رمل هذه الحكايات الثلاث عن الهشامي وذكر حبش أن لسلامة القس فيه ثاني ثقيل بالوسطى
عتابها لحبابة لاستخفافها بها
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال كانت سلامة وريا لرجل واحد

وكانت حبابة لرجل وكانت المفدمة منهن سلامة حتى صارتا إلى يزيد بن عبد الملك فكانت حبابة تنظر إلى سلامة بتلك العين الجليلة المتقدمة وتعرف فضلها عليها فلما رأت أثرتها عند يزيد ومحبة يزيد لها استخفت بها فقال لها سلامة أي أخية نسيت لي فضلي عليك ويلك أين تأديب الغناء وأين حق التعليم أنسيت قول جميلة يوما وهي تطارحنا وهي تقول لك خذي إحكام ما أطارحك من أختك سلامة ولن تزالي بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفاً قالت صدقت خليلتي والله لا عدت إلى شيء تكرهينه فما عادت لها إلى مكروه وماتت حبابة وعاشت سلامة بعدها دهراً
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي الأكبر قال
لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة والياً عليها قال له قوم من وجوه الناس إنك قد وليت على كثرة من الفساد فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والزنا فصاح في ذلك وأجل أهلها ثلاثاً يخرجون فيها من المدينة وكان ابن أبي عتيق غائباً وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس فدخل عليها فقال ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلم عليكم قالوا ما أغفلك عن أمرنا وأخبروه الخبر فقال اصبروا علي الليلة فقالوا نخاف ألا يمكنك شيء وننكظ قال إن خفتم شيئاً فاخرجوا في السحر ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان فأذن له فسلم عليه وذكر له غيبته وأنه جاءه

ليقضي حقه ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا وقال أرجو ألا تكون عملت عملاً هو خير لك من ذلك قال عثمان قد فعلت ذلك وأشار به على أصحابك فقال قد أصبت ولكن ما تقول أمتع الله بك في امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير وأتى رسولها إليك تقول اتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله ومسجده قال فإني أدعها لك ولكلامك قال ابن أبي عتيق لا يدعك الناس ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها قال نعم فجاءه بها وقال لها اجعلي معك سبحة وتخشعي ففعلت فلما دخلت على عثمان حدثته وإذا هي من أعلم الناس بالناس وأعجب بها وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك فقال لها ابن أبي عتيق اقرئي للأمير فقرأت له فقال لها احدي له ففعلت فكثر تعجبه فقال كيف لو سمعتها في صناعتها فلم يزل ينزله شيئاً شيئاً حتى أمرها بالغناء فقال لها ابن أبي عتيق غني فغنت
( سَدَدْنَ خَصَاصَ الخَيْمِ لمَّا دخَلْنَهُ ... بكلّ لَبَانٍ واضحٍ وجبينِ )
فغنته فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال لا والله ما مثل هذه تخرج قال ابن أبي عتيق لا يدعك الناس يقولون أقر سلامة وأخرج غيرها قال فدعوهم جميعاً فتركوهم جميعاً
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن أبي فروة قال
قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل

رمانة بعشرين ألف دينار فلما خرجت من ملك أهلها طلبوا إلى الرسل أن يتركوها عندهم أياماً ليجهزوها بما يشبهها من حلي وثياب وطيب وصبغ فقالت لهم الرسل هذا كله معنا لا حاجة بنا إلى شيء منه وأمروها بالرحيل فخرجت حتى نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك وشيعها الخلق من أهل المدينة فلما بلغوا السقاية قالت للرسل قوم كانوا يغشونني ويسلمون علي ولا بد لي من وداعهم والسلام عليهم فأذن للناس عليها فانقضوا حتى ملأوا رحبة القصر ووراء ذلك فوقفت بينهم ومعها العود فغنتهم
( فارَقوني وقد علمتُ يقيناً ... ما لِمَن ذاقَ مِيتةً من إيابِ )
( إنّ أهلَ الحِصَابِ قد تركوني ... مُولَعاً مُوزَعاً بأهل الحِصَابِ )
( أهلُ بيتٍ تَتَايَعُوا للمنايا ... ما على الدهر بعدهم من عِتابِ )
( سكنوا الجِزْعَ جِزْعَ بيتِ أبي موسى ... إلى النخل من صُفِيِّ السِّبَابِ )
( كم بذاك الحَجُونِ من حَيّ صِدْقٍ ... وكُهولٍ أعِفَّةٍ وشَبابِ )
قال عيسى وكنت في الناس فلم تزل تردد هذا الصوت حتى راحت وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها فما شئت أن أرى باكياً إلا رأيته

وساطتها للغريض عند يزيد
وجه يزيد بن عبد الملك إلى الأحوص في القدوم عليه وكان الغريض معه فقال له أخرج معي حتى آخذ لك جائزة أمير المؤمنين وتغنيه فإني لا أحمل إليه شيئاً هو أحب إليه منك فخرجا فلما قدم الأحوص على يزيد جلس له ودعا به فأنشده مدائح فاستحسنها وخرج من عنده فبعثت إليه سلامة جارية يزيد بلطف فأرسل إليها إن الغريض عندي قدمت به هدية إليك فلما جاءها الجواب اشتاقت إلى الغريض وإلى الاستماع منه فلما دعاها أمير المؤمنين تمارضت وبعثت إلى الأحوص إذا دعاك أمير المؤمنين فاحتل له في أن تذكر له الغريض فلما دعا يزيد الأحوص قال له يزيد ويحك يا أحوص هل سمعت شيئاً في طريقك تطرفنا به قال نعم يا أمير المؤمنين مررت في بعض الطريق فسمعت صوتاً أعجبني حسنه وجودة شعره فوقفت حتى استقصيت خبره فإذا هو الغريض وإذا هو يغني بأحسن صوت وأشجاه
( أَلاَ هاجَ التَّذَكُّرُ لي سَقَامَا ... ونُكْسَ الداءِ والوجعَ الغَرَاما )
( سَلاَمةُ إنها هَمِّي ودائي ... وشَرُّ الداءِ ما بَطَن العِظاما )
( فقلتُ له ودمعُ العينِ يجري ... على الخَدَّيْنِ أربعةً سِجَاما )
( عليكَ لها السلامُ فمَنْ لِصَبٍّ ... يبيت الليلَ يَهْذِي مُستهاما )
قال يزيد ويلك يا أحوص أنا ذاك في هوى خليلتي وما كنت أحسب مثل هذا يتفق وإن ذاك لمما يزيد لها في قلبي فما صنعت يا أحوص حين سمعت ذاك قال سمعت ما لم أسمع يا أمير المؤمنين أحسن منه فما صبرت

حتى أخرجت الغريض معي وأخفيت أمره وعلمت أن أمير المؤمنين يسألني عما رأيت في طريقي فقال له يزيد ائتني بالغريض ليلاً وأخف أمره فرجع الأحوص إلى منزله وبعث إلى سلامة بالخبر فقالت للرسول قل له جزيت خيراً قد انتهى إلي كل ما قلت وقد تلطفت وأحسنت فلما وارى الليل أهله بعث إلى الأحوص أن عجل المجيء إلي مع ضيفك فجاء الأحوص مع الغريض فدخلا عليه فقال غنني الصوت الذي أخبرني الأحوص أنه سمعه منك وكان الأحوص قد أخبر الغريض الخبر وإنما ذلك شعر قاله الأحوص يريد يحركه به على سلامة ويحتال للغريض في الدخول عليه فقال غنني الصوت الذي أخبرني الأحوص فلما غناه الغريض دمعت عين يزيد ثم قال ويحك هل يمكن أن تصير إلى مجلسي قيل له هي صالحة فأرسل إليها فأقبلت فقيل ليزيد قد جاءت فضرب لها حجاب فجلست وأعاد عليه الغريض الصوت فقالت أحسن والله يا أمير المؤمنين فاسمعه مني فأخذت العود فضربته وغنت الصوت فكاد يزيد أن يطير فرحاً وسروراً وقال يا أحوص إنك لمبارك يا غريض غنني في ليلتي هذا الصوت فلم يزل يغنيه حتى قام يزيد وأمر لهما بمال وقال لا يصبح الغريض في شيء من دمشق فارتحل الغريض من ليلته وأقام الأحوص بعده أياماً ثم لحق به وبعثت سلامة إليهما بكسوة ولطف كثير

نوحها على يزيد حين مات
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني رجل من أهلي من بني نوفل قال
قدمت في جماعة من قريش على يزيد بن عبد الملك فألفيناه في علته التي مات فيها بعد وفاة حبابة فنزلنا منزلاً لاصقا بقصر يزيد فكنا إذا

أصبحنا بعثنا بمولًى لنا يأتينا بخبره وربما أتينا الباب فسألنا فكان يثقل في كل يوم فإنا لفي منزلنا ليلة إذ سمعنا همساً من بكاء ثم يزيد ذلك ثم سمعنا صوت سلامة القس وهي رافعة صوتها تنوح وتقول
( لا تَلُمْنا إنْ خَشَعْنا ... أوْ هَمَمْنَا بخُشوعِ )
( قد لَعَمْرِي بِتُّ ليلي ... كأخي الداءِ الوجيعِ )
( كلَّما أبصرتُ ربعاً ... خالياً فاضتْ دموعي )
( قد خلا من سيِّدٍ كان ... لنا غيرَ مُضِيعِ )
ثم صاحت وا أمير المؤمنين فعلمنا وفاته فأصبحنا فغدونا في جنازته
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال
قال يزيد بن عبد الملك ما يقر عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهيل الزهري وحبابة جارية آل لاحق المكية فأرسل فاشتريتا له فلما اجتمعتا عنده قال أنا الآن كما قال الشاعر
( فألقتْ عَصاها واستقرّ بها النَّوَى ... كما قَرَّ عيناً بالإِيابِ المسافرُ )
فلما توفي يزيد رثته سلامة فقالت وهي تنوح عليه هذا الشعر
( لا تَلُمْنا إن خَشَعْنا ... أو هَمَمْنا بخُشوعِ )
( إذ فقدْنا سَيِّداً كان ... لنا غيرَ مُضيع )
( وهو كاللَّيْثِ إذا ما ... عُدَّ أصحابُ الدروع )
( يَقْنِصُ الأبطالَ ضرباً ... في مُضِيٍّ ورجوع )

أخبرنا الحسين بن يحيى قال حدثنا الزبير والمدائني أن سلامة كانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف فاشتراها يزيد بن عبد الملك وكانت مغنية حاذقة جميلة ظريفة تقول الشعر فما رأيت خصالاً أربعاً اجتمعن امرأة مثلها حسن وجهها وحسن غنائها وحسن شعرها قال والشعر الذي كانت تغني به
( لا تَلُمْنا إن خَشَعْنا ... أو هَمَمْنا بخُشوعِ )
( لِلَّذي حَلَّ بنا اليومَ ... من الأمر الفظيعِ )
وذكر باقي الأبيات مثل ما ذكره غيره
قال إسحاق وحدثني الجمحي قال حدثنا من رأى سلامة تندب يزيد بن عبد الملك بمرثية رثته بها فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك ولا أشجى ولقد أبكت العيون وأحرقت القلوب وأفتنت الأسماع وهي
( يا صاحبَ القبرِ الغريبِ ... بالشام في طَرَفِ الكثيبِ )
( بالشام بين صفائحٍ ... صُمٍّ تُرَصَّفُ بالجَبُوبِ )
( لمَّا سمعتُ أنينَه ... وبكاءه عند المَغِيبِ )
( أقبلتُ أطلُبُ طِبَّه ... والداءُ يُعْضِلُ بالطبيب )
الشعر لرجل من العرب كان خرج بابن له من الحجاز إلى الشام بسبب امرأة هويها وخاف أن يفسد بحبها فلما فقدها مرض بالشام وضني فمات ودفن بها كذا ذكر ابن الكلبي وخبره يكتب عقب أخبار سلامة القس والغناء لسلامة ثقيل أول بالوسطى عن حبش وفيه لحكم رمل مطلق في مجرى البنصر

عن إسحاق وفيه لحن لابن غزوان الدمشقي من كتاب ابن خرداذبه غير مجنس
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني الجمحي قال
حدثني من حضر الوليد بن يزيد وهو يسأل سلامة أن تغنيه شعرها في يزيد وهي تتنغص من ذلك وتدمع عيناها فأقسم عليها فغنته فما سمعت شيئا أحسن من ذلك فقال لها الوليد رحم الله أبي وأطال عمري وأمتعني بحسن غنائك يا سلامة بم كان أبي يقدم عليك حبابة قالت لا أدري والله قال لها لكنني والله أدري ذلك بما قسم الله لها قالت يا سيدي أجل

انتحل إسحاق الموصلي ما ناحت به على يزيد
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني عبد الله بن عبد الملك الهدادي عن بعض رجاله عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال
سمعت نائحة مدنية تنوح بهذا الشعر
( قَدْ لعَمْرِي بتُّ ليلِي ... كأخي الداءِ الوَجِيع )
( ونجيُّ الهمّ منِّي ... بات أدنى من ضلوعي )
( كلَّما أبصرتُ رَبْعاً ... دارساً فاضتْ دموعي )
( مُقْفِراً من سَيِّدٍ كان ... لنا غيرَ مُضِيع )
والشعر للأحوص والنوح لمعبد وكان صنعه لسلامة وناحت به سلامة على يزيد فلما سمعته منها استحسنته واشتهيته ولهجت به فكنت أترنم به كثيرا فسمع ذلك مني أبي فقال ما تصنع بهذا قلت شعر قاله الأحوص

وصنعه معبد لسلامة وناحت به سلامة على يزيد ثم ضرب الدهر فلما مات الرشيد إذا رسول أم جعفر قد وافاني فأمرني بالحضور فسرت إليها فبعثت إلي إني قد جمعت بنات الخلفاء وبنات هاشم لننوح على الرشيد في ليلتنا هذه فقل الساعة أبياتا رقيقة واصنعهن صنعة حسنة حتى أنوح بهن فأردت نفسي على أن أقول شيئا فما حضرني وجعلت ترسل إلي تحثني فذكرت هذا النوح فأريت أني أصنع شيئا ثم قلت قد حضرني القول وقد صنعت فيه ما أمرت فبعثت إلي بكنيزة وقالت طارحها حتى تطارحنيه فأخذت كنيزة العود ورددته عليها حتى أخذته ثم دخلت فطارحته أم جعفر فبعثت إلي بمائة ألف درهم ومائة ثوب

نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات
صوت
( لقد فتنَتْ رَيَّا وسَلاَّمةُ القَسّا ... فلم تَتْرُكا للقَسّ عقلاً ولا نفسا )
( فتاتانِ أمَّا منهما فشبيهةُ الهلالِ ... وأخرى منهما تُشبه الشمسا )
الشعر لعبد الله بن قيس الرقيات والغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن سريج ثقيل أول عن الهشامي وزعم عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل لحنين الحيري وقيل إن الثقيل الأول لدحمان
ومنها الشعر الذي أوله
( أهابُكِ أن أقولَ بذلتُ نفسي ... )
صوت
( أَأَثْلةُ جَرّ جِيرتُكِ الزِّيالا ... وعاد ضميرُ ودِّكُم خَبَالاَ )

( فإنِّي مستقيلُكِ أَثْلُ لُبِّي ... ولُبَّ المرء أفضلُ ما استقالا )
( أهابُكِ أن أقولَ بذلتُ نفسي ... ولو أنِّي أطيع القلبَ قالا )
( حياءً منكِ حتى سُلّ جِسْمِي ... وشَقّ عليَّ كتمانِي وصالا )
الشعر للقس والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وفيه لمعبد ثقيل أول بالوسطى أوله
( أَهابُكِ أن اقولَ بذلتُ نفسي ... )
خبر لها مع القس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا بكار بن رباح قال
كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية وقد كانت أصابت جدة منه من صفوان بن أمية وكان ينزل مكة وكان من عباد أهلها فسمي القس من عبادته فمر ذات يوم بسلامة وهي تغني فوقف فتسمع غناءها فرآه مولاها فدعاه إلى أن يدخله إليها فيسمع منها فأبى عليه فقال له فإني أقعدك في مكان تسمع منها ولا تراها فقال أما هذا فنعم فأدخله داره وأجلسه حيث يسمع غناءها ثم أمرها فخرجت إليه فلما رآها علقت بقلبه فهام بها واشتهر وشاع خبره بالمدينة قال وجعل يتردد إلى منزل مولاها مدة طويلة ثم إن مولاها خرج يوما لبعض شأنه وخلفه مقيما عندها فقالت له أنا والله أحبك فقال لها وأنا والله الذي لا إله إلا هو قالت وأنا والله أشتهي أن أعانقك وأقبلك قال وأنا والله قالت وأشتهي والله أن أضاجعك واجعل بطني على بطنك وصدري على صدرك قال وأنا والله قالت فما يمنعك من ذلك فوالله إن المكان لخال قال يمنعني منه قول الله عز و جل ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) فأكره أن تحول مودتي لك

عداوة يوم القيامة ثم خرج من عندها وهو يبكي فما عاد إليها بعد ذلك
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني قال
لما ملك يزيد بن عبد الملك حبابة وسلامة القس تمثل
( فألقتْ عصاها واستقرّ بها النَّوَى ... كما قَرَّ عيناً بالإِيابِ المسافرُ )
ثم قال ما شاء بعد من أمر الدنيا فليفتني

صوت من المائة المختارة
( وإنِّي لَيُرْضِيني قليلُ نَوالِكُمْ ... وإن كنتُ لا أرضَى لكم بقليلِ )
( بحُرْمةِ ما قد كان بيني وبينكم ... من الوصلِ إلاَّ عُدْتُمُ بجميلِ )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لسليمان الفزازي ولحنه المختار من الرمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف رمل أوله الثاني ثم الأول ينسب إلى حكم الوادي وإلى سليمان أيضا وفيه لحن من الثقيل الأول يقال إنه لمخارق ذكر حبش أن لحن مخارق ثاني ثقيل

أخبار العباس بن الأحنف ونسبه
هو فيما ذكر ابن النطاح العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جدان بن كلدة من بني عدي بن حنيفة
وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل قال سمعت إبراهيم بن العباس يقول
العباس بن الأحنف بن الأسود بن قدامة بن هميان من بني هفان بن الحارث بن الذهل بن الدول بن حنيفة قال وكان حاجب بن قدامة عم العباس من رجال الدولة
قال محمد بن يحيى وحدثني أبو عبد الله الكندي قال حدثني محمد بن بكر الحنفي الشاعر قال حدثني أبي قال
سمعت العباس بن الأحنف يذكر أن هوذة بن علي الحنفي قد ولده من قبل بعض أمهاته

سخر شعره للغزل دون الهجاء أو المديح
وكان العباس شاعرا غزلا ظريفا مطبوعا من شعراء الدولة العباسية وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق ولمعانيه عذوبة ولطف ولم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني وقدمه أبو العباس المبرد في كتاب الروضة على نظرائه وأطنب في وصفه وقال رأيت جماعة من الرواة للشعر يقدمونه قال وكان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء وكان غزلا ولم يكن فاسقا وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب شديد التترف وذلك بين في شعره وكان قصده الغزل وشغله النسيب وكان حلوا مقبولا غزلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده ولم يكن هجاء ولا مداحا
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو ذكوان قال
سمعت إبراهيم بن العباس يصف العباس بن الأحنف فقال كان والله ممن إذا تكلم لم يحب سامعه أن يسكت وكان فصيحا جميلا ظريف اللسان لو شئت أن تقول كلامه كله شعر لقلت
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
رأيت نسخا من شعر العباس بن الأحنف بخراسان وكان عليها مكتوب شعر الأمير أبي الفضل العباس
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثني صالح بن عبد الوهاب

أن العباس بن الأحنف كان من عرب خراسان ومنشؤه ببغداد ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين ولا تزال قد ترى له الشيء البارع جدا حتى تلحقه بالمحسنين
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا يموت بن المزرع قال
سمعت خالي يعني الجاحظ يقول لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه وأكثر
حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال أنشد الحرمازي أبو علي وأنا حاضر للعباس بن الأحنف

صوت
( لا جَزَى اللَّهُ دمعَ عينيَ خيراً ... وجزى اللَّهُ كلَّ خيرٍ لساني )
( نَمَّ دمعِي فليس يكتُم شيئاً ... ورأيتُ اللِّسان ذا كتْمانِ )
( كنتُ مثلَ الكتابِ أخفاه طَيُّ ... فاستدلُّوا عليه بالعُنْوان )
الغناء لعريب رمل ثم قال الحرمازي هذا والله طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه
أخبرني محمد قال حدثني حسين بن فهم قال سمعت العطوي يقول

كان العباس بن الأحنف شاعرا مجيدا غزلا وكان أبو الهذيل العلاف يبغضه ويلعنه لقوله
( إذا أردتُ سُلُوّاً كان ناصركم ... قلبي وما أنا من قلبي بمنتصِر )
( فأَكْثِروا أو أَقِلُّوا من إساءتكم ... فكلُّ ذلك محمولٌ على القَدَرِ )
قال فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا ويقول يعقد الكفر والفجور في شعره
قال محمد بن يحيى وأنشدني محمد بن العباس اليزيدي شعرا للعباس أظنه يهجو به أبا الهذيل وما سمعت للعباس هجاء غيره
( يا من يُكَذِّبُ أخبارَ الرسولِ لقد ... أخطأتَ في كلِّ ما تأتي وما تَذَرُ )
( كَذَّبتْ بالقَدَرِ الجاري عليك فقد ... أتاك منِّي بما لا تَشْتهي القدرُ )

الأصمعي يعترف بأنه أحسن المحدثين
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن سعيد عن الرياشي قال
قيل للأصمعي أو قلت له ما أحسن ما تحفظ للمحدثين قال قول العباس بن الأحنف
صوت
( لو كنتِ عاتبةً لَسَكَّنَ رَوْعَتِي ... أَمَلِي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُرَاقِبِ )
( لكن مَلِلْتِ فلم تكن لِيَ حيلَةٌ ... صَدُّ المَلُولِ خلافُ صدِّ العاتبِ )
الغناء للعباس أخي بحر رمل
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن العباس اليزيدي قالا واللفظ لهاشم قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال
دخل عمي على الرشيد والعباس بن الأحنف عنده فقال العباس للرشيد دعني أعبث بالأصمعي قال له الرشيد إنه ليس ممن يحتمل العبث

فقال لست أعبث به عبثا يشق عليه قال أنت اعلم فلما دخل عمي قال له يا أبا سعيد من الذي يقول
( إذا أحببتَ أن تصنع ... شيئاً يُعجِب الناسا )
( فصَوِّرْ هَا هُنَا فَوْزاً ... وصَوِّرْ ثَمَّ عَبَّاسا )
( فإنْ لم يَدْنُوَا حتَّى ... ترى رأسَيْهما راسا )
( فكَذِّبْها بما قاستْ ... وكَذِّبْه بما قاسى )
فقال له عمي يعرض بأنه نبطي قاله الذي يقول
( إذا أحببتَ أن تُبْصِرَ ... شيئاً يُعجب الخَلْقا )
( فصَوِّرْ ها هنا دوراً ... وصَوِّرْ ها هنا فلقا )
( فإنْ لم يَدْنُوَا حتَّى ... ترى خَلْقَيْهما خَلْقا )
( فكَذِّبْها بما لاقتْ ... وكَذِّبْه بما يَلْقَى )
قال فخجل العباس وقال له الرشيد قد نهيتك فلم تقبل
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن العباس للعباس بن الأحنف
صوت
( قالت ظَلُومُ سَمِيَّةُ الظُّلْمِ ... ما لي رأيتُك ناحلَ الجسمِ )
( يا مَنْ رَمَى قلبي فأقْصَده ... أنت العليمُ بموضع السَّهْمِ )
فقلت له إن أبا حاتم السجستاني حكى عن الأصمعي أنه أنشد للعباس بن الأحنف

صوت
( أَتَأْذَنُون لِصَبٍّ في زيارتكم ... فعندكم شَهَواتُ السمعِ والبَصَرِ )
( لا يُضْمِرُ السُّوءَ إن طال الجلوسُ به ... عَفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظرِ )
فقال الأصمعي ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئا حتى أدخلها فأخرج هذا ومن أدمن طلب شيء ظفر ببعضه فقال إبراهيم بن العباس أنا لا أدري ما قال الأصمعي ولكن أنشدك للعباس ما لا تدفع أنت ولا غيرك فضله ثم أنشدني قوله
( واللَّهِ لو أنَّ القلوبَ كقلبها ... ما رَقَّ للولدِ الضعيفِ الوَالدُ )
وقوله
( لكن مَلِلْتِ فلم تكن ليَ حيلةٌ ... صَدُّ المَلُولِ خِلافُ صدِّ العاتبِ )
وقوله
( حتى إذا اقتحم الفتى لُجَجَ الهَوَى ... جاءت أمورٌ لا تُطَاقُ كِبارُ )
ثم قال هذا والله ما لا يقدر أحد على أن يقول مثله أبدا
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال كنا عند الحسن بن وهب فقال لبنان غنيني
( أَتَأْذَنُون لِصَبٍّ في زيارتكم ... فعندكم شَهَواتُ السِّمْعِ والبَصَرِ )
( لا يُضْمِرُ السُّوءَ إن طال الجلوسُ به ... عَفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظرِ )
قال فضحكت ثم قالت فأي خير فيه إن كان كذا أو أي معنى فخجل الحسن من نادرتها عليه وعجبنا من حدة جوابها وفطنتها

