كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

التي في الشمس فتقززت وبشعت من ذلك الطعام الذي طبخ فأشار إليّ أبي بأن كل
فأكلنا حتى فرغنا من غدائنا فلما غسلنا أيدينا نادى ابن جامع يا غلام هات شرابنا فأتي بنبيذٍ في زكرة قد كانت الزكرة في الشمس فكرهت ذلك فأشار إليّ أبي أن لا تمتنع ثم أتوا بقدح جيشاني ملءِ الكف فصب النبيذ فيه وهو يشبه ماء قد أغلي بالنار ثم غنى ابن جامع فقال - طويل -
( كأنْ لم يكنْ بينَ الحَجُون إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكّةَ سامرُ )
( بَلَى نحنُ كنّا أهلَها فأزالنا ... صرُوُفُ اللَّيالي والجُدُودُ العواثرُ )

صوت
ثم غنى للعرجي - بسيط -
( لو أنَّ سلمَى رأتْنا لا يَرَاعَ لنا ... لَمَا هَبَطْنا جميعاً أبْطُنَ السوقِ )
( وكَشَرنا وكُبُوْلُ القَيْنِ تنكؤنا ... كالأُسْدِ تَكشِرُ عن أنيابِها الرُّوق )
صوت
ثم تغنى - وافر -
( أُجَرَّرُ في الجوامِع كُلَّ يومٍ ... فيا للهِ مَظْلمَتي وصَبْري )
ثم أمر بالرحيل
وقد غنى هذه الثلاثة الأصوات
فقال لي أبي يا بني بشعت لما

رأيتَ من طعام ابن جامع وشرابه فعلي عتق ما أملك إن لم يكن شرب الدم مع هذا طيبا
ثم قال أسمِعت بني غناء قط أحسن من هذا فقلت لا والله ما سمعت
قال ثم خرج ابن جامع حتى نزل بباب أمير المؤمنين الرشيد ليلاً واجتمع المغنون على الباب وخرج الرسول إليهم فأذن لهم والرشيد خلف الستارة فغنوا إلى السحر فأعطاهم ألف دينار إلاّ ابن جامع فلم يعطه شيئاً وانصرفوا متوجهين له وعرضوا عليه جميعاً فلم يقبل وانصرفوا فلما كان في الليلة الثانية دعوا فغنوا ساعة ثم كشفت الستارة وغنى ابن جامع صوتاً عرض فيه بحاله وهو - طويل -

صوت
( تقولُ أقِمْ فينا فقيراً وما الذي ... تَرَى فيه ليلَى أن أُقيمَ فقيرا )
( ذَرِيني أَمُتْ يا ليل أو أكسِبَ الغنى ... فإنِّي أرى غَيرَ الغنيِّ حقيرا )
( يُدَفَّع في النادي ويُرفَض قوله ... وإن كان بالرأي السَّديدِ جديرا )
( ويُلزَمُ ما يَجنِي سواه وإن يُطِفْ ... بذنبٍ يكن منه الصغيرُ كبيرا )
قالوا فأعجب الرشيد ذلك الشعر واللحن فيه وأمال رأسه نحوه كالمستدعي له
وغناه أيضاً - طويل -
صوت
( لئن مِصرُ فاتَتْني بما كنْتُ أرتجِي ... وأخلَفَني منها الذي كنتُ آمُلُ )
( فما كلُّ ما يخشَى الفتى نازلٌ بهِ ... ولا كلُّ ما يرجو الفتى هو نائلُ )
( وَوَاللهِ ما فرّطت في وجهِ حِيلةٍ ... ولكنَّ ما قد قَدَّر الله نازل )
( وقد يَسْلَم الإِنسانُ من حيث يتَّقي ... ويُؤتَى الفتى مِن أمنِهِ وهو غافلُ )

ثم أمر بالانصراف فانصرفوا فلمّا بلغوا الستر صاح به الخادم يا قرشيّ مكانك
فوقف مكانه فخرج إليه بخلع وسبعة آلاف دينار وأمر إن شاء أن يقيم وإن شاء أن ينصرف
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال ذكر الكلبي عن أبيه أنّ الناس بينا هم في ليلة مقمرة في المسجد الحرام إذ بصروا بشخص قد أقبل كأن قامته رمح فهربوا من بين يديه وهابوه فأقبل حتى طاف بالبيت الحرام سبعاً ثم وقف فتمثل - طويل -
( كأنْ لم يكُنْ بينَ الحَجُون إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكّةَ سامرُ )
قال فأتاه رجل من أهل مكة فوقف بعيداً منه ثم قال سألتك بالذي خلقك أجني أنت أم إنسي فقال بل إنسي أنا امرأة من جرهم كنا سكان هذه الأرض وأهلها فأزالنا عنها هذا الزمان الذي يبلي كل جديد ويغيره ثم انصرفت خارجة عن المسجد حتى غابت عنهم ورجعوا إلى مواضعهم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي عن جدي قال قال لي يحيى بن خالد يوماً أخبرك برؤيا رأيتها قلت خيراً رأيتَ
قال رأيتُ كأنّي خرجت من داري راكباً ثم التفت يميناً وشمالاً فلم أرَ معي أحداً حتى صرت إلى الجسر فإذا بصائح يصيح من ذلك الجانب - طويل -
( كأنْ لم يكْن بينَ الحَجُون إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكّةَ سامرُ )
فأجبته بقوله
( بَلَى نحنُ كنَّا أهلَها فأبادنَا ... صرُوُفُ اللَّيالي والجُدُودُ العواثرُ )
فانصرفت إلى الرشيد فغنيته الصوت وخبرته الخبر فعجب منه وما مضت الأيام

حتى أوقع بهم

صوت خفيف
( شاقَني الزائراتُ قَصْرَ نَفِيْسٍ ... مُثْقَلاتِ الأعجازِ قُبَّ البُطونِ )
( يتربَّعْنَهُ الربيعَ ويَنزِلْ ... إذا صِفْنَ منزلَ الماجِشونِ )
يتربعنه ينزلنه في أيام الربيع
يقال لمنزل القوم في أيام الربيع متربعهم
قال الشاعر - طويل -
( أمِن آلِ ليلى بالمَلاَ متربَّعُ ... كما لاحَ وشْمٌ في الذِّراع مُرَجَّعُ )
والماجشون رجل من أهل المدينة يروى عنه الحديث
والماجشون لقب لقبته به سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو اسم لون من الصبغ أصفر تخالطه حمرة وكذلك كان لونه
ويقال إنها ما لقبت أحداً قط بلقب إلاّ لصق به
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب الزبيري قال حدثني ابن الماجشون قال نظرت سكينة إلى أبي فقالت كأن هذا الرجل الماجشون وهو صبغ أصفر تخالطه حمرة فلقب بذلك
قال عبد العزيز ونظرت إلى رجلٍ من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت فيه غلظة فقالت هذا الرجل في قريش كالشيرج في الأدهان فكان

ذلك الرجل يسمى فلان شيرج حتى مات
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لإبراهيم الموصلي
خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر وفيه لبصبص جارية ابن نفيس التي قيل هذا الشعر فيها رمل
وذكر حبش أن لها فيه أيضاً ثقيل أول بالوسطى

3 - كر أخبار بصبص جارية ابن نفيس وأخبارها
كانت بصبص هذه جارية مولدة من مولدات المدينة حلوة الوجه حسنة الغناء قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنين وكان يحيى بن نفيس مولاها وقيل نفيس بن محمد والأول أصح صاحب قيان يغشاه الأشراف ويسمعون غناء جواريه وله في ذلك قصص نذكرها بعد وكانت بصبص هذه أنفسهن وأشدهن تقدماً
وذكر ابن خرداذبه أنّ المهدي اشتراها وهو ولي العهد سراً من أبيه بسبعة عشر ألف دينار فولدت منه علية بنت المهدي
وذكر غيره أن ابن خرداذبه غلط في هذا وأن الذي صح أن المهدي اشترى بهذه الجملة جارية غيرها وولدت علية
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن ابن القداح حدثه قال كانت مكنونة جارية المروانية وليست من آل مروان بن الحكم وهي زوجة الحسين بن عبد الله بن العباس أحسن جارية بالمدينة وجهاً وكانت رسحاء وكان بعض من يمازحها يعبث بها ويصيح طست طست وكانت حسنة الصدر والبطن وكانت توضح بهما وتقول ولكن هذا

فاشتريت للمهدي في حياة أبيه بمائة ألف درهم فغلبت عليه حتى كانت الخيرزان تقول ما ملك أمة أغلظ عليّ منها
واستتر أمرها على المنصور حتى مات
وولدت من المهدي علية بنت المهدي
والذي قال ابن خرداذبه غير مردود إذا كان هذا صحيحاً
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن غرير بن طلحة قال اتعد محمد بن يحيى بن زيد بن علي ابن الحسين وعبد الله بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن مصعب الزبيري وأبو بكر بن محمد بن عثمان الربعي ويحيى بن عقبة أن يأتوا بصبص جارية ابن نفيس فعجل محمد بن يحيى وكان من أصحاب عيسى بن موسى ليخرج إلى الكوفة فقال عبد الله بن مصعب - سريع -
( أرائحٌ أنتَ أبا جَعفرٍ ... من قبلِ أن تَسمع مِنْ بَصْبصا )
( هيهاتَ أن تَسمع منها إذا ... جاوَزَتِ العِيسُ بك الأعوصا )
( فخُذْ عليها مجلسَيْ لذّةٍ ... ومجلساً مِنْ قَبلِ أن تَشْخَصا )
( أحلِفُ بالله يميناً ومَنْ ... يحلفُ بالله فقد أخْلَصا )
( لو أنَّها تدعُو إلى بَيْعة ... بايعتُها ثمّ شققْتُ العصا )
قال وفيها غناء لبصبص
قال فاشتراها أبو غسان مولى منيرة للمهدي بسبعة عشر ألف دينار
قال حماد وحدثني أبي عن الزبير أن عبد الله بن مصعب خاطب بهذا

الشعر أبا جعفر المنصور لما حج فاجتاز بالمدينة منصرفاً من الحج لا أبا جعفر محمد بن يحيى بن زيد
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي إجازة قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني موسى بن مهران قال كانت بالمدينة قينة لآل نفيس بن محمد يقال لها بصبص وكان مولاها صاحب قصر نفيس الذي يقول فيه الشاعر - خفيف -
( شاقَني الزائراتُ قَصْرَ نَفيْسٍ ... مُثقَلاتِ الأعجازِ قُبَّ البُطونِ )
قال وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يأتيها فيسمع منها وكان يأتيها فتيان من قريش فيسمعون منها فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفاً من الحج ومر بالمدينة يذكر بصبص - سريع -
( أراحلٌ أنت أبا جعفرٍ ... مِن قبلِ أن تَسمع مِنْ بصبصا )
وذكر الأبيات فبلغت أبا جعفر فغضب فدعا به فقال أما إنكم يا آل الزبير قديماً ما قادتكم النساء وشققتم معهن العصا حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيات فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم
قال ثم بلغ أبا جعفر بعد ذلك أن عبد الله بن مصعب قد اصطبح مع بصبص وهي تغنيه بشعره - سريع -

صوت
( إذَا تَمزَّزْتُ صُراحيّةً ... كمثلِ ريح المسكِ أو أطيبُ )

( ثم تَغَنَّى لي بأهزاجِه ... زيدٌ أخو الأنصار أو أشعَبُ )
( حسِبْتُ أنِّي مالكٌ جالسٌ ... حَفَّتْ به الأملاك والموكِبُ )
( فلا أُباِلي وإلهِ الوَرَى ... أشرَّقَ العالَمُ أم غَرَّبوا )
الغناء لزيد الأنصاري هزج مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي وغيره وذكر غيره أنه لأشعب
فقال أبو جعفر العالم لا يبالون كيف أصبحت وكيف أمسيت
ثم قال أبو جعفر ولكن الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي الليلة بشعر طريف العنبري فهو آلف في سمعي من غناء بصبص وأحرى أن يختاره أهل العقل
قال فدعا فلاناً الحادي قد ذكره وسقط اسمه وكان إذا حدا وضعت الإبل رؤوسها لصوته وانقادت انقياداً عجيباً فسأله المنصور ما بلغ من حسن حدائه قال تعطش الإبل ثلاثاً أو قال خمساً وتدنى من الماء ثم أحدو فتتبع كلها صوتي ولا تقرب الماء
فحفظ الشعر وكان - كامل -
( إنِّي وإن كان ابن عمِّي كاشحاً ... لَمُزاحِمٌ مِن دُونِه وورائِهِ )
( ومُمِدُّهُ نَصْرِي وإنْ كان امرأً ... متزحزِحاً في أرضِه وسمائِهِ )
( وأكونُ مأوى سِرّه وأصونُه ... حتَّى يَحِقَّ عليّ يومُ أدائه )
( وإذَا أتَى من غَيبِهِ بطَريفةٍ ... لم أطَّلِعْ ماذا وراءَ خِبائه )
( وإذا تحيَّفَتِ الحوادثُ مالَه ... قُرِنَتْ صحيحتُنا إلى جَرْبائه )
( وإذا ترَيَّشَ في غِناه وفَرْتُه ... وإذا تَصعلَكَ كنْتُ من قرنائهِ )

( وإذا غدا يوماً ليركب مَركَباً ... صَعْباً قعدْتُ له على سِيسائِه )
فلما كان الليل حدا به الحادي بهذه الأبيات فقال هذا والله أحث على المروءة وأشبه بأهل الأدب من غناء بصبص
قال فحدا به ليلة فلما أصبح قال يا ربيع أعطِه درهماً
فقال له يا أمير المؤمنين حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألف درهم وتأمر أنت بدرهم قال إنّا لله ذكرت ما لم نحب أن تذكره ووصفت أنّ رجلاً ظالماً أخذ مال الله من غير حله وأنفقه في غير حقه
يا ربيع اشدد يديك به حتى يرد المال
فبكى الحادي وقال يا أمير المؤمنين قد مضت لهذا السنون وقضيت به الديون وتمزقته النفقات ولا والذي أكرمك بالخلافة ما بقي عندي منه شيء
فلم يزل أهله وخاصته يسألونه حتى كف عنه وشرط عليه أن يحدو به ذاهباً وراجعاً ولا يأخذ منه شيئاً
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني القاسم بن زيد المديني قال اجتمع ذات يوم عند بصبص جارية ابن نفيس عبد الله بن مصعب الزبيري ومحمد بن عيسى الجعفري في أشراف من أهل المدينة فتذاكروا مزبداً المديني صاحب النوادر وبخله فقالت بصبص أنا آخذ لكم منه درهماً
فقال لها مولاها أنت حرة لئن فعلت إن لم أشتر لك مخنقة بمائة ألف دينار وإن لم أشتر لك ثوب وشي بما شئت وأجعل لك مجلساً بالعقيق أنحر لك فيه بدنة لم تقتب ولم تركب
فقالت جئ به وارفع عني الغيرة
فقال أنت حرة أن لو رفع برجليك لأعنته على ذلك
فقال عبد الله بن

مصعب فصليت الغداة في مسجد المدينة فإذا أنا به فقلت أبا إسحاق أما تحب أن ترى بصبص جارية ابن نفيس فقال امرأته طالق إن لم يكن الله ساخطاً عليّ فيها وإن لم أكن أسأله أن يرينيها منذ سنة فما يفعل
فقلت له اليوم إذا صليت العصر فوافني ههنا
قال امرأته طالق إن برحت من ههنا حتى تجيء صلاة العصر
قال فتصرفت في حوائجي حتى كانت العصر ودخلت المسجد فوجدته فيه فأخذت بيده وأتيتهم به فأكلوا وشربوا وتساكر القوم وتناوموا فأقبلت بصبص على مزبد فقالت أبا إسحاق كأن في نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة - مجزوء الوافر -
( لقد حَثُّوا الجِمال لِيَهْرَبُوا ... منّا فلم يَئِلوا )
فقال زوجته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ قال فغنته ساعة ثم مكثت ساعة فقالت أبا إسحاق كأن في نفسك تشتهي أن تقوم من مجلسك فتجلس إلى جانبي فتقرصني قرصات وأغنيك - بسيط -
( قالتْ وقد أَبْثَثْتُها وَجْدي فبُحْتُ به ... قد كنْتَ قِدْماً تحبُّ السِتَّرَ فاستترِ )
( ألسْتَ تُبصِرُ مَن حَولِي فقلْتُ لها ... غَطَّى هواكِ وما ألقَى على بصري )
فقال امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام وما تكسب الأنفس غدا وبأي أرض تموت فغنته ثم قالت برح الخفاء أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبلني شق التين وأغنيك هزجا - هزج -
( أنا أبصرْتُ بالليلِ ... غُلاماً حَسَنَ الدَّلِّ )
( كغصن البان قد أصْبَحَ مَسْقِياً من الطَّلِّ )

لم يذكر صانعه وهو هزج على ما ذكر
فقال أنت نبية مرسلة فغنته ثم قالت أبا إسحاق أرأيت أسقط من هؤلاء يدعونك ويخرجونني إليك ولا يشترون ريحاناً بدرهم أي أبا إسحاق هلم درهماً نشتري به ريحاناً فوثب وصاح واحرباه أي زانية أخطأت استك الحفرة انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحى إليك وعطعط القوم بها وعلموا أن حيلتها لم تنفذ عليه ثم خرجوا فلم يعد إليها وعاود القوم مجلسهم فكان أكثر شغلهم فيه حديث مزبد معها والضحك منه
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أنشدني الزبير بن بكار قال أنشدني غرير بن طلحة لابن أبي الزوائد وهو ابن ذي الزوائد في بصبص -
( بَصْبصُ أنت الشمسُ مُزدانةً ... فإنْ تبذَّلْتِ فأنتِ الهلالْ )
( سُبحانَكَ اللّهمَّ ما هكذا ... فيما مَضَى كان يكونُ الجَمَالْ )
( إذا دَعَتْ بالعُود في مَشهدٍ ... وعاونَتْ يُمْنى يَدَيها الشِّمالْ )
( غنَّت غناءً يستفزُّ الفَتى ... حِذْقاً وزان الحَذْقَ منها الدلاَّلْ )
قال هارون قال الزبير وأنشدني غرير أيضاً لنفسه يهجو مولاها - بسيط -
( يا ويحَ بَصْبَصَ من يَحيَى لقد رُزِقَتْ ... وجهاً قبيحاً وأنفاً من جَعاميسِ )
( يمجُّ مِنْ فيهِ في فيها إذا هَجَعَتْ ... رِيقاً خبيثاً كأرواح الكرايِيس )

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال هوي محمد بن عيسى الجعفري بصبص جارية ابن نفيس فهام بها وطال ذلك عليه فقال لصديق له لقد شغلتني هذه عن صنعتي وكل أمري وقد وجدت مس السلو فاذهب بنا حتى أكاشفها بذلك فأستريح
فأتياها فلما غنت لهما قال لها محمد بن عيسى أتغنين - وافر -
( وكنتُ أحِبُّكُمْ فسلوْتُ عنكُمْ ... عليكُمْ في ديارِكُم السَّلامُ )
فقالت لا ولكني أغني - وافر -
( تحمَّلَ أهلُها عنها فبانوا ... عَلَى آثارِ مَن ذَهَب العفاء )
فاستحيا وازداد بها كلفاً ولها عشقاً فأطرق ساعة ثم قال أتغنين - طويل -
( وأخضَعُ بالعُتْبَى إذا كنْتُ مذْنِباً ... وإن أذنبَتْ كنتُ الذي أتنصَّلُ )
قالت نعم وأغني أحسن منه - طويل -
( فإن تُقْبِلوا بالودِّ نقبلْ بمثلِه ... ونُنزلْكُمُ منَّا بأقربِ مَنزلِ )
قال فتقاطعا في بيتين وتواصلا في بيتين
وفي هذه الأبيات الأربعة غناء كان محمد قريض وذكاء وغيرهما ممن شاهدنا من الحذاق يغنونه في الابتداءين لحنين من الثقيل الأول وفي الجوابين لحنين من خفيف الثقيل ولا أعرف صانعهما
أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبو

أيوب المديني عن مصعب قال حضر أبو السائب المخزومي مجلساً فيه بصبص جارية يحيى بن نفيس فغنت - منسرح -
( قلبي حبيسٌ عليكِ موقوفُ ... والعينُ عَبْرَى والدَّمْعُ مذروفُ )
( والنَّفسُ في حسرةٍ بغُصَّتِها ... قد شَفَّ أرجاءها التَّساويف )
( إن كُنتِ بالحسنِ قد وُصِفْتِ لنا ... فإنَّني بالهوى لمَوْصُوفُ )
( يا حسرتَا حسرةً أموْتُ بها ... إن لم يكنْ لي لديك معروفُ )
قال فطرب أبو السائب ونعر وقال لا عرف الله قدره إن لم أعرف لك معروفك
ثم أخذ قناعها عن رأسها وجعله على رأسه وجعل يلطم ويبكي ويقول لها بأبي والله أنت إني لأرجو أن تكوني عند الله أفضل من الشهداء لما توليناه من السرور وجعل يصيح واغوثاه يا لله لما يلقى العاشقون
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري قال حدثني عمرو بن عبد الله البصري قال حدثنا الحسين بن يحيى عن عثمان بن محمد الليثي قال كنت يوماً في مجلس ابن نفيس فخرجت إلينا جاريته بصبص وكان في القوم فتى يحبها فسألته حاجة فقام ليأتيها بها فنسي أن يلبس نعله ومشى حافياً فقالت يا فلان نسيت نعلك
فلبسها وقال أنا والله كما قال الأول - طويل -
( وحُبُّكِ يُنسِيني عن الشَّيء في يدي ... ويَشْغَلُني عن كلِّ شيءٍ أحاولُهْ )
فأجابته فقالت
( وبي مثلُ ما تشكوه منِّي وإنَّني ... لأُشفِق من حُبٍّ أراكَ تزاولُهْ )

صوت منسرح
( يَشتاقُ قلبي إلى مُلَيْكَة لو ... أَمْسَتْ قريباً ممن يطالبُها )
( ما أحسَنَ الجِيدَ من مُلَيكةَ واللَّبَّاتِ ... إذ زانَها ترائبها )
( يا ليتَني ليلةً إذا هجع النَّاسُ ... ونامَ الكلابُ صاحبُها )
( في ليلةٍ لا يُرَى بها أحدٌ ... يَسعَى علينا إلاّ كواكبها )
الشعر لأحيحة بن الجُلاحِ والغناء لابن سريج
رمل بالخنصر في مجرى البنصر
وفيه لحن لمالك من رواية يونس

4 - كر أحيحة بن الجلاح ونسبه وخبره والسبب الذي من أجله قال الشعر
هو أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس
ويكنى أحيحة أبا عمرو
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز قال ركب الوليد بن عبد الملك إلى المساجد فأتى مسجد العصبة فلما صلى قال للأحوص يا أحوص أين الزوراء التي قال فيها صاحبكم - بسيط -
( إنِّي أُقِيمُ على الزَّوراءِ أعمُرُها ... إنَّ الكريمَ على الإِخوانِ ذُو المالِ )

( لها ثلاثُ بِئارٍ في جَوَانِبها ... في كلِّها عُقَبٌ تُسْقَى بأقبال )
( إِسْتغْنِ أو مُتْ ولا يَغْرُرْكَ ذو نشبٍ ... من ابنِ عَمٍّ ولا عَمٍّ ولا خالِ )
قال الزبير القب الذي في أول المال عند مدخل الماء والطلب الذي في آخره
قال فأشار له الأحوص إليها وقال ها هي تلك لو طولت لأشقرك هذا لجال عليها فقال الوليد إن أبا عمرو كان يراه غنياً بها
فعجب الناس يومئذ لعناية الوليد بالعلم حتى علم أن كنية أحيحة أبو عمرو
وفي بعض هذا الشعر غناء وهو - بسيط -

صوت
( إِسْتغْنِ أو مُتْ ولا يَغْرُرْكَ ذو نشبٍ ... من ابنِ عَمٍّ ولا عَمٍّ ولا خالِ )
( يَلْوُوْنَ مالَهُمُ عن حقِّ أقربِهِمْ ... وعَنْ عشيرتِهِمْ والحقُّ للوالي )
غناه الهذلي رملاً بالوسطى من رواية الهشامي وعمرو بن بانة
وأما السبب في قول أحيحة هذا الشعر فإن أحمد بن عبيد المكتب ذكر أن محمد بن يزيد الكلبي حدثنا وحدثه أيضاً هشام بن محمد بن الشرقي بن القطامي قال هشام وحدثني به أبي أيضاً

قال وحدثني رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال وحدثني عبد الرحمن بن سليمان الأنصاري قالوا جميعاً أقبل تبع الأخير وهو أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميري من اليمن سائراً يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل فمر بالمدينة فخلف بها ابناً له ومضى حتى قدم الشأم ثم سار من الشأم حتى قدم العراق فنزل بالمشقر فقتل ابنه غيلة بالمدينة فبلغه وهو بالمشقر مقتل ابنه فكرّ راجعاً إلى المدينة وهو يقول - كامل -
( يا ذا مُعاهِرَ ما تَزَالُ تَرُوْدُ ... رَمَدٌ بعينكَ عادها أم عُوْدُ )
( منعَ الرُّقادَ فما أغمِّضُ ساعةً ... نَبَطٌ بيثربَ آمنون قُعودُ )
( لا يَستقِي بيدَيكَ إنْ لم تلْقِها ... حَرْباً كأنَّ أشاءها مجرود )
ثم أقبل حتى دخل المدينة وهو مجمع على إخرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية فنزل بسفح أحد فاحتفر بها بئراً فهي البئر التي يقال لها إلى اليوم بئر الملك ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوه فكان فيمن أرسل إليه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف وابن عمه زيد بن أمية بن زيد وابن عمه زيد بن عبيد بن زيد وكانوا يسمون الأزياد وأحيحة بن الجلاح فلما جاء رسوله قال الأزياد إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب
فقال أحيحة والله ما دعاكم لخيرٍ وقال - مديد -
( ليتَ حَظِّي من أبي كَرِبٍ ... أنْ يَرُدَّ خَيْرُهُ خَبَلَهْ )

فذهبت مثلا
وكان يقال إن مع أحيحة تابعاً من الجن يعلمه الخبر لكثرة صوابه لأنه كان لا يظن شيئاً فيخبر به قومه إلا كان كما يقول
فخرجوا إليه وخرج أحيحة ومعه قينة له وخباء فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر ثم خرج حتى استأذن على تبع فأذن له وأجلسه معه على زربية تحته وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة فجعل يخبره عنها وجعل تبع كلما أخبره عن شيء منها يقول كل ذلك على هذه الزربية
يريد بذلك تبع قتل أحيحة ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده فدخل خباءه فشرب الخمر وقرض أبياتاً وأمر القينة أن تغنيه بها وجعل تبع عليه حرساً وكانت قينته تدعى مليكة فقال - منسرح -
( يشتاقُ قَلْبي إلى مُلَيكة لو ... أمْسَتْ قريباً ممن يطالبُها ) الأبيات
وزاد فيها مما ليس فيه غناء - منسرح -
( لِتبكِني قَيْنَةٌ ومِزْهَرُها ... ولتبكِنِي قهوةٌ وشاربُها )
( ولْتبكني ناقةٌ إذا رُحِلَتْ ... وغابَ في سَرْدَحٍ مَناكبها )
( ولْتبِكِني عُصْبَةٌ إذا جُمِعتْ ... لم يعلمِ الناسُ ما عواقِبُها )
فلم تزل القينة تغنيه بذلك يومه وعامة ليلته فلما نام الحراس قال لها إني ذاهب إلى أهلي فشدي عليك الخباء فإذا جاء رسول الملك فقولي له هو نائم فإذا أبوا إلاّ يوقظوني فقولي قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة
فإن ذهبوا بك إليه فقولي له يقول لك أحيحة اغدر بقينة أو دع
ثم انطلق فتحصن في أطمه الضحيان وأرسل تبع من جوف الليل إلى

الازياد فقتلهم على فقارة من فقار تلك الحرة
وأرسل إلى أحيحة ليقتله فخرجت إليهم القينة فقالت هو راقد
فانصرفوا وترددوا عليها مراراً كل ذلك تقول هو راقد
ثم عادوا فقالوا لتوقظنه أو لندخلن عليك
قالت فإنه قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة
فذهبوا بها إلى الملك فلما دخلت عليه سألها عنه فأخبرته خبره وقالت يقول لك اغدر بقينة أو دع
فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلا فجرد له كتيبة من خيله ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصن في أطمه
فحاصروه ثلاثاً يقاتلهم بالنهار ويرميهم بالنبل والحجارة ويرمي إليهم بالليل بالتمر فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبع فقالوا بعثتنا إلى رجل يقاتلنا بالنهار ويضيفنا بالليل فتركه وأمرهم أن يحرقوا نخله
وشبت الحرب بين أهل المدينة أوسها وخزرجها ويهودها وبين تبع وتحصنوا في الآطام
فخرج رجل من أصحاب تبع حتى جاء بني عدي بن النجار وهم متحصنون في أطمهم الذي كان في قبلة مسجدهم فدخل حديقة من حدائقهم فرقي عذقاً منها يجدها فاطلع إليه رجل من بني عدي بن النجار من الأطم يقال له أحمر أو صخر بن سليمان من بني سلمة فنزل إليه فضربه بمنجل حتى قتله ثم ألقاه في بئر وقال جاءنا يجد نخلنا إنما النخل لمن أبره فأرسلها مثلاً
فلما انتهى ذلك إلى تبع زاده حنقاً وجرد إلى بني النجار جريدة من خيله فقاتلهم بنو النجار ورئيسهم عمرو بن طلة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار وجاء بعض تلك الخيول إلى بني عدي وهم متحصنون في أطمهم الذي في قبلة مسجدهم فراموا بني عدي بالنبل فجعلت نبلهم تقع في جدار الأطم فكان على أطمهم مثل الشعر من النبل فسمي ذلك الأطم الأشعر ولم تزل بقايا النبل فيه حتى جاء الله عز و جل بالإسلام وجاء بعض جنوده إلى بني

الحارث بن الخزرج فجذموا نخلهم من أنصافها فسميت تلك النخل جذمان وجدعوا هم فرساً لتبع فكان تبع يقول لقد صنع بي أهل يثرب شيئاً ما صنعه بي أحد قتلوا ابني وصاحبي وجدعوا فرسي قالوا فبينا تبع يريد إخراب المدينة وقتل المقاتلة وسبي الذرية وقطع الأموال أتاه حبران من اليهود فقالا أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة وإنا نجد اسمها كثيراً في كتابنا وأنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج من هذا الحرم من نحو البيت الذي بمكة تكون داره وقراره ويتبعه أكثر أهلها
فأعجبه ما سمع منهما وكف عن الذي أراد بالمدينة وأهلها وصدق الحبرين بما حدثاه وانصرف تبع عما كان أراد بها وكف عن حربهم وآمنهم حتى دخلوا عسكره ودخل جنده المدينة فقال عمرو بن مالك بن النجار يذكر شأن تبع ويمدح عمرو بن طلة - مديد -
( أَصَحَا أم انتحىَ ذِكَرَهْ ... أم قضَى من لذّةٍ وطَرَهْ )
( بعدما وَلَّى الشباب وما ... ذِكْرُهُ الشَّبابَ أو عُصُرَهْ )
( إنَّها حَرْبٌ يمانيَةٌ ... مَثلها آتى الفتى عِبَرَهْ )
( سائِلي عِمْرَانَ أو أسَداً ... إذْ أتَتْ تعدُو مع الزُّهَرَهْ )
( فَيْلَقٌ فيه أبو كَرِبٍ ... سَبُعٌ أبدانُه ذَفِرَهْ )

( ثم قالوا مَنْ يؤُمُّ بنا ... أبنو عوفٍ أم النَّجَرَهْ )
( يا بَني النّجارِ إنّ لنا ... فِيكُمُ ذَحْلاً وإنَّ تِرَه )
( فتلقَّتْهمْ مُسايِفةٌ ... مَدُّها كالغَبْيَةِ النَّثِره )
الغبية السحابة التي فيها مطر وبرق برعد
( فيهمُ عَمرو بن طَلَّةَ لا ... هُمَّ فامنَحْ قومَه عُمُرَه )
( سَيِّدٌ سامَى الملوكَ ومَنْ ... يَدْعُ عَمْرا لا تَجِدْ قَدَرهْ )
وقال في ذلك رجل من اليهود - متقارب -
( تكلِّفنِي مِن تَكاليفها ... نَخِيلَ الأَساوِيف والمصَنْعَه )
( نخيلاً حَمَتْها بنو مالكٍ ... جُنودُ أبي كَرِبَ المُفْظِعَه )
وقال أحَيحة يرثي الأزياد الذين قَتَلَهم تُبّع - وافر -
( ألا يا لَهْفَ نفسي أيَّ لَهْفِ ... على أهلِ الفَقَارةِ أيَّ لَهْفِ )
( مَضَوا قَصْدَ السَّبيلِ وخَلّفوني ... إلى خَلَفٍ من الأَبْرام خَلْفِ )
( سُدىً لا يكتَفون ولا أراهُمْ ... يُطيعُونَ أمراً إن كان يكفي )
قالوا فلما كفّ تبّع عن أهل المدينة اختلطوا بعسكره فبايعوه وخالطوهم
ثم إنّ

تبعاً استوبأ بئره التي حفرها وشكا بطنه عن مائها فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة بنت زيد بن كلدة بن عامر بن زريق وكانت ذات جلد وشرف في قومها فشكا إليها وبأبئره فانطلقت فأخذت قرباً وحمارين حتى استقت له من ماء رومة فشربه فأعجبه وقال زيديني من هذا الماء
فكانت تختلف إليه في كل يوم بماء رومة فلما حان رحيله دعاها فقال لها يا فكهة إنه ليس معنا من الصفراء والبيضاء شيء ولكن لك ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا
فلما خرج تبع نقلت ما تركوه من أزوادهم ومتاعهم فيقال إنه لم تزل فكهة أكثر بني زريق مالاً حتى جاء الإسلام
قال وخرج تبع يريد اليمن ومعه الحبران اللذان نهياه عن المدينة قال حين شخص من منزله هذه قباء الأرض
فسميت قباء
ومر بالجرف فقال هذا جرف الأرض
فسمي الجرف وهو أرفعها
ومر بالعرصة وتسمى السليل فقال هذه عرصة الأرض
ثم انحدر في العقيق فقال هذا عقيق الأرض فسمي العقيق
ثم خرج يسير حتى نزل البقيع فنزل على غدير ماء يقال له براجم فشرب منه شربة فدخلت في حلقه علقة فاشتكى منها
فقال فيما ذكر أبو مسكين قوله

( ولقد شربتُ على براجِمَ شَربةً ... كادت بباقيةِ الحياة تُذِيعُ )
ثم مضى حتى إذا كان بحمدان جاءه نفر من هذيل فقالوا له اجعل لنا جعلا وندلك على بيت مال فيه كنوز من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والذهب والفضة ليست لأهله منعة ولا شرف
فجعل لهم على ذلك جعلا فقالوا له هو البيت الذي تحجه العرب بمكة
وأرادوا بذلك هلاكه
فتوجه نحوه فأخذته ظلمة منعته من السير فدعا الحبرين فسألهما فقالا هذا لما أجمعت عليه في هذا البيت والله مانعه منك ولن تصل إليه فاحذر أن يصيبك ما أصاب من انتهك حرمات الله وإنما أراد القوم الذين أمروك به هلاكك لأنه لم يرمه أحد قط بشر إلا أهلكه الله فأكرمه وطف به واحلق رأسك عنده
فترك الذي كان أجمع عليه وأمر بالهذليين فقطع أيديهم وأرجلهم ثم خرج يسير حتى أتى مكة فنزل بالشعب من الأبطح وطاف بالبيت وحلق رأسه وكساه الخصف
قال هشام وحدثني ابن لجرير بن يزيد البجلي عن جعفر بن محمد عن أبيه
قال هشام وحدثني أبي عن صالح عن ابن عباس قال لما أقبل تبع يريد هدم البيت وصرف وجوه العرب إلى اليمن بات صحيحاً فأصبح وقد سالت عيناه على خديه فبعث إلى السحرة والكهان والمنجمين فقال ما لي فوالله لقد بت ليلتي ما أجد شيئاً وقد صرت إلى ما ترون
فقالوا حدث نفسك بخير
ففعل فارتد بصيراً وكسا البيت الخصف
هذه رواية جعفر بن محمد عن أبيه
وفي رواية ابن عباس فأتي في المنام

