كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

خَاتِمَةٌ : الْجَمَاعَةُ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ صُبْحِ غَيْرِهَا ثُمَّ الْعِشَاءِ ثُمَّ الْعَصْرِ أَفْضَلُ .
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ { إنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ عِنْدَ اللَّهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جَمَاعَةٍ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ } وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ } ( 1 ) ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَا ذَكَرَ ظَاهِرٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ .
أَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّهَا الْعَصْرُ وَهُوَ الْحَقُّ فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا لِتَأَكُّدِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ مَا قَالُوهُ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ لِمَا فِي قِيَامِ الصُّبْحِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَيَلِيهَا فِيهَا الْعِشَاءُ بِخِلَافِ الْعَصْرِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَسَكَتُوا عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فَيُحْتَمَلُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَيُحْتَمَلُ تَفْضِيلُ الظُّهْرِ لِأَنَّهَا اُخْتُصَّتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْجُمُعَةُ وَيُحْتَمَلُ تَفْضِيلُ الْمَغْرِبِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُخَفِّفْ فِيهَا بِالْقَصْرِ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ التَّسْوِيَةُ لِتَقَابُلِ فَضِيلَتِهِمَا .
.

بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ إنَّمَا تُقْصَرُ رُبَاعِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ الْمُبَاحِ لَا فَائِتَةُ الْحَضَرِ .

( بَابُ ) كَيْفِيَّةِ ( صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ) مِنْ حَيْثُ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ الْمُخْتَصُّ الْمُسَافِرُ بِجَوَازِهِمَا تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ غَالِبًا ، وَذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْجَمْعَ بِالْمَطَرِ لِلْمُقِيمِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْقَصْرِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } [ النِّسَاءَ ] الْآيَةَ .
قَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ : قُلْت لِعُمَرَ : إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ خِفْتُمْ } [ النِّسَاءَ ] وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ، فَقَالَ عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } ( 1 ) ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالْأَصْلُ فِي الْجَمْعِ أَخْبَارٌ تَأْتِي .
وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْأُمُورِ بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِهِ كَغَيْرِهِ فَقَالَ : ( إنَّمَا تُقْصَرُ رُبَاعِيَّةٌ ) فَلَا تُقْصَرُ الصُّبْحُ وَلَا الْمَغْرِبُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الصُّبْحَ لَوْ قُصِرَتْ لَمْ تَكُنْ شَفْعًا فَتَخْرُجُ عَنْ مَوْضُوعِهَا ، وَالْمَغْرِبُ لَا يُمْكِنُ قَصْرُهَا إلَى رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا وِتْرًا وَلَا إلَى رَكْعَةٍ لِخُرُوجِهَا بِذَلِكَ عَنْ بَاقِي الصَّلَوَاتِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرُّبَاعِيَّةُ مَكْتُوبَةً فَلَا تُقْصَرُ الْمَنْذُورَةُ كَأَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَلَا النَّافِلَةُ كَأَنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ سُنَّةَ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةَ مَثَلًا لِعَدَمِ وُرُودِهِ ، ( مُؤَدَّاةٌ فِي السَّفَرِ ) فَلَا تُقْصَرُ فَائِتَةُ الْحَضَرِ فِي السَّفَرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ .
وَأَمَّا فَائِتَةُ السَّفَرِ فِي السَّفَرِ فَسَتَأْتِي فِي كَلَامِهِ أَيْضًا ( الطَّوِيلِ ) فَلَا تُقْصَرُ فِي الْقَصِيرِ وَالْمَشْكُوكِ فِي طُولِهِ فِي الْأَمْنِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا فِي الْخَوْفِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا خَبَرُ مُسْلِمٍ { فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً

} ( 2 ) ، فَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي الْخَوْفِ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ وَيَنْفَرِدُ بِأُخْرَى ( الْمُبَاحِ ) أَيْ الْجَائِزِ لَا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِبًا كَسَفَرِ حَجٍّ أَوْ مَنْدُوبًا كَزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مُبَاحًا كَسَفَرِ تِجَارَةٍ ، أَوْ مَكْرُوهًا كَسَفَرِ مُنْفَرِدٍ فَلَا قَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَلَوْ خَرَجَ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ تَبَعًا لِشَخْصٍ لَا يَعْلَمُ سَبَبَ سَفَرِهِ ، أَوْ لِتَنْفِيذِ كِتَابٍ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهِ ، فَالْمُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ إلْحَاقُهُ بِالْمُبَاحِ .
وَالْإِتْمَامُ جَائِزٌ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَصَرْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَأَتْمَمْتُ بِضَمِّهَا ، وَأَفْطَرْتَ بِفَتْحِهَا وَصُمْتُ بِضَمِّهَا .
قَالَ : أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ } وَأَمَّا خَبَرُ { فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ } ( 3 ) أَيْ فِي السَّفَرِ كَمَا مَرَّ فَمَعْنَاهُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ .
وَمَا ضَبَطْت بِهِ الْحَدِيثَ قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ عَكْسُ الضَّبْطِ الْمَذْكُورِ إذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ .
ثُمَّ بَيَّنَ مُحْتَرَزَ قَوْلِهِ : مُؤَدَّاةٍ فَقَالَ ( لَا فَائِتَةُ الْحَضَرِ ) أَيْ لَا تُقْصَرُ إذَا قُضِيَتْ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ تَامَّةً ، وَكَذَا لَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ فَائِتَةٌ مَشْكُوكٌ فِي أَنَّهَا فَائِتَةُ سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ احْتِيَاطًا ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ .

وَلَوْ قَضَى فَائِتَةَ السَّفَرِ فَالْأَظْهَرُ قَصْرُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ .
( وَلَوْ قَضَى فَائِتَةَ السَّفَرِ ) الطَّوِيلِ الْمُبَاحِ ( فَالْأَظْهَرُ قَصْرُهُ فِي السَّفَرِ ) الَّذِي كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ سَفَرِ الْفَائِتَةِ ( دُونَ الْحَضَرِ ) نَظَرًا إلَى وُجُودِ السَّبَبِ ، وَالثَّانِي : يَقْصُرُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي الْأَدَاءِ ، وَالثَّالِثُ : يُتِمُّ فِيهِمَا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ إلَى رَكْعَتَيْنِ ، فَإِذَا فَاتَتْ أَتَى بِالْأَرْبَعِ كَالْجُمُعَةِ ، وَالرَّابِعُ إنْ قَضَاهَا فِي ذَلِكَ السَّفَرِ قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ الْحَصْرِ لِلْقَصْرِ فِي الْمَقْضِيَّةِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ التَّفْصِيلِ عَلَى الرَّاجِحِ فَيَضُمُّ مِنْهُ إلَى الْمُؤَدَّاةِ مَقْضِيَّةً فَائِتَةَ السَّفَرِ فِيهِ ، وَلَوْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَلَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ قَصَرَ عَلَى النَّصِّ ، فَإِنْ بَقِيَ مَا يَسَعُ رَكْعَةً إلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَصَرَ أَيْضًا إنْ قُلْنَا : إنَّهَا أَدَاءٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَإِلَّا فَلَا .

تَنْبِيهٌ : سَيَأْتِي فِي الْجَمْعِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّأْخِيرَ وَبَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مَا لَا يَسَعُ الصَّلَاةَ بِكَمَالِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَحَمَلَ الشَّارِحُ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِيرُ قَضَاءً وَلَا جَمْعَ ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ النِّيَّةَ ضَعِيفَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْقَعَ رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَدَاءً ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَوْقَعَ رَكْعَةً فِي السَّفَرِ وَإِلَّا فَتَكُونُ مَقْضِيَّةَ حَضَرٍ فَلَا تُقْصَرُ وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْت ، وَقَدْ عَرَضْت ذَلِكَ عَلَى شَيْخِنَا الشَّيْخِ نَاصِرِ الدِّينِ الطَّبَلَاوِيِّ فَقَبِلَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ .

وَمَنْ سَافَرَ مِنْ بَلْدَةٍ فَأَوَّلُ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُوَرِهَا فَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ عِمَارَةٌ اُشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهَا فِي الْأَصَحِّ .
قُلْت : لَا يُشْتَرَطُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمَنْ سَافَرَ مِنْ بَلْدَةٍ ) لَهَا سُوَرٌ ( فَأَوَّلُ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُوَرِهَا ) الْمُخْتَصِّ بِهَا وَإِنْ تَعَدَّدَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ أَوْ كَانَ دَاخِلَهُ مَزَارِعُ وَخَرَابُ ؛ لِأَنَّ مَا فِي دَاخِلِ السُّوَرِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْبَلَدِ مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا بَعْضُ سُورٍ وَهُوَ صَوْبُ سَفَرِهِ اُشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ( فَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ عِمَارَةٌ ) كَدُورٍ مُلَاصِقَةٍ لَهُ عُرْفًا ( اُشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهَا ) أَيْضًا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهَا مِنْ مَوَاضِعِ الْإِقَامَةِ الْمَعْدُودَةِ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ فَيَثْبُتُ لَهَا حُكْمُهُ ( قُلْت : الْأَصَحُّ لَا يُشْتَرَطُ ) مُجَاوَزَتُهَا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنْ الْبَلَدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : سَكَنَ فُلَانٌ خَارِجَ الْبَلَدِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ : لَا يَجُوزُ لِمَنْ فِي الْبَلَدِ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِمَنْ هُوَ خَارِجَ السُّورِ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلزَّكَاةِ ، وَإِطْلَاقُ الشَّيْخَيْنِ فِي الصَّوْمِ اشْتِرَاطُ مُفَارَقَةِ الْعُمْرَانِ حَيْثُ قَالَا : وَإِذَا نَوَى لَيْلًا ثُمَّ سَافَرَ فَلَهُ الْفِطْرُ إنْ فَارَقَ الْعُمْرَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَإِلَّا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا سَافَرَ مِنْ بَلَدٍ لَا سُورَ لَهَا لِيُوَافِقَ مَا هُنَا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَقِيلَ يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَيُفَرَّقُ بِأَنَّهُ ثَمَّ لَمْ يَأْتِ لِلْعِبَادَةِ بِبَدَلٍ بِخِلَافِهِ هُنَا ، وَكَالسُّورِ وَهُوَ بِالْوَاوِ لَا بِالْهَمْزِ الْخَنْدَقُ كَمَا قَالَهُ الْجِيلِيُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَلْ لِلسُّوَرِ الْمُنْهَدِمِ حُكْمُ الْعَامِرِ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَالْأَقْرَبُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إنَّ لَهُ حُكْمَهُ خِلَافًا لِلدَّمِيرِيِّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ كَالْعَدَمِ .

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُورُ الْبَلْدَةِ فَأَوَّلُهُ مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ لَا الْخَرَابِ وَالْبَسَاتِينِ ، وَالْقَرْيَةُ كَبَلْدَةٍ .
( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) لَهَا ( سُورٌ ) مُطْلَقًا أَوْ فِي صَوْبِ سَفَرِهِ أَوْ لَهَا سُورٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا كَأَنْ جَمَعَ مَعَهَا قَرْيَةً أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ مَعَ التَّقَارُبِ ( فَأَوَّلُهُ ) أَيْ سَفَرِهِ ( مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ ) وَإِنْ تَخَلَّلَهُ نَهْرٌ أَوْ بُسْتَانٌ أَوْ خَرَابٌ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتٌ مُتَّصِلٌ وَلَا مُنْفَصِلٌ لِيُفَارِقَ مَحَلَّ الْإِقَامَةِ ( لَا ) مُجَاوَزَةَ ( الْخَرَابِ ) الَّذِي هُجِرَ بِالتَّحْوِيطِ عَلَى الْعَامِرِ أَوْ زُرِعَ أَوْ انْدَرَسَ بِأَنْ ذَهَبَتْ أُصُولُ حِيطَانِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ إقَامَةٍ ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ ( وَ ) لَا مُجَاوَزَةَ ( الْبَسَاتِينِ ) وَالْمَزَارِعِ بِهِ وَإِنْ اتَّصَلَتَا بِمَا سَافَرَ مِنْهُ أَوْ كَانَتَا مُحَوِّطَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَا تُتَّخَذَانِ لِلْإِقَامَةِ ، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْبَسَاتِينِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا قُصُورٌ أَوْ دُورٌ تُسْكَنُ فِي بَعْضِ فُصُولِ السَّنَةِ أَوْ لَا وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ إنَّهُ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْبَلَدِ ، وَقَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ : أَيْ وَإِنْ اشْتَرَطَ فِي الرَّوْضَةِ مُجَاوَزَتَهَا ، وَأَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُحَرَّرِ الْمَزَارِعَ الَّتِي زِدْتهَا لِأَنَّهَا تُفْهَمُ مِنْ الْبَسَاتِينِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَالْقَرْيَةُ ) فِيمَا ذُكِرَ ( كَبَلْدَةٍ ) وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَّصِلَتَانِ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُمَا ، وَالْمُنْفَصِلَتَانِ وَلَوْ يَسِيرًا يَكْفِي مُجَاوَزَةُ إحْدَاهُمَا .

وَأَوَّلُ سَفَرِ سَاكِنِ الْخِيَامِ مُجَاوَزَةُ الْحِلَّةِ .
( وَأَوَّلُ سَفَرِ سَاكِنِ الْخِيَامِ ) كَالْأَعْرَابِ ( مُجَاوَزَةُ الْحِلَّةِ ) فَقَطْ وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ بُيُوتٌ مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُهَا لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَيَدْخُلُ فِي مُجَاوَزَتِهَا عُرْفًا مَرَافِقُهَا كَمَطْرَحِ الرَّمَادِ ، وَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ وَالنَّادِي ، وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ لِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ مِنْ مَوَاضِعِ إقَامَتِهِمْ ، وَيُعْتَبَرُ مَعَ مُجَاوَزَةِ الْمَرَافِقِ مُجَاوَزَةُ عَرْضِ الْوَادِي إنْ سَافَرَ عَرْضَهُ وَالْهُبُوطُ إنْ كَانَ فِي رَبْوَةٍ وَالصُّعُودُ إنْ كَانَ فِي وَهْدَةٍ .
هَذَا إنْ اعْتَدَلَتْ الثَّلَاثَةُ ، فَإِنْ أَفْرَطَتْ سِعَتُهَا أَكْتَفَى بِمُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ عُرْفًا ، وَالْحِلَّتَانِ كَالْقَرْيَتَيْنِ ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى مُحْتَطِبٍ أَوْ مَاءٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَتِهِ إلَّا أَنْ يَتَّسِعَ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّازِلِينَ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ سَاكِنَ غَيْرِ الْأَبْنِيَةِ وَالْخِيَامِ كَنَازِلٍ بِطَرِيقٍ خَالٍ عَنْهُمَا رَحْلُهُ كَالْحِلَّةِ فِيمَا تَقَرَّرَ فَائِدَةٌ : الْخَيْمَةُ أَرْبَعَةُ أَعْوَادٍ تُنْصَبُ وَتُسْقَفُ بِشَيْءٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ ، وَجَمْعُهَا خَيْمٌ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ ، وَتُجْمَعُ الْخِيَمُ عَلَى خِيَامٍ فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ .
وَأَمَّا مَا يُتَّخَذُ مِنْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيُقَالُ لَهُ خِبَاءٌ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَيْمَةٌ تَجَوُّزًا .

وَيُعْتَبَرُ فِي سَيْرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِلِ سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوْ الزَّوْرَقِ إلَيْهَا .
قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ .
لَكِنْ فِي الْمَجْمُوعِ إذَا صَارَ خَارِجَ الْبَلَدِ تَرَخَّصَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُلْصَقًا بِالسُّورِ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ آخِرَ عُمْرَانِ مَا لَا سُورَ لَهُ كَالسُّورِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : سَيْرُ الْبَحْرِ يُخَالِفُ سَيْرَ الْبَرِّ أَوْ يُمْنَعُ أَنَّ آخِرَ الْعُمْرَانِ كَالسُّورِ ، وَيُحْمَلُ كَلَامُ الْبَغَوِيِّ عَلَى مَا لَا سُورَ لَهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ اتَّصَلَتْ قَرْيَةٌ لَا سُورَ لَهَا بِأُخْرَى كَذَلِكَ كَانَتَا قَرْيَةً ، بِخِلَافِ اتِّصَالِ قَرْيَةٍ لَهَا سُورٌ بِأُخْرَى ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ لِتَعَلُّقِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ، وَيُخَالِفُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ كَالْقِنْيَةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ كَذَا فَرَّقَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِبَعْضِ الْمَرَاوِزَةِ ، وَقَضِيَّتُهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ .
أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نِيَّةِ الْإِقَامَةِ الْمُكْثُ وَلَيْسَ مُرَادًا كَمَا سَيَأْتِي فَالْمَسْأَلَتَانِ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ مُسْتَوِيَتَانِ فِي أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا يَكْفِي فَلَا حَاجَةَ لِفَارِقٍ .

وَإِذَا رَجَعَ
( إذَا ) فَارَقَ مَا شُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ثُمَّ ( رَجَعَ ) إلَيْهِ مِنْ دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِحَاجَةٍ كَتَطَهُّرٍ أَوْ نَوَى الرُّجُوعَ لَهُ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ مَاكِثٌ وَلَوْ بِمَكَانٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ ، فَإِنْ كَانَ وَطَنَهُ صَارَ مُقِيمًا بِابْتِدَاءِ رُجُوعِهِ أَوْ نِيَّتِهِ فَلَا يَتَرَخَّصُ فِي إقَامَتِهِ وَلَا رُجُوعِهِ إلَى أَنْ يُفَارِقَ وَطَنَهُ تَغْلِيبًا لِلْوَطَنِ ، وَحَكَى فِيهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ إلَى أَنْ يَصِلَهُ ا هـ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطَنَهُ تَرَخَّصَ وَإِنْ دَخَلَهُ وَلَوْ كَانَ دَارَ إقَامَتِهِ لِانْتِفَاءِ الْوَطَنِ فَكَانَتْ كَسَائِرِ الْمَنَازِلِ .

انْتَهَى سَفَرُهُ بِبُلُوغِهِ مَا شُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ابْتِدَاءً .
فَإِنْ رَجَعَ مِنْ السَّفَرِ الطَّوِيلِ ( انْتَهَى سَفَرُهُ بِبُلُوغِهِ مَا شُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ابْتِدَاءً ) مِنْ سُورٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَتَرَخَّصُ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْتَهِيَ سَفَرُهُ إلَّا بِدُخُولِ الْعُمْرَانِ أَوْ السُّورِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا إلَّا بِخُرُوجِهِ مِنْهُ ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ الرَّوْضِ مَا يَدُلُّ لِذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا فِي الْمَتْنِ هُوَ الْمَنْقُولُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِقَامَةُ فَلَا تَنْقَطِعُ إلَّا بِتَحَقُّقِ السَّفَرِ وَتَحَقُّقُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ وَالسَّفَرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَانْقَطَعَ بِمُجَرَّدِ الْوُصُولِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ مُبْتَدَأَ سَفَرِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَإِنْ كَانَ مَارًّا بِهِ فِي سَفَرِهِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ بَعِيدٍ قَاصِدًا الْمُرُورَ بِهِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةٍ لَا مِنْ بَلَدٍ يَقْصِدُهُ وَلَا بَلَدٍ لَهُ فِيهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَنْتَهِي سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ إلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بِهِمَا فَإِنَّهُ يَنْتَهِي سَفَرُهُ بِذَلِكَ وَيَنْتَهِي أَيْضًا بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ .

وَلَوْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِمَوْضِعٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ .
( وَلَوْ نَوَى ) الْمُسَافِرُ الْمُسْتَقِلُّ وَلَوْ مُحَارِبًا ( إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) تَامَّةٍ بِلَيَالِيِهَا أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ وَأَطْلَقَ ( بِمَوْضِعٍ ) عَيَّنَهُ صَالِحٌ لِلْإِقَامَةِ ، وَكَذَا غَيْرُ صَالِحٍ كَمَفَازَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ ( انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ ) أَيْ بِوُصُولِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصُودُهُ أَمْ فِي طَرِيقِهِ أَوْ نَوَى بِمَوْضِعٍ وَصَلَ إلَيْهِ إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ مُكْثِهِ إنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا .

وَلَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِلَا نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِتَمَامِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ، وَالْمُقِيمُ وَالْعَازِمُ عَلَى الْإِقَامَةِ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ لَا يَقْطَعُ السَّفَرَ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا } وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْإِقَامَةُ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ الْكُفَّارِ ، فَالتَّرَخُّصُ فِي الثَّلَاثِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ السَّفَرِ بِخِلَافِ الْأَرْبَعَةِ ، وَمَنَعَ عُمَرُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْإِقَامَةَ فِي الْحِجَازِ ثُمَّ أَذِنَ لِلتَّاجِرِ مِنْهُمْ أَنْ يُقِيمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ رَوَاهُ مَالِكٌ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ ، وَفِي مَعْنَى الثَّلَاثَةِ مَا فَوْقَهَا وَدُونَ الْأَرْبَعَةِ ، وَأُلْحِقَ بِإِقَامَةِ الْأَرْبَعَةِ نِيَّةُ إقَامَتِهَا ، أَمَّا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ وَهُوَ سَائِرٌ فَلَا يُؤَثِّرُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْقَصْرِ السَّفَرُ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً ، وَكَذَا لَوْ نَوَاهَا غَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ كَالْعَبْدِ وَلَوْ مَاكِثًا .

وَلَا يُحْسَبُ مِنْهَا يَوْمَا دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ عَلَى الصَّحِيحِ .
( وَلَا يُحْسَبُ مِنْهَا ) أَيْ الْأَرْبَعَةِ ( يَوْمَا دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ ) إذَا دَخَلَ نَهَارًا ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْحَطَّ وَفِي الثَّانِي الرَّحِيلَ وَهُمَا مِنْ أَشْغَالِ السَّفَرِ ، وَالثَّانِي : يُحْسَبَانِ كَمَا يُحْسَبُ فِي مُدَّةِ مَسْحِ الْخُفِّ يَوْمَ الْحَدَثِ وَيَوْمَ النَّزْعِ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَسْتَوْعِبُ النَّهَارَ بِالسَّيْرِ ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ فِي بَعْضِهِ وَهُوَ فِي يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ سَائِرٌ فِي بَعْضِ النَّهَارِ بِخِلَافِ اللُّبْسِ .
فَإِنَّهُ مُسْتَوْعِبٌ لِلْمُدَّةِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا يُحْسَبَانِ إنَّمَا يُحْسَبَانِ بِالتَّلْفِيقِ لَا يَوْمَانِ كَامِلَانِ ، فَلَوْ دَخَلَ زَوَالُ السَّبْتِ لِيَخْرُجَ زَوَالُ الْأَرْبِعَاءِ أَتَمَّ ، أَوْ قَبْلَهُ قَصَرَ ، فَإِنْ دَخَلَ لَيْلًا لَمْ تُحْسَبْ بَقِيَّةُ اللَّيْلَةِ ، وَيُحْسَبُ الْغَدُ وَمُقَامُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ مَا يُقِيمُهُ لَوْ دَخَلَ نَهَارًا ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ بَلْ بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ فَيَتَرَخَّصُ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ ، وَعَلَى الصَّحِيحِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً .
تَنْبِيهٌ : عَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ فَاقْتَضَى قُوَّةَ الْخِلَافِ خِلَافًا لِتَعْبِيرِهِ هُنَا بِالصَّحِيحِ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ .

وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَلَ إذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ قَصَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقِيلَ أَرْبَعَةً ، وَفِي قَوْلٍ أَبَدًا ، وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي خَائِفِ الْقِتَالِ لَا التَّاجِرِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ عَلِمَ بَقَاءَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً ، فَلَا قَصْرَ عَلَى الْمَذْهَبِ .

( وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ ) مَثَلًا ( بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَلَ إذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ ) أَوْ حَبَسَهُ الرِّيحُ بِمَوْضِعٍ فِي الْبَحْرِ ( قَصَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ) غَيْرَ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ ( 1 ) وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ تَجْبُرُهُ كَمَا قَالَ الشِّهَابُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ .
وَرُوِيَ " خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ وَعِشْرِينَ " .
رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ إلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ ، فَالْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ .
وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ مَا عَدَا رِوَايَتَيْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَعِشْرِينَ بِأَنَّ رَاوِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ عَدَّ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، وَرَاوِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ لَمْ يَعُدَّهُمَا ، وَرَاوِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَدَّ أَحَدَهُمَا فَقَطْ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَضَعِيفَةٌ ، وَرِوَايَةُ عِشْرِينَ وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَشَاذَّةٌ كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَذْكُورُ آنِفًا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَهَذَا الْجَمْعُ يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ : يَقْصُرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ غَيْرَ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ .
وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهَا مَا عَدَا رِوَايَتَيْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ بِأَنَّ رَاوِيَ الْعِشْرِينَ عَدَّ الْيَوْمَيْنِ ، وَرَاوِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لَمْ يَعُدَّهُمَا ، وَرَاوِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ عَدَّ أَحَدَهُمَا ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ ا هـ وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ مَعَ أَنَّهَا أَصَحُّ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ خَبَرَ عِمْرَانَ لَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَفِيهِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ ( وَقِيلَ ) يَقْصُرُ ( أَرْبَعَةً ) غَيْرَ يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ؛

لِأَنَّ التَّرَخُّصَ إذَا امْتَنَعَ بِنِيَّةِ إقَامَتِهَا فَبِإِقَامَتِهَا أَوْلَى ، لِأَنَّ الْفِعْلَ أَبْلَغُ مِنْ النِّيَّةِ ( وَفِي قَوْلٍ ) يَقْصُرُ ( أَبَدًا ) أَيْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ حَاجَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ لَقَصَرَ فِي الزَّائِدِ أَيْضًا ( وَقِيلَ : الْخِلَافُ ) الْمَذْكُورُ ، وَهُوَ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ ( فِي خَائِفِ الْقِتَالِ ) وَالْمُقَاتِلِ ( لَا التَّاجِرِ وَنَحْوِهِ ) كَالْمُتَفَقِّهِ فَلَا يَقْصُرَانِ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهَا قَطْعًا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ لِلْحَرْبِ أَثَرًا فِي تَغْيِيرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقِتَالَ لَيْسَ هُوَ الْمُرَخِّصَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَخِّصُ السَّفَرُ ، وَالْمُقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ فَارَقَ مَكَانَهُ ثُمَّ رَدَّتْهُ الرِّيحُ إلَيْهِ فَأَقَامَ فِيهِ اسْتَأْنَفَ الْمُدَّةَ : لِأَنَّ إقَامَتَهُ فِيهِ إقَامَةٌ جَدِيدَةٌ فَلَا تُضَمُّ إلَى الْأُولَى بَلْ تُعْتَبَرُ مُدَّتُهَا وَحْدَهَا ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَالَ فِيهِ : لَوْ خَرَجُوا وَأَقَامُوا بِمَكَانٍ يَنْتَظِرُونَ رُفْقَتَهُمْ ، فَإِنْ نَوَوْا أَنَّهُمْ إنْ أَتَوْا سَافَرُوا أَجْمَعِينَ وَإِلَّا رَجَعُوا لَمْ يَقْصُرُوا لِعَدَمِ جَزْمِهِمْ بِالسَّفَرِ ، وَإِنْ نَوَوْا أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَأْتُوا سَافَرُوا قَصَرُوا لِجَزْمِهِمْ بِالسَّفَرِ ، وَمَا رَجَّحَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْقَصْرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَطَّرِدُ فِي بَاقِي الرُّخَصِ كَالْجَمْعِ وَالْفِطْرِ ، وَيَدُلُّ لَهُ تَعْبِيرُ الْوَجِيزِ بِالتَّرَخُّصِ وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : الصَّوَابُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ سَائِرُ الرُّخَصِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ .
نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَوَجُّهُ الْقِبْلَةِ فِي النَّافِلَةِ لِمَا عُرِفَ فِي بَابِهَا ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ أَيْضًا سُقُوطَ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ فَقْدُ الْمَاءِ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا كَمَا عُلِمَ مِنْ بَابِ

التَّيَمُّمِ ( وَلَوْ عَلِمَ ) الْمُسَافِرُ ( بَقَاءَهَا ) أَيْ حَاجَتِهِ ( مُدَّةً طَوِيلَةً ) وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا كَأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّزُ شُغْلُهُ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ ( فَلَا قَصْرَ ) لَهُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِأَنَّهُ سَاكِنٌ مُطْمَئِنٌّ بَعِيدٌ عَنْ هَيْئَةِ الْمُسَافِرِينَ ، بِخِلَافِ الْمُتَوَقِّعِ لِلْحَاجَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيَرْحَلَ ، وَوَجْهُ الْقَصْرِ الْقِيَاسُ عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُحَارِبِ وَغَيْرِهِ ، وَالْمَعْرُوفُ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ الْجَزْمُ بِالْمَنْعِ ، وَحِكَايَةُ الْخِلَافِ فِيهِ غَلَطٌ كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَةِ .

فَصْلٌ وَطَوِيلُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةٌ .

( فَصْلٌ ) فِي شُرُوطِ الْقَصْرِ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ ، أَمَّا شُرُوطُهُ فَثَمَانِيَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ طَوِيلًا ( وَطَوِيلُ السَّفَرِ ) بِالْأَمْيَالِ ( ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةٌ ) لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَهَا وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ ، وَأَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ غَيْرَ الْإِيَابِ ، فَلَوْ قَصَدَ مَكَانًا عَلَى مَرْحَلَةٍ بِنِيَّةِ أَنْ لَا يُقِيمَ فِيهِ فَلَا قَصْرَ لَهُ ذَهَابًا وَلَا إيَابًا وَإِنْ نَالَتْهُ مَشَقَّةُ مَرْحَلَتَيْنِ ، وَهِيَ تَحْدِيدٌ لَا تَقْرِيبٌ لِثُبُوتِ التَّقْدِيرِ بِالْأَمْيَالِ عَنْ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ الْقَصْرَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، فَيُحْتَاطُ فِيهِ بِتَحَقُّقِ تَقْدِيرِ الْمَسَافَةِ وَلَوْ ظَنًّا بِخِلَافِ تَقْدِيرَيْ الْقُلَّتَيْنِ وَمَسَافَةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَمْيَالِ ثَابِتٌ عَنْ الصَّحَابَةِ ، بِخِلَافِ تَقْدِيرِ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا تَوْقِيفَ فِي تَقْدِيرِهِمَا بِالْأَرْطَالِ ، وَكَذَا مَسَافَةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا بِالْأَذْرُعِ : فَلِذَا كَانَ الْأَصَحُّ فِيهِمَا التَّقْرِيبُ ، وَالْأَرْبَعَةُ بُرُدٍ : سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَالْفَرْسَخُ : ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ ، وَالْمِيلُ : أَرْبَعَةُ آلَافِ خَطْوَةٍ ، وَالْخَطْوَةُ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ .
وَالْقَدَمَانِ : ذِرَاعٌ ، وَالذِّرَاعُ : أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا مُعْتَرِضَاتٍ ، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ شُعَيْرَاتٍ مُعْتَدِلَاتٍ ، وَالشُّعَيْرَةُ : سِتُّ شَعَرَاتٍ مِنْ شَعْرِ الْبِرْذَوْنِ .
وَهَاشِمِيَّةٌ : نِسْبَةٌ إلَى بَنِي هَاشِمٍ لِتَقْدِيرِهِمْ لَهَا وَقْتَ خِلَافَتِهِمْ بَعْدَ تَقْدِيرِ بَنِي أُمَيَّةَ لَهَا ، لَا إلَى هَاشِمٍ جَدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَقَعَ لِلرَّافِعِيِّ .
تَنْبِيهٌ : مَا

ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْأَمْيَالَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هُوَ الشَّائِعُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَنَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَعَلَى أَنَّهَا أَرْبَعُونَ ، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الْجَمِيعَ ، وَبِالثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ ، وَبِالثَّالِثِ الْأَمْيَالَ الْأُمَوِيَّةَ الْخَارِجِيَّةَ بِقَوْلِهِ هَاشِمِيَّةٍ ، وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ لِبَنِي أُمَيَّةَ ، فَالْمَسَافَةُ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ مِيلًا ، إذْ كُلُّ خَمْسَةٍ مِنْهَا قَدْرُ سِتَّةٍ هَاشِمِيَّةٍ .

قُلْت : وَهُوَ مَرْحَلَتَانِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ .
( قُلْت ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( وَهُوَ ) أَيْ السَّفَرُ الطَّوِيلُ ( مَرْحَلَتَانِ ) وَهُمَا سَيْرُ يَوْمَيْنِ بِلَا لَيْلَةٍ مُعْتَدِلَيْنِ ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ بِلَا يَوْمٍ مُعْتَدِلَتَيْنِ ، أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَذَلِكَ ( بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ ) أَيْ الْحَيَوَانَاتِ الْمُثْقَلَةِ بِالْأَحْمَالِ ، وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ عَلَى الْعَادَةِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ النُّزُولِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالْأَكْلِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِقْدَارُ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ .

وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ فَلَوْ قَطَعَ الْأَمْيَالَ فِيهِ فِي سَاعَةٍ قَصَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَالْبَحْرُ فِي اعْتِبَارِ الْمَسَافَةِ ) الْمَذْكُورَةِ ( كَالْبَرِّ ) فَيُقْصَرُ فِيهِ ( فَلَوْ قَطَعَ الْأَمْيَالَ فِيهِ فِي سَاعَةٍ ) مَثَلًا لِشِدَّةِ جَرْيِ السَّفِينَةِ بِالْهَوَاءِ أَوْ نَحْوِهِ ( قَصَرَ ) فِيهَا لِأَنَّهَا مَسَافَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقَصْرِ فَلَا يُؤَثِّرُ قَطْعُهَا فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) كَمَا يَقْصُرُ لَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي الْبَرِّ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ فِي بَعْضِ يَوْمٍ ، وَلَوْ شَكَّ فِي طُولِ سَفَرِهِ اجْتَهَدَ ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُعْتَبَرُ قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَيْهِ حَمْلُ إطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ عَدَمَ الْقَصْرِ .

وَيُشْتَرَطُ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ أَوَّلًا ، فَلَا قَصْرَ لِلْهَائِمِ وَإِنْ طَالَ تَرَدُّدُهُ ، وَلَا طَالِبِ غَرِيمٍ وَآبِقٍ يَرْجِعُ مَتَى وَجَدَهُ ، وَلَا يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ .
وَثَانِي الشُّرُوطِ قَصْدُ مَحَلٍّ مَعْلُومٍ كَمَا قَالَ ( وَيُشْتَرَطُ قَصْدُ مَوْضِعٍ ) مَعْلُومٍ ( مُعَيَّنٍ ) أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ( أَوَّلًا ) أَيْ أَوَّلَ سَفَرِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ طَوِيلٌ فَيَقْصُرُ أَوَّلًا ( فَلَا قَصْرَ لِلْهَائِمِ ) وَهُوَ مَنْ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ ( وَإِنْ طَالَ تَرَدُّدُهُ ) إذْ شَرْطُ الْقَصْرِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَيُسَمَّى أَيْضًا رَاكِبَ التَّعَاسِيفِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفُتُوحِ الْعِجْلِيُّ : هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْهَائِمُ الْخَارِجُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ وَإِنْ سَلَكَ طَرِيقًا مَسْلُوكًا ، وَرَاكِبُ التَّعَاسِيفِ لَا يَسْلُكُ طَرِيقًا ، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا لَا يَقْصِدَانِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ا هـ .
وَيَدُلُّ لَهُ جَمْعُ الْغَزَالِيِّ بَيْنَهُمَا ( وَلَا طَالِبَ غَرِيمٍ وَآبِقٍ وَيَرْجِعُ مَتَى وَجَدَهُ ) أَيْ مَطْلُوبَهُ مِنْهُمَا ( وَلَا يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ ) وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ لِانْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِطُولِهِ أَوَّلَهُ .
نَعَمْ إنْ قَصَدَ سَفَرَ مَرْحَلَتَيْنِ أَوَّلًا كَأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَطْلُوبَهُ قَبْلَهُمَا قَصَرَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا ، وَكَذَا قَصْدُ الْهَائِمِ سَفَرَ مَرْحَلَتَيْنِ كَمَا شَمِلَتْهُ عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ .
وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا اعْتَمَدَهُ شَيْخِي ، وَإِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّمَا يَتَرَخَّصُ فِي مَرْحَلَتَيْنِ لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَقْصِدٌ مَعْلُومٌ .

وَلَوْ عَلِمَ الْأَسِيرُ أَنَّ سَفَرَهُ طَوِيلٌ وَنَوَى الْهَرَبَ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ لَمْ يَقْصُرْ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ وَيَقْصُرُ بَعْدَهُمَا ، وَلَا أَثَرَ لِلنِّيَّةِ بِقَطْعِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ إذَا نَوَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهَا مَتَى تَخَلَّصَتْ مِنْ زَوْجِهَا رَجَعَتْ ، وَالْعَبْدُ أَنَّهُ مَتَى عَتَقَ رَجَعَ فَلَا يَتَرَخَّصَانِ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ وَأُلْحِقَ بِالزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ الْجُنْدِيُّ ، وَبِالْفِرَاقِ النُّشُوزُ ، وَبِالْعِتْقِ الْإِبَاقُ .

فَائِدَةٌ : مَتَى فَاتَ مَنْ لَهُ الْقَصْرُ بَعْدَ الْمَرْحَلَتَيْنِ صَلَاةٌ فِيهِمَا قَصَرَ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهَا فَائِتَةُ سَفَرٍ طَوِيلٍ كَمَا شَمِلَ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : تُقْصَرُ فَائِتَةُ السَّفَرِ فِي السَّفَرِ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخِي .

وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا عَمَّا إذَا نَوَى مَسَافَةَ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْعُمْرَانِ الَّذِي لَا يَقْصُرُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ أَوْ السُّورِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ غَرَضَهُ رَجَعَ ، أَوْ أَنْ يُقِيمَ فِي طَرِيقِهِ وَلَوْ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ تَرَخَّصَ إلَى أَنْ يَجِدَ غَرَضَهُ أَوْ يَدْخُلَ الْمَكَانَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ قَدْ انْعَقَدَ فَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا غَيَّرَ النِّيَّةِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ مَا ذَكَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : قِيَاسُ مَا قَالُوهُ - مِنْ مَنْعِ التَّرَخُّصِ فِيمَا لَوْ نَقَلَ سَفَرَهُ الْمُبَاحَ إلَى مَعْصِيَةٍ - مَنْعُهُ فِيمَا لَوْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِبَلَدٍ قَرِيبٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ نَقْلَهُ إلَى مَعْصِيَةٍ مُنَافٍ لِلرُّخَصِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَدَخَلَ فِيمَا قَرَّرْت بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ كَانَ مَعْلُومًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَصَدَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَقْصِدِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ بِنِيَّةِ أَنْ يَصِلَ إلَى بَطْنِ مَرْوَ ثُمَّ يُشَرِّقَ إلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ أَوْ يُغَرِّبَ إلَى يَنْبُعَ ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ أَوْ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَنَّهُ سَفَرٌ طَوِيلٌ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعًا .

وَلَوْ نَوَى فِي سَفَرِهِ - ذُو السَّفَرِ الْقَصِيرِ - الزِّيَادَةَ فِي الْمَسَافَةِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ مَكَانِ نِيَّتِهِ إلَى مَقْصِدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَيُفَارِقُ مَكَانَهُ لِانْقِطَاعِ سَفَرِهِ بِالنِّيَّةِ ، وَيَصِيرُ بِالْمُفَارَقَةِ مُسَافِرًا سَفَرًا جَدِيدًا .

وَلَوْ نَوَى قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ لَمْ يَقْصُرْ لِانْقِطَاعِ كُلِّ سَفْرَةٍ عَنْ الْأُخْرَى .

وَلَوْ كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ : طَوِيلٌ وَقَصِيرٌ فَسَلَكَ الطَّوِيلَ لِغَرَضٍ كَسُهُولَةٍ أَوْ أَمْنٍ قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ كَانَ لِمَقْصِدِهِ ) بِكَسْرِ الصَّادِ كَمَا ضَبَطَهُ الْمُصَنِّفُ بِخَطِّهِ ( طَرِيقَانِ طَوِيلٌ ) يَبْلُغُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ ( وَقَصِيرٌ ) لَا يَبْلُغُهَا ( فَسَلَكَ الطَّوِيلَ لِغَرَضٍ ) دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ وَلَوْ مَعَ قَصْدِ إبَاحَةِ الْقَصْرِ ( كَسُهُولَةٍ ) لِلطَّرِيقِ ( أَوْ أَمْنٍ ) أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ عِيَادَةٍ ، أَوْ لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْمَكَّاسِينَ ، أَوْ لِرُخَصِ سَفَرٍ وَلَوْ كَانَ الْغَرَضُ تَنَزُّهًا ( قَصَرَ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ الْمُبَاحُ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ سَلَكَهُ لِمُجَرَّدِ الْقَصْرِ ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( فَلَا ) يَقْصُرُ ( فِي الْأَظْهَرِ ) الْمَقْطُوعِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَوَّلَ الطَّرِيقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْقَصِيرَ ، وَطَوَّلَهُ بِالذَّهَابِ يَمِينًا وَيَسَارًا حَتَّى قَطَعَهَا فِي مَرْحَلَتَيْنِ .
وَالثَّانِي : يَقْصُرُ لِأَنَّهُ طَوِيلٌ مُبَاحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَقْصُرُ إذَا كَانَ الْغَرَضُ النُّزْهَةَ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ إذَا سَافَرَ لِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْبِلَادِ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّنَزُّهَ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْحَامِلَ عَلَى السَّفَرِ ، بَلْ الْحَامِلُ عَلَيْهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ ، لَكِنَّهُ سَلَكَ أَبْعَدَ الطَّرِيقَيْنِ لِلتَّنَزُّهِ فِيهِ ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْبِلَادِ فَإِنَّهُ الْحَامِلُ عَلَى السَّفَرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَامِلَ عَلَيْهِ كَانَ كَالتَّنَزُّهِ هُنَا ، أَوْ كَانَ التَّنَزُّهُ هُوَ الْحَامِلُ عَلَيْهِ كَانَ كَمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْبِلَادِ فِي تِلْكَ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : وَقَصِيرٌ مَا لَوْ كَانَا طَوِيلَيْنِ ، فَسَلَكَ الْأَطْوَلَ وَلَوْ لِغَرَضِ الْقَصْرِ فَقَطْ قَصَرَ فِيهِ جَزْمًا .

وَلَوْ تَبِعَ الْعَبْدُ أَوْ الزَّوْجَةُ أَوْ الْجُنْدِيُّ مَالِكَ أَمْرِهِ فِي السَّفَرِ ، وَلَا يَعْرِفُ مَقْصِدَهُ ، فَلَا قَصْرَ ، فَلَوْ نَوَوْا مَسَافَةَ الْقَصْرِ قَصَرَ الْجُنْدِيُّ ، دُونَهُمَا .
( وَلَوْ تَبِعَ الْعَبْدُ أَوْ الزَّوْجَةُ أَوْ الْجُنْدِيُّ مَالِكَ أَمْرِهِ ) أَيْ السَّيِّدَ أَوْ الزَّوْجَ أَوْ الْأَمِيرَ ( فِي السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُ ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ( مَقْصِدَهُ فَلَا قَصْرَ ) لَهُمْ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتَحَقَّقْ : وَهَذَا قَبْلَ بُلُوغِهِمْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ ، فَإِنْ قَطَعُوهَا قَصَرُوا كَمَا مَرَّ فِي الْأَسِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصُرْ الْمَتْبُوعُونَ لِتَيَقُّنِ طُولِ سَفَرِهِمْ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ طَالِبَ الْغَرِيمِ وَنَحْوَهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَكَانَهُ لَا يَقْصُرُ وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ ، لِأَنَّ الْمَسَافَةَ هُنَا مَعْلُومَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، إذْ الْمَتْبُوعُ يَعْلَمُهَا بِخِلَافِهَا ثُمَّ ، وَإِنْ عَرَفُوا أَنَّ مَقْصِدَهُ مَرْحَلَتَانِ وَقَصَدُوهُ قَصَرُوا ( فَلَوْ نَوَوْا مَسَافَةَ الْقَصْرِ ) وَحْدَهُمْ دُونَ مَتْبُوعِهِمْ وَجَهِلُوا ( قَصَرَ الْجُنْدِيُّ ) أَيْ غَيْرُ الْمُثْبَتِ فِي الدِّيوَانِ ( دُونَهُمَا ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ وَقَهْرِهِ بِخِلَافِهِمَا فَنِيَّتُهُمَا كَالْعَدَمِ .
أَمَّا الْمُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ فَهُوَ مِثْلُهُمَا ، لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ وَتَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ وَمِثْلُهُ الْجَيْشُ ، إذْ لَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَهْرِ الْأَمِيرِ كَالْآحَادِ لِعِظَمِ الْفَسَادِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : مَالِكَ أَمْرِهِ لَا يُنَافِيهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْجُنْدِيِّ غَيْرِ الْمُثْبَتِ ؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ الْمَالِكَ لِأَمْرِهِ لَا يُبَالِي بِانْفِرَادِهِ عَنْهُ وَمُخَالَفَتِهِ لَهُ بِخِلَافِ مُخَالَفَةِ الْجَيْشِ : أَيْ الْمُثْبَتِ فِي الدِّيوَانِ إذْ يَخْتَلُّ بِهَا نِظَامُهُ .

وَمَنْ قَصَدَ سَفَرًا طَوِيلًا فَسَارَ ثُمَّ نَوَى رُجُوعًا انْقَطَعَ ، فَإِنْ سَارَ فَسَفَرٌ جَدِيدٌ .
( وَمَنْ قَصَدَ سَفَرًا طَوِيلًا فَسَارَ ثُمَّ نَوَى ) وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ مَاكِثٌ ( رُجُوعًا ) عَنْ مَقْصِدِهِ إلَى وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ لِلْإِقَامَةِ ( انْقَطَعَ ) سَفَرُهُ ، سَوَاءٌ أَرَجَعَ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ الَّتِي اسْتَفَادَ بِهَا التَّرَخُّصَ قَدْ انْقَطَعَتْ وَانْتَهَى سَفَرُهُ ، فَلَا يَقْصُرُ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ كَمَا جَزَمُوا بِهِ ، لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّهُ يَقْصُرُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْقُولِ ، وَلَا يَقْضِي مَا قَصَرَهُ أَوْ جَمَعَهُ قَبْلَ هَذِهِ النِّيَّةِ وَإِنْ قَصُرَتْ الْمَسَافَةُ قَبْلَهَا ( فَإِنْ سَارَ ) إلَى مَقْصِدِهِ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِ ( فَسَفَرٌ جَدِيدٌ ) فَإِنْ كَانَ طَوِيلًا قَصَرَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَا تُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَكَنِيَّةِ الرُّجُوعِ فِي ذَلِكَ التَّرَدُّدُ فِيهِ ، نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ .
أَمَّا لَوْ رَجَعَ لِحَاجَةٍ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ تَقَدَّمَ ، أَوْ وَهُوَ سَائِرٌ فَلَا أَثَرَ لِنِيَّتِهِ كَمَا مَرَّ .
.

وَلَا يَتَرَخَّصُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَآبِقٍ وَنَاشِزَةٍ .
وَثَالِثُ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ جَائِزًا فَلَا قَصْرَ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ ( وَلَا يَتَرَخَّصُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَآبِقٍ ) مِنْ سَيِّدِهِ ( وَنَاشِزَةٍ ) مِنْ زَوْجِهَا ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ التَّرَخُّصِ لِلْإِعَانَةِ وَالْعَاصِي لَا يُعَانُ وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَنْ يُتْعِبُ نَفْسَهُ أَوْ يُعَذِّبُ دَابَّتَهُ بِالرَّكْضِ بِلَا غَرَضٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ كَمَا حَكَيَاهُ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ وَأَقَرَّاهُ وَإِنْ قَالَ فِي الذَّخَائِرِ : إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ .
.

قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ يَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَالْإِعَادَةُ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ التَّوْبَةِ .

فَلَوْ أَنْشَأَ مُبَاحًا ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً فَلَا تَرَخُّصَ فِي الْأَصَحِّ وَلَوْ أَنْشَأَهُ عَاصِيًا ثُمَّ تَابَ فَمُنْشِئٌ لِلسَّفَرِ مِنْ حِينِ التَّوْبَةِ .
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : بِسَفَرِهِ عَنْ الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ بِأَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا وَيَعْصِي فِي سَفَرِهِ فَيَتَرَخَّصُ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مُبَاحٌ ( فَلَوْ أَنْشَأَ ) سَفَرًا طَوِيلًا ( مُبَاحًا ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً ) كَالسَّفَرِ لِأَخْذِ مَكْسٍ أَوْ لِلزِّنَا بِامْرَأَةٍ ( فَلَا تَرَخُّصَ ) لَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) مِنْ حِينِ الْجَعْلِ كَمَا لَوْ أَنْشَأَ السَّفَرَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ، وَالثَّانِي : يَتَرَخَّصُ اكْتِفَاءً بِكَوْنِ السَّفَرِ مُبَاحًا فِي ابْتِدَائِهِ وَلَوْ تَابَ تَرَخَّصَ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ أَيْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ مِنْ حِينِ التَّوْبَةِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِنَا فِي شَرْحِ مَنْهَجِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مُعَلِّلًا بِأَنَّ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ مُبَاحَانِ ( وَلَوْ أَنْشَأَهُ عَاصِيًا ) بِهِ ( ثُمَّ تَابَ فَمُنْشِئٌ ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الشِّينِ ( لِلسَّفَرِ مِنْ حِينِ التَّوْبَةِ ) فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا .

نَعَمْ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّرَخُّصُ مَا لَمْ تَفُتْ الْجُمُعَةُ ، وَمِنْ وَقْتِ فَوَاتِهَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لَا مِنْ التَّوْبَةِ .

وَلَوْ نَوَى الْكَافِرُ أَوْ الصَّبِيُّ سَفَرَ قَصْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ فِي الطَّرِيقِ قَصَرَ فِي بَقِيَّتِهِ كَمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ أَنَّ الصَّبِيَّ يَقْصُرُ دُونَ مَنْ أَسْلَمَ .
.

وَلَوْ اقْتَدَى بِمُتِمٍّ لَحْظَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ .

وَرَابِعُ الشُّرُوطِ عَدَمُ اقْتِدَائِهِ بِمَنْ جَهِلَ سَفَرَهُ أَوْ بِمُتِمٍّ كَمَا قَالَ ( وَلَوْ اقْتَدَى بِمُتِمٍّ ) مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ أَوْ بِمُصَلٍّ صَلَاةَ جُمُعَةٍ أَوْ صُبْحٍ أَوْ نَافِلَةٍ وَلَوْ ( لَحْظَةً ) أَيْ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ كَأَنْ أَدْرَكَهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَوْ أَحْدَثَ هُوَ عَقِبَ اقْتِدَائِهِ بِهِ ( لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ) لِخَبَرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " سُئِلَ : مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَ وَأَرْبَعًا إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ ؟ فَقَالَ تِلْكَ السُّنَّةُ " .
فَإِنْ قِيلَ : تَعْبِيرُهُ بِمُتِمٍّ يُخْرِجُ الظُّهْرَ خَلْفَ مُقِيمٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَوْ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ كَمَا مَرَّ ، وَلَا يُقَالُ لَهُ مُتِمٌّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ مُتِمٌّ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَى بِصَلَاةٍ تَامَّةٍ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ تَعْبِيرُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ اقْتَدَى بِمُتِمٍّ وَلَوْ فِي صُبْحٍ وَجُمُعَةٍ فَذَكَرَ مَعَ لَفْظِ الْإِتْمَامِ الصُّبْحَ وَالْجُمُعَةَ اللَّتَيْنِ لَا قَصْرَ فِيهِمَا ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي نَافِلَةٍ كَمُصَلِّي عِيدٍ وَرَاتِبَةٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ ، وَتَعْبِيرُ الْإِسْنَوِيِّ بِالْمُقِيمِ فِي نَافِلَةٍ مِثَالٌ إذْ الْمُقْتَدِي بِمُسَافِرٍ فِي نَافِلَةٍ كَذَلِكَ وَلَهُ قَصْرُ الْمُعَادَةِ إنْ صَلَّاهَا أَوَّلًا مَقْصُورَةً وَصَلَّاهَا ثَانِيًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي مَقْصُورَةً أَوْ صَلَّاهَا إمَامًا .
قُلْت ذَلِكَ تَفَقُّهًا وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بَعْدَ إخْرَاجِ الْمَأْمُومِ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ الْإِتْمَامُ وَلَيْسَ مُرَادًا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَلَوْ قَدَّمَ لَحْظَةً عَلَى مُتِمٍّ لَكَانَ أَوْلَى ، وَتَنْعَقِدُ صَلَاةُ الْقَاصِرِ خَلْفَ الْمُتِمِّ وَتَلْغُو نِيَّةُ الْقَصْرِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ إذَا نَوَى

الْقَصْرَ ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْرِ ، وَالْمُسَافِرُ مِنْ أَهْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ صَارَ مُقِيمًا .

وَلَوْ رَعَفَ الْإِمَامُ الْمُسَافِرُ وَاسْتَخْلَفَ مُتِمًّا أَتَمَّ الْمُقْتَدُونَ ، وَكَذَا لَوْ أَعَادَ الْإِمَامُ وَاقْتَدَى بِهِ .
( وَلَوْ رَعَفَ الْإِمَامُ الْمُسَافِرُ ) أَيْ سَالَ مِنْ أَنْفِهِ دَمٌ أَوْ أَحْدَثَ ( وَاسْتَخْلَفَ مُتِمًّا ) مِنْ الْمُقْتَدِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ ( أَتَمَّ الْمُقْتَدُونَ ) بِهِ إنْ نَوَوْا الِاقْتِدَاءَ بِهِ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَنْوُوا ، وَقُلْنَا بِالرَّاجِحِ إنَّ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَةِ لَا تَجِبُ لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِخْلَافِ صَارُوا مُقْتَدِينَ بِهِ حُكْمًا بِدَلِيلِ لُحُوقِهِمْ سَهْوَهُ .
نَعَمْ لَوْ نَوَوْا فِرَاقَهُ حِينَ أَحَسُّوا بِرُعَافِهِ أَوْ حَدَثِهِ قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِخْلَافِ قَصَرُوا .
فَائِدَةٌ : رَعَفَ مُثَلَّثُ الْعَيْنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَالْأَفْصَحُ فَتْحُ عَيْنِهِ ، وَالضَّمُّ ضَعِيفٌ وَالْكَسْرُ أَضْعَفُ مِنْهُ .
حَكَى فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَتْ سَبَبَ لُزُومِ سِيبَوَيْهِ الْخَلِيلَ فِي الطَّلَبِ لِلْعَرَبِيَّةِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ يَوْمًا حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فَقَالَ لَهُ أَحَدَّثَكَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ رَعُفَ فِي الصَّلَاةِ وَضَمَّ الْعَيْنَ ؟ فَقَالَ لَهُ أَخْطَأَتْ : إنَّمَا هُوَ رَعَفَ بِفَتْحِهَا فَانْصَرَفَ إلَى الْخَلِيلِ وَلَزِمَهُ .
وَسِيبَوَيْهِ لَقَبٌ فَارِسِيٌّ مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ : رَائِحَةُ التُّفَّاحِ ، وَذَكَرْت فِي شَرْحِي عَلَى الْقَطْرِ سَبَبَ لَقَبِهِ بِذَلِكَ ( وَكَذَا لَوْ أَعَادَ الْإِمَامُ وَاقْتَدَى بِهِ ) يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ لِاقْتِدَائِهِ بِمُتِمٍّ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ .
وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ ، لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ فَرْعٌ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْأَصْلِ أَنْقَصَ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْعِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ وَاسْتَخْلَفَ مُتِمًّا عَمَّا لَوْ اسْتَخْلَفَ قَاصِرًا أَوْ اسْتَخْلَفُوهُ أَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفُوا أَحَدًا فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْمُتِمُّونَ مُتِمًّا وَالْقَاصِرُونَ قَاصِرًا فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ .

وَلَوْ لَزِمَ الْإِتْمَامُ مُقْتَدِيًا فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ أَوْ صَلَاةُ إمَامِهِ ، أَوْ بِأَنَّ إمَامَهُ مُحْدِثًا أَتَمَّ ،
( وَلَوْ لَزِمَ الْإِتْمَامُ مُقْتَدِيًا فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ أَوْ صَلَاةُ إمَامِهِ أَوْ لِأَنَّ إمَامَهُ مُحْدِثًا ) أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ ( أَتَمَّ ) لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا وَمَا ذُكِرَ لَا يَدْفَعُهُ ، وَلَوْ بَانَ لِلْإِمَامِ حَدَثُ نَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالضَّابِطُ أَيْ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ شُرُوعُهُ فِيهِ ثُمَّ يَعْرِضُ الْفَسَادُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ ، وَحَيْثُ لَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْإِتْمَامِ بِذَلِكَ ا هـ .

وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ ثُمَّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .

وَلَوْ فَقَدَ الطَّهُورَيْنِ فَشَرَعَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْإِتْمَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الطَّهَارَةِ .
قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ : قَصَرَ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ صَلَاةٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ .
وَلَعَلَّ مَا قَالُوهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ تُشْبِهُهَا وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَكَذَا يُقَالُ فِيمَنْ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِنِيَّةِ الْإِتْمَامِ ثُمَّ أَعَادَهَا .

وَلَوْ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَبَانَ مُقِيمًا
( وَلَوْ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا ) فَنَوَى الْقَصْرَ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ بِأَنْ يَنْوِيَهُ ( فَبَانَ مُقِيمًا ) فَقَطْ أَوْ مُقِيمًا ثُمَّ مُحْدِثًا أَتَمَّ لُزُومًا .
أَمَّا لَوْ بَانَ مُحْدِثًا ثُمَّ مُقِيمًا أَوْ بَانَا مَعًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذْ لَا قُدْوَةَ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الظَّاهِرِ ظَنَّهُ مُسَافِرًا .

أَوْ بِمَنْ جَهِلَ سَفَرَهُ أَتَمَّ ، وَلَوْ عَلِمَهُ مُسَافِرًا وَشَكَّ فِي نِيَّتِهِ قَصَرَ .
( أَوْ ) اقْتَدَى نَاوِيًا الْقَصْرَ ( بِمَنْ جَهِلَ سَفَرَهُ ) أَيْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ ( أَتَمَّ ) لُزُومًا وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا قَاصِرًا لِظُهُورِ شِعَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ، وَالْأَصْلُ : الْإِتْمَامُ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِيمَا إذَا بَانَ كَمَا ذُكِرَ ( وَلَوْ عَلِمَهُ ) أَوْ ظَنَّهُ ( مُسَافِرًا وَشَكَّ فِي نِيَّتِهِ ) الْقَصْرَ فَجَزَمَ هُوَ بِالنِّيَّةِ ( قَصَرَ ) جَوَازًا إنْ بَانَ الْإِمَامُ قَاصِرًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا إذَا كَانَ سَفَرُهُ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ ، وَلَيْسَ لِلنِّيَّةِ شِعَارٌ تُعْرَفُ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُقْصِرٍ فِي الِاقْتِدَاءِ عَلَى التَّرَدُّدِ ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مُتِمٌّ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : وَشَكَّ فِي نِيَّتِهِ عَمَّا إذَا عَلِمَهُ مُسَافِرًا وَلَمْ يَشُكَّ كَالْإِمَامِ الْحَنَفِيِّ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ لِامْتِنَاعِ الْقَصْرِ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيُتَّجَهُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا إذَا أَخْبَرَ الْإِمَامُ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِأَنَّ عَزْمَهُ الْإِتْمَامُ .

وَلَوْ شَكَّ فِيهَا ، فَقَالَ : إنْ قَصَرَ قَصَرْت وَإِلَّا أَتْمَمْت قَصَرَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ شَكَّ فِيهَا ) أَيْ فِي نِيَّةِ إمَامِهِ الْقَصْرَ ( فَقَالَ ) مُعَلِّقًا عَلَيْهَا فِي ظَنِّهِ ( إنْ قَصَرَ قَصَرْت ، وَإِلَّا ) بِأَنْ أَتَمَّ ( أَتْمَمْت قَصَرَ فِي الْأَصَحِّ ) إنْ قَصَرَ إمَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْمُقْتَضَى وَالثَّانِي لَا يَقْصُرُ لِلتَّرَدُّدِ فِي النِّيَّةِ .
أَمَّا لَوْ بَانَ إمَامُهُ مُتِمًّا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَعَلَى الْأَصَحِّ لَوْ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ : كُنْت نَوَيْت الْإِتْمَامَ لَزِمَ الْمَأْمُومَ الْإِتْمَامُ ، أَوْ نَوَيْت الْقَصْرَ جَازَ لِلْمَأْمُومِ الْقَصْرُ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْمَأْمُومِ مَا نَوَاهُ الْإِمَامُ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ احْتِيَاطًا .
وَقِيلَ : لَهُ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْإِمَامِ .
.

وَيُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ نِيَّتُهُ فِي الْإِحْرَامِ
وَخَامِسُ الشُّرُوطِ نِيَّةُ الْقَصْرِ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَيُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ نِيَّتُهُ ) بِخِلَافِ الْإِتْمَامِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فَيَلْزَمُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ ( فِي الْإِحْرَامِ ) كَأَصْلِ النِّيَّةِ ، وَمِثْلُ نِيَّةِ الْقَصْرِ مَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَثَلًا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَمَا لَوْ قَالَ : أُؤَدِّي صَلَاةَ السَّفَرِ كَمَا قَالَ الْمُتَوَلِّي ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ مَا ذُكِرَ فِيهِ بِأَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ أَطْلَقَ أَتَمَّ لِأَنَّهُ الْمَنْوِيُّ فِي الْأُولَى وَالْأَصْلُ فِي الثَّانِيَةِ .
.

وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مُنَافِيهَا دَوَامًا ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَقْصُرُ أَوْ يُتِمُّ ، أَوْ فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ أَوْ قَامَ إمَامُهُ لِثَالِثَةٍ فَشَكَّ هَلْ هُوَ مُتِمٌّ أَمْ سَاهٍ أَتَمَّ .

وَسَادِسُ الشُّرُوطِ التَّحَرُّزُ عَمَّا يُنَافِيهَا كَمَا قَالَ ( وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مُنَافِيهَا ) أَيْ نِيَّةِ الْقَصْرِ ( دَوَامًا ) أَيْ فِي دَوَامِ الصَّلَاةِ كَنِيَّةِ الْإِتْمَامِ ، فَلَوْ نَوَاهُ بَعْدَ نِيَّةِ الْقَصْرِ أَتَمَّ ، وَعُلِمَ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ التَّحَرُّزُ عَنْ مُنَافِيهَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ نِيَّةِ الْقَصْرِ وَهُوَ كَذَلِكَ ( وَلَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَقْصُرُ أَمْ يُتِمُّ ) أَتَمَّ ( أَوْ ) تَرَدَّدَ : أَيْ شَكَّ ( فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ ) أَمْ لَا أَتَمَّ وَإِنْ تَذَكَّرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ التَّرَدُّدِ عَلَى التَّمَامِ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ وَلَمْ يُصَدِّرْهُمَا بِالْفَاءِ .
قَالَ الشَّارِحُ : لِضَمِّهِ إلَيْهِمَا فِي الْجَوَابِ مَا لَيْسَ مِنْ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ اخْتِصَارًا فَقَالَ : ( أَوْ قَامَ ) وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى أَحْرَمَ ( إمَامُهُ لِثَالِثَةٍ فَشَكَّ هَلْ هُوَ مُتِمٌّ أَمْ سَاهٍ أَتَمَّ ) وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي نِيَّةِ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ وَتَذَكَّرَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّكَّ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ كَعَدَمِهَا فَزَمَانُهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لَكِنَّهُ عُفِيَ عَنْ الْقَلِيلِ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَهُنَا الْمَوْجُودُ حَالَ الشَّكِّ مَحْسُوبٌ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ الْإِتْمَامَ ؛ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا لِجُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى التَّمَامِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَوْ فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ تَرْكِيبٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ قِسْمًا مِمَّا لَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا وَهُوَ لَا يَصِحُّ لِتَدَافُعِهِ ، فَلَوْ قَالَ : أَوْ شَكَّ كَمَا قَدَّرْته فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ لَاسْتَقَامَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ عَطْفًا عَلَى أَحْرَمَ .

وَلَوْ قَامَ الْقَاصِرُ لِثَالِثَةٍ عَمْدًا بِلَا مُوجِبٍ لِلْإِتْمَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا عَادَ وَسَجَدَ لَهُ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ عَادَ ثُمَّ نَهَضَ مُتِمًّا .
( وَلَوْ قَامَ الْقَاصِرُ لِثَالِثَةٍ عَمْدًا بِلَا مُوجِبٍ لِلْإِتْمَامِ ) كَنِيَّةٍ أَوْ نِيَّةِ إقَامَةٍ ( بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ) كَمَا لَوْ قَامَ الْمُتِمُّ إلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ ( وَإِنْ كَانَ ) قِيَامُهُ ( سَهْوًا ) ثُمَّ تَذَكَّرَ ( عَادَ ) وُجُوبًا ( وَسَجَدَ لَهُ ) نَدْبًا كَغَيْرِهِ مِمَّا يُبْطِلُ عَمْدُهُ ( وَسَلَّمَ ) وَقَوْلُ الْغَزِّيِّ : هَذَا إنْ بَلَغَ حَدَّ الرُّكُوعِ قِيَاسًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا وَهُوَ وَاضِحٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ الْكَلَامَ فِيمَنْ قَامَ ( فَإِنْ أَرَادَ ) عِنْدَ تَذَكُّرِهِ وَهُوَ قَائِمٌ ( أَنْ يُتِمَّ عَادَ ) لِلْقُعُودِ وُجُوبًا ( ثُمَّ نَهَضَ مُتِمًّا ) أَيْ نَاوِيًا الْإِتْمَامَ .
وَقِيلَ : لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِي قِيَامِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِتْمَامَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَهُوَ قَاصِرٌ ، وَالْجَهْلُ كَالسَّهْوِ فِيمَا ذُكِرَ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ حَتَّى أَتَى بِرَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ رَكْعَتَانِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ نَدْبًا .

وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسَافِرًا فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ ، فَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهَا أَوْ بَلَغَتْ سَفِينَتُهُ دَارَ إقَامَتِهِ أَتَمَّ .
وَسَابِعُ الشُّرُوطِ دَوَامُ سَفَرِهِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ كَمَا قَالَ ( وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ) أَيْ الشَّخْصِ النَّاوِي لِلْقَصْرِ ( مُسَافِرًا فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ ، فَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ ) الْقَاطِعَةَ لِلتَّرَخُّصِ ( فِيهَا ) أَوْ شَكَّ هَلْ نَوَاهَا أَوْ لَا ( أَوْ بَلَغَتْ سَفِينَتُهُ ) فِيهَا ( دَارَ إقَامَتِهِ ) أَوْ شَكَّ هَلْ بَلَغَهَا أَوْ لَا ( أَتَمَّ ) لِزَوَالِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ كَمَا لَوْ كَانَ يُصَلِّي لِمَرَضٍ فَزَالَ الْمَرَضُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَلِلشَّكِّ فِي الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ .
.

وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ إذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ .

وَثَامِنُ الشُّرُوطِ الْعِلْمُ بِجَوَازِ الْقَصْرِ ، فَلَوْ قَصَرَ جَاهِلًا بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِتَلَاعُبِهِ ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا .
قَالَ الشَّارِحُ : وَكَأَنَّ تَرْكَهُ لِبُعْدِ أَنْ يَقْصُرَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ جَوَازَهُ ( وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ إذَا بَلَغَ ) سَفَرُهُ ( ثَلَاثَ مَرَاحِلَ ) لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ إلَّا الْمَلَّاحَ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ بِأَهْلِهِ وَمَنْ لَا يَزَالُ مُسَافِرًا بِلَا وَطَنٍ فَالْإِتْمَامُ لَهُمَا أَفْضَلُ خُرُوجًا مِنْ خِلَالِ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمَا كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَرُوِيَ فِيهِمَا خِلَافُهُ دُونَ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ لِاعْتِضَادِهِ بِالْأَصْلِ ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَكْثَرُ عَمَلًا .
أَمَّا إذَا لَمْ يَبْلُغْهَا فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ بَلْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الرَّضَاعِ يُكْرَهُ الْقَصْرُ ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ ا هـ .
فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى .
نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ دَائِمُ الْحَدَثِ إذَا كَانَ لَوْ قَصَرَ لَخَلَا زَمَنُ صَلَاتِهِ عَنْ جَرَيَانِ حَدَثِهِ وَلَوْ أَتَمَّ لَجَرَى حَدَثُهُ فِيهَا فَيَكُونُ الْقَصْرُ أَفْضَلَ مُطْلَقًا ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا خَلَا عَنْ الْحَدَثِ ، وَلَوْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ ، وَكِلَا الْمَسْأَلَتَيْنِ يُشْكِلُ بِمَا قَالُوهُ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مِنْ قِيَامٍ لَمْ يَخْلُ عَنْ الْحَدَثِ وَلَوْ صَلَّى مِنْ قُعُودٍ خَلَا عَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مِنْ قُعُودٍ ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ مِنْ قُعُودٍ فِيهَا بَدَلٌ عَنْ الْقِيَامِ وَلَا كَذَلِكَ مَا ذُكِرَ ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لِحَاجَةٍ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ ،

وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ رُخْصَةً رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ ، أَوْ شَكًّا فِي جَوَازِهَا : أَيْ لَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ إلَيْهَا كُرِهَ لَهُ تَرْكُهَا .

وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ .
( وَالصَّوْمُ ) أَيْ صَوْمُ رَمَضَانَ لِمُسَافِرٍ سَفَرًا طَوِيلًا ( أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ وَعَدَمِ إخْلَاءِ الْوَقْتِ عَنْ الْعِبَادَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ الْبَقَرَةَ ] وَلَمْ يُرَاعِ مَنْعَ أَهْلِ الظَّاهِرِ الصَّوْمَ ، لِأَنَّ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ لَا يُقِيمُونَ لِمَذْهَبِهِمْ وَزْنًا : قَالَهُ الْإِمَامُ ، هَذَا ( إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ ) أَمَّا إذَا تَضَرَّرَ بِهِ لِنَحْوِ مَرَضٍ أَوْ أَلَمٍ يَشُقُّ مَعَهُ احْتِمَالُهُ ، فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا صَائِمًا فِي السَّفَرِ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ } ( 1 ) .
نَعَمْ إنْ خَافَ مِنْ الصَّوْمُ تَلَفَ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى ، وَلَوْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالصَّوْمِ فِي الْحَالِ وَلَكِنْ يَخَافُ الضَّعْفَ وَلَوْ صَامَ وَكَانَ سَفَرَ حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ ، فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَنْ التَّتِمَّةِ وَأَقَرَّهُ ، وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ ، فَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَكَأَنَّهُ فِي ذِي الرُّفْقَةِ لَا الْمُنْفَرِدِ ا هـ .
وَهَذَا مُرَادُ الْأَذْرَعِيِّ بِلَا شَكٍّ ، وَيَأْتِي أَيْضًا هُنَا مَا تَقَدَّمَ ، مِنْ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي جَوَازِ الرُّخْصَةِ أَوْ تَرَكَهَا رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهَا .
.

فَصْلٌ : يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا .
وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ .
( فَصْلٌ ) فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ( يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَقْدِيمًا ) فِي وَقْتِ الْأُولَى ( وَتَأْخِيرًا ) فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، وَالْجُمُعَةُ كَالظُّهْرِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَاعْتَمَدَهُ كَجَمْعِهِمَا بِالْمَطَرِ بَلْ أَوْلَى ، وَيُمْتَنَعُ تَأْخِيرًا لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا يَتَأَتَّى تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ( وَ ) بَيْنَ ( الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ ) أَيْ تَقْدِيمًا فِي وَقْتِ الْأُولَى ، وَتَأْخِيرًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ( فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ ) الْمُبَاحِ لِلِاتِّبَاعِ .
أَمَّا جَمْعُ التَّأْخِيرِ فَثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَأَمَّا جَمْعُ التَّقْدِيمِ فَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .
.

نَعَمْ الْمُتَحَيِّرَةُ لَا تَجْمَعُ تَقْدِيمًا كَمَا قَالَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَوَجْهُ امْتِنَاعِهِ أَنَّ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى شَرْطُهُ تَقَدُّمُ الْأُولَى صَحِيحَةً يَقِينًا أَوْ ظَنًّا وَهُوَ مُنْتَفٍ هَهُنَا بِخِلَافِ الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَمِثْلُهَا فِي جَمِيعِ التَّقْدِيمِ فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ وَكُلُّ مَنْ لَمْ تَسْقُطْ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَلَوْ حَذَفَ بِالتَّيَمُّمِ كَانَ أَوْلَى : أَيْ لِيَشْمَلَ غَيْرَ الْمُتَيَمِّمِ .

وَكَذَا الْقَصِيرُ فِي قَوْلٍ ، فَإِنْ كَانَ سَائِرًا وَقْتَ الْأُولَى فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ وَإِلَّا فَعَكْسُهُ .

( وَكَذَا ) يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ ( الْقَصِيرِ فِي قَوْلٍ ) قَدِيمٍ كَالتَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْقَصْرِ ، وَالْمَجْمُوعَةِ فِي وَقْتِ الْأُخْرَى أَدَاءً كَالْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ وَقْتَيْهِمَا صَارَا وَاحِدًا ، وَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ الصُّبْحُ مَعَ غَيْرِهَا وَالْعَصْرُ مَعَ الْمَغْرِبِ فَلَا جَمْعَ فِيهِمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ، وَلَا فِي الْحَضَرِ وَلَا فِي سَفَرِ قَصْرٍ وَلَوْ لِمَكِّيٍّ وَلَا فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : يَجُوزُ إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ الْجَمْعِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى فِي الْحَجِّ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَبِمُزْدَلِفَةَ كَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ ، فَإِنَّ الْجَمْعَ فِيهِمَا أَفْضَلُ قَطْعًا فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِلِاتِّبَاعِ ، وَسَبَبُهُ السَّفَرُ فِي الْأَظْهَرِ لَا النُّسُكُ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَجِّ ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ سَبَبَهُ النُّسُكُ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا صَحَّحَهُ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ ، وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا الشَّاكُّ وَالرَّاغِبُ عَنْ الرُّخْصَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْبَغَوِيِّ فِي التَّعْلِيقِ وَغَيْرِهِ ، وَمَنْ إذَا جَمَعَ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ خَلَا عَنْ حَدَثِهِ الدَّائِمِ أَوْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ فَالْجَمْعُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَكَذَا مَنْ خَافَ فَوْتَ عَرَفَةَ أَوْ عَدَمَ إدْرَاكِ الْعَدُوِّ لِاسْتِنْقَاذِ أَسِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( فَإِنْ كَانَ سَائِرًا وَقْتَ الْأُولَى ) نَازِلًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَسَائِرٍ يَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ( فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ ، وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ سَائِرًا وَقْتَ الْأُولَى بِأَنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ سَائِرًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ( فَعَكْسُهُ ) لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ لِلْمُسَافِرِ ، وَمَا قَرَّرْت بِهِ كَلَامَ الْمَتْنِ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ ، وَبَقِيَ

مَا لَوْ كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتَيْهِمَا أَوْ نَازِلًا فِيهِ ، فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْعَكْسِ .

وَشُرُوطُ التَّقْدِيمِ ثَلَاثَةٌ : الْبُدَاءَةُ بِالْأُولَى ، فَلَوْ صَلَّاهُمَا فَبَانَ فَسَادُهَا فَسَدَتْ الثَّانِيَةُ .
وَنِيَّةُ الْجَمْعِ ، وَمَحَلُّهَا أَوَّلُ الْأُولَى ، وَتَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا فِي الْأَظْهَرِ .
الْمُوَالَاةُ بِأَنْ لَا يَطُولَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ ، فَإِنْ طَالَ وَلَوْ بِعُذْرٍ وَجَبَ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إلَى وَقْتِهَا وَلَا يَضُرُّ فَصْلٌ يَسِيرٌ .
وَيُعْرَفُ طُولُهُ بِالْعُرْفِ .

( وَشُرُوطُ التَّقْدِيمِ ثَلَاثَةٌ ) بَلْ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : ( الْبُدَاءَةُ بِالْأُولَى ) لِأَنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَالثَّانِيَةَ تَبَعٌ لَهَا ، فَلَوْ صَلَّى الْعَصْرَ قَبْلَ الظُّهْرِ لَمْ تَصِحَّ وَيُعِيدُهَا بَعْدَ الظُّهْرِ إنْ أَرَادَ الْجَمْعَ ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ؛ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مَتْبُوعِهِ ( فَلَوْ صَلَّاهُمَا ) مُبْتَدِئًا بِالْأُولَى .
( فَبَانَ فَسَادُهَا ) بِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ ( فَسَدَتْ الثَّانِيَةُ ) أَيْضًا لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالْأُولَى ، وَالْمُرَادُ بِفَسَادِهَا بُطْلَانُ كَوْنِهَا عَصْرًا أَوْ عِشَاءً لَا أَصْلَ الصَّلَاةِ بَلْ تَنْعَقِدُ نَافِلَةً عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْبَحْرِ وَأَقَرَّهُ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ جَاهِلًا بِالْحَالِ ( وَ ) ثَانِيهَا ( نِيَّةُ الْجَمْعِ ) لِيَتَمَيَّزَ التَّقْدِيمُ الْمَشْرُوعُ عَنْ التَّقْدِيمِ سَهْوًا ( وَمَحَلُّهَا ) الْفَاضِلُ ( أَوَّلُ الْأُولَى ) كَسَائِرِ الْمَنْوِيَّاتِ فَلَا يَكْفِي تَقْدِيمُهَا بِالِاتِّفَاقِ ( وَتَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا فِي الْأَظْهَرِ ) لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِذَلِكَ .
وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى نِيَّةِ الْقَصْرِ بِجَامِعِ أَنَّهُمَا رُخْصَتَا سَفَرٍ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْجَمْعَ هُوَ ضَمُّ الثَّانِيَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَحَيْثُ وُجِدَتْ نِيَّتُهُ وُجِدَ بِخِلَافِ نِيَّةِ الْقَصْرِ فَإِنَّهَا لَوْ تَأَخَّرَتْ لَتَأَدَّى بَعْضُ الصَّلَاةِ عَلَى التَّمَامِ ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الْقَصْرُ كَمَا مَرَّ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَجُوزُ مَعَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا أَيْضًا فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ أَوْهَمَ تَعْبِيرُهُ بِالْأَثْنَاءِ عَدَمَ الصِّحَّةِ وَقَدَّرْت الْفَاضِلَ تَبَعًا لِلشَّارِحِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِيمَا إذَا نَوَى فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ ، وَلَوْ نَوَى الْجَمْعَ أَوَّلَ الْأُولَى ثُمَّ نَوَى تَرْكَهُ ثُمَّ قَصَدَ فِعْلَهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي أَثْنَائِهَا كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الدَّارِمِيِّ ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ أَوْ

الْمَغْرِبِ بِالْبَلَدِ فِي سَفِينَةٍ فَسَارَتْ فَنَوَى الْجَمْعَ ، فَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ مَعَ التَّحَرُّمِ صَحَّ لِوُجُودِ السَّفَرِ وَقْتَهَا وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُدُوثِ الْمَطَرِ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى حَيْثُ لَا يُجْمَعُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي بِأَنَّ السَّفَرَ بِاخْتِيَارِهِ فَنَزَلَ اخْتِيَارُهُ لَهُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَتَهُ بِخِلَافِ الْمَطَرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ ، فَالْوَجْهُ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ هُنَا ، وَالْمُعْتَمَدُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِي أَوَّلِ الْأُولَى بِخِلَافِ عُذْرِ الْمَطَرِ ، فَإِذَنْ لَا فَرْقَ فِي الْمُسَافِرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ( وَ ) ثَالِثُهَا ( الْمُوَالَاةُ بِأَنْ لَا يَطُولَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ ) لِأَنَّ الْجَمْعَ يَجْعَلُهُمَا كَصَلَاةٍ فَوَجَبَ الْوَلَاءُ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ وَالتَّابِعُ لَا يُفْصَلُ عَنْ مَتْبُوعِهِ ، وَلِهَذَا تُرِكَتْ الرَّوَاتِبُ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ الْمَأْثُورُ ( فَإِنْ طَالَ وَلَوْ بِعُذْرٍ ) كَسَهْوٍ وَإِغْمَاءٍ ( وَجَبَ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إلَى وَقْتِهَا ) لِفَوَاتِ شَرْطِ الْجَمْعِ ( وَلَا يَضُرُّ فَصْلٌ يَسِيرٌ ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَمَعَ بِنَمِرَةَ أَقَامَ لِلصَّلَاةِ بَيْنَهُمَا } ( وَيُعْرَفُ طُولُهُ ) وَقِصَرُهُ ( بِالْعُرْفِ ) لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ كَالْحِرْزِ وَالْقَبْضِ .
وَقِيلَ : إنَّ الْيَسِيرَ يُقَدَّرُ بِالْإِقَامَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ .

وَلِلْمُتَيَمِّمِ الْجَمْعُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَا يَضُرُّ تَخَلُّلُ طَلَبٍ خَفِيفٍ
( وَلِلْمُتَيَمِّمِ الْجَمْعُ عَلَى الصَّحِيحِ ) كَالْمُتَوَضِّئِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَبِ ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى رَدِّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يَضُرُّ تَخَلُّلُ طَلَبٍ خَفِيفٍ ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْإِقَامَةَ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ شَرْطٌ دُونَهَا ، بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَمْ يَضُرَّ ، وَالثَّانِي : يَضُرُّ لِطُولِ الْفَصْلِ بِهِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بِالْوُضُوءِ قَطْعًا ، وَلَوْ صَلَّى بَيْنَهَا رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةٍ رَاتِبَةٍ بَطَلَ الْجَمْعُ ، قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَغَيْرُ الرَّاتِبَةِ كَالرَّاتِبَةِ .

وَلَوْ جَمَعَ ثُمَّ عَلِمَ تَرْكَ رُكْنٍ مِنْ الْأُولَى بَطَلَتَا وَيُعِيدُهُمَا جَامِعًا ، أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَطُلْ تَدَارَكَ ، وَإِلَّا فَبَاطِلَةٌ وَلَا جَمَعَ ، وَلَوْ جَهِلَ أَعَادَهُمَا لِوَقْتَيْهِمَا
( وَلَوْ جَمَعَ ) بَيْنَ صَلَاتَيْنِ ( ثُمَّ عَلِمَ ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُمَا أَوْ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ وَطَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ سَلَامِ الْأُولَى وَعِلْمِهِ ( تَرْكَ رُكْنٍ مِنْ الْأُولَى بَطَلَتَا ) الْأُولَى لِتَرْكِ الرُّكْنِ ، وَتَعَذُّرِ التَّدَارُكِ بِطُولِ الْفَصْلِ ، وَالثَّانِيَةُ لِفَقْدِ التَّرْتِيبِ ، وَأُعِيدَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهَا ( وَيُعِيدُهُمَا جَامِعًا ) إنْ شَاءَ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ .
أَمَّا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ ، فَإِنَّ إحْرَامَهُ بِالثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ ، وَيَبْنِي عَلَى الْأُولَى .
وَقَوْلُهُ : ثُمَّ عَلِمَ يُفْهِمُ أَنَّ الشَّكَّ لَا يُؤَثِّرُ وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ لَا أَثَرَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ( أَوْ ) عَلِمَ تَرْكَهُ ( مِنْ الثَّانِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَطُلْ ) أَيْ الْفَصْلُ ( تَدَارَكَ ) وَمَضَتْ الصَّلَاتَانِ عَلَى الصِّحَّةِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ طَالَ ( فَبَاطِلَةٌ ) أَيْ الثَّانِيَةُ لِتَرْكِهِ الْمُوَالَاةَ بِتَخَلُّلِ الْبَاطِلَةِ ( وَلَا جَمَعَ ) فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا فِي وَقْتِهَا ( وَلَوْ جَهِلَ ) بِأَنْ لَمْ يُدْرِكُونَ الْمَتْرُوكَ مِنْ الْأُولَى أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ ( أَعَادَهُمَا لِوَقْتَيْهِمَا ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ الْأُولَى ، وَامْتَنَعَ الْجَمْعُ تَقْدِيمًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِيَةِ ، فَيَطُولُ الْفَصْلُ بِهَا وَبِالْأُولَى الْمُعَادَةِ بَعْدَهَا ، أَمَّا جَمْعُهُمَا تَأْخِيرًا فَجَائِزٌ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ .

وَلَوْ شَكَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي نِيَّةِ الْجَمْعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ قُرْبٍ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَإِلَّا امْتَنَعَ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ .

وَإِذَا أَخَّرَ الْأُولَى لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ وَ الْمُوَالَاةُ ، وَنِيَّةُ الْجَمْعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَيَجِبُ كَوْنُ التَّأْخِيرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ وَإِلَّا فَيَعْصِي .
وَتَكُونُ قَضَاءً .

( وَإِذَا أَخَّرَ ) الصَّلَاةَ ( الْأُولَى ) إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ( لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ ) بَيْنَهُمَا ( وَ ) لَا ( الْمُوَالَاةُ ، وَ ) لَا ( نِيَّةُ الْجَمْعِ ) فِي الْأُولَى ( عَلَى الصَّحِيحِ ) فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ .
أَمَّا عَدَمُ التَّرْتِيبِ فَلِأَنَّ الْوَقْتَ لِلثَّانِيَةِ فَلَا تُجْعَلُ تَابِعَةً .
وَأَمَّا عَدَمُ الْمُوَالَاةِ فَلِأَنَّ الْأُولَى بِخُرُوجِ وَقْتِهَا الْأَصْلِيِّ قَدْ أَشْبَهَتْ الْفَائِتَةَ بِدَلِيلِ عَدَمِ الْأَذَانِ لَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَائِتَةٌ ، وَيَنْبَنِي عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ عَدَمُ وُجُوبِ نِيَّةِ الْجَمْعِ .
وَالثَّانِي : يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَوَقَعَ فِي الْمُحَرَّرِ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْجَمْعِ ، وَتَبِعَهُ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ .
قَالَ فِي الدَّقَائِقِ : وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، بَلْ قَالَ : فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ : الصَّحِيحُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ سُنَّةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا كُلَّهَا وَاجِبَةٌ ( وَ ) إنَّمَا ( يَجِبُ ) لِلتَّأْخِيرِ أَمْرَانِ فَقَطْ : أَحَدُهُمَا : ( كَوْنُ التَّأْخِيرِ ) إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ( بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ) قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْأُولَى بِزَمَنٍ لَوْ ابْتَدَئْت فِيهِ كَانَتْ أَدَاءً ، نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا عَنْ الْأَصْحَابِ .
وَفِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ عَنْهُمْ وَتُشْتَرَطُ هَذِهِ النِّيَّةُ فِي وَقْتِ الْأُولَى بِحَيْثُ يَبْقَى مِنْ وَقْتِهَا مَا يَسَعُهَا أَوْ أَكْثَرُ ، فَإِنْ ضَاقَ وَقْتُهَا بِحَيْثُ لَا يَسَعُهَا عَصَى وَصَارَتْ قَضَاءً وَهُوَ مُبَيَّنٌ كَمَا قَالَ الشَّارِحُ إنَّ الْمُرَادَ بِالْأَدَاءِ فِي الرَّوْضَةِ الْأَدَاءُ الْحَقِيقِيُّ بِأَنْ يُؤْتَى بِجَمِيعِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا ، بِخِلَافِ الْإِتْيَانِ بِرَكْعَةٍ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ وَالْبَاقِي بَعْدَهُ ، فَتَسْمِيَتُهُ أَدَاءً بِتَبَعِيَّةِ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ الْمَجْمُوعِ صَارَتْ قَضَاءً خِلَافًا

لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ نِيَّةٍ فَلَا يُؤَثِّرُ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ أَخَّرَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْجَمْعِ أَوْ بِنِيَّتِهِ فِي زَمَنٍ لَا يَسَعُهَا ( فَيَعْصِي وَتَكُونُ قَضَاءً ) لِخُلُوِّ الْوَقْتِ عَنْ الْفِعْلِ أَوْ الْعَزْمِ .
وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ : لَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ لَمْ يَعْصِ ، وَكَانَ جَامِعًا لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَعْصِ ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ جَامِعًا لِفَقْدِ النِّيَّةِ .
.

وَلَوْ جَمَعَ تَقْدِيمًا فَصَارَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مُقِيمًا بَطَلَ الْجَمْعُ .
وَفِي الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهَا لَا يَبْطُلُ فِي الْأَصَحِّ ، أَوْ تَأْخِيرًا فَأَقَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا لَمْ يُؤَثِّرْ ، وَقَبْلَهُ يَجْعَلُ الْأُولَى قَضَاءً .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ مِنْ شُرُوطِ التَّقْدِيمِ دَوَامُ سَفَرِهِ إلَى عَقْدِ الثَّانِيَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( وَلَوْ جَمَعَ تَقْدِيمًا ) بِأَنْ صَلَّى الْأُولَى فِي وَقْتِهَا نَاوِيًا الْجَمْعَ ( فَصَارَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ) أَوْ فِي الْأُولَى كَمَا فُهِمَ بِالْأُولَى ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ ( مُقِيمًا ) بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ أَوْ بِانْتِهَاءِ السَّفِينَةِ إلَى الْمَقْصِدِ ( بَطَلَ الْجَمْعُ ) لِزَوَالِ سَبَبِهِ ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إلَى وَقْتِهَا .
أَمَّا الْأُولَى فَلَا تَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ جَمْعٍ فِيهِ تَسَاهُلٌ ، وَعَبَّرَ فِي الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ كَانَ يَجْمَعُ ، وَلَوْ شَكَّ فِي صَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ تَيَقُّنِ الْإِقَامَةِ ، فَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ فَزَالَ السَّبَبُ لَدَخَلَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ ( وَفِي الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهَا ) لَوْ صَارَ مُقِيمًا ( لَا يَبْطُلُ فِي الْأَصَحِّ ) لِانْعِقَادِهَا أَوْ تَمَامِهَا قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ .
وَالثَّانِي : يَبْطُلُ قِيَاسًا فِي الْأُولَى عَلَى الْقَصْرِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقَصْرَ يُنَافِي الْإِقَامَةَ بِخِلَافِ الْجَمْعِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إذَا خَرَجَ الْآخِذُ قَبْلَ الْحَوْلِ عَنْ الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا قَدْ تَمَّتْ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَصَرَ ثُمَّ طَرَأَتْ الْإِقَامَةُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنْ أَخَذَهَا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا .
الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْ أَمْرَيْ التَّأْخِيرِ : دَوَامُ سَفَرِهِ إلَى تَمَامِهِمَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( أَوْ ) جَمَعَ ( تَأْخِيرًا فَأَقَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا لَمْ يُؤَثِّرْ ) ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لِتَمَامِ الرُّخْصَةِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ( وَقَبْلَهُ ) أَيْ فَرَاغِهِمَا ( يَجْعَلُ الْأُولَى قَضَاءً ) لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلثَّانِيَةِ فِي الْأَدَاءِ لِلْعُذْرِ وَقَدْ زَالَ قَبْلَ تَمَامِهَا .
وَفِي الْمَجْمُوعِ : إذَا أَقَامَ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأُولَى أَدَاءً بِلَا

خِلَافٍ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَمَا بَحَثَهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِهِمْ .
قَالَ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ الْإِسْنَوِيُّ : وَتَعْلِيلُهُمْ مُنْطَبِقٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأُولَى فَلَوْ عَكَسَ وَأَقَامَ فِي أَثْنَاءِ الظُّهْرِ فَقَدْ وُجِدَ الْعُذْرُ فِي جَمِيعِ الْمَتْبُوعَةِ وَأَوَّلُ التَّابِعَةِ ، وَقِيَاسُ مَا مَرَّ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ أَنَّهَا أَدَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْ كَمَا أَفْهَمَهُ تَعْلِيلُهُمْ ، وَأَجْرَى الطَّاوُسِيُّ الْكَلَامَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، فَقَالَ : وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ بِدَوَامِ السَّفَرِ إلَى عَقْدِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ فِي جَمِيعِ التَّأْخِيرِ ، بَلْ شَرَطَ دَوَامَهُ إلَى تَمَامِهِمَا ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَيْسَ وَقْتَ الْعَصْرِ إلَّا فِي السَّفَرِ ، وَقَدْ وُجِدَ عِنْدَ عَقْدِ الثَّانِيَةِ فَيَحْصُلُ الْجَمْعُ .
وَأَمَّا وَقْتُ الْعَصْرِ فَيَجُوزُ فِيهِ الظُّهْرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَغَيْرِهِ ، فَلَا يَنْصَرِفُ فِيهِ الظُّهْرُ إلَى السَّفَرِ إلَّا إذَا وُجِدَ السَّفَرُ فِيهِمَا ، وَإِلَّا جَازَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِ لِوُقُوعِ بَعْضِهَا فِيهِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إلَى غَيْرِهِ لِوُقُوعِ بَعْضِهِمَا فِي غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ ا هـ وَكَلَامُ الطَّاوُسِيِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
.

وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بِالْمَطَرِ تَقْدِيمًا .
وَالْجَدِيدُ مَنْعُهُ تَأْخِيرًا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْجَمْعِ بِالْمَطَرِ فَقَالَ : ( وَيَجُوزُ الْجَمْعُ ) وَلَوْ لِمُقِيمٍ كَمَا يَجْمَعُ بِالسَّفَرِ وَلَوْ جَمَعَهُ مَعَ الْعَصْرِ خِلَافًا لِلرُّويَانِيِّ فِي مَنْعِهِ ذَلِكَ ( بِالْمَطَرِ ) وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا بِحَيْثُ يَبُلُّ الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ كَثَلْجٍ وَبَرَدٍ ذَائِبِينَ وَشَفَّانٍ كَمَا سَيَأْتِي ، ( تَقْدِيمًا ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا } .
زَادَ مُسْلِمٌ { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ كَمَالِكٍ : أَرَى ذَلِكَ بِعُذْرِ الْمَطَرِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } .
قَالَ : وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْأُولَى رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ فَهِيَ أَوْلَى .
قَالَ : يَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ : الْجَمْعَ بِالْمَطَرِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَلَا مَطَرٍ كَثِيرٍ أَوْ لَا مَطَرٍ مُسْتَدَامٍ ، فَلَعَلَّهُ انْقَطَعَ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ ( وَالْجَدِيدُ مَنْعُهُ تَأْخِيرًا ) لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمَطَرِ لَيْسَتْ إلَى الْجَامِعِ فَقَدْ يَنْقَطِعُ ، فَيُؤَدِّي إلَى إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بِخِلَافِ السَّفَرِ وَالْقَدِيمُ جَوَازُهُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَى السَّفَرِ .

وَشَرْطُ التَّقْدِيمِ وُجُودُهُ أَوَّلَهُمَا .
وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُهُ عِنْدَ سَلَامِ الْأُولَى .
وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ كَمَطَرٍ إنْ ذَابَا .
( وَشَرْطُ التَّقْدِيمِ ) بَعْدَ شُرُوطِهِ السَّابِقَةِ فِي جَمْعِهِ بِالسَّفَرِ ( وُجُودُهُ ) أَيْ الْمَطَرِ ( أَوَّلَهُمَا ) أَيْ الصَّلَاتَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْجَمْعِ مَعَ الْعُذْرِ ( وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُهُ عِنْدَ سَلَامِ الْأُولَى ) لِيَتَّصِلَ بِأَوَّلِ الثَّانِيَةِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اعْتِبَارُ امْتِدَادِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ عِنْدَ سَلَامِ الْأُولَى كَمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ( وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ كَمَطَرٍ إنْ ذَابَا ) لِبَلِّهِمَا الثَّوْبَ ، وَالشَّفَّانُ وَهُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لَا بِضَمِّهَا كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الرَّوْضَةِ وَلَا بِكَسْرِهَا كَمَا وَقَعَ لِلْقَمُولِيِّ وَبِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَرَدُ رِيحٍ فِيهِ بَلَلٌ كَالْمَطَرِ .

وَالْأَظْهَرُ تَخْصِيصُ الرُّخْصَةِ بِالْمُصَلِّي جَمَاعَةً بِمَسْجِدٍ بَعِيدٍ يَتَأَذَّى بِالْمَطَرِ فِي طَرِيقِهِ .
( وَالْأَظْهَرُ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْأَصَحُّ ( تَخْصِيصُ الرُّخْصَةِ بِالْمُصَلِّي جَمَاعَةً ) بِمُصَلًّى ( بِمَسْجِدٍ ) أَوْ غَيْرِهِ ( بَعِيدٍ ) عَنْ بَابِ دَارِهِ عُرْفًا بِحَيْثُ ، ( يَتَأَذَّى بِالْمَطَرِ فِي طَرِيقِهِ ) إلَيْهِ نَظَرًا إلَى الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا ، بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي بِبَيْتِهِ مُنْفَرِدًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ يَمْشِي إلَى الْمُصَلَّى فِي كُنَّ أَوْ كَانَ الْمُصَلَّى قَرِيبًا فَلَا يَجْمَعُ لِانْتِفَاءِ التَّأَذِّي .
وَأَمَّا جَمْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَطَرِ مَعَ أَنَّ بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ كَانَتْ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ ، فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ بُيُوتَهُنَّ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَأَكْثَرُهَا كَانَ بَعِيدًا ، فَلَعَلَّهُ حِينَ جَمَعَ لَمْ يَكُنْ بِالْقَرِيبِ ، وَبِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بِالْمَأْمُومِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَأَذَّ بِالْمَطَرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ ، وَبِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا بِمُصَلَّى لِانْتِفَاءِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَلِمَنْ اتَّفَقَ لَهُ وُجُودُ الْمَطَرِ وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ : أَيْ أَوْ نَحْوِهِ أَنْ يَجْمَعَ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ أَيْ أَوْ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ فِي رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ ثُمَّ عَوْدِهِ أَوْ فِي إقَامَتِهِ ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِيهِ .
وَالثَّانِي يَتَرَخَّصُ مُطْلَقًا .

تَنْبِيهٌ : يَجْمَعُ الْعَصْرَ مَعَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ كَمَا مَرَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْخُطْبَةِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ لَا جَمْعَ بِغَيْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ كَمَرَضٍ وَرِيحٍ وَظُلْمَةٍ وَخَوْفٍ وَوَحَلٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ، وَلِخَبَرِ الْمَوَاقِيتِ فَلَا يُخَالَفُ إلَّا بِصَرِيحٍ .
وَحَكَى فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا جَوَازُهُ بِالْمَذْكُورَاتِ وَقَالَ : وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا فِي الْمَرَضِ وَالْوَحَلِ ، وَاخْتَارَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، لَكِنْ فَرَضَهُ فِي الْمَرَضِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَقَدْ ظَفِرْتُ بِنَقْلِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الْحَجَّ ] .
وَعَلَى ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَرْفَقَ بِنَفْسِهِ ، فَمَنْ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ يُقَدِّمُهَا بِشَرَائِطِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ ، أَوْ فِي وَقْتِ الْأُولَى يُؤَخِّرُهَا بِالْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَإِنَّمَا لَمْ يُلْحِقُوا الْوَحَلَ بِالْمَطَرِ كَمَا فِي عُذْرِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِأَنَّ تَارِكَهُمَا يَأْتِي بِبَدَلِهِمَا ، وَالْجَامِعُ يَتْرُكُ الْوَقْتَ بِلَا بَدَلٍ ، وَلِأَنَّ الْعُذْرَ فِيهِمَا لَيْسَ مَخْصُوصًا ، بَلْ كُلُّ مَا يَلْحَقُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ وَالْوَحَلُ مِنْهُ ، وَعُذْرُ الْجَمْعِ مَضْبُوطٌ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَلَمْ تَجِئْ بِالْوَحَلِ .
.

تَتِمَّةٌ : إذَا جَمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَدَّمَ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَلَهُ تَأْخِيرُهَا سَوَاءٌ أَجَمَعَ تَقْدِيمًا أَمْ تَأْخِيرًا ، وَتَوْسِيطُهَا إنْ جَمَعَ تَأْخِيرًا سَوَاءٌ قَدَّمَ الظُّهْرَ أَمْ الْعَصْرَ ، وَإِذَا جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ أَخَّرَ سُنَّتَهُمَا ، وَلَهُ تَوْسِيطَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ إنْ جَمَعَ تَأْخِيرًا وَقَدَّمَ الْمَغْرِبَ وَتَوْسِيطَ سُنَّةِ الْعِشَاءِ إنْ جَمَعَ تَأْخِيرًا ، وَقَدَّمَ الْعِشَاءَ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ ، وَعَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ سُنَّةً مُقَدَّمَةً ، فَلَا يَخْفَى الْحُكْمُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي جَمْعَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
.

خَاتِمَةٌ : قَدْ جَمَعَ فِي الرَّوْضَةِ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَمَا لَا يَخْتَصُّ ، فَقَالَ : الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ أَرْبَعٌ : الْقَصْرُ ، وَالْفِطْرُ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْجَمْعُ عَلَى الْأَظْهَرِ .
وَاَلَّذِي يَجُوزُ فِي الْقَصِيرِ أَيْضًا أَرْبَعٌ : تَرْكُ الْجُمُعَةِ ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفَرِ ، وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَالتَّيَمُّمُ وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالسَّفَرِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ صُوَرٌ : مِنْهَا مَا لَوْ سَافَرَ الْمُودَعُ ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَالِكَ وَلَا وَكِيلَهُ وَلَا الْحَاكِمَ وَلَا الْأَمِينَ فَلَهُ أَخْذُهَا مَعَهُ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ ضَرَّةَ زَوْجَتِهِ بِقُرْعَةٍ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَوَقَعَ فِي الْمُهِمَّاتِ تَصْحِيحُ عَكْسِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ سَهْوٌ .
.

بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ( 1 ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا ، وَجَمْعُهَا جُمُعَاتٌ وَجُمَعٌ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ لَهَا .
وَقِيلَ : لِمَا جُمِعَ فِي يَوْمِهَا مِنْ الْخَيْرِ .
وَقِيلَ : لِأَنَّهُ جُمِعَ فِيهِ خَلْقُ آدَمَ .
وَقِيلَ : لِاجْتِمَاعِهِ فِيهِ مَعَ حَوَّاءَ فِي الْأَرْضِ ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الْعُرُوبَةِ أَيْ الْمُبِينِ الْمُعَظَّمِ .
وَقِيلَ يَوْمُ الرَّحْمَةِ قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْبَسِيطَ ] نَفْسِي الْفِدَاءُ لِأَقْوَامٍ هُمْ خَلَطُوا يَوْمَ الْعُرُوبَةِ أَوْرَادًا بِأَوْرَادِ وَهِيَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ ، وَيَوْمُهَا أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ، وَخَيْرُ يَوْمِ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ ، يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ سِتَّمِائَةَ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنْ النَّارِ ، مَنْ مَاتَ فِيهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ شَهِيدٍ ، وَوُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَفِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ مَرْفُوعًا { يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ الْأَضْحَى } وَهِيَ بِشُرُوطِهَا فَرْضُ عَيْنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا } [ الْجُمُعَةَ ] أَيْ امْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } ( 2 ) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } ( 2 ) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، وَفُرِضَتْ الْجُمُعَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يُصَلِّهَا حِينَئِذٍ إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهَا عِنْدَهُ ، أَوْ لِأَنَّ مِنْ شِعَارِهَا الْإِظْهَارَ .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا مُسْتَخْفِيًا ، وَالْجَدِيدُ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ ظُهْرًا مَقْصُورًا وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا وَقْتَهُ وَتُدْرَكُ بِهِ ، بَلْ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهَا ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { الْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّهُ حَسَنٌ ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورٌ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ : وَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْخَمْسِ فِي الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ وَالْآدَابِ ، وَتَخْتَصُّ بِشُرُوطٍ لِصِحَّتِهَا ، وَشُرُوطٍ لِلُزُومِهَا وَبِآدَابٍ ، وَسَتَأْتِي كُلُّهَا .

بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ ذَكَرٍ مُقِيمٍ بِلَا مَرَضٍ وَنَحْوِهِ .
وَ ( إنَّمَا تَتَعَيَّنُ ) أَيْ تَجِبُ وُجُوبَ عَيْنٍ لِصِحَّتِهَا ( عَلَى كُلِّ ) مُسْلِمٍ ( مُكَلَّفٍ ) أَيْ بَالِغٍ عَاقِلٍ ( حُرٍّ ذَكَرٍ مُقِيمٍ بِلَا مَرَضٍ وَنَحْوِهِ ) كَخَوْفٍ وَعُرْيٍ وَجُوعٍ وَعَطَشٍ ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا عَلَى مَجْنُونٍ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ، وَهَذَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : إنَّمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إلَخْ ، وَلِهَذَا أُسْقِطَ قَيْدُ الْإِسْلَامِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ظُهْرًا كَغَيْرِهَا وَلَا عَلَى عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَمُسَافِرٍ سَفَرًا مُبَاحًا وَلَوْ قَصِيرًا لِاشْتِغَالِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا { لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ } لَكِنْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَا عَلَى مَرِيضٍ ، لِحَدِيثِ { الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا أَرْبَعَةً : عَبْدٌ مَمْلُوكٌ ، أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَأُلْحِقَ بِالْمَرْأَةِ الْخُنْثَى لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى فَلَا تَلْزَمُهُ ، وَبِالْمَرِيضِ نَحْوُهُ كَمَا شَمِلَهُمَا قَوْلُهُ .

وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مَعْذُورٍ بِمُرَخِّصٍ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ .
( وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مَعْذُورٍ بِمُرَخِّصٍ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ) مِمَّا يُمْكِنُ مَجِيئُهُ فِي الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّ الرِّيحَ بِاللَّيْلِ لَا يُمْكِنُ عُذْرُهَا ، وَتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي قِيَاسِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهَا وَقَالَ : كَيْفَ يُلْحَقُ فَرْضُ الْعَيْنِ بِمَا هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ مَا سَاوَتْ مَشَقَّتُهُ مَشَقَّةَ الْمَرَضِ يَكُونُ عُذْرًا قِيَاسًا عَلَى الْمَرَضِ الْمَنْصُوصِ ، وَمَا لَا فَلَا إلَّا بِدَلِيلٍ ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْجُمُعَةُ كَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مُسْتَنَدُ الْأَصْحَابِ ، وَمِنْ الْأَعْذَارِ : الِاشْتِعَالُ بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ ، وَإِسْهَالٌ لَا يَضْبِطُ الشَّخْصُ نَفْسَهُ مَعَهُ ، وَيُخْشَى مِنْهُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي التَّتِمَّةِ ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْحَبْسَ عُذْرٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِيهِ فَيَكُونُ هُنَا كَذَلِكَ ، وَأَفْتَى الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ يَجِبُ إطْلَاقُهُ لِفِعْلِهَا وَالْغَزَالِيُّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي مَنْعِهِ مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا أَوْلَى وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي الْحَبْسِ أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَالْقِيَاسُ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَلْزَمُهُمْ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِإِقَامَتِهَا فَهَلْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْبَلَدِ الَّتِي لَا يَعْسُرُ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ لَهُمْ أَمْ لَا ا هـ .
وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ .

وَالْمُكَاتَبُ وَكَذَا مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ عَلَى الصَّحِيحِ .
( وَالْمُكَاتَبُ ) لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَإِنْ أَشْعَرَ عَطْفُهُ عَلَى مَنْ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي تَرْكِهَا فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَمَا مَرَّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِيُشِيرَ إلَى خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ دُونَ الْقِنِّ ( وَكَذَا مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ ) لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِعَدَمِ كَمَالِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ .
وَالثَّانِي : إنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ وَوَقَعَتْ الْجُمُعَةُ فِي نَوْبَتِهِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ الْمَتْنِ أَنَّ مُقَابِلَ الصَّحِيحِ اللُّزُومُ مُطْلَقًا وَلَيْسَ مُرَادًا .

وَمَنْ صَحَّتْ ظُهْرُهُ صَحَّتْ جُمُعَتُهُ .
( وَمَنْ صَحَّتْ ظُهْرُهُ ) مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ كَمَا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَذَلِكَ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُسَافِرِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِ ( صَحَّتْ جُمُعَتُهُ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا إذَا أَجْزَأَتْ عَنْ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ ، فَأَصْحَابُ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ رِفْقًا بِهِمْ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَكَلَّفَ الْمَرِيضُ الْقِيَامَ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُ الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ : تُجْزِئُهُ الْجُمُعَةُ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ صَحَّتْ جُمُعَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ يُشْعِرُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الصِّحَّةِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ جُمُعَةِ الْمُتَيَمِّمِ بِمَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ وَلَا تُجْزِئُهُ ، وَيُسْتَحَبُّ حُضُورُهَا لِلْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِيَتَعَوَّدَ إقَامَتَهَا وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهَا كَمَا يُؤْمَرُ بِبَاقِي الصَّلَوَاتِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَالْعَجُوزُ إنْ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا أَوْ سَيِّدُهَا .

وَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الْجَامِعِ إلَّا الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُ إنْ دَخَلَ الْوَقْتُ إلَّا أَنْ يَزِيدَ ضَرَرُهُ بِانْتِظَارِهِ .
( وَلَهُ ) أَيْ لِمَنْ صَحَّتْ جُمُعَتُهُ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ ( أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الْجَامِعِ ) وَنَحْوِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ النُّقْصَانُ لَا يَرْتَفِعُ بِحُضُورِهِمْ ( إلَّا الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ ) مِمَّنْ أُلْحِقَ بِهِ كَأَعْمَى لَا يَجِدُ قَائِدًا ( فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُ ) قَبْلَ إحْرَامِهِ بِهَا ( إنْ دَخَلَ الْوَقْتُ ) قَبْلَ انْصِرَافِهِ لِزَوَالِ الْمَشَقَّةِ بِالْحُضُورِ ( إلَّا أَنْ يَزِيدَ ضَرَرُهُ بِانْتِظَارِهِ ) فِعْلَهَا وَلَمْ تُقَمْ الصَّلَاةُ فَيَجُوزُ انْصِرَافُهُ .
أَمَّا إذَا أُقِيمَتْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّ مَشَقَّةٌ لَا تُحْتَمَلُ كَمَنْ بِهِ إسْهَالٌ ظَنَّ انْقِطَاعَهُ فَأَحَسَّ بِهِ ، بَلْ إنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إنْ مَكَثَ سَبَقَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي الصَّلَاةِ كَانَ لَهُ الِانْصِرَافُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَلَوْ زَادَ ضَرَرُ الْمَعْذُورِ بِتَطْوِيلِ الْإِمَامِ كَأَنْ قَرَأَ بِالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَ لَهُ الِانْصِرَافُ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْجَامِعِ عَنْ الِانْصِرَافِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْخُنْثَى وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ وَلَوْ بِقَلْبِهَا ظُهْرًا لِتَلَبُّسِهِمْ بِالْفَرْضِ .

وَتَلْزَمُ الشَّيْخَ الْهَرِمَ وَالزَّمِنَ إنْ وَجَدَا مَرْكَبًا وَلَمْ يَشُقَّ الرُّكُوبُ وَالْأَعْمَى يَجِدُ قَائِدًا
( وَتَلْزَمُ الشَّيْخَ الْهَرِمَ وَالزَّمِنَ إنْ وَجَدَا مَرْكَبًا ) مِلْكًا أَوْ إجَارَةً أَوْ إعَارَةً وَلَوْ آدَمِيًّا كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ( وَلَمْ يَشُقَّ الرُّكُوبُ ) عَلَيْهِمَا كَمَشَقَّةِ الْمَشْيِ فِي الْوَحْلِ كَمَا مَرَّ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ ، وَقِيَاسُ مَا مَرَّ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَا يَجِبُ قَبُولُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ ، وَالشَّيْخُ مَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ وَالْمَرْأَةُ شَيْخَةٌ وَتَصْغِيرُهُ شُيَيْخٌ ، وَلَا يُقَالُ شُوَيْخٌ وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ ، وَالْهَرَمُ أَقْصَى الْكِبَرِ ، وَالزَّمَانَةُ : الِابْتِلَاءُ وَالْعَاهَةُ ( وَالْأَعْمَى يَجِدُ قَائِدًا ) وَلَوْ بِأُجْرَةِ مِثْلٍ يَجِدُهَا أَوْ مُتَبَرِّعًا أَوْ مِلْكًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْمَشْيَ بِالْعَصَا خِلَافًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلضَّرَرِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْجَامِعِ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ يَنْبَغِي وُجُوبُ الْحُضُورِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَمُ الضَّرَرِ وَهَذَا لَا يَتَضَرَّرُ .

وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ إنْ كَانَ فِيهِمْ جَمْعٌ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ أَوْ بَلَغَهُمْ صَوْتٌ عَالٍ فِي هُدُوٍّ مِنْ طَرَفٍ يَلِيهِمْ لِبَلَدِ الْجُمُعَةِ لَزِمَتْهُمْ ، وَإِلَّا فَلَا .

( وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ إنْ كَانَ فِيهِمْ جَمْعٌ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ ) وَهُوَ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ الْمُسْتَوْطِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي ( أَوْ بَلَغَهُمْ صَوْتٌ ) مِنْ مُؤَذِّنٍ ( عَالٍ ) يُؤَذِّنُ كَعَادَتِهِ فِي عُلُوِّ الصَّوْتِ ( فِي هُدُوٍّ ) أَيْ وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ وَالرِّيَاحُ رَاكِدَةٌ ( مِنْ طَرَفٍ يَلِيهِمْ لِبَلَدِ الْجُمُعَةِ ) مَعَ اسْتِوَاءِ الْأَرْضِ ( لَزِمَتْهُمْ ) وَالْمُعْتَبَرُ سَمَاعُ مَنْ أَصْغَى إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ أَصَمَّ وَلَا جَاوَزَ سَمْعُهُ حَدَّ الْعَادَةِ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ .
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْقَرْيَةَ كَالْمَدِينَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد { الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ } وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْأَرْضِ لَا عَلَى عَالٍ لِأَنَّهُ لَا ضَبْطَ لِحَدِّهِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : قَالَ أَصْحَابُنَا : إلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَلَدُ فِي أَرْضٍ بَيْنَ أَشْجَارٍ كَطَبَرِسْتَانَ وَتَابَعَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فَإِنَّهَا بَيْنَ أَشْجَارٍ تَمْنَعُ بُلُوغَ الصَّوْتِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُلُوُّ عَلَى مَا يُسَاوِي الْأَشْجَارَ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَقَدْ يُقَالُ : الْمُعْتَبَرُ السَّمَاعُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَفِي ذَلِكَ مَانِعٌ فَلَا حَاجَةَ لِاسْتِثْنَائِهِ ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ ، وَلَوْ سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنْ بَلَدَيْنِ فَحُضُورُ الْأَكْثَرِ جَمَاعَةً أَوْلَى ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمُرَاعَاةُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى كَنَظِيرِهِ فِي الْجَمَاعَةِ .
وَقِيلَ : مُرَاعَاةُ الْأَبْعَدِ لِكَثْرَةِ الْأَجْرِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ وَلَا بَلَغَهُمْ الصَّوْتُ الْمَذْكُورُ ( فَلَا ) تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ قَرْيَةٌ فَسَمِعَتْ وَلَوْ سَاوَتْ لَمْ تَسْمَعْ أَوْ انْخَفَضَتْ فَلَمْ تَسْمَعْ وَلَوْ سَاوَتْ لَسَمِعَتْ لَزِمَتْ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى اعْتِبَارًا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِوَاءِ ، وَالْخَبَرُ السَّابِقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ ، وَلَوْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ لَلَزِمَتْ الْبَعِيدَ الْمُرْتَفِعَ

دُونَ الْقَرِيبِ الْمُنْخَفِضِ وَهُوَ بَعِيدٌ وَإِنْ صَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَلَوْ وُجِدَتْ قَرْيَةٌ فِيهَا أَرْبَعُونَ كَامِلُونَ فَدَخَلُوا بَلَدًا وَصَلَّوْهَا فِيهَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ ، سَوَاءٌ سَمِعُوا النِّدَاءَ أَمْ لَا ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِتَعْطِيلِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي قَرْيَتِهِمْ .
وَقِيلَ : لَا يَحْرُمُ : لِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْ وَافَقَ الْعِيدُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَحَضَرَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَبْلُغُهُمْ النِّدَاءُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَلَوْ رَجَعُوا إلَى أَهْلِهِمْ فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَةُ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَتُسْتَثْنَى هَذِهِ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ .
نَعَمْ لَوْ دَخَلَ وَقْتُهَا قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ كَأَنْ دَخَلَ عَقِبَ سَلَامِهِمْ مِنْ الْعِيدِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَرْكُهَا .

وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَزِمَتْهُ السَّفَرُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنْ تُمْكِنَهُ الْجُمُعَةُ فِي طَرِيقِهِ أَوْ يَتَضَرَّرَ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ الرُّفْقَةِ ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ كَبَعْدِهِ فِي الْجَدِيدِ إنْ كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا ، وَإِنْ كَانَ طَاعَةً جَازَ .
قُلْت : الْأَصَحُّ أَنَّ الطَّاعَةَ كَالْمُبَاحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَزِمَتْهُ ) الْجُمُعَةُ بِأَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا ( السَّفَرُ بَعْدَ الزَّوَالِ ) لِأَنَّ وُجُوبَهَا تَعَلَّقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَفْوِيتُهُ ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَافَرَ لَمْ يَتَرَخَّصْ إلَّا إذَا فَاتَتْ الْجُمُعَةُ وَيُحْسَبُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ مِنْ فَوَاتِهَا لِانْتِهَاءِ سَبَبِ الْمَعْصِيَةِ ( إلَّا أَنْ تُمْكِنَهُ الْجُمُعَةُ فِي ) مَقْصِدِهِ أَوْ ( طَرِيقِهِ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .
قَالَ صَاحِبُ التَّعْجِيزِ فِي شَرْحِهِ : هَذَا إذَا لَمْ تَبْطُلْ جُمُعَةُ بَلَدِهِ بِسَبَبِهِ بِأَنْ يَنْقُصَ بِهِ عَدَدُهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْجُمُعَةَ عَلَى غَيْرِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ : أَيْ فَهُوَ بَحْثٌ لَهُ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ ؛ لِأَنَّهُمْ بِسَفَرِهِ يَصِيرُونَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ جُنَّ أَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَلِخَبَرِ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } ( 1 ) وَإِلَّا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ السَّفَرُ فَوْرًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ كَإِنْقَاذِ نَاحِيَةٍ وَطِئَهَا الْكُفَّارُ ، أَوْ أَسْرَى اخْتَطَفُوهُمْ وَجُوِّزَ إدْرَاكُهُمْ ، بَلْ الْوَجْهُ وُجُوبُ تَرْكِ الْجُمُعَةِ فَضْلًا عَنْ جَوَازِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : التَّعْبِيرُ بِالْإِمْكَانِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِصِدْقِهِ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَلَا شَكَّ فِي التَّحْرِيمِ وَمَعَ التَّرَدُّدِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَالْمُتَّجَهُ التَّحْرِيمُ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَلَبَةُ ظَنِّ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِعِبَارَةِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِقَوْلِهِ : يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالْإِدْرَاكِ ، فَإِنَّ الْأَصْحَابَ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ الْعِلْمَ وَيُرِيدُونَ بِهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ ( أَوْ يَتَضَرَّرَ بِتَخَلُّفِهِ ) لَهَا ( عَنْ الرُّفْقَةِ ) فَلَا يَحْرُمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : مُقْتَضَى كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ انْقِطَاعِهِ عَنْ الرُّفْقَةِ بِلَا ضَرَرٍ لَيْسَ عُذْرًا .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : الصَّوَابُ خِلَافُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَحْشَةِ وَكَمَا

فِي نَظِيرِهِ مِنْ التَّيَمُّمِ وَبِهِ جَزَمَ فِي الْكِفَايَةِ ، وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ فِي التَّيَمُّمِ بِأَنَّ الظُّهْرَ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَبِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْوَسَائِلِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْمَقَاصِدِ وَالْفَرْقُ أَظْهَرُ ( وَقَبْلَ الزَّوَالِ ) وَأَوَّلُهُ الْفَجْرُ ( كَبَعْدِهِ فِي ) الْحُرْمَةِ فِي ( الْجَدِيدِ ) فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْجُمُعَةُ فِي مَقْصِدِهِ أَوْ طَرِيقِهِ أَوْ تَضَرَّرَ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ الرُّفْقَةِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ، وَالْقَدِيمِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ مِنْ الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْوُجُوبِ : وَهُوَ الزَّوَالُ ، وَكَبَيْعِ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى الْيَوْمِ .
وَلِذَلِكَ يَجِبُ السَّعْيُ لَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ عَلَى بَعِيدِ الدَّارِ وَيُعْتَدُّ بِغُسْلِهَا وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ سَافَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا يُصْحَبَ فِي سَفَرِهِ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْإِفْرَادِ ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالْأَوَّلِ وَبَعْضُهُمْ بِالثَّانِي .
هَذَا ( إنْ كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا ) كَسَفَرِ تِجَارَةٍ وَيَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ كَسَفَرِ مُنْفَرِدٍ ( وَإِنْ كَانَ طَاعَةً ) وَاجِبًا كَانَ كَسَفَرِ حَجٍّ أَوْ مَنْدُوبًا كَزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( جَازَ ) قَطْعًا ( قُلْت : الْأَصَحُّ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْأَظْهَرُ ( أَنَّ الطَّاعَةَ كَالْمُبَاحِ ) فَيَجْرِي فِيهِ الْقَوْلَانِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِعَدَمِ صِحَّةِ نَصٍّ فِي التَّفْرِقَةِ .

وَيُكْرَهُ السَّفَرُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ وَارْتَضَاهُ .
وَفِي الْإِحْيَاءِ { مَنْ سَافَرَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ دَعَا عَلَيْهِ مَلَكَاهُ } .

وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِي ظُهْرِهِمْ فِي الْأَصَحِّ وَيُخْفُونَهَا إنْ خَفِيَ عُذْرُهُمْ .
( وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ ) وَهُمْ بِبَلَدِ الْجُمُعَةِ ( تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِي ظُهْرِهِمْ ) فِي وَقْتِهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الطَّالِبَةِ لِلْجَمَاعَةِ .
وَالثَّانِي : لَا لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ شِعَارُ الْجُمُعَةِ .
أَمَّا إذَا كَانُوا فِي غَيْرِ بَلَدِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ لَهُمْ إجْمَاعًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( وَيُخْفُونَهَا ) نَدْبًا ( إنْ خَفِيَ عُذْرُهُمْ ) لِئَلَّا يُتَّهَمُوا بِالرَّغْبَةِ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَوْ تَرْكِ الْجُمُعَةِ تَسَاهُلًا ، بَلْ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ : يُكْرَهُ لَهُمْ إظْهَارُهَا وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ ظَاهِرٌ إذَا أَقَامُوهَا بِالْمَسَاجِدِ ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا تُهْمَةَ فَلَا يُنْدَبُ الْإِخْفَاءُ .
وَقِيلَ : يُنْدَبُ مُطْلَقًا .

وَيُنْدَبُ لِمَنْ أَمْكَنَ زَوَالُ عُذْرِهِ تَأْخِيرُ ظُهْرِهِ إلَى الْيَأْسِ مِنْ الْجُمُعَةِ
( وَيُنْدَبُ لِمَنْ أَمْكَنَ زَوَالُ عُذْرِهِ ) قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ كَالْمَرِيضِ يَتَوَقَّعُ الْخِفَّةَ وَالرَّقِيقِ يَرْجُو الْعِتْقَ ( تَأْخِيرُ ظُهْرِهِ إلَى الْيَأْسِ مِنْ ) إدْرَاكِ ( الْجُمُعَةِ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَزُولُ عُذْرُهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ فَرْضِ أَهْلِ الْكَمَالِ ، وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ بِأَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَقِيلَ : بِأَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ ، وَأُيِّدَ بِمَا سَيَأْتِي فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ ، مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَصِحَّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجُمُعَةَ ثَمَّ لَازِمَةٌ فَلَا تُرْفَعُ إلَّا بِيَقِينٍ بِخِلَافِهَا هُنَا ، ثُمَّ مَحَلُّ الصَّبْرِ إلَى فَوَاتِ الْجُمُعَةِ إذَا لَمْ يُؤَخِّرْهَا الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ وَقْتِهَا مَا يَسَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَإِلَّا فَلَا يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ ، وَلَوْ صَلَّى الْمَعْذُورُ قَبْلَ فَوَاتِهَا الظُّهْرَ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَتَمَكَّنَ مِنْهَا لَمْ تَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ وَقْتِهِ إلَّا إنْ كَانَ خُنْثَى فَبَانَ رَجُلًا ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ لِتَبَيُّنِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ .

وَلِغَيْرِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالزَّمِنِ تَعْجِيلُهَا .
( وَ ) يُنْدَبُ ( لِغَيْرِهِ ) أَيْ لِمَنْ لَا يُمْكِنُ زَوَالُ عُذْرِهِ ( كَالْمَرْأَةِ وَالزَّمِنِ ) الَّذِي لَا يَجِدُ مَرْكَبًا ( تَعْجِيلُهَا ) أَيْ الظُّهْرِ مُحَافَظَةً عَلَى فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ : هَذَا اخْتِيَارُ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَقَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ : هَذَا كَالْأَوَّلِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ حَتَّى تَفُوتَ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْشَطُ لَهَا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ الْكَامِلِينَ فَاسْتُحِبَّ تَقْدِيمُهَا .
قَالَ : وَالِاخْتِيَارُ التَّوَسُّطُ ، فَيُقَالُ إنْ كَانَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُهَا وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ تَمَكَّنَ أَوْ نَشَطَ حَضَرَهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّأْخِيرُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّوَسُّطِ شَيْءٌ أَبْدَاهُ لِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ : إنْ كَانَ جَازِمًا جَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ يَعِنُّ لَهُ بَعْدَ الْجَزْمِ أَنَّهُ يَحْضُرُ ، وَكَمْ مِنْ جَازِمٍ بِشَيْءٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ ا هـ .
فَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْمَتْنِ ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مَا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي لِلْأَصْحَابِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ .

وَلِصِحَّتِهَا مَعَ شَرْطِ غَيْرِهَا شُرُوطٌ : أَحَدُهَا : وَقْتُ الظُّهْرِ فَلَا تُقْضَى جُمُعَةً .
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى غَيْرِهَا ، وَقَدْ شَرَعَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ ( وَلِصِحَّتِهَا ) أَيْ الْجُمُعَةِ ( مَعَ شَرْطِ غَيْرِهَا ) مِنْ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ( شُرُوطٌ ) خَمْسَةٌ ( أَحَدُهَا : وَقْتُ الظُّهْرِ ) بِأَنْ تَقَعَ كُلُّهَا فِيهِ لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِجَوَازِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ .
لَنَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ } ( 1 ) ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَلِأَنَّهُمَا فَرْضَا وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَخْتَلِفْ وَقْتُهُمَا كَصَلَاةِ الْحَضَرِ وَصَلَاةِ السَّفَرِ ( فَلَا تُقْضَى ) إذَا فَاتَتْ ( جُمُعَةٌ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ، بَلْ تُقْضَى ظُهْرًا بِالْإِجْمَاعِ .
تَنْبِيهٌ : فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلَا تُقْضَى بِالْفَاءِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ وَهِيَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ اشْتِرَاطِ وَقْتِ الظُّهْرِ ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمٍ آخَرَ كَمَا فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .

فَلَوْ ضَاقَ عَنْهَا صَلَّوْا ظُهْرًا .
( فَلَوْ ضَاقَ ) الْوَقْتُ ( عَنْهَا ) بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا يَسَعُ خُطْبَتَيْنِ وَرَكْعَتَيْنِ يَقْتَصِرُ فِيهِمَا عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ( صَلَّوْا ظُهْرًا ) كَمَا لَوْ فَاتَ شَرْطُ الْقَصْرِ لَزِمَ الْإِتْمَامُ وَلَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ .

وَلَوْ شَكُّوا فِي خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِهَا لَمْ يَجُزْ الشُّرُوعُ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ .

وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ مَدَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى حَتَّى تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَا يَسَعُ الثَّانِيَةَ هَلْ تَنْعَقِدُ ظُهْرًا الْآنَ أَوْ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَرُجِّحَ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ غَدًا فَأَكَلَهُ فِي الْيَوْمِ هَلْ يَحْنَثُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا وَالرَّاجِحُ غَدًا .

وَلَوْ خَرَجَ وَهُمْ فِيهَا وَجَبَ الظُّهْرُ بِنَاءً ، وَفِي قَوْلٍ اسْتِئْنَافًا .
( وَلَوْ خَرَجَ ) الْوَقْتُ ( وَهُمْ فِيهَا ) فَاتَتْ سَوَاءٌ أَصَلَّى فِي الْوَقْتِ رَكْعَةً أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فَفَاتَتْ بِفَوَاتِهِ كَالْحَجِّ ( وَجَبَ الظُّهْرُ بِنَاءً ) عَلَى مَا فَعَلَ مِنْهَا فَيُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَا وَقْتٍ وَاحِدٍ فَجَازَ بِنَاءُ أَطْوَلِهِمَا عَلَى أَقْصَرِهِمَا كَصَلَاةِ الْحَضَرِ مَعَ السَّفَرِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الظُّهْرِ ( وَفِي قَوْلٍ ) مُخَرَّجٍ ( اسْتِئْنَافًا ) فَيَنْوُونَ الظُّهْرَ حِينَئِذٍ ، وَهَلْ يَنْقَلِبُ مَا فَعَلَ مِنْ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا أَوْ يَبْطُلُ ؟ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا فِي الْمَجْمُوعِ الْأَوَّلُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ أَوَّلًا ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَبْنِي ، وَعَلَى الثَّانِي يَسْتَأْنِفُ .
وَقَضِيَّةُ هَذَا الْبِنَاءِ تَرْجِيحُ الثَّانِي ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا صَلَاةٌ عَلَى حِيَالِهَا كَمَا مَرَّ ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الْأَشْبَهُ أَنَّهُمْ إنْ شَاءُوا أَتَمُّوهَا ظُهْرًا وَإِنْ شَاءُوا قَلَبُوهَا نَفْلًا وَاسْتَأْنَفُوا الظُّهْرَ ، وَالْمُعْتَمَدُ وُجُوبُ الْبِنَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْبِنَاءِ اتِّحَادُ التَّرْجِيحِ .
وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ : وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ أَنَّ الشَّكَّ فِي الْوَقْتِ وَهْمٌ فِيهَا لَا يُؤَثِّرُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ .
وَقِيلَ : يُؤَثِّرُ كَالشَّكِّ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِهَا ، وَلَوْ أَخْبَرَهُمْ عَدْلٌ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ .
فَالْأَوْجَهُ إتْمَامُهَا ظُهْرًا كَمَا قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ خِلَافًا لِلدَّارِمِيِّ فِي إتْمَامِهَا جُمُعَةً عَمَلًا بِخَبَرِ الْعَدْلِ كَمَا فِي غَالِبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ ، هَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ الْمُوَافِقِ .