حدثني الصولي قال أخبرنا أحمد بن إسماعيل النصيبيني قال سمعت سعيد بن جنيد يقول ما أعرف أحسن من شعر العباس في إخفاء أمره حيث يقول
( أرِيدُكِ بالسلام فأَتَّقِيهم ... فأَعمِدُ بالسلام إلى سِواكِ )
( وأُكثِرُ فيهمُ ضَحِكِي ليَخْفَى ... فسِنِّي ضاحكٌ والقلبُ باك )

الواثق يتمثل بشعره في غضبه
حدثني الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي أحمد بن حمدون قال
كان بين الواثق وبين بعض جواريه شر فخرج كسلان فلم أزل أنا والفتح بن خاقان نحتال لنشاطه فرآني أضاحك الفتح فقال قاتل الله ابن الأحنف حيث يقول
( عَدْلٌ من اللَّه أبكاني وأضحكها ... فالحمدُ للَّه عدلٌ كلُّ ما صنَعا )
( اليوم أَبْكي على قلبي وأندُبُه ... قلبُ أَلَحْ عليه الحُبُّ فانصدَعا )
فقال الفتح أنت والله يا أمير المؤمنين في وضع التمثل موضعه أشعر منه وأعلم واظرف
أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال

قالت للواثق جارية له كان يهواها وقد جرى بينهما عتب إن كنت تستطيل بعز الخلافة فأنا أدل بعز الحب أتراك لم تسمع بخليفة عشق قبلك قط فاستوفى من معشوقه حقه ولكني لا أرى لي نظيرا في طاعتك فقال الواثق لله در ابن الأحنف حيث يقول
( أمَا تَحْسَبِيني أرى العاشقينَ ... بلَى ثم لستُ أرى لي نظيرا )
( لعلَّ الذي بيديه الأمورُ ... سيَجعل في الكُرْه خيراً كثيرا )

الزبير بن بكار يقول ابن الأحنف أشعر الناس
حدثني الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال سمعت الزبير يقول ابن الأحنف أشعر الناس في قوله
( تَعْتَلّ بالشُّغْلِ عنَّا ما تكلِّمنا ... الشغلُ للقلب ليس الشغلُ للبَدَنِ )
ويقول لا أعلم شيئا من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بهذا النصف الأخير
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن سعيد عن حماد بن إسحاق قال كان أبي يقول لقد ظرف ابن الأحنف في قوله يصف طول عهده بالنوم
( قِفَا خَبِّراني أيُّها الرجلانِ ... عن النوم إنّ الهجرَ عنه نَهاني )
( وكيف يكون النومُ أم كيف طَعْمُه ... صِفَا النَّومَ لي إن كنتما تَصِفَانِ )
قال على قلة إعجابه بمثل هذه الأشعار
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون بن مخلد قال حدثنا أحمد بن إبراهيم قال رأيت سلمة بن عاصم ومعه شعر العباس بن الأحنف

فعجبت منه وقلت مثلك أعزك الله يحمل هذا فقال ألا أحمل شعر من يقول

صوت
( أسَأتُ أَنْ أحسنتُ ظنِّي بكم ... والحَزْمُ سوءُ الظنّ بالنَّاس )
( يُقلقني الشوقُ فآتيكمُ ... والقلبُ مملوءٌ من الياس )
غنى هذين البيتين حسين بن محرز خفيف رمل بالوسطى وأول الصوت
( يا فوزُ يا مُنيةَ عبَّاسِ ... واحَرَبَا من قلبك القاسي )
وروى أحمد بن إبراهيم قال أتاني أعرابي فصيح ظريف فجعلت أكتب عنه أشياء حساناً ثم قال أنشدني لأصحابكم الحضريين فأنشدته للعباس بن الأحنف
( ذكرتُك بالتُّفَّاح لمَّ شَمِمْتُه ... وبالرَّاح لما قابلتْ أوْجُهَ الشَّرْبِ ) تذكَّرتُ بالتّفاح منك سَوَالِفاً ... وبالرَّاح طعماً من مُقَبَّلَك العَذبِ )
فقال هذا عندك وأنت تكتب عني لا أنشدك حرفا بعد هذا
وحدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب قال سمعت عبد الله بن العباس بن الفضل يقول ما أعرف في العراق أحسن من قول ابن الأحنف
( سبحانَ ربِّ العُلاَ ما كان أغْفَلَنِي ... عما رمَتْنِي به الأيامُ والزمنُ )
( مَنْ لم يَذُقْ فُرقةَ الأحبابِ ثم يرى ... آثارَهم بعدهم لم يَدْرِ ما الحَزَنُ )

قال أبو بكر وقد غنى عبد الله بن العباس فيه صوتاً خفيف رملٍ
حدثني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال سمعت حسين ين الضحاك يقول
لو جاء العباس بن الأحنف بقوله ما قاله في بيتين في أبيات لعذر وهو قوله
( لَعَمْرُك ما يستريح المُحِبُّ ... حتى يَبوحَ بأسرارِهِ )
( فقد يكتمُ المرءُ أسرارَه ... فتظهرُ في بعض أشعارِه )
ثم قال أما قوله في هذا المعنى الذي لم يتقدمه فيه أحد فهو
( الحُبُّ أَمْلَكُ للفؤاد بقهره ... من أن يُرَى للسَّتر فيه نصيبُ )
( وإذا بَدَا سرُّ اللبيبِ فإنَّه ... لم يَبْدُ إلاَّ والفتى مغلوبُ )
أخبرني الصولي قال حدثني الغلابي قال حدثني الزبير بن بكار قال قال أبو العتاهية ما حسدت أحداً إلا العباس بن الأحنف في قوله
( إذا امتنع القريبُ فلم تَنَلْهُ ... على قُرْبٍ فذاك هو البعيدُ )
فإني كنت أولى به منه وهو بشعري أشبه منه بشعره فقلت له صدقت هو يشبه شعرك

الكندي يستجيد شعره
أخبرني الصولي قال حدثني أبو الحسن الأنصاري قال سمعت

الكندي يقول العباس بن الأحنف مليح ظريف حكيم جزل في شعره وكان قليلاً ما يرضيني الشعر فكان ينشد له كثيراً

صوت
( أَلاَ تَعْجَبون كما أعجبُ ... حبيبٌ يُسيء ولا يُعْتِبُ )
( وأبغِي رضاهُ على سُخْطِهِ ... فيأبَى عليَّ ويستصعِبُ )
( فيا ليتَ حَظِّي إذا ما أسأْتَ ... أنَّك ترضَى ولا تَغْضَبُ )
شغف إبراهيم الموصلي بشعره فتغنى به
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثني حماد بن إسحاق قال
كان جدي إبراهيم مشغوفا بشعر العباس فتغنى في كثير من شعره فذكر أشعاراً كثيرة حفظت منها
صوت
( وقد مُلِئتْ ماءَ الشَّبابِ كأنَّها ... قضيبٌ من الرَّيْحان رَيَّانُ أخضر )
( همُ كتموني سَيْرَهم حين أزمَعُوا ... وقالوا اتَّعَدْنا للرَّوَاح وبَكَّرُوا )
ذكر الهشامي أن اللحن في هذين البيتين لعلويه رمل وفي كتاب ابن المكي أنه لابن سريج وهو غلط
وقد أخبرني الحسن بن علي عن الحسين بن فهم قال
أنشد المأمون قول عباس بن الأحنف

( همُ كتموني سَيْرَهم حين أزمعوا ... وقالوا اتَّعَدْنا للرَّواح وبكَّرُوا )
فقال المأمون سخروا بأبي الفضل
قال وحفظت منها
صوت
( تمنَّى رجالٌ ما أحبُّوا وإنما ... تمنَّيتُ أن أشكو إليكَ وتَسْمعا )
( أَرَى كلّ معشوقيْن غيري وغيرها ... قد استعذَبا طولَ الهوى وتمتَّعا )
الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر وفيه ثقيل أول بالوسطى ينسب إلى يزيد حوراء وإلى سليم بن سلام
قال وحفظت منها
( بكتْ عيني لأنْواعِ ... من الحزن وأوجاعِ )
( وأني كلَّ يوم عندكم ... يَحْظى بيَ السَّاعي )
( أعيشُ الدَّهرَ إن عشتُ ... بقلبٍ منكِ مُرْتاعِ )
( وإن حلَّ بيَ البعدُ ... سيَنْعانِي لكِ النَّاعي )
الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفي كتاب إبراهيم بن المهدي الذي رواه الهشامي عنه أن لإبراهيم بن المهدي فيه لحنين ثقيلا أول وماخورياً وفيه هزج محدث
أخبرني الصولي قال حدثنا أصحابنا عن محمد بن الفضل عن حماد بن إسحاق قال

ما غنى جدي في شعر أحد من الشعراء أكثر مما غنى في شعر ذي الرمة وعباس بن الأحنف
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله التميمي قال
كنا في مجلس ابن الأعرابي إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سالم كان يلزم ابن الأعرابي وكان يحبه ويأنس به فقال له ما أخرك عني فاعتذر بأشياء ثم قال كنت مع مخارق عند بعض بني الرشيد فوهب له مائة ألف درهم على صوت غناه به فاستكثر ذلك ابن الأعرابي واستهاله وعجب منه وقال ما هو قال غناه بشعر عباس بن الأحنف
( بكتْ عيْني لأنواعِ
من الحزن وأوجاعِ )
( وأني كل يوم عندكم ... يَحْظَى بيَ السَّاعي )
فقال ابن الأعرابي أما الغناء فما أدري ما هو ولكن هذا والله كلام قريب مليح
حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن الهيثم قال حدثني محمد بن عمرو الرومي قال
كنا عند الواثق فقال أريد أن أصنع لحناً في شعر معناه أن الإنسان كائناً من كان لا يقدر على الاحتراس من عدوه فهل تعرفون في هذا شيئاً فأنشدنا ضروباً من الأشعار فقال ما جئتم بشيء مثل قول عباس بن الأحنف
( قلبي إلى ما ضرَّني داعِي ... يُكْثِر أسقامي وأوجاعِي )
( كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي )

( أَسْلمني للحبّ أشياعي ... لمَّا سعى بي عندها السَّاعي )
( لقلَّما أَبْقى على كلّ ذا ... يُوشك أن يَنْعانِيَ النَّاعي )
قال فعمل فيه الواثق لحنه الثقيل الأول النشيد بالوسطى

خبر المتوكل وعلي بن الجهم في صدد شعره
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن موسى أو حدثت به عنه عن علي بن الجهم قال
انصرفت ليلة من عند المتوكل فلما دخلت منزلي جاءني رسوله يطلبني فراعني ذلك وقلت بلاء تتبعت به بعد انصرافي فرجعت إليه وجلا فأدخلت عليه وهو في مرقده فلما رآني ضحك فأيقنت بالسلامة فقال يا علي أنا مذ فارقتك ساهر خطر على قلبي هذا الشعر الذي يغني فيه أخي قول الشاعر
( قلبي إلى ما ضرَّني دَاعِي ... )
الأبيات فحرصت أن أعمل مثل هذا فلم يجئني أو أن أعمل مثل اللحن فما أمكنني فوجدت في نفسي نقصاً فقلت يا سيدي كان أخوك خليفة يغني وأنت خليفة لا تغني فقال قد والله أهديت إلى عيني نوماً أعطوه الف دينار وحييته وانصرفت
وجدت في كتاب الشاهيني بغير إسناد

أنشد ابو الحارث جميز قول العباس بن الأحنف
( قلبي إلى ما ضرَّني دَاعِي ... )
الأبيات فبكى ثم قال هذا شعر رجل جائع في جارية طباخة مليحة فقلت له من اين قلت ذاك قال لأنه بدأ فقال
( قلبي إلى ما ضرَّني داعِي ... )
وكذلك الإنسان يدعوه قلبه وشهوته إلى ما يضره من الطعام والشراب فيأكله فتكثر علله وأوجاعه وهذا تعريض ثم صرح فقال
( كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي )
وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلا معدته فهي تتلف ماله وهي سبب أسقامه وهي مفتاح كل بلاء عليه ثم قال
( إن دام لي هجرُك يا مالِكي ... أَوْشك أن يَنْعانيَ النَّاعِي )
فعلمت أن الطباخة كانت صديقته وأنها هجرته ففقدها وفقد الطعام فلو دام ذلك عليه لمات جوعاً ونعاه الناعي
وحدثني الصولي قال حدثني محمد بن عيسى قال
جاء عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع إلى الحسن بن وهب وعنده بنان جارية محمد بن حماد وهي نائمة سكرى وهي يبكي عندها فقال له ما لك قال قد كنت نائما فجاءتني فأنبهتني وقالت اجلس حتى تشرب فجلست فوالله ما غنت عشرة أصوات حتى نامت وما شربت إلا قليلا فذكرت قول أشعر الناس وأظرفهم العباس بن الأحنف

صوت
( أبكي الذين أذاقوني مودَّتَهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقَدُوا )
فأنا أبكي وأنشد هذا البيت

ابنه إبراهيم يمدح شعره وينشد له
وحدثني الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل قال
سمعت إبراهيم بن العباس يقول ما رأيت كلاما محدثا أجزل في رقة ولا أصعب في سهولة ولا أبلغ في إيجاز من قول العباس بن الأحنف
( تعالَيْ نُجَدِّدْ دارسَ العهد بيننا ... كلانا على طول الجفاء مَلُومُ )
قال الصولي ووجدت بخط عبد الله بن الحسن أنشد ابو محمد الحسن بن مخلد قال أنشدني إبراهيم بن العباس بن الأحنف
صوت
( إن قال لم يَفْعَل وإن سِيلَ لم ... يَبْذُل وإن عُوتِبَ لم يُعتِبِ )
( صبٌّ بعِصْياني ولو قال لي ... لا تَشْربِ الباردَ لم أشْرَبِ )
( إليك أشكو ربِّ ما حلَّ بي ... من صدّ هذا المُذْنِب المُغْضَبِ )
غنى في هذه الأبيات أحمد بن صدقة هزجاً بالوسطى وفيها لحن آخر لغيره قال الحسن بن مخلد ثم قال لي إبراهيم بن العباس هذا والله الكلام الحسن المعنى السهل المورد القريب المتناول المليح اللفظ العذب المستمع
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال
سمعت علي بن يحيى يقول من الشعر المرزوق من المغنين خاصة

شعر العباس بن الأحنف وخاصة قوله
( نامَ من أَهْدى ليَ الأرَقَا ... مستريحاً سامَني قَلَقَا )
فإنه غنى فيه جماعة من المغنين منهم إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وغيرهما قال وكان يستحسن هذا الشعر وأظن استحسانه إياه حمله على أن قال في رويه وقافيته
( بأبي واللَّهِ مَن طرَقَا ... كابتسام البرق إذا خَفَقَا )
وعمل فيه لحناً من خفيف الثقيل في الإصبع الوسطى هكذا رواه الصولي
وأخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال أبي هذا الصوت
( نام من أهدى ليَ الأَرَقا ... )
كان محظوظاً من المغنين
من الأشعار المحظوظة في الغناء لكثرة ما فيه من الصنعة واشتراك المغنين في ألحانه وذكر محمد بن الحسن الكاتب عن علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون أنه قال ذلك ولم يذكره عن إسحاق

نسبة هذين الصوتين منهما
صوت
( نام من أَهْدى ليَ الأَرَقا ... مستريحاً زادَني قَلَقَا )
( لو يَبيتُ الناسُ كلُّهم ... بسهادي بيَّض الحَذقا )
( كان لي قلبٌ أعيش به ... فاصطلى بالحبّ فاحترقا )
( أنا لم أرْزَق مودَّتكم ... إنما للعبد ما رُزِقا )

لإسحاق في هذا الشعر خفيف بالوسطى في مجراها ولأبيه إبراهيم أيضا فيه خفيف ثقيل آخر ولابن جامع فيه لحنان رمل مطلق في مجرى الوسطى في الأول والثالث وخفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى ايضاً في الأبيات كلها وفيه لسليم هزج وفيه لعلويه ثقيل أول

نسبة
صوت
علي بن يحيى صوت
( بأبي واللَّه مَنْ طَرَقا ... كابتسام البرق إذ خَفَقَا )
( زادني شوقاً بزَوْرَته ... وملا قلبي به حرقَا )
( مَنْ لقلبٍ هائمٍ دَنِفٍ ... كلَّما سلَّيتُه قَلِقا )
( زارني طيفُ الحبيب فما ... زاد أن أَغْرى بيَ الأَرَقا )
الشعر لعلي بن يحيى وذكر الصولي أن الغناء له خفيف ثقيل أول بالوسطى وذكر أبو العبيس بن حمدون أن هذا الخفيف الثقيل من صنعته وفيه لعريب ثاني ثقيل بالوسطى أيضا
حدثني الصولي قال سمعت عبد الله بن المعتز يقول لو قيل ما أحسن شيء تعرفه لقلت شعر العباس بن الأحنف
صوت
( قد سحَّبَ الناسُ أذيالَ الظنونِ بنا ... وفرَّق الناسُ فينا قولَهم فِرَقَا )
( فكاذِبٌ قد رمَى بالحبّ غيرَكُم ... وصادقٌ ليس يَدْري أنَّه صدَقا )
قال وللمسدود في هذا الشعر لحن قال ولم يغن المسدود أحسن

من غنائه في شعر العباس بن الأحنف هكذا ذكر الصولي ولم يأت بغير هذا ولإسحاق في هذين البيتين ثقيل أول بالبنصر من نسخة عمرو بن بانة الثانية ولابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وليزيد حوراء خفيف ثقيل عنه وللمسدود رمل ولعبد الله بن العباس الربيعي خفيف رمل
وأخبرني الصولي قال حدثني محمد بن سعيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
غضب الفضل بن الربيع على جارية له كانت أحب الناس إليه فتأخرت عن استرضائه فغمه ذلك فوجه إلى أبي يعلمه ويشكوها إليه فكتب إليه أبي لك العزة والشرف ولأعدائك الذل والرغم استعمل قول العباس بن الأحنف
( تحمَّلْ عظيمَ الذنب ممَّن تحبّه ... وإن كنتَ مظلوماً فقُل أنا ظالمُ )
( فإنك إلاَّ تَغْفِر الذنبَ في الهوى ... يُفارِقْك من تَهوى وأنفُك راغِمُ )
فقال صدقت وبعث إليها فترضاها

دفاع مصعب بن الزبير عن شعره
أخبرني الصولي قال حدثني أبو بكر بن أبي خثيمة قال
قيل لمصعب الزبيري إن الناس يستبردون شعر العباس بن الأحنف فقال لقد ظلموه أليس الذي يقول
صوت
( قالت ظلومُ سمّيةُ الظُّلْم ... ما لي رأيتُك ناحلَ الجسمِ )

( يا من رمى قَلبي فأقْصَدَه ... أنت العليمُ بموقع السَّهْمِ )
الغناء لأبي العبيس أو ابنه إبراهيم ماخوري
أخبرني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال حدثني أبو عبد الله الهشامي الحسن بن أحمد قال حدثنا عمرو بن بانة قال
كنا في دار أم جعفر جماعة من الشعراء والمغنين فخرجت جارية لها وكمها مملوء دراهم فقالت أيكم القائل
( من ذا يُعيرك عينَه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تُعارُ )
فأومىء إلى العباس بن الأحنف فنثرت الدراهم في حجره فنفضها فلقطها الفراشون ثم دخلت ومعها ثلاثة نفر من الفراشين على عنق كل فراش بدرة فيها دراهم فمضوا بها إلى منزل العباس بن الأحنف
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى قال
أنشد الرشيد قول العباس بن الأحنف
( من ذا يُعيرك عينَه تبكي بها ... )
فقال من لا صحبه الله ولا حاطه
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال
كنا مع مخلد الموصلي في مجلس وكان معنا عبد الله بن ربيعة الرقي فأنشد مخلد الموصلي قصيدة له يقول فيها
( كلُّ شيء أَقْوى عليه ولكنْ ... ليس لي بالفِراق منك يَدانِ )
فجعل يستحسنه ويردده فقال له عبد الله أنت الفداء لمن أبتدأ هذا

المعنى فأحسن فيه حيث يقول
( سلبتْني من السُّرور ثِيابا ... وكسَتني من الهموم ثِيابَا )
( كلما أغْلَقتْ من الوصل بابا ... فتَحَتْ لي إلى المنيَّةِ بابا )
( عذَّبِيني بكلِّ شيء سوى الصدّ ... فما ذقتُ كالصدود عذابا )
قال فضحك الموصلي والشعر للعباس بن الأحنف

الرياشي يمتدح شعره
وأخبرني الصولي قال حدثني أبو الحسن الأسدي قال
سمعت الرياشي يقول وقد ذكر عنده العباس بن الأحنف والله لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفيا
صوت
( أُحْرَمُ منكم بما أقولُ وقد ... نالَ به العاشِقونَ من عَشِقُوا )
( صِرْت كأني ذُبالةٌ نُصِبَتْ ... تُضِيءُ للنَّاسِ وهي تحْترقُ )
وفي هذين البيتين لحن لعبد الله بن العباس من الثقيل الثاني بالبنصر وفيه لخزرج رمل أول عن عبد الله بن العباس
( أنتِ لا تعلمينَ ما الهمُّ والحُزْنُ ... ولا تعلَمين ما الأَرَقُ )
الرشيد وإسحاق الموصلي يختلفان في مدحه ومدح أبي العتاهية
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال حدثني بعض مشايخ الأزد عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال

كان الرشيد يقدم أبا العتاهية حتى يجوز الحد في تقديمه وكنت أقدم العباس بن الأحنف فاغتابني بعض الناس عند الرشيد وعابني عنده وقال عقب ذلك وبحسبك يا أمير المؤمنين أنه يخالفك في العباس بن الأحنف على حداثة سنه وقلة حذقه وتجريبه ويقدمه على أبي العتاهية مع ميلك إليه وبلغني الخبر فدخلت على الرشيد فقال لي ابتداء أيما أشعر عندك العباس بن الأحنف أو أبو العتاهية فعلمت الذي يريد فأطرقت كأني مستثبت ثم قلت أبو العتاهية أشعر قال أنشدني لهذا ولهذا قلت فبأيهما أبدأ قال بالعباس قال فأنشدته أجود ما أرويه للعباس وهو قوله
( أُحْرَمُ مِنكم بما أقولُ وقد ... نالَ به العاشِقونَ مَنْ عَشِقُوا )
فقال لي أحسن فأنشدني لأبي العتاهية فأنشدته أضعف ما أقدر عليه وهو قوله
( كأنَّ عُتَّابَةَ من حُسْنها ... دُمْيَة قَسٍّ فتنتْ قَسَّها )
( يا رَبِّ لو أنسيتَنِيها بما ... في جَنَّةِ الفردوسِ لم أنْسَها ) ... ( إني إذاً مثلُ التي لم تزل ... دائبةً في طحنها كُدْسَها )
( حتى إذا لم يبق منها سوى ... حَفْنةِ بُرٍّ قتلتْ نفسَها )
قال أتعيره هذا فأين أنت عن قوله
( قال لي أحمدٌ ولم يدْرِ ما بي ... أتحبُّ الغداةَ عُتبةَ حَقّا )
( فتنفَّسْتُ ثُمَّ قلت نعم حُبّاً ... جرى في العروق عِرْقاً فعِرْقا )
ويحك أتعرف لأحد مثل هذا أو تعرف أحدا سبقه إلى قوله فتنفست ثم قلت كذا وكذا اذهب ويحك فاحفظها فقلت نعم يا أمير المؤمنين

ولو كنت سمعت بها لحفظتها قال إسحاق وما أشك أني كنت أحفظ لها حينئذ من أبي العتاهية ولكني إنما أنشدت ما أنشدت تعصبا
قال محمد بن يزيد
وحدثت من غير وجه أن الرشيد ألف العباس بن الأحنف فلما خرج إلى خراسان طال مقامه بها ثم خرج إلى أرمينية والعباس معه ماشيا إلى بغداد فعارضه في طريقه فأنشده
( قالوا خُراسانُ أقصى ما يُرادُ بنا ... ثم القُفولُ فَقد جئنا خراسانا )
( ما أقدرَ اللَّه أن يُدْني على شَحَط ... سُّكّانَ دِجَلة من سُكَّان جَيْحانا )
( متى الذي كنتُ أرجوه وآمُلُه ... أمَّا الذي كنتُ أخشاه فقد كانا )
( عينُ الزمانِ أصابتْنا فلا نَظَرتْ ... وعذَّبتْ بصنوفِ الهجر ألوانا )
في هذين البيتين الأخيرين رمل بالوسطى ينسب إلى مخارق وإلى غيره قال فقال له الرشيد قد اشتقت يا عباس وأذنت لك خاصة وأمر له بثلاثين ألف درهم
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن القاسم قال سمعت مصعبا الزبيري يقول
العباس بن الأحنف وعمرو العراف ما ابتدلا شعرهما في رغبة ولا رهبة ولكن فيما أحباه فلزما فنا واحدا لو لزمه غيرهما ممن يكثر إكثارهما لضعف فيه