فقيل له اكسه أحسن من هذا
فكساه الوصائل قال وهي برود العصب سميت الوصائل لأنها كانت يوصل بعضها ببعض قال فأقام بمكة ستة أيام يطعم الطعام وينحر في كل يوم ألف بعير ثم سار إلى اليمن وهو يقول خفيف
( ونَحَرْنا بالشِّعْبِ ستَّة آلاف ... تَرى الناس نَحْوَهُنَّ وُرُودا )
( وكَسَوْنا البيتَ الذي حَرَّمَ اللَّهُ مُلاَءً معضَّدا وبُرودا )
( وأقَمنا بهِ من الشَّهرِ سِتّاً ... وجعلْنا له بهِ إقليدا )
( ثم أُبْنَا منه نؤمُّ سُهَيلاً ... قد رَفَعْنا لواءنا المعقودا )
قال وتهود تبع وأهل اليمن بذينك الحبرين
أخبرني محمد بن مزيد قال أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو البختري عن أبي إسحاق قال أخبرني أيوب بن عبد الرحمن أن رجلاً من بني مازن بن النجار يقال له كعب بن عمرو تزوج امرأة من بني سالم بن عوف فكان يختلف إليها فقعد له رهط من بين جحجبى بمرصد فضربوه حتى قتلوه أو كادوا فأدركه القواقل فاستنقذوه فلما بلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو خرج وخرج معه بنو النجار وخرج أحيحة بن الجلاح ببني عمرو بن عوف فالتقوا بالرحابة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل أخا عاصم يومئذ أحيحة بن الجلاح وكان

يكنى أبا وحوحة فأصابه في أصحابه حين انهزموا وطلب عاصم أحيحة حتى انتهى إلى البيوت فأدركه عاصم عند باب داره فزجه بالرمح ودخل أحيحة الباب ووقع الرمح في الباب ورجع عاصم وأصحابه فمكث أياماً
ثم إنّ عاصماً طلب أحيحة ليلاً ليقتله في داره فبلغ ذلك أحيحة وقيل له إنّ عاصماً قد رئي البارحة عند الضحيان والغابة وهي أرض لأحيحة والضحيان أطم له وكان أحيحة إذ ذاك سيد قومه من الأوس وكان رجلاً صنعا للمال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا بالمدينة حتى كاد يحيط بأموالهم وكان له تسع وتسعون بعيراً كلّها ينضح عليها وكان له بالجرف أصوار من نخل قل يوم يمر به إلاّ يطلع فيه وكان له أطمان أطم في قومه يقال له المستظل وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تبعاً أسعد أبا كرب الحميري وأطمه الضحيان بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة بناه بحجارة سود وبنى عليه نبرة بيضاء مثل الفضة ثم جعل عليها مثلها يراها الراكب من مسيرة يوم أو نحوه وكانت الآطام هي عزهم ومنعتهم وحصونهم التي يتحرزون فيها من عدوهم
ويزعمون أنه لما بناه أشرف هو وغلام له ثم قال لقد بنيت حصناً حصينا ما بنى مثله رجل من العرب أمنع ولا أكرم ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع لوقع جميعاً فقال غلامه أنا أعرفه
فقال فأرنيه يا بني
قال هو هذا
وصرف إليه رأسه
فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات وإنما قتله إرادة ألا يعرف ذلك الحجر أحد
ولما بناه قال رجز

( بنيْتُ بعد مُستظَلٍّ ضاحيا ... بنيته بعُصْبةٍ من ماليا )
( والسِّرُّ مما يتبع القواصِيا ... أخشَى رُكَيْبا أو رُجَيلا عاديا )
وكان أحيحة إذا أمسى جلس بحذاء حصنه الضحيان ثم أرسل كلاباً له تنبح دونه على من يأتيه ممن لا يعرف حذراً أن يأتيه عدو يصيب منه غرة فأقبل عاصم بن عمرو يريده في مجلسه ذلك ليقتله بأخيه وقد أخذ معه تمراً فلما نبحته الكلاب حين دنا منه ألقى لها التمر فوقفت فلما رآها أحيحة قد سكنت حذر
فقام فدخل حصنه ورماه عاصم بسهم فأحرزه منه الباب فوقع السهم بالباب فلما سمع أحيحة وقع السهم صرخ في قومه فخرج عاصم بن عمرو فأعجزهم حتى أتى قومه
ثم إن أحيحة جمع لبني النجار فأراد أن يغترهم فواعدهم وقومه لذلك وكانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى نساء بني عدي بن النجار له منها عمرو بن أحيحة وهي أم عبد المطلب بن هاشم خلف عليها هاشم بعد أحيحة وكانت امرأة شريفة لا تنكح الرجال إلاّ وأمرها بيدها إذا كرهت من رجل شيئاً تركته
فزعم ابن إسحاق أنه حدثه أيوب بن عبد الرحمن وهو أحد رهطها قال حدثني شيخ منا أن أحيحة لما أجمع بالغارة على قومها ومعها ابنها عمرو بن أحيحة وهو يومئذ فطيم أو دون الفطيم وهو مع أحيحة في حصنه عمدت إلى ابنها فربطته بخيط حتى إذا أوجعت الصبي تركته فبات يبكي وهي تحمله وفات أحيحة معها ساهراً يقول ويحك ما لابني فتقول والله ما أدري ما له
حتى إذا ذهب الليل أطلقت الخيط عن الصبي فنام
وذكروا أنها ربطت رأس ذكره فلما هدأ الصبي قالت وارأساه فقال أحيحة هذا والله ما لقيت من سهر هذه الليلة
فبات يعصب لها رأسها ويقول ليس بك بأس
حتى إذا لم يبق

من الليل إلا أقله قالت له قم فنم فإني أجدني صالحة قد ذهب عني ما كنت أجده
وإنما فعلت به ذلك ليثقل رأسه وليشتد نومه على طول السهر
فلما نام قامت وأخذت حبلاً شديداً وأوثقته برأس الحصن ثم تدلت منه وانطلقت إلى قومها فأنذرتهم وأخبرتهم بالذي أجمع هو وقومه من ذلك فحذر القوم وأعدوا واجتمعوا
فأقبل أحيحة في قومه فوجد القوم على حذر قد استعدوا فلم يكن بينهم كبير قتال ثم رجع أحيحة فرجعوا عنه وقد فقدها أحيحة حين أصبح فلما رأى القوم على حذر قال هذا عمل سلمى خدعتني حتى بلغت ما أرادت
وسماها قومها المتدلية لتدليها من رأس الحصن
فقال في ذلك أحيحة وذكر ما صنعت به سلمى - وافر -
( تفهّمْ أيُّها الرَّجُلُ الجَهُوْلُ ... ولا يَذهَبْ بك الرأيُ الوبيلُ )
( فإنَّ الجهلَ مَحمَلُهُ خفيفٌ ... وإنَّ الحِلْمَ مَحمَلُه ثقيلُ )
وفيها يقول - وافر -
( لَعَمْرُ أبيكَ ما يُغِني مَقامي ... من الفتيانِ رائحةٌ جَهولُ )
( نَؤُوم ما يقلِّصُ مستقِلاًّ ... على الغايات مَضجعُه ثقيل )
( إذا باتت أُعَصِّبُها فنامت ... علَيَّ مكانَها الحُمَّى الشَّمولُ )
( لعلَّ عِصابَها يَبغِيْك حَرْباً ... ويأتيهمْ بعوْرَتِك الدَّليلُ )
( وقد أعددْتُ للحَدَثان عَقْلاً ... لَو انَّ المرء تنفعه العُقولُ )

وقال فيها وفيما صنعت به خفيف
( أَخْلَقَ الرَّبْعُ من سُعادَ فأمسى ... رَبْعُهُ مُخلِقاً كدَرْس المُلاةِ )
( بَالياً بعد حاضرٍ ذي أنيسٍ ... مِن سليمى إذْ تغتدِي كالمَهَاةِ )
وهي قصيدة طويلة يقال إن في هذين البيتين منها غناء
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه عن أبي مسكين أنّ قيس بن زهير بن جذيمة أتى أحيحة بن الجلاح لما وقع الشر بينه وبين بني عامر وخرج إلى المدينة ليتجهز بعث إليهم حين قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة فقال قيس لأحيحة يا أبا عمرو نبئت أن عندك درعاً ليس بيثرب درع مثلها فإن كانت فضلا فبعنيها أو فهبها لي
فقال يا أخا بني عبس ليس مثلي يبيع السلاح ولا يفضل عنه ولولا أني أكره أن استليم إلى بني عامر لوهبتها لك ولحملتك على سوابق خيلي ولكن اشترها يا أبا أيوب فإن البيع مرتخص وغال
فأرسلها مثلاً
فقال له قيس فما تكره من استلامتك إلى بني عامر قال كيف لا أكره ذلك وخالد بن جعفر الذي يقول - طويل -
( إذا ما أرَدْتَ العزَّ في آل يثربٍ ... فنادِ بصوتٍ يا أحيحةُ تُمنَعِ )
( رأيت أبا عمروٍ أحيحةَ جارُه ... يبيْتُ قَرير العين غيرَ مروَّعِ )
( ومَن يأته مِن خائفٍ يَنْسَ خوفَه ... ومَن يأته من جائعِ الجَوْفِ يشبعِ )
( فضائلُ كانت للجلاحِ قديمةً ... وأكرِمْ بفخرٍ من خصالكَ الأربع )

فقال قيس وما عليك بعد ذلك من لوم
فلها عنه ثم عاوده فساومه فغضب أحيحة وقال له بت عندي
فبات عنده فلما شرب تغنى أحيحة وقيس يسمع - وافر -
( ألا يا قيسُ لا تَسُمَنَّ دِرْعي ... فما مثلي يُساوَم بالدُّروعِ )
( فلولا خَلَّةٌ لأبي جُوَيٍّ ... وأنِّي لستُ عنها بالنَّزوع )
( لأُبْتَ بمثلها عَشْرٍ وطِرْفٍ ... لَحُوقِ الإِطْل جَيّاشٍ تَلِيع )
( لكنْ سَمِّ ما أحببْتَ فيها ... فليس بمنكَرٍ غَبْنُ البيوع )
( فما هِبة الدُّروع أخا بغيضٍ ... ولا الخيلِ السَّوابِقِ بالبديعِ )
وقال فأمسك بعد ذلك عن مساومته
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أخي أحمد بن علي عن عافية بن شبيب قال حدثني أبو جعفر الأسدي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وأخبرنا به إسماعيل بن يونس الشيعي إجازة عن عمر بن شبة عن إسحاق قال دعاني الفضل بن الربيع يوماً فأتيته فإذا عنده شيخ حجازي حسن الوجه والهيئة فقال لي أتعرف هذا قلت لا
قال هذا ابن أنيسة بنت معبد فسله عما أحببت من غناء جده
فقلت يا أخا أهل الحجاز كم غناء جدك قال ستون صوتاً
ثم غناني - منسرح -
( ما أَحْسَنَ الجِيدَ من مُليكة واللَّبَّاتِ ... إذ زانَها ترائبُها )

قال فغناه أحسن غناء في الأرض ولم آخذه منه اتكالاً على قدرتي عليه
واضطرب الأمر على الفضل وصار إلى التغيب وشخص الشيخ إلى المدينة فبقيت أنشد الشعر وأسأل عنه مشايخ المغنين وعجائز المغنيات فلا أجد أحداً يعرفه حتى قدمت البصرة وكنت آتي جزيرتها في القيظ فأبيت بها ثم أبكر بالغداة إلى منزلي
فإني لداخل يوماً إذا بامرأتين نبيلتين قد قامتا فأخذتا بلجام حماري فقلت لهما مه قال أبو زيد في خبره فقالت إحداهما كيف عشقك اليوم لما أَحْسَنَ الجِيدَ من مُليكة وشغفك به فقد بلغني أنك كنت تطلبه من كل أحد وقد كنت رأيتك في مجلس الفضل وقد استخفك الطرب لهذا الصوت حتى صفقت
قال فقلت لها أشد والله ما كنت عشقاً له وقد ألهبت بذكرك إياه في قلبي جمراً ولقد طلبته ببغداد كلها فلم أجد أحداً يسمعنيه
قالت أفتحب أن أغنيك إياه
قلت نعم
فغنته والله أحسن مما سمعته قديماً بصوت خافض فنزلت إليها فقبلت يديها ورجليها وقلت أغنيك وتغنيني يومنا إلى الليل
قالت أنت والله أطفس من أن تفعل ذاك وإنما هو عرض ولكني أغنيك حتى تأخذه
فقلت بأبي أنت وأمي وجعلني الله فداك من أنت قالت أنا وهبة جارية محمد بن عمران القروي التي يقول فيها فروح الرفاء الطلحي

صوت بسيط
( يا وَهْبَ لم يَبْقَ لي شيء أُسَرُّ به ... إلاّ الجلوَسُ فتَسقِيني وأَسقيكِ )
( وتمزُجينَ بريقٍ منكِ لي قَدَحاً ... كأنّ فيه رضابَ المِسْك من فيكِ )

( يا أطيْبَ الناسِ ريقاً غيرَ مُختَبَرٍ ... إِلاّ شهادَةَ أطرافِ المَسَاويكِ )
( قد زُرْتِنا زورةً في الدّهر واحدةً ... ثَنِّي ولا تجعلِيها بيضةَ الديك )
( ما نلْتُ منك سِوَى شيءٍ أسَرُّ به ... ولستُ أبصر شيئاً من مَسَاويك )
( قالت مُلِكْتَ ولم تملِكْ فقُلْتُ لها ... ما كلُّ مالكةٍ تُزرِي بمملوكِ )
قال أبو زيد خاصّة قال إسحاق وأنشدتنيه وغنتني فيه بصوت مليح قد صنعته فيه ثم صارت إليّ بعد ذلك وكانت من أحسن الناس غناء وأحسنهم رواية
فما كانت تفوق فيه من صنعتها سائر الناس صوتها وهو

صوت
منسرح
( لا بُدَّ من سَكْرةٍ على طَرَبِ ... لعلَّ رَوْحاً يُدَالُ من كَرَبِ )
( فَعاطِنِيها صفراءَ صافيةً ... تَضحكُ من لؤلؤٍ على ذهَبِ )
قال ولها فيه عملٌ فاضل
ومن صنعتها قوله - مجزوء الكامل -
صوت
( الكأسُ بعد الكأس قد ... تُصبي لَكَ الرجلَ الحليما )
( وتُقَرِّب النَّسَب البعيدَ ... وَتَبْسُط الوجْهَ الشَّتيما )
قال وممّا برّزت فيه من صنعتها - خفيف

صوت
( هاتِها سُكَّريَّةً كشُعاعِ الشَّمْسِ لا ... قَرْقَفاً ولا خَنْدَريسا )
( في رُبىً يخلَع الولِيُّ عليها ... ما يحييِّ به الجليسُ الجليسا )
( فَلنُوَّارِها نسيمٌ إذا ما ... حَرّكَتْه الرِّياح ردَّ النُّفوسا )

صوت بسيط
( أمْسى لسَلاَّمَة الزَّرقاءِ في كَبِدي ... صَدْعٌ مقيْمٌ طَوَالَ الدَّهرِ والأبدِ )
( لا يستطيعُ صَنَاعُ القوم يَشْعَبَه ... وكيف يُشْعَب صَدْعُ الحبِّ في الكبد )
( إلاّ بوصْلِ التي من حبِّها انصدعَتْ ... تلك الصُّدوعُ من الأسقام والكمَدِ )
الشعر والغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الكاتب الكوفي أحد بني زهرة من قريش
ولحنه من خفيف الثّقيل الأوّل بالبنصر
وسلاّمة الزرقاء هذه جارية ابن رامين وكانت إحدى القينات المحسنات

5 -

ذكر خبر سلامة الزرقاء وخبر محمد بن الأشعث
نسخت ذلك من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات ذكر أن أبا أيوب المديني حدثه عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال كان محمد ابن الأشعث القرشي ثم الزهري كاتباً وكان من فتيان أهل الكوفة وظرفائهم وأدبائهم وكان يقول الشعر ويتغنى فيه
فمن ذلك قوله في زرقاء جارية ابن رامين وكان يألفها - بسيط -
( أمسى لسَلاّمة الزَّرقاءِ في كبدي ... )
وذكر الأبيات
قال ومن شعره فيها يخاطب مولاها وقد كان حج وأخرج جواريه كلهن هكذا ذكر أحمد بن إبراهيم
وهذا الشعر الثاني لإسماعيل بن عمار الأسدي وقد ذكرت أخباره في موضع آخر
صوت سريع
( أَيَّةُ حالٍ يابنَ رامينِ ... حالُ المحبِّينَ المساكين )
( تَرَكْتَهُمْ موتَى ولم يَتْلَفوا ... قد جُرِّعوا منك الأَمَرِّين ) ويروى تركتهم موتى وما موتوا وجدته بخط حماد

( وسِرْتَ في رَكْبٍ على طِيّةٍ ... رَكْبٍ تَهَامٍ ويمَانِين )
( يا راعيَ الذَّودِ لقد رُعْتَهُمْ ... ويلَكَ من رَوْع المحبِّين )
( فرّقْتَ جمعاً لا يُرى مثلُهُمْ ... بين دُروب الرُّوم والصِّين )
الغناء لمحمد بن الأشعث نشيد خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن ابن المكي وغيره
قال ودخل ابن الأشعث يوماً على ابن رامين فخرجت إليه الزرقاء فبينما هو يلقي عليها إذ بصر بوصيفة من وصائفها فأعجبته فقال شعراً في وقته وتغنى فيه فأخذته منه الزرقاء وهو قوله - خفيف -

صوت
( قل لأختي التي أحبُّ رضاها ... أنتِ لي فاعلميه رُكنٌ شديدُ )
( إنَّ لي حاجةً إليكِ فقولي ... بين أُذْنِي وعاتقي ما تريد )
يعني قولي ما تريد في عنقي حتى أفعله
ففطنت الزرقاء للذي أراد فوهبت له الوصيفة فخرج بها
الغناء فيه رمل بالوسطى
ذكر عمرو بن بانة أنه لابن سريج وقد وهم في ذلك بل الغناء لمحمد بن الأشعث لا يشك فيه
قال هارون وحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال وحدثني أبو عبد الله الأسك أمير المغنين أن محمد بن الأشعث الزهري وهشام بن محمد بن أبي عثمان السلمي اجتمعا عند ابن رامين وكان هشام قد أنفق في منزله مالاً عظيماً وكان يقال لأبيه بسياردرم وتفسيره بالعربية الكثير الدراهم فقال محمد بن الأشعث يا هشام قل ما تشاء
قال - خفيف

( قل لأختي التي أحبُّ رضاها ... أنتِ لي فاعلميه رُكنٌ شديدُ )
وأشار بذلك إلى سلامة الزرقاء
قالت وقد سمعت فقل
فقال - خفيف -
( إنَّ لي حاجةً إليكِ فقولي ... بين أُذْنِي وعاتقي ما تريد )
ففطنت الزرقاء للذي أراد فقالت بين أذني وعاتقي ما تريد فما هو قال وصيفتك هذه فإنها قد أعجبتني
قالت هي لك
فأخذها فما رد ذلك ابن رامين ولا تكلم فيه
وهذا الشعر والغناء فيه لمحمد بن الأشعث
قال هارون وحدثني أبو أيوب عن أحمد بن إبراهيم قال ذكر عمرو بن نوفل بن أنس بن زيد التميمي أن محمد بن الأشعث كان ملازماً لابن رامين ولجاريته سلامة الزرقاء فشهر بذلك وكان رجلاً قصافاً فلامه قومه في فعله فلم يحفل بمقالتهم وطال ذلك منه ومنهم حتى رأى بعض ما كره في منزل ابن رامين فمال إلى سحيقة جارية زريق بن منيح مولى عيسى بن موسى
وكان زريق شيخاً سخياً كريماً نبيلاً يجتمع إليه أشراف الكوفة من كل حي وكان الغالب على منزله رجلاً من ولد القاسم بن عبد الغفار العجلي كغلبة محمد بن الأشعث على منزل ابن رامين فتواصلا على ملازمة بيت زريق
ففي ذلك يقول محمد بن الأشعث - خفيف -
( يابن رامينَ بُحْتَ بالتَّصريحِ ... في هَوَايَ سَحِيقَة ابنِ منيحِ )
( قَيْنَةٌ عَفّةٌ ومولىً كريمٌ ... ونديمٌ من اللُّبابِ الصَّريحِ )

( رَبَعيٌّ مهذَّبٌ أرْيَحيٌّ ... يَشترِي الحَمْدَ بالفَعَال الرَّبيحِ )
( نحنُ منه في كلِّ ما تشتهي الأنفُسُ ... من لذّةٍ وعيشٍ نجيحِ )
( عندَ قَرْمٍ من هاشم في ذُرَاها ... وغناءٍ من الغزالِ المليح )
( في سُرورٍ وفي نعيمٍ مُقيمٍ ... قد أمِنَّا من كلِّ أمرٍ قبيحِ )
( فاسْلُ عنا كما سَلَوْناكَ إنّي ... غيرُ سالٍ عن ذاتِ نَفْسي ورُوحِي )
( حافظٌ منك كلَّ ما كنْتَ قد ضَيْتيَعْتَ ... مما عصيْتُ فيه نصيحي )
( فالقِلَى ما حَيِيتَ منِّي لك الدِّهرَ ... بوُدٍّ لمُنْيتِي ممنوحِ )
( يابنَ رامينَ فالزَمَنْ مَسْجِدَ الحَيْيِ ... وطُولَ الصَّلاة والتَّسبيحِ )
قال عمرو بن نوفل فلم يدع ابن رامين شريفاً بالكوفة إلاّ تحمل به على ابن الأشعث وأن يرضى عنه ويعاود زيارته فلم يفعل حتى تحمل عليه بالجحواني وهو محمد بن بشر بن جحوان الأسدي وكان يومئذ على الكوفة فكلمه فرضي عنه ورجع إلى زيارته ولم يقطع منزل زريق
وقال في سحيقة وافر
( سحيقةُ أنتِ واحدة القيانِ ... فما لكِ مُشْبهٌ فيهنَّ ثانِ )
( فَضَلْتِ على القيان بفَضلِ حِذقٍ ... فحُزْتِ على المدى قَصَبَ الرِّهان )
( سجدْنَ لكِ القيانُ مكفِّراتٍ ... كما سجدَ المجوسُ لمرزُبانِ )
( ولا سِيَمَا إذا غنَّيْتِ صوتاً ... وحَرَّكْتِ المَثالث والمثانِي )

( شرِبتُ الخمرَ حتَّى خلْتُ أنِّي ... أبو قابوسَ أو عَبدُ المَدَانِ )
( فإعمال اليَسارِ على المَلاوِي ... ومِن يُمْناكِ ترجمةُ البيان )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان عن حماد عن أبيه قال كان روح بن حاتم المهلبي كثير الغشيان لمنزل ابن رامين وكان يختلف إلى الزرقاء جارية ابن رامين وكان يهواها محمد بن جميل وتهواه فقال لها إن روح بن حاتم قد ثقل علينا
قالت فما أصنع قد غمر مولاي ببره فقال احتالي له
فبات عندهم روح ليلة فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته فلما أصبح سأل عنه فقالت غسلناه
ففطن أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله فاستحيا من ذلك وانقطع عنها وخلا وجهها لابن جميل
قال هارون وأخبرني حماد عن أبيه قال إن رامين اسمه عبد الملك بن رامين مولى عبد الملك بن بشر بن مروان
وجواريه سعدة وربيحة وسلامة الزرقاء
وفيهن يقول إسماعيل بن عمار الأسدي وأنشدناه الحرمي عن الزبير عن عمه وروايته أتم - بسيط -
( هَل مِن شفاءٍ لقلبٍ لَجَّ مَحزونِ ... صَبَا وصبٍّ إلى رِيم ابن رامينِ )
( إلى رُبَيحة إنَّ الله فضَّلَها ... بحُسنها وسَماعٍ ذي أفانينِ )

( نَعَمْ شفاؤك منها أن تقولَ لها ... قَتَلْتِنِي يومَ دَير اللُّجِّ فاحِييني )
( أنتِ الطبيبُ لداءٍ قد تَلبَّسَ بي ... من الجوَى فانفُثي في فيَّ وارقِيني )
( نفسِي تأبَّى لكمْ إلاّ طَوَاعية ... وأنتِ تَحْمَيْنَ أنفاً أن تُطيعيني )
( فتلك قسمةُ ضِيَزى قد سمعْتُ بها ... وأنتِ تَتْلِينها ما ذاك في الدين )
( ما عائِذُ الله لي إلفٌ ولا وطنٌ ... ولا ابنُ رامينَ لولا ما يمنِّيني )
( يا ربِّ ما لابن رامينٍ له بَقَرٌ ... عِينٌ وليس لنا غيرُ البراذينِ )
( لو شئْتَ أعطيْتَه مالاً على قدَرٍ ... يَرضَى به منكَ غيرَ الخُرَّدِ العِينِ )
( لِعائِذِ الله بيتٌ ما مررْتُ به ... إلاَّوُجِئتُ على قلبي بسِكِّينِ )
( يا سَعدةُ القينةُ البيضاءُ أنتِ لنا ... أُنسٌ لأنَّكِ في دار ابن رامينِ )
( لا تَحْسَبِنَّ بياضَ الجِصِّ يؤنسني ... وأنتِ كنْتِ كمثل الخَزِّ في اللينِ )
( لولا رُبَيْحَة ما استأنسْتُ ما عَمَدتْ ... نفسي إليكِ ولو مُثِّلْتِ في طينِ )
( لم أنسَ سَعْدَة والزّرقاءَ يومَهما ... باللُّجّ شرقيَّه فوقَ الدَّكاكين )
( تُغنَّيانِ ابنَ رامينٍ ضَحَاءَهما ... بالمَسْجِحِيِّ وتشبيبِ المحبِّينِ )

( فما دَعوْتُ به من عيش مَمْلكةٍ ... ولم نَعِشْ يومَنا عيشَ المساكينِ )
( أذاكَ أنْعَمُ أم يومٌ ظلِلْتُ به ... منعَّمَ العيشِ في سُتانِ سُورِين )
( يشوي لنا الشَّيخ سُورِينٌ دواجِنَه ... بالجَرْدَناجِ وسحاجِ الشقابين )
( نُسقَى شراباً لعمرانٍ يعتِّقه ... يُمسِي الأصحّاءُ منه كالمجانين )
يعني عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله
( إذا ذكرنا صلاة بَعدما فَرَطَتْ ... قُمْنا إليها بلا عقلٍ ولا دين )
( نمشِي إليها بِطاءً لا حَراكَ بنا ... كأنَّ أرْجُلَنا تُقْلَعْنَ من طينِ )
( نمشِي وأرجُلنا عُوْجٌ مطارِحُها ... مَشْيَ الإِوَزِّ التي تأتي من الصينِ )
( أو مَشْيَ عُميانِ دِيْرٍ لا دليلَ لهمْ ... إلاّ العصيُّ إلى عِيد السَّعانينِ )
وقال فيه أيضا - خفيف -
( لابن رامينَ خُرَّدٌ كَمَهَا الرَّمْلِ ... حِسانٌ وليس لي غير بَغْلِ )
( ربِّ فضَّلْتَه عليَّ ولو شئتَ ... لفضَّلتني عليه بفَضْلِ )
قال حماد وأخبرني أبي قال حدّثني السكوني أنّ جعفر بن سليمان اشترى ربيحة بمائة ألف درهم واشترى صالحٌ ابن عليّ سعدة بتسعين ألف درهم واشترى معن بن زائدة الزرقاء
قال مؤلف هذا الكتاب هذا خطأ الزّرقاء اشتراها جعفر بن سليمان ولعلَ معنا اشترى غيرها
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي

ابن الحسن الشيباني عن عبد الملك بن ثوبان قال قال إسماعيل بن عمار كنت أختلف إلى منزل ابن رامين فأسمع جاريتيه الزرقاء وسعدة وكانت سعدة أظرف من الزرقاء فأعجبت بها وعلمت ذلك مني وكانت سعدة كاتبة فكتبت إليها أشكو ما ألقى بها فوعدتني فكتبت إليها رقعة مع بعض خدمهم - بسيط -
( يا ربِّ إنَّ ابن رَامينٍ له بَقَرٌ ... عِينٌ وليس لنا غيرُ البراذِينِ )
وذكر الأبيات الماضية
قال فجاءني الخادم وقال ما زالت تقرأ رقعتك وتضحك من قولك
( فإن تجودي بذاك الشيءِ أحْيَ بهِ ... وإنْ بَخِلْتِ به عنِّي فزَنِّيْنِي )
وكتبت إلي حاشاك من أن أزنيك ولكني أسير إليك فأغنيك وألهيك وأرضيك
وصارت إلي فأرضتني بعد ذلك
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الحسين بن محمد الحراني وأخبرني الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن جعفر بن سليمان اشترى الزرقاء صاحبة ابن رامين بثمانين ألف درهم وسترها عن أبيه وأبوه يومئذ على البصرة في خلافة المنصور وقد تحرك في تلك الأيام عبد الله بن علي فهجم عليهما يوماً سليمان بن علي فأخفيا العود تحت السرير ودخل فقال له ويحك نحن على هذه الحال نتوقع الصيلم وأنت تشتري جارية بثمانين ألف درهم وأظهر له غضباً عليه وتسخطاً لما فعل فغمز خادماً كان على رأسه فأخرجها إلى سليمان فأكبت على رأسه فقبلته ودعت له وكانت عاقلة مقبولة متكلمة فأعجبه ما رأى منها وقام عنهما فلم يعد لمعاتبة ابنه بعد ذلك
قال ولما مضت لها مدة عند جعفر سألها يوماً هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه فقالت لا والله إلا يزيد بن عون العبادي الصيرفي فإنه قبلني قبلة

وقذف في فيَّ لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم
فلم يزل جعفر يحتال له ويطلبه حتى وقع في يده فضربه بالسياط حتى مات
قال هارون وحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو عوف الدوسي عن عبد الرحمن بن مقرن قال كتبت إلى ابن رامين أستأذنه في إتيانه فكتب إلي قد سبقك روح بن حاتم فإن كنت لا تحتشم منه فرح
فرحت فكنا كأننا فرسا رهان والتقينا فعانقني وقال لي أنى تريد قلت حيث أردت
قال فالحمد لله
فدخلنا فخرجت الزرقاء في إزار ورداء قوهيين موردين كأن الشمس طالعة من بين رأسها وكتفيها فغنتنا ساعة ثم جاء الخادم الذي يأذن لها وكان الإذن عليها دون مولاها فقام دون الباب وهي تغني حتى إذا قطعت نظرت إليه فقالت من فقال يزيد بن عون العبادي الصيرفي الملقب بالماجن على الباب
فقالت أدخله
فلما استقبلها كفر ثم أقعى بين يديها
قال فوجدت والله له ورأيت أثر ذلك وتنوقت تنوقاً خلاف ما كانت تفعل بنا
فأدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين وقال انظري يا زرقاء جعلت فداك ثم حلف أنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم
فقالت فما أصنع بذلك قال أردت أن تعلمي
فغنت صوتاً ثم قالت يا ماجن هبها لي ويحك
قال إن شئت والله فعلت
قالت قد شئت
قال واليمين التي حلفت بها لازمة لي إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتي
قال فذهب روح يتسرع إليه فقالت له ألك في بيت القوم حاجة قال نعم
فقلت إنما يتكسبون مما ترى
وقام ابن رامين فقال ضع لي يا غلام ماء
ثم خرج عنا فقالت هاتهما
فمشى على ركبتيه وكفيه

وهما بين شفتيه
فقال هاك
فلما ذهبت بشفتيها جعل يصد عنها يميناً وشمالاً ليستكثر منها فغمزت جارية على رأسها فخرجت كأنها تريد حاجة ثم عطفت عليه فلما دنا منها وذهب ليزوغ دفعت منكبيه وأمسكتهما حتى أخذت الزرقاء اللؤلؤتين بشفتيها من فمه ورشح جبينها حياء مناً
ثم تجلدت علينا فأقبلت عليه فقالت له المغبون في استه عود فقال أما أنا فما أبالي لا يزال طيب هذه الرائحة في أنفي وفمي أبداً ما حييت
قال هارون وحدثني ابن النطاح عن المدائني عن علي بن أبي سليمان عن أبي عبد الله القرشي عن أبي زاهر بن أبي الصباح قال أتيت منزل ابن رامين مع رجل من قريش فأخرج الزرقاء وسعدة فقام القرشي ليبول وترك مطرفه فلبسته سعدة وخرجت فرجع القرشي وعليها المطرف قد خاطته فصار درعاً فقالت أرأيتم أسرع من هذا صار المطرف درعاً فقال القرشي هو لك
قال وعلي طيلسان مثنى فأردت أن أبول فلففته وقمت فقالت سعدة دع طيلسانك
فقلت لا أدعه أخاف أن يتحول مطرفاً
وحدثني قبيصة بن معاوية قال قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي شربت زرقاء ابن رامين دواءً فأهدى لها ابن المقفع ألف دراجة على جمل قراسي
قال هارون وحدثني حماد عن أبيه أن محمد بن جميل كان يتعشق الزرقاء وكان أبوه جميل يغدو كل يوم يسأل من يقدم عن ابنه محمد إلى أن مر به صديق له يكنى أبا ياسر فسأله عنه فقال له أبو ياسر تركته أعظم الناس قدرا يعامل الخليفة كل يوم في خراجه فيحتاج إليه ولده وصاحب شرطته وصاحب حرسه وخدمه
فقال

له يا أخي فكيف بهذه الجارية التي قد شهر بها فقال له الرجل لا تهتم بها قد مازحه أمير المؤمنين فيها وخاطبه بشعر قيل فيه
قال وما هو قال - سريع -
( وابنُ جميلٍ فاعلموا عاجلاً ... لا بدّ موقوف على مَسْطَبَهْ )
( يُوقَف في زرقاءَ مشهورةٍ ... تُجِيد ضَرْبَ العُود والعَرْطَبَهْ )
فقال جميل والله ما بي من هذا الأمر إلا أني أتخوف أن يكون قد شهر بها هذه الشُّهرَةَ ولم ينكها
قال هارون وأحسب هذه القصة لزرقاء الزراد لا زرقاء ابن رامين
قال هارون وحدثني أبو أيوب قال حدثني محمد بن سلام قال اجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفع فلما تغنت الزرقاء وسعدة بعث معن إليها بدرة فصبت بين يديها فبعث روح إليها أخرى فصبت بين يديها ولم يكن عند ابن المقفع دراهم فبعث فجاء بصك ضيعته وقال هذه عهدة ضيعتي خذيها فأما الدراهم فما عندي منها شيء
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا فضل اليزيدي قال حدثني إسحاق الموصلي قال قال سليمان الخشاب دخلت منزل ابن رامين فرأيت الزرقاء جاريته وهي وصيفة حين شال نهودها ثوبها عن صدرها لها شارب كأنه خط بمسك يلحظه الطرف ويقصر عنه الوصف وابن الأشعث الكوفي يلقي عليها والغناء له - سريع -
( ايّةُ حالٍ يا ابنَ رامين ... حالُ المحبِّين المساكين )
( تَرَكْتَهُمْ موتَى وما مَوَّتوا ... قد جُرِّعوا منكَ الأمَرِّين )

( وسِرْتُ في رَكْبٍ على طِيّةٍ ... ركبٍ تَهَامٍ ويَمانِين )
( يا راعيَ الذَّود لقد رُعْتَنا ... ويلَكَ من رَوْعِ المحبِّين )
( فَرَّقْتَ جمعاً لا يُرَى مثلُهُمْ ... فَجَّعتهمْ بالرَّبرب العِين )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد الزيات قال قال أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل كان ابن رامين مولى الزرقاء أجل مقين بالكوفة وأكبرهم ورامين أبوه مولى بشر بن مروان
قال هارون فحدثني سليمان المديني قال قال حماد بن إسحاق قال أبي قال معاذ بن الطبيب أتيت ابن رامين وعنده جواريه الزرقاء وصواحباتها وعندهن فتى حسن الوجه نظيف الثياب عطر الريح يلقي عليهن فسألت عنه فقيل لي هذا محمد بن الأشعث بن فجوة الزهري
فمضيت به إلى منزلي وسألته المقام ففعل وأتيته بطعام وشراب وغنيته أصواتا من غناء أهل الحجاز فسألني أن ألقيها عليه فقلت نعم وكرامة وحباً على أن تلقي عليَّ أصواتا من صنعتك ألتذ بها وأقطع طريقي بروايتها وأطرف أهل بلدي بها
ففعلت وفعل فكان مما أخذته عنه من صنعته - رمل -
صوت
( صاحِ إنِّي عادَ لي ما ذَهَبا ... مِن هوىً هاجَ لقلبي طَرَبا )
( أذكَرتني الشَّوق سَلاّمةُ أن ... لم أكُنْ قضيْتُ منها أرَبا )
( وإذا ما لامَ فيها لائمٌ ... زاد في قلبي لحبِّي عجبا )
( مِن ذَوات الدَّلِّ لو دبَّ على ... جِلدها الذَّرُّ لأبدَى نَدَبا )

الغناء لمحمد بن الأشعث ثقيل أول عن الهشامي
وفيه ليونس خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وذكر أحمد بن عبيد أن فيه لحناً من الثقيل الثاني لا يدرى لمن هو
قال ومنها طويل

صوت
( لِذِكْرِ الحبيبِ النَّازحِ المتعتِّبِ ... طرِبْتُ ومَن يَعرِضْ له الشوق يَطْرَبِ )
لحنه رمل
وقال منها - طويل -
صوت
( خليليَّ عُوجا ساعةً ثم سلِّما ... على زَينبٍ سَقْياً ورَعْياً لزينبِ )
لحنه رمل
وقال منها - مجزوء الكامل -
صوت
( رَحُبَتْ بلادُك يا أمامهْ ... وسَلِمْتِ ما سَجَعَتْ حَمَامَهْ )
( وسقَى ديارَك كلَّما ... حَنَّت إلى السُّقيا غَمَامَهْ )
( إنِّي وإن أقصَيتني ... سَفَهاً أحبُّ لكِ الكرامهْ )
( وأَرى أمورَكِ طاعةً ... مفروضةً حتّى القيامه )
لحنه خفيف رملٍ
قال ومنها - مجزوء الرجز -
صوت
( ما بالمَغَاني مِن أحَدْ ... إلاّ حماماتٌ فُرُدَ )

( أضحت خَلاءً دُرَّساً ... للرِّيح فيها مُطَّرَدْ )
( عهدِي بها فيما مَضَى ... ينتابُها بِيْضٌ خُرُدْ )
( فاستبدلَتْ وَحشاً بهمْ ... والوُرْق تدعو والصُّرَد )
لحنه هزج
قال ومنها

صوت مجزوء الرمل
( ليتَ من طَيَّرَ نومي ... ردَّ في عيني المناما )
( أو شَفَى جسماً سقيماً ... زاده الهجرُ سَقَاما )
( نظرَتْ عيني إليها ... نَظرَةً هاجتْ غَراما )
( تركَتْ قلبي حزيناً ... بهواها مُستَهاما )
لحنه رمل
قال ابن الطبيب وأخذت منه مع هذه أصواتاً كثيرة ورأيت الناس بعد ذلك ينسبونها إلى قدماء المغنين
قال هارون وحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني إسماعيل بن جعفر بن سليمان أن الزرقاء صاحبة ابن رامين صارت إلى أبيه وكان يقال لها أم عثمان
وأن ربيحة جارية ابن رامين صارت إلى محمد بن سليمان وكانت حظية عنده
قال إسماعيل فأتى سليمان بن علي ابنه جعفراً فأخرج إليه الزرقاء فقال لها سليمان غنيني
قالت أي شيءٍ تحب قال غنيني - مجزوء الوافر

( إذا ما أمُّ عبدِ اللَّهِ لم تَحْلُلْ بِواديهِ )
( ولم تَشْفِ سقيماً هَيْيَجَ ... الحُزن دواعيهِ )
فقالت فديتك قد ترك الناس ذا منذ زمان
ثم غنته إياه
قال إسماعيل قد مات سليمان منذ ثلاث وسبعين سنة وينبغي أن يكون رأى الزرقاء قبل موته بسنتين أو ثلاث
قال وقالت هي قد ترك الناس هذا منذ زمان
فهذا من أقدم ما يكون من الغناء
قال هارون وقال شراعة بن الزندبوذ - بسيط -
( قالوا شُرَاعَةُ عِنِّينٌ فقلْتُ لهمْ ... الله يعلمُ أنِّي غيرُ عِنِّينِ )
( فإنْ أبيتمْ وقلتمْ مثلَ قولِهِمٌ ... فأقحِمونِيَ في دارِ ابنِ رامين )
( ثم انظروا كيفَ طَعْنِي عند مُعَتركي ... في حِرِ مَنْ كنتُ أرميها وتَرميني )
قال هارون وحدثني أبو أيوب المديني عن أحمد بن إبراهيم قال قال بعض المدنيين أتيت منزل ابن رامين فوجدت عنده جارية قد رفع ثديها قميصاً لها شارب أخضر ممتد على شفتيها امتداد الطراز كأنما خطت طرتها وحاجباها بقلم لا يلحقها في ضرب من ضروب حسنها وصف واصف فسألت عن اسمها فقيل هذه الزرقاء

نسبة الصوت الذي في الخبر صوت مجزوء الوافر
( إذا ما أمُّ عبدِ اللَّهِ لم تَحْلُلْ بِواديهِ )
( ولم تَشْفِ سقيماً هَيْيَجَ الحُزْن دُواعيهِ )

( غَزالٌ راعَه القَنَّاصُ ... تحميه صَواصيه )
( عَرَفْتُ الربعَ بالإِكليلِ ... عَفَّتْهُ سوافيهِ )
( بجوٍّ ناعِم الحَوْذانِ ... مُلتفٍّ رَوَابيه )
( وما ذِكري حبيباً وقليلاً ما أُواتيهِ )
( كذِي الخمرِ تمَنَّاها ... وقد أسْرَفَ ساقِيهِ )
ذكر الزبير بن بكار أن الشعر لعدي بن نوفل وقيل إنه للنعمان بن بشير الأنصاري وذاك أصح
وقد أخرجت أخبار النعمان فيه مفردة في موضع آخر
وذكرت القصيدة بأسرها
ورواها ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني للنعمان ولم يذكر أنها لعدي غير الزبير بن بكار
والغناء فيما ذكر عمرو بن بانة لمعبد خفيف رمل بالوسطى
وذكر إسحاق أن فيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر يمان
وفيه للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي في الأول والثاني والرابع والخامس

6 -

نسب عدي بن نوفل وخبره
هو عدي بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي
وأمه آمنة بنت جابر بن سفيان أخت تأبط شراً
وكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه استعمله أو عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أخبرنا به الطوسي عن الزبير بن بكار على حضرموت
قال الزبير ودار عدي بن نوفل بين المسجد والسوق معروفة وفيها يقول إسماعيل بن يسار النسائي - خفيف -
( إنّ مَمْشاكِ نحوَ دارِ عَديٍّ ... كان للقلب شِقْوةً وفُتونا )
( إذْ تراءت على البَلاط فلمَّا ... واجَهْتَها كالشَّمس تُعشِي العُيونا )
( قال هارونُ قِفْ فيا ليتَ أنِّي ... كنتُ طاوعْتُ ساعةً هارونا )
وقد قيل إن هذه الأبيات لعمر بن أبي ربيعة

قال الزبير كان تحت عدي بن نوفل أم عبد الله بنت أبي البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى فغاب مدة وكتب إليها أن تشخص إليه فلم تفعل فكتب إليها قوله - مجزوء الوافر -
( إذا ما أمُّ عبدِ اللَّهِ ... لم تَحْلُلْ بِواديهِ )
وذكر البيتين فقط فقال لها أخوها الأسود بن أبي البختري وهما لأب وأم أمهما عاتكة بنت أمية بن الحارث بن أسد بن عبد العزى قد بلغ الأمر هذا من ابن عمك
فاشخصي إليه

صوت متقارب
( أعينيِّ جُوْدَا ولا تَجْمُدَا ... ألاَ تبكيانِ لصَخْرِ النَّدَى )
( ألا تبكيانِ الجَرِيَّ الجميلَ ... ألا تبكيانِ الفتَى السيِّدا )
الشعر للخنساء بنت عمرو بن الشريد ترثي أخاها صخراً والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي وحبش

7 -

نسب الخنساء وخبرها وخبر مقتل أخويها صخر ومعاوية
هي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
واسمها تماضر
والخنساء لقب غلب عليها وفيها يقول دريد بن الصمة وكان خطبها فردته وكان رآها تهنأ بعيراً - كامل -
( حَيُّوا تُماضِرَ واربَعُوا صحبي ... وقِفُوا فإنَّ وقوفَكُمْ حسبِي )

( أخُناسُ قد هامَ الفؤادُ بكمْ ... وأصابه تَبْل من الحُبِّ )
( ما إن رايْتُ ولا سمِعْتُ بهِ ... كاليومِ طاليَ أَيْنُقٍ جُرْبِ )
( متبذِّلاً تبدو محاسنُه ... يَضع الهِناءَ مواضع النُّقْبِ )
قال أبو عبيدة ومحمد بن سلام لما خطبها دريد بعثت خادماً لها وقالت انظري إليه إذا بال فإن كان بوله يخرق الأرض ويخد فيها ففيه بقية وإن كان بوله يسيح على وجهها فلا بقية فيه
فرجعت إليها وأخبرتها فقالت لا بقية في هذا
فأرسلت إليه ما كنت لأدع بني عمي وهم مثل عوالي الرماح وأتزوج شيخاً فقال - وافر -
( وقاكِ الله يا ابنةَ آل عمروٍ ... مِن الفتيانِ أشباهي ونَفْسِي )
( وقالت إنّني شيْخٌ كبيرٌ ... وما نَبّأْتُها أنِّي ابنُ أمس )
( فلا تلِدِي ولا يَنكحْكِ مثلي ... إذا ما ليلة طرَقَتْ بِنَحْسِ )
( تريدُ شَرَنْبَثَ القَدَمَيْنِ شَثْناً ... يُباشِر بالعَشيّة كلَّ كِرْسِ )
فقالت الخنساء تُجيبه - وافر

( مَعَاذ اللهِ يَنْكِحُني حَبَرْكَى ... يقال أبوه من جُشَمَ بنِ بكْرِ )
( ولو أصبحْتُ في جُشَمٍ هَدِيّاً ... إذاً أصبحْتُ في دَنَس وفَقْرِ )
وهذا الشعر ترثي به أخاها صخراً وقتله زيد بن ثور الأسدي يوم ذي الأثل
أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة وأضفت إليه رواية الأثرم عن أبي عبيدة قال غزا صخر بن عمرو وأنس ابن عباس الرعلي في بني سليم بني أسد بن خزيمة قال أبو عبيدة وزعم السلمي أن هذا اليوم يقال له يوم الكلاب ويوم ذي الأثل في بني عوف وبني خفاف وكانا متساندين وعلى بني خفاف صخر بن عمرو الشريدي وعلى بني عوف أنس بن عباس
قال فأصابوا في بني أسد بن خزيمة غنائم وسبياً وأخذ صخر يومئذ بديلة امرأة
قال وأصابت صخراً يومئذ طعنة طعنه رجل يقال له ربيعة بن ثور ويكنى أبا ثور فأدخل جوفه حلقاً من الدرع فاندمل عليه حتى شق عنه بعد سنين وكان سبب موته
قال أبو عبيدة وقال غيره بل ورد هو وبلعاء بن قيس الكناني
قال وكانا

أجمل رجلين في العرب
قال فشربا عند يهودي خمار كان بالمدينة
قال فحسدهما لما رأى من جمالهما وهيئتهما وقال إني لأحسد العرب أن يكون فيهم مثل هذين فسقاهما شربة جوياً منها
قال فمر بصخر طبيب بعد ما طال مرضه فأراه ما به فقال أشق عنك فتفيق
قال فعمد إلى شفار فجعل يحميها ثم يشق بها عنه فلم ينشب أن مات
قال أبو عبيدة وأما أبو بلال بن سهم فإنه قال اكتسح صخر أموال بني أسد وسبي نساءهم فأتاهم الصريخ فتبعوه فتلاحقوا بذات الأثل فاقتتلوا قتالاً شديداً فطعن ربيعة بن ثور الأسدي صخراً في جنبه وفات القوم فلم يقعص وجوي منها ومرض قريباً من حول حتى مله أهله
قال فسمع صخر امرأة وهي تسأل سلمى امرأة صخر كيف بعلك فقالت سلمى لا حي فيرجى ولا ميت فينعى لقينا منه الأمرين قال وزعم آخر أن التي قالت هذه المقالة بديلة الأسدية التي كان سباها من بني أسد فاتخذها لنفسه
فأنشد هذا البيت - طويل -
( ألا تِلْكُمُ عِرْسي بُدَيلةُ أوجَسَتْ ... فِراقي ومَلَّتْ مَضجَعي ومكاني )
وأما أبو بلال بن سهم فزعم أن صخراً حين سمع مقالة سلمى امرأته قال - طويل -
( أرى أمَّ صخرٍ لا تَمَلُّ عيادتي ... ومَلَّتْ سُليمَى مَضجعِي ومَكانِي )

( وما كنتُ أخشى أن أكونَ جِنازةً ... عليكِ ومَن يغتُّر بالحَدَثَان )
( أهُمُّ بأمر الحَزْم لو أستطيعُهُ ... وقد حِيلَ بين العَيْرِ والنَّزَوان )
( لَعَمري لقد نَبَّهْتِ مَن كان نائماً ... وأسْمعتِ مَن كانت لهُ أُذُنان )
( ولَلْمَوْتُ خَيرٌ من حياةٍ كأنَّها ... مَحَلَّةُ يَعْسوبٍ برأس سِنانِ )
( وأيُّ امرىءٍ ساوَى بأمٍّ حليلةً ... فلا عاشَ إلاّ في شَقاً وهَوان )
فلما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة مثل اللبد في جنبه في موضع الطعنة قالوا له لو قطعتها لرجونا أن تبرأ
فقال شأنكم
فأشفق عليه بعضهم فنهاهم فأبى وقال الموت أهون علي مما أنا فيه فأحموا له شفرة ثم قطعوها فيئس من نفسه
قال وسمع صخر أخته الخنساء تقول كيف كان صبره فقال صخر في ذلك - طويل -
( أجارتَنا إِنّ الخطوبَ تنُوْبُ ... على النَّاس كلَّ المخطئين تُصِيبُ )
( فإن تسأليني هَلْ صبرتَ فإِنَّني ... صَبُوْرٌ على رَيْبِ الزمانِ صَليبُ )

( كأنِّي وقد أَدْنَوْا إِليّ شِفارَهمْ ... من الصَّبر دامي الصَّفْحتينِ رَكوبُ )
( أجارَتَنا لَسْتُ الغداةَ بظاعنٍ ... ولكنْ مقيمٌ ما أقامَ عسيبُ )
عن أبي عبيدة عسيب جبل بأرض بني سليم إلى جنب المدينة فقبره هناك معلم
وقال أبو عبيدة فمات فدفن هناك فقبره قريب من عسيب
فقالت الخنساء ترثيه - متقارب -
( ألا ما لِعَيْنِكَ أم ما لَها ... لقد أخضَل الدَّمعُ سِرْبالهَا )
( أبَعْدَ ابنِ عمروٍ مِن آل الشَّريدِ ... حَلَّتْ به الأرض أثقالَها )
( فإنْ تَكُ مُرَّةُ أودَتْ به ... فقد كان يُكْثِر تَقتالهَا )
( سَأَحْمِلُ نفسي على خُطّةٍ ... فإمّا عليها وإمّا لها )
( فإنْ تصبرِ النَّفسُ تَلْقَ السُّرورَ ... وإنْ تجزعِ النفسُ أشقَى لها )
غنّى فيه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر
قال السلمي ليست هذه في صخر هذه إنّما رثت بها معاوية أخاها وبنو مرة قتلته
ولكنها قالت في صخر - بسيط

( قَذىً بعينِكَ أم بالعَين عُوَّارُ ... أم أقفرَتْ إذْ خلَتْ من أهلها الدارُ )
( تبكي لصخرٍ هي العَبْرَى وقد ثَكِلَتْ ... ودونَه من جَديد التّرْب أستارُ )
( لا بدَّ من مِيتةٍ في صَرْفها غِيَرٌ ... والدَّهرُ في صَرْفه حَوْلٌ وأطوارُ )
( يا صخرُ وَرّادَ ماءٍ قد تناذَرَه ... أهلُ الموارد ما في وِرْده عارُ )
( مَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هيجاءَ مُعضِلةٍ ... له سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ )
( فما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطيْفُ به ... لها حنينانِ إصْغارٌ وإكْبارُ )
( تَرْتَعُ ما رتَعتْ حتّى إذا ادَّكرتْ ... فإِنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ )

( لا تَسْمَنُ الدَّهرَ في أرضٍ وإنْ رتعَتْ ... فإِنَّما هي تَحنانٌ وتَسجار )
( يوماً بأوجَدَ منِّي يومَ فارقَني ... صخرٌ وللدَّهرِ إحلاءٌ وإمرار )
( فإِنَّ صخراً لَوَالِينا وسيِّدُنا ... وإنّ صخراً إذا نَشتُو لنحَّار )
( وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهُداةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسه نارُ )
غنّى في هذين البيتين الأولين ابن سريج من رواية يونس
( لم تَرْأَهُ جارةٌ يمشي بساحَتها ... لِريْبةٍ حِين يُخلِي بيتَه الجارُ )
( ولا تراه وما في البيت يأكلُه ... لكنَّه بارزٌ بالصَّحن مِهمارُ )
( مثلُ الرُّدَينيِّ لم تنفَدْ شبيبَتُهُ ... كأنّه تحتَ طَيِّ البُرْد أُسْوارُ )

( في جوفِ رَمْسٍ مُقيم قد تضمَّنَه ... في رمسِهِ مُقْمَطِرَّاتٌ وأحجار )
( طَلْق اليدين بِفعلِ الخير ذو فَجَرٍ ... ضَخْم الدَّسيعة بالخيرات أمّار )
( وَرُفقةٍ حارَ هاديهمْ بِمَهْلِكَةٍ ... كأنَّ ظلمتَها في الطَّخيةِ القار )
عروضه ثان من البسيط
العوار والعائر وجع وهو مثل الرمد
وذرفت قطرت قطراً متتابعاً لا يبلغ أن يكون سيلاً
والعبرى يقال امرأة عبرى وعابر
والعبرة سخنة العين
والوله ما يصيب الرجل والمرأة من شدة الجزع على الولد
حول وأطوار أي تحول وتقلب وتصرف
قد تناذره أي أنذر بعضهم بعضاً هوله وصعوبته
ويروى تبادره
وقولها ما في ورده عار أرادت ما في ترك ورده عار أي لا يعير أحد إن عجز عنه من صعوبة ورده
العجول الثكول
والبو أن ينحر ولد الناقة ويؤخذ جلده فيحشى ويدنى من أمه فترأمه
إحلاء وإمرار يقال ما أحلى ولا أمر أي ما أتى بحلوة ولا مرة
والمعنى أن الدهر يأتي بالمشقة والمحبة
كأنه علم في رأسه نار أي إنه مشهور
والعلم الجبل وجمعه أعلام
كأنه تحت طي البرد أسوار أي من لطافة بطنه وهيفه شبيه أسوار من ذهب
والرديني الرمح منسوب إلى ردينة امرأة كانت تقوم الرماح
أي هو معصوب البدن ليس بمهبج منحل
وهذا كله من انتفاخ الجلد والسمن والاسترخاء
وقال أبو عمرو مقمطرات صخور عظام
والأحجار صغار
ذو فجر يتفجر

بالمعروف
والدسيعة العطاء
الطخية من الطخاء وهو الغيم الرقيق الذي يواري النجوم فيتحير الهادي
وقالت الخنساء أيضاً ترثي صخراً - وافر -
( بَكَتْ عيني وعاودَها قَذَاها ... بعُوّارٍ فما تَقْضِي كَراها )
( على صخرٍ وأيُّ فتىً كصخرٍ ... إذا ما النابُ لم تَرأَمْ طَلاها )
الطلا الولد أي لم تعطف عليه من الجدب
( فتَى الفتيانِ ما بلغوا مَدَاها ... ولا يُكدِي إذا بلغتْ كُداها )
( لئن جزِعتْ بنو عمرٍو عليه ... لقد رُزِئت بنو عمرٍو فتاها )
غنى في هذه الأبيات ابنُ جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
وذكر حبش أنّ له أيضاً فيه خفيف رمل بالبنصر
( ترى الشُّمَّ الجَحَاجحَ من سُليم ... وقد بَلّتْ مَدَامعُها لِحاها )
إذا وصف السيد بالشمم فإنه لا يدنو لدناءة ولا يضع لها أنفه
( وخَيلٍ قد كففْتُ بجَوْل خيلٍ ... فدارتْ بين كَبْشَيْها رحاها )

وجوْل خيل جولان
ويقال قطعة خيل تجول أي تذهب وتجيء
( ترفِّع فَضْلَ سابغةٍ دِلاصٍ ... على خَيفانةٍ خَفِقٍ حَشاها )
( وتسعى حينَ تشتجِرُ العوالي ... بكأسِ الموت ساعَةَ مُصْطلاها )
( محافَظَةً ومَحْمِيَةً إذا ما ... نبَا بالقوم من جَزعٍ لظَاها )
( فتتركُها قد اشتجرتْ بطعنٍ ... تضمَّنُه إذا اختلفت كُلاها )
( هُنالك لو نزلْتَ بآل صخرٍ ... قَرَى الأضيافَ سُخْناً من ذُراها )
( فمن للضَّيف إنْ هبّت شَمالٌ ... مُزعزعةٌ يجاوبُها صَداها )
( وألجأ بردُها الأشْوالَ حُدْباً ... إلى الحَجَرات بارزةً كُلاها )
( أمطعِمَكُمْ وحامِلَكُمْ تَرَكْتُمْ ... لدى غَبراءَ منهدمٍ رَجاها )
( لَيَبْكِ عليك قومُك للمعالي ... وللهيْجاءِ إنّك ما فتاها )
( وقد فَوّزْتَ طَلْعَةَ فاستراحتْ ... فليْتَ الخيلَ فارسُها يراها )
وقال خفاف بن عمير يرثي صخراً ومعاوية ابني عمرو ورجالاً منهم أصيبوا - وافر

( تطاول همُّه بِبِراقِ سِعْرٍ ... لذِكراهُمْ وأيُّ أوانِ ذِكرِ )
( كأنَّ النارَ تُخرِجها ثيابي ... وتَدخلُ بعد نومِ الناسِ صدرِي )
( لبَاتت تَضْرِبُ الأمثالَ عندي ... على نابٍ شَرِبْتُ بها وبَكْرِ )
( وتَنْسى مَنْ أُفارقُ غيرَ قالٍ ... وأصبرُ عنهُمُ منْ آل عمرو )
( وهل تدرين أنْ ما رُبَّ خِرْقٍ ... رُزْئتُ مبَّرأً بقِصاصِ وِتر )
( أخِي ثقة إذا الضَّرَّاءُ نابت ... وأهلِ حِبِاءِ أضيافٍ ونَحْرِ )
( كصخرٍ للسَّرِيّة غادروه ... بِذَرْوَةَ أو معاويةَ بن عمرو )
( ومَيْتٍ بالجنَاب أثَلَّ عرشِي ... كصخرٍ أو كعمرٍو أو كبشْر )
( وآخرَ بالنواصِف من هدامٍ ... فقد أودَى وربِّ أبيك صَبري )
( فلم أَرَ مثلَهُمْ حَيّاً لَقَاحاً ... أقاموا بين قاصيةٍ وحَجْر )
( أَشَدَّ على صُروف الدهر إدّاً ... وآمَرَ منهم فيها بصَبر )
( وأكرَم حين ضَنّ الناسُ خِيماً ... وأحمد شِيمةً ونَشِيلَ قِدْر )

( إذا الحسناء لم ترحَضْ يدَيْها ... ولم يُقصَرْ لها بَصَرٌ بِسِتْرِ )
( قَرَوْا أضيافَهُمْ رَبَحَاً ببُحٍّ ... تجيءُ بعبقريِّ الوَدْقِ سُمْرِ )
( رماحُ مثقِّفٍ حَملتْ نِصالاً ... يَلُحْنَ كأنّهنّ نجومُ فَجْر )
( جَلاها الصَّيْقَلُونَ فأخلَصُوها ... مواضيَ كلُّها يَفْري بِبَتْر )
( همُ الأيسارُ إن فَحَطَتْ جُمادَى ... بكلِّ صَبيرِ ساريةٍ وقَطْر )
( يَصُدُّون المُغِيرةَ عن هَواها ... بطعْنٍ يَفلِقُ الهاماتِ شَزْرِ )
( تعلَّمْ أنّ خَيرَ الناسِ طُرّاً ... لِولدانٍ غداةَ الريح غُبْرِ )
( وأرملةٍ ومُعْتَرٍّ مُسِيفٍ ... عديم المال عِجْزَةُ أمِّ صخْر )
ومما رثت به الخنساء صخراً وغني فيه - متقارب -

صوت
( أعَينيَّ جُودا ولا تَجُمدا ... ألا تبكيانِ لصخرِ الندَى )
( ألاَ تَبكيان الجريء الجميلَ ... ألا تبكيان الفتى السيِّدا )

( طويلُ النِّجادِ رفيعُ العِمادِ ... ساد عشيرتَه أمْرَدا )
( إذا القومُ مَدُّوا بأيْدِيهِمُ ... إلى المجد مَدَّ إليه يدا )
( فنال الذي فوقَ أيديهِمُ ... من المجدِ ثمَّ مضى مُصْعِدا )
( يحمِّلُه القومُ ما عالَهمْ ... وإن كان أصغَرَهمْ مَولِدا )
( ترى المجدَ يهوِي إلى بيته ... يرى أفضَلَ المجد أن يُحْمَدَا )
( وإن ذُكر المجدُ ألفيْتَه ... تأزَّرَ بالمجد ثمَّ ارتدَى )
ونذكر الآن هاهنا خبر مقتل معاوية بن عمرو أخيهما إذ كانت أخبارهما وأخبارها يدعو بعضها إلى بعض
قال أبو عبيدة حدثني أبو بلال بن سهم بن عباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور قال غزا معاوية بن عمرو أخو خنساء بني مرة بن سعد بن ذبيان وبني فزارة ومعه خفاف بن عمير بن الحارث وأمه ندبة سوداء وإليها ينسب فاعتوره هاشم ودريد ابنا حرملة المريان
قال ابن الكلبي وحرملة هو حرملة بن الأسعر ابن إياس بن مريطة بن ضمرة بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان
قال أبو عبيدة فاستطرد له أحدهما ثم وقف وشد عليه الآخر فقتله فلما تنادوا قتل معاوية قال

خفاف قتلني الله إن رمت حتى أثأر به فشد على مالك بن حمار الشمخي وكان سيد بني شمخ بن فزارة فقتله قال وهو مالك بن حمار بن حزن بن عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال بن مازن بن فزارة فقال خفاف في ذلك - طويل -
( فإنْ تكُ خيلي قد أُصِيبَ صميمُها ... فعَمْداً على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مالكا )
يعني مالك بن حمار الشمخي
قال أبو عبيدة فأجمل أبو بلال الحديث
قال وأما غيره فذكر أن معاوية وافى عكاظ في موسم من مواسم العرب فبينا هو يمشي بسوق عكاظ إذ لقي أسماء المرية وكانت جميلة وزعم أنها كانت بغياً فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه وقالت أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة فقال أما والله لأقارعنه عنك
قالت شأنك وشأنه
فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما قال معاوية وما قالت له فقال هاشم فلعمري لا يريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده
قال فلما خرج الشهر الحرام وتراجع الناس عن عكاظ خرج معاوية بن عمرو غازياً يريد بني مرة وبني فزارة في فرسان أصحابه من بني سليم حتى إذا كان بمكان يدعى الحوزة أو الجوزة والشك من أبي عبيدة دومت عليه طير وسنح له ظبي فتطير منهما ورجع في أصحابه وبلغ ذلك هاشم بن حرملة فقال ما منعه من الإقدام إلا الجبن قال فلما كانت السنة المقبلة غزاهم حتى إذا كان في ذلك المكان سنح له ظبي وغراب فتطير فرجع ومضى أصحابه وتخلف في تسعة عشر فارساً منهم لا يريدون قتالا إنما تخلف عن عظم الجيش راجعاً إلى بلاده فوردوا ماء وإذا عليه بيت

شعر فصاحوا بأهله فخرجت إليهم امرأة فقالوا ما أنت ممن أنت قالت امرأة من جهينة أحلاف لبني سهم بن مرة بن غطفان
فوردوا الماء يسقون فانسلت فأتت هاشم بن حرملة فأخبرته أنهم غير بعيد وعرفته عدتهم وقالت لا أرى إلا معاوية في القوم
فقال يا لكاع أمعاوية في تسعة عشر رجلاً شبهت أو أبطلت قالت بل قلت الحق ولئن شئت لأصفنهم لك رجلاً رجلا
قال هاتي
قالت رأيت فيهم شاباً عظيم الجمة جبهته قد خرجت من تحت مغفره صبيح الوجه عظيم البطن على فرس غرّاء
قال نعم هذه صفته
يعني معاوية وفرسه الشماء
قالت ورأيت رجلاً شديد الأدمة شاعراً ينشدهم
قال ذلك خفاف بن عمير
قالت ورأيت رجلاً ليس يبرح وسطهم إذا نادوه رفعوا أصواتهم
قال ذاك عباس الأصم
قالت ورأيت رجلاً طويلاً يكنونه أبا حبيب ورأيتهم أشد شيء له توقيراً
قال ذاك نبيشة بن حبيب
قالت ورأيت شاباً جميلاً له وفرة حسنة
قال ذاك العباس بن مرداس السلمي

قالت ورأيت شيخاً له ضفيرتان فسمعته يقول لمعاوية بأبي أنت أطلت الوقوف قال ذاك عبد العزى زوج الخنساء أخت معاوية
قال فنادى هاشم في قومه وخرج وزعم المري أنه لم يخرج إليهم إلا في مثل عدتهم من بني مرة
قال فلم يشعر السلميون حتى طلعوا عليهم فثاروا إليهم فلقوهم فقال لهم خفاف لا تنازلوهم رجلاً رجلاً فإن خيلهم تثبت للطراد وتحمل ثقل السلاح وخيلكم قد أمنها الغزو وأصابها الحفا
قال فاقتتلوا ساعة وانفرد هاشم ودريد ابنا حرملة المريان لمعاوية فاستطرد له أحدهما فشد عليه معاوية وشغله واغتره الآخر فطعنه فقتله
واختلفوا أيهما استطرد له وأيهما قتله وكانت بالذي استطرد له طعنة طعنه إياها معاوية
ويقال هو هاشم
وقال آخرون بل دريد أخو هاشم
قال وشد خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد على مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة فقتله
وقال خفاف في ذلك وهو ابن ندبة وهي أمة سوداء كانت سباها الحارث بن الشريد حين أغار على بني الحارث بن كعب فوهبها لابنه عمير فولدت له خفافا
ويقال في ندبة إنها ابنة الشيطان بن بنان من بني الحارث ابن كعب
فقال - طويل -
( أقولُ له والرمْحُ يأطِرُ مَتْنَهُ ... تأمَّلْ خُفافاً إِنني أنا ذلكا )
( وقفْتُ له جَلْوَى وقد خامَ صُحبتيِ لأَْبِنِيَ مَجْداً أو ِلأَثْأَرَ هالكا )
( لَدُنْ ذرّ قرنُ الشَّمس حين رأيتُهُمْ ... سراعاً على خيلٍ تؤمُّ المسالكا )
( فلمَّا رأيْتُ القومَ لا وُدَّ بينهمْ ... شَرِيجَيْنِ شَتَّى طالباً ومُواشِكا )
( تَيَمَّمْتُ كبشَ القومِ حتّى عَرَفْتُهُ ... وجانَبْتُ شُبّان الرجالِ الصعالِكا )

( فجادت له يُمنى يَدَيَّ بطعْنةٍ ... كسَتْ متنَه ُ من أسودِ اللون حالكا )
( أنا الفارسُ الحامي الحقيقةِ والذي ... به أُدْرِكُ الأَبطال قِدْماً كذلكا )
( فإنْ يَنْجُ منها هاشمٌ فبطعنةٍ ... كَسَتْه نجيعاً من دم الجوفِ صائكاً )
فحقق خفاف في شعره أنّ الذي طعن معاوية هو هاشم بن حرملة
وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية - طويل -
( ألا لا أرى في الناس مثلَ معاويةْ ... إذا طَرَقَتْ إحدى الليالي بداهيهْ )
( بداهيةٍ يُصْغِي الكلابَ حسيْسُها ... وتُخرِج من سِرِّ النجيِّ عَلانيه )
( ألا لا أرى كفارِس الوَرْد فارساً ... إذا ما عَلَتْهُ جُرْأةً وغَلابَيَه )
( وكان لِزازَ الحربِ عند شُبوبها ... إذا شَمَّرت عن ساقها وهي ذاكيه )
( وقَوّادَ خيلٍ نحوَ أخرى كأنّها ... سَعَالٍ وعِقْبانٌ عليها زَبَانيه )
( بلينا وما تُبْلَى تِعَارُ وما تُرى ... على حدث الأيام إلا كما هيه )
( فأقسمْتُ لا ينفكُّ دمعي وعَوْلتِي ... عليكَ بحزنٍ ما دعا الله داعيَه )
وقالت الخنساء في كلمة أخرى ترثيه أيضاً - متقارب -
( ألا ما لعينيكِ أمْ ما لَها ... لقد أخْضَلَ الدمعُ سِرْبالَها )
( أَبَعْدَ ابنِ عمروٍ مِنَ آل الشريدِ ... حَلَّت به الأرضُ أثقالها )

( وأقسمْتُ آسَى على هالكٍ ... وأسألُ نائحةً ما لَهَا )
( سأحملُ نفسي على آلةٍ ... فإِمّا عليها وإِمّا لها )
( نُهِينُ النفوسَ وهُوْن النُّفوسِ ... يومَ الكريهة أبقَى لها )
( ورجراجةٍ فوقَها بيضُها ... عليها المضاعَفُ زِفْنا لها )
( كَكِرْفِئَةِ الغَيْثِ ذات الصَّبِيرِ ... تَرمي السحابَ ويَرمي لها )
( وقافيةٍ مثلِ حدِّ السِّنان ... تبْقَى ويَهلِكُ مَن قالها )
( نطقْتَ ابن عَمرو فسهَّلْتَها ... ولم يَنطِقِ الناسُ أمثالَهَا )
( فإِن تَكُ مُرَّةُ أَوْدَتْ به ... فقد كان يُكْثِرُ تَقْتالها )
( فزالَ الكواكبُ مِن فَقْدِه ... وجُلِّلَتِ الشمسُ أجلالها )
( وداهيةٍ جَرَّها جارمٌ ... تُبِيْلُ الحَواصنَ أَحْبَالهَا )
( كفاها ابنُ عمرٍو ولم يَسْتَعِنْ ... ولو كان غيرُك أدنى لها )
( وليس بأَولَى ولكنَّه ... سيَكفي العشيرةَ ما عالها )