ذكر الأصوات التي تجمع النغم العشر
منها
صوت
( توهَّمتُ بالخَيْف رسماً مُحِيلاً ... لعَزَّةَ تَعْرِفُ منه الطُّلولا )
( تَبَدَّل بالحيّ صوتَ الصَّدى ... ونوحَ الحمامة تدعو هَدِيلا )
عروضه من المتقارب الخيف الذي عناه كثير ليس بخيف منى بل هو موضع آخر في بلاد ضمرة والطلول جمع طلل وهو ما كان له شخص وجسم عال من آثار الديار والرسم ما لم يكن له شخص وجسم والصدى ها هنا طائر وفي موضع آخر العطش ويزعم أهل الجاهلية أن الصدى طائر يخرج من رأس المقتول فلا يزال يصيح اسقوني حتى يدرك بثأره قال طرفة
( كريم يروِّي نفسَه في حياته ... ستعلم إن مِتْنا صَدًى أيُّنا الصَّدِي )
والحمام القماري ونحوها من الطير والهديل أصواتها
الشعر لكثير والغناء لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر ونسبه إلى جاريته وكنى عنها فذكر أن الصنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء وعظم علمه وأتعب نفسه حتى جمع النغم العشر في هذا الصوت وذكر أن طريقته من الثقيل

الأول وأنه ليس يجوز أن ينسبه إلى موضع إصبع مفردة لأن ابتداءه على المثنى مطلقا ثم بسبابة المثنى ثم وسطى المثنى ثم بنصر المثنى ثم خنصر المثنى ثم سبابة الزير ثم وسطاه ثم بنصره ثم خنصره ثم النغمة الحادة وهي العاشرة وفيه لابن محرز ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وفيه لابن الهربذ رمل بالوسطى عن عمرو وهذا الصوت من الثقيل الثاني وهو الذي ذكر إسحاق في كتاب النغم وعللها أن لحن ابن محرز فيه يجمع ثمانيا من النغم العشر وأنه لا يعرف صوتا يجمعها غيره وأنه يمكن من كان له علم ثاقب بالصناعة أن يأتي في صوت واحد بالنغم العشر بعد تعب طويل ومعاناة شديدة وذكر عبيد الله أن صانع هذا الصوت الذي كنى عنه فعل ذلك وتلطف له حتى أتى بالنغم العشر في هذا متوالية من أولها إلى آخرها وأتى بها في الصوت الذي بعده متفرقة على غير توال إلا أنها كلها فيه وذكر أن ذلك الصوت أحسن مسموعا وأحلى وحكى ذلك أيضا عنه يحيى بن علي بن يحيى في كتاب النغم وإذ فرغت من حكاية ما ذكره وحكاه عبيد الله في نسبة هذا الصوت فقد ينبغي ألا أجري الأمر فيه على التقليد دون القول الصحيح فيما ذكره وحكاه والذي وصفه من جهة النغم العشر متوالية في صوت واحد محال لا حقيقة له ولا يمكن أحدا بتة أن يفعله وأنا أبين العلة في ذلك على تقريب إذ كان استقصاء شرحها طويلا وقد ذكرته في رسالة إلى بعض إخواني في علل النغم وشرحت هناك العلة في أن قسم الغناء قسمين وجعل على مجريين الوسطى والبنصر دون غيرهما حتى لا يدخل واحدة منهما على صاحبتها في مجراها قرب مخرج الصوت إذا كان على الوسطى منه أو إذا كان على البنصر وشبهه به فإذا أراد مريد إلحاق هذا بهذا لم يمكنه بتة على وجه ولا سبب ولا يوجد في استطاعة حيوان أن يتلو إحداهما بالأخرى وإذا

أتبعت إحداهما بالأخرى في ناي أو آلة من آلات الزمر تفصلت إحداهما من الأخرى وإنما قلت النغم في غناء الأوائل لأنهم قسموها قسمين بين هاتين الإصبعين فوجدوهما إذا دخلت إحداهما مع الأخرى في طريقتها لم يكن ذلك إلا بعد أن يفصل بينهما بنغم أخرى للسبابة والخنصر يدخل بينهما حتى تتباعد المسافة بينهما ثم لا يكون لذلك الغناء ملاحة ولا طيب للمضادة في المجريين بينهما فتركوه ولم يستعملوه فإن كان صح لعبيد الله عمل في النغم العشر في صوت فلعله صح له في الصوت الذي ذكر أنه فرقها فيه فأما المتوالية على ما ذكره ها هنا فمحال ولست أقدر في هذا الموضع على شرح أكثر من هذا وهو في الرسالة التي ذكرتها مشروح
انتهى الجزء الثامن من كتاب الأغاني ويليه الجزء التاسع وأوله نسب كثير وأخباره

ترجمة حارثة بن بدر
لحق بالجزء الثامن من طبعة دار الكتب

صوت من المائة المختارة
( يا دار عَبْلَةَ من مَشارق مَأْسَل ... دَرس الشّؤون وعَهدُها لم يَنْجَلِ )
( واستبدلتْ عُفْرَ الظّباء كأنما ... أَبعارُها في الصَّيف حَبُّ الفُلْفل )
ذكر يحيى بن علي أن الشعر لعنترة بن شداد وليس ذلك بصحيح وذكر غيره من الرواة أنه لعبد قيس بن خفاف البرجمي وليس ذلك بصحيح أيضا والشعر لحارثة بن بدر الغداني من قصيدة له طويلة يفتخر فيها ويذكر سالف أيامه وقد ذكرت المختار منها بعقب أخبار حارثة وبعد انقضائها والغناء المختار لأبي دلف العجلي ولحنه في المختار ثقيل اول وفيه ألحان كثيرة

نسب حارثة بن بدر وأخباره
حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة بن يربوع
وقال خالد بن حبل
حارثة بن بدر بن مالك بن كليب بن غدانة بن يربوع
وأم حارثة بن بدر امرأة من بني صريم بن الحارث يقال لها الصدوف بنت صدى
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري قال
مر عمرو بن الأهتم بحارثة بن بدر والأحنف بن قيس وزيد بن جبلة وهم مجتمعون فسلم عليهم ثم بقي مفكراً فقالوا ما لك فقال ما في الأرض ثلاثة أنجب من آبائكم حيث جاؤوا بأمثالكم من أمثال أمهاتكم فضحكوا منه
قال
وأم الأحنف الزافرية واسمها حبى من باهلة وأم زيد بن جبلة

عمرة بنت حذلم من بني الشعيراء وأم حارثة الصدوف بنت صدى من بني صريم بن الحارث
وقد مضى نسب بني يربوع في نسب جرير وغيره من عشيرته من هذا الكتاب
وفي بني غدانة يقول الفرزدق
( أبني غُدانة أنَّني حَرَّرتُكم ... فوهبتُكم لعطيَّة بن جِعَالِ )
( لولا عَطِيَّة لاجْتَدَعْتُ أُنوفكم ... من بين ألأمِ أعيُنٍ وسِبَال )
وكان عطية استوهب منه أعراضهم لصهر كان بينه وبينهم وكان عطية سيداً من سادات بني تميم فلما سمع هذا الشعر قال والله لقد امتن علي أبو فراس بهذه الهبة وما تممها حتى ارتجعها ووصل الامتنان بتحريرهم بأقبح هجاء لهم
قال
وكان عطية هذا جواداً وفيه يقول جرير
( إن الجوادَ على المواطن كلُها ... وابنَ الجواد عطيةُ بن جِعَال )
( يهب النجائبَ لا يَملُّ عطاءها ... والمُقرَباتِ كأنهن سَعالى )

مرتبته بين الشعراء
وحارثة بن بدر من فرسان بني تميم ووجوهها وساداتها وجودائها وأحسب أنه قد أدرك النبي في حال صباه وحداثته

وهو من ولد بني الأحنف بن قيس وليس بمعدود في فحول الشعراء ولكنه كان يعارض نظراءه الشعر وله من ذلك أشياء كثيرة ليست مما يلحقه بالمتقدمين في الشعر والمتصرفين في فنونه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أنبأنا عمر بن شبة قال أنبأنا المدائني قال
كان زياد مكرماً لحارثة بن بدر قابلا لرأيه محتملا لما يعلمه من تناوله الشراب فلما ولي عبيد الله بن زياد أخر حارثة بعض التأخير فعاتبه على ذلك فقال له عبيد الله إنك تتناول الشراب فقال له قد كان أبوك يعلم هذا مني ويقربني ويكرمني فقال له إن أبي كان لا يخاف من القالة في تقريبك ما أخاف وإن اللسان إلي فيك لأسرع منه إلى أبي فقال حارثة
( وكم من أميرٍ قد تجبَّر بعدما ... مَريت له الدنيا بسَيفي فدرَّتِ )
( إذا ما هي احلولتْ نَفَى حق مقسمي ... ويَقْسِم لي منها إذا ما أمرَّت )
( إذا زَبَنَتْه عن فُواقٍ يريدُه ... دُعِيتُ ولا أُدْعَى إذا ما أَقَرَّت )
وقال حارثة بن بدر أيضا وقد شاوره عبيد الله في بعض الأمر
( أُهَانُ وأُقصى ثم يَنتصحونني ... ومَنْ ذا الذي يُعطي نصيحتَه قَسْرَا )
( رأيتُ أكفَّ المُصْلِتِينَ عليكمُ ... مِلاءً وكفِّي من عَطاياكُمُ صِفرا )
( متَى تسألوني ما عليَّ وتَمنعوا الذي ... ليَ لم أسطِعْ على ذلكم صبرا )
فقال له عبيد الله فإني معوضك وموليك فولاه

نماذج من شعره
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال أنبأنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري قال قال لي أبو اليقظان
حول زياد دعوة حارثة بن بدر وديوانه في قريش لمكانه منه فقال فيه رجل من بني كليب يهجوه بذلك
( شهدتُ بأن حارثةَ بنَ بدرٍ ... غُدانيُّ اللَّهازِم والكَلامِ )
( سَجاحِ في كتاب اللَّه أدنى ... له من نَوفلٍ وبني هشام )
يعني سجاح التي ادعت النبوة وهي امرأة من بني تميم
قال أحمد بن يحيى وقال المدائني
احترقت دار حارثة بن بدر بالبصرة أحرقها بعض أعدائه من بني عمه فقال في ذلك
( رأيتُ المنايا بَادِئَاتٍ وَعُوَّداً ... إلى دارنا سهلاً إليها طَرِيقُهَا )
( لها نَبْعَةٌ كانت تَقينا فُروعها ... فقد تَلِفت إلا قليلاً عُروقها )
قال
وكان لحارثة أخ يقال له دارع فأحرق مع ابن الحضرمي بالبصرة
وقال أحمد بن يحيى أيضا

كان عطية بن جعال يهاجي حارثة بن بدر ثم اصطلحا وكان أيضاً يهاجيه من قومه العكمص وكانت بنو سليط تروي هجاءه لحارثة بن بدر فقال حارثة يهجوهم
( أراويةً عليَّ بنو سَليط ... هجاءَ الناس يا لَبَني سَلِيط )
( فما لَحْمي لتأكله سَليط ... شبيهاً بالذكيِّ ولا العَبيط )

حوار شعري بينه وبين أنس بن زنيم
أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن صالح بن سمح بن عمرة الأسدي أبو الحسن قال أنبأنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال روح بن السكن
كان أنس بن زنيم الليثي صديقاً لعبيد الله بن زياد فرأى منه جفوة وأثرة لحارثة بن بدر الغداني فقال
( أُهان وأُقصى ثم تُرجَى نَصيحتي ... وأيُّ امرىء يُعطي نصيحته قَسْرَا )
( رأيتُ أَكُفَّ المُصْلِتينَ عليكُمُ ... مِلاءً وكفِّي من عَطاياكُم صِفْرا )
( فإن تسألوني ما عليّ وتمنعوا الَّ ... ذِي ليَ لم أسطِع على ذلكم صبرا )
( رأيتكمُ تُعطون من تَرهبونه ... زربيةً قد وُشِّحتْ حَلَقاً صُفرا )
( وإنِّي مع الساعي عليكم بسيفه ... إذا عَظْمكم يوماً رأيتُ به كَسرا )

فقال عبيد الله بن زياد لحارثة بن بدر أجبه فاستعفاه لمودة كانت بينهما فأكرهه على ذلك وأقسم عليه ليجيبنه فقال
( تبدلْتُ من أُنس إنَّه ... كَذَوبُ المودَّةِ خَوَّانُها )
( أراهُ بصيراً بضُرِّ الخليل ... وخير الأخلاَّءِ عُورَانُها )
فأجابه أنس فقال
( إن الخيانةَ شرُّ الخَليلِ ... والكُفْرُ عندك دِيوانُها )
( بَصُرْتُ به في قديم الزمانِ ... كما بَصَرُ العينِ إنسانُها )
فأجابه حارثة بن بدر فقال
( أَلكني إلى أنسٍ إنَّه ... عَظِيمُ الحُوَاشَة عِنْدِي مَهِيبْ )
( فما أَبْتَغِي عَثَراتِ الخليلِ ... وَلاَ أَبغينَّ عليهِ الوثوب )
( وما إن أَرَى مالَهُ مغنماً ... من الدهر إنْ أعوزتني الكُسُوب )
فقال أنس
( أحارِ بنَ بدرٍ وأنت امرؤٌ ... لَعمري المتاعُ إليّ الحبيبْ )
( متى كان مالُكَ لي مَغْنَماً ... من الدهرِ إن أعوزتِني االكُسُوب )
( وشرُّ الأخلاَّءِ عند البلاءِ ... وعند الرزيَّةِ خِلٌّ كَذُوب )
قال فتهادى أنس وحارثة الشعر عند عبيد الله زمانا ووقع بينهما شر حتى قدم سلم بن زياد من عند يزيد بن معاوية عاملاً على خراسان وسجستان

فجعل ينتخب ناساً من أهل البصرة والكوفة وكان الذي بين عبيد الله وبين سلم شيئاً فأرسل سلم إلى أنس يعرض عليه صحبته وجعل له أن يستعمله على كورة فقال له أنس أمهلني حتى أنظر في أمري وكتب إلى عبيد الله بن زياد
( ألم تَرَنِي خُيِّرْتُ والأمرُ واقعٌ ... فما كنت لما قلت بالمُتخيِّرِ )
( رِضاك على شيءٍ سواهُ ومن يكن ... إذا اختار ذا حرمٍ من الأمر يَظْفَر )
( فعُدْت لترضَى عن جهادٍ وصاحبٍ ... شفِيقٍ قَدِيمِ الوُدِّ كان موقَّرِّي )
( على أحد الثَّغرينِ ثم تركتَه ... وقد كنتَ في تأميره غير مُمْتَرِي )
( فأمسكتُ عن سَلْمِ عِنَانِي وصُحبتي ... ليعرفَ وجه العُذرِ قبل التعذر )
( فإن كنتَ لمَّا تَدْرِ ما هي شيمتي ... فسلْ بيَ أكفَائي وسَل ربِيَ معشَرِي )
( ألستُ مع الإحسانِ والجُودِ ذا غِنىً ... وبأسٍ إذا ما كُفِّروا في التَّسَتُّر )
( ورأي وقد أعصى الهوى خشيةَ الرَّدَى ... وأعرفُ غِبَّ الأمرِ قبلَ التَّدبّر )
( وما كنتُ لولا ذاك ترتدُّ بُغيتي ... عليَّ ارتدادَ المُظلِم المُتَجَبِّر )
قال ودفعها إلى عبيد الله بن زياد في صحيفة فقرأها ثم دفعها إلى حارثة بن بدر وقال له اردد على أنس صحيفته فلا حاجة لنا فيها فقال حارثة
( أَلِكْني إلى مَنْ قال هذا وقُلْ له ... كذبتَ فما إنْ أنت بالمتخيَّرِ )
( وإنك لو صاحبتَ سَلْماً وجدتَه ... كعهدك عَهْدِ السَّوءِ لَمْ يَتَغَيَّرِ )
( أتنصحُ لي يوماً ولستَ بناصحٍ ... لنفسكَ فَاغْشُشْ ما بدا لك أو ذَر )
( كذبتَ ولكنْ أنت رَهْنٌ بِخزْيَةٍ ... ويوْمٍ كأيَّامٍ عبُوس مُذَكَّر )

( كَأَشْقَرَ أَضْحَى بين رُمحينِ إنْ مَضَى ... على الرُّمْحِ يُنْحَرْ أَو تَاَخَّر يُعْقَر )
قال وأعجبت عبيد الله وقال لعمري لقد أجبته على إرادتي وأمسك عبيد الله في يده الصحيفة فلما دخل عليه أنس دفعها إليه فنظر فيها ثم قال لعبيد الله لقد رد علي من لا أستطيع جوابه وظن أن عبيد الله قالها وخرج أنس والصحيفة في يده فلقيه عبد الرحمن بن رألان فدفعها إليه أنس فلما قرأها قال هذا شعر حارثة بن بدر أعرفه فقال له أنس صدقت والله ثم قال لحارثة
( عجبتُ لِهَرْجٍ من زمان مُضلِّلِ ... ورأيٍ لألبابِ الرجالِ مُغَيَّرِ )
( ومن حِقْبةٍ عَوْجاءَ غَولٍ تلبَّسَتْ ... على الناسِ جلد الأَرْبَدِ المُتَنَمِّر ) ً
( فلا يُعْرَفُ المعروفُ فيه لأهله ... وإن قِيلَ فيه مُنْكَرٌ لم يُنَكَّر )
( لحارثةَ المُهْدِي الخَنَى لِيَّ ظالماً ... ولم أرَ مِثْلَ مُدَّرٍ صَيْد مُدَّري )
( لِحارِ بن بدرٍ قد أتتنِي مقالةٌ ... فما بال نُكْرٍ منك من غير مُنكر )
( أيَروي عليك الناسُ ما لا تقُولُه ... فَتُعْذَرَ أم أنت امرؤٌ غيرُ مُعْذَرِ )
( فإنْ يك حقّاً ما يُقالُ فلا يكُن ... دَبيباً وجاهِرْني فما من تَسَتُّر )
( أُقَلِّدْكَ إن كنتَ امرأً خانَ عِرْضَه ... قوافِيَ من بَاقِي الكلام المُشَهَّر )
( وقد كنتَ قبل اليومِ جرَّبتَ أنَّني ... أَشُقُّ على ذي الشِّعْرِ والمُتَشَعِّر )
( وأن لساني بالقصائد ماهرٌ ... تَعِنُّ له غُرّ القوافي وتَنْبَرِي )
( أصادِفُها حيناً يسيراً وأبتغِي ... لها مِرَّةً شَزْراً إذا لم تَيَسَّر )

( تناوَلُنِي بالشتم في غير كُنْهِه ... فمَهلاً ابا الخَيْمَاءِ وابنَ المُعَذّر )
( هجوتَ وقد سَامَاكَ في الشعر خُطَّةَ الذَّلِيلِ ... ولم يفعل كأفعال مُنْكِر )
قال وقال أنس بن زنيم لعبيد الله بن زياد وفيه غناء
( سلْ أميري ما الذي غيَّره ... عن وِصَالي اليومَ حتى ودَّعَهْ )
( لا تُهِنّي بعد إكرامك لي ... فشديدُ عادةٌ مُنْتَزَعَه )
( لا يكن وعْدُك بَرْقاً خُلَّباً ... إنَّ خيرالبرقِ ما الغيثُ مَعَه )

شعره في طلب الخمر
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
زعم عاصم بن الحدثان أن حارثة بن بدر قال لعبيد الله بن ظبيان وكانا في عرس لابن مسمع هل لك في شراب قال نعم فأتيا بنبيذ من زبيب وعسل فأخذ ابن ظبيان العس فكرع فيه حتى كاد يأتي عليه ثم ناوله حارثة فقال له حارثة يابن ظبيان إنك لطب بحسوها فقال أجل والله إني لأشربها حلالاً وأجاهر بها إذا أخفى غيري شرب الحرام فقال له حارثة من غيرك هذا قال سائلي عن هذا الأمر فقال حارثة
( إذا كنتَ نَدْمَاني فخُذها وسَقِّني ... ودَعْ عنك من رآك تكرعُ في الخمرِ )
( فإنِّي امرؤٌ لا أشرب الخمرَ في الدُّجَا ... ولكنني أَحْسُو النبيذَ من التمر )

( حَياً وتُقاً للَّه واللَّهُ عالمٌ ... بكُل الذي نأتيه في السِّرِّ والجهر )
( ومثلُكَ قد جرَّبتُه وخَبَرْتُه ... أَبَا مطرٍ والحَيْنُ أَسْبَابُه تَجْري )
( حَساها كَمُسْتَدْمَى الغزال عتيقةً ... إذا شُعْشِعَتْ بالماءِ طَيِّبةَ النَّشْر )
( أقام عليها دَهْره كلَّ ليلةٍ ... يُشَافِهُها حتى يَرى وَضَحَ الفجر )
( فأصبح ميْتاً مِيتَةَ الكلب ضُحْكَةً ... لأصحابه حتى يُدَهْدَهَ في القَبرِ )
( فما إن بكاهُ غيرُ دَنٍّ ومِزْهرٍ ... وغانيةٍ كالبَدر واضِحَةِ الثَّغْر )
( وبَاطِيَةٍ كانت له خِدْنَ زَنْيَةٍ ... يُعاقِرُها واللَّيلُ مُعْتَكِرُ السَّتْر )

رده على الأحنف وقد عاتبه على شربه الخمر
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن عاصم بن الحدثان قال
عاتب الأحنف بن قيس حارثة بن بدر على معاقرة الشراب وقال له قد فضحت نفسك وأسقطت قدرك وأوجعه عتاباً فقال له إني سأعتبك فانصرف الأحنف طامعاً في صلاحه فلما أمسى راح إليه فقال له اسمع يا ابا بحر ما قلت لك فقال هات فأنشده
( يَذُمُّ أبو بَحْرٍ أُموراً يُريدها ... ويَكرهُها للأَريحيِّ المُسَوَّد )
( فإن كنتَ عَيَّاباً فَقُلْ ما تُرِيده ... ودَعْ عنك شُرْبي لست فيه بأَوْحَد )

( سأشربُها صهباءَ كالمِسك رِيحُها ... وأشربُها في كل نادٍ ومشهد )
( فنفسك فَانْصَحْ يابن قيسٍ وخلِّني ... ورَأْيي فما رأيي بِرأيٍ مُفَنَّد )
( وقائلةٍ يا حارِ هل أنت ممسكٌ ... عليك من التبذير قلتُ لها اقْصدي )
( ولا تأمريني بالسَّدَادِ فإنني ... رأيتُ الكثيرَ المالِ غيرَ مُخَلَّد )
( ولا عيبَ إلا اصْطِبَاحِيَ قَهْوَةً ... متى يَمتزجْها الماءُ في الكأس تُزْبد )
( مُعَتَّقَةً صهباءَ كالمسك رِيحُها ... إذا هي فاحت أذهبتْ غُلَّةَ الصَّدِي )
( إلا إنما الرُّشْدُ المُبينُ طَرِيقُه ... خلافَ الذي قد قلتَ إذ أنت مُرْشِدي )
( سأشربُها ما حجّ لِلَّه راكبٌ ... مجاهرةً وَحْدِي ومعْ كل مُسْعِد )
( وأُسْعِدُ نَدماني وأتبعُ شَهوتي ... وأبذل عَفْواً كُلَّ مَا مَلَكَتْ يَدِي )
( كذا العيشُ لا عيشُ ابن قيسٍ وصَحبه ... من الشُّرْبِ للماء القَراح المُصَرَّد )
فقال له الأحنف حسبك فإني أراك غير مقلع عن غيك ولن أعاتبك بعدها أبداً
قال عاصم ثم كان بعد ذلك بين الأحنف وحارثة كلام وخصومة فافترقا عن مجلسهما متغاضبين فبلغ حارثة أن الأحنف قال أما والله لولا ما يعلم لقلت فيه ما هو أهله فقال حارثة وهل يقدر على أن يذمني بأكثر من الشراب وحبي له وذلك أمر لست أعتذر منه إلى أحد ثم قال في ذلك
( وكم لائمٍ لي في الشرابِ زَجَرْتُه ... فقلتُ له دَعني وما أنا شاربُ )
( فلستُ عن الصهباء ما عشتُ مُقْصِراً ... وإنْ لامني فيها اللئامُ الأَشَائِب )
( أَأَتْرُكُ لذَّاتي وآتِي هواكُمُ ... ألا ليس مثلي يابنَ قيسِ يُخالب )