( بمُعْتَرَكٍ ضَيِّق بيْنَه ... تجُرُّ المنيةُ أذيالَهَا )
( وبِيض مَنَعْتَ غَداة الصباحِ ... تكشف للرَّوع أذيالها )
( ومُعْمَلةٍ سُقْتَها قاعداً ... فَأَعْلَمْتَ بالسيف أغفالهَا )
( وناجيةٍ كأتَانِ الثَّمِيلِ ... غادرْتَ بالخَلِّ أوصالها )
( إلى مَلِكٍ لا إلى سُوقة ... وذلك ما كان إعمالهَا )
( وتمنح خيلَك أرضَ العدوِّ ... وتَنبذُ بالغَزْو أطفالَها )
( ونَوْحٍ بَعَثْتَ كمثل الإراخِ ... آنَسَتِ العِينُ أسبالها ) التفسير عن أبي عبيدة
قوله حلت به الأرض قال بعضهم حلت من الحلية أي زينت به الأرض موتاها حين دفن بها
وقال بعضهم حلت من حللت الشيء
والمعنى ألقت مراسيها كأنه كان ثقلاً عليها
قال اللفظ لفظ الاستفهام والمعنى خبر كما قال جرير - وافر -
( ألستم خيرَ مَن ركِب المطايا ... وأندَى العالَمِين بطونَ راحِ )
قال جواب أبعد في آسى أي أبعد ابن عمرو آسى وأسأل نائحة ما لها وقال أبو عبيدة هذا البيت لمية بنت ضرار بن عمرو الضبية ترثي أخاها
قال أبو الحسن

الأثرم سمعت أبا عمرو الشيباني يقول أمور الناس جارية على أذلالها أي على مسالكها واحدها ذل آلة حالة
تقول فإما أن أموت وإما أن أنجو
ولو قالت على ألة لم تنج لأن الألة هي الحربة
هممت بنفسي قال أبو عبيدة هذا توعد
قال الأصمعي كل الهموم
قال الأثرم كأنها أرادت أن تقتل نفسها
أبو عبيدة التكدس التتابع يتبع بعضها بعضاً أي يغزو ويجاهد في الغزو كما تتوقل الوعول في الجبال عن أبي عبيدة
قال الأصمعي التكدس أن تحرك مناكبها إذا مشت وكأنها تنصب إلى بين يديها وإنما وصفتها بهذا
تقول لا تسرع إلى الحرب ولكن تمشي إليها رويداً
وهذا أثبت له من أن يلقاها وهو يركض
ويقال جاء فلان يتكدس وهي مشية من مشي الغلاظ القصار
وقال أبو زياد الكلابي الكداس عطاس الضأن
قال السلمي التكدس تكدس الأوعال وهو التقحم
والتكدس هو أن يرمي بنفسه رمياً شديداً في جريه
نهين النفوس تريد غداة الكريهة
وقولها أبقى لها لأنها إذا تذامرت وغشيت القتال كان أسلم لها من الانهزام
كقول بشر بن أبي خازم - وافر

( ولا يُنجي من الغَمَرات إِلاَّ ... بَراكاءُ القِتال أو الفِرارُ )
قال بعضهم أبقى لها في الذكر وحسن القول
والرجراجة التي تتمخض من كثرتها
وقال الأصمعي الكرفئة وجمعها كرفىء قطع من السحاب بعضها فوق بعض
وقوله ترمي السحاب أي تنضم إليه وتتصل به
ويرمي لها أي ينضم إليها السحاب حتى يستوي
مثل حد السنان لأنها ماضية
سهلتها جئت بها سهلة
وجللت الشمس أي كسفت الشمس وصار عليها مثل الجل
تبيل الحواصن وهي الحوامل من النساء أولادها من شدة الفزع أي ما كان وليها ولا دنا إليها ولكنه يكفي القريب والبعيد
ما عالها قال أبو عمرو عالها غلبها
وقال أبو عبيدة يقال إنه ليعولني ما عالك أي يغمني ما غمك
ويقال افعل كذا وكذا لا يعلك أن تأتي غيره أي لا يعجزك
ويقال قد يعولك أن تفعل كذا أي قد دنا لك أن تفعل
وأنشد - مخلع البسيط -
( ضَرْباً كما تَكَدَّسُ الوُعولُ ... يَعُول أن أُنْبِطَها يَعُولُ )
أي قد دنا ذلك
ويقال عال كذا وكذا منك أي دنا منك
ويروى وليس بأدنى ولكنه
وقولها معملة إبل وقولها قاعداً أي على فرسك
قال النابغة - طويل -
( قُعوداً على آل الوجيهِ ولا حقٍ ... )
والأغفال ما لا سمة عليها واحدها غفل
والأتان الصخرة
والثميل

بقية الماء في الصخرة
والخل الطريق في الرمل
يقول أعيت فتركتها هنالك
ويروى
( غادرْتَ بالنَّخْل أوصالها ... )
قال الأصمعي ناجية سريعة
ويروى إلى ملك وإلى شأنىء
تقول تقود خيلك إلى ملك أو عدو
ويروى ما كان إكلالها
ما صلة
الإراخ بقر الوحش
تقول خرجت من بيوتهن كما خرجت هذه البقر من كنسها فرحاً بالمطر
ومثله في الفرح بالمطر لابن الأحمر قوله - بسيط -
( ماريّةٌ لُؤلُؤانُ اللونِ أَوْرَدَها ... طَلٌّ وبَنَّسَ عنها فَرْقَدٌ خَصِرُ )
أي قوى أنفسها المطر لما رأته
ومثله - وافر -
( ألا هَلكَ امرؤٌ قامَتْ عليه ... بجَنْبِ عُنَيزةَ البَقَرُ الهجودُ )
أي لم يقرن في البيوت فتسترهن البيوت بل هن ظواهر
وإنما شبه اجتماع هؤلاء النساء باجتماع العين وخروجهن للمطر
قال وبقر الوحش تفرح بالمطر
وقال دريد يرثي معاوية أخا الخنساء لما قتلته بنو مرة - وافر -
( ألا بَكَرَتْ تَلُومُ بغير قَدْرِ ... فقد أحْفَيتنِي ودخلْتِ سِترِي )
( فإِنْ لم تَترُكي عَذْلي سَفَاهاً ... تَلُمْكِ عليَّ نفسُكِ أيَّ عَصْرِ )

( أسَرَّكِ أن يكونَ الدهرَ هذا ... عليَّ بشَرِّهِ يغدو ويسري )
( وألاَّ تُرْزَئي نَفْساً ومالاً ... يضرُّك هُلْكُه في طُولِ عمري )
( فقد كذَبَتْكِ نفسُك فاكذبيها ... فإِنْ جزَعٌ وإنْ إجمالُ صبرِ )
( وإِنَّ الرزء يومَ وقفْتُ أدعو ... فلم أُسمِع مُعاويةَ بنَ عمرِو )
( رأيت مكانَه فعَرضْتُ بَدْءاً ... وأيُّ مَقِيلِ رُزْءٍ يا ابنَ بَكْر )
( إِلى إِرَمٍ وأحجارٍ وصِيرٍ ... وأغصانٍ من السَّلَمَاتِ سُمْرِ )
صير الواحدة صيرة وهي حظيرة الغنم
وقوله وأغصان من السلمات أي أُلقيت على قبره
( وبُنيان القبور أتَى عليها ... طَوالُ الدَّهر من سنةٍ وشهرِ )
( ولو أسمعْتِهِ لسَرَى حثيثاً ... سَرِيْعَ السَّعي أو لأتاكِ يجري )
( بشِكّةِ حازمٍ لا عيْبَ فيه ... إذا لبِسَ الكُماةُ جلودَ نُمْرِ )
أي كأنّ ألوانهم ألوان النمور سواد وبياض من السلاح
عن أبي عبيدة
( فإِمَّا تُمْسِ في جَدَثٍ مقيماً ... بمَسْهَكةٍ من الأرواح قَفْرِ )
( فعَزَّ عليَّ هُلكُكَ يا ابنَ عمروٍ ... وما لي عنكَ من عَزْم وصَبْرِ )
قال أبو الحسن الأثرم فلما دخل الشهر الحرام فيما ذكر أبو عبيدة عن أبي بلال بن سهم من السنة المقبلة خرج صخر بن عمرو حتى أتى بني مرة بن عوف ابن ذبيان فوقف على ابني حرملة فإذا أحدهما به طعنة في عضده قال لم يسمه أبو بلال بن سهم
فأما خفاف بن عمير فزعم في كلمته تلك أن المطعون هاشم فقال أيكما قتل أخي معاوية فسكتا فلم يحيرا إليه شيئاً فقال

الصحيح للجريح ما لك لا تجيبه فقال وقفت له فطعنني هذه الطعنة في عضدي وشد أخي عليه فقتله فأينا قتلت أدركت ثأرك إلا أنا لم نسلب أخاك
قال فما فعلت فرسه الشماء قال ها هي تلك خذها
فردها عليه فأخذها ورجع فلما أتى صخر قومه قالوا له اهجهم
قال إن ما بيننا أجل من القذع ولو لم أكفف نفسي إلا رغبة عن الخنا لفعلت
وقال صخر في ذلك - طويل -
( وعاذلةٍ هَبَّتْ بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كَفَى اللومَ ما بيا )
قال أراد تباكره باللوم ولم يرد الليل نفسه إنما أراد عجلتها عليه باللوم كما قال النمر بن تولب العكلي - مديد -
( بَكَرتْ باللَّوم تَلْحانا ... )
وقال غيره تلومه بالليل لشغله بالنهار عنها بفعل المكارم والأضياف والنظر في الحمالات وأمور قومه لأنّه قوامهم - طويل -
( تقولُ ألا تهجو فَوارسَ هاشمٍ ... وما لِيَ إذْ أهجوهُمُ ثم ما ليا )
( أبَى الشتمَ أنِّي قد أصابوا كريمتي ... وأنْ ليس إهداءُ الخَنَا من شِماليا )
أي من شمائلي
ويروى من فعاليا
( إذا ذُكِر الإِخوانُ رقرقْتُ عبرةً ... وحيَّيْتُ رمساً عند لِيَّةَ ثاويا )
( إذا ما امرؤٌ أهدَى لِمَيْتٍ تحيّةً ... فحيّاكَ ربُّ الناس عنِّي معاويا )

( وهوّنَ وجدِي أننّي لم أقلْ له ... كذبْتَ ولم أبخلْ عليه بماليا )
( فَنِعْمَ الفتى أدَّى ابن صِرْمَةَ بزَّه ... إذا الفحلُ أضحى أحدبَ الظَّهرِ عاريا )
قال أبو عبيدة ثم زاد فيها بيتاً بعد أن أوقع بهم فقال
( وذي أخوةٍ قطّعْتُ أقرانَ بينِهِمْ ... كما تَرَكوني واحداً لا أخاليا )
قال أبو عبيدة فلما كان في العام المقبل غزاهم وهو على فرسه الشماء فقال إني أخاف أن يعرفوني ويعرفوا غرة الشماء فيتأهبوا
قال فحمم غرتها
قال فلما أشرفت على أدنى الحيّ رأوها
فقالت فتاة منهم هذه والله الشماء فنظروا فقالوا الشماء غرّاء وهذه بهيم فلم يشعروا إلاّ والخيل دوائس فاقتتلوا فقتل صخر دريداً وأصاب بني مرة فقال - كامل -
( ولقد قتلتُكُمُ ثُناءَ ومَوْحَداً ... وتركْتُ مُرّةَ مثلَ أمسِ المُدْبِرِ )
قال الأثرم مثنى وثناء لا ينونان
قال ابن عنمة الضبي - طويل -
( يُباعُون بالنِّغْرانِ مَثَنى ومَوْحَدا ... )
لا ينونان لأنهما مما صرف عن جهته والوجه أن يقول اثنين اثنين
وكذلك ثلاث ورباع
قال صخر الغي - وافر -
( مَنَتْ لكَ أن تُلاقِيَنِي المنايا ... أُحادَ أُحادَ في الشهر الحلالِ )
قال ولا تجاوز العرب الرباع غير أن الكميت قال - متقارب

( فلم يَسْتريثُوكَ حتّى رميتَ ... فوقَ الرجالِ خِصالاً عُشَارا )
- كامل -
( ولقد دفعْتَ إلى دُرْيدَ بطعنةٍ ... نجلاءَ تُزغِل مثلَ عَطِّ المنحَرِ )
تزغل تخرج الدم قطعاً قطعاً
قال والزغلة الدفعة الواحدة من الدم والبول
قال - سريع -
( فأزغَلَتْ في الحَلْقِ إزغالةً ... )
وقال صخر أيضاً فيمن قتل من بني مرة - وافر -
( قتلْتُ الخالِدَيْنِ به وبشْراً ... وعَمْراً يوم حَوْزةَ وابنَ بشْر )
( ومِن شَمْخٍ قتلْتُ رجالَ صِدْقٍ ... ومن بَدْرٍ فقد أوفيْتُ نذْرِي )
( ومُرّةُ قد صَبَحْناها المنايا ... فروَّيْنا الأسنّةَ غيرَ فَخْر )
( ومِن أفناءِ ثعلبةَ بنِ سعدٍ ... قَتلْتُ وما أبيئهُمُ بِوِتْر )
( ولكنّا نُريد هلاكَ قومٍ ... فنقتلُهُمْ ونشْرِيهِمْ بكَسْرِ )

وقال صخر أيضاً - طويل -
( ألا لا أرى مستعْتِبَ الدَّهر مُعْتِبَا ... ولا آخِذٌ منه الرضا إنْ تَغَضَّبا )
( وذي إخوةٍ قَطَّعْتُ أقرانَ بينِهِمْ ... إذا ما النُّفوسُ صِرْنَ حَسْرَى ولُغَّبا )
( أقولُ لِرَمْسٍ بين أجراعِ بِيْشةٍ ... سقاكَ الغوادي الوابلَ المتحلِّبا )
( لَنِعْمَ الفتى أدّى ابنُ صِرْمَةَ بَزَّه ... إذا الفحلُ أمسى عاريَ الظهر أحدبا )
قال أبو عبيدة ثم إن هاشم بن حرملة خرج غازياً فلما كان ببلاد جشم بن بكر بن هوازن نزل منزلاً وأخذ صفنا وخلا لحاجته بين شجر ورأى غفلته قيس ابن الأصور الجشمي فتبعه وقال هذا قاتل معاوية لا وألت نفسي إن وأل فلما قعد على حاجته تقتر له بين الشجر حتى إذا كان خلفه أرسل إليه معبلة فقتله فقالت الخنساء في ذلك قال ابن الكلبي وهي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن شريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم - وافر -
( فِدىً للفارِس الجُشَمِي نَفْسي ... وأَفْدِيه بمن لي مِن حَميمِ )
( أفدِّيه بجُلّ بني سُلَيْمٍ ... بظاعِنِهم وبالأَنَسِ المُقْيمِ )

( كما مِن هاشمٍ أقررْتُ عيني ... وكانت لا تَنام ولا تُنيم )
قال أبو عبيدة وكان هاشم بن حرملة بن صرمة بن مرة أسود العرب وأشدّهم وله يقول الشاعر - رجز -
( أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمَله ... يومَ الهَبَاتَينِ ويومَ اليَعْمَله )
( يقتلُ ذا الذَّنْبِ ومن لا ذنبَ له ... إذِ الملوكُ حولَه مُغربلهْ )
( وسيفُه للوالدات مثكلهْ ... )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال حدثنا الكسروي عن الأصمعي قال مررت بأعرابي وهو يخضد شجرة وقد أعجبته سماحتها وهو يرتجز ويقول - رجز -
( لو كنتِ إنساناً لكنْتِ حاتمَا ... أو الغلامَ الجُشَميَّ هاشما )
قلت من هاشم هذا قال أو لا تعرفه قلت لا
قال هو الذي يقول - طويل -
( وعاذلةٍ هَبَّتْ بليلٍ تلومُني ... كأَنِّي إذا أنفقْتُ مالي أَضِيمُها )
( دعِيني فإِنّ الجُودَ لن يتلِفَ الفتى ... ولن يُخْلِدَ النفسَ اللئيمةَ لُومُها )
( وتُذكَر أخلاقُ الفتى وعظامُه ... مفرَّقةٌ في القبر بادٍ رميمُها )

( سَلِي كلّ قيسٍ هل أبارِي خيارَها ... ويُعرِض عنِّي وَغْدُها ولئيمُها )
( وتذكرُ فِتيانيِّتِي وتكرمي ... إذا ذُمّ فِتيانيُّها وكريمُها )
قلت لا أعرفه
قال لا عرفت هو الذي يقول فيه الشاعر - رجز -
( أحيا أباه هاشمُ بن حَرمَلَهْ ... يقتُل ذا الذنب ومَن لا ذنبَ لَهْ )
( تَرَى الملوكَ حولَه مُغربَله ... )
صوت بسيط
( تأبد الرّبعُ من سَلْمَى بأحفارِ ... وأقفرتْ من سُليمَى دِمْنَةُ الدّارِ )
( وقد تحُلُّ بها سَلمى تحدّثني ... تَسَاقُطَ الْحَلي حاجاتي وأسراري )
الشعر للأخطل والغناء لعمر الوادي هزج بالسبابة في مجرى الوسطى وفيهما رمل بالبنصر يقال إنه لابن جامع ويقال إنه لغيره وفيهما خفيف رمل بالوسطى ذكر الهشامي أنه لحكم
وذكر حبش أن فيهما لإبراهيم خفيف ثقيل أول بالوسطى
ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
( وشاربٍ مُرْبحٍ بالكأس نادَمَني ... لا بالحَصُور ولا فيها بِسأَّرِ )

( نازعْتُهُ طيِّبَ الراحِ الشَّمولِ وقد ... صاح الدَّجاجُ وحانت وَقعةُ الساري )
( لما أتَوْها بمصباحٍ ومِبزلِهِمْ ... سَمَتْ إليهم سموَّ الأبجل الضارِي )
الغناء في هذه الأبيات لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي
وذكر غيره أنها للدلال
ومنها
( فَرْدٌ تغنِّيه ذِبّانُ الرِّياضِ كما ... غَنَّى الغُواةُ بصَنْجٍ عند أسوارِ )
( كأنَّه من نَدى القُرَّاص مُغْتَمِرٌ ... بالوَرْس أو خارجٌ من بيت عَطّارِ )
غناه ابن سريج ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق
وذكر الهشامي أن لمالك فيه ثقيلاً أولاً
ووافقه يونس في نسبته إلى مالك ولحكم في قوله - بسيط -
( فَرْدٌ تغنِّيه ذِبّانُ الرِّياضِ كما ... )
وبعده قوله
( صَهباء قد عَنَسَتْ من طُولِ ما حُبِسَتْ ... في مُخْدَعٍ بين جناتٍ وأنهارِ )
خفيف ثقيل بالبنصر
ومنها

( لسَكَّنَتْني قريشٌ في ظِلالِهِمُ ... ومَوَّلَتْنِي قريشٌ بعد إقتارِ )
( قومٌ إذا حاربوا شَدُّوا مآزرَهُمْ ... عن النِّساء ولو باتتْ بأطهارِ )
ليونس فيها لحن من كتابه ولم يجنسه
وهذه القصيدة مدح بها الأخطل يزيد بن معاوية لما منع من قطع لسانه حين هجا الأنصار وكان يزيد هو الذي أمره بهجائهم
فقيل إن السبب في ذلك كان تشبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية وقيل بل حمي لعبد الرحمن بن الحكم
أخبرني الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو يحيى الزهري قال حدثني ابن أبي زريق قال شبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية فقال - خفيف -
( رَمْلَ هل تذكرين يومَ غزالٍ ... إذْ قَطَعْنا مَسِيرَنا بالتّمنّي )
( إذْ تقولين عُمْرَكَ الله هل شَيْءٌ ... وإنْ جلَّ سوف يُسْليكَ عنّي )
( أمْ هَلُ اطمِعْتُ منكُم بابن حَسّان ... كما قد أراك أُطمِعْتَ منّي )
قال فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فغضب فدخل على معاوية فقال يا أمير المؤمنين ألا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب يتهكم بأعراضنا ويشبب بنسائنا قال ومن هو قال عبد الرحمن بن حسان وأنشده ما قال فقال يا يزيد ليست العقوبة من أحد أقبح منها من ذوي القدرة ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار ثم ذكرني
قال فلما قدموا أذكره به فلما دخلوا عليه قال يا عبد الرحمن ألم يبلغني أنك تشبب برملة بنت أمير المؤمنين قال بلى ولو علمت

أن أحداً أشرف به شعري أشرف منها لذكرته
قال وأين أنت عن أختها هند قال وإن لها لأختا قال نعم
قال وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعاً فيكذب نفسه
قال فلم يرض يزيد ما كان من معاوية في ذلك أن يشبب بهما جميعاً فأرسل إلى كعب بن جعيل فقال أهج الأنصار
فقال أفرق من أمير المؤمنين ولكن أدلك على الشاعر الكافر الماهر
قال من هو قال الأخطل
قال فدعا به فقال أهج الأنصار
قال أفرق من أمير المؤمنين فقال لا تخف شيئاً أنا لك بذلك
قال فهجاهم فقال - كامل -
( وإذا نَسَبْتَ ابنَ الفُريعةِ خِلْتَه ... كالجحش بين حِمارةٍ وحمارِ )
( لعَنَ الإِلهُ من اليهود عِصابةً ... بالجِزْع بين صُلَيْصِلٍ وصِرارِ )
( قومٌ إذا هَدَر العصيرُ رأيتهمْ ... حُمراً عيونُهُمُ من المُصطارِ )
( خَلُّوا المكارمَ لستُمُ مِن أهلها ... وخُذوا مساحِيَكُمْ بني النجّار )
( إنّ الفوارس يَعلمون ظهورَكُمْ ... أولادَ كلِّ مُقَبَّح أكَّارِ )
( ذَهبتْ قريشٌ بالمكارم والعُلا ... واللؤمُ تحتَ عمائم الأنصارِ )
فبلغ ذلك النعمان بن بشير فدخل على معاوية فحسر عن رأسه عمامته وقال يا أمير المؤمنين أترى لؤماً قال لا بل أرى كرماً وخيراً ما ذاك قال زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائمنا
قال أو فعل قال نعم
قال لك لسانه

وكتب فيه أن يؤتى به
فلما أتي به سأل الرسول ليدخل إلى يزيد أولا فأدخله عليه فقال هذا الذي كنت أخاف
قال لا تخف شيئاً
ودخل على معاوية فقال علام أرسل إلى هذا الرجل وهو يرمي من وراء جمرتنا قال هجا الأنصار
قال ومن زعم ذلك قال النعمان بن بشير
قال لا تقبل قوله عليه وهو يدعي لنفسه ولكن تدعوه بالبينة فإن ثبت شيئاً أخذته به له
فدعاه بالبينة فلم يأت بها فخلى سبيله
فقال الأخطل - طويل -
( وإنّي غداةَ استُعْبِرَتْ أمُّ مالكٍ ... لرَاضٍ من السُّلطان أن يتهدّدا )
( ولولا يزيدُ ابنُ الملوك وَسَعْيُهُ ... تجلَّلْتُ حِدْباراً من الشّرّ أنكدا )
( فكم أنقذَتْني مِن خُطوبٍ حبالُهُ ... وخرسْاءَ لو يرمى بها الفيلُ بَلدَا )
( ودافع عنِّي يومَ جِلِّقَ غَمْرَةً ... وهَمّاً يُنسِّيني السُّلافَ المبرّدا )
( وباتَ نجِيّاً في دمشقَ لحيّةٍ ... إذا همّ لم يُنْمِ السليمَ فأقصدا )
( يُخافِتُهُ طوراً وطوراً إذا رأى ... من الوجه إقبالاً ألحَّ وأجهدا )
( وأطفأْتَ عنِّي نارَ نُعمانَ بعدما ... أعدَّ لأمرٍ فاجرٍ وتجردا )
( ولما رأى النُّعمانُ دوني ابنَ حُرّةٍ ... طَوَى الكَشْحَ إذْ لم يستطعني وعَرّدا )
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن بن المبارك قال شبب عبد الرحمن

ابن حسان بأخت معاوية فغضب يزيد فدخل على معاوية فقال يا أمير المؤمنين اقتل عبد الرحمن بن حسان
قال ولم قال شبب بعمتي
قال وما قال قال قال - خفيف -
( طال ليلي وبتُّ كالمحزونِ ... ومَلِلْتُ الثَّواءَ في جَيْرونِ )
قال معاوية يا بني وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله قال إنه يقول
( فلذاكَ اغتَرَبْتُ بالشام حتَّى ... ظنّ أهلي مُرَجَّماتِ الظنون )
قال يا بني وما علينا من ظن أهله قال إنه يقول
( هي زهراءُ مثلُ لؤلؤةِ الغَوْوَاص ... مِيْزَتْ من جوهرٍ مكنونِ )
قال صدق يا بني
قال إنه يقول
( وإذا ما نَسَبْتَها لم تجِدْها ... في سناءٍ من المكارمِ دُونِ )
قال صدق يا بني هي هكذا
قال إنه يقول
( ثم خاصَرْتُها إلى القُبَّة الخضراءِ ... تمشي في مَرْمَرٍ مَسنونِ )
خاصرتها أخذت بخصرها وأخذت بخصري
قال ولا كل هذا يا بني ثم ضحك وقال أنشدني ما قال أيضاً
فأنشده قوله

( قُبّةٌ من مَرَاجلٍ نَصَبُوْها ... عند حَدِّ الشتاءِ في قَيْطونِ )
( عَن يساري إذا دخلْتُ من الباب ... وإن كنْتُ خارجاً فيميني )
( تجعل النَّدَّ والأُلُوَّةَ والعُودُ ... صلاَءً لها على الكانون )
( وقِبابٌ قد أُشْرِجَتْ وبيوتٌ ... نُطِّقت بالريحان والزَّرَجُون )
قال يا بني ليس يجب القتل في هذا والعقوبة دون القتل ولكنا نكفه بالصلة له والتجاوز

نسبة ما في هذه الأبيات من الغناء
صوت خفيف
( هي زهراءُ مثلُ لؤلؤةِ الغَوْوَاص ... مِيْزَتْ من جوهرٍ مكنونِ )
( وإذا ما نَسَبْتَها لم تجِدْها ... في سناءٍ من المكارمِ دُونِ )
نسخت من كتاب ابن النطاح وذكر الهيثم بن عدي عن ابن دأب قال حدثنا شعيب بن صفوان أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت كان يشبب بابنة معاوية ويذكرها في شعره فقال الناس لمعاوية لو جعلته نكالا فقال لا ولكن أداويه بغير ذلك
فأذن له وكان يدخل عليه في أخريات الناس ثم أجلسه

على سريره معه وأقبل عليه بوجهه وحديثه ثم قال ابنتي الأخرى عاتبة عليك
قال في أي شيء قال في مدحتك أختها وتركك إياها
قال فلها العتبى وكرامة أنا ذاكرها وممتدحها
فلما فعل وبلغ ذلك الناس قالوا قد كنا نرى أن نسيب ابن حسان بابنة معاوية لشيء فإذا هو عن رأي معاوية وأمره
وعلم من كان يعرف أنه ليس له بنت أخرى أنه إنما خدعه ليشبب بها ولا أصل لها فيعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر الثانية
وقد قيل في حمل يزيد بن معاوية الأخطل على هجاء الأنصار إنه فعل ذلك تعصباً لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص بن أمية أخي مروان بن الحكم في مهاجاته عبد الرحمن وغضباً له لما استعلاه ابن حسان في الهجاء

8 -

ذكر خبرهما في التهاجي والسبب في ذلك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري
قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال أخبرني أبو الخطاب الأنصاري قال كان عبد الرحمن بن حسان خليلاً لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص مخالطاً له فقيل له إن ابن حسان يخلفك في أهلك
فراسل امرأة ابن حسان فأخبرت بذلك زوجها وقالت أرسل إلي إني أحبك حباً أراه قاتلي فأرسل ابن حسان إلى امرأة ابن الحكم وكانت تواصله وقال للرسول اذهب إليها وقل لها إن امرأتي تزور أهلها اليوم فزوريني حتى نخلو
فزارته فقعد معها ساعة ثم قال لها قد والله جاءت امرأتي
فأدخلها بيتاً إلى جنبه وأمر امرأته فأرسلت إلى عبد الرحمن بن الحكم إنك ذكرت حبك إياي وقد وقع ذلك في قلبي وإن ابن حسان قد خرج اليوم إلى ضيعته فهلم فتهيأ ثم أقبل
فإنه لقاعد معها إذ قالت له قد جاء ابن حسان فادخل هذا البيت فإنه لا يشعر بك
فأدخلته البيت الذي فيه امرأته فلما رآها أيقن بالسوأة ووقع الشر بينهما وهجا كل واحد منهما صاحبه
قال أبو عبيدة هذه رواية أبي الخطاب الأنصاري وأما قريش فإنهم يزعمون أن امرأة ابن حسان كانت تحب عبد الرحمن وتدعوه إلى نفسها فيأبى

ذلك حفظاً لما بينه وبين زوجها وبلغ ذلك ابن حسان فراسل امرأة ابن الحكم حتى فضحها وبلغ ذلك ابن الحكم وقيل له إنك إذا أتيت ضيعتك أرسلت إلى ابن حسان فكان معها
فأمر ابن الحكم أهله فقال عالجوا سفرة حتى أطالع مالي بمكان كذا وكذا
فخرج وبعثت امرأته إلى ابن حسان فجاء كما كان يفعل ورجع ابن الحكم حين ظن أن ابن حسان قد صار عندها فاستفتح فقالت ابن الحكم والله وخبأته خلفها في بيت ودخل عبد الرحمن فبعث إلى امرأة ابن حسان إنه قد وقعت لك في قلبي مقة فأقبلي إلي الساعة
فتهيأت وأقبلت حتى دخلت عليه فوضعت ثيابها وزوجها ينظر فقال لها قد كنت أكثرت الإرسال إلي فما شأنك قالت إني والله هالكة من حبك
قال وزوجها يسمع وإنما أراد أن يعلمه أنها قد كانت ترسل إليه ويأبى عليها
وزعم أنها هي التي قالت لابن الحكم إن ابن حسان يخلفك في أهلك
فلما فرغ من كلامه وأسمعه زوجها قال لها قد جاءت امرأتي
وأدخلها البيت الذي فيه ابن حسان فلما جمعهما في مكان واحد خرج عنهما فخرجا وطلق امرأته
أخبرني ابن دريد قال أخبرني الرياشي قال حدثنا ابن بكير عن هشام ابن الكلبي عن خالد بن سعيد عن أبيه قال رأيت مروان بن الحكم يطوف بالبيت ويقول اللهم أذهب عني الشعر وأخوه عبد الرحمن يقول اللهم إني أسألك ما استعاذ منه فذهب الشعر عن مروان وقاله عبد الرحمن
وأما هشام بن الكلبي فإنه حدث عن خالد وإسحاق ابني سعيد بن العاصي أن سبب التهاجي بينهما أنهما خرجا إلى الصيد بأكلب لهما في إمارة مروان فقال ابن الحكم لابن حسان - كامل -
( أُزْجُرْ كلابك إنها قَلَطِيّةٌ ... بُقْعٌ ومثلُ كلابكم لم تَصْطدِ )

فردّ عليه ابنُ حسان
( مَن كان يأكلُ من فَريسةِ صيدِه ... فالتَّمْرُ يُغْنينا عن المتصيَّدِ )
( إنا أناس رَيِّقون وأمُّكُمْ ... ككلابِكُمْ في الوَلْغ والمترَدَّدِ )
( حُزْناكُمُ للضّبِّ تحترشونه ... والريفِ نمنعُكُمْ بكلِّ مهنَّد )
ثم رجعا إلى المدينة فجعلا يتقارضان فقال عبد الرحمن بن الحكم في قصيدة - بسيط -
( ومثلُ أمِّك أمُّ العبدِ قد ضُرِبَتْ ... عندي ولي بِفنائي مِزْهَرٌ جَرِمُ )
( وأنتَ عند ذُنَاباها تُعاوِنها ... على القُدور تَحَسَّى خاثرَ البُرَمِ )
فنقضها عبد الرحمن بن حسان عليه بقصيدته التي يقول فيها - بسيط -
( يا أيُّها الراكبُ المُزْجِي مَطيَّته ... إذا عرَضْتَ فسائِل عن بني الحكمِ )
( القائلين إذَا لاقَوْا عدوَّهُمُ ... فِرُّوا فكُرُّوا على النِّسوان والنَّعَمِ )
( كم من أمينٍ نَصيح الجيب قال لكمْ ... أَلاَّ نهيتمْ أخاكم يا بني الحَكم )
( عَن رجلٍ لا بَغيضٍ في عشيرتهِ ... ولا ذليلٍ قصيرِ الباع مُعتصِمِ )
وقال ابن حسان بسيط
( صار الذليل عزيزاً والعزيزُ به ... ذُلٌّ وصارَ فُروع الناس أذنابا )

( إِنِّي لملتمسٌ حتّى يبينَ لكمْ ... فيكمْ متى كنتُمُ للنَّاسِ أربابا )
( فارْقَوْا على ظَلْعكم ثمَّ انظروا وسَلُوا ... عَنّا وعنكمْ قديمَ العلم نَسّابا )
( فسوفَ يضحك أو تعتاده ذِكَرٌ ... يا بؤسَ للدهر للإِنسان رَيَابا )
ولهما نقائض كثيرة لا معنى لذكر جميعها ههنا
قال دماذ وحدثني أبو عبيدة عن أبي الخطاب قال لما كثر التهاجي بينهما وأفحشا كتب معاوية يومئذ وهو الخليفة إلى سعيد بن العاص وهو عامله على المدينة أن يجلد كل واحد منهما مائة سوط
قال وكان ابن حسان صديقاً لسعيد وما مدح أحداً قط غيره فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه فأمسك عنهما ثم ولي مروان فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مائة سوط ولم يضرب أخاه فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بالشأم وكان كبيراً مكيناً عند معاوية - خفيف -
( ليتَ شِعْري أغائبٌ أنت بالشامِ ... خليلي أم راقدٌ نَعْمانُ )
( أيّةً ما يكنْ فقد يرجع الغائب ... يوماً ويُوقَظ الوَسْنان )
( إنّ عَمْراً وعامرا أبوَيْنا ... وحراماً قِدْماً على العهد كانوا )
( أَفَهُمْ مانِعُوك أمْ قِلّة الكُتْتَابِ ... أم أنتَ عاتبٌ غضبانُ )
( أم جفاءٌ أم أعْوَزَتْكَ القراطيسُ ... أمْ أَمْرِي به عليكَ هوانُ )
( يومَ أنبئْتَ أنَّ ساقَيَّ رُضَّتْ ... وأتاكمْ بذلك الرُّكبان )

( ثمَّ قالوا إنّ ابنَ عمِّك في بَلْوى ... أمورٍ أتَى بها الحَدَثان )
( فتَئطُّ الأرحامُ والودُّ والصُّحبةُ ... فيما أتى به الحدثان )
( إنما الرمح فاعلمنَّ قَناةٌ ... أو كبعض العيدان لولا السِّنانُ )
وهي قصيدة طويلة فدخل النعمان على معاوية فقال له يا أمير المؤمنين إنك أمرت سعيداً أن يضرب ابن حسان وابن الحكم مائة مائة فلم يفعل ثم وليت مروان فضرب ابن حسان ولم يضرب أخاه
قال فتريد ماذا قال أن تكتب إليه بمثل ما كتبت إلى سعيد
فكتب إلى معاوية يعزم عليه أن يضرب أخاه مائة وبعث إلى ابن حسان بحلة فلما قدم الكتاب على مروان بعث إلى ابن حسان إني مخرجك وإنما أنا مثل والدك وما كان ما كان مني إليك إلا على سبيل التأديب لك
واعتذر إليه فقال حسان ما بدا له في هذا إلا لشيء قد جاءه
وأبى أن يقبل منه فأبلغ الرسول ذلك مروان فوجهه إليه بالحلة فرمى بها في الحش
فقيل له حلة أمير المؤمنين وترمي بها في الحش قال نعم وما أصنع بها وجاءه قومه فأخبروه الخبر فقال قد علمت أنه لم يفعل ما فعل إلا لأمر قد حدث
فقال الرسول لمروان ما تصنع بهذا قد أبى أن يعفو فهلم أخاك
فبعث مروان إلى الأنصار وطلب إليهم أن يطلبوا إليه أن يضربه خمسين فإنه ضعيف
فطلبوا إليه فأجابهم فأخرجه فضربه خمسين فلقي ابن حسان بعض من كان لا يهوى ما ترك من ذلك فقال له أضربك مائة ويضربه خمسين بئس ما صنعت إذ وهبتها له
قال إنه عبد وإنما ضربه ما يضرب العبد نصف ما يضرب الحر فحمل هذا الكلام حتى شاع بالمدينة وبلغ ابن الحكم فشق عليه فأتى أخاه مروان فخبره الخبر وقال فضحتني لا حاجة لي فيما تركت فهلم فاقتص
فضرب ابن الحكم خمسين أخرى فقال عبد الرحمن يهجو ابن الحكم - كامل

( دَعْ ذا وعَدِّ قريضَ شعْرِك في امرىءٍ ... يَهذِي ويُنشِد شعرَه كالفاخِر )
( عُثمانُ عمُّكُمُ ولستْم مِثلَه ... وبنو أميّة منكُمُ كالآمر )
( وبنو أبيهِ سَخيفةٌ أحلامُهمْ ... فُحُشُ النفوسِ لدى الجليسِ الزائر )
( أحياؤهُمْ عارٌ على أمواتهمْ ... والميِّتون مَسَبَّةٌ للغابِر )
( همْ ينظرونَ إذا مَدْدت إليهِمْ ... نظرَ التيُّوس إلى شِفارِ الجازر )
( خُزْرَ العيونِ منكِّسِي أذقانِهمْ ... نَظَرَ الذَّليلِ إلى العزيز القاهِر )
فقال ابن الحكم - وافر -
( لقد أبقَى بنو مروانَ حُزْناً ... مُبِيناً عارُه لبني سَوادِ )
( أطاف به صَبيحٌ في مشِيدٍ ... ونادى دَعوة يابْنَيْ سُعادِ )
( لقد أسمعْتَ لو ناديْتَ حيّاً ... ولكن لا حياة لمن تنادِي )
قال أبو عبيدة فاعتن أبو واسع أحد بني الأسعر من بني أسد بن خزيمة لابن حسان دون ابن الحكم فهجاه وعيره بضرب ابن المعطل أباه حسان على رأسه وعيرهم بأكل الخصى فقال - وافر -
( إنَّ ابن المُعَطَّل من سُلَيم ... أَذَلَّ قِيادَ رأسِك بالخِطامِ )
( عَمِدْتَ إلى الخُصَى فأكلْتَ منها ... لقد أخطأتَ فاكهةَ الطعامِ )
( وما للجارِ حينَ يُحلُّ فيكُمْ ... لديكم يا بني النجّار حامِ )
( يَظلُّ الجار مفترشاً يديهِ ... مخافَتَكم لدى مَلَثِ الظَّلامِ )

( وينظُر نظرةً في مِذْرَوَيْهِ ... وأخرى في استِهِ والطَّرْفُ سامِ )
قال فلما عم بني النجار بالهجاء ولا ذنب لهم دعوا الله عز و جل عليه فخرج من المدينة يريد أهله فعرض له الأسد فقضقضه فقال ابن حسان في ذلك - سريع -
( أبلغْ بني الأسعرِ إن جئتَهُمْ ... ما بالُ أبناءِ بني واسعِ )
( والليث يعلوهُ بأنيابه ... مُعْتَفِراً في دمه الناقع )
( إذ تركوهُ وَهْوَ يَدعوهُمُ ... بالنَّسب الداني وبالشاسع )
( لا يرفَع الرحمنُ مصروعَكُمْ ... ولا يُوهِّي قوّةَ الصارِع )
فقالت له امرأته ما دعا أحد قبلك للأسد بخير قط
قال ولا نصر أحداً كما نصرني
وقال ابن الكلبي كان الأخطل ومسكين الدارمي صديقين لابن الحكم فاستعان بهما على ابن حسان فهجاه الأخطل وقال له مسكين ما كنت لأهجو أحداً أو أعذر إليه
فكتب إليه مسكين بقصيدته اللامية يدعوه إلى المفاخرة والمنافرة فقال في أولها - وافر -
( ألا إنَّ الشّبابَ ثياب لبُسٍ ... وما الأموالُ إلاّ كالظِّلالِ )

( فإن يَبْلُ الشّبابُ فكلُّ شيء ... سمعْتَ بهِ سوى الرحمنِ بالِ )
وهي طويلة جداً يفخر فيها بمآثر بني تميم
فأجابه ابن حسان فقال - وافر -
( أتاني عنك يا مسكينُ قولٌ ... بذلْتُ النِّصْفَ فيه غيرَ آل )
( دعوْتُ إلى التناضُل غير قَحْمٍ ... ولا غُمْرٍ يَطير لدى النضالِ )
وهي أطول من قصيدة مسكين
ثم انقطع التناضل بينهما
قال دماذ فحدثني أبو عبيدة قال حدثني أبو حية النميري قال حدثني الفرزدق قال كنا في ضيافة معاوية ومعنا كعب بن جعيل التغلبي فحدثني أن يزيد بن معاوية قال له إن ابن حسان فضح عبد الرحمن بن الحكم وغلبه وفضحنا فاهج الأنصار
قال فقلت له أرادي أنت في الشرك أأهجو قوماً نصروا رسول الله وآله وآووه ولكني أدلك على غلام منا نصراني لا يبالي أن يهجوهم كأن لسانه لسان ثور
قال من هو قلت الأخطل
فدعاه وأمره بهجائهم فقال على أن تمنعني قال نعم
قال أبو عبيدة إن معاوية دس إلى كعب وأمره بهجائهم فدله على الأخطل فقال الأخطل قصيدته التي هجا فيها الأنصار وقد مضت ومضى خبرها وخبر النعمان بن بشير
وزاد أبو عبيدة عمن روينا ذلك عنه أن النعمان بن بشير رد على الأخطل فقال - كامل

( أبلِغ قبائل تغلبَ ابنةِ وائلٍ ... مَنْ بِالفرات وجانِبِ الثَّرثار )
( فاللؤمُ بين أنوفِ تغلبَ بَيِّنٌ ... كالرَّقْم فوقَ ذراعِ كلِّ حمارِ )
قال فخافه الأخطل أن يهجوه فقال فيه - وافر -
( عَذَرْتُ بني الفُرَيعة أن هَجَوني ... فما بالي وبالُ بني بشير )
( أُفَيْحِجُ من بني النجّار شَثْنٌ ... شديدُ القُصْرَيَيْنِ من السَّحورِ )
ولم يرد على هذين البيتين شيئاً في ذكره
قال أبو عبيدة في خبره أيضاً إن الأنصار لما استعدوا عليه معاوية قال لهم لكم لسانه إلا أن يكون ابني يزيد قد أجاره
ودس إلى يزيد من وقته إني قد قلت للقوم كيت وكيت فأجره
فأجاره فقال يزيد بن معاوية في إجارته إياه - طويل -
( دعا الأخطلُ الملهوفُ بالشَّرِّ دَعْوَةً ... فأيَّ مجيبٍ كنْتُ لمَّا دعانيا )
( ففرّجَ عنه مَشْهَدَ القوم مَشْهدي ... وألسِنَة الواشين عنه لسانيا )

صوت خفيف
( كان لي يا شُقَير حُبُّكِ حَيْنَا ... كادَ يقضي عليَّ لمَّا التقينا )
( يعلمُ الله أنكُمْ لو نأيتمْ ... أو قَرُبْتُمْ أحبُّ شيء إلينا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لحبابة جارية يزيد بن عبد الملك ولحنها ثاني ثقيل بالوسطى وجعلت مكان يا شقير يا يزيد
وفي هذا

الشعر للهذلي خفيف ثقيل أول مطلق بالوسطى
وزعم عمرو بن بانة أنه للأبجر
وقال الهشامي لحن الأبجر ثقيل أول بالبنصر
وفيه للدارمي وابن فروخ خفيف ثقيل ولحن الدارمي فيهما مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق

9 -

أخبار حبابة
كانت حبابة مولدة من مولدات المدينة لرجل من أهلها يعرف بابن رمانة وقيل ابن مينا
وهو خرجها وأدبها
وقيل كانت لآل لاحق المكيين
وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء طيبة الصوت ضاربة بالعود
وأخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك ومعبد وعن جميلة وعزة الميلاء
وكانت تسمى العالية فسماها يزيد لما اشتراها حبابة
وقيل إنها كانت لرجل يعرف بابن مينا
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال
حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني حاتم بن قبيصة قال وكانت حبابة لرجل يدعى ابن مينا فأدخلت على يزيد بن عبد الملك في إزار له ذنبان وبيدها دف ترمي به وتتلقاه وتتغنى - منسرح -
( ما أَحْسَنَ الجِيدَ من مُلَيكةَ والللبَّاتِ ... إذْ زانَها ترائبُها )
( يا ليتني ليلةً إذَا هجع النْنَاسُ ... ونام الكلاب صاحبُها )
( في ليلةٍ لا يُرَى بها أحدٌ ... يسعَى علينا إلاّ كواكبها )

ثم خرج بها مولاها إلى إفريقية فلما كان بعد ما ولي يزيد اشتراها
وروى حماد عن أبيه عن المدائني عن جرير المديني ورواه الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال قال لي يزيد بن عبد الملك ما تقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهيل الزهري وحبابة جارية لاحق المكية
فأرسل فاشتريتا له فلما اجتمعتا عنده قال أنا الآن كما قال القائل - طويل -
( فألقَتْ عصاها واستقرَّت بها النوى ... كما قَرَّ عيناً بالإِيابِ المسافرُ )
قال إسحاق وحدثني أبو أيوب عن عباية قال كانت حبابة لآل رمانة ومنهم ابتيعت ليزيد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني الزبير بن بكار قال أخبرني محمد بن سلمة عن ابن مافنه عن شيخ من أهل ذي خشب قال خرجنا نريد ذا خشب ونحن مشاة فإذا قبة فيها جارية وإذا هي تغني - مجزوء الرمل -
( سلكوا بطنَ مَحِيصٍ ... ثم ولَّوْا راجعينا )
( أورثونِي حِينَ وَلَّوْا ... طُولَ حُزْنٍ وأَنينا )
قال فسرنا معها حتى أتينا ذا خشب فخرج رجل معها فسألناه وإذا هي

حبابة جارية يزيد فلما صارت إلى يزيد أخبرته بنا فكتب إلى والي المدينة يعطي كل واحد ألف درهم ألف درهم
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق عن المدائني
وروى هذا الخبر حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني وخبره أتم أن حبابة كانت تسمى العالية وكانت لرجل من الموالي بالمدينة فقدم يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو ابن عثمان على عشرين ألف دينار وربيحة بنت محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر على مثل ذلك واشترى العالية بأربعة آلاف دينار فبلغ ذلك سليمان فقال لأحجرن عليه
فبلغ يزيد قول سليمان فاستقال مولى حبابة ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية فلما ولي يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت أنه لا بد طالبها ومشتريها فلما حصلت عندها قالت له هل بقي عليك من الدنيا شيء لم تنله فقال نعم العالية
فقالت هذه هي وهي لك
فسماها حبابة وعظم قدر سعدة عنده
ويقال إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطئ لابنها عنده في ولاية العهد وتحضرها ما تحب إذا حضرت
وقيل إن أم الحجاج أم الوليد بن يزيد هي التي ابتاعتها له وأخذت عليها ذلك فوفت لها بذلك
هكذا ذكر الزبير فيما أخبرنا به الحسن بن علي بن هارون ابن محمد عنه عن عمه
قال ومن زعم أن سعدة اشترتها فقد أخطأ
قال المدائني ثم خطب يزيد إلى أخيها خالد بنت أخ له فقال أما يكفيه أن سعدة عنده حتى يخطب إلى بنات أخي وبلغ يزيد فغضب فقدم عليه خالد يسترضيه فبينا هو في فسطاطه إذ أتته جارية لحبابة في خدمها فقالت له أم

داود تقرأ عليك السلام وتقول لك قد كلمت أمير المؤمنين فرضي عنك
فالتفت فقال من أم داود فأخبره من معه أنها حبابة وذكر له قدرها ومكانها من يزيد
فرفع رأسه إلى الجارية فقال قولي لها إن الرضا عني بسبب لست به
فشكت ذاك إلى يزيد فغضب وأرسل إلى خالد فلم يعلم بشيء حتى أتاه رسول حبابة به فيمن معه من الأعوان فاقتلعوا فسطاطه وقلعوا أطنابه حتى سقط عليه وعلى أصحابه فقال ويلكم ما هذا قالوا رسل حبابة هذا ما صنعت بنفسك
فقال ما لها أخزاها الله ما أشبه رضاها بغضبها
قال إسحاق وحدثني محمد بن سلام عن يونس بن حبيب أن يزيد بن عبد الملك اشترى حبابة وكان اسمها العالية بأربعة آلاف دينار فلما خرج بها قال الحارث بن خالد فيها - كامل -
( ظَعَنَ الأميرُ بأحسنِ الخَلْقٍ ... وغَدَوْا بلُبِّك مطلِعَ الشرقِ )
( مَرَّت على قَرَنٍ يُقاد بها ... تعدو أمامَ برَاذِنٍ زُرْقِ )
( فظِللْتُ كالمقمور مُهْجَتَه ... هذا الجنونُ وليس بالعشق )
( يا ظبيةً عَبِقَ العبيرُ بها ... عَبَقَ الدِّهانِ بجانب الحُقِّ )
وغنته حبابة في الشعر وبلغ يزيد فسألها عنه فأخبرته فقال لها غنيني به

فغنته فأجادت وأطربته فقال إسحاق ولعمري إنه من جيد غنائها
قال أبو الفرج الأصبهاني هذا غلط ممن رواه في أبيات الحارث بن خالد لأنه قالها في عائشة بنت طلحة لما تزوجها مصعب بن الزبير وخرج بها
وفي أبياته يقول
( في البيت ذي الحَسَب الرفيع ومِن ... أهل التُّقَى والبِرِّ والصِّدْقِ )
وقد شرح ذلك في أخبار عائشة بنت طلحة
قال إسحاق وأخبرني الزبيري أن يزيد اشتراها وهو أمير فلما أراد الخروج بها قال الحارث بن خالد فيها - بسيط -
( قد سُلَّ جسمي وقد أودَى به سَقَمٌ ... من أجل حَيٍّ جلَوْا من بلدةِ الحَرمِ )
( يحنُّ قلبي إليها حين أذكرها ... وما تذكَّرْتُ شوقاً آب من أمَمِ )
( إلاّ حنيناً إليها إنَّها رَشأٌ ... كالشَّمس رُوْدٌ ثَقالٌ سهلة الشيمِ )
( فضَّلها اللهُ ربُّ الناس إذ خُلِقَتْ ... على النساءِ منَ أهل الحزم والكرمِ )
وقال فيها الشعراء فأكثروا وغنى في أشعارهم المغنون من أهل مكة والمدينة وبلغ ذلك يزيد فاستشنعه فقال هذا قبل رحلتنا وقد هممنا فكيف لو ارتحلنا وتذكر القوم شدة الفراق وبلغه أيضاً أن سليمان قد تكلم في ذلك فردها ولم تزل في قلبه حتى ملك فاشترتها سعدة امرأته العثمانية ووهبتها له
أخبرني ابن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال حدثني أبو ذفافة المنهال بن عبد الملك عن مروان بن بشر بن أبي سارة مولى الوليد بن يزيد قال أول ما ارتفعت به منزلة حبابة عند يزيد أنه أقبل يوماً إلى البيت الذي هي فيه فقام من وراء الستر فسمعها تترنم وتغني وتقول - خفيف

( كان لي يا يزيدُ حبُّكَ حَيْنا ... كاد يقضي عليَّ لما التقينا )
والشعر كان يا شقير فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار فعلم أنها لم تعلم به ولم يكن ذاك لمكانه فألقى نفسه عليها وحركت منه
قال المدائني غلبت حبابة على يزيد وتبنى بها عمر بن هبيرة فعلت منزلته حتى كان يدخل على يزيد في أي وقت شاء وحسد ناس من بني أمية مسلمة بن عبد الملك على ولايته وقدموا فيه عند يزيد وقالوا إن مسلمة إن اقتطع الخراج لم يحسن يا أمير المؤمنين أن تفتشه أو تكشفه عن شيء لسنه وحقه وقد علمت أن أمير المؤمنين لم يدخل أحداً من أهل بيته في الخراج
فوقر ذلك في قلب يزيد وعزم على عزله وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة فعملت له في ذلك
وكان بين ابن هبيرة وبين القعقاع بن خالد عداوة وكانا يتنازعان ويتحاسدان فقيل للقعقاع لقد نزل ابن هبيرة من أمير المؤمنين منزلة إنه لصاحب العراق غداً
فقال ومن يطيق ابن هبيرة حبابة بالليل وهداياه بالنهار مع أنه وإن بلغ فإنه رجل من بني سكين فلم تزل حبابة تعمل له حتى وليها
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال سمعت إسحاق بن إبراهيم يحدث بهذا الحديث فحفظته ولم أحفظ إسناده
وحدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب الزبيري عن مصعب بن عثمان
وقد جمعت روايتيهما قالا أراد يزيد بن عبد الملك أن

يشبه بعمر بن عبد العزيز وقال بماذا صار عمر أرجى لربه جل وعز مني فشق ذلك على حبابة فأرسلت إلى الأحوص
هكذا في رواية وكيع وأما عمر بن شبة فإنه ذكر أن مسلمة أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء والشرب وقال له إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون وأنت غافل عنهم
فقال صدقت والله وأعتبه وهم بترك الشرب ولم يدخل على حبابة أماماً فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتاً في ذلك وقالت له إن رددته عن رأيه فلك ألف دينار
فدخل الأحوص إلى يزيد فاستأذن في الإنشاد فأذن له
قال إسحاق في خبره فقال الأحوص - طويل -

صوت
( ألاَ لاَ تلُمْه اليومَ أنْ يتبلَّدا ... فقد غُلِب المحزونُ أن يَتَجَلَّدَا )
( بكيْتُ الصِّبا جَهدِي فمن شاء لامني ... ومَن شاء آسَى في البكاء وأسْعَدا )
( وإنِّي وإنْ فُنِّدْتُ في طلب الغنى ... لأَعلمُ أَنِّي لستُ في الحبِّ أوحدا )

( إذا أنتَ لم تعشق ولم تَدْرِ ما الهوى ... فكنْ حجراً من يابس الصخرِ جلمدا )
( فما العيشُ إلا ما تلَذُّ وتشتهِي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَان وفَنّدا )
الغناء لمعبد - خفيف ثقيل أول - بالبنصر وفيه رمل للغريض
ويقال إنه لحبابة
قال ومكث جمعة لا يرى حبابة ولا يدعو بها فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني
فلما أراد الخروج أعلمتها فتلقته والعود في يدها فغنت البيت الأول فغطى وجهه وقال مه لا تفعلي
ثم غنت
( وما العيشُ إلا ما تلَذُّ وتشتهِي ... )
فعدل إليها وقال صدقت والله فقبح الله من لامني فيك يا غلام مر مسلمة أن يصلي بالناس
وأقام معها يشرب وتغنيه وعاد إلى حاله
وقال عمر بن شبة في حديثه فقال يزيد صدقت والله فعلى مسلمة لعنة الله وعاود ما كان فيه ثم قال لها من يقول هذا الشعر قالت الأحوص
فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها وأولها قوله - بسيط -
( يا مُوقِد النار بالعَلياء من إِضَمِ ... أوقِدْ فقد هجْتَ شوقاً غيرَ منصرمِ )

وهي طويلة
فقال له يزيد ارفع حوائجك
فكتب إليه في نحو من أربعين ألف درهم من دين وغيره فأمر له بها
وقال مصعب في خبره بل استأذن الأحوص على يزيد فأذن له فاستأذن في الإنشاد فقال ليس هذا وقتك
فلم يزل به حتى أذن له
فأنشده هذه الأبيات فلما سمعها وثب حتى دخل على حبابة وهو يتمثل - طويل -
( وما العيشُ إلا ما تلَذُّ وتشتهِي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَان وفَنّدا )
فقالت له ما ردك يا أمير المؤمنين فقال أبيات أنشدنيها الأحوص فسلي ما شئت
قالت ألف دينار تعطيها الأحوص
فأعطاه ألف دينار

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت بسيط
( يا مُوقِد النار بالعَلْياء من إِضَمِ ... أوقِدْ فقد هِجْتَ شوقاً غيرَ منْصرمِ )
( يا مُوقِدَ النار أوقِدْها فإنَّ لها ... سَناً يَهيج فؤادَ العاشِق السّدِم )
الشعر للأحوص والغناء لمعبد - خفيف ثقيل أول - بالوسطى عن يونس وإسحاق وعمرو
وذكر حبش أن فيه خفيف ثقيل آخر لابن جامع
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني علي بن القاسم بن بشير قال لما غلب يزيد بن عبد الملك أهله وأبى أن يسمع منهم كلموا مولى له خراسانياً ذا قدر عندهم وكانت فيه لكنة فأقبل على يزيد يعظه وينهاه عما قد ألح عليه من السماع للغناء والشراب فقال له يزيد فإني أحضرك هذا الأمر الذي تنهى عنه فإن نهيتني عنه بعد ما تبلوه وتحضره انتهيت وإني مخبر جواري أنك عم من عمومتي فإياك أن تتكلم فيعلمن أني كاذب وأنك لست

بعمي
ثم أدخله عليهن فغنين والشيخ يسمع ولا يقول شيئاً حتى غنين - طويل -
( وقد كنتُ آتيكُمْ بِعِلّةِ غيركُمْ ... فأفنْيتُ عِلاّتي فكيف أقولُ )
فطرب الشيخ وقال لا قيف جعلني الله فداكن يريد لا كيف
فعلمن أنه ليس عمه وقمن إليه بعيدانهن ليضربنه بها حتى حجزهن يزيد عنه
ثم قال له بعدما انقضى أمرهن ما تقول الآن أدعُ هذا أم لا قال لا تدعه
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني خالد بن يزيد بن بحر الخزاعي الأسلمي عن محمد بن سلمة عن أبيه عن حماد الراوية قال كانت حبابة فائقة في الجمال والحسن وكان يزيد لها عاشقاً فقال لها يوماً قد استخلفتك على ما ورد عليّ ونصبت لذلك مولاي فلاناً فاستخلفيه لأقيم معك أياماً وأستمتع بك
قالت فإني قد عزلته
فغضب عليها وقال قد استعملته وتعزلينه وخرج من عندها مغضباً فلما ارتفع النهار وطال عليه هجرها دعا خصياً له وقال انطلق فانظر أي شيء تصنع حبابة فانطلق الخادم ثم أتاه فقال رأيتها مؤتزرة بإزار خلوقي قد جعلت له ذنبين وهي تلعب بلعبها
فقال ويحك احتل لها حتى تمر بها علي
فانطلق الخادم إليها فلاعبها ساعة ثم استلب لعبة من لعبها وخرج فجعلت تحضر في أثره فمرت بيزيد فوثب وهو يقول قد عزلته وهي تقول قد استعملته فعزل مولاه وولاه وهو لا يدري
فمكث معها خالياً أياماً حتى دخل عليه أخوه مسلمة فلامه وقال ضيعت حوائج الناس واحتجبت عنهم أترى هذا مستقيماً لك وهي تسمع مقالته فغنت لما خرج طويل
( ألاَ لاَ تَلُمْهُ اليومَ أنْ يتبلَّدا ... )

فذكرت الأبيات
فطرب وقال قاتلك الله أبيت إلا أن ترديني إليك
وعاد إلى ما كان عليه
أخبرني إسماعيل قال حدثني عمي قال حدثني إسحاق قال حدثني الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان قال قال مسلمة ليزيد تركت الظهور وشهود الجمعة الجامعة وقعدت في منزلك مع هذه الإماء وبلغ ذلك حبابة وسلامة فقالتا للأحوص قل في ذلك شعراً
فقال - طويل -
( وما العيشُ إلا ما تلَذُّ وتشتهِي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَانِ وفَنّدَا )
( بكيْتُ الصِّبا جَهدِي فمن شاء لامِني ... ومَن شاءَ آسَى في البكاء وأسْعَدا )
( وإنِّي وإنْ أَغرقت في طَلَب الصبا ... لأَعلمُ أَنِّي لستُ في الحبِّ أوحدا )
( إذا كنتَ عِزْهاةً عن اللَّهو والصبا ... فكنْ حجراً من يابس الصخرِ جَلمدا )
قال فغنتا يزيد فيه فلما فرغتا ضرب بخيزرانته الأرض وقال صدقتما صدقتما فعلى مسلمة لعنة الله وعلى ما جاء به
قال وطرب يزيد فقال هاتيا
فغنتاه من هذه القصيدة
( وعَهدِي بها صفراءَ رُوداً كأنما ... نَضَا عَرَقٌ منها على اللون مُجْسَدَا )
( مهفهفة الأعلى وأسفل خلقِها ... جرى لحمُه ما دونَ أن يتخددا )
( من المُدْمَجات اللحمِ جَدْلاً كأنها ... عِنانُ صَناعٍ مدمجُ الفتْل مُحْصَدا )
( كأنّ ذكِيَّ المسك بادٍ وقد بَدَتْ ... وريحَ خُزامى طَلّةٍ تنفح الندى )

فطرب يزيد وأخذ فيه من الشراب قدره الذي كان يطرب منه ويسره ولم تره أظهر شيئاً مما كان يفعله عند طربه فغنته
( ألاَ لاَ تلُمْه اليومَ أنْ يتبلَّدا ... فقد غُلِب المحزونُ أن يَتَجَلَّدَا )
( نظرْتُ رجاءً بالموقَّر أن أَرى ... أكارِيس يحتلُّون خاخاً فمنشِدا )
( فأوفيْتُ في نَشْزٍ من الأرض يافعٍ ... وقد تُسْعِفُ الأيفاعُ من كان مُقْصَدا )
فلما غنته بهذا طرب طربه الذي تعهده وجعل يدور ويصيح الدخن بالنوى والسمك في بيطار جنان
وشق حلته وقال لها أتأذنين أن أطير قالت وإلى من تدع الناس قال إليك
قال وغنته سلامة من هذه القصيدة
( فقلتُ ألا يا ليت أسماءَ أصقَبَتْ ... وهل قولُ ليتٍ جامعٌ ما تبدّدا )
( وإنِّي لأهواها وأهوى لِقاءها ... كما يَشتهي الصادي الشرابَ المبرَّدا )
( علاقةَ حبٍّ لَجَّ في سَنَن الصِّبا ... فأبلَى وما يزداد إلاّ تجدُّدا )
( سُهوبٌ وأعلام تخال سرابَها ... إذا استَنّ في القَيظ المُلاَءَ المعضَّدا )

قال وغنته حَبابة منها أيضاً
( كريمُ قريشٍ حين يُنسَبُ والذِي ... أقَرّت له بالملك كَهْلاً وأمرَدا )
( وليس عطاءٌ كان منه بمانع ... وإن جَلّ من أضعاف أضعافه غدا )
( أهانَ تِلاد المالِ في الحمد إنه ... إمامُ هدىً يَجري على ما تعوَّدا )
( تردَّى بمجدٍ من أبيه وأمِّهِ ... وقد أَوْرَثَا بنيانَ مجد مشيَّدا )
فقال لها يزيد ويحك يا حبابة ومن مِن قريش هذا قالت أنت
قال ومن يقول هذا الشعر قالت الأحوص يا أمير المؤمنين
وقالت سلامة فليسمع أمير المؤمنين باقي ثنائه عليه فيها
ثم اندفعت فغنته
( ولو كان بذلُ الجودِ والمالِ مُخْلِدا ... من الناس إنساناً لكنْتَ المخلَّدا )
( فأقسمُ لا أنفكّ ما عِشْتُ شاكراً ... لنعماكَ ما طارَ الحَمامُ وغَرّدا )
أخبرني إسماعيل قال حدّثنا عمر بن شبة قال علي بن الجعد قال حدثني أبو يعقوب الخريمي عن أبي بكر بن عياش أن حبابة وسلاّمة اختلفتا في صوت معبد - وافر -
( ألاَ حيِّ الديار بسَعْدَ إنّي ... أحِبُّ لحبِّ فاطمةَ الديارا )

فبعث يزيد إلى معبد فأتى به فسأل لم بعث إليه فأخبر فقال لأيتهما المنزلة عند أمير المؤمنين فقيل لحبابة
فلما عرضتا عليه الصوت قضى لحبابة فقالت سلامة والله ما قضى إلا للمنزلة وإنه ليعلم أن الصواب ما غنيت ولكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته لأن له عليّ حقا
قال قد أذنت
فكان ما وصلته به أكثر من حبابة
نسبة هذا الصوت - وافر -
( ألاَ حيِّ الديارَ بسَعْدَ إنّي ... أحِلُّ لحبِّ فاطمةَ الديارا )
( إذا ما حَلَّ أهلكِ يا سُلَيْمى ... بدارَةِ صُلْصُلٍ شَحَطوا مَزَارا )
الشعر لجرير والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال له الأحوص ما تشتهي قال شواء وطلاء وغناء
قال ذلك لك
ومضى به إلى قينة بالمدينة فغنته
( ألاَ حيِّ الديار بسَعْدَ إنّي ... أحِبُّ لحبِّ فاطمةَ الديارا )
( أرادَ الظاعنون ليحزنُوني ... فهاجُوا صَدْعَ قلبيَ فاستطارا )
فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها قال أو ما تدري لمن هذا الشعر فقال لا والله
قال هو لجرير يهجوك به
فقال ويل ابن المراغة ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره

وقد روى صالح بن حسان أن الصوت الذي اختلفت فيه حبابة وسلامة هو - كامل -
( وترى لها دَلاًّ إذا نَطَقَتْ به ... تَرَكَتْ بناتِ فُؤاده صُعْرا )
ذكر ذلك حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي أنهما اختلفتا في هذا الصوت بين يدي يزيد فقال لهما من أين جاء اختلافكما والصوت لمعبد ومنه أخذتماه فقالت هذه هكذا أخذته وقالت الأخرى هكذا أخذته
فقال يزيد قد اختلفتما ومعبد حي بعد فكتب إلى عامله بالمدينة يأمره بحمله إليه
ثم ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره أبو بكر بن عياش
قال صالح بن حسان فلما دخل معبد إليه لم يسأله عن الصوت ولكنه أمره أن يغني فغناه فقال - طويل -
( فيا عَزَّ إنْ واشٍ وشَى بيَ عندَكُمْ ... فلا تُكْرِمِيهِ أن تقولي له مَهْلا )
فاستحسنه وطرب ثم قال إن هاتين اختلفتا في صوت لك فاقض بينهما
فقال لحبابة
غني
فغنت وقال لسلامة غني فغنت وقال الصواب ما قالت حبابة
فقالت سلامة والله يا ابن الفاعلة إنك لتعلم أن الصواب ما قلت ولكنك سألت أيتهما آثر عند أمير المؤمنين فقيل لك حبابة فاتبعت هواه ورضاه فضحك يزيد وطرب وأخذ وسادة فصيرها على رأسه وقام يدور في الدار ويرقص ويصيح السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار جنان حتى دار الدار كلها ثم رجع فجلس مجلسه وقال شعراً وأمر معبداً أن يغني فيه فغنى فيه وهو - بسيط

( أَبْلِغْ حَبابة أسْقَى رَبْعَها المطرُ ... ما للفؤادِ سِوى ذكراكُمُ وَطَرُ )
( إِنْ سار صحبي لم أملِكْ تذكُّرَكُمْ ... أو عَرَّسوا فهمومُ النفس والسَّهرُ )
فاستحسنه وطرب
هكذا ذكر إسحاق في الخبر
وغيره يذكر أن الصنعة فيه لحبابة ويزعم ابن خرداذبه أن الصنعة فيه ليزيد
وليس كما مر وإنما أراد أن يوالي بين الخلفاء في الصنعة فذكره على غير تحصيل والصحيح أنه لمعبد
قال معبد فسر يزيد لما غنيته في هذين البيتين وكساني ووصلني ثم لما انصرم مجلسه انصرفت إلى منزلي الذي أنزلته فإذا ألطاف سلامة قد سبقت ألطاف حبابة وبعثت إلي إني قد عذرتك فيما فعلت ولكن كان الحق أولى بك
فلم أزل في ألطافهما جميعاً حتى أذن لي يزيد فرجعت إلى المدينة
نسبة الصوت الذي غناه معبد الذي أوّله طويل
( فيا عَزَّ إنْ واشٍ وشَى بي عندَكُمْ ... )
صوت
( ألم يأنِ لي يا قلبُ أنْ أتركَ الجهلا ... وأنْ يُحدث الشيبُ الملِمُّ ليَ العقلا )
( على حين صار الرأسُ منِّي كأنما ... عَلَتْ فوقَه ندّافةُ العُطُبِ الغزْلا )
( فيا عَزَّ إنْ واشٍ وشَى بي عندَكُمْ ... فلا تُكرمِيه أنْ تقولي له مهلا )
( كما لو وَشَى واشٍ بودِّك عندنا ... لقلْنا تزحزَحْ لا قَرِيباً ولا سَهْلا )
( فأهلاً وسهلاً بالذي شَدَّ وصلنا ... ولا مرحباً بالقائِل اصرِم لها حَبلا )
الشعر لكثير والغناء لحنين ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وذكر ابن المكي وعمرو والهشامي أنه لمعبد
وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى

ابن سريج وليس بصحيح
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثتني ظبية قالت أنشدت حبابة يوماً يزيد بن عبد الملك - وافر -
( لعمركَ إنّني لأُحِبُّ سَلْعاً ... لرؤيتها ومَنْ بجَنوب سَلْعِ )
ثم تنفست تنفساً شديداً فقال لها ما لك أنت في ذمة أبي لئن شئت لأنقلنه إليك حجراً حجراً
قالت وما أصنع به ليس إياه أردتإنما أردت صاحبه
وربما قالت ساكنه

نسبة هذا الصوت
( لعمركَ إنّني لأُحِبُّ سَلْعاً ... لرؤيتها ومَنْ بجَنوب سَلْعِ )
( تَقَرُّ بقُربها عيني وإنِّي ... لأَخشَى أن تكونَ تريدُ فجعِي )
( حلفْتُ بربِّ مكةَ والهدايا ... وأيدِي السَّابحاتِ غداةَ جَمْع )
( لأنتِ على التنائي فاعلميهِ ... أحبُّ إليَّ مِن بَصَرِي وسمْعي )
الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى مما لا يشك فيه من غنائه
قال الزبير وحدثني ظبية أن يزيد قال لحبابة وسلامة أيتكما غنتني ما في نفسي فلها حكمها
فغنت سلامة فلم تصب ما في نفسه وغنته حبابة - خفيف -
( حِلَقٌ من بني كِنانةَ حَولي ... بِفِلَسْطينَ يُسرِعون الركوبا )