( أنا الليث مَعْدُوّاً عليه وعادياً ... إذا سُلَّتْ البِيضُ الرِّقَاقُ القَوَاضِب )
( فَأَنت حلِيمٌ تزجرُ الناس عن هوى ... نفوسهمُ جَهْلاً وحلمُكَ عَازِب )
( فَحِلْمَكَ صُنْهُ لا تُذِلْهُ وخلِّني ... وشأنيَ وارْكَبْ كلَّ ما أنت راكِب )
( فإنِّي امرُؤٌ عَوَّدْتُ نَفْسِيَ عادةً ... وكل امرىٍْ لا شك ما اعتاد طالِبُ )
( أجُود بمالي ما حييتُ سَماحةً ... وأنت بخيلٌ يَجتويك المُصاحِب )
( فما أنت أو ما غَيُّ من كان غاوِياً ... إذا أنت لم تُسْدَدْ عليك المذاهب )

قصته مع الوليد بن عبد الملك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال أنبأنا أبو الأسود الخليل بن اسد قال أنبأنا العمري عن العتبي قال
أجرى الوليد بن عبد الملك الخيل وعنده حارثة بن بدر الغداني وهو حينئذ في ألف وستمائة من العطاء فسبق الوليد فقال حارثة هذه فرصة فقام فهنأه ودعا له ثم قال
( إلى الألفين مطَّلَعٌ قريب ... زيادةُ أربعٍ لي قد بَقِينا )
( فإنْ أهْلِكْ فهنَّ لكم وإلا ... فهنَّ من المتاع لكم سِنِينَا )
فقال له الوليد فتشاطرني ذلك لك مائتان ولي مائتان فصير عطاءه ألفاً وثمانمائة ثم أجرى الوليد الخيل فسبق أيضاً فقال حارثة هذه فرصة أخرى فقام فهنأه ودعا له ثم قال
( وما احتجب الألفان إلا بهيِّنٍ ... هما الآن أدنى منهما قبلَ ذَالِكَا )
( فَجُدْ بهما تَفديك نفسي فإنني ... مُعَلِّق آمالي ببعض حبالكَا )

فأمر الوليد له بالمائتين فانصرف وعطاؤه ألفان
أخبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكريا قال أنبأنا مهدي بن سابق قال أنبأنا عبد الرحمن بن شبيب بن شيبة عن أبيه قال
قال زياد يوماً لحارثة بن بدر من أخطب الناس أنا أو أنت فقال الأمير أخطب مني إذا توعد ووعد وأعطى ومنع وبرق ورعد وأنا أخطب منه في الوقادة وفي الثناء والتحبير وأنا أكذب إذا خطبت فأحشوا كلامي بزيادة مليحة شهية والأمير يقصد إلى الحق وميزان العدل ولا يزيد فيه شعيرة ولا ينقص منه فقال له زياد قاتلك الله فلقد اجدت تخليص صفتك وصفتي من حيث أعطيت نفسك الخطابة كلها وأرضيتني وتخلصت ثم التفت إلى أولاده فقال هذا لعمركم البيان الصريح
أخبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكريا عن الحرمازي قال
شرب حارثة بن بدر مع بني زياد ليلة إلى الصبح فأكثر وصرف ومزجوا فلما أن غدا على زياد كان وجهه شديد الحمرة ففطن له زياد فقال مالك يا حارثة فقال أكلت البارحة رمانا فأكثرت قال قد عرفت مع من أكلته ولكنهم قشروه وأكلته بقشره فأصارك إلى ما ترى
رثاؤه زياداً بن عبيد الله
قال الحرمازي
قال بعض أهل العلم إن زياداً استعمل حارثة على سرق فمات

زياد وهو بها ثم إنه بلغه موته فقال حارثة يرثيه
( إن الرزِيَّةَ في قَبرٍ بمنزلةٍ ... تجري عليها بظَهْرِ الكُوفَةِ المُورُ )
( أَدَّتْ إليه قُريش نَعْشَ سيِّدها ... ففِيه ضَافِي النَّدَى والحَزْمِ مَقْبُور )
( أَبَا المُغِيرة والدنيا مُغيِّرَةٌ ... وإنّ من غُرَّ بالدنيا لمَغْرُور )
( قد كان عندك للمعروفِ مَعْرِفَةٌ ... وكان عندك لِلنَّكْرَاءِ تَنْكِير )
( وكنْتَ تُؤْتَى فتُعْطِي الخيرَ عن سَعةٍ ... فاليومَ بابُك دون الهجرِ مَهْجُور )
( ولا تَلين إذا عُوسِرْتَ مُقْتَسِراً ... وكُلُّ أمركَ ما يُوسِرْتَ مَيسور )
قال وكان الذي أتاه بنعيه مسعود بن عمرو الأزدي فقال حارثة
( لقد جاء مسعودٌ أخو الأزدِ غدْوَةً ... بداهيةٍ غَرَّاءَ بَادٍ حُجُولُهَا )
( من الشر ظَلَّ الناسُ فيها كأنهم ... وقد جاء بالأَخْبَار من لا يُحِيلُها )

هو وسعد الرابية في مجلس لابن زياد
أخبرني الحسن بن علي قال أنبأنا العمري عن أحمد بن خالد بن منجوف عن مؤرج السدوسي قال
دخل حارثة بن بدر على عبيد الله بن زياد وعنده سعد الرابية أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة وكان شريرا يضحك ابن زياد ويلهيه وله يقول الفرزدق
( إني لأُبْغِض سعداً أن أجاوِرَه ... ولا أُحِب بني عمرو بن يَربوع )
( قومٌ إذا حاربوا لم يخشَهم أحدٌ ... والجارُ فيهم ذليلٌ غير ممنوع )

فلما جلس حارثة قال له سعد يا حارثة أينع الكرم قال نعم واستودع ماءه الأصيص فمه قال إني لم أرد بأسا قال أجل ولست من أهل البأس ولكن هل لك علم بالأتان إذا اعتاص رحمها كيف يسطى عليها أكما يسطى على الفرس أم كيف قال واحدة بواحدة والبادي أظلم سألتني عما لا علم لي به وسألتك عما تعلم قال أنت بما سألتك عنه أعلم مني بما سألتني عنه ولكن من شاء جهل نفسه وأنكر ما يعرف وقال حارثة يهجو سعداً
( لا تَرْجُ مني يابنَ سعدٍ هَوادةً ... ولا صُحبةً ما أَرْزَمَتْ أُمُّ حَائِلِ )
( أعند الأمير ابنِ الأمير تَعيبني ... وأنت ابنُ عمروٍ مُضْحكٌ في القبائل )
( ولو غيرَنا يا سعد رُمْتَ حريمهَ ... بِخَسْفٍ لقد غُودِرْتَ لحماً لآكل )
( فشالت بك العَنقاءُ أو صِرت لحمة ... لأَغْبَسُ عوَّاء العشيّات عاسِل )
أخبرني هاشم بن محمد قال أنبأنا الرياشي عن الأصمعي وأبي عبيدة قالا
كان حارثة بن بدر يجالس مالك بن مسمع فإذا جاء وقت يشرب فيه قام فأراد مالك أن يعلم من حضره أنه قام ليشرب فقال له إلى أين تمضي يا أبا العنبس قال أجيء بعباد بن الحصين يفقأ عينك الأخرى وقال

الأصمعي أمضي فأفقأ عين عباد بن الحصين لآخذ لك بثأرك وكان عباد فقأ عين مالك يوم المربد

شعره في فتنة مسعود
قال
وذكر المدائني أن حارثة بن بدر كان يومئذ وهو يوم فتنة مسعود على خيل حنظلة بإزاء بكر بن وائل فجعل عبس بن مطلق بن ربيعة الصريمي على الخيل بحيال الأزد ومعه سعد والرباب والأساورة وقال حارثة بن بدر
( سيكفيكَ عبسٌ أَخُو كَهْمَسٍ ... مُقارعةَ الأزْدِ بالمِرْبدِ )
( ويكفيكَ عمرو واشياعُه ... لُكيز بنَ أفصى وما عدَّدوا )
( وأكفيكَ بَكراً إذا أقبلَتْ ... بطَعْنٍ يَشيب له الأَمْرَد )
فلما اصطف الناس أرسل مالك بن مسمع إلى ضرار بن القعقاع يسأله الصلح على أن يعطيه ما أحب فقال له حارثة إنه والله ما أرسل إليك نظراً لك ولا إبقاء عليك ولكنه أراد أن يغري بينك وبين سعد فمضى ضرار إلى راية الأحنف فحملها وحمل على مالك فهزمه وفقئت عينه يومئذ
أخبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكريا عن محمد بن سلام عن أبي اليقظان قال
مر حارثة بن بدر بالمسجد الذي يقال له مسجد الأحامرة بالبصرة فرأى مشيخة قد خضبوا لحاهم بالحناء فقال ما هذه الأحامرة فالمسجد الآن يلقب مسجد الأحامرة منذ يوم قال حارثة هذا القول

خبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكريا عن القحذمي قال
عرض لحارثة بن بدر رجل من الخلج في أمر كرهه عند زياد فقال فيه حارثة
( لقد عجبتُ وكم للدهر من عَجَبٍ ... مما تَزيّد في أَنسابها الخُلُجُ )
( كانوا خَساً أو زَكاً من دون أربعة ... لم يخْلَقُوا وجُدود الناسِ تَعتلج )
الخسا الفرد والزكا الزوج
أخبرني الحسن بن علي قال أنبأنا أحمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن عمر بن زياد الكندي قال أنبأنا يحيى بن آدم عن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي قال
كنت عند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأنشدته لحارثة بن بدر
( وكان لنا نَبْعُ تَقينا عُرُوقه ... فَقَدْ بَلَغت إلا قليلاً حُلوقها )
( وشيَّب رأسي واستَخَفَّ حُلُومَنا ... رُعودُ المنايا فوقَنا وبُرُوقها )
( وإنَّا لتَسْتحلي المنايا نُفوسنا ... وتترك أخرى مُرَّة ما تذوقها )
( رأيتُ المنايا بادئاتٍ وُعوداً ... إلى دارنا سهلاً إليها طرِيقها )
( فقد قُسِّمتْ نفسي فريقين منهما ... فريقٌ مع الموتى وعندي فَرِيقها )
قال الشعبي فقال لي ابن جعفر نحن كنا أحق بهذا الشعر وجاءه غلامه بدراهم في منديل فقال له هذه غلة أرضك بمكان كذا وكذا فقال ألقها في حجر الشعبي فألقاها في حجري
أخبرني الحسن بن علي قال أنبأنا أحمد بن الحارث الخراز عن

المدائني عن مسلمة بن محارب
أن زياداً استعمل حارثة بن بدر على كوار وهو إذ ذاك عامل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على فارس وكان حارثة بن بدر صاحب شراب فكتب زياد إلى حارثة يحثه على جباية الخراج فكتب إليه علقمة بن معبد المازني
( أَلم تَرَ أنّ حارثة بنَ بدرٍ ... يُصلِّي وهو أكفر من حمار )
( وأن المال يُعرف من حَوَاهُ ... ويُعرَفُ بالزَّواني والعُقَار )
وقال المدائني في خبره هذا
حمل زياد بن أبيه حارثة بن بدر على بغلة يقال لها أطلال كان خرزاذ بن الهربد ابتاعها بأربعة آلاف درهم وأهداها له فركبها حارنة وكان فيها نفار فصرعته عن ظهرها فقام فركبها وقال
( ما هاج أطلالَ بجَنبي حِرْمَهْ ... تحمل وضَّاحاً رفيع الحِكمه )
( قَرْماً إذا زاحم قَرْماً زَحَمهْ ... )

جوابه على سليمان بن عمرو وقد قراه وقرى أصحابه
أخبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكرياء قال أنبأنا إبراهيم بن عمر عن أبي عبيدة وعبد الله بن محمد قالا
مر سليمان بن عمرو بن مرثد بحارثة بن بدر وهو بفارس يريد خراسان فأنزله وقراه وقرى اصحابه وحملهم وإياه فلما ركبوا للمسير قال سليمان
( قَريتَ فأحسنتَ القِرى وسَقيْتنا ... مُعتَّقةً صهباءَ كالعَنبرِ الرَّطبِ )
( وواسيتَنا فيما ملكْتَ تبرُّعاً ... وكنتَ ابنَ بَدرٍ نعم ذو منزل الرَّكب )
( وأنتَ لَعمري في تَميم عِمادُها ... إذا ما تداعتْ لِلعُلى موضع القُطبِ )
( وفارسُها في كل يومِ كريهةٍ ... وملجؤُها إن حلَّ خَطْبٌ من الخَطْب )
( وعندكمُ نال الغنى مَن أراده ... إذا ما خَطرتم كالضَّراغمة الغُلْب )
( يُرَى الحلقُ الماذيّ فوق حُماتهم ... إذا الحربُ شُبَّتْ بالمُهنَّدة القُضب )
( وعند الرَّخَا والأمن غيثٌ ورحمةٌ ... لمن يعتريهم خائفاً صولةَ الحرب )
( وجدتُهمُ جُوداً صباحاً وجوهُهم ... كِراماً على العِلاَّتِ في فادح الخَطْبِ )
( كأن دنانيراً على قَسَماتهمْ ... إذا جئتَهم قد خِفْت نُكْباً من النُّكْب )
( فمنْ مُبْلغٌ عنِّي تميماً فخيرُكُمْ ... غُدانة حقّاً قاله غيرُ ذِي لعْب )
فقال حارثة يجيبه
( وأسحَم ملآنٍ جررتُ لفِتيةٍ ... كرامٍ أبوهم خيرٌ بكر بن وائِل )

( وأطولُهم كفّاً وأصدقُهم حياً ... وأكرمُهم عند اختلافِ المَنَاصِل )
( مِنَ المَرثديّين الذين إذا انْتَدَوا ... رأيتَ نَدِيّاً جدُّه غير خامل )
( فَعالهُم زَيْنٌ لهم ووجوهُهمْ ... تَزينُ الذي يأتونه في المَحَافل )
( فَسَقْياً وَرَعْياً لابن عمرو بن مرثَد ... سليمانَ ذي المجد التليد الحُلاَحِل )
( فتًى لم يزل يسمو إلى كُل نَجدةٍ ... فيُدرك ما أعْيَتْ يدَ المتناولِ )
( فحَسبُك بي عِلماً به وبفَضله ... إذا ذُكر الأقوامُ أهل الفضائل )

في مجلس ابن زياد
أخبرني عمي قال أنبأنا الكراني قال أنبأنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
دخل أنس بن زنيم على عبيد الله بن زياد وعنده حارثة بن بدر وكان بينهما تعارض ومقارضة قبل ذلك فلما خرج أنس قال عبيد الله لحارثة أي رجل هو أنس عندك قال هو عندي أصلح الله الأمير كما قلت فيه
( يَبِيتُ بَطيناً من لُحومِ صديقِه ... خَمِيصاً من التَّقوى ومن طلب الحَمْدِ )
( ينام إذا ما الليلُ جَنَّ ظلامُه ... ويَسري إلى حاجاته نومة الفَهْدِ )
( يُراعي عَذارى قومِه كلما دَجَا ... له الليلُ والسوآت كالأسد الورْدِ )
( جريئاً على أكل الحَرام وفِعله ... جَباناً عن الأقْران مُعْتَرمَ الَكرْدِ )

فلما كان من الغد دخل أنس على عبيد الله فقال له عبيد الله بحضرة حارثة إني سألت هذا عنك فأخبرني بما كرهته لك ولم أكن إخالك كما نعت لي فقال أصلح الله الأمير إن يكن قال خيراً فأنا أهله وإن قال غير ذلك فلم يعد ما هو أولى به مني أما والله لو كان أصلح الله الأمير حقاً لحفظ غيبتي فلقد أوليته حسن الثناء بما ليس أهله والله يعلم أني كنت كاذباً وما إخال ما قاله في إلا عقوبة فإن عقوبة الكذب حاضرة وثمرة الكذب الندامة فقد لعمري أجنيتها بكذبي وقولي فيه ما ليس فيه وهو عندي كما أقول أصلح الله الأمير وأنشد
( يُحلى ليَ الطرفَ ابنُ بَدْر وإنني ... لأعرِفُ في وجه ابنِ بدرٍ ليَ البُغْضَا )
( رآني شَجاً في حَلقه ما يُسِيغُه ... فما إنْ يزال الدهر يُجْرَض بي جَرْضا )
( وما لِيَ من ذنْبٍ إليه علمتَه ... سوى أن رآني في عشيرته مَحْضا )
( وإنَّ ابن بدرٍ في تميمٍ مُكَرْكَسٌ ... إذا سِيمَ خَسفاً أو مَشنَّعةً أَغْضى )
( فعِشْ يابن بدر ما بقيتَ كما أَرَى ... كثيرَ الخَنَا لا تسأم الذلِّ والغَضَّا )
( تعيبُ الرجالَ الصالحين وفعلَهم ... وتبذلُ بُخلاً دون ما نِلتَه العِرْضا )
( وتَرضى بما لا يرتضي الحرُّ مثلَه ... وذو الحِلم بالتَّخْيِيسِ والذُّلِّ لا يَرضى )
قال وقال أنس في حارثة بن بدر ينسبه إلى الخمر والفجور
( أحارِ بنَ بدرٍ بَاكِرِ الراحَ إنها ... تُنَسِّيكَ ما قدَّمتَ في سالف الدَّهْرِ )
( تُنَسِّيكَ أسباباً عِظاماً ركبتَها ... وأنتَ على عَمياءَ في سَنَنٍ تَجري )

( أتذكر ما أسديتَ واخترتَ فِعلَه ... وجئت من المكروه والشَّر والنُّكْر )
( إذا قلتُ مهلاً نِلتَ عِرضي فما الذي ... تَعيب على مثلي هُبِلْتَ أبا عَمْرو )
( أليس عظِيماً أن تُكَايِدَ حُرَّةً ... مُهَفْهَفَةَ الكَشْحَيْنِ طيبةَ النَّشْر )
( فإنْ كنتَ قد أزمعتَ بِشْرك بالذي ... عُرفت به إذ أنت تَخزي ولا تَدري )
( فدع عنك شُرْبَ الخمر وارجع إلى التي ... بها يَرتضِي أهلُ النباهةِ والذِّكْر )
( عليك نبيذَ التمرِ إن كنتَ شارباً ... فإن نبِيذَ التمرِ خيرٌ من الخمر )
( ألا إنَّ شُرْبَ الخمرِ يُزْرِي بِذِي الحَجَى ... ويَذْهب بالمال التّلاد وبالوَفْر )
( فَصَبْراً عن الصَّهْباءِ واعلمْ بأنني ... نَصِيحٌ وأنِّي قد كبرت عن الزَّجْرِ )
( وأنك إن كَفْكَفْتَنِي عن نصيحةٍ ... تركتُك يا حَارِ بنَ بدرٍ إلى الحَشْرِ )
( أَأَبذل نُصْحِي ثمَّ تعصِي نَصيحتي ... وتَهجرني عنها هُبِلْتَ ابا بَدْر )
جوابه على أبي الأسود الدؤلي وقد ولي سرّق
أخبرني احمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد عن أبيه قال
لما ولي حارثة بن بدر سرق خرج معه المشيعون من البصرة وفيهم أبو الأسود الدؤلي فلما انصرف المشيعون دنا منه ابو الأسود فقال له

( أحار بن بدرٍ قد وَلِيتَ إمارةً ... فكن جُرَذاً فيها تَخون وتَسرقُ )
( ولا تَحقرنْ يا حارِ شيئاً تُصيبُه ... فحظُّكَ من مُلك العراقين سُرَّق )
( فإن جميعَ الناسِ إما مُكَذِّبٌ ... يقول بما يَهْوى وإما مُصَدِّق )
( يقولون أقوالاً بِظَنٍّ وشُبهةٍ ... فإن قيل هاتوا حقِّقُوا لم يُحَقِّقوا )
( فلا تَعجزنْ فالعجزُ أبطأُ مَركبٍ ... وما كل من يُدعَى إلى الرِّزق يُرْزَق )
( وَكَاثِرْ تميماً بالغنى إن للغَنى ... لساناً به يَسطو العَيِيُّ ويَنطِق )
فقال له حارثة
( جزاك مليكُ الناسِ خيرَ جزائِهِ ... فقد قلتَ معروفاً وأوصيتَ كَافِيَا )
( أمرتَ بحَزمٍ لو أمرتَ بغيره ... لألفَيْتَنِي فيهِ لرأيك عاصيا )
( ستَلْقَى أخاً يُصْفيك بالوُدّ حاضراً ... ويُوليك حِفْظَ الغَيبِ إنْ كنتَ نائِيا )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
لما ندب حارثة بن بدر لقتال الأزارقة بدولاب لقيهم فلما حميت الحرب بينهم واشتدت قال حارثة لأصحابه
( كَرْنبُوا ودَوْلِبُوا ... وحيث شئتم فَاذْهَبُوا )
ثم انهزم فقال غوث بن الحباب يهجوه ويعيره بالفرار ويعيره بشرب الخمر ومعاقرتها
( أحار بنَ بدرٍ دونك الكأسَ إنها ... بمثلك أولى من قِرَاع الكَتَائِبِ )

( عليك بها صهْبَاءَ كالمِسك ريحُها ... يَظَلُّ أخوها للعِدَا غيرَ هَائِب )
( فدَع عنك أقواماً وَلِيت قتالَهم ... فلستَ صَبُوراً عند وَقْعِ القَواضِب )
( وخُذها كعَين الدِّيكِ تَشْفي من الجَوَى ... وتَترك ذَا الهمَّات حَصْرَ المذاهبِ )
( إذا شُعْشِعَتْ بالماء خِلْتَ حَبابَها ... نَظائمَ دُرٍّ أو عيونَ الجَنَادِبِ )
( كأنك إذ تَحْسُو ثلاثةَ أكؤُسٍ ... من التِّيهِ قَرْمٌ من قُرُوم المَرَازِب )
( ودَعْ عنك أبناءَ الحُروبِ وشدَّهم ... إذا خَطروا مثل الجِمال المَصَاعب )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية قال حدثني أبي قال
كانت في تميم حمالتان فاجتمعوا في مقبرة بني شيبان فقال لهم الأحنف لا تعجلوا حتى يحضر سيدكم فقالوا من سيدنا غيرك قال حارثة بن بدر قال وقدم حارثة من الأهواز بمال كثير فبلغه ما قال الأحنف فقال اغرمنيها والله ابن الزافرية ثم أتاهم كأنه لم يعلم فيما اجتمعوا فقال فيم اجتمعتم فأخبروه فقال لا تلقوا فيهما أحداً فهما علي ثم أتى منزله فقال
( خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ ... ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّودَدِ )

سفيان بن عيينة يتمثل بشعره
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه قال

خرج أصحاب الحديث إلى سفيان بن عيينة فازدحموا فقال لقد هممت ألا أحدثكم شهراً فقام إليه شاب من أهل العراق فقال له يا أبا محمد ألن جانبك وحسن قولك وتأس بصالحي سلفك وأجمل مجالسة جلسائك فقد أصبحت بقية الناس وأميناً لله ورسوله على العلم والله إن الرجل ليريد الحج فتتعاظمه مشقته حتى يكاد أن يقيم فيكون لقاؤه إياك وطعمه فيك أكثر ما يحركه عليه قال فخضع سفيان وتواضع ورق وبكى ثم تمثل بقول حارثة
( خَلَتِ الديارُ فسُدت غير مُسوّد ... ومن الشقاء تَفَرُّدِي بالسُّودَدِ )
ثم حدثهم بعد ذلك بكل ما أرادوا إلى أن رحلوا
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين الكندي قالا حدثنا الخليل بن اسد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن الحسن بن عمارة عن الحكيم بن عتيبة
أن حارثة بن بدر الغداني كان سعى في الأرض فساداً فأهدر علي بن أبي طالب عليه السلام دمه فهرب فاستجار بأشراف الناس فلم يجره أحد فقيل له عليك بسعيد بن قيس الهمداني فلعله أن يجيرك فطلب سعيداً فلم يجده فجلس في طلبه حتى جاء فأخذ بلجام فرسه فقال أجرني أجارك الله قال ويحك ما لك قال أهدر أمير المؤمنين دمي قال وفيم ذاك قال سعيت في الأرض فساداً قال ومن أنت قال حارثة بن بدر الغداني