فأصابت ما في نفسه فقال احتكمي
فقالت سلامة تهبها لي ومالها
قال اطلبي غيرها
فأبت فقال أنت أولى بها ومالها
فلقيت سلامة من ذلك أمراً عظيماً فقالت لها حبابة لا ترين إلا خيراً فجاء يزيد فسألها أن تبيعه إياها بحكمها فقالت أشهدك أنها حرة واخطبها إليّ الآن حتى أزوجك مولاتي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق عن المدائني بنحو هذه القصة
وقال فيها فجزعت سلامة فقالت لها لا تجزعي فإنما ألاعبه

نسبة هذا الصوت خفيف
( حِلَقٌ من بني كِنانةَ حَولي ... بِفِلَسْطينَ يُسرِعون الركوبا )
( هَزِئتْ أن رأت مشيبِيَ عِرْسي ... لا تلُومي ذوائبي أن تشيبا )
الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
قال حماد بن إسحاق حدثني أبي عن المدائني وأيوب بن عباية قالا كانت سلامة المتقدمة منهما في الغناء وكانت حبابة تنظر إليها بتلك العين فلما حظيت عند يزيد ترفعت عليها فقالت لها سلامة ويحك أين تأديب الغناء وحق التعليم أنسيت قول جميلة لك خذي أحكام ما أطارحك إياه من سلامة فلن تزالي بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا
قالت صدقت يا خليلتي والله لا عدت إلى شيء تكرهينه
فما عادت بعد ذلك لها إلى مكروه
وماتت حبابة وعاشت سلامة بعدها دهراً
قال المدائني فرأى يزيد يوماً حبابة جالسة فقال ما لك فقالت أنتظر سلامة
قال تحبين أن أهبها لك قالت لا والله ما أحب أن تهب لي أختي

قال المدائني وكانت حبابة إذا غنت وطرب يزيد قال لها أطير فتقول له فإلى من تدع الناس فيقول إليك
والله تعالى أعلم
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أيوب بن عباية أن البيذق الأنصاري القارئ كان يعرف حبابة ويدخل عليها بالحجاز فلما صارت إلى يزيد بن عبد الملك وارتفع أمرها عنده خرج إليها يتعرض لمعروفها ويستميحها فذكرته ليزيد وأخبرته بحسن صوته
قال فدعاني يزيد ليلة فدخلت عليه وهو على فرش مشرفة قد ذهب فيها إلى قريب من ثدييه وإذا حبابة على فرش أخر مرتفعة وهي دونه فسلمت فرد السلام وقالت حبابة يا أمير المؤمنين هذا أبي
وأشارت إلي بالجلوس فجلست وقالت لي حبابة اقرأ يا أبت
فقرأت فنظرت إلى دموعه تنحدر ثم قالت إيه يا أبت حدث أمير المؤمنين وأشارت إليّ أن غنه
فاندفعت في صوت ابن سريج - مجزوء الخفيف -
( من لِصَبِّ مفنَّدِ ... هائمِ القلبِ مُقْصَدِ )
فطرب والله يزيد فحذفني بمدهن فيه فصوص من ياقوت وزبرجد فضرب صدري فأشارت إليّ حبابة أن خذه
فأخذته فأدخلته كمي فقال يا حبابة ألا ترين ما صنع بنا أبوك أخذ مدهننا فأدخله في كمه فقالت يا أمير المؤمنين ما أحوجه والله إليه ثم خرجت من عنده فأمر لي بمائة دينار

نسبة هذا الصوت
( من لِصَبِّ مفنَّدِ ... هائمِ القلبِ مُقْصَدِ )
( أنتِ زوَّدته الضَّنَى ... بِئْسَ زادُ المزوَّدِ )

( وَلَوَ اني لا أرتجيْكِ لقد خَفَّ عوَّدي )
( ثاوياً تحتَ تُربةٍ ... رهنَ رمسٍ بفَدفدِ )
( غيرَ أنِّي أعلِّل النَفسَ باليومِ أو غدِ )
الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان
وذكر الزبير بن بكار أنه لجعفر بن الزبير والغناء لابن سريج خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى
وقال حماد حدثني أبي عن مخلد بن خداش وغيره أن حبابة غنت يزيد صوتاً لابن سريج وهو قوله - منسرح -
( ما أحسنَ الجِيدَ من مُليكةَ واللَّبَّاتِ ... إذْ زانَها ترائبُها )
فطرب يزيد وقال هل رأيت أحداً أطرب مني قلت نعم ابن الطيار معاوية بن عبد الله بن جعفر فكتب فيه إلى عبد الرحمن بن الضحاك فحمل إليه فلما قدم أرسلت إليه حبابة إنما بعث إليك لكذا وكذا وأخبرته فإذا دخلت عليه فلا تظهرن طربا حتى أغنيه الصوت الذي غنيته
فقال سوأة على كبر سني فدعا به يزيد وهو على طنفسة خز ووضع لمعاوية مثلها فجاؤوا بجامين فيهما مسك فوضعت إحداهما بين يدي يزيد والأخرى بين يدي معاوية فقال فلم أدر كيف أصنع
فقلت انظر كيف يصنع فاصنع مثله
فكان يقلبه فيفوح ريحه وأفعل مثل ذلك فدعا بحبابة فغنت فلما غنت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور وينادي الدخن بالنوى يعني اللوبيا
قال فأمر له بصلات عدة دفعات إلى أن خرج فكان مبلغها ثمانية آلاف دينار
أخبرني إسماعيل بن يونس قال أخبرني الزبير بن أبي بكر عن ظبية

أن حبابة غنت يوماً بين يدي يزيد فطرب ثم قال لها هل رأيت قط أطرب مني قالت نعم مولاي الذي باعني
فغاظه ذلك فكتب في حمله مقيدا فلما عرف خبره أمر بإدخاله إليه فأدخل يرسف في قيده وأمرها فغنت بغتة - متقارب -
( تُشِطُّ غداً دارُ جيراننا ... ولَلدّارُ بعد غدٍ أَبْعَدُ )
فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فأحرق لحيته وجعل يصيح الحريق يا أولاد الزنا فضحك يزيد وقال لعمري إن هذا لأطرب الناس فأمر بحل قيوده ووصله بألف دينار ووصلته حبابة ورده إلى المدينة
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمربن شبة قال قال إسحاق كان يزيد بن عبد الملك قبل أن تفضي إليه الخلافة تختلف إليه مغنية طاعنة في السن تدعى أم عوف وكانت محسنة فكان يختار عليها - بسيط -
( متى أُجِرْ خائفاً تَسرحْ مَطِيَّتُه ... وإن أُخِفْ آمِناً تنبو به الدارُ )
( سِيروا إليَّ وأَرْخُوا من أعنَّتِكُمْ ... إنِّي لكلِّ امرىءٍ من وِتْره جارُ )
فذكرها يزيد يوماً لحبابة وقد كانت أخذت عنها فلم تقدر أن تطعن عليها إلا بالسن فغنت - طويل -
( أبى القلبُ إلاّ أمَّ عوْفٍ وَحُبَّها ... عجوزاً ومن يُحْبِبْ عجوزاً يُفَنَّدِ )
فضحك وقال لمن هذا الغناء فقالت لمالك
فكان إذا جلس معها للشرب يقول غنيني صوت مالك في أم عوف
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني

عبد الله بن أحمد بن الحارث العدوي قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني أبو غانم الأزدي قال نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشام ومعه حبابة فقال زعموا أنه لا تصفو لأحد عيشة يوماً إلى الليل إلا يكدرها شيء عليه وسأجرب ذلك
ثم قال لمن معه إذا كان غداً فلا تخبروني بشيء ولا تأتوني بكتاب
وخلا هو وحبابة فأتيا بما يأكلان فأكلت رمانة فشرقت بحبة منها فماتت فأقام لا يدفنها ثلاثاً حتى تغيرت وأنتنت وهو يشمها ويرشفها فعاتبه على ذلك ذوو قرابته وصديقه وعابوا عليه ما يصنع وقالوا قد صارت جيفة بين يديك حتى أذن لهم في غسلها ودفنها وأمر فأخرجت في نطع وخرج معها لا يتكلم حتى جلس على قبرها فلما دفنت قال أصبحت والله كما قال كثير - طويل -
( فإن يَسْلُ عنكِ القلبُ أو يدعِ الصِّبا ... فباليأس يَسلو عنك لا بالتجلُّدِ )
( وكلُّ خليلٍ راءني فهو قائلٌ ... مِنَ اجلِكِ هذا هامَةُ اليومِ أو غدِ ) فما أقام إلا خمس عشرة ليلة حتى دفن إلى جنبها
أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني الفضل بن الربيع عن أبيه عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة عن أبيه أن مسلمة بن عبد الملك قال ماتت حبابة فجزع عليها يزيد فجعلت أؤسيه وأعزيه وهو ضارب بذقنه على صدره ما يكلمني حتى دفنها ورجع فلما بلغ إلى بابه التفت إليّ وقال
( فإن تَسْلُ عنكِ النَّفسُ أو تدعِ الصِّبا ... فباليأس تَسلو عنك لا بالتجلُّدِ )

ثم دخل بيته فمكث أربعين يوماً ثم هلك
قال وجزع عليها في بعض أيامه فقال انبشوها حتى أنظر إليها
فقيل تصير حديثاً فرجع فلم ينبشها
وقد روى المدائني أنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها فقال لا بد من أن تنبش
فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغير تغيراً قبيحاً فقيل له يا أمير المؤمنين اتقِ الله ألا ترى كيف قد صارت فقال ما رأيتها قط أحسن منها اليوم أخرجوها
فجاء مسلمة ووجوه أهله فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها وانصرف فكمد كمداً شديداً حتى مات فدفن إلى جانبها
قال إسحاق وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الشفافي عن العباس بن محمد أن يزيد بن عبد الملك أراد الصلاة على حبابة فكلمه مسلمة في أن لا يخرج وقال أنا أكفيك الصلاة عليها
فتخلف يزيد ومضى مسلمة حتى إذا مضى الناس انصرف مسلمة وأمر من صلى عليها
وروى الزبير عن مصعب بن عثمان عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال خرجت مع أبي إلى الشأم في زمن يزيد بن عبد الملك فلما ماتت حبابة وأخرجت لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي فحمل على منبر على رقاب الرجال فلما دفنت قال لم أصل عليها انبشوا عنها
فقال له مسلمة نشدتك الله يا أمير المؤمنين إنما هي أمة من الإماء وقد واراها الثرى فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرة واحدة
قال فوالله ما استتم دخول الناس حتى قال الحاجب أجيزوا رحمكم الله
ولم ينشب يزيد أن مات كمداً
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال حدثني ابن أبي الحويرث الثقفي قال لما ماتت حبابة جزع عليها

يزيد جزعاً شديداً فضم جويرية لها كانت تخدمها إليه فكانت تحدثه وتؤنسه فبينا هو يوماً يدور في قصره إذ قال لها هذا الموضع الذي كنا فيه
فتمثلت - طويل -
( كَفَى حَزَناً للهائم الصبِّ أن يَرى ... مَنازِلَ مَن يهوى معطَّلةً قَفْرَا )
فبكى حتى كاد يموت
ثم لم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات

صوت طويل
( أَيَدْعُوْنَني شَيْخاً وقد عِشْتُ حِقْبَةً ... وهُنَّ من الأزواجِ نحوي نوازِعُ )
( وما شابَ رأسي من سِنِينَ تَتَابَعَتْ ... عليَّ ولكنْ شَيَّبَتْهُ الوقائعُ )
الشعر لأبي الطفيل صاحب رسول الله والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وغيره

10 -

أخبار أبي الطفيل ونسبه
هو عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمير بن جابر بن حميس بن جدي بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ابن نزار
وله صحبة برسول الله ورواية عنه
وعمر بعده عمراً طويلاً وكان مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وروى عنه أيضاً وكان من وجوه شيعته وله منه محل خاص يستغنى بشهرته عن ذكره ثم خرج طالباً بدم الحسين بن علي عليهما السلام مع المختار بن أبي عبيد وكان معه حتى قتل وأفلت هو وعمر أيضاً بعد ذلك
حدثني أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن يوسف بن أسوار الجمحي بمكة قال حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال حدثني يزيد بن مليل عن أبي الطفيل أنه رأى النبي في حجة الوداع يطوف بالبيت الحرام على ناقته ويستلم الركن بمحجنه

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا أبو عاصم عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل بمثله وزاد فيه ثم يقبل المحجن
حدثني أبو عبيد الله الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال حدثنا أبو نعيم عن بسام الصيرفي عن أبي الطفيل قال سمعت علياً عليه السلام يخطب فقال سلوني قبل أن تفقدوني
فقام إليه ابن الكواء فقال ما ( الذاريات ذروا ) قال الرياح
قال ( فالجاريات يسرا ) قال السفن
قال ( فالحاملات وقراً ) قال السحاب
قال ( فالمقسمات أمراً ) قال الملائكة
قال فمن ( الذين بدلوا نعمة الله كفراً ) قال الأفجران من قريش بنو أمية وبنو مخزوم
قال فما كان ذو القرنين أنبياً أم ملكاً قال كان عبداً مؤمناً أو قال صالحاً أحب الله وأحبه ضرب ضربة على قرنه الأيمن فمات ثم بعث وضرب ضربة على قرنه الأيسر فمات
وفيكم مثله
وكتب إليّ إسماعيل بن محمد المري الكوفي يذكر أن أبا نعيم حدثه بذلك عن بسام
وذكر مثله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال بلغني أن بشر بن مروان حين كان على العراق قال لأنس بن زنيم أنشدني أفضل شعر قالته كنانة
فأنشده قصيدة أبي الطفيل - طويل -
( أَيَدْعُوْنَني شيخاً وقد عِشْتُ برهةً ... وهنَّ من الأزواجِ نَحوِي نوازعُ )

فقال له بشر صدقت هذا أشعر شعرائكم
قال وقال له الحجاج أيضاً أنشدني قول شاعركم أيدعونني شيخاً فأنشده إياه فقال قاتله الله منافقاً ما أشعره حدثني أحمد بن عيسى العجلي الكوفي المعروف بابن أبي موسى قال حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم قال حدثني أبي قال حدثني عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال سمعت ابن حذيم الناجي يقول لما استقام لمعاوية أمره لم يكن شيء أحب إليه من لقاء أبي الطفيل عامر بن واثلة فلم يزل يكاتبه ويلطف له حتى أتاه فلما قدم عليه جعل يسائله عن أمر الجاهلية ودخل عليه عمرو بن العاص ونفر معه فقال لهم معاوية أما تعرفون هذا هذا خليل أبي الحسن
ثم قال يا أبا الطفيل ما بلغ من حبك لعلي قال حب أم موسى لموسى
قال فما بلغ من بكائك عليه قال بكاء العجوز الثكلى والشيخ الرقوب وإلى الله أشكو التقصير
قال معاوية إن أصحابي هؤلاء لو سئلوا عني ما قالوا فيّ ما قلت في صاحبك
قالوا إذا والله ما نقول الباطل
قال لهم معاوية لا والله ولا الحق تقولون
ثم قال معاوية وهو الذي يقول - طويل -
( إلى رجَبِ السَّبْعِينَ تَعْتَرِفونني ... مع السيف في حَوّاءَ جَمٍّ عديدُها )
( رَجوفٍ كمتْنِ الطَّود فيها معاشرٌ ... كغُلْبِ السِّباع نُمرُها وأسودُها )
( كُهولٌ وشبّان وساداتُ معشرٍ ... على الخيل فُرسانٌٍ قليلٌٍ صدودها )
( كأنَّ شعاع الشَّمس تحتَ لوائِها ... إذا طَلعتْ أعشَى العيونَ حديدُها )
( يَمُورونَ مَوْرَ الرِّيح إما ذُهِلْتُمْ ... وزَلّت بأكفالِ الرجال لبودُها )
( شِعارُهُمُ سِيما النبيِّ ورايةٌ ... بها انتقَمَ الرحمنُ ممن يَكيدها )

( تخطُّفُهمْ إياكُمُ عنْدَ ذكرِهِمْ ... كخَطْف ضوارِي الطَّير طيراً تصيدها )
فقال معاوية لجلسائه أعرفمتوه قالوا نعم هذا أفحش شاعر وألأم جليس
فقال معاوية يا أبا الطفيل أتعرفهم فقال ما أعرفهم بخير ولا أبعدهم من شر
قال وقام خزيمة الأسدي فأجابه فقال - طويل -
( إلى رجبٍ أو غُرّةِ الشهرِ بعده ... تصبِّحكُمْ حُمْرُ المنايا وسُودُها )
( ثمانون ألفاً دِينُ عثمانَ دينُهُمْ ... كتائبُ فيها جِبرَئيلُ يقودها )
( فمن عاشَ منكم عاش عبداً ومن يمت ... ففي النار سُقياهُ هناكَ صديدُها )
أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق قال لما رجع محمد بن الحنفية من الشام حبسه ابن الزبير في سجن عارم فخرج إليه جيش من الكوفة عليهم أبو الطفيل عامر بن واثلة حتى أتوا سجن عارم فكسروه وأخرجوه فكتب ابن الزبير إلى أخيه مصعب أن يسير نساء كل من خرج لذلك
فأخرج مصعب نساءهم وأخرج فيهن أم الطفيل امرأة أبي الطفيل وابناً له صغيراً يقال له يحيى فقال أبو الطفيل في ذلك - متقارب -
( إنْ يكُ سَيَّرهَا مُصْعَبُ ... فإني إلى مصعبٍ مذنِبُ )
( أقودُ الكتيبةَ مُسْتَلْئِماً ... كأنِّي أخو عُرّةٍ أَجْرَبُ )

( عليَّ دِلاصٌ تخيَّرْتُها ... وفي الكفِّ ذو رَوْنَقٍ مِقْضَبُ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا سلمة بن الفضل عن فطر بن خليفة قال سمعت أبا الطفيل يقول لم يبق من الشيعة غيري
ثم تمثل - طويل -
( وخُلّفْتُ سَهْماً في الكنانة واحداً ... سيُرمَى به أو يكسِر السهمَ كاسرُه )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عاصم قال حدثني شيخ من بني تيم اللات قال كان أبو الطفيل مع المختار في القصر فرمى بنفسه قبل أن يؤخذ وقال - طويل -
( ولما رأيْتُ البابَ قد حِيلَ دونه ... تكسَّرْتُ باسمِ الله فيمن تكسَّرا )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن شداد النشابي قال حدثني المفضل بن غسان قال حدثني عيسى بن واضح عن سليم ابن مسلم المكي عن ابن جريج عن عطاء قال دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزبير وهو يومئذ بمكة فقال أصبحت كما قال الشاعر - بسيط -
( فإنْ تُصِبْكَ من الأيامِ جائحةٌ ... لا أَبْكِ منكَ على دُنيا ولا دينِ )
قال وما ذاك يا أعرج قال هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس وعبيد الله أخوه يطعم الناس فما بقيا لك فأحفظه ذلك فأرسل صاحب شرطته عبد الله بن مطيع

فقال له انطلق إلى ابني عباس فقل لهما أعمدتما إلى راية ترابية قد وضعها الله فنصبتماها بددا عني جمعكما ومن ضوى إليكما من ضلال أهل العراق وإلا فعلت وفعلت فقال ابن عباس قل لابن الزبير يقول لك ابن عباس ثكلتك أمك والله ما يأتينا من الناس غير رجلين طالب فقه أو طالب فضل فأي هذين تمنع فأنشأ أبو الطفيل عامر بن واثلة - بسيط -
( لا دَرَّ درُّ الليالي كيف تُضحِكنا ... منها خطوب أعاجيبٌٍ وتبكينا )
( ومثلُ ما تحدِث الأيامُ من غِيَرٍ ... يا ابنَ الزبير عن الدنيا يُسلِّينا )
( كنّا نجيءُ ابنَ عباسٍ فَيُقْبِسُنا ... عِلماً ويُكْسِبُنا أجْراً ويَهدينا )
( ولا يزالُ عبيدُ الله مترعَةً ... جِفانُه مُطْعِماً ضَيْفاً ومسكينا )
( فالبِرُّ والدِّينُ والدُّنيا بدارِهما ... ننال منها الذي نبغي إذا شِينا )
( إن النبيَّ هو النور الذي كُشِفَتْ ... به عَمَاياتُ باقينا وماضينا )
( ورهطُه عِصمةٌ في ديننا ولهمْ ... فضلٌ علينا وحقٌّ واجبٌ فينا )
( ولسْتَ فاعلمْهُ أولى مِنْهُمُ رحماً ... يا ابنَ الزبير ولا أولَى به دِينا )
( ففيمَ تَمنعُهُمْ عَنَّا وتمنعنا ... منهم وتؤذيْهُم فينا وتؤذينا )
( لن يؤتي الله مَنْ أخزى ببغضهِمُ ... في الدين عِزّاً ولا في الأرض تمكينا )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني بعض أصحابنا أن أبا الطفيل عامر بن واثلة دعي في مأدبة فغنت فيها قينة قوله يرثي ابنه - بسيط -
( خَلَّى طفيلٌ عليَّ الهمَّ وانشعبا ... وهدَّ ذلك ركنِي هَدّةً عجبا )
فبكى حتى كاد يموت

وقد أخبرني بهذا الخبر عمي عن طلحة بن عبد الله الطلحي عن أحمد بن إبراهيم أن أبا الطفيل دعي إلى وليمة فغنت قينة عندهم - بسيط -
( خَلَّى عليَّ طُفيلُ الهمَّ وانشعبا ... وهدَّ ذلك ركنِي هَدّةً عجبا )
( وابنَيْ سُميةَ لا أنساهما أبداً ... فيمن نَسِيتُ وكلٌّ كان ليْ وَصَبا )
فجعل ينشج ويقول هاه هاه طفيل ويبكي حتى سقط على وجهه ميتاً
وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه بخبر أبي الطفيل هذا فذكر مثل ما مضى وزاد في الأبيات
( فاملِكْ عزاءكَ إنْ رزءٌ بلِيتَ به ... فلنْ يردَّ بكاءُ المرء ما ذهبا )
( وليس يَشفِي حزيناً مِنْ تذكُّره ... إِلاّ البكاءُ إذا ما ناح وانتحبا )
( فإذْ سلكْتَ سبيلاً كنْتَ سالكَها ... ولا محالةَ أن يأتي الذي كُتبا )
( فما لبطنك من ريٍّ ولا شِبَع ... ولا ظلِلْتَ بباقي العيش مُرْتَغِبا )
وقال حماد بن إسحاق حدثني أبي قال حدثني أبو عبد الله الجمحي عن أبيه قال بينا فتية من قريش ببطن محسر يتذاكرون الأحاديث ويتناشدون الأشعار إذ أقبل طويس وعليه قميص قوهي وحبرة قد ارتدى بها وهو يخطر في مشيته فسلم ثم جلس فقال له القوم يا أبا عبد المنعم لو غنيتنا قال نعم وكرامة أغنيكم بشعر شيخ من أصحاب رسول الله من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وصاحب رايته أدرك الجاهلية والإسلام وكان سيد قومه

وشاعرهم
قالوا ومن ذاك يا أبا عبد المنعم فدتك أنفسنا قال ذلك أبو الطفيل عامر بن واثلة ثم اندفع فغنى - طويل -
( أيَدعونني شيخاً وقد عِشْتُ حِقْبَةً ... وهُنَّ من الأزواج نَحْوِي نوازعُ )
فطرب القوم وقالوا ما سمعنا قط غناء أحسن من هذا
وهذا الخبر يدل على أن فيه لحناً قديماً ولكنه ليس يعرف

صوت خفيف
( لمنِ الدارُ أقفرتْ بمَعَانِ ... بين شاطي اليَرْموك فالصَّمّانِ )
( فالقُرَيّات من بَلاسَ فدَارَيَّا ... فسَكّاءَ فالقُصورِ الدواني )
( ذاكَ مَغْنىً لآل جفنةَ في الدَّهرِ ... وحَقٌّ تَصَرُّفُ الأزمان )
( صلوات المسيحِ في ذلك الدير ... دعاءُ القِسِّيس والرُّهبانِ )
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لحنين بن بلوع خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى

وهذا الصوت من صدور الأغاني ومختارها وكان إسحاق يقدمه ويفضله
ووجدت في بعض كتبه بخطه قال الصيحة التي في لحن حنين - خفيف -
( لمن الدارُ أقفرتْ بمَعَانِ ... )
أخرجت من الصدر ثم من الحلق ثم من الأنف ثم من الجبهة ثم نبرت فأخرجت من القحف ثم نونت مردودة إلى الأنف ثم قطعت
وفي هذه الأبيات وأبيات غيرها من القصيدة ألحان لجماعة اشتركوا فيها واختلف أيضاً مؤلفو الأغاني في ترتيبها ونسبة بعضها مع بعض إلى صاحبها الذي صنعها فذكرت هاهنا على ذلك وشرح ما قالوه فيها
فمنها - خفيف -

صوت
( قد عفا جاسمٌ إلى بيت رأسٍ ... فالحوانِي فجانِبُ الجَوْلانِ )
( فحِمى جاسمٍ فأبنيةُ الصُّفرِ ... مَغْنَى قنابلٍ وهِجانِ )
( فالقُريّات من بَلاَسَ فدارَيَّا ... فَسَكّاءَ فالقصور الدَّواني )
( قد دنا الفِصْح فالولائدُ يَنظِمْنَ ... سِراعاً أكِلَّةَ المَرْجانِ )

( يتبارَيْنَ في الدعاء إلى اللَّهِ ... وكلُّ الدّعاءِ للشيطان )
( ذاك مغنىً لآل جَفْنَةَ في الدّهرِ ... وحَقٌّ تَصَرُّفُ الأزمان )
( صلواتُ المسيح في ذلك الدّير ... دعاءُ القسِّيس والرُّهبان )
( قد أَراني هُناك حقَّ مَكينٍ ... عند ذي التاج مَقْعدِي ومكاني )
ذكر عمرو بن بانة أن لابن محرز في الأول من هذه الأبيات والرابع خفيف ثقيل أول بالبنصر
وذكر علي بن يحيى أن لابن سريج في الرابع والخامس رملاً بالوسطى وأن لمعبد فيهما وفيما بعدهما من الأبيات خفيف ثقيل ولمحمد بن إسحاق بن برثع ثقيل أول في الرابع والثامن
وذكر الهشامي أن في الأول لمالك خفيف ثقيل ووافقه حبش
وذكر حبش أن لمعبد في الأول والثاني والرابع ثقيلاً أول بالبنصر

أخبار حسان وجبلة بن الأيهم
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عبد الله الزهري قال حدثني يوسف بن الماجشون عن أبيه قال قال حسان بن ثابت أتيت جبلة بن الأيهم الغساني وقد مدحته فأذن لي فجلست بين يديه وعن يمينه رجل له ضفيرتان وعن يساره رجل لا أعرفه فقال أتعرف هذين فقلت أما هذا فأعرفه وهو النابغة وأما هذا فلا أعرفه
قال فهو علقمة بن عبدة فإن شئت أن تسكت سكت
قلت فذاك
قال فأنشده النابغة - طويل -
( كِلِينِي لهمٍّ يا أميمة ناصبِ ... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكِبِ )

قال فذهب نصفي
ثم قال لعلقمة أنشد
فأنشد - طويل -
( طَحا بك قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيدَ الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشيبُ )
فذهب نصفي الآخر فقال لي أنت أعلم الآن إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت وإن شئت أن تسكت سكت فتشددت ثم قلت لا بل أنشد
قال هات
فأنشدته - كامل -
( لله دَرُّ عِصَابةٍ نادمْتُها ... يوماً بجِلِّقَ في الزَّمان الأوّلِ )
( أولادُ جَفْنَةَ عندَ قبر أبيهمُ ... قبرِ ابن مارِيَة الكريمِ المُفْضِلِ )
( يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البرِيصَ عليْهِم ... كأساً تُصَفَّقُ بالرحيق السلسلِ )
( يُغشَوْنَ حتّى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ ... لا يسألون عن السوَّاد المُقْبل )
( بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهُمْ ... شُمُّ الأنوفِ من الطِّرازِ الأوّل )
فقال لي أدنه أدنه لعمري ما أنت بدونهما
ثم أمر لي بثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد وقال هذا لك عندنا في كل عام
وقد ذكر أبو عمرو الشيباني هذه القصة لحسان ووصفها وقال إنما فضله عمرو بن الحارث الأعرج ومدحه بالقصيدة اللامية
وأتى بالقصة أتم من هذه الرواية

قال أبو عمرو قال حسان بن ثابت قدمت على عمرو بن الحارث فاعتاص الوصول علي إليه فقلت للحاجب بعد مدة إن أذنت لي عليه وإلا هجوت اليمن كلها ثم انقلبت عنكم
فأذن لي فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره فقال لي يا ابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية ولا أحتاج إلى الشعر فإني أخاف عليك هذين السبعين النابغة وعلقمة أن يفضحاك وفضيحتك فضيحتي وأنت والله لا تحسن أن تقول - طويل -
( رِقاقُ النِّعال طَيِّبٌ حُجُزاتُهُمْ ... يُحَيَّوْن بالريحانِ يوم السَّباسِب )
فأبيت وقلت لا بد منه
فقال ذاك إلى عميك
فقلت لهما بحق الملك إلا قدمتماني عليكما
فقالا قد فعلنا
فقال عمرو بن الحارث هات يا ابن الفريعة
فأنشأت - كامل -
( أسألْتَ رسمَ الدَّارِ أم لم تَسْأَلِ ... بَينَ الحوانِي فالبَضيعِ فَحَوملِ )
فقال فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن موضعه سروراً حتى شاطر البيت وهو يقول هذا وأبيك الشعر لا ما تعللاني به منذ اليوم هذه والله البتارة التي قد

بترت المدائح أحسنت يا ابن الفريعة هات له يا غلام ألف دينار مرجوحة وهي التي في كل دينار عشرة دنانير
فأعطيت ذلك ثم قال لك عليّ في كل سنة مثلها
ثم أقبل على النابغة فقال قم يا زياد فهات الثناء المسجوع
فقام النابغة فقال ألا أنعم صباحاً أيها الملك المبارك السماء غطاؤك والأرض وطاؤك ووالداي فداؤك والعرب وقاؤك والعجم حماؤك والحكماء جلساؤك والمداره سمارك والمقاول إخوانك والعقل شعارك والحلم دثارك والسكينة مهادك والوقار غشاؤك والبر وسادك والصدق رداؤك واليمن حذاؤك والسخاء ظهارتك والحمية بطانتك والعلاء علايتك وأكرم الأحياء أحياؤك وأشرف الأجداد أجدادك وخير الآباء آباؤك وأفضل الأعمام أعمامك وأسرى الأخوال أخوالك وأعف النساء حلائلك وأفخر الشبان أبناؤك وأطهر الأمهات أمهاتك وأعلى البنيان بنيانك وأعذب المياه أمواهك وأفيح الدارات داراتك وأنزه الحدائق حدائقك وأرفع اللباس لباسك قد حالف الإضريج عاتقيك ولاءم المسك مسكك وجاور العنبر ترائبك وصاحب

النعيم جسدك
العسجد آنيتك واللجين صحافك والعصب مناديلك والحوارى طعامك والشهد إدامك واللذات غذاؤك والخرطوم شرابك والأبكار مستراحك والأشراف مناصفك والخير بفنائك والشر بساحة أعدائك والنصر منوط بلوائك والخذلان مع ألوية حسادك والبر فعلك
قد طحطح عدوك غضبك وهزم مغايبهم مشهدك وسار في الناس عدلك وشسع بالنصر ذكرك وسكن قوارع الأعداء ظفرك
الذهب عطاؤك والدواة رمزك والأوراق لحظك وإطراقك وألف دينار مرجوحة إنماؤك أيفاخرك المنذر اللخمي فوالله لقفاك خير من وجهه ولشمالك خير من يمينه ولأخمصك خير من رأسه ولخطاؤك خير من صوابه ولصمتك خير من كلامه ولأمك خير من أبيه ولخدمك خير من قومه
فهب لي أسارى قومي واسترهن بذلك شكري فإنك من أشراف قحطان وأنا من سروات عدنان

فرفع عمرو رأسه إلى جارية كانت قائمة على رأسه وقال بمثل هذا فليثن على الملوك ومثل ابن الفريعة فليمدحهم وأطلق له أسرى قومه
وذكر ابن الكلبي هذه القصة نحو هذا وقال فقال له عمرو اجعل المفاضلة بيني وبين المنذر شعراً فإنه أسير فقال - متقارب -
( ونُبِّئْتُ أنَّ أبا منذرٍ ... يُسامِيك للحدَث الأكبرِ )
( قَذَالُكَ أحسنُ من وجهِه ... وأمّكَ خيرٌ من المنذرِ )
( ويُسْراك أجْوَدُ من كفّه اليمينِ فقُولا له أخِّرِ )
وقد ذكر المدائني أن هذه الأبيات والسجع الذي قبلها لحسان وهذا أصح
قال أبو عمرو الشيباني لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني وكان من ملوك آل جفنة كتب إلى عمر رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته من عك وغسان حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه فسر عمر رضوان الله عليه وأمر الناس باستقباله وبعث إليه بأنزال وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الديباج والحرير وركبوا الخيول معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية وهي جدته ودخل المدينة فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيه فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطفه وأدنى مجلسه ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة فبينا هو يطوف بالبيت وكان مشهوراً بالموسم إذ وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري فاستعدى عليه عمر رضوان الله عليه فبعث إلى جبلة فأتاه

فقال ما هذا قال نعم يا أمير المؤمنين إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر قد أقررت فإما أن رضي الرجل وإما أن أقيده منك
قال جبلة ماذا تصنع بي قال آمر بهشم أنفك كما فعلت
قال وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك قال إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية قال جبلة قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية
قال عمر دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك
قال إذاً أتنصر
قال إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك
فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال أنا ناظر في هذا ليلتي هذه
وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف حتى إذا نام الناس وهدؤوا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشأم فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع فلما انتهى إلى الشأم تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه فسر هرقل بذلك جداً وظن أنه فتح من الفتوح عظيم وأقطعه حيث شاء وأجرى عليه من النزل ما شاء وجعله من محدثيه وسماره
هكذا ذكر أبو عمرو
وذكر ابن الكلبي أن الفزاري لما وطئ إزار جبلة لطم جبلة كما لطمه فوثبت غسان فهشموا أنفه وأتوا به عمر ثم ذكر باقي الخبر نحو ما ذكرناه
وذكر الزبير بن بكار فيما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عنه أن محمد بن الضحاك حدثه عن أبيه أن جبلة قدم على عمر رضي الله عنه في ألف من أهل بيته فأسلم
قال وجرى بينه وبين رجل من أهل المدينة كلام فسب المديني فرد عليه فلطمه جبلة فلطمه المديني فوثب عليه أصحابه فقال دعوه حتى أسأل صاحبه وأنظر ما عنده
فجاء إلى عمر فأخبره فقال إنك فعلت به فعلاً ففعل بك مثله
قال أو ليس عندك من الأمر إلا ما أرى
قال لا فما الأمر عندك يا جبلة

قال من سبنا ضربناه ومن ضربنا قتلناه
قال إنما أنزل القرآن بالقصاص
فغضب وخرج بمن معه ودخل أرض الروم فتنصر ثم ندم وقال - طويل -
( تنصَّرتِ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ ... )
وذكر الأبيات وزاد فيها بعد طويل
( ويا ليتَ لي بالشأم أدنَى معيشةٍ ... أجالسُ قومي ذاهبَ السمعِ والبصَرْ )
( أدين بما دانوا به من شريعةٍ ... وقد يحبس العَوْد الضَّجور على الدَّبَرْ )
وذكر باقي خبره فيما وجه به إلى حسان مثله وزاد فيه أن معاوية لما ولي بعث إليه فدعاه إلى الرجوع إلى الإسلام ووعده إقطاع الغوطة بأسرها فأبى ولم يقبل
ثم إن عمر رضي الله عنه بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز وإلى الإسلام ووجه إليه رجلا من أصحابه وهو جثامة بن مساحق الكناني فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الانصراف قال له هرقل هل رأيت ابن عمك هذا الذي جاءنا راغباً في ديننا قال لا
قال فالقه
قال الرجل فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أرَ بباب هرقل مثله فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم وفيه من التصاوير ما لا أحسن وصفه وإذا هو جالس على سرير من قوارير قوائمه أربعة أسد من ذهب وإذا هو رجل أصهب سبال وعثنون وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح فما رأيت أحسن منه
فلما سلمت رد السلام ورحب بي وألطفني ولامني على تركي النزول عنده ثم أقعدني على شيء لم أثبته فإذا هو كرسي من ذهب فانحدرت عنه فقال مالك فقلت إن رسول الله نهى عن هذا
فقال جبلة

أيضاً مثل قولي في النبي حين ذكرته وصلى عليه
ثم قال يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ما جلست عليه
ثم سألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه فقلت ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام قال أبعد الذي قد كان قلت قد ارتد الأشعث بن قيس ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام
فتحدثنا ملياً ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولى يحضر فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه فوضع أمامي خوان خلنج وجامات قوارير وأديرت الخمر فاستعفيت منها فلما فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب به خمساً عدداً
ثم أومأ إلى غلام فولى يحضر فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله ثم سمعت وسوسة من ورائي فإذا أنا بعشر أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة مؤدب وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر قد خلطا وأنعم سحقهما وفي اليسرى جام وفيه ماء ورد فألقت الطائر في ماء الورد فتمعك بين جناحيه وظهره وبطنه ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة ثم قال للجواري أطربنني
فخفقن بعيدانهن يغنين - كامل -
( لله دَرُّ عصابةٍ نادَمْتُهُمْ ... يوماً بجِلِّقَ في الزمان الأوّلِ )
( بِيضِ الوجوه كريمة أحسابُهُمْ ... شُمِّ الأنوف من الطِّرازِ الأوّل )

( يُغْشَونَ حتّى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ ... لا يسألون عن السَّواد المقبل )
فاستهل واستبشر وطرب ثم قال زدنني
فاندفعن يغنين خفيف
( لمن الدارُ أقفرَتْ بمعَانِ ... بين شاطِي اليرموك فالصَّمَّان )
( فَحِمى جاسمٍ فأبنية الصُّفَر ... مَغْنَى قنابلٍ وهِجان )
( فالقُرُيّاتِ من بَلاسَ فدارَ ... يَّا فَسكَّاءَ فالقصورِ الدوانِي )
( ذاكَ مغْنىً لآل جفنةَ في الدَّارِ ... وحَقٌّ تعاقُبُ الأزمان )
( قد دنا الفِصْحُ فالولائدَ يَنْظِمْنَ ... سِراعاً أكِلّةَ المَرْجان )
( لم يُعلَّلْنَ بالمغافير والصَّمغ ... ولا نَقْفِ حَنظل الشِّريان )
( قد أُرانِي هناكَ حقّاً مكينا ... عند ذي التاج مَقْعدِي ومكاني )
فقال أتعرف هذه المنازل قلت لا
قال هذه منازلنا في ملكنا بأكناف دمشق وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت شاعر رسول الله
قلت أما إنه مضرور البصر كبير السن
قال يا جارية هاتي
فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج فقال ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام
ثم أرادني على مثلها فأبيت فبكى ثم قال لجواريه أبكينني
فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن - طويل -
( تنصَّرَتِ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ ... وما كان فيها لو صَبرْتُ لها ضَرَرْ )
( تكنَّفني فيها لجَاجٌ ونَخوةٌ ... وبِعْتُ بها العيْنَ الصحيحةَ بالعَوَرْ )
( فيا ليتَ أمِّي لم تَلِدْني وليتني ... رجَعْتُ إلى القول الذي قال لي عُمَرْ )

( ويا ليتني أرعَى المخاضَ بقَفْرَةٍ ... وكنتُ أسيراً في ربيعةَ أو مُضر )
( ويا ليت لي بالشأم أدنى معيشةٍ ... أجالِسُ قومي ذاهبَ السَّمْعِ والبَصَرْ )
ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ ثم سلمت عليه وانصرفت فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها فقال أورأيت جبلة يشرب الخمر قلت نعم
قال أبعده الله تعجل فانية اشتراها بباقية فما ربحت تجارته فهل سرح معك شيئاً قلت سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج
فقال هاتها
وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنا فسلم وقال يا أمير المؤمنين إني لأجد أرواح آل جفنة
فقال عمر رضي الله عنه قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه وأتاك بمعونة
فانصرف عنه وهو يقول 6 - كامل -
( إنَّ ابنَ جفنةَ من بقيّة مَعْشَرٍ ... لم يَغْذُهُمْ آباؤهُمْ باللُّومِ )
( لم يَنسنِي بالشَّأم إذ هو ربُّها ... كَلاَّ ولا متنصِّراً بالروم )
( يُعطِي الجزيلَ ولا يَراه عنده ... إلاَّ كبعض عطيّةِ المَذْمُوم )
( وأتيْتُه يوماً فقرَّب مجلسِي ... وسقَى فروَّاني من الخُرطومِ )
فقال له رجل في مجلس عمر أتذكر قوماً كانوا ملوكاً فأبادهم الله وأفناهم فقال ممن الرجل قال مزني
قال أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله لطوقتك طوق الحمامة
وقال ما كان خليلي ليخل بي فما قال لك قال قال إن وجدته حياً فادفعها إليه وإن وجدته ميتاً فاطرح الثياب على قبره وابتع بهذه الدنانير بدنا فانحرها على قبره
فقال حسان ليتك وجدتني

ميتاً ففعلت ذلك بي أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال قال لي عبد الرحمن بن عبد الله الزبيري قال الرسول الذي بعث به إلى جبلة
ثم ذكر قصته مع الجارية التي جاءت بالجامين والطائر الذي تمعك فيهما وذكر قول حسان
( إنَّ ابنَ جفنةَ من بقيّة مَعْشَرٍ ... ) - كامل - ولم يذكر غير ذلك
هكذا روى أبو عمرو في هذا الخبر
وقد أخبرني به أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال قال عبد الله بن مسعدة الفزاري وجهني معاوية إلى ملك الروم فدخلت عليه فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلسه فكلمني بالعربية فقلت من أنت يا عبد الله قال أنا رجل غلب عليه الشقاء أنا جبلة بن الأيهم إذا صرت إلى منزلي فالقني
فلما انصرف وانصرفت أتيته في داره فألفيته على شرابه وعنده قينتان تغنيانه بشعر حسان بن ثابت - خفيف -
( قد عَفا جاسمٌ إلى بيت رأسٍ ... فالحوانِي فجانب الجَوْلان ) وذكر الأبيات
فلما فرغتا من غنائهما أقبل علي ثم قال ما فعل حسان بن ثابت قلت شيخ كبير قد عمي
فدعا بألف دينار فدفعها إليّ وأمرني أن أدفعها إليه ثم قال أترى صاحبك يفي لي إن خرجت إليه قال قلت قل ما شئت أعرضه عليه
قال يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا وعشرين قرية من الغوطة منها دارياً وسكاء ويفرض بجماعتنا ويحسن جوائزنا
قال قلت أبلغه
فلما قدمت على معاوية قال وددت أنك أجبته إلى ما سأل فأجزته له
وكتب إليه معاوية يعطيه

ذلك فوجده قد مات
قال وقدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله فلقيت حسان فقلت يا أبا الوليد صديقك جبلة يقرأ عليك السلام
فقال هات ما معك
قلت وما علمك أن معي شيئاً قال ما أرسل إليّ بالسلام قط إلا ومعه شيء
قال فدفعت إليه المال
أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن أهل المدينة قالوا بعث جبلة إلى حسان بخمسمائة دينار وكسى وقال للرسول إن وجدته قد مات فابسط هذه الثياب على قبره
فجاء فوجده حياً فأخبره فقال لوددت أنك وجدتني ميتاً

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني
صوت طويل
( تنصَّرتِ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ ... وما كانَ فيها لو صَبَرْتُ لها ضَررْ ) الأبيات الخمسة
الشعر لجبلة بن الأيهم والغناء لعريب نصب خفيف
وبسيط رمل بالوسطى
ومنها - كامل -
صوت
( إنَّ ابن جفنةَ من بقيةِ مَعْشَرٍ ... لم يَغْذُهُمْ آباؤهُمْ باللُّومِ )
الأبيات الأربعة
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لعريب هزج بالبنصر
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي يوسف بن محمد قال

حدثني عمي إسماعيل بن أبي محمد قال قال الواقدي حدثني محمد بن صالح قال كان حسان بن ثابت يغدو على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في أهله فقال لو وفدت على الحارث بن أبي شمر الغساني فإن له قرابة ورحماً بصاحبي وهو أبذل الناس للمعروف وقد يئس مني أن أفد عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة
قال فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث وقد هيأت له مديحاً فقال لي حاجبه وكان لي ناصحاً إن الملك قد سر بقدومك عليه وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة فإياك أن تقع فيه فإنه إنما يختبرك وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه فلا تبتدئ بذكره وإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه امسح ذكره مسحاً وجاوزه إلى غيره فإن صاحبك يعني جبلة أشد إغضاء عن هذا من هذا أي أشد تغافلاً وأقل حفلاً به وذلك أن صاحبك أعقل من هذا وأبين وليس لهذا بيان فإذا دخلت عليه فسوف يدعوك إلى الطعام وهو رجل يثقل عليه أن يؤكل طعامه ولا يبالي الدرهم والدينار ويثقل عليه أن يشرب شرابه أيضاً فإذا وضع طعامه فلا تضع يدك حتى يدعوك وإذا دعاك فأصب من طعامه بعض الإصابة
قال فشكرت لحاجبه ما أمرني به
قال ثم دخلت عليه فسألني عن البلاد وعن الناس وعن عيشنا بالحجاز وعن رجال يهود وكيف ما بيننا من تلك الحروب
فكل ذلك أخبره حتى انتهى إلى ذكر جبلة فقال كيف تجد جبلة فقد انقطعت إليه وتركتنا فقلت إنما جبلة منك وأنت منه
فلم أجر إلى مدح ولا عيب وجاز ذلك إلى غيره ثم قال الغداء
فأتي بالغداء ووضع الطعام فوضع يده فأكل أكلاً شديداً وإذا رجل جبار فقال بعد ساعة ادن فأصب من هذا
فدنوت فخططت تخطيطاً فأتي بطعام كثير ثم رفع الطعام وجاء وُصفاءُ كثير عددهم معهم الأباريق فيها ألوان

الأشربة
ومعهم مناديل اللين فقاموا على رؤوسنا ودعا أصحاب برابط من الروم فأجلسهم وشرب فألهوه وقام الساقي على رأسي فقال اشرب
فأبيت حتى قال هو اشرب
فشربت فلما أخذ فينا الشراب أنشدته شعراً فأعجبه ولذ به فأقمت عنده أياماً فقال لي حاجبه إن له صديقاً هو أخف الناس عليه وهو جاء فإذا هو جاء جفاك وخلص به وقد ذكر قدومه فاستأذنه قبل أن يقدم عليه فإنه قبيح أن يجفوك بعد الإكرام والإذن اليوم أحسن
قلت ومن هو قال نابغة بني ذبيان
فقلت للحارث إن رأى الملك أن يأذن لي في الانصراف إلى أهلي فعل
قال قد أذنت لك وأمرت لك بخمسمائة دينار وكسى وحملان
فقبضتها وقدم النابغة وخرجت إلى أهلي

صوت طويل
( ألا إنّ لَيلَى العامريّةَ أصبحَتْ ... على النأي منِّي ذنبَ غيريَ تنقِمُ )
( وما ذاك من شيءٍ أكونُ اجترمته ... إليها فتجزيني به حيثُ أعلم )
( ولكن إنساناً إذا مَلَّ صاحباً ... وحاول صَرْماً لم يزل يتجرّم )
( وما زال بي ما يُحدِث النأيُ والذي ... أعالج حتَّى كدْتُ بالعيش أبْرَمُ )
( وما زال بي الكِتْمانُ حتّى كأنني ... بِرَجْعِ جَوابِ السائِلي عنك أعجمُ )
( لأسلمَ من قول الوُشاةِ وتسلمي ... سَلِمْتِ وهل حيٌّ من الناس يسلمُ )
عروضه من الطويل
الشعر لنصيب ومن الناس من يروي الثلاثة الأبيات الأول

للمجنون
والغناء لبديح مولى عبد الله بن جعفر رحمهما الله
وفي الأبيات الأول منها ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش
وذكر حماد بن إسحاق ولم يجنسه
وفيه لابن سريج هزج خفيف بالبنصر في مجراها عن إسحاق في البيتين الأخيرين
وفيه لمعبد في البيتين الأولين خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق

12 -

خبر بديح في هذا الصوت وغيره
بديح مولى عبد الله بن جعفر وكان يقال له بديح المليح
وله صنعة يسيرة وإنما كان يغني أغاني غيره مثل سائب خاثر ونشيط وطويس وهذه الطبقة
وقد روى بديح الحديث عن عبد الله بن جعفر
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا العباس بن محمد الدوري قال حدثنا أبو عاصم النبيل عن جويرية بن أسماء عن عيسى بن عمر بن موسى عن بديح مولى عبد الله بن جعفر قال لما قدم يحيى بن الحكم المدينة دخل إليه عبد الله بن جعفر في جماعة فقال له يحيى جئتني بأوباش من أوباش خبثة فقال عبد الله سماها رسول الله طيبة وتسميها أنت خبثة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال قال داود بن جميل حدثني من سمع هذا الحديث من ابن العتبي يذكره عن أبيه قال دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه فقال يا أمير المؤمنين لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب وفنون الأسمار قال لست صاحب هزل والجد مع

علتي أحجى بي
قال وما علتك يا أمير المؤمنين قال هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ مني
قال فإن بديحاً مولاي أرقى الناس منه
فوجه إليه عبد الملك فلما مضى الرسول سقط في يدي ابن جعفر وقال كذبة قبيحة عند خليفة
فما كان بأسرع من أن طلع بديح فقال كيف رقيتك من عرق النسا
قال أرقى الخلق يا أمير المؤمنين
قال فسري عن عبد الله لأن بديحاً كان صاحب فكاهة يعرف بها فمد رجله فتفل عليها ورقاها مراراً فقال عبد الملك الله أكبر وجدت والله خفاً يا غلام ادع فلانة حتى تكتب الرقية فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا نذعر بديحاً
فلما جاءت الجارية قال بديح يا أمير المؤمنين امرأته الطلاق إن كتبتها حتى تعجل حبائي
فأمر له بأربعة آلاف درهم فلما صار المال بين يديه قال وامرأته الطلاق إن كتبتها أو يصير المال إلى منزلي
فأمر به فحمل إلى منزله فلما أحرزه قال يا أمير المؤمنين امرأته الطلاق إن كنت قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب - طويل -
( ألا إنّ لَيلَى العامريّةَ أصبحَتْ ... على النأي منِّي ذَنْبَ غيرِيَ تنقِمُ )
وذكر الأبيات وزاد فيها
( وما زلْتُ أستصفِي لكِ الودّ أبتغي ... مُحاسَنةً حتَّى كأنّي مُجْرِمُ )
قال ويلك ما تقول قال امرأته الطلاق إن كان رقاك إلا بما قال
قال فاكتمها علي
قال وكيف ذاك وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر فطفق عبد الملك ضاحكاً يفحص برجليه

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الأصمعي عن المنتجع النبهاني عن أبيه بهذا الخبر مثل الذي قبله
وزاد في الشعر - طويل -
( فلا تصرِميني حينَ لا لِيَ مَرجِعٌ ... ورائي ولا لي عنكُمُ متقدَّمُ )
وقال فيه فسكن ما كان يجده عبد الملك وأمر لبديح بأربعة آلاف درهم فقال ابن جعفر لبديح ما سمعت هذا الغناء منك مذ ملكتك فقال هذا من نتف سائب خاثر
أخبرني إسماعيل قال حدثنا عمر قال حدثني القاسم بن محمد بن عباد عن الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن نافع أراه نافع الخير مولى ابن جعفر بهذا الخبر مثله وزاد فيه أن بديحا رفع صوته يغنيه به لما قال له أن يكتب الرقية
وزاد فيه فجعل عبد الملك يقول مهلاً يا بديح
فقال إنما رقيتك كما علمت يا أمير المؤمنين
أخبرني إسماعيل قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو سلمة الغفاري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال كان ابن جعفر يحب أن يسمع عبد الملك غناء بديح فدخل إليه يوماً فشكا إليه عبد الملك ركبته فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إن لي مولى كانت أمه بربرية وكانت ترقي من هذه العلة وقد أخذ ذلك عنها
قال فادع به
فدعي بديح فجعل يتفل على ركبة عبد الملك ويهمهم ثم قال قم يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك
فقام عبد الملك لا يجد شيئاً فقال عبد الله يا أمير المؤمنين مولاك لا بد له من صلة
قال حتى تكتب رقيته
ثم أمر جارية له فكتبت بسم الله الرحمن الرحيم
فقال ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم
قال كيف تكون ويلك رقية ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم قال فهو ذاك
قال فاكتبيها على ما فيها
فأملى عليها - طويل

( ديارَ سُليمى بين عَيقة فالمُهدِي ... سُقِيتِ وإن لم تَنطقي سَبَل الرَّعْدِ )
ثم قال له ابن جعفر لو سمعته منه
قال أويجيد قال نعم
قال هات
فما برح والله حتى أفرغها في مسامعه
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال كنا عند أبي نعيم الفضل بن دكين فجاءه رجل فقال يا أبا نعيم إن الناس يزعمون أنك رافضي
قال فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وهو يبكي وقال يا هذا أصبحت فيكم كما قال نصيب - طويل -
( وما زال بي الكِتمان حتى كأنني ... بِرَجْعِ جوابِ السَّائلِي عنكِ أَعْجَمُ )
( لأسلَم من قول الوُشاةِ وتَسلمي ... سَلِمْتِ وهل حيٌّ من الناس يَسْلمُ )

صوت رمل
( يا غرابَ البَيْنِ أسْمعْتَ فقٌلْ ... إنّما تنطق شيئاً قد فُعِلْ )
( إنَّ للخيرِ وللشّرّ مَدىً ... لِكلا ذَيْنِكَ وقتٌ وأجَلْ )
( كلُّ بؤسٍ ونعيمٍ زائلٌ ... وبنات الدهرِ يَلعبْنَ بكلّ )
( والعَطِيّاتُ خِساسٌ بينهمْ ... وسواءٌ قبرُ مُثْرٍ ومُقِلّ )

الشعر لعبد الله بن الزبعرى السهمي يقوله في غزاة أحد وهو يومئذ مشرك
والغناء لابن سريج خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو على مذهب إسحاق
وفيه لحن لابن مسجح من رواية حماد عن أبيه في كتاب ابن مسحج

13 -

نسب ابن الزبعرى وأخباره وقصة غزوة أحد
هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار
وهو أحد شعراء قريش المعدودين
وكان يهجو المسلمين ويحرض عليهم كفار قريش في شعره ثم أسلم بعد ذلك فقبل النبي إسلامه وأمنه يوم الفتح
وهذه الأبيات يقولها ابن الزبعرى في غزوة أحد
حدثنا بالخبر في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمرو بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث فقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد
قالوا لما أصيبت قريش أو من قاله منهم يوم بدر من كفار قريش من أصحاب

القليب فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة فقال أبو سفيان يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك ثأراً ممن أصيب منا
ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة وكل أولئك قد استغووا على حرب رسول الله
وكان أبو عزة عمرو ابن عبد الله الجمحي قد منّ عليه رسول الله يوم بدر وكان في الأسارى فقال يا رسول الله إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن علي صلى الله عليك
فمن عليه رسول الله فقال صفوان بن أمية يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فاخرج معنا فأعنا بنفسك
فقال إن محمداً قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه
فقال بلى فأعنا بنفسك ولك الله إن رجعت أن أعينك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر أو يسر
فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة وخرج مسافع بن عبدة بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله ودعا جبير بن مطعم غلاماً يقال له وحشي وكان حبشياً يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها فقال اخرج مع الناس فإن أنت قتلت عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق
وخرجت قريش بحدها وأحابيشها ومن معها من بني كنانة وأهل تهامة

وخرجوا بالظعن التماس الحفيظة ولئلا يفروا
وخرج أبو سفيان بن حرب وهو قائد الناس معه هند بنت عتبة بن ربيعة وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام ابن المغيرة وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة وقيل ببرة من قول أبي جعفر بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية وهي أم عبد الله بن صفوان
وخرج عمرو ابن العاص وخرج طلحة بن أبي طلحة وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن سهيل وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب قتلوا يومئذ وأبوهم
وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزة بن عمير وهي أم مصعب بن عمير
وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة ابن كنانة
وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة إذا مرت بوحشي أو مر بها قالت إيه أبا دسمة اشتف
فنزلوا ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة فلما سمع بهم رسول الله والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله للمسلمين ( إني قد رأيت بقراً تذبح فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وهي المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا فيها قاتلناهم )
ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة وراح رسول الله حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال
وكان رأي عبد الله بن

أبي بن سلول مع رأي رسول الله يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان رسول الله يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله جل ثناؤه بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن فاته بدر وحضوره يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا
فقال عبد الله بن أبي ابن سلول يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا يدخلها علينا إلا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوق رؤوسهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا
فلم يزل برسول الله الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو حتى دخل رسول الله فلبس لأمته وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله من الصلاة
وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو أحد بني النجار فصلى عليه رسول الله ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله ولم يكن ذلك لنا فخرج رسول الله عليهم فقالوا يا رسول الله استكرهناك ولم يكن ذلك لنا فإن شئت فاقعد صلى الله عليك
فقال عليه السلام ( ما ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ) قال فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة انخزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال أطاعهم فخرج وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس
فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أحد بني سلمة يقول يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوهم
فقالوا لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه

يكون قتال
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عز و جل عنكم
وقال محمد بن عمر الواقدي انخزل عبد الله بن أبي عن رسول الله من لشيخين بثلاثمائة فبقي رسول الله في سبعمائة وكان المشركون في ثلاثة آلاف والخيل مائتا فارس والظعن خمس عشرة امرأة
قال وكان في المشركين سبعمائة دارع ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان فرس لرسول الله وفرس لأبي بردة بن نيار الحارثي فادلج رسول الله من الشيخين حتى طلع الحمراء وهما أطمان كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما فيتحدثان فلذلك سميا الشيخين وهما في طرف المدينة
قال وعرض رسول الله المقاتلة بعد المغرب فأجاز من أجاز ورد من رد
قال وكان فيمن رد زيد بن ثابت وأبو عمرو أسيد بن ظهير والبراء بن عازب وعرابة بن أوس
قال وهو عرابة الذي قال فيه الشماخ - وافر -
( إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ ... تَلقَّاها عَرَابةُ باليمينِ )
قال ورد أبا سعيد الخدري وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج
وكان رسول الله قد استصغر رافعاً فقام على خفين له فيهما رقاع وتطاول على أطراف أصابعه فلما رآه رسول الله أجازه
قال محمد بن جرير فحدثني الحارث قال حدثنا ابن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر قال كانت أم سمرة تحت مري بن سنان بن ثعلبة عم أبي سعيد

الخدري وكان ربيبه فلما خرج رسول الله إلى أحد وعرض أصحابه فرد من استصغر رد سمرة بن جندب وأجاز رافع بن خديج فقال سمرة لربيبه مري ابن سنان أجاز رافعاً وردني وأنا أصرعه فقال يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه فقال النبي لرافع وسمرة اصطرعا
فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله فشهدها مع المسلمين وكان دليل النبي أبو خيثمة الحارثي

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق
ومضى رسول الله حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال رسول الله وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف ( شم سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم ) ثم قال رسول الله لأصحابه ( من رجل يخرج بنا على القوم من كثب من طريق لا يمر بنا عليهم ) فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث أنا يا رسول الله
فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك به في مال المربع بن قيظي وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثي التراب في وجوههم ويقول إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي
قال وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله ( لا تفعلوا بهذا الأعمى البصر الأعمى القلب ) وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول الله عنه فضربه بالقوس في رأسه فشجه ومضى رسول الله على وجهه حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد

وقال لا يقاتلن أحد أحداً حتى نأمره بالقتال
وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله عن القتال أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب وتعبى رسول الله وهو في سبعمائة رجل وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فارس قد جنبوا خيولهم فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وأمر رسول الله على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف وهو يومئذ معلم بثياب بيض والرماة خمسون رجلاً وقال انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت بمكانك لا نؤتين من قبلك
وظاهر رسول الله بين درعين
قال محمد بن جرير فحدثنا هارون بن إسحاق قال حدثنا مصعب بن المقدام قال حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال لما كان يوم أحد ولقي رسول الله المشركين أجلس رسول الله رجالاً بإزاء الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم ( لا تبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا ظهرنا عليهم وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا )
فلما لقي القوم هزم المشركين حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخيلهن فجعلوا يقولون الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله مهلاً أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله فأبوا فانطلقوا فلما أتوهم صرفت وجوههم فأصيب من المسلمين سبعون رجلاً
قال محمد بن جرير حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحداً وخرج رسول الله فأذن في الناس فاجتمعوا

وأمر الزبير على الخيل ومعه يومئذ المقداد الكندي وأعطى رسول الله الراية رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير وخرج حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بالجيش وبعث حمزة بين يديه
وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل فبعث رسول الله الزبير وقال استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك
وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر فقال لا تبرحن حتى أوذنكم
وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى فأرسل رسول الله إلى الزبير أن يحمل فحمل على خالد بن الوليد فهزمه الله تعالى ومن معه فقال جل وعز ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) إلى قوله تبارك اسمه وتعالى ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) وإن الله تعالى وعد المؤمنين النصر وأنه معهم
وإن رسول الله بعث ناساً من الناس فكانوا من ورائهم فقال رسول الله كونوا هاهنا فردوا وجه من فر منا وكونوا حرساً لنا من قبل ظهورنا
وإنه عليه السلام لما هزم القوم هو وأصحابه قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعضهم لبعض ورأوا النساء مصعدات في الجبل ورأوا الغنائم انطلقوا إلى رسول الله وأدركوا الغنائم قبل أن تسبقوا إليها
وقالت طائفة أخرى بل نطيع رسول الله فنثبت مكاننا
فقال ابن مسعود ما شعرت أن أحداً من أصحاب رسول الله كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ
قال محمد بن جرير حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا أسباط عن السدي قال لما برز رسول الله بأحد إلى المشركين أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال لهم لا

تبرحوا مكانكم إن رأيتم قد هزمناهم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم
وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير
ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال يا معاشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله عز و جل تعجلنا بسيوفكم إلى النار وتعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار فقام إليه علي بن أبي طالب عليه السلام فقال والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله عز و جل بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فبدت عورته فقال أنشدك الله والرحم يا ابن عم
فتركه فكبر رسول الله وقال لعلي وأصحابه ما منعك أن تجهز عليه قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه
ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم وحمل النبي وأصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع فلما نظر الرماة إلى رسول الله وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم لا نترك أمر رسول الله
وانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل فقتل الرماة وحمل على أصحاب رسول الله فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تبادروا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم

رجع إلى حديث ابن إسحاق
فقال رسول الله من يأخذ هذا السيف بحقه فقام إليه رجال فأمسكه بينهم حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال ما حقه يا رسول الله قال أن تضرب به في العدو حتى ينحني
فقال أنا آخذه بحقه يا رسول الله
فأعطاه إياه
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب إذا كانت وكان إذا أعلم على رأسه بعصابة له حمراء علم الناس أنه سيقاتل فلما أخذ السيف من يد رسول الله أخذ عصابته تلك فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين
قال محمد بن إسحاق حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال قال رسول الله حين رأى أبا دجانة يتبختر إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن
وقد أرسل أبو سفيان رسولاً فقال يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين ابن عمنا ننصرف عنكم فإنه لا حاجة بنا إلى قتالكم
فردوه بما يكره
وعن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك بن أمية أحد بني ضبيعة وقد خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله ومعه خمسون غلاماً من الأوس منهم عثمان بن حنيف وبعض الناس يقول كانوا خمسة عشر فكان يعد قريشاً أن لو قد لقي محمداً لم يختلف عليه منهم رجلان
فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش

وعبدان أهل مكة فنادى يا معشر الأوس أنا أبو عامر
قالوا فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق
وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية الراهب فسماه رسول الله الفاسق
فلما سمع ردهم عليه قال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتلهم قتالا شديداً ثم راضخهم بالحجارة
وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال يا بني عبد الدار إنكم وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فسنكفيكموه
فهموا به وتوعدوه وقالوا نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع وذلك الذي أراد أبو سفيان
فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللواتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول - مجزوء الرجز -
( إنْ تُقبلوا نُعانقْ ... ونَفرش النمارقْ )
( أو تدبروا نفارقْ ... فِراقَ غيرِ وامقْ )
وتقول - مجزوء الرجز -
( إيهاً بني عبد الدارْ ... إيهاً حُماةَ الأدبارْ )
( ضَرْباً بكلِّ بتَّارْ ... )
واقتتل الناس حتى حميت الحرب وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس وحمزة ابن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب عليهما السلام في رجال من المسلمين فأنزل الله نصره وصدقهم وعده فحسوهم بالسيف حتى كشفوهم وكانت الهزيمة

وعن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده قال قال الزبير والله لقد رأيتني أنظر إلى هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى الكر حتى كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو إليه أحد من القوم
وعن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم أن اللواء لم يزل صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاذوا بها وكان اللواء مع صواب غلام لبني أبي طلحة حبشي فكان آخر من أخذه منهم فقاتل حتى قطعت يداه فبرك عليه وأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول اللهم قد أعذرت فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر وافر
( فَخرْتُمْ باللواءِ وشرُّ فَخْرٍ ... لواءٌ حينَ ردّ إلى صوابِ )
( جَعلتُمْ فَخرَكُمْ فيها لعبدٍ ... مِنَ الأمِ من وَطِي عَفَرَ التراب )
( ظننتمْ والسَّفيه له ظُنونٌ ... وما إن ذاكَ من أمر الصَّواب )
( بأنَّ جلادَنا يوم التقينا ... بمكةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ العِياب )
( أقَرَّ العينَ إن عُصِبَتْ يداه ... وما أن يُعْصَبانِ على خِضابِ )
قال محمد بن جرير وحدثنا أبو كريب قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا حبان بن علي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال لما قتل أصحاب الألوية يوم أحد قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام أبصر رسول الله جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم
فحمل علي ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله بن الجمحي ثم أبصر جماعة من

مشركي قريش فقال لعلي احمل
فحمل علي ففرق جمعهم وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي فقال جبريل عليه السلام يا رسول الله إن هذه للمواساة
فقال رسول الله ( هو مني وأنا منه ) فقال جبريل عليه السلام وأنا منكم قال فسمعوا صوتاً - مجزوء الكامل -
( لا سيْفَ إلاّ ذو الفَقارِ ... ولا فتىً إلاَّ عَلِي )
فلما أتي المسلمون من خلفهم انكشفوا وأصاب منهم المشركون وكان المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثاً ثلث قتيل وثلث جريح وثلث منهزم وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع
وأصيبت رباعية رسول الله السفلى وشقت شفته وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره وعلاه ابن قمئة بالسيف على شقه الأيمن وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص
قال محمد بن جرير وحدثنا ابن يسار قال حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس بن مالك قال لما كان يوم أحد كسرت رباعية رسول الله وشج فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله تعالى ) فأنزل الله عز و جل ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم )
الآية
وقد قال رسول الله حين غشيه القوم ( من رجل يشري لي نفسه )
قال محمد فحدثني ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن قال فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول إنما هو عمارة بن زياد بن السكن فقاتلوا دون

رسول الله رجلاً ثم رجلاً يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد بن عمارة بن زياد بن السكن فقاتل حتى أثبتته الجراحة ثم فاءت من المسلمين فئة حتى أجهضوهم عنه فقال رسول الله أدنوه مني
فأدنوه منه فوسده قدمه فمات وخدّه على قدم رسول الله
وترس من دون النبي أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثرت فيه النبل
ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله
قال سعد فلقد رأيته يناولني ويقول فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصل فيقول ارمِ به
وعن محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته
وعن محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله ردها بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ومعه لواؤه حتى قتل وكان الذي أصابه ابن قمئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله فرجع إلى قريش فقال قد قتلت محمداً فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله اللواء علي بن أبي طالب عليه السلام
وقاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حتى قتل أرطاة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني وكان يكنى أبا نيار فقال له حمزة هلم إلي يا ابن مقطعة البظور وكانت أمه ختانة بمكة مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي فلما التقيا ضربه حمزة عليه السلام فقتله فقال وحشي غلام جبير بن مطعم إني لأنظر إلى

حمزة يهذ الناس بسيفه ما يليق شيئاً يمر به مثل الجمل الأورق إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فقال له حمزة هلم إلي يا ابن مقطعة البظور
فضربه فما أخطأ رأسه وهززت حربتي حتى إذا ما رضيت دفعتها عليه فوقعت عليه في لبته حتى خرجت من بين رجليه وأقبل نحوي فغلب فوقع فأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لي بشيء حاجة غيره
وقد قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أحد بني عمرو بن عوف مسافع ابن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة كلاهما يشعره سهماً فيأتي أمه فيضع رأسه في حجرها فتقول يا بني من أصابك فيقول سمعت رجلاً يقول حين رماني خذها إليك وأنا ابن أبي الأقلح فتقول أقلحي فنذرت لله إن الله أمكنها من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر
وكان عاصم قد عاهد الله عز و جل أن لا يمس مشركاً ولا يمسه
عن ابن إسحاق قال حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم ههنا فقالوا قتل رسول الله قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا كراماً على ما مات عليه
ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل
وبه سميى أنس بن مالك
عن ابن إسحاق قال حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة وطعنة فما عرفته إلا أخته عرفته بحسن بنانه

عن ابن إسحاق قال كان أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة وقول الناس قتل رسول الله كما حدثني ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بني سلمة
قال عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله فأشار إلي أن أنصت
فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به ونهض نحو الشعب معه أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة في رهط من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين
فلما أسند رسول الله في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول يا محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا فقال دعوه
فلما دنا تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة
قال يقول بعض الناس فيما ذكر لي فلما أخذها رسول الله انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ بها عن فرسه مراراً
وكان أبي بن خلف كما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن صالح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يلقى رسول الله بمكة فيقول يا محمد إن عندي العود أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه فيقول رسول الله بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في حلقه خدشاً غير كبير فاحتقن الدم قال قتلني والله محمد قالوا ذهب والله فؤادك والله ما بك بأس
قال إنه