قال أقم وانصرف إلى علي عليه السلام فوجده قائماً على المنبر يخطب فقال يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً قال أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض قال يا أمير المؤمنين إلا من قال إلا من تاب قال فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً وقد أجرته قال أنت رجل من المسلمين وقد أجرنا من أجرت ثم قال علي عليه السلام وهو على المنبر أيها الناس إني كنت نذرت دم حارثة بن بدر فمن لقيه فلا يعرض له فانصرف إليه سعيد بن قيس فأعلمه وحمله وكساه وأجازه بجائزة سنية فقال فيه حارثة
( اللَّهُ يَجزي سعيدَ الخيرِ نافلةً ... أَعْني سعيد بن قيسٍ قَرْم هَمْدَانِ )
( أنقذَني من شَفَا غَبراء مُظلِمَةٍ ... لولا شفاعتُه أُلْبِسْتُ أكفانِي )
( قالت تَميمُ بن مُرٍّ لا نُخَاطِبُه ... وقد أَبَتْ ذلكم قيسُ بنُ عَيلان )
قال الهيثم
لم يكن الحسن بن عمارة يروي من هذا الشعر غير هذه الثلاثة الأبيات وأخذت الشعر كله من حماد الراوية فقلت له ممن أخذته قال من سماك بن حرب وهو
( أَساغ في الحَلق رِيقاً كان يَجْرِضُني ... وأَظهر اللَّه سِرِّي بعد كِتمانِ )
( إني تدارَكَني عفٌّ شمائلُه ... آباؤه حين يُنمى خيرُ قحطان )
( يَنميه قيسٌ وزيدٌ والفتى كُرَبٌ ... وذو جَبائرَ من أولاد عثمان )
( وذو رُعَيْنٍ وسيف وابن ذي يزنٍ ... وعَلقم قبلهم أعني ابنَ نَبْهان )
قال فلما أراد الانصراف إلى البصرة شيعه سعيد بن قيس إلى نهر

البصريين في ألف راكب وحمله وجهزه فقال حارثة
( لقد سُررتُ غَدَاةَ النهر إذ بَرزت ... أشياخُ همدانَ فيها المجدُ والخير )
( يقودهم ملكٌ جَزْلٌ مواهبُه ... وَارِي الزِّناد لدى الخيرات مَذكور )
( أعني سعيدَ بن قيسٍ خير ذي يَزنٍ ... سامي العِماد لدى السُّلطانِ مَحبور )
( ما إنْ يلين إذا ما سِيمَ مَنْقَصَةً ... لكن له غَضب فيها وتَنكير )
( أغرُّ أَبْلَجُ يُستسقى الغمامُ به ... جَنابُه الدهرَ يُضحي وهو مَمطور )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن معاوية الزيادي عن القحذمي قال
كان حارثة بن بدر فصيحاً بليغاً عارفاً بأخبار الناس وأيامهم حلواً شاعراً ذا فكاهة فكان زياد يأنس به طول حياته فلما مات وولي عبيد الله ابنه كان يجفوه فدخل إليه في جمهور الناس فجلس متواريا منه حتى خف الناس ثم قام فأذكره بحقوقه على زياد وأنسه به فقال له ما أعرفني بما قلت غير أن أبي كان قد عرفه الناس وعرفوا سيرته فلم يكن يلصق به من أهل الريبة مثل ما يلحقني مع الشباب وقرب العهد بالإمارة فأما إن قلت ما قلت فاختر مجالستي إن شئت ليلاً وإن شئت نهاراً فقال الليل أحب إلي فكان يدعوه ليلاً فيسامره فلما عرفه استحلاه فغلب عليه ليله ونهاره حتى كان يغيب فيبعث من يحضره فجاءه ليلة وبوجهه آثار فقال له ما هذا يا حار قال ركبت فرسي الأشقر فلجج بي مضيقاً فسحجني قال لكنك لو ركبت أحد

الأشهبين لم يصبك شيء من هذا يعني اللبن والماء

طلق زوجته ثم ندم على ذلك
أخبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكريا قال أنبأنا محمد بن معاوية الزيادي عن القحذمي عن عمه قال
خرج حارثة بن بدر إلى سلم بن زياد بخراسان فأوصى رجلاً من غدانة أن يتعاهد امرأته الشماء ويقوم بأمرها فكان الغداني يأتيها فيتحدث عندها ويطيل حتى أحبها وصبا بها فكتب إلى حارثة يخبره أنها فسدت عليه وتغيرت ويشير عليه بفراقها ويقول له إنها قد فضحتك من تلعب الرجال بها فكتب إليها بطلاقها وكتب في آخر كتابه
( ألا آذِنَا شَمَّاءَ بالبَيْن إنه ... أَبَى أَوَدُ الشَّمَّاء أن يَتَقَوَّمَا )
قال فلما طلقها وقضت عدتها خطبها الغداني فتزوجها وكان حارثة شديد الحب لها وبلغه ذلك وما صنعت فقال
0ل - عمركَ ما فارقتُ شَمَّاءَ عن قِلًى ... ولكنْ أَطَلْتُ النَّأيَ عنها فَمَلَّتِ )
( مُقيماً بِمَرْوَرُّوذَ لا أنا قَافِلٌ ... إليها ولا تَدْنُو إذا هي حَلَّتِ )
رثاء زوجته له
أخبرني محمد بن يحيى قال أنبأنا محمد بن زكريا قال أنبأنا

مهدي بن سابق قال أنبأنا عطاء عن عاصم بن الحدثان قال
تزوج حارثة بن بدر ميسة بنت جابر وكانت تذكر بجمال وعقل ولسان فلما هلك حارثة تزوجها بشر بن شعاف بعده فلم تحمده فقالت ترثي حارثة
( بُدِّلْتُ بِشْراً شَقَاءً أو مُعَاقبةً ... من فَارِسٍ كان قِدْماً غَيْرَ خَوَّارِ )
( يا ليتني قبلَ بِشْرٍ كان عَاجَلَنِي ... داعٍ من اللَّهِ أو دَاعٍ من النَّار )
وقالت أيضا فيه
( مَا خَارَ لي ذُو العرشِ لمَّا اسْتَخَرْتُه ... وعَذَّبني أن صِرْتُ لابن شِعَافِ )
( فما كان لي بَعْلاً وما كان مثله ... يكون حَلِيفاً أو يَنَالُ إلافي )
( فيا ربِّ قد أَوْقَعْتَنِي في بَلِيَّةٍ ... فكُن ليَ حِصْناً منه رَبِّ وكَافِ )
( ونَحِّ إلهي رِبْقَتِي من يَد امْرىءٍ ... شَتِيمٍ مُحَيَّاهُ لكُل مُصَافي )
( هو السَّوْأَةُ السَّوْآءُ لا خير عنده ... لطالبِ خَيرٍ أو أَحَذِّ قَوَافي )
( يَرَى أَكْلَةً إن نِلْتُها قَلْعَ ضِرْسِه ... وما تلك زُلْفَى يَالَ عَبد مَناف )
( وإن حَادِثٌ عَضَّ الشِّعَافِيَّ لم يكُن ... صَلِيباً ولا ذا تُدْرَأ وقُذَاف )
أخبرني محمد بن مزيد قال أنبأنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
لقي أنس بن زنيم الدئلي حارثة بن بدر فقال له يا حارثة قد قلت لك أبياتاً فاسمعها فقال هاتها فأنشده

( فحتَّى متى أنت ابنَ بَدْرٍ مُخَيِّمٌ ... وصَحْبُكَ يحْسُونَ الحلِيبَ من الكَرْمِ )
( فَإنْ كان شَرّاً فالْهُ عنه وَخَلِّهِ ... لغيرك من أهل التَّخَبُّطِ والظُّلْم )
( وإن كان غُنْماً يابن بدرٍ فقد أُرَى ... سَئِمْتُ من الإِكثار من ذلك الْغُنْمِ )
( وإن كنتَ ذَا علم بها واحْتِسائِها ... فما لك تأتي ما يَشِينك عن عِلْم )
( تَقِ اللَّهَ واقْبَلْ يابنَ بدرٍ نصيحتي ... ودَعْها لمن أَمْسَى بَعِيداً من الحَزْم )
( فلو أنها كانت شَرَاباً مُحَلَّلاً ... وقُلتَ لِيَ اتركها لأَوْضَعْتُ في الحُكْم )
( وأيقنت أن القولَ ما قلتَ فَانْتَفِعْ ... بقَوْلِي ولا تَجْعَلْ كلامي من الجُرْم )
( فَرُبَّ نَصِيحِ الجَيبِ رُدَّ انْتِصَاحُه ... عليه بلا ذَنبٍ وعُوجِلَ بِالشَّتْم )
فقال له حارثة لقد قلت فأحسنت ونصحت فبالغت جزيت الخير أبا زنيم فلما رجع إلى منزله أتاه ندماؤه فذكر لهم ما قال ابن زنيم فقالوا والله ما نرى ذلك إلا حسداً ثم قال حارثة بن بدر لابن زنيم
( يَعِيبُ عليَّ الرَّاحَ مَنْ لو يَذُوقُها ... لَجُنَّ بها حتى يُغَيَّبَ في القَبرِ )
( فَدَعْها أو امْدَحْها فإنَّا نُحِبُّها ... صُرَاحاً كما أَغْرَاكَ رَبُّكَ بالهَجْر )
( عَلاَمَ تّذُمُّ الرَّاحَ والرَّاحُ كاسْمِها ... تُرِيحُ الفتى من هَمِّهِ آخِرَ الدَّهْر )
( فَلُمْني فإن اللَّوْمَ فيها يَزِيدُني ... غَرَاماً بها إن المَلامة قَد تُغْري )
( وباللَّهِ أُولِي صَادِقاً لو شَرِبْتَها ... لأَقْصَرْت عن عَذْلي ومِلْت إلى عُذْري )
( وإن شئتَ جَرِّبْها وذُقْها عَتِيقةً ... لها أَرَجٌ كالمسك مَحْمودَةَ الخُبْرِ )
( فإن أنت لم تَخْلَعْ عِذَارَكَ فَالحَنِي ... وقُلْ لِي لَحاكَ الله من عَاجِزٍ غَمْر )

( وقَبْلَكَ ما قد لامني في اصْطِبَاحِها ... وفي شُربها بَدْرٌ فأعْرَضْتُ عَنْ بَدْر )
( وَحَاسَيْتُها قوماً كأنَّ وجوهَهم ... دنانيرُ في الَّلأوَاءِ والزَّمَنِ النُّكْرِ )
( فدَعني من التَّعْذَلِ فيها فإنني ... خُلِقْتُ أَبِيّاً لا أَلِينُ على القَسْر )
( أَجُودُ وأُعْطِي المُنْفِسَاتِ تَبَرُّعاً ... وَأُغْلِي بها عند اليَسَارَة والعُسْر )
( وأشربها حتى أَخِرّ مُجَدَّلاً ... مُعَتَّقَةً صَهْبَاءَ طَيِّبة النَّشْر )
( ولولا النُّهَى لم أَصْحُ ما عشتُ ساعةً ... ولكنني نَهْنَهْتُ نَفْسِي عن الهَجْر )
( فقّصَّرْتُ عنها بعد طُولِ لَجَاجَةٍ ... وحُبًّ لها في سِرِّ أَمْرِي وفي الجَهْرِ )
( وحَقَّ لمِثْلِي أن يَكُفَّ عن الْخَنَى ... ويُقْصِرَ عن بعض الغَوَايَةِ والنُّكْر )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة
أن عبيد الله بن زياد استعمل حارثة بن بدر على نيسابور فغاب عنه أشهراً ثم قدم فدخل عليه فقال له ما جاء بك ولم أكتب إليك قال استنظفت خراجك وجئت به وليس لي بها عمل فما مقامي قال أوبذلك أمرتك ارجع فاردد عليهم الخراج وخذه منهم نجوماً حتى تنقضي السنة وقد فرغت من ذلك فإنه أرفق بالرعية وبك واحذر أن تحملهم على بيع غلاتهم ومواشيهم ولا التعنيف عليهم فرجع فرد الخراج عليهم وأقام يستخرجه منهم نجوماً حتى مضت السنة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال
قال الأحنف بن قيس ما غبت عن أمر قط فحضره حارثة بن بدر إلا

وثقت بإحكامه إياه وجودة عقده له وكان حارثة بن بدر من الدهاة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال
كان حارثة بن بدر يصيب من الشراب وكان حظياً عند زياد فعوتب زياد على رأيه فيه فقال أتلومونني على حارثة فوالله ما تفل في مجلسي قط ولا حك ركابه ركابي ولا سار معي في علاوة الريح فغبر علي ولا دعوته قط فاحتجت إلى تجشم الالتفات إليه حتى يوازيني ولا شاورته في شيء إلا نصحني ولا سألته عن شيء من أمر العرب وأخبارها إلا وجدته به بصيراً

ماذا قال في يوم دولاب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال
لما كان يوم دولاب وأفضت الحرب إلى حارثة بن بدر صاح من جاءنا من الموالي فله فريضة العرب ومن جاءنا من الأعراب فله فريضة المهاجر فلما رأى ما يلقى أصحابه من الأزارقة قال
( أَيْرُ الحمار فَرِيضةٌ لشبابكم ... والخُصْيَتانِ فريضة اْلأَعْرابِ )
( عَضَّ المَوَالِي جِلْدَ أَيْرِ أبِيهمُ ... إن المَوَالِيَ مَعْشَرُ الخُيَّاب )
ثم قال
( كَرْنِبُوا ودَوْلِبُوا وشَرِّقُوا وغَرِّبُوا ... )
( وحَيْثُ شِئْتُمْ فاذْهَبُوا ... )

يعني بقوله كرنبوا أي خذوا طريق كرنبى ودولبوا خذوا طريق دولاب
أخبرني محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن محرز قال حدثنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن المغيرة بن المنتشر قال
إنا عند عبيد الله بن زياد وعنده الأحنف بن قيس وحارثة بن بدر وكان حارثة يتهم بالشراب فقال له عبيد الله يا حارثة أي الشراب أطيب قال برة طبرية بأقطة عنزية بسمنة عربية بسكرة سوسية فتبسم عبيد الله ثم قال للأحنف يا أبا بحر أي الشراب أطيب قال الخمر فقال له عبيد الله وما يدريك ولست من أهلها قال من يستحلها لا يعدوها إلى غيرها ومن يحرمها يتأول فيها حتى يشربها قال فضحك عبيد الله
أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي وعمرو بن عبد الله العتكي قالا حدثنا الرياشي وقال العتكي في خبره عن أبي عبيدة ولم يقله الأسدي ولا تجاوز الرياشي به
إن حارثة كان بكوار من أردشير خره يتنزه فقال
( ألم تَرَ أن حارثة بن بَدْرٍ ... أَقَامَ بِدَيْر أَبْلَقْ من كُوَارَا )
ثم قال لجند كانوا معه من أجاز هذا البيت فله حكمه فقال له رجل

منهم أنا أجيزه على أن تجعل لي الأمان من غضبك وتجعلني رسولك إلى البصرة وتطلب لي القفل من الأمير قال ذلك لك قال ثم رد عليه نشيد البيت فقال الرجل
( مُقِيماً يشربُ الصَّهْبَاءَ صِرْفاً ... إذا ما قلتَ تَصْرُعه اسْتَدَارَا )
فقال له حارثة لك شرطك ولو كنت قلت لنا شيئا يسرنا لسررناك

هجوه الأبيرد الرياحي
كتب إلي ابو خليفة الفضل بن الحباب أخبرنا محمد بن سلام قال
قدم الأبيرد الرياحي على حارثة بن بدر فقال له اكسني ثوبين أدخل بهما على الأمير فكساه ثوبين لم يرضهما فقال فيه
( أحارثُ أَمْسِكْ فَضْلَ بُرْدَيْكَ إنما ... أَجَاعَ وَأَعْرَى اللَّهُ من كُنْتَ كَاسِيَا )
( وكُنْتُ إذا اسْتَمْطَرْتُ منك سَحَابَةً ... لِتُمْطِرنِي عَادَتْ عَجَاجاً وسَافِياً )
( أَحَارثُ عَاوِدْ شُرْبَك الخَمْرَ إنني ... رأيتُ زِيَاداً عنك أَصْبَحَ لاَهِيا )
فبلغت زياداً وبلغت حارثة فقال قبحه الله لقد شهد علي بما لم يعلم ولم أدع جوابه إلا لما يعلم
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
كان الحكم بن المنذر بن الجارود يشرب الشراب فقيل له في ذلك وعوتب وعرف أن الصلتان العبدي هجاه فقال فيه

( تَرَكَ الأشياءَ طُرّاً وانْحَنَى ... يضرب الصَّهْباءَ من ماء العِنَبْ )
( لا يَخَافُ الناسَ قد أّذْمَنها ... وَهِيَ تُرْزِي بِاللَّئِيم المُؤْتَشِب )
( وَهْيَ بِالأشْرَافِ أَزْرَى وإلى ... غَايَةِ التَّأنِيْب تَدْعُو ذا الحسَبَ )
( فَدَع الخَمْرَ أبا حَرْبٍ وَسُدْ ... قَوْمَكَ الأَذْنَيْنَ مِن بَيْن العَرَب )
فقال لعنه الله والله ما ترك للصلح موضعا ولقد صدق ولولا الشرب لكنت الرجل الكامل وما يخفى علي قبيحه وسوء القالة فيه ولكني سمعت حارثة بن بدر الغداني أنشد ابياتً يوماً فحملتني على المجاهرة بالشراب وغن كان ذلي إلي بغيضاً قيل له وما الأبيات قال سمعته ينشد
( أّذْهَبَ عنِّي الغمَّ والذي ... به تُطْرَدُ الأَحْدَاثُ شُرْبُ المُرَوَّقِ )
- فوالللَّه ما أنفكُّ بالرَّاح مُهْتَراً ... ولو لام فيها كُلُّ خحُرُّ مُوفَّق )
( فما لائمي فيها وإن كان ناصِحاً ... بأعلمَ منِّي بالرَّحيق المُعَتَّق )
( ولكنَّ قلبي مُسْتَهَامٌ بحُبِّها ... وحُبُّ القِيان رَأيُ كلِّ مُحَمَّق )
( أُحِبُّ التي لا أَمْلكَ الدَّهْرَ بُغْضَها ... وذلك فِعْلٌ مُعجِبٌ كلَّ أَخْرٌ )
سأشْرَبُها صِرفاً وأَسْقي صحابتي ... وأطلب غِرَّاتِ الغَزَال المُنّطَّق )

شعره في نديم له
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
كان لحارثة بن بدر نديم من قريش يصيب معه الشراب ولا يفارقه إذا شرب وقال فيه
( وأّبْيَضَ من أولاد سَعد بن مَالِك ... سَقيتُ من الصَّهْباء حتى تَقَطَّرَا )
( وحتى رأى الشَّخْصَ القريبَ بِسُكْرِه ... شُخُوصاً فنادى يَالَ سعدٍ وكَبَّرا )
( فقلتُ أَسَكْرَانٌ فَقَالَ مُكَابِراً ... أبَى اللَّهُ لي أن أُسْتَخَفَّ وأَسْكَرا )
( فقلتُ له اشْرَبْ هذه بَابِلِيَّةٌ ... تَخالُ بها مِسكاً ذَكِيّاً وعَنْبَرا )
( فلما حَسَاها هَرَّها ثمَّ إْنَّه ... تماسَكَ شيئاً واجِماً مُتَفَكِّرا )
( وقال أَعِدْها قلتُ صَبْراً سُوَيْعَةً ... فَهَوَّمَ شيئاً ثم قام فَبَرْبَرَا )
( فقلتُ له نَم ساعةً عَلَّ ما أَرَى ... من السُّكْرِ يُبْدِي منك صُرْماً مُذكَّرا )
خبره مع أبي صخر مخارق حين عاتبه على شربه الخمر
قال إسحاق قال عاصم بن الحدثان
كان أبو صخر مخارق بن صخر أحد بني ربيعة بن مالك شاعراً وهو خال أبي حزانة أو خال أبي جميعة وكان صديقاً لحارثة بن بدر فدخل عليه يوماً وهو مصطبح فعاتبه حارثة بن بدر وقال له قد أسقطت الخمر قدرك

ومروءتك قال له دع عنك هذا الجنون وهلم نتساعد واسمع ما قلت قال هاته فأنشده
( غدا نَاصحاً لم يَأْلُ جُهْداً مُخَارِقٌ ... يَلُومُ على شُرْبِ السُّلاَفِ المُعَتَّقِ )
( فقلتُ ابا صَخْرٍ دَع الناس يَجْهَلُوا ... ودُونَكَها صَهْبَاء ذَاتَ تَأَلُّق )
( تراها إذا ما المَاءُ خَالَطَ جِسْمَها ... تَخايَلُ في كَفِّ الوَصِيف المُنَطَّق )
( لهَا أَرجٌ كَالْمِسْكِ تُذْهِب رِيحُها ... عَمَايَةَ حَاسِيها بِحُسْنِ تَرَفُّق )
( وكم لاَئِم فيها بصيرٍ بِفَضْلِها ... رَمَتْهُ بِسَهْمٍ صَائِب مُتَزَلَّق )
( فَظَلَّ لِرَيَّاها يَعضُّ نَدَامَةً ... يديه وأَرْغَى بعد طُولِ تَمَطُّق )
( وقال لَكَ العُذْر ابن بدرٍ على التي ... تُسَلِّي هُمُومَ المُسْتَهامِ المُشَوَّق )
( فلستُ ابنَ صَخْرٍ تاركاً شُرْبَ قَهْوَةٍ ... لقَول لَئِيم جَاهِلٍ مُتَحَذْلِقِ )
( يعيب عليَّ الشُّربَ والشربُ هَمُّه ... لِيُحْسَبَ ذَا رَأْيٍ أًصِيلٍ مُصَدَّق )
( فما أنا بالغِرِّ ابنَ صَخْرٍ ولا الذي ... يُصَمِّمُ في شيْءٍ من الأَمْرِ مُوبِق )
فقال له مخارق بن صخر إنما عاتبتك لأن الناس قد كثروا فيك ورأيت النصيحة لله واجبة علي وكرهت أن تضع لذتك قدرك فإن أطعتني في تركها وإلا فلا تجاهر بها فإنك قادر على أن تبلغ حاجتك في ستر فقال حارثة ما عندي غير ما سمعت فتركه وانصرف
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال أنبأنا الرياشي عن محمد بن

سلام عن يونس بن حبيب قال
لما بنى فيل مولى زياد داره بالسبابجة صنع طعاماً ودعا أصحاب زياد فدخلوا الحمام المعروف بحمام فيل وخرجوا فتغدوا عنده وركب فيل وأصحابه الهماليج والمقاريف والبغال واجتاز بهم معه على حارثة بن بدر وأبي الأسود الدؤلي وهما جالسان فقال أبو الأسود
( لَعَمْرُ أَبِيكَ ما حَمَّامُ كِسْرَى ... على الثُّلُثَيْنِ من حَمَّامِ فِيلِ )
فقال له حارثة
( وما إِيجافُنَا خَلْفَ المَوالي ... بِسُنَّتِنَا على عَهد الرَّسُولِ )
أخبرني محمد بن مزيد قال أنبأنا حماد عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال حدثني عمي عن الحارث الهجيمي قال
ذكر حلم الأحنف بن قيس عند عبيد الله بن زياد وعنده حارثة بن بدر فنفس عليه حارثة ذلك فقال لعبيد الله أيها الأمير ما يبلغ حلم من لا قدرة له ولا يملك لعدوه ضراً ولا لصديقه نفعاً وإنما يتكلف الدخول فيما لا يعنيه فبلغ ذلك من قوله الأحنف فقال أهون بحارثة وكلامه وما حارثة ومقداره أليس الذي يقول قبح الله رأيه في قوله
( إذا ما شَرِبْتُ الراحَ أَبْدَتْ مَكَارِمِي ... وَجُدْتُ بما حَازَتْ يَدَايَ من الوَفْرِ )

( وإن سَبَّنِي جَهْلاً نَدِيميَ لم أَزِدْ ... على اشْرَبْ سَقَاكَ اللَّهُ طَيِّبَةَ النَّشْر )
أَرَى ذاك حَقّاً وَاجِباً لِمُنَادِمِي ... إذا قال لي غَيْرَ الجَمِيل من النُّكْرِ )

شعره في جاريته ميسته
أخبرني عمي قال أنبأنا الكراني قال أنبأنا الرياشي عن الأصمعي
قال
كان لحارثة بن بدر جارية يقال لها ميسة وكان بها مشغوفاً فلما مات تزوجت بعده بشر بن شغاف فهؤلاء الشغافيون من ولدها وفيها يقول حارثة
( خلِيليَّ لولا حُبُّ مَيْسَة لَمْ أُبَلْ ... أفي اليوْمِ لاَقَيْتُ المَنِيَّةَ أمْ غَدَا )
( خليليَّ إنْ أَفْشَيْتُ سِرِّي إِلَيْكُما ... فَلاَ تَجْعَلا سِرِّي حديثاَ مُبَدَّدا )
( وإنْ أنْتُما أفشيتُماه فلا رأتْ عُيُونُكُما يَوْمَ الحِسَابِ مُحَمَّدا )
( ولا زِلْتُمَا في شِقْوَةٍ ما بَقِيتُما ... تَذُوقَانِ عَيْشاً سَيِّىءَ الحَالِ أَنْكَدا ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال أنبأنا الحسين بن عليل قال أنبأنا مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال
اجتاز حارثة بن بدر الغداني بمجلس من مجالس قومه من بني تميم ومعه كعب مولاه فكلما اجتاز بقوم قاموا إليه وقالوا مرحباً بسيدنا فلما ولى قال له كعب ما سمعت كلاماً قط أقر لعيني ولا ألذ بسمعي من هذا الكلام الذي سمعته اليوم فقال له حارثة لكني لم أسمع كلاماً قط أكره لنفسي وأبغض إلي مما سمعته قال ولم قال ويحك يا كعب إنما سودني قومي حين ذهب خيارهم وأماثلهم فاحفظ عني هذا البيت
( خلَت الدِّيَارُ فَسُدْتُ غير مُسَوَّدِ ... ومن الشَّقَاءِ تَفَرُّدِي بالسُّودَدِ )

وصيته قبل وفاته
قال
واشتكى حارثة بن بدر وأشرف على الموت فجعل قومه يعودونه فقالوا له هل لك من حاجة أو شيء تريده قال نعم اكسروا رجل مولاي كعب لئلا يبرح من عندي فإنه يؤنسني ففعلوا وأنشأ يقول
( يا كَعْبُ مَهْلاً فلا تَجْزَع على أَحَدٍ ... يا كَعْبُ لم يَبْقَ منَّا غيرُ أَجْسَادِ )
( يا كَعْبُ مَا رَاحَ من قَوْمٍ ولا بكَرُوا ... إلا وللْمَوْتِ في آثارِهِمْ حَادي )
( يا كعبُ ما طَلَعَتْ شمسٌ ولا غَرُبَتْ ... إلا تُقَرِّبُ آجالاً لمِيعَاد )
( يا كَعْبُ كم من حِمَى قَوْمٍ نَزلْتُ بِهِ ... على صَوَاعِقَ من زَجْرٍ وإِيعَاد )
( فإنْ لَقِيتَ بوادٍ حيَّةً ذَكراً ... فَاذْهَبْ ودَعْني أُمَارِسْ حَيَّة الوَادي )
جاء بعقب هذه الترجمة في الجزء الحادي والعشرين
صوت
( عِشْ فَحُبِّيك سَرِيعاً قاتلي ... والضَّنَى إنْ لَمْ تَصلْني واصلِي )
( ظَفِرَ الشَّوْقُ بِقَلْبٍ دَنِفٍ ... فيكَ والسُّقْمُ بِجِسْمٍ نَاحِلِ )
( فهما بين اكتئابٍ وضَنًى ... تَرَكاني كالقضيب الذَّابِلِ )
الشعر لخالد الكاتب والغناء للمسدود رمل مطلق في مجرى الوسطى وذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه وأنه أول صوت سمعه فكتبه
ثم جاءت بعد هذا أخبار خالد الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر أخبار كثير ونسبه
هو فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سعيد بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو وهو خزاعة بن ربيعة وهو يحيى بن حارثة بن عمرو وهو مزيقيا بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول ابن مازن بن الأزد وهو درء وقيل دراء ممدودا ابن الغوث بن نبت بن مالك ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وأخبرنا أبو عبد الرحمن أحمد بن محمد بن إسحاق الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو صخر بن أبي الزعراء الخزاعي عن أمه ليلى

بنت كثير قالت هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن مخلد بن سبيع بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر
وأمه جمعة بنت الأشيم بن خالد بن عبيد ابن مبشر بن رياح بن سيالة بن عامر بن جعثمة بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وكانت كنية الأشيم جده أبي أمه أبا جمعة ولذلك قيل له ابن أبي جمعة
وكان له ابن يقال له ثواب من أشعر أهل زمانه مات سنة إحدى وأربعين ومائة ولا ولد له
ومات كثير سنة خمس ومائة في ولاية يزيد بن عبد الملك وليس له اليوم ولد إلا من بنته ليلى ولليلى بنته ابن يكنى أبا سلمة شاعر وهو الذي يقول

صوت
( وكان عزيزاً أن تبيتِي وبيننا ... حجابٌ فقد أمسيتِ منِّي على شهرِ )
( ففي القرب تعذيبٌ وفي النأي حَسْرةٌ ... فيا ويْح نفسي كيف أصنع بالدهر )
في هذين البيتين غناء لمقاسة ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر عن حبش
طبقته ونحلته
ويكنى كثير أبا صخر وهو من فحول شعراء الإسلام وجعله ابن سلام

في الطبقة الأولى منهم وقرن به جريرا والفرزدق والأخطل والراعي وكان غاليا في التشيع يذهب مذهب الكيسانية ويقول بالرجعة والتناسخ وكان محمقا مشهورا بذلك وكان آل مروان يعلمون بمذهبه فلا يغيرهم ذلك لجلالته في أعينهم ولطف محله في أنفسهم وعندهم وكان من أتيه الناس وأذهبهم بنفسه على كل أحد
أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عبد الله الزهري قال حدثني سليمان بن فليح قال سمعت محمد بن عبد العزيز يعني ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف يقول ما قصد القصيد ولا نعت الملوك مثل كثير
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال كتب إلي إسحاق بن إبراهيم الموصلي حدثني إبراهيم بن سعد قال إني لأروي

لكثير ثلاثين قصيدة لورقي بها مجنون لأفاق
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني بعض أصحاب الحديث قال
كنا نأتي إبراهيم بن سعد وهو خبيث النفس فنسأله عن شعر كثير فتطيب نفسه ويحدثنا
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال من لم يجمع من شعر كثير ثلاثين لامية فلم يجمع شعره قال الزبير قال المؤملي وكان ابن أبي عبيدة يملي شعر كثير بثلاثين دينارا قال وسئل عمي مصعب من أشعر الناس فقال كثير بن أبي جمعة وقال هو أشعر من جرير والفرزدق والراعي وعامتهم يعني الشعراء لم يدرك أحد في مديح الملوك ما أدرك كثير
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال كان كثير شاعر أهل الحجاز وهو شاعر فحل ولكنه منقوص حظه بالعراق

أخبرني أبو خليفة قال أخبرنا ابن سلام قال سمعت يونس النحوي يقول كثير أشعر أهل الإسلام قال ابن سلام وسمعت ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جدا ويقول كان يستقصي المديح وكان فيه مع جودة شعره خطل وعجب
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري قال أخبرني إبراهيم بن إبراهيم بن حسين بن زيد قال سمعت المسور بن عبد الملك يقول ما ضر من يروي شعر كثير وجميل ألا تكون عنده مغنيتان مطربتان
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائني عن الوقاصي قال رأيت كثيرا يطوف بالبيت فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول طأطئ رأسك لا يصبه السقف

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إسحاق ابن إبراهيم عن المدائني وعن ابن حبيب عن أبيه عن جده عن جد أبيه عبد العزيز وأمه جمعة بنت كثير قال قال جرير لكثير أي رجل أنت لولا دمامتك فقال كثير
( إن أك قَصْداً في الرجال فإنّني ... إذا حلّ أمرٌ ساحتي لطويلُ )

كثير والحزين الديلي
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر ابن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائني عن الوقاصي قال وأخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن يحيى عن بعض أصحابهم الديليين قال التقى كثير والحزين الديلي بالمدينة في دار ابن أزهر في سوق الغنم فضمهما المجلس فقال كثير للحزين ما أنت شاعر يا حزين إنما توصل الشيء إلى الشيء فقال له الحزين أتأذن لي أن أهجوك قال نعم وكان كثير قال قبل ذلك وهو ينتسب إلى بني الصلت بن النضر بن كنانة

( أليس أبي بالنَّضْرِ أوليس إخوتي ... بكلِّ هِجَانٍ من بني الصَّلْت أزْهَرَا )
( فإن لم تكونوا من بني الصَّلْت فاتركوا ... أَراكاً بأذيال الخمائل أخضرا )
قال فلما أذن كثير للحزين أن يهجوه قال الحزين
( لقد عَلِقتْ زُبَّ الذُّبَابِ كُثَيِّراً ... أساوِدُ لا يُطْنينه وأراقمُ )
( قصيرُ القميصِ فاحشٌ عند بيته ... يَعَضّ القُراد باسته وهو قائم )
( وما أنتُمُ منّا ولكنكم لنا ... عبيدُ العصا ما ابتلّ في البحر عائم )
( وقد عَلِم الأقوامُ أن بني استِها ... خُزَاعةَ أذنابٌ وأنَّا القَوادِمُ )
( ووالله لولا اللهُ ثم ضِرَابُنا ... بأسيافنا دارتْ عليها المَقاسمُ )
( ولولا بنو بكر لَذَلَّتْ وأُهلِكتْ ... بطعنٍ وأفنتْها السيوف الصوارمُ )
قال فقام كثير فحمل عليه فلكزه وكان الحزين طويلا أيدا فقال له الحزين أنت عن هذا أعجز واحتمله فكان في يده مثل الكرة فضرب به الأرض فخلصه منه الأزهريون فبلغ ذلك أبا الطفيل عامر بن واثلة وهو

بالكوفة فأقسم لئن ملأ عينيه من كثير ليضربنه بالسيف أو ليطعننه بالرمح وكان خندف الأسدي صديقا لأبي الطفيل فطلب إلى أبي الطفيل في كثير واستوهبه إياه فوهبه له والتقيا بمكة وجلسا جميعا مع عمر بن علي بن أبي طالب فقال أما والله لولا ما أعطيت خندفا من العهد لوفيت لك فذلك قول كثير في قصيدته التي يرثي فيها خندفا
( ينال رجالاً نفعُه وهو منهمُ ... بعيدٌ كعَيُّوقِ الثُّرَيَّا المُحَلِّقِ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال قال كثير في أي شعر أعطى هؤلاء الأحوص عشرة آلاف دينار قالوا في قوله فيهم
( وما كان مالي طارفاً من تجارةٍ ... وما كان مِيراثاً من المال مُتْلَدَا )
( ولكن عطايَا من إمامٍ مُبَارَكٍ ... مَلاَ الأرضَ معروفاً وجُوداً وسُودَدَا )
فقال كثير إنه لضرع قبحه الله ألا قال كما قلت

صوت
( دَعْ عنكَ سَلْمَى إذ فاتَ مَطْلَبُها ... واذكُرْ خليلَيْكَ من بني الحَكَمِ )

( ما أعطياني ولا سألتُهما ... إلاّ وإنِّي لحاجِزِي كَرَمي )
( إنّي متى لا يكن نوالُهُما ... عندي بما قد فعلتُ أحتشم )
( مُبْدِي الرِّضا عنهما ومُنصرِفٌ ... عن بعض ما لو فعلتُ لم ألَمِ )
( لا أنْزُر النائل الخليلَ إذا ... ما اعتلّ نَزْرَ الظَّؤورِ لم تَرَمِ )
عروضه من المنسرح غنى في هذا الشعر يونس ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وغنى فيه الغريض ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة وفيه لحن من الثقيل الأول ينسب إلى معبد وليس بصحيح له قال الزبير بن بكار في تفسير قوله لا أنزر النائل الخليل يقول لا ألح عليه بالمسألة يقال نزرته أنزره إذا ألححت عليه والظؤور المتعطفة على غير أولادها

أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثنا المؤملي عن أبي عبيدة وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال دخل كثير على عبد الملك بن مروان فقال يا أمير المؤمنين إن أرضا لك يقال لها غرب ربما أتيتها وخرجت إليها بولدي وعيالي فأصبنا من رطبها وتمرها بشراء مرة وطعمة مرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يعمرنيها فعل فقال له عبد الملك ذلك لك فندمه الناس وقالوا له أنت شاعر الخليفة ولك عنده منزلة فهلا سألت الأرض قطيعة فأتى الوليد فقال إن لي إلى أمير المؤمنين حاجة فأجلسني قريبا من البرذون فلما استوى عليه عبد الملك قال له إيه وعلم أن له إليه حاجة فقال كثير
( جزَتكَ الجوازِي عن صديقكَ نَضْرةً ... وأدناكَ ربِّي في الرَّفيق المُقَرَّبِ )
( فإنّك لا يُعْطَى عليك ظُلاَمةً ... عدوٌّ ولا تنأَى عن المتقرِّب )
( وإنّك ما تَمنَعْ فإنك مانعٌ ... بحقٍّ وما أعطيتَ لم تَتَعقّبِ )
فقال له أترغب غربا قال نعم يا أمير المؤمنين قال اكتبوها له ففعلوا
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال كان الحزين الكناني قد ضرب علىكل رجل من قريش درهمين في كل

شهر منهم ابن أبي عتيق فجاءه لأخذ درهميه على حمار له أعجف قال وكثير مع ابن أبي عتيق فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال الحزين لابن أبي عتيق من هذا معك قال هذا أبو صخر كثير بن ابي جمعة قال وكان قصيرا دميما فقال له الحزين أتأذن لي أن أهجوه ببيت من شعر قال لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي ولكني أشتري عرضه منك بدرهمين آخرين ودعا له بهما فأخذهما ثم قال لا بد من هجائه ببيت قال أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين ودعا له بهما فأخذهما ثم قال ما أنا بتاركه حتى أهجوه قال أو أشتري ذلك منك بدرهمين فقال له كثير ايذن له ما عسى أن يقول في بيت فأذن له ابن أبي عتيق فقال
( قصيرُ القميصِ فاحشٌ عند بيته ... يَعَضّ القُرَادُ بِاستِه وهو قائمُ )
قال فوثب كثير إليه فلكزه فسقط هو والحمار وخلص ابن أبي عتيق بينهما وقال لكثير قبحك الله أتأذن له وتسفه عليه فقال كثير أو أنا ظننته أن يبلغ بي هذا كله في بيت واحد

كثير يدعي أنه قرشي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزه وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن ابن الخضر الخزاعي عن ولد جمعة بنت كثير أنه وجد في كتب أبيه التي فيها شعر كثير أن عبد الملك بن مروان قال له ويحك الحق بقومك من خزاعة فأخبر أنه من كنانة قريش وأنشد كثير قوله
( أليس أبي بالصَّلْتِ أم ليس إخوتي ... بكل هِجانٍ من بني النَّضْر أزهَرا )

( فإن لم تكونوا من بني النَّضْرِ فاتركوا ... أراكاً بأذناب القَوابِل أخضرا )
( أبَيْتُ التي قد سُمْتَني ونَكِرْتُها ... ولو سُمْتَها قبلي قبيصةَ أنكرا )
( لَبسنا ثيابَ العَصْبِ فاختلط السَّدَى ... بِنا وبهم والحَضْرَمِيَّ المُخَصَّرا )
فقال له عبد الملك لابد أن تنشد هذا الشعر على مبنري الكوفة والبصرة وحمله وكتب إلى العراق في أمره قال عمر بن شبة في خبره خاصة فأجابته خزاعة الحجاز إلى ذلك وقال فيه الأحوص ويقال بل قاله سراقة البارقي
( لَعَمْرِي لقدجاء العراقَ كُثَيِّرٌ ... بأحدوثة من وَحْيهِ المُتَكَذِّب )
( أيزعمُ أنِّي من كِنانةَ أوّلي ... وما لِيَ من أمٍّ هناك ولا أبِ )
( فإنْ كنتَ حُرًّا أو تخاف مَعَرّةً ... فخُذْ ما أخذتَ من أميرِك واذهبِ )
فقال كثير يجيبه وفي خبر الزبير قال هذا لأبي علقمة الخزاعي

( أيا خُبَثٌ أكرِمْ كِنانةَ إنّهم ... مَواليك إنْ أمرٌ سما بك معلق )
وفي رواية الزبير أبا علقم
( بنو النَّضْرِ تَرْمِي من ورائك بالحصى ... أُولُو حَسَبٍ فيهم وفاءٌ ومَصْدَقُ )
( يُفِيدونكَ المالَ الكثيرَ ولم تَجِدْ ... لمُلكهمُ شِبْهاً لَوَ انّك تصدُق )
( إذا ركِبوا ثارتْ عليك عَجَاجةٌ ... وفي الأرض من وقع الأسِنَّة أوْلَقُ )
فأجابه الأحوص بقوله
( دَعِ القومَ ما حَلُّوا ببطن قُرَاضِمٍ ... وحيث تَفشَّى بيضُه المتفلِّق )
( فإنّك لو قاربتَ أو قلتَ شُبْهةً ... لذي الحقِّ فيها والمخاصِم مَعْلَق )
( عذَرناك أو قلنا صدقتَ وإنما ... يُصدَّق بالأقوال من كان يصدُق )
( ستأبَى بنو عمروٍ عليك وينتمي ... لهم حسبٌ في جِذْمِ غَسّانَ مُعْرِقُ )
( فإنّك لا عمراً أباك حَفِظتَه ... ولا النَّضْرَ إن ضَيّعتَ شيخَك تَلْحَقُ )
( ولم تُدْرِك القومَ الذين طلبتَهم ... فكنتَ كما كان السِّقاءُ المعلَّق )
( بجِذْمة ساقٍ ليس منه لِحاؤها ... ولم يَكُ عنها قلُبه يتعلّق )

( فأصبحتَ كالمُهْرِيقِ فضلةَ مائه ... لبادِي سَرَابٍ بالمَلاَ يترقرقُ )
قال فخرج كثير فأتى الكوفة فرمي به إلى مسجد بارق فقالوا له أنت من أهل الحجاز قال نعم قالوا فأخبرنا عن رجل شاعر ولد زنا يدعى كثيرا قال سبحان الله أما تسمعون أيها المشايخ ما يقول الفتيان قالوا هو ما قاله لنفسه فانسل منهم وجاء إلى والي الكوفة حسان بن كيسان فطيره على البريد وقال عمر بن شبة في خبره إن سراقة البارقي هو المخاطب له بهذه الشتيمة وإنه عرفه وقال له إن قلت هذا على المنبر قتلتك قحطان وأنا أولهم فانصرف إلى منزله ولم يعد إلى عبد الملك
وكان سراقة هذا شاعرا ظريفا فأخبرني عمي حدثني الكراني عن النضر بن عمر عن الهيثم بن عدي عن الأعمش عن إبراهيم قال كان سراقة البارقي من ظرفاء أهل العراق فأسره المختار يوم جبانة السبيع وكانت للمختار فيها وقعة منكرة فجاء به الذي أسره إلى

المختار فقال له إني أسرت هذا فقال له سراقة كذب ما هو الذي أسرني إنما أسرني غلام أسود على برذون أبلق عليه ثياب خضر ما أراه في عسكرك الآن وسلمني إليه فقال المختار أما إن الرجل قد عاين الملائكة خلوا سبيله فخلوه فهرب فأنشأ يقول
( ألاَ أبلِغْ أبا إسحاق أنِّي ... رأيتُ البُلْقَ دُهْماً مُصْمَتاتِ )
( أرِي عَيْنَيَّ ما لم تُبْصِراه ... كِلاَنَا عالمٌ بالتُّرَّهَاتِ )
( كفرتُ بدينِكم وجعلتُ نذراً ... عليَّ قتالَكم حتى المماتِ )

تشيع كثير وشعره في ابن الحنفية
أخبرنا الحرمي قال أخبرنا الزبير قال أخبرنا عمرو ومحمد بن الضحاك قالا كان كثير يتشيع تشيعا قبيحا يزعم أن محمد بن الحنفية لم يمت قال وكان ذلك رأي السيد وقد قال فيه يعني السيد شعرا كثيرا منه

( ألاَ قلْ للوَصِيّ فدتْك نفسي ... أطلتَ بذلك الجبلِ المُقامَا )
( أضَرّ بمَعْشَرٍ وَالَوْكَ منّا ... وسَمَّوك الخليفةَ والإِماما )
( وعادَوْا فيك أهلَ الأرضِ طُرًّا ... مُقامُك عنهمُ ستِّين عاما )
( وما ذاق ابنُ خَوْلةَ طعمَ مَوْتٍ ... ولا وارتْ له أرضٌ عِظاما )
( لقد أَوْفَى بمُورِق شِعْبِ رَضْوَى ... تُراجِعه الملائكةُ الكلاما )
( وإنّ له به لمَقِيلَ صدقٍ ... وأنديةً تحدِّثه كِرَاما )
( هدانا الله إذ جُرْتُمْ لأمرٍ ... به ولديه نَلْتَمِس التَّمَاما )
( تمامَ مَوَدّةِ المهديِّ حتّى ... تَرَوْا راياتِنا تَتْرَى نِظَاما )
وقال كثير في ذلك
( ألاَ إنّ الأَئمَّةَ من قُرَيْشٍ ... وُلاةَ الحقِّ أربعةٌ سواءُ )
( عليٌّ والثلاثةُ من بَنِيه ... همُ الأسباطُ ليس بهم خَفَاءُ )
( فسِبْطٌ سِبْطُ إيمان وبِرٍّ ... وسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبَلاءُ )
( وسِبْطٌ لا تراه العينُ حتَّى ... يقودَ الخيلَ يقدُمها اللِّواء )
( تغيَّب لا يُرَى عنهم زماناً ... برَضْوَى عنده عسلٌ وماء )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن محمد عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال

كان عبد الله بن الزبير قد أغري ببني هاشم يتبعهم بكل مكروه ويغري بهم ويخطب بهم على المنابر ويصرح ويعرض بذكرهم فربما عارضه ابن عباس وغيره منهم ثم بدا له فيهم فحبس ابن الحنفية في سجن عارم ثم جمعه وسائر من كان بحضرته من بني هاشم فجعلهم في محبس وملأه حطبا وأضرم فيه النار وقد كان بلغه أن أبا عبد الله الجدلي وسائر شيعة ابن الحنفية قد وافوا لنصرته ومحاربة ابن الزبير فكان ذلك سبب إيقاعه به وبلغ أبا عبد الله الخبر فوافى ساعة أضرمت النار عليهم فأطفأها واستنقذهم وأخرج ابن الحنفية عن جوار ابن الزبير منذ يومئذ فأنشدنا محمد بن العباس اليزيدي قال أنشدنا محمد بن حبيب لكثير يذكر ابن الحنفية وقد حبسه ابن الزبير في سجن يقال له سجن عارم
( مَنْ يَرَ هذا الشيخَ بالخَيْفِ من مِنًى ... من الناسِ يعلَمْ أنّه غيرُ ظالمِ )
( سَمِيُّ النبيِّ المصطفى وابنُ عمِّه ... وفَكَّاكُ أغلالٍ ونفّاعُ غارمِ )

( أبَى فهو لا يَشْرِي هدّى بضلالةٍ ... ولا يتَّقي في الله لومةَ لائمِ )
( ونحن بحمد الله نتلو كتابَه ... حُلُولاً بهذا الخَيْفِ خَيْفِ المحارمِ )
( بحيث الحمامُ آمِنُ الرَّوْعِ ساكنٌ ... وحيث العدوّ كالصديق المُسالِم )
( فما فَرَحُ الدُّنيا بباقٍ لأهلِه ... ولا شِدَّةُ البَلْوَى بضربة لازِمِ )
( تُخَبِّرُ مَنْ لاقيتَ أنك عائذٌ ... بل العائذُ المظلوم في سجن عارمِ )
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا الزبير بن بكار وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري عن سعيد عن عقبة الجهني عن أبيه قال سمعت كثيرا ينشد علي بن عبد الله بن جعفر قوله في محمد بن الحنفية
( أقَرّ اللهُ عينِيَ إذ دعاني ... أمينُ الله يلطُف في السؤالِ )
( وأثنَى في هوايَ عليَّ خيراً ... وساءلَ عن بَنِيَّ وكيف حالي )
( وكيف ذكرت حال أبي خُبَيْبٍ ... وزَلَّة فعلِه عند السُّؤالِ )
( هو المَهْدِيّ خَبَّرَنَاهُ كَعْبٌ ... أخو الأحبارِ في الحِقَبِ الخوالي )
فقال له علي بن عبد الله يا أبا صخر ما يثنى عليك في هواك خيرا إلا من كان على مثل مذهبك قال أجل بأبي أنت وأمي قال وكان كثير كيسانيا يرى الرجعة قال الزبير أبو خبيب عبد الله بن الزبير كناه بابنه

خبيب وهو أكبر ولده وكان كثير سيئ الرأي فيه قال الزبير كناه بابنه خبيب وهو أكبر ولده وكان كثير سيئ الرأي فيه قال الزبير فأخبرني عمي قال لما قال كثير
( هو المهديّ خَبَّرَنَاه كعبٌ ... أخو الأحبار في الحِقَبِ الخوالي )
فقيل له ألقيت كعبا قال لا قيل فلم قلت خبرناه كعب قال بالتوهم
قال وكان كثير شيعيا غاليا يزعم أن الأرواح تتناسخ ويحتج بقول الله تعالى ( في أي صورة ما شاء ركبك ) ويقول ألا ترى أنه حوله من صورة في صورة
قال فحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال خندف الأسدي الذي أدخل كثيرا في الخشبية
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال كنا بالسيالة في مشيخة نتحدث إذا بكثير قد طلع علينا متكئا على عصا فقال كنا ببيداء بأشراف السيالة وبهذه الناحية فما بقي موضع ببيداء إلا وقد جئته فإذا هو على حاله ما تغير وما تغيرت الجبال ولا الموضع الذي كنا نطوف فيه وهذا يكون حتى نرجع إليه وكان يؤمن بالرجعة