كان بمكة قال لي أنا أقتلك فوالله لو بصق عليّ لقتلني
فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة فلما انتهى رسول الله إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس ثم جاء به إلى رسول الله فشرب منه وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول ( اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه )
قال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقول والله ما حرصت على قتل رجل قط ما حرصت على قتل عتبة ابن أبي وقاص وإن كان ما علمت لسيئ الخلق مبغضاً في قومه ولقد كفاني منه قول رسول الله ( اشتد غضب الله عز و جل على من دمى وجه رسول الله )
قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان قال خرجت هند والنسوة اللواتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله يجدعن الآذان والآنف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدماً وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشياً غلام جبير بن مطعم وبقرت عن كبد حمزة عليه السلام فأخرجت كبده فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصاحت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله
قال حدثني صالح بن كيسان أنه حدث أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قال لحسان يا ابن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها قائمة على

صخرة ترتجز بنا وتذكر ما صنعت بحمزة قال له حسان والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وإني على رأس فارع يعني أطمه فقلت والله إن هذه لسلاح ما هي بسلاح العرب وكأنها إنما تهوي إلى حمزة ولا أدري أسمعني بعض قولها أكفكموها
قال فأنشده عمر بعض ما قالت فقال حسان يهجو هنداً - كامل -
( أشِرَتْ لَكاعِ وكان عادتُها ... لؤماً إذا أشِرَتْ من الكُفْرِ )
( لعنَ الإلهُ وزوجَها معها ... هِنَد الهنود طويلةَ البَظْر )
( أخَرجْتِ مُرْقِصةً إلى أُحُدٍ ... في القوم مُقتِبةً على بَكْر )
( بَكْرٍ ثَفَالٍ لا حَراكَ به ... لا عن مُعاتبةٍ ولا زَجْر )
( وعصاكِ استُكِ تتقينَ بها ... دُقِّي العَجايَة منك بالفِهْر )
( قَرِحَتْ عجيزتُها ومَشْرَجُها ... من دَأبِها نصّاً على القُتْرِ )
( ظلَّتْ تُداويها زمِيْلتُها ... بالماء تَنضَحه وبالسِّدْرَ )

( أَخَرَجْتِ ثائرةً مبادِرةً ... بأبيك فاتِكِ يومِ ذي بَدْر )
( وبعمِّكِ المستُوهِ في رَدَع ... وأخيك مُنعَفِرَيْنِ في الجَفْر )
( ونَسيتِ فاحشةً أتيْتِ بها ... يا هندُ ويحكِ سَيْئَةَ الذكْر )
( فَرَجَعْتِ صاغرةً بلا تَرهٍ ... منّا ظَفْرتِ بها ولا نَصْر )
( زعمَ الولائدُ أنَّها وَلَدَتْ ... وَلداً صغيراً كان من عَهْرِ )
قال محمد بن جرير ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال حدثنا مصعب بن المقدام قال حدثنا إسرائيل وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن إسرائيل قال حدثنا ابن إسحاق عن البراء قال ثم إن أبا سفيان أشرف علينا فقال أفي القوم محمد فقال رسول الله لا تجيبوه
مرتين ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثاً
فقال رسول الله لا تجيبوه
ثم التفت إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا لو كانوا في الأحياء لأجابوا فلم يملك عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه أن قال كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك
فقال أعل هبل أعل هبل فقال رسول الله أجيبوه
قالوا ما نقول قال قالوا ( الله أعلى وأجل ) قال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم
فقال رسول الله أجيبوه ُ
قالوا ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم
قال أبو سفيان يوم بيوم بدر والحرب سجال أما إنكم ستجدون في القوم مثلاً لم آمر بها ولم تسؤني
قال ابن إسحاق في حديثه لما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان قال له أبو سفيان هلم يا عمر
فقال رسول الله ايتهِ فانظر ما شأنه فجاءه فقال له أبو

سفيان أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً فقال عمر اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن
قال أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر لقول ابن قمئة لهم إني قتلت محمداً
ثم نادى أبو سفيان فقال إنه قد كان مثل والله ما رضيت ولا سخطت ولا أمرت ولا نهيت وقد كان الحليس بن زبان أخو بني الحارث بن عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش قد مر بأبي سفيان بن حرب وهو يضرب في شدق حمزة عليه السلام وهو يقول ذق عقق فقال الحليس يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون لحماً فقال اكتمها علي فإنها كانت زلة قال فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى أن موعدكم بدر العام المقبل
فقال رسول الله لرجل من أصحابه ( قل نعم هي بيننا وبينك موعد )
ثم بعث رسول الله علي بن أبي طالب عليه السلام فقال اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون فإن كانوا قد جنبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم
قال علي فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون فلما جنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة وكان رسول الله قال لي أي ذلك كان فأخفه حتى يأتيني
قال علي فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله لما بي من الفرح إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة وفرغ الناس لقتلاهم
فقال رسول الله كما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخي بني النجار أن رسول الله قال ( من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج أفي الأحياء هو أم في الأموات ) فقال رجل من الأنصار أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل
فنظر فوجده جريحاً في القتلى به رمق
قال فقلت له إن رسول الله أمرني أن أنظر له أفي الأحياء أنت أم في

الأموات قال فأنا في الأموات
أبلغ رسول الله وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لا عذر لكم عند الله جل وعز إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف
ثم لم أبرح حتى مات رحمه الله فجئت رسول الله وأخبرته
وخرج رسول الله فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب عليه السلام فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه
وعن ابن إسحاق قال فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أن رسول الله قال حين رأى بحمزة ما رأى ( لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم )
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله وغيظه على ما فعل بعمه قالوا والله لئن أظهرنا الله عليهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط
وعن محمد بن إسحاق قال حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس
قال ابن حميد قال سلمة وحدثني محمد بن إسحاق قال فحدثنا الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس أن الله عز و جل أنزل في ذلك من قول رسول الله ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) إلى آخر السورة
فعفا رسول الله وصبر ونهى عن المثلة
قال ابن إسحاق فيما بلغني خرجت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة وكان أخاها لأمها فقال رسول الله لابنها الزبير القها فأرجعها لا ترى ما

بأخيها
فلقيها الزبير فقال يا أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي
فقالت ولم فقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله جل وعز قليل فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى فلما جاء الزبير رسول الله فأخبره بذلك قال خل سبيلها
فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت له ثم أمر رسول الله به فدفن
قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال لما خرج رسول الله إلى أحد رجع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش بن زعورا في الآطام مع النساء والصبيان فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران لا أبا لك ما تنتظر فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار إنما نحن هامة اليوم أو غد أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله لعل الله يرزقنا شهادة معه فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم أحد بهما
فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون وأما حسيل بن جابر اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه فقال حذيفة أبي قالوا والله إن عرفناه
وصدقوا
قال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
فأراد رسول الله أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزادته عند رسول الله خيراً
قال حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال كان فينا رجل أتي لا ندري من أين هو يقال له قزمان فكان رسول الله يقول إذا ذكره ( إنه لمن أهل النار ) فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً فقتل هو وحده

ثمانية من المشركين أو تسعة وكان شهماً شجاعاً ذا بأس فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر قال فجعل رجال من المسلمين يقولون والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر
قال بم أبشر فوالله إن قاتلت إلا على أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت
فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات فأخبر رسول الله بذلك فقال إني رسول الله حقاً
وعن محمد بن إسحاق قال حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة قال كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال فلما كان الغد من يوم أحد وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال أذن مؤذن رسول الله في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس
فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري فقال يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة بلا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله على نفسي فتخلف على أخواتك
فتخلفت عليهن
فأذن له رسول الله فخرج معه وإنما خرج رسول الله مرهباً للعدو وأنهم خرجوا في طلبهم فيظنون أن بهم قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم
عن محمد بن إسحاق قال فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان بن عفان أن رجلا من أصحاب رسول الله من بني عبد الأشهل كان شهد أحداً
قال فشهدت رسول الله أنا وأخ لي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي أتفوتنا غزوة مع رسول الله والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل
فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحاً منه فكنت إذا غلب عليه حملته عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون فخرج إليه

رسول الله حتى انتهينا إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال فأقام بها ثلاثاً الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة
قال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه مر برسول الله معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله لا يخفون عليه شيئاً كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددت أن الله قد أعفاك منهم
ثم خرج من عند رسول الله بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب بالروحاء ومن معه وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله وقالوا أصبنا جد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط
قال ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل
قال فوالله لقد أجمعنا الكرة لنستأصل شأفتهم
قال فإني أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً من شعر
قال وماذا قلت قال قلت - بسيط -
( كادت تُهَدُّ من الأصوات راحلتي ... إذْ سالتِ الأرضُ بالجُرْد الأبابيل )
( فظِلْتُ عدْواً أظنُّ الأرضَ مائلة ... لمّا سَموْا برئيسٍ غيرِ مخذول )

( فقلْتُ ويلَ بنِ حربٍ من لقائِكُمُ ... إذا تَغَطْمَطَتِ البطحاءُ بالجِيْل )
( إنِّي نذيرٌ لأهل السَّيْلِ ضاحيةً ... لكلِّ ذي إرْبَةٍ منهُمْ ومعقولِ )
( من جيشِ أحمدَ لا وَخَشٍ تنابلةٍ ... وليس يُوْصَفُ ما أنذرْتُ بالقِيل )
قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون قالوا نريد المدينة
قال فلم قالوا نريد الميرة
قال فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها قالوا نعم
قال فإذا جئتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل شأفتهم
فمر الركب برسول الله فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله وأصحابه ( حسْبُنا الله ونعم الوكيل )
صوت - وافر -
( أمِنْ ريحانَةَ الداعي السَّميعُ ... يؤرِّقُني وأصحابي هُجوعُ )
( براني حبُّ مَن لا أستطيعُ ... ومن هو للذي أهوَى مَنُوعُ )
( إذا لم تستطعْ شيئاً فَدَعْهُ ... وجاوِزْهُ إلى ما تستطيعُ )
الشعر لعمرو بن معد يكرب الزبيدي والغناء للهذلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من رواية إسحاق
وفيه ثقيل أول على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة
وفيه لابن سريج رمل بالوسطى من رواية حماد عن أبيه

14 -

ذكر عمرو بن معديكرب وأخباره
هو عمرو بن معديكرب بن عبد الله بن عمرو بن عصم بن عمرو بن زبيد وهو منبه
هكذا ذكر محمد بن سلام فيما أخبرنا به أبو خليفة عنه
وذكر عمر بن شبة عن أبي عبيدة أنه عمرو بن معديكرب بن ربيعة بن عبد الله بن عمرو بن عصم بن زبيد بن منبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
ويكنى أبا ثور وأمه وأم أخيه عبد الله امرأة من جرم فيما ذكر وهي معدودة من المنجبات
أخبرنا محمد بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال عمرو بن معديكرب فارس اليمن وهو مقدم على زيد الخيل في الشدة والبأس

وروى علي بن محمد المدائني عن زيد بن قحيف الكلابي قال سمعت أشياخنا يزعمون أن عمرو بن معديكرب كان يقال له مائق بني زبيد فبلغهم أن خثعم تريدهم فتأهبوا لهم وجمع معديكرب بني زبيد فدخل عمرو على أخته فقال أشبعيني إني غداً لكتيبة
قال فجاء معديكرب فأخبرته ابنته فقال هذا المائق يقول ذاك قالت نعم
قال فسليه ما يشبعه
فسألته فقال فرق من ذرة وعنز رباعية
قال وكان الفرق يومئذ ثلاثة أصوع
فصنع له ذلك وذبح العنز وهيأ له الطعام
قال فجلس عليه فسلته جميعاً
وأتتهم خثعم الصباح فلقوهم وجاء عمرو فرمى بنفسه ثم رفع رأسه فإذا لواء أبيه قائم فوضع رأسه فإذا لواء أبيه قد زال فقام كأنه سرحة محرقة فتلقى أباه وقد انهزموا فقال انزل عنها فاليوم ظلم
فقال له إليك يا مائق فقال له بنو زبيد خله أيها الرجل وما يريد فإن قتل كفيت مؤنته وإن ظهر فهو لك
فألقى إليه سلاحه فركب ثم رمى خثعم بنفسه حتى خرج من بين أظهرهم ثم كر عليهم وفعل ذلك مراراً وحملت عليهم بنو زبيد فانهزمت خثعم وقهروا فقيل له يومئذ فارس زبيد
قال أبو عمرو الشيباني كان من حديث عمرو بن معديكرب بن ربيعة بن عبد الله بن زبيد بن منبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك وهو مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن

كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أنه قال لقيس بن مكشوح المرادي وهو ابن أخت عمرو حين انتهى إليهم أمر رسول الله يا قيس إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقال له نبي فانطلق بنا حتى نعلم علمه وبادر فروة لا يغلبك على الأمر
فأبى قيس ذلك وسفه رأيه وعصاه فركب عمرو متوجهاً إلى النبي وقال خالفتني يا قيس وقال عمرو في ذلك - مجزوء الوافر -
( أَمَرْتُك يومَ ذي صَنعاءَ ... أمْراً بيِّنا رَشَدُهْ )
( أَمَرْتُك باتِّقاء اللهِ ... تأتيه وتَتَّعِدُهْ )
( فكنتَ كذي الحُمَيِّر غرَّهُ ... من أيرِهِ وَتَدُهْ )
قال أبو عبيدة حدثنا غير واحد من مذحج قالوا قدم علينا وفد مذحج مع فروة بن مسيك المرادي على النبي فأسلموا وبعث فروة صدقات من أسلم منهم وقال له ادع الناس وتألفهم فإذا وجدت الغفلة فاهتبلها واغز
قال أبو عمرو الشيباني وإنما رحل فروة مفارقاً لملوك كندة مباعداً لهم إلى رسول الله وقد كانت قبل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة أصابت فيها همدان من مراد حتى أثخنوهم في يوم يقال له يوم الرزم وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك بن حريم الشاعر الهمداني بن مسروق بن الأجدع ففضحهم يومئذ وفي ذلك يقول فروة بن مسيك المرادي - وافر

( فإن نَغلِبْ فغلاّبون قِدْماً ... وإن نُهْزَمْ فغير مُهَزَّمِينا )
فلما توجه فروة إلى النبي أنشأ يقول - كامل -
( لمَّا رأيتُ ملوكَ كندَة أعرضَتْ ... كالرِّجْلِ خَانَ الرجْلَ عِرْقُ نَساها )
( يَمَّمْتُ راحلتي أمامَ محمدٍ ... أرجو فواضلَها وحسنَ ثَراها )
فلما انتهى إلى رسول الله قال له فيما بلغنا هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم قال يا رسول الله من ذا الذي يصيب قومه مثل الذي أصاب قومي ولا يسوؤه فقال له أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها
قال أبو عبيدة فلم يلبث عمرو أن ارتد عن الإسلام فقال حين ارتد - وافر -
( وجدنا مُلْكَ فروةَ شرَّ مُلْكٍ ... حِمارٌ سافَ مِنْخَرَه بقَذْرِ )
( وإِنَّك لو رأيتَ أبا عميرٍ ... مَلأْتَ يديك من غَدْر وَخَتْرِ )
قال أبو عبيدة فلما ارتد عمرو مع من ارتد عن الإسلام من مذحج استجاش فروة النبي فوجه إليهم خالد بن سعيد بن العاص وخالد بن الوليد وقال لهما إذا اجتمعتم فعلي بن أبي طالب أميركم وهو على الناس
ووجه علياً عليه السلام فاجتمعوا بكسر من أرض اليمن فاقتتلوا وقتل بعضهم ونجا بعض فلم يزل جعفر وزبيد وأود بنو سعد العشيرة بعدها قليلة
وفي هذا الوجه وقعت

الصمصامة إلى آل سعيد وكان سبب وقوعها إليهم أن ريحانة بنت معديكرب سبيت يومئذ ففداها خالد وأثابه عمرو الصمصامة فصار إلى أخيه سعيد فوجد سعيد جريحاً يوم عثمان بن عفان رضي الله عنه حين حصر وقد ذهب السيف والغمد ثم وجد الغمد فلما قام معاوية جاءه أعرابي بالسيف بغير غمد وسعيد حاضر فقال سعيد هذا سيفي فجحد أعرابي مقالته فقال سعيد الدليل على أنه سيفي أن تبعث إلى غمده فتغمده فيكون كفافه
فبعث معاوية إلى الغمد فأتى به من منزل سعيد فإذا هو عليه فأقر الأعرابي أنه أصابه يوم الدار فأخذه سعيد منه وأثابه فلم يزل عنده حتى أصعد المهدي من البصرة فلما كان بواسط بعث إلى سعيد فيه فقال إنه للسبيل
فقال خمسون سيفاً قاطعاً أغنى من سيف واحد
فأعطاهم خمسين ألف درهم وأخذه
وذكر ابن النطاح أن المدائني حكى عن أبي اليقظان عن جويرية بن أسماء قال أقبل النبي من غزاة تبوك يريد المدينة فأدركه عمرو بن معديكرب الزبيدي في رجال من زبيد فتقدم عمرو ليلحق برسول الله فأمسك حتى أوذن به فلما تقدم رسول الله يسير قال حياك الله إلهك أبيت اللعن فقال رسول الله ( إن لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
فآمن بالله يؤمنك يوم الفزع الأكبر )
فقال عمرو بن معديكرب وما الفزع الأكبر قال رسول الله ( إنه فزع ليس كما تحسب وتظن إنه يصاح بالناس صيحة لا يبقى حي إلا مات إلا ما شاء الله من ذلك ثم يصاح بالناس صيحة لا يبقى ميت إلا نشر ثم تلج تلك الأرض بدوي تنهد منه الأرض وتخر منه الجبال وتنشق السماء انشقاق القبطية الجديد ما شاء الله في ذلك

ثم تبرز النار فينظر إليها حمراء مظلمة قد صار لها لسان في السماء ترمي بمثل رؤوس الجبال من شرر النار فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه
أين أنت يا عمرو ) قال إني أسمع أمراً عظيماً فقال رسول الله ( يا عمرو أسلم تسلم )
فأسلم وبايع لقومه على الإسلام وذلك منصرف رسول الله من غزاة تبوك وكانت في رجب من سنة تسع
وقال أبو هارون السكسكي البصري حدثني أبو عمرو المديني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نظر إلى عمرو قال الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمراً تعجباً من عظم خلقه
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن خالد بن خداش عن أبي نميلة قال أخبرني رميح عن أبيه قال رأيت عمرو بن معديكرب في خلافة معاوية شيخاً أعظم ما يكون من الرجال أجش الصوت إذا التفت التفت بجميع جسده
وهذا خطأ من الرواية والصحيح أنه مات في آخر خلافة عمر رضي الله عنه ودفن بروذة بين قم والري
ومن الناس من يقول إنه قتل في وقعة نهاوند قبره في ظاهرها موضع يعرف بقبديشجان وأنه دفن هناك يومئذ هو والنعمان بن مقرن
وروي أيضاً من وجه ليس بالموثوق به أنه أدرك خلافة عثمان رضي الله عنه روى ذلك ابن النطاح عن مروان ابن ضرار عن أبي إياس البصري عن أبيه عن جويرية الهذلي في حديث طويل قال رأيت عمرو بن معديكرب وأنا في

مسجد الكوفة في خلافة عثمان حين وجهه إلى الري كأنه بعير مهنوء
وقال ابن الكلبي حدثني أسعر عن عمرو بن جرير الجعفي قال سمعت خالد بن قطن يقول خرج عمرو بن معد يكرب في خلافة عثمان رضي الله عنه إلى الري ودستبى فضربه الفالج في طريقه فمات بروذة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني خالد بن خداش قال حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض لعمرو بن معد يكرب في ألفين فقال له يا أمير المؤمنين ألف ههنا وأومأ إلى شق بطنه الأيمن وألف ههنا وأومأ إلى شق بطنه الأيسر فما يكون هاهنا وأومأ إلى وسط بطنه
فضحك عمر رضوان الله عليه وزاده خمسمائة
قال علي بن محمد قال أبو اليقظان قال عمرو بن معد يكرب لو سرت بظعينة وحدي على مياه معد كلها ما خفت أن أغلب عليها ما لم يلقني حراها أو عبداها
فأما الحران فعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وأما العبدان فأسود بني عبس يعني عنترة والسليك بن السلكة وكلهم قد لقيت
فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت وأما عتيبة فأول الخيل إذا غارت وآخرها إذا آبت
وأما عنترة فقليل الكبوة شديد الكلب
وأما السليك فبعيد الغارة كالليث الضاري
قالوا فما تقول في العباس بن مرداس قال أقول فيه ما قال فيّ - طويل -
( إذا مات عمروٌ قلْتُ للخيل أَوطئوا ... زُبيداً فقد أودى بنجدتِها عَمرُو )

وقام مغضبا وعلم أنهم أرادوا توبيخه بالعباس
قال علي وقال أبو اليقظان أحسب في اللفظ غلطاً وأنه إنما قال هجينا مضر لأن عنترة استرق والعباس لم يسترق قط
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن جناب عن عيسى ابن يونس عن اسماعيل عن قيس أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص إني قد أمددتك بألفي رجل عمرو بن معد يكرب وطليحة بن خويلد وهو طليحة الأسدي فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئاً
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن جناب قال حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن قيس قال شهدت القادسية وكان سعد على الناس فجاء رستم فجعل يمر بنا وعمرو بن معد يكرب الزبيدي يمر على الصفوف يحض الناس ويقول يا معشر المهاجرين كونوا أسداً أغنى شأنه فإنما الفارسي تيس بعد أن يلقي نيزكه
قال وكان مع رستم أسوار لا تسقط له نشابة
فقال له يا أبا ثور اتق ذاك فإنا لنقول له ذلك إذ رماه رمية فأصاب فرسه وحمل عليه عمرو فاعتنقه ثم ذبحه وسلبه سواري ذهب كانا عليه وقباء ديباج
قال أبو زيد فذكر أبو عبيدة أن عمراً حمل يومئذ على رجل فقتله ثم

صاح يا معشر بني زبيد دونكم فإن القوم يموتون
وقال علي بن محمد المدائني وأخبرنا محمد بن الفضل وعبد ربه بن نافع عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال حضر عمرو الناس وهم يقاتلون فرماه رجل من العجم بنشابة فوقعت في كتفه وكانت عليه درع حصينة فلم تنفذ وحمل على العلج فعانقه فسقطا إلى الأرض فقتله عمرو وسلبه ورجع بسلبه وهو يقول - سريع -
( أنا أبو ثَور وسيفِي ذو النُّونْ ... أَضْرِبُهُمْ ضَرْبَ غلامٍ مجنونْ )
( يالَ زُبيد إنَّهم يموتونْ ... )
قال أبو عبيدة وقال في ذلك عمرو بن معد يكرب - سريع -

صوت
( أَلْمِمْ بسلمَى قبلَ أن تَظْعَنَا ... إنَّ لنا من حبِّهَا دَيْدَنَا )
( قد عَلِمَتْ سَلمى وجاراتُها ... ما قطَّرَ الفارسَ إلا أنا )
( شككْتُ بالرمح حيازيمَه ... والخيلُ تعدو زِيَماً بيننا )
غنى فيه الغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر
وفيه رمل بالبنصر يقال إنه لمعبد
ويقال إنه من منحول يحيى المكي
قال أبو عبيدة في رواية أبي زيد عمر بن شبة شهد عمرو بن معد يكرب القادسية وهو ابن مائة وست سنين
وقال بعضهم بل ابن مائة وعشر
قال ولما قتل العلج عبر نهر القادسية هو وقيس بن مكشوح المرادي ومالك بن الحارث الأشتر

قال فحدثني يونس أن عمرو بن معد يكرب كان آخرهم وكانت فرسه ضعيفة فطلب غيرها فأتي بفرس فأخذ بعكوة ذنبه وأخلد به إلى الأرض فأقعى الفرس فرده وأتي بآخر ففعل به مثل ذلك فتحلحل ولم يقع فقال هذا على كل حال أقوى من تلك وقال لأصحابه إني حامل وعابر الجسر فإن أسرعتم بمقدار جزر الجزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عقر بي القوم وأنا قائم بينهم وقد قتلت وجردت
وإن أبطأتم وجدتموني قتيلا بينهم وقد قتلت وجردت
ثم انغمس فحمل في القوم فقال بعضهم يا بني زبيد تدعون صاحبكم والله ما نرى أن تدركوه حياً
فحملوا فانتهوا إليه وقد صرع عن فرسه وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها وإن الفارس ليضرب الفرس فما تقدر أن تتحرك من يده
فلما غشيناه رمى الأعجمي بنفسه وخلى فرسه فركبه عمرو وقال أنا أبو ثور كدتم والله تفقدونني قالوا أين فرسك قال رمي بنشابة فشب فصرعني وعار
وروى هذا الخبر محمد بن عمر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن أبي عيسى الخياط
ورواه علي بن محمد أيضاً عن مرة عن أبي إسماعيل الهمذاني عن طلحة بن مصرف
فذكرا مثل هذا
قال الواقدي وحدثني أسامة بن زيد عن أبان بن صالح قال قال عمرو بن معد يكرب يوم القادسية ألزموا خراطيم الفيلة السيوف فإنه ليس لها مقتل إلا خراطيمها
ثم شد على رستم وهو على الفيل فضرب فيله فجذم عرقوبيه فسقط وحمل رستم على فرس وسقط من تحته خرج فيه أربعون ألف دينار فحازه

المسلمون وسقط رستم بعد ذلك عن فرسه فقتله
قال علي بن محمد المدائني حدثني علي بن مجاهد عن ابن إسحاق قال لما ضرب عمرو الفيل وسقط رستم سقط على رستم خرج كان على ظهر الفيل فيه أربعون ألف دينار فمات رستم من ذلك وانهزم المشركون
وقال الواقدي حدثني ابن أبي سبرة عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى آل الزبير قال حدثنا نيار بن مكرم الأسلمي قال شهدت القادسية فرأيت يوماً اشتد فيه القتال بيننا وبين الفرس ورأيت رجلاً يفعل يومئذ بالعدو أفاعيل يقاتل فارساً ثم يقتحم عن فرسه ويربط مقوده في حقوه فيقاتل فقلت من هذا جزاه الله خيراً قالوا هذا عمرو بن معد يكرب
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن خالد بن سعيد عن أبي محمد المرهبي قال كان شيخ يجالس عبد الملك بن عمير فسمعته يحدث قال قدم عيينة بن حصن الكوفة فأقام بها أياماً ثم قال والله ما لي بأبي ثور عهد منذ قدمنا هذا الغائط يعني عمرو بن معد يكرب أسرج لي يا غلام
فأسرج له فرسا أنثى من خيله فلما قربها إليه قال له ويحك أرأيتني ركبت أنثى في الجاهلية فأركبها في الإسلام فأسرج له حصاناً فركبه وأقبل إلى محلة بني زبيد فسأل عن محلة عمرو فأرشد إليها فوقف ببابه ونادى أي أبا ثور اخرج إلينا
فخرج إليه مؤتزراً كأنما كسر وجبر فقال أنعم صباحاً أبا مالك
فقال أوليس قد أبدلنا الله تعالى بهذا السلام عليكم قال دعنا مما لا نعرف انزل فإن عندي كبشاً ساحا
فنزل

211 - فعمد إلى الكبش فذبحه ثم كشط عنه وعضاه وألقاه في قدر جماع وطبخه حتى إذا أدرك جاء بجفنة عظيمة فثرد فيها فأكفأ القدر عليها فقعدا فأكلاه ثم قال له أي الشراب أحب إليك أللبن أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية قال أو ليس قد حرمها الله جل وعز علينا في الإسلام قال أنت أكبر سناً أم أنا قال أنت
قال فأنت أقدم إسلاماً أم أنا قال أنت
قال فإني قد قرأت ما بين دفتي المصحف فوالله ما وجدت لها تحريماً إلا أنه قال ( فهل أنتم منتهون ) فقلنا لا
فسكت وسكتنا فقال له أنت أكبر سناً وأقدم إسلاماً
فجاءا فجلسا يتناشدان ويشربان ويذكران أيام الجاهلية حتى أمسيا فلما أراد عيينة الانصراف
قال عمرو لئن انصرف أبو مالك بغير حباء إنه لوصمة علي
فأمر بناقة له أرحبية كأنها جبيرة لجين فارتحلها وحمله عليها ثم قال يا غلام هات المزود
فجاء بمزود فيه أربعة آلاف درهم فوضعها بين يديه فقال أما المال فوالله لا قبلته
قال والله إنه لمن حباء عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فلم يقبله عيينة وانصرف وهو يقول - طويل -
( جُزِيتَ أبا ثَورٍ جزاءَ كرامةٍ ... فنِعْمَ الفتى المِزدارُ والمتضيَّفُ )
( قريْتَ فأكرمْتَ القِرى وأَفَدْتَنا ... نَخِيلَةَ عِلم لم يكن قطُّ يعرف )

( وقلت حَلالٌ أن تُديرَ مُدامةً ... كلونِ انعقاق البرقِ والليلُ مُسْدِفُ )
( وقدّمتَ فيها حُجّةً عربية ... تَردُّ إلى الإِنصاف مَن ليس ينصِف )
( وأنت لنا واللهِ ذي العرش قُدوةٌ ... إذا صَدَّنا عن شربها المتكلِّفُ )
( نَقول أبو ثَورٍ أحلَّ حرامَها ... وقولُ أبي ثور أسدُّ وأعرف )
وقال علي بن محمد حدثني عبد الله بن محمد الثقفي عن أبيه والهذلي عن الشعبي قال جاءت زيادة من عند عمر بعد القادسية فقال عمرو بن معد يكرب لطليحة أما ترى أن هذه الزعانف تزاد ولا نزاد انطلق بنا إلى هذا الرجل حتى نكلمه
فقال هيهات كلا والله لا ألقاه في هذا أبداً فلقد لقيني في بعض فجاج مكة فقال يا طليحة أقتلت عكاشة فتوعدني وعيداً ظننت أنه قاتلي ولا آمنه
قال عمرو لكني ألقاه
قال أنت وذاك
فخرج إلى المدينة فقدم على عمر رضي الله عنه وهو يغدي الناس وقد جفن لعشرة عشرة فأقعده عمر مع عشرة فأكلوا ونهضوا ولم يقم عمرو فأقعد معه تكملة عشرة فأكلوا ونهضوا ولم يقم عمرو فأقعده مع عشرة حتى أكل مع ثلاثين ثم قام فقال يا أمير المؤمنين إنه كانت لي مآكل في الجاهلية منعني منها الإسلام وقد صررت في بطني صرتين وتركت بينهما هواء فسده
قال عليك حجارة من حجارة الحرة فسده به يا عمرو إنه بلغني أنك تقول إن لي سيفاً يقال له الصمصامة وعندي سيف أسميه المصمم وإني إن وضعته بين أذنيك لم أرفعه حتى يخالط أضراسك
وذكر ابن الكلبي ومحمد بن كناسة أن جبيلة بن سويد بن ربيعة بن رباب لقي عمرو بن معد يكرب وهو يسوق ظعناً له فقال عمرو لأصحابه قفوا حتى آتيكم بهذه الظعن
فقرب نحوه حتى إذا دنا منه قال خل سبيل الظعن
قال فلم

إذاً ولدتني ثم شد على عمرو فطعنه فأذراه عن فرسه وأخذ فرسه فرجع إلى أصحابه فقالوا ما وراءك قال كأني رأيت منيتي في سنانه
وبنو كنانة يذكرون أن ربيعة بن مكدم الفراسي طعن عمرو بن معد يكرب فأذراه عن فرسه وأخذ فرسه
وأنه لقيه مرة أخرى فضربه فوقعت الضربة في قربوس السرج فقطعه حتى عض السيف بكاثبة الفرس فسالمه عمرو وانصرف
قال المدائني حدثني مسلمة بن محارب عن داود بن أبي هند قال حمل عمرو بن معد يكرب حمالة فأتى مجاشع بن مسعود يسأله فيها
وقال خالد بن خداش حدثني أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن قال بلغني أن عمراً أتى مجاشع بن مسعود فقال له أسألك حملان مثلي وسلاح مثلي
قال إن شئت أعطيتك ذاك من مالي
ثم أعطاه حكمه
وكان الأحنف أمر له بعشرين ألف درهم وفرس جواد عتيق وسيف صارم وجارية نفيسة فمر ببني حنظلة فقالوا له يا أبا ثور كيف رأيت صاحبك فقال لله بنو مجاشع ما أشد في الحرب لقاءها وأجزل في اللزبات عطاءها وأحسن في المكرمات ثناءها لقد قاتلتها فما أقللتها وسألتها فما أبخلتها وهاجيتها فما أفحمتها
وقال أبو المنهال عيينة بن المنهال سمعت أبي يحدث قال جاء رجل

وعمرو بن معد يكرب واقف بالكناسة على فرس له فقال لأنظرن ما بقي من قوة أبي ثور
فأدخل يده بين ساقيه وبين السرج وفطن عمرو فضمها عليه وحرك فرسه فجعل الرجل يعدو مع الفرس لا يقدر أن ينزع يده حتى إذا بلغ منه قال يا ابن أخي ما لك قال يدي تحت ساقك فخلى عنه وقال يا ابن أخي إن في عمك لبقية
وكان عمرو مع ما ذكرنا من محله مشهوراً بالكذب
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي المبرد ولم يتجاوزه
وذكر ابن النطاح هذا الخبر بعينه عن محمد بن سلام وخبر المبرد أتم قال كانت الأشراف بالكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار ويتحدثون ويتذاكرون أيام الناس فوقف عمرو إلى جانب خالد بن الصقعب النهدي فأقبل عليه يحدثه ويقول أغرت على بني نهد فخرجوا إليّ مسترعفين بخالد بن الصقعب يقدمهم فطعنته طعنة فوقع وضربته بالصمصامة حتى فاضت نفسه فقال له الرجل يا أبا ثور إن مقتولك الذي تحدثه
فقال اللهم غفراً إنما أنت محدث فاسمع إنما نتحدث بمثل هذا وأشباهه لنرهب هذه المعدية
قال محمد بن سلام وقال يونس أبت العرب إلا أن عمراً كان يكذب
قال وقلت لخلف الأحمر وكان مولى الأشعريين وكان يتعصب لليمانية أكان عمرو يكذب قال كان يكذب باللسان ويصدق بالفعال

أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة أن سعدا كتب إلى عمر رضي الله عنه يثني على عمرو بن معد يكرب فسأله عمر عن سعد فقال هو لنا كالأب أعرابي في نمرته أسد في تامورته يقسم بالسوية ويعدل في القضية وينفر في السرية وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة فقال عمر رضوان الله عليه لشد ما تقارضتما الثناء
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث عن ابن سعد عن الواقدي عن بكير بن مسمار عن زياد مولى سعد قال سمعت سعداً يقول وبلغه أن عمرو بن معد يكرب وقع في الخمر وأنه قد دله
فقال لقد كان له موطن صالح يوم القادسية عظيم الغناء شديد النكاية للعدو
فقيل له فقيس بن مكشوح فقال هذا أبذل لنفسه من قيس وإن قيساً لشجاع
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة
ونسخت هذا الخبر من رواية ابن الكلبي خاصة حدثني أسعر بن عمرو بن جرير عن خالد بن قطن قال حدثني من شهد موت عمرو بن معد يكرب والرواية قريبة وحكايتا عمر بن شبة وابن قتيبة عن أنفسهما ولم يتجاوزاها قالا كانت مغازي العرب إذ ذاك الري ودستبى فخرج عمرو مع شباب من مذحج حتى نزل الخان الذي دون روذة فتغدى القوم ثم ناموا وقام كل رجل منهم لقضاء حاجته وكان عمرو إذا أراد الحاجة لم يجترئ أحد أن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45