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني يحيى بن محمد قال دخل عبد الله بن حسن على كثير يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال له كثير أبشر فكأنك بي بعد أربعين ليلة قد طلعت عليك على فرس عتيق فقال له عبد الله بن حسن ما لك عليك لعنة الله فوالله لئن مت لا أشهدك ولا أعودك ولا أكلمك أبدا
أخبرني الحرمي قال حدثا الزبير قال حدثني يحيى بن محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز أحسبه عن ابن الماجشون قال وكان أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي قد وضع الأرصاد على كثير فلا يزال يؤتى بالخبر من خبره فيقول له إذا لقيه كنت في كذا وكنت في كذا إلى أن جرى بين كثير وبين رجل كلام فأتي به أبو هاشم فأقبل به على أدراجه فقال له أبو هاشم كنت الساعة مع فلان فقلت له كذا وكذا وقال لك كذا وكذا فقال له كثير أشهد أنك رسول الله
أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا محمد وأخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن إسماعيل عن موسى بن عبد الله فيما أحسب قال نظر كثير إلى بني حسن بن حسن وهم صغار فقال بأبي أنتم هؤلاء الأنبياء الصغار وكان يرى الرجعة وروى علي بن بشر بن سعيد الرازي عن محمد بن حميد عن أبي زهير عبد الرحمن بن مغراء الدوسي عن محمد ابن عمارة قال مر كثير بمعاوية بن عبد الله بن جعفر وهو في المكتب فأكب عليه

يقبله وقال أنت من الأنبياء الصغار ورب الكعبة
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا قعنب بن المحرز قال حدثني إبراهيم بن داجة قال كان كثير شيعيا وكان يأتي ولد حسن بن حسن إذا أخذ عطاءه فيهب لهم الدراهم ويقول وابأبي الأنبياء الصغار وكان يؤمن بالرجعة فيقول له محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخوهم لأمهم يا عم هب لي فيقول لا لست من الشجرة
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عثمان بن عبد الرحمن عن إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبيد الله قال قال عمر بن عبد العزيز إني لأعرف صلاح بني هاشم من فسادهم بحب كثير من أحبه منهم فهو فاسد ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبيا يقول بالرجعة
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن أبي لهيعة عن رجاء بن حيوة قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول إن مما أعتبر به صلاح بني هاشم وفاسدهم حب كثير ثم ذكر مثله
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا علي بن صالح عن ابن دأب قال كان كثير يدخل على عمة له برزة فتكرمه وتطرح له وسادة يجلس عليها فقال لها يوما لا والله ما تعرفينني ولا تكرمينني حق كرامتي قالت بلى والله إني لأعرفك قال فمن أنا قالت ابن فلان وابن فلانة وجعلت تمدح أباه وأمه فقال قد عرفت أنك لا تعرفينني قالت فمن أنت قال أنا يونس بن متى

كان كثير عاقا لأبيه
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني أبي قال كان كثير عاقا لأبيه وكان أبوه قد أصابته قرحة في إصبع من أصابع يده فقال له كثير أتدري لم أصابتك هذه القرحة في إصبعك قال لا أدري قال مما ترفعها إلى الله في يمين كاذبة
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد ابن معن الغفاري عن أبيه وغيره قال حدثني رجل من مزينة قال

إني لأعرف صلاح بني هاشم من وفسادهم بحب كثير من أحبه منهم فهو فاسد ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبيا يقول بالرجعة
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن أبي لهيعة عن رجاء بن حيوة قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول إن مما أعتبر به صلاح بني هاشم وفاسدهم حب كثير ثم ذكر مثله
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا علي بن صالح عن ابن دأب قال كان كثير يدخل على عمة له برزة فتكرمه وتطرح له وسادة يجلس عليها فقال لها يوما لا والله ما تعرفينني ولا تكرمينني حق كرامتي قالت بلى والله إني لأعرفك قال فمن أنا قالت ابن فلان وابن فلانة وجعلت تمدح أباه وأمه فقال قد عرفت أنك لا تعرفينني قالت فمن أنت قال أنا يونس بن متى
كان كثير عاقا لأبيه
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني أبي قال كان كثير عاقا لأبيه وكان أبوه قد أصابته قرحة في إصبع من أصابع يده فقال له كثير أتدري لم أصابتك هذه القرحة في إصبعك قال لا أدري قال مما ترفعها إلى الله في يمين كاذبة
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد ابن معن الغفاري عن أبيه وغيره قال حدثني رجل من مزينة قال

ضفت كثيرا ليلة وبت عنده ثم تحدثنا ونمنا فلما طلع الفجر تضور ثم قمت فتوضأت وصليت وكثير راقد في لحافه فلما طلع قرن الشمس تضور ثم قال يا جارية اسجري لي ماء قال قلت تبا لك سائر اليوم أو هذه الساعة هذا وركبت راحلتي وتركته قال الزبير أسخني لي ماء
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن ابن شهاب عن طلحة بن عبيد الله قال ما رأيت قط أحمق من كثير دخلت عليه يوما في نفر من قريش وكنا كثيرا ما نتهزأ به وكان يتشيع تشيعا قبيحا فقلت له كيف تجدك يا أبا صخر وهو مريض فقال أجدني ذاهبا فقلت كلا فقال هل سمعتم الناس يقولون شيئا فقلت نعم يتحدثون أنك الدجال قال أما لئن قلت ذاك إني لأجد في عيني ضعفا منذ أيام
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران أن ناسا من أهل المدينة كانوا يلعبون بكثير فيقولون وهو يسمع إن كثيرا لا يلتفت من تيهه فكان الرجل يأتيه من ورائه فيأخذ رداءه فلا يلتفت من الكبر ويمضي في قميص
أخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال بلغني أن كثيرا دخل على عبد الملك بن مروان فسأله عن شيء

فأخبره به فقال وحق علي بن أبي طالب إنه كما ذكرت قال كثير يا أمير المؤمنين لو سألتني بحقك لصدقتك قال لا أسألك إلا بحق أبي تراب فحلف له به فرضي
أخبرنا الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني عثمان بن عبد الرحمن وأخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب ابن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا المؤملي عن ابن أبي عبيدة قالوا جميعا لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب لاذت به عاتكة بنت يزيد ابن معاوية وهي أم ابنه يزيد وقالت يا أمير المؤمنين لا تخرج السنة لحرب مصعب فإن آل الزبير ذكروا خروجك وابعث إليه الجيوش وبكت وبكى جواريها معها وجلس وقال قاتل الله ابن أبي جمعة فأين قوله

صوت
( إذا ما أراد الغَزْوَ لم تَثْنِ هَمَّه ... حصَانٌ عليها عِقدُ دُرٍّ يَزيُنها )
( نهتْه فلما لم تَرَ النَّهْيَ عاقَه ... بكتْ فبكى مما شجاها قَطِينُها )
غناه ابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والله لكأنه يراني ويراك يا عاتكة ثم خرج قال محمد بن جعفر النحوي في خبره ووافقه عليه عمر بن شبة فلما خرج عبد الملك نظر إلى كثير في ناحية عسكره يسير مطرقا فدعا به وقال لأعلم ما أسكتك وألقى عليك بثك فإن أخبرتك عنه أتصدقني قال نعم قال قل وحق أبي تراب لتصدقني قال والله لأصدقنك قال لا أو تحلف به فحلف به فقال تقول رجلان من قريش يلقى أحدهما صاحبه فيحاربه القاتل والمقتول في النار فما معنى سيري مع أحدهما إلى الآخر ولا آمن سهما عائرا لعله أن يصيبني فيقتلني فأكون معهما قال والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت قال فارجع من قريب وأمر له بجائزة
أخبرنا وكيع قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو تمام الطائي حبيب بن أوس قال حدثني العطاف بن هارون عن يحيى بن حمزة قاضي دمشق قال حدثني حفص الأموي قال كنت أختلف إلى كثير أتروى شعره قال فوالله إني لعنده يوما إذ وقف

عليه واقف فقال قتل آل المهلب بالعقر فقال ما أجل الخطب ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر ثم انتضحت عيناه باكيا فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فدعا به فلما دخل عليه قال عليك لعنة الله أترابية وعصبية وجعل يضحك منه
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد عن أبيه قال قال عبد الملك بن مروان لكثير من أشعر الناس اليوم يا أبا صخر قال من يروي أمير المؤمنين شعره فقال عبد الملك أما إنك لمنهم
أخبرنا وكيع قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا حماد بن إسحاق عن ابن أبي عوف عن عوانة قال قال كثير لعبد الملك كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين قال أراه يسبق السحر ويغلب الشعر
أخبرنا عمي عن الكراني عن النضر بن عمر قال

كان عبد الملك بن مروان يخرج شعر كثير إلى مؤدب ولده مختوما يرويهم إياه ويرده
أخبرنا الحرمي قال أخبرنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن خالد الجهني إن كثيرا شب في حجر عم له صالح فلما بلغ الحلم أشفق عليه أن يسفه وكان غير جيد الرأي ولا حسن النظر في عواقب الأمور فاشترى له عمه قطيعا من الإبل وأنزله فرش ملل فكان به ثم ارتفع فنزل فرع المسور ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من جبل جهينة الأصغر وكان قبل المسور لبني مالك بن أفصى فضيقوا على كثير وأساؤوا جواره فانتقل عنهم وقال
( أبَتْ إبِلِي ماءَ الرَّداة وشَفَّها ... بنو العَمِّ يحمون النَّضِيح المُبَرَّدا )
( وما يمنعون الماء إلاّ ضَنانةً ... بأصلاب عُسْرَى شوكها قد تخدّدا )
( فعادتْ فلم تَجْهَدْ على فضل مائه ... رِياحاً ولا سُقْيَا ابن طَلْقِ بنِ أسعدا )
قال ويروى أنه أول شعر قاله

بدء قوله الشعر وعشقه عزة
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال

قال كثير ما قلت الشعر حتى قولته قيل له وكيف ذاك قال بينا أنا يوما نصف النهار أسير على بعير لي بالغميم أو بقاع حمدان إذا راكب قد دنا مني حتى صار إلى جنبي فتأملته فإذا هو من صفر وهو يجر نفسه في الأرض جرا فقال لي قل الشعر وألقاه علي قلت من أنت قال أنا قرينك من الجن فقلت الشعر
ونسب كثير لكثرة تشبيبه بعزة الضمرية إليها وعرف بها فقيل كثير عزة وهي عزة بنت حميل بن وقاص أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الحسن قال أبو بصرة الغفاري المحدث واسمه حميل بن وقاص هو أبو عزة التي كان ينسب بها كثير وكان ابتداء عشقه إياها على أنه قد قيل إنه كان في ذلك كاذبا ولم يكن بعاشق وذلك يذكر بعد خبره معها فيما أخبرني به

الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن إبراهيم السعدي قال حدثني إبراهيم بن يعقوب بن جميع الخزاعي أنه كان أول عشق كثير عزة أن كثيرا مر بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة فقالت يقلن لك النسوة بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع فأعطاها كبشا وأعجبته فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه فقال وأين الصبية التي أخذت مني الكبش قالت وما تصنع بها هذه دراهمك قال لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها وخرج وهو يقول
( قضى كلُّ ذي دَيْنٍ فوفَّى غَرِيمَه ... وعَزّةُ ممطولٌ مُعَنًّى غريمُها )
قال فكان أول لقائه إياها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن الخضر بن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبي جندل عن أبيه عبد العزيز الخزاعي وأمه جمعة بنت كثير عن أمه جمعة عن أبيها كثير أن أول علاقته بعزة أنه خرج من منزله يسوق خلف غنم إلى

الجار فلما كان بالخبت وقف على نسوة من بني ضمرة فسألهن عن الماء فقلن لعزة وهي جارية حين كعب ثدياها أرشديه إلى الماء فأرشدته وأعجبته فبينا هو يسقي غنمه إذ جاءته عزة بدراهم فقالت يقلن لك النسوة بعنا بهذه الدراهم كبشا من ضأنك فأمر الغلام فدفع إليها كبشا وقال ردي الدراهم وقولي لهن إذا رحت بكن اقتضيت حقي فلما راح مر بهن فقلن له هذا حقك فخذه فقال عزة غريمي ولست أقتضي حقي إلا منها فمزحن معه وقلن ويحك عزة جارية صغيرة وليس فيها وفاء لحقك فأحله على إحدانا فإنها أملأ به منها وأسرع له أداء فقال ما أنا بمحيل حقي عنها ومضى لوجهه ثم رجع إليهن حين فرغ من بيع جلبه فأنشدهن فيها
( نظرتُ إليها نظرةً وهي عاتقٌ ... على حين أن شَبّتْ وبان نُهودها )
( وقد دَرَّعُوها وهي ذات مُؤَصَّدٍ ... مَجُوبٍ ولمَّا يَلْبَس الدِّرْعَ رِيدُها )

( من الخفِراتِ البِيض وَدّ جليسُها ... إذا ما انقضتْ أُحدوثةٌ لو تُعيدها )
في هذا البيت وأبيات أخر معه غناء يذكر بعد تمام هذا الخبر وما يضاف إليه من جنسه وأنشدهن أيضا
( قضى كلُّ ذي دَيْنٍ فوفَّى غريمَه ... وعَزّةُ ممطولٌ مُعَنى غريمُها )
فقلن له أبيت إلا عزة وأبرزنها إليه وهي كارهة ثم أحبته عزة بعد ذلك أشد من حبه إياها قال الزبير فسألت محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز ابن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بأبي جندل عن هذا الحديث فعرفه وحدثنيه عن أبيه عن جده عبد العزيز بن أبي جندل عن أمه جمعة بنت كثير عن أبيها
وأخبرني عمي الحسن بن محمد الأصفهاني رحمه الله قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثنا النضر بن عمرو قال حدثني عمر بن عبد الله بن خالد المعيطي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم بن إسحاق الطلحي وأخبرني الحرمي ابن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني يعقوب بن عبد الله الأسدي وغيره قال الزبير وحدثني محمد بن صالح الأسلمي قال دخلت عزة على عبد الملك بن مروان وقد عجزت فقال لها أنت عزة كثير فقالت أنا عزة بنت حميل قال أنت التي يقول لك كثير
( لِعَزّة نارٌ ما تَبُوخُ كأنها ... إذا ما رَمَقْناها من البعدِ كوكبُ )
فما الذي أعجبه منك قالت كلا يا أمير المؤمنين فوالله لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرة وفي حديث محمد بن صالح الأسلمي

فقالت له أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيروك خليفة قال وكانت له سن سوداء يخفيها فضحك حتى بدت فقالت له هذا الذي أردت أن أبديه فقال لها هل تروين قول كثير فيك
( وقد زعمتْ أنِّي تغيَّرتُ بعدَها ... ومَنْ ذا الذي يا عزَّ لا يَتَغَيّرُ )
( تغيَّر جسمي والخليقةُ كالتي ... عَهِدْتِ ولم يُخْبَرْ بسرِّك مُخْبَرُ )
قالت لا ولكني أروي قوله
( كأنِّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ ... من الصمُّ لو تمشِي بها العُصْمُ زَلّتِ )
( صَفُوحاً فما تلقاكَ إلاّ بخيلةً ... فمَنْ مَلّ منها ذلك الوصلَ مَلّتِ )
فأمر بها فأدخلت على عاتكة بنت يزيد وفي غير هذه الرواية أنها أدخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لها أرأيت قول كثير
( قضى كلُّ ذَيٍ دَينٍ فوفَّى غريمَه ... وعزّة ممطولٌ معنًّى غريمُها )
ما هذا الذي ذكره قالت قبلة وعدته إياها قالت أنجزيها وعلي إثمها
أخبرنا الحسن بن الطيب البجلي الشجاعي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال روى ابن جعدبة عن أشياخه وأخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو بكر بن يزيد بن عياض بن جعدبة عن أبيه
أن كثيرا كان له غلام تاجر فباع من عزة بعض سلعه ومطلته مدة وهو لا يعرفها فقال لها يوما أنت والله كما قال مولاي

( قضى كلُّ ذي دَينٍ فوفَّى غريمَه ... وعزّة ممطولٌ معنًّى غريمُها )
فانصرفت عنه خجلة فقالت له امرأة أتعرف عزة قال لا والله قالت فهذه والله عزة فقال لا جرم والله لا آخذ منها شيئا أبدا ولا أقتضيها ورجع إلى كثير فأخبره بذلك فأعتقه ووهب له المال الذي كان في يده
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن حكيم السلمي عن قسيمة بنت عياض بن سعيد الأسلمية وكنيتها أم البنين قالت سارت علينا عزة في جماعة من قومها بين يدي يربوع وجهينة فسمعنا بها فاجتمعت جماعة من نساء الحاضر أنا فيهن فجئناها فرأينا امرأة حلوة حميراء نظيفة فتضاءلنا لها ومعها نسوة كلهن لها عليهن فضل من الجمال والخلق إلى أن تحدثت ساعة فإذا هي أبرع الناس وأحلاهم حديثا فما فارقناها إلا ولها علينا الفضل في أعيننا وما نرى في الدنيا امرأة تروقها جمالا وحسنا وحلاوة
أخبرني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق الموصلي عن أبي نصر شيخ له عن الهيثم بن عدي أن عبد الملك سأل كثيرا عن أعجب خبر له مع عزة فقال حججت سنة من السنين وحج زوج عزة بها ولم يعلم أحد منا

بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن تصلح به طعاما لأهل رفقته فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم أنها خيمتي وكنت أبري أسهما لي فلما رأيتها جعلت أبري وأنا أنظر إليها ولا أعلم حتى بريت عظامي مرات ولا أشعر به والدم يجري فلما تبينت ذلك دخلت إلي فأمسكت يدي وجعلت تمسح الدم عنها بثوبها وكان عندي نحي من سمن فحلفت لتأخذنه فأخذته وجاءت إلى زوجها بالسمن فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف لتصدقنه فصدقته فضربها وحلف لتشتمني في وجهي فوقفت علي وهو معها فقالت لي يابن الزانية وهي تبكي ثم انصرفا فذلك حين أقول
( يُكَلِّفها الخِنزيرُ شَتْمِي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلَّتِ )
نسبة ما في هذه القصيدة من الغناء

صوت
( خَلِيليَّ هذا رَسْمُ عَزّة فاعْقِلاَ ... قَلُوصَيْكما ثم أبْكيَا حيث حَلّتِ )
( وما كنتُ أدرِي قبل عَزّةَ ما البكا ... ولا مُوجِعاتِ القلب حتّى تَوَلّتِ )
( فليتَ قَلُوصِي عند عزّة قُيِّدتْ ... بحبلٍ ضعيفٍ بانَ منها فضَلَّتِ )
( وأصبح في القوم المقيمين رحلُها ... وكان لها باغٍ سِوَايَ فَبلّتِ )
( فقلتُ لها يا عزّ كلُّ مُصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوماً لها النفسُ ذلّت )
( أسِيئي بنا أو أَحْسِنِي لا ملومةٌ ... لدينا ولا مَقْلِيّةٌ إنْ تَقَلّتِ )
( هَنِيئاً مِريئاً غيرَ داءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ من أعراضنا ما اسْتَحَلّتِ )
( تَمَنَّيْتُها حتّى إذا ما رأيتُها ... رأيتُ المنايا شُرَّعاً قد أظلّتِ )
( كأنِّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ ... من الصُّمِّ لو تمشِي بها العُصْمُ زَلّتِ )

( صَفُوحاً فما تلقاكَ إلاّ بخيلةً ... فمَنْ مَلّ منها ذلك الوصل مَلَتِ )
( أصاب الرَّدَى مَنْ كان يهوى لكِ الرَّدَى ... وجُنّ اللواتي قلن عَزّةُ جُنّتِ )
عروضه من الطويل غنى معبد في الخمسة الأول ثقيلا أول بالوسطى وغنى إبراهيم في الثالث والرابع ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو وغنى في هنيئا مريئا والذي بعده خفيف رمل بالوسطى وغنى إبراهيم في الخامس وما بعده ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن لابن سريج في هنيئا مريئا وما بعده ثاني ثقيل بالبنصر وذكر أحمد بن المكي أن لإبراهيم في كأني أنادي والذي بعده وفي أسيئي بنا أو أحسني هزجا بالسبابة في مجرى البنصر ولإسحاق فيه هزج آخر به ولعريب في كأني أنادي أيضا رمل ولإسحاق في وما كنت أدري ثقيل أول وله في أصاب الردى ثقيل أول آخر وقيل إن لإبراهيم في فقلت لها يا عز خفيف ثقيل ينسب إلى دحمان وإلى سياط

أخبرني الحرمي وحبيب بن نصر قالا حدثنا الزبير قال حدثنا يعقوب بن حكيم عن إبراهيم بن أبي عمرو الجهني عن أبيه قال سارت علينا عزة في جماعة من قومها فنزلت حيالنا فجاءني كثير ذات يوم فقال لي أريد أن أكون عندك اليوم فأذهب إلى عزة فصرت به إلى منزلي فأقام عندي حتى كان العشاء ثم أرسلني إليها وأعطاني خاتمه وقال إذا سلمت فستخرج إليك جارية فادفع إليها خاتمي وأعلمها مكاني فجئت بيتها فسلمت فخرجت إلي الجارية فأعطيتها الخاتم فقالت أين الموعد قلت صخرات أبي عبيد الليلة فواعدتها هناك فرجعت إليه فأعلمته فلما أمسى قال لي انهض بنا فنهضنا فجلسنا هناك نتحدث حتى جاءت من الليل فجلست فتحدثا فأطالا فذهبت لأقوم فقال لي إلى أين تذهب فقلت أخليكما ساعة لعلكما تتحدثان ببعض ما تكتمان فقال لي اجلس فوالله ما كان بيننا شيء قط فجلست وهما يتحدثان وإن بينهما لثمامة عظيمة هي من ورائها جالسة حتى أسحرنا ثم قامت فانصرفت وقمت أنا وهو فظل عندي حتى أمسى ثم انطلق
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي قال خرج كثير في الحاج بجمل له يبيعه فمر بسكينة بنت الحسين ومعها

عزة وهو لا يعرفها فقالت سكينة هذا كثير فسوموه بالجمل فساموه فاستام مائتي درهم فقالت ضع عنا فأبى فدعت له بتمر وزبد فأكل ثم قالت له ضع عنا كذا وكذا لشيء يسير فأبى فقالوا قد أكلت يا كثير بأكثر مما نسألك فقالت ما أنا بواضع شيئا فقالت سكينة اكشفوا فكشفوا عنها وعن عزة فلما رآهما استحيا وانصرف وهو يقول هو لكم هو لكم

هل كان كثير صادقا في عشقه
من ذكر أن كثيرا كان يكذب في عشقه
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا ابن سلام قال كان كثير مدعيا ولم يكن عاشقا وكان جميل صادق الصبابة والعشق
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال زعم إسحاق بن إبراهيم أنه سمع أبا عبيدة يقول كان جميل يصدق في حبه وكان كثير يكذب
ومما وجدناه في أخباره ولم نسمعه من أحد أنه نظر إلى عزة ذات يوم وهي منتقبة تميس في مشيتها فلم يعرفها كثير فاتبعها وقال يا سيدتي قفي حتى أكلمك فإني لم أر مثلك قط فمن أنت ويحك قالت ويحك وهل تركت عزة فيك بقية لأحد قال بأبي أنت والله لو أن عزة أمة لي

لوهبتها لك قالت فهل لك في المخاللة قال وكيف لي بذلك قالت أنى وكيف بما قلت في عزة قال أقلبه فأحوله إليك فسفرت عن وجهها ثم قالت أغدرا يا فاسق وإنك لهكذا فأبلس ولم ينطق وبهت فلما مضت أنشأ يقول
( ألاَ ليتني قبل الذي قلتُ شِيبَ لي ... من السمّ جَدْحاتٌ بماء الذَّرَارِحِ )
( فمتُّ ولم تعلم عليَّ خيانة ... وكم طالبٍ للربح ليس برابح )
( أبوءُ بذنبي إنني قد ظلمتُها ... وإني بباقي سِرِّها غيرُ بائح )

عتاب المحبين
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال زعم ابن الكلبي عن أبي المقوم قال أخبرني سائب راوية كثير قال خرجت معه نريد مصر فمررنا بالماء الذي فيه عزة فإذا هي في خباء فسلمنا جميعا فقالت عزة وعليك السلام يا سائب ثم أقبلت على كثير فقالت ويحك ألا تتقي الله أرأيت قولك
( بآيةِ ما أتيتُكِ أُمَّ عمروٍ ... فقمتِ لحاجتي والبيتُ خالي )
أخلوت معك في بيت أو غير بيت قط قال لم أقله ولكنني قلت
( فأُقسم لو أتيتُ البحرَ يوماً ... لأشربَ ما سقتْني من بِلاَلِ )
( وأُقسم إنّ حُبَّكِ أُمَّ عمرٍو ... لَداءٌ عند منقطَع السُّعَال )

قالت أما هذا فنعم فأتينا عبد العزيز ثم عدنا فقال كثير عليك السلام يا عزة قالت عليك السلام يا جمل فقال كثير

صوت
( حَيّتْكَ عَزّةُ بعد الهجر فانصرفتْ ... فحَيِّ ويحكَ مَنْ حيّاك يا جملُ )
( لو كنتَ حيّيتَها ما زلتَ ذا مِقةٍ ... عندي وما مَسّك الإِدلاج والعملُ )
( ليتَ التحيّةَ كانت لي فأشْكُرَها ... مكانَ يا جملٌ حُيِّيتَ يا رجلُ )
ذكر يونس أن في هذه الأبيات غناء لمعبد وذكر الهشامي أن فيها لبثينة خفيف رمل بالبنصر وذكر حبش أن فيها للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى ولإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن محمد البرمكي قال حدثني إبراهيم بن المهدي قال قدم علي هشام بن محمد الكلبي فسألته عن العشاق يوما فحدثني قال تعشق كثير امرأة من خزاعة يقال لها أم الحويرث فنسب بها وكرهت أن يسمع بها ويفضحها كما سمع بعزة فقالت له إنك رجل فقير لا مال لك فابتغ مالا يعفي عليك ثم تعال فاخطبني كما يخطب الكرام قال

فاحلفي لي ووثقي أنك لا تتزوجين حتى أقدم عليك فحلفت ووثقت له فمدح عبد الرحمن بن إبريق الأزدي فخرج إليه فلقيته ظباء سوانح ولقي غرابا يفحص التراب بوجهه فتطير من ذلك حتى قدم على حي من لهب فقال أيكم يزجر فقالوا كلنا فمن تريد قال أعلمكم بذاك قالوا ذاك الشيخ المنحني الصلب فأتاه فقص عليه القصة فكره ذلك له وقال له قد توفيت أو تزوجت رجلا من بني عمها فأنشأ يقول
صوت
( تَيَممّتُ لِهْباً أبتغي العلمَ عندهم ... وقد رُدَّ علمُ العائفين إلى لهبِ )
( تيمّمتُ شيخاً منهمُ ذا بَجالةٍ ... بصيراً بزجر الطيرِ منحنَي الصُّلْبِ )
( فقلت له ماذا ترى في سَوَانحٍ ... وصوتِ غُرابٍ يفحَص الوجهَ بالتُّرْبِ )
( فقال جرى الطيرُ السَّنيح بِبَيْنِها ... وقال غرابٌ جَدَّ مُنْهَمِرُ السَّكْبِ )
( فإلاّ تكن ماتتْ فقد حال دونهَا ... سواكَ خليلٌ باطنٌ من بني كَعْبِ )
غناه مالك من رواية يونس ولم يجنسه قال فمدح الرجل الأزدي ثم أتاه فأصاب منه خيرا كثيرا ثم قدم عليها فوجدها قد تزوجت رجلا

من بني كعب فأخذه الهلاس فكشح جنباه بالنار فلما اندمل من علته وضع يده على ظهره فإذا هو برقمتين فقال ما هذا قالوا إنه أخذك الهلاس وزعم الأطباء أنه لا علاج لك إلا الكشح بالنار فكشحت بالنار فأنشأ يقول

صوت
( عفا الله عن أمِّ الحُوَيْرِثِ ذنبَها ... علامَ تُعَنِّيني وتَكْمِي دَوَائيا )
( فلو آذنوني قبل أن يرقُموا بها ... لقلتُ لهم أُمّ الحُوَيْرث دائيا )
في هذين البيتين لمالك ثقيل أول بالوسطى ولابن سريج رمل بالبنصر كلاهما عن عمرو والهشامي وقيل إن فيهما لمعبد لحنا وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزاه بالرواية فذكر نحو هذا وقال فيه إنه قصد ابن الأزرق بن حفص بن المغيرة المخزومي الذي كان باليمن وإنه فعل ذلك بعد موت عزة وسائر الخبر متقارب
وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري عن محمد بن سليمان بن فليح أو فليح بن سليمان أنا شككت عن أبيه عن جده قال جاء كثير إلى عبد الله بن جعفر وقد نحل وتغير فقال له عبد الله

مالي أراك متغيرا يا أبا صخر قال هذا ما عملت بي أم الحويرث ثم ألقى قميصه فإذا به قد صار مثل القش وإذا به آثار من كي ثم أنشده
( عفا الله عن أُمّ الحويرات ذنبَها ... )
الأبيات

عزة تمتحن كثيرا
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي قال حدثني الحزامي عمن حدثه من أهل قديد أن عزة قالت لبثينة تصدي لكثير وأطمعيه في نفسك حتى أسمع ما يجيبك به فأقبلت إليه وعزة تمشي وراءها مختفية فعرضت عليه الوصل فقاربها ثم قال
( رَمتْني على عَمْدٍ بُثَيْنَةُ بعد ما ... تولَّى شَبَابي وارْجَجنّ شبابُها )
وذكر أبياتا أخرى سقط من الكتاب ذكرها فكشفت عزة عن وجهها فبادرها الكلام ثم قال
( ولكنَّما تَرْمِينَ نفساً مريضةً ... لِعَزّةَ منها صَفْوُها ولُبَابُها )
فضحكت ثم قالت أولى لك بها قد نجوت وانصرفتا تتضاحكان

أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال بكى بعض أهل كثير عليه حين نزل به الموت فقال له كثير لا تبك فكأنك بي بعد أربعين ليلة تسمع خشفة نعلي من تلك الشعبة راجعا إليكم
أخبرني الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة وأبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال مات كثير وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد فاجتمعت قريش في جنازة كثير ولم يوجد لعكرمة من يحمله
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن مصعب قال حدثني الواقدي قال حدثني خالد بن القاسم البياضي قال مات عكرمة مولى ابن عباس وكثير بن عبد الرحمن الخزاعي صاحب عزة في يوم واحد في سنة خمس ومائة فرأيتهما جميعا صلي عليهما في يوم واحد بعد الظهر في موضع الجنائز فقال الناس مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس
وقال ابن أبي سعد الوراق حدثني رجاء بن سهل أبو نصر الصاغاني قال حدثنا يحيى بن غيلان قال حدثني المفضل بن فضالة عن يزيد بن عروة قال مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فأخرجت جنازتاهما فما علمت تخلفت امرأة بالمدينة ولا رجل عن جنازتيهما قال وقيل مات أشعر الناس وأعلم الناس قال وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن عزة

في ندبتهن له قال فقال أبو جعفر محمد بن علي افرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها قال فجعلنا ندفع عنها النساء وجعل يضربهن محمد بن علي بكمه ويقول تنحين يا صواحبات يوسف فانتدبت له امرأة منهن فقالت يابن رسول الله لقد صدقت إنا لصواحبات يوسف وقد كنا له خيرا منكم له قال فقال أبو جعفر لبعض مواليه احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا قال فلما انصرف أتي بتلك المرأة كأنها شرارة النار فقال لها محمد بن علي أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا قالت نعم تؤمنني غضبك يابن رسول الله قال أنت آمنة من غضبي فأبيني قالت نحن يا بن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف فقال محمد لله درك ولن تغالب امرأة إلا غلبت ثم قال لها ألك بعل قالت لي من الرجال من أنا بعله قال فقال أبو جعفر صدقت مثلك من تملك بعلها ولا يملكها قال فلما انصرفت قال رجل من القوم هذه زينب بنت معيقب
نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء

صوت
( نظرتُ إليها نَظْرةً وهي عاتقٌ ... على حينِ أنْ شَبَّتْ وبانَ نُهودُها )
( نظرتُ إليها نظرة ما يسُرُّني ... بها حُمْرُ أنعامِ البلادِ وسُودُها )
( وكنتُ إذا ما جئتُ سُعْدَى بأرضِها ... أرى الأرضَ تُطْوَى لي ويدنو بعيدُها )
( من الخَفِراتِ البِيض وَدّ جَليسُها ... إذا ما انقضتْ أُحدوثةٌ لو تُعيدها )

عروضه من الطويل البيت الأول لكثير والثاني والثالث لنصيب من قصيدته التي أولها
( لقد هجرت سعْدَى وطال صدودُها ... )
غنى في البيت الثاني والثالث جحدر الراعي خفيف رمل بالبنصر وغنى فيهما الهذلي رملا بالوسطى وغنى في الثالث والرابع دعامة ثقيلا أول بالبنصر
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال قال عمر الوادي وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني مكين العذري قال سمعت عمر الوادي يقول بينا أنا أسير بين الروحاء والعرج إذ سمعت إنسانا يغني غناء لم أسمع قط مثله في بيتي كثير
( وكنت إذا ما جئتُ سُعْدَى بأرضها ... أرى الأرض تُطْوَى لي ويدنو بعيدُها )
( من الخَفِرات البِيضِ وَدّ جليسُها ... إذا ما انقضتْ أحدوثةٌ لو تُعيدها )

قال فكدت أسقط عن راحلتي طربا وقلت والله لألتمسن الوصول إلى هذا الصوت ولو بذهاب عضو من أعضائي فتيممت سمته فإذا راع في غنم فسألته إعادته علي قال نعم ولو حضرني قرى أقريكه ما أعدته ولكني أجعله قراك فربما ترنمت به وأنا غرثان فأشبع وعطشان فأروى ومستوحش فآنس وكسلان فأنشط قال فأعادهما علي حتى أخذتهما فما كان زادي حتى ولجت المدينة غيرهما

أخبار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
هو عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين ويكنى أبا أحمد وله محل من الأدب والتصرف في فنونه ورواية الشعر وقوله والعلم باللغة وأيام الناس وعلوم الأوائل من الفلاسفة في الموسيقى والهندسة وغير ذلك مما يجل عن الوصف ويكثر ذكره وله صنعة في الغناء حسنة متقنة عجيبة تدل على ما ذكرناه هاهنا من توصله إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به على فضله فيها وطلبه لها وكان المعتضد بالله رحمة الله عليه ربما كان أراد أن يصنع في بعض الأشعار غناء وبحضرته أكابر المغنين مثل القاسم بن زرزور وأحمد بن المكي ومن دونهما مثل أحمد بن أبي العلاء وطبقتهم فيعدل عنهم إليه فيصنع فيها أحسن صنعة ويترفع عن إظهار نفسه بذلك ويومئ إلى أنه من صنعة جاريته شاجي وكانت إحدى المحسنات المبرزات المقدمات وذلك بتخريجه وتأديبه وكان بها معجبا ولها مقدما
المعتضد يتفقده بالصلات
فأخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال لما اختلت حال عبيد الله بن

عبد الله بن طاهر كان المعتضد يتفقده بالصلات الفينة بعد الفينة واتفق يوما كان فيه مصطبحا أن غني بصوت الصنعة فيه لشاجي جارية عبيد الله فكتب إليه كتابا يقسم أن يأمرها بزيارته ففعل قال فحدثني من حضر من المغنيات ذلك المجلس بعد موت المعتضد قالت دخلت إلينا وما منا إلا من يرفل في الحلي والحلل وهي في أثواب ليست كثيابنا فاحتقرناها فلما غنت احتقرنا أنفسنا ولم تزل تلك حالنا حتى صارت في أعيننا كالجبل وصرنا كلا شيء قال ولما انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة ودخلت إلى مولاها فجعل يسألها عن أمرها وما رأت مما استظرفت وسمعت مما استغربت فقالت ما استحسنت هناك شيئا ولا استغربته من غناء ولا غيره إلا عودا من عود محفور فإني استظرفته قال جحظة فما قولك فيمن يدخل دار الخلافة فلا يمد عينه لشيء يستحسنه فيها إلا عودا
قال محمد بن الحسن الكاتب وحدثني النوشجاني قال كان المعتضد إذا استحسن شعرا بعث به إلى شاجي جارية عبيد الله بن طاهر فتغني فيه قال وكانت صنعتها تسمى في عصره غناء الدار
قال محمد بن الحسن وماتت شاجي في حياة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان عليلا فقال يرثيها وله فيه صنعة من خفيف الثقيل الأول بالوسطى
( يَميناً يقيناً لو بُلِيتُ بفقدها ... وبي نَبْضُ عِرْقٍ للحياة أو النُّكْسِ )
( لأَوْشكتُ قتلَ النفسِ قبل فِراقها ... ولكنها ماتت وقد ذهبتْ نفسي )

ومن نادر صنعة عبيد الله وجيد شعره قوله وله فيه لحنان ثقيل أول وهزج والثقيل الأول أجودهما
( أَنفِقْ إذا أيسرتَ غيرَ مقتِّر ... وأَنفِقْ على ما خَليت حين تُعْسِرُ )
( فلا الجُودُ يُفني المالَ والمالُ مقبلٌ ... ولا البخلُ يُبقي المالَ والجَدّ مُدْبِرُ )
وأشعاره كثيرة جيدة كثيرة النادر والمختار وكتابه في النغم وعلل الأغاني المسمى كتاب الآداب الرفيعة كتاب مشهور جليل الفائدة دال على فضل مؤلفه
أخبرني جحظة قال حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني موسى بن هارون فيما أرى قال كنت عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد جاءه الزبير بن بكار فأعلمه أن المتوكل أو المعتز وأراه المعتز بعث إلى أخيه محمد بن عبد الله بن طاهر يأمر بإحضاره وتقليده القضاء فقال له الزبير بن بكار قد بلغت هذه السن وأتولى القضاء أو بعد ما رويت أن من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين فقال له فتلحق بأمير المؤمنين بسر من رأى فقال له أفعل فأمر له بمال ينفقه وبظهر يحمله ويحمل ثقله ثم قال له إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شيئا قبل أن نفترق قال نعم انصرفت من عمرة المحرم

فبينا أنا بأثاية العرج إذا أنا بجماعة مجتمعة فأقبلت إليهم وإذا رجل كان يقنص الظباء وقد وقع ظبي في حبالته فذبحه فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فنشب القرن فيه فمات وأقبلت فتاة كأنها المهاة فلما رأت زوجها ميتا شهقت ثم قالت
( يا حُسْنُ لو بَطَلٌ لكنّه أجل ... على الأُثاية ما أَوْدَى به البطلُ )
( يا حُسن جمَّع أحشائي وأَقلقها ... وذاك يا حسن لولا غيرُه جَلَلُ )
( أضحتْ فتاةُ بني نَهْدٍ عَلاَنِيَةً ... وبعلُها بين أيدي القوم محتمَلُ )
قال ثم شهقت فماتت فما رأيت أعجب من الثلاثة الظبي مذبوح والرجل جريح ميت والفتاة ميتة حرى فأمر له عبيد الله بمال آخر ثم أقبل إلى أخيه محمد بن عبد الله بعد خروج الزبير فقال أما إن الذي أخذناه من الفائدة في خبر حسن وفي قولها
( أضحت فتاةُ بني نَهْد علانيةً ... )
تريد ظاهرة أكثر عندي مما أعطيناه من الحباء والصلة وقد أخبرني الحسين بن علي عن الدمشقي عن الزبير بخبر حسن فقط ولم يذكر فيه من خبر عبيد الله شيئا
ومن الأصوات التي تجمع النغم العشر

صوت
وهو يجمع النغم العشر كلها على غير توال
( وإنّكِ إذ أطمعِتني منكِ بالرِّضا ... وأيأستِني من بعد ذلك بالغضبْ )

( كَمُمْكِنَةٍ من ضَرْعِها كفَّ حالبٍ ... ودافقةٍ من بعد ذلك ما حَلَبْ )
عروضه من الطويل الشعر لإبراهيم بن علي بن هرمة والغناء في هذا اللحن الجامع للنغم لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر - خفيف ثقيل - أول بالوسطى في مجراها وعليها ابتدأ الصوت
وقال عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات حدثني بعض أصحابنا عن أبي نواس أنه قال شاعران قالا بيتين وضعا التشبيه فيهما في غير موضعه فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع بيت الآخر وأخذ بيت ذاك فجعل مع هذا لصار متفقا معنى وتشبيها فقلت له أنى ذلك فقال قول جرير للفرزدق
( فإنكَ إذ تهجو تَميماً وترتشي ... تَبَابِينَ قيس أو سُحوق العمائم )
( كمُهْرِيقِ ماءٍ بالفَلاةِ وغَرَّه ... سرابٌ أذاعتْه رياح السَّمائِم )
وقول ابن هرمة
( وإنَي وتَرْكِي نَدَى الأكرمينَ ... وقَدْحِي بكَفَّيَّ زَنْدا شَحَاحا )
( كتاركةٍ بيضَها بالعَراء ... ومُلْبِسةٍ بيضَ أخرى جَناحا )

فلو قال جرير
( فإنك إذ تَهْجو تَميماً وتَرْتشِي ... تَبَابِينَ قَيْسٍ أو سُحُوق العمائمِ )
( كتاركةٍ بيضَها بالعَراء ... ومُلْبِسةٍ بَيْضَ أُخرى جَناحا )
لكان أشبه منه ببيته ولو قال ابن هرمة مع بيته
( وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكَفَّيَّ زَنْدا شَحاحا )
( كمُهْريق ماءٍ بالفلاة وغَرَّه ... سرابٌ أذاعته رياح السمائم )
كان أشبه به ثم قال ولكن ابن هرمة قد تلافى ذلك بعد فقال
( وإنكِ إذا أطمعتنِي منكِ بالرضا ... وأيأستِني من بعد ذلك بالغضبْ )
( كممكنةٍ من ضرعها كفَّ حالب ... ودافقةٍ من بعد ذلك ما حلبْ )
وقد أتى عبيد الله بهذا الكلام بعينه في الآداب الرفيعة وإنما أخذه من أبي نواس على ما روي عنه
ووجدت في كتاب مؤلف في النغم غير مسمى الصانع أن من الأصوات التي تجمع النغم صوت ابن أبي مطر المكي في شعر نصيب وهو
صوت
( ألاَ أيُّها الرَّبْعُ المُقِيمُ بعُنْبُبِ ... سَقَتْكَ السَّوَاقِي من مُرَاحٍ ومَعْزَبِ )

( بذي هَيْدَبٍ أمّا الرُّبَى تحت وَدْقِه ... فَتَرْوَى وأمّا كلُّ وادٍ فَيزْعَبُ )
عروضه من الطويل ويروى الربع الخلاء بعنبب أي الخالي وعنبب موضع ويروى سقتك الغوادي من مراد والمراد الموضع الذي يرتاد فيرعى فيه الكلأ والمراح الموضع الذي تروح إليه المواشي وتبيت فيه وفي الحديث أنه رخص في الصلاة في مراح الغنم ونهى عنها في أعطان الإبل والمعزب الموضع الذي يعزب فيه الرجل عن البيوت والمنازل وأصل العزوب البعد يقال عزب عنه رأيه وحلمه أي بعد والعزب مأخوذ من ذلك وهيدب السماء أطراف تراه في أذنابه كأنه معلق به قال أوس بن حجر
( دانٍ مُسِفٌّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُه ... يكاد يدفَعه مَنْ قام بالراحِ )
ويزعب يطفح يقال زعبه السيل إذا ملأه الشعر لنصيب يقوله في عبد العزيز بن مروان
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني جميع بن علي النميري عن عبد الله بن عبد العزيز بن محجن بن النصيب قال الزبير وكتب إلي بذلك عبد الله بن عبد العزيز يذكره عن عوضة بنت النصيب قالت وفد أبي على عبد العزيز بن مروان بمصر فوقف على الباب فاستأذن فلم يؤذن له فأرسل إليه حاجبه فقال استنشده فإن كان شعره رديئا فاردده وإن كان جيدا فأدخله فقال نصيب قد جلبنا شيئا للأمير فإن قبله نشرناه

عليه وإلا طويناه ورجعنا به فقال عبد العزيز إن هذا لكلام رجل ذهن فأدخله فلما واجهه أنشده قصيدته التي يقول فيها
( أَلاَ هل أتى الصقرَ بنَ مَرْوان أنَّني ... أُرَدُّ لدى الأبوابِ عنه وأُحْجَبُ )
( وأنِّي ثَوَيتُ اليومَ والأمسِ قبلَه ... على الباب حتى كادت الشمسُ تغرُب )
( وأنِّي إذا رمتُ الدخولَ تَرُدُّني ... مهابةُ قَيْسٍ والرِّتَاجُ المُضَبَّبُ )
قال وكان حاجب عبد العزيز يسمى قيسا قال وتشبيب هذه القصيدة
( ألاَ أيها الرَّبْعُ المقيمُ بعُنْبُب ... سقتْك السّواقي من مُرَاحٍ ومَعْزَبِ )
قال فلما دخل على عبد العزيز أعجب بشعره وأوجهه وقال للفرزدق كيف تسمع هذا الشعر قال حسن إلا من لغته قال هذا والله أشعر منك قال وقال نصيب فيها أيضا
( وأهلي بأرضٍ نازحون وما لهَمْ ... بها كاسبٌ غيري ولا مُتَقَلِّبُ )
( فهل تُلْحِقَنِّيهِمْ بعَبْلٍ مُوَاشِكٍ ... على الأين من نُجْب ابن مَرْوانَ أصْهَبِ )
( أبو بَكَراتٍ إن أردتُ افتحالَه ... وذو ثَبتَاتٍ بالرِدَّيفَيْن مُتْعَبُ )
فقال له عبد العزيز ادخل على المهاري فخذ منها ما شئت فلو كنت سألت غيره لأعطيته فدخل فرده الجمال فقال عبد العزيز دعه فإنما يأخذ الذي نعت فأخذه
قال الزبير وحدثني بعض أصحابنا عن محمد بن عبد العزيز قال

نزل عبد العزيز بن عبد الوهاب على المهدي بعنبب من وادي السراة الذي عنى نصيب بقوله
( ألاَ أيها الرَّبْعُ الخَلاءُ بعُنْبُبِ ... )
والمهدي هو الذي يقول فيه الشاعر
( اِسلمي يا دارُ من هِنْدِ ... بالسُّوَيْقاتِ إلى المَهْدِي )

صوت
وهو يجمع من النغم ثمانيا
( يا مَنْ لِقَلْبٍ مُقْصِرٍ ... ترك المُنَى لِفَواتها )
( وتظلَّف النفس التي ... قد كان من حاجاتها )
( وطِلاَبُكَ الحاجاتِ مِنْ ... سَلْمَى ومِنْ جاراتها )
( كَتَطَرُّد العَنْسِ الذَّمُولِ ... الفَضْلَ من مَثْنَاتِها )
قوله يا من لقلب مقصر تأسف على شبابه ويدل على ذلك قوله
( وتظلّف النفس التي ... قد كان من حاجاتها )
يقال أظلف نفسك عن كذا أي امنعها منه لئلا يكون لها أثر فيه وهو مأخوذ من ظلف الأرض وهو المكان الذي لا أثر فيه قال عوف بن الأحوص
( ألم أَظْلِفْ عن الشعراء عِرْضِي ... كما ظُلِفَ الوَسِيقةُ بالكُرَاعِ )

الوسيقة الجماعة من الإبل يعني أنها تساق فلا يوجد لها أثر في الكراع وهو منقطع الجبل قال الشاعر
( أمستْ كُرَاعُ الغَمِيمِ مُوحِشةً ... بعد الذي قد خلا من العَجَبِ )
وقوله
( كَتَطرُّدِ العَنْسِ الذَّمُولِ ... الفضلَ من مَثْنَاتها )
يقول طلابك هذه الحاجات ضلال وتتابع كتطرد العنس وهي الناقة المذكرة الخلق الفضل من مثناتها والتطرد التتبع ومثله قول الشاعر
( خَبَطتُ الصِّبَا خَبْطَ البعيرِ خِطَامَهُ ... فلم أَنْتَبِهْ للشَّيْبِ حتى عَلاَنِيَا )
الشعر لمسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس والغناء لابن محرز ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وهذا الصوت يجمع من النغم ثمانيا وكذلك ذكر إسحاق ووصف أنه لم يجمع شيء من الغناء قديمه وحديثه إلى عصره من النغم ما جمعه هذا الصوت ووصف أنه لو تلطف متلطف لأن يجمع النغم الشعر في صوت واحد لأمكنه ذلك بعد أن يكون فهما بالصناعة طويل المعاناة لها وبعد أن يتعب نفسه في ذلك حتى يصح له فلم يقدر على ذلك سوى عبيد الله بن عبد الله إلى وقتنا هذا

ذكر مسافر ونسبه
مسافر بن أبي عمرو بن أمية ويكنى أبا أمية وقد تقدم نسبه وأنساب أهله وأمه آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهي أم أبي معيط أبان بن عمرو بن أمية وأبو معيط ومسافر أخوان لأب وأم وهما أخوا عمومتهما أبي العاصي وأخويه من بني أمية الذين أمهم آمنة لأن أبا عمرو تزوجها بعد أبيه وكان سيدا جوادا وهو أحد أزواد الركب وإنما سموا بذلك لأنهم كانوا لا يدعون غريبا ولا مار طريق ولا محتاجا يجتاز بهم إلا أنزلوه وتكفلوا به حتى يظعن
وهو أحد شعراء قريش وكان يناقض عمارة بن الوليد الذي أمر النجاشي السواحر فسحرته فمن ذلك قول عمارة
( خُلِق البِيضُ الحِسَانُ لنا ... وجِيَادُ الرَّيْطِ والأُزُرُ )
( كابِراً كنّا أحقَّ به ... حين صِيغَ الشمسُ والقمرُ )
وقال مسافر يرد عليه
( أعُمَارَ بنَ الوليد وقد ... يذكر الشَّاعِرُ مَنْ ذَكَرهْ )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45