وَالْمَسْبُوقُ كَغَيْرِهِ .
وَقِيلَ يُتِمُّهَا جُمُعَةً
( وَ ) أَمَّا ( الْمَسْبُوقُ ) الْمُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَهُوَ ( كَغَيْرِهِ ) فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ قِيَامِهِ إلَى الثَّانِيَةِ أَتَمَّهَا ظُهْرًا عَلَى الْأَصَحِّ ، وَالْقِيَاسُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ وَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إدْرَاكُ الْجُمُعَةِ إلَّا بِذَلِكَ ( وَقِيلَ يُتِمُّهَا جُمُعَةً ) لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِجُمُعَةٍ صَحِيحَةٍ ، وَهِيَ جُمُعَةُ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، وَلَوْ سَلَّمُوا مِنْهَا هُمْ ، أَوْ الْمَسْبُوقُ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى خَارِجَ الْوَقْتِ عَالِمِينَ بِخُرُوجِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ وَتَعَذَّرَ بِنَاءُ الظُّهْرِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُمْ بِخُرُوجِهِ لَزِمَهُمْ الْإِتْمَامُ ، فَسَلَامُهُمْ كَالسَّلَامِ فِي أَثْنَاءِ الظُّهْرِ عَمْدًا ، وَلَوْ قَلَبُوهَا نَفْلًا قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَلَبُوا الظُّهْرَ نَفْلًا وَإِنْ سَلَّمُوا جَاهِلِينَ بِخُرُوجِهِ أَتَمُّوهَا ظُهْرًا لِعُذْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَنْحَطَّ عَنْ الْمَسْبُوقِ الْوَقْتُ فِيمَا يَتَدَارَكُهُ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِلْقَوْمِ كَمَا حَطَّ عَنْهُ الْقُدْوَةَ وَالْعَدَدَ لِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي .
أُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ بِرِعَايَتِهِ أَكْثَرَ بِدَلِيلِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الِانْفِضَاضِ الْمُخِلِّ بِالْجَمَاعَةِ وَعَدَمِ اخْتِلَافِهِ فِي فَوَاتِ الْجُمُعَةِ بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ خَارِجَ الْوَقْتِ .

وَلَوْ سَلَّمَ الْأُولَى الْإِمَامُ وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي الْوَقْتِ وَسَلَّمَهَا الْبَاقُونَ خَارِجَهُ صَحَّتْ جُمُعَةُ الْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ فَقَطْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَهُ فَلَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ ، وَكَذَا جُمُعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ لَوْ نَقَصُوا عَنْ أَرْبَعِينَ كَأَنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فِيهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَعَهُ أَوْ بَعْضُهُمْ خَارِجَهُ فَلَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ تَبَيَّنَ حَدَثُ الْمَأْمُومِينَ دُونَ الْإِمَامِ صَحَّتْ جُمُعَتُهُ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْبَيَانِ مَعَ عَدَمِ انْعِقَادِ صَلَاتِهِمْ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا أَنَّ الْمُحْدِثَ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا ، بِخِلَافِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ .

الثَّانِي : أَنْ تُقَامَ فِي خِطَّةِ أَبْنِيَةِ أَوْطَانِ الْمُجَمِّعِينَ .

( الثَّانِي ) مِنْ الشُّرُوطِ ( أَنْ تُقَامَ فِي خِطَّةِ أَبْنِيَةِ أَوْطَانِ الْمُجَمِّعِينَ ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : أَيْ الْمُصَلِّينَ الْجُمُعَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَسْجِدٍ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إلَّا فِي مَوَاضِعِ الْإِقَامَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ ، وَالْخِطَّةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ : الْأَرْضُ الَّتِي خَطَّ عَلَيْهَا إعْلَامًا بِأَنَّهُ اخْتَارَهَا لِلْبِنَاءِ ، وَأَرَادَ بِهَا الْمُصَنِّفُ الْأَمْكِنَةَ الْمَعْدُودَةَ مِنْ الْبَلَدِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْأَبْنِيَةُ مُجْتَمِعَةً ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، وَلَوْ انْهَدَمَتْ الْأَبْنِيَةُ وَأَقَامُوا لِعِمَارَتِهَا لَمْ يَضُرَّ انْهِدَامُهَا فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَظَالٍّ لِأَنَّهَا وَطَنُهُمْ ، وَلَا تَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ بِنَاءٍ إلَّا فِي هَذَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ نَزَلُوا مَكَانًا وَأَقَامُوا فِيهِ لِيَعْمُرُوهُ قَرْيَةً لَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ فِيهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ صَلَّتْ طَائِفَةٌ خَارِجَ الْأَبْنِيَةِ خَلْفَ جُمُعَةٍ مُنْعَقِدَةٍ لَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخِي لِعَدَمِ وُقُوعِهَا فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَسَوَاءٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْبِلَادُ وَالْقُرَى وَالْأَسْرَابُ الَّتِي تُسْتَوْطَنُ جَمْعُ سَرَبٍ ، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ : بَيْتٌ فِي الْأَرْضِ وَالْبِنَاءُ بِالْخَشَبِ وَغَيْرِهِ كَطِينٍ وَقَصَبٍ وَسَعَفٍ ، وَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي فَضَاءٍ مَعْدُودٍ مِنْ الْأَبْنِيَةِ الْمُجْتَمَعَةِ بِحَيْثُ لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَمَا فِي الْكِنِّ الْخَارِجِ عَنْهَا الْمَعْدُودِ مِنْهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَعْدُودِ مِنْهَا ، فَمَنْ أَطْلَقَ الْمَنْعَ فِي الْكِنِّ الْخَارِجِ عَنْهَا أَرَادَ هَذَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْقُرَى يُؤَخِّرُونَ الْمَسْجِدِ عَنْ جِدَارِ الْقَرْيَةِ قَلِيلًا صِيَانَةً لَهُ عَنْ نَجَاسَةِ الْبَهَائِمِ ، وَعَدَمُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِيهِ

بَعِيدٌ ، وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : لَوْ بَنَى أَهْلُ الْبَلَدِ مَسْجِدَهُمْ خَارِجَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ الْبِنَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى انْفِصَالٍ لَا يُعَدُّ بِهِ مِنْ الْقَرْيَةِ ا هـ .
وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ بِحَيْثُ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ قَبْلَ مُجَاوَزَتِهِ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ .

وَلَوْ لَازَمَ أَهْلُ الْخِيَامِ الصَّحْرَاءَ أَبَدًا فَلَا جُمُعَةَ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ لَازَمَ أَهْلُ الْخِيَامِ الصَّحْرَاءَ ) أَيْ مَوْضِعًا مِنْهَا ( أَبَدًا ) وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ النِّدَاءُ مِنْ مَحَلِّ الْجُمُعَةِ ( فَلَا جُمُعَةَ ) عَلَيْهِمْ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُمْ عَلَى هَيْئَةِ الْمُسْتَوْفِزِينَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَبْنِيَةُ الْمُسْتَوْطِنِينَ ، وَلِأَنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ كَانُوا مُقِيمِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ، وَمَا كَانُوا يُصَلُّونَهَا ، وَمَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا .
وَالثَّانِي تَجِبُ وَيُقِيمُونَهَا فِي مَوْضِعِهِمْ لِأَنَّ الصَّحْرَاءَ وَطَنُهُمْ ، أَمَّا إذَا بَلَغَهُمْ النِّدَاءُ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَلَوْ لَمْ يُلَازِمُوهُ أَبَدًا بِأَنْ انْتَقَلُوا عَنْهُ فِي الشِّتَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ جَزْمًا .

الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَسْبِقَهَا وَلَا يُقَارِنَهَا جُمُعَةٌ فِي بَلْدَتِهَا إلَّا إذَا كَبُرَتْ وَعَسُرَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَان ، وَقِيلَ لَا تُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ .

( الثَّالِثُ ) مِنْ الشُّرُوطِ ( أَنْ لَا يَسْبِقَهَا وَلَا يُقَارِنَهَا جُمُعَةٌ فِي بَلْدَتِهَا ) وَلَوْ عَظُمَتْ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُقِيمُوا سِوَى جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدَةٍ أَفْضَى إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الِاجْتِمَاعِ وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ فِعْلُهَا فِي مَسْجِدَيْنِ لَجَازَ فِي مَسَاجِدِ الْعَشَائِرِ ، وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا ( إلَّا إذَا كَبُرَتْ ) أَيْ الْبَلْدَةُ ( وَعَسُرَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَان ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّ الْجُمُعَةِ مَوْضِعٌ يَسَعُهُمْ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ فَيَجُوزُ التَّعَدُّدُ لِلْحَاجَةِ بِحَسَبِهَا ، لِأَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَخَلَ بَغْدَادَ وَأَهْلُهَا يُقِيمُونَ بِهَا جُمُعَتَيْنِ ، وَقِيلَ : ثَلَاثًا فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى عُسْرِ الِاجْتِمَاعِ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَلَا يَحْتَمِلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ غَيْرَهُ ، وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِهِ أَفْتَى الْمُزَنِيّ بِمِصْرَ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُسْرِ بِمَنْ يُصَلِّي كَمَا قَالَهُ شَيْخِي لَا بِمَنْ تَلْزَمُهُ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ ، وَلَا بِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ كَمَا قِيلَ بِذَلِكَ ( وَقِيلَ لَا تُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ ) وَتُحْتَمَلُ فِيهَا الْمَشَقَّةُ فِي الِاجْتِمَاعِ ، وَهَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمُتَابِعِيهِ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ ، وَإِنَّمَا سَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُنْكِرُ عَلَى مُجْتَهِدٍ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالتَّعَدُّدِ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ هَذَا بَعِيدٌ ، ثُمَّ انْتَصَرَ لَهُ وَصَنَّفَ فِيهِ وَقَالَ : إنَّهُ الصَّحِيحُ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَأَنْكَرَ نِسْبَةَ الْأَوَّلِ لِلْأَكْثَرِ وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ لِمَنْ صَلَّى جُمُعَةً بِبَلَدٍ تَعَدَّدَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَلَمْ

يَعْلَمْ سَبْقَ جُمُعَتِهِ أَنْ يُعِيدَهَا ظُهْرًا .

وَقِيلَ إنْ حَالَ نَهْرٌ عَظِيمٌ بَيْنَ شِقَّيْهَا كَانَا كَبَلَدَيْنِ .
( وَقِيلَ إنْ حَالَ نَهْرٌ عَظِيمٌ بَيْنَ شِقَّيْهَا ) كَبَغْدَادَ ( كَانَا ) أَيْ الشِّقَّانِ ( كَبَلَدَيْنِ ) فَتُقَامُ فِي كُلِّ شِقٍّ جُمُعَةٌ .

وَقِيلَ إنْ كَانَتْ قُرًى فَاتَّصَلَتْ تَعَدَّدَتْ الْجُمُعَةُ بِعَدَدِهَا ، فَلَوْ سَبَقَهَا جُمُعَةٌ فَالصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ ، وَفِي قَوْلٍ إنْ كَانَ السُّلْطَانُ مَعَ الثَّانِيَةِ فَهِيَ الصَّحِيحَةُ .
( وَقِيلَ إنْ كَانَتْ ) أَيْ الْبَلْدَةُ ( قُرًى فَاتَّصَلَتْ ) أَبْنِيَتُهَا ( تَعَدَّدَتْ الْجُمُعَةُ بِعَدَدِهَا ) فَتُقَامُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ جُمُعَةٌ كَمَا كَانَ ( فَلَوْ سَبَقَهَا جُمُعَةٌ ) فِي مَحَلٍّ لَا يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فِيهِ ( فَالصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ ) لِاجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ فِيهَا ، وَاللَّاحِقَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى وَاحِدَةٍ ( وَفِي قَوْلٍ إنْ كَانَ السُّلْطَانُ مَعَ الثَّانِيَةِ ) إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا ( فَهِيَ الصَّحِيحَةُ ) حَذَرًا مِنْ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ وَمِنْ تَفْوِيتِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْمُصَلِّينَ مَعَهُ بِإِقَامَةِ الْأَقَلِّ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ خَطِيبٍ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ هُوَ كَالسُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُرَادُ الْأَصْحَابِ ا هـ .
.
وَقَالَ الْجِيلِيُّ : الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوْ خَلِيفَتُهُ فِي الْإِمَامَةِ أَوْ الرَّاتِبُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : هَذَا الْقَوْلُ مُقَيَّدٌ فِي الْأُمِّ بِأَنْ لَا يَكُونَ وَكِيلُ الْإِمَامِ مَعَ السَّابِقَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَالْجُمُعَةُ هِيَ السَّابِقَةُ .

وَالْمُعْتَبَرُ سَبْقُ التَّحَرُّمِ ، وَقِيلَ التَّحَلُّلُ ، وَقِيلَ بِأَوَّلِ الْخُطْبَةِ فَلَوْ وَقَعَتَا مَعًا أَوْ شَكَّ اُسْتُؤْنِفَتْ الْجُمُعَةُ ، وَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تَتَعَيَّنْ أَوْ تَعَيَّنَتْ وَنُسِيَتْ صَلَّوْا ظُهْرًا ، وَفِي قَوْلٍ جُمُعَةً .

( وَالْمُعْتَبَرُ سَبْقُ التَّحَرُّمِ ) بِتَمَامِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ الرَّاءُ ، وَإِنْ سَبَقَهُ الْآخَرُ بِالْهَمْزَةِ ؛ لِأَنَّ بِهِ الِانْعِقَادَ مِنْ الْإِمَامِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَقِيلَ : الْعِبْرَةُ بِأَوَّلِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ الْهَمْزَةُ مِنْ اللَّهِ ، وَشَمِلَ كَلَامُهُ مَا إذَا أَحْرَمَ إمَامُ جُمُعَةٍ ثُمَّ إمَامُ أُخْرَى بِهَا ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ ثُمَّ بِالْأَوَّلِ مِثْلُهُمْ ، وَهُوَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ ، إذْ بِإِحْرَامِهِ تَعَيَّنَتْ جُمُعَتُهُ لِلسَّبْقِ وَامْتَنَعَ عَلَى غَيْرِهِ افْتِتَاحُ جُمُعَةٍ أُخْرَى ، وَقِيلَ : الثَّانِيَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا عِبْرَةَ بِهِ مَعَ وُجُودِ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فِي الْوَقْتِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ خَارِجَهُ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ لِلْجَمِيعِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَدَدِ لَا بِالْإِمَامِ وَحْدَهُ ( وَقِيلَ ) الْمُعْتَبَرُ سَبْقُ ( التَّحَلُّلِ ) وَهُوَ تَمَامُ السَّلَامِ لِلْأَمْنِ مَعَهُ مِنْ عُرُوضِ فَسَادِ الصَّلَاةِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ ( وَقِيلَ ) السَّبْقُ ( بِأَوَّلِ الْخُطْبَةِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلٌ عَنْ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَوْ دَخَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْجُمُعَةِ فَأَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّ طَائِفَةً سَبَقَتْهُمْ أَتَمُّوهَا ظُهْرًا ، كَمَا لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُمْ فِيهَا وَاسْتَأْنَفُوا الظُّهْرَ وَهُوَ أَفْضَلُ لِيَصِحَّ ظُهْرُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ ( فَلَوْ وَقَعَتَا مَعًا أَوْ شَكَّ ) فِي الْمَعِيَّةِ ، فَلَمْ يَدْرِ أَوَقَعَتَا مَعًا أَمْ مُرَتَّبًا ( اُسْتُؤْنِفَتْ الْجُمُعَةُ ) إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِتَدَافُعِهِمَا فِي الْمَعِيَّةِ ، فَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صُورَةِ الشَّكِّ عَدَمُ جُمُعَةٍ مُجْزِئَةٍ لِاحْتِمَالِ الْمَعِيَّةِ ، قَالَ الْإِمَامُ : وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُمْ إذَا أَعَادُوا الْجُمُعَةَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمْ مُشْكِلٌ لِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِ إحْدَاهُمَا فَلَا تَصِحُّ أُخْرَى ، فَالْيَقِينُ أَنْ يُقِيمُوا جُمُعَةً ثُمَّ

ظُهْرًا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَا قَالَهُ مُسْتَحَبٌّ وَإِلَّا فَالْجُمُعَةُ كَافِيَةٌ فِي الْبَرَاءَةِ كَمَا قَالُوهُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُقُوعِ جُمُعَةٍ مُجْزِئَةٍ فِي حَقِّ كُلِّ طَائِفَةٍ .
قَالَ غَيْرُهُ : وَلِأَنَّ السَّبْقَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَوْ يُظَنَّ لَمْ يُؤَثِّرْ احْتِمَالُهُ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِ أَوْ ظَنِّهِ لَا إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تَتَعَيَّنْ ) كَأَنْ سَمِعَ مَرِيضَانِ أَوْ مُسَافِرَانِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ تَكْبِيرَتَيْنِ مُتَلَاحِقَتَيْنِ وَجَهِلَا الْمُتَقَدِّمَ فَأَخْبَرَاهُمْ بِالْحَالِ ، وَالْعَدْلُ الْوَاحِدُ كَافٍ فِي ذَلِكَ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا ( أَوْ تَعَيَّنَتْ وَنُسِيَتْ ) بَعْدَهُ ( صَلَّوْا ظُهْرًا ) لِأَنَّا تَيَقَّنَّا وُقُوعَ جُمُعَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ جُمُعَةٍ بَعْدَهَا وَالطَّائِفَةُ الَّتِي صَحَّتْ لَهَا الْجُمُعَةُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ، وَالْأَصْلُ .
بَقَاءُ الْفَرْضِ فِي حَقِّ كُلِّ طَائِفَةٍ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الظُّهْرُ ( وَفِي قَوْلٍ جُمُعَةٌ ) لِأَنَّ الْمَفْعُولَتَيْنِ غَيْرُ مُجْزِئَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الِالْتِبَاسَ يَجْعَلُ الصَّحِيحَةَ كَالْعَدَمِ فَصَارَ وُجُودُهُمَا كَعَدَمِهِمَا .
وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا تَرْجِيحُ طَرِيقَةٍ قَاطِعَةٍ فِي الثَّانِيَةِ بِالْأَوَّلِ .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنْ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ حَدَثٌ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ .
فَائِدَةٌ : الْجَمْعُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ الزَّائِدِ عَلَيْهَا كَالْجُمُعَتَيْنِ الْمُحْتَاجِ إلَى إحْدَاهُمَا ، فَفِي ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِمَا كَمَا أَفْتَى بِهِ الْبُرْهَانُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ .

الرَّابِعُ : الْجَمَاعَةُ وَشَرْطُهَا كَغَيْرِهَا ، وَأَنْ تُقَامَ بِأَرْبَعِينَ مُكَلَّفًا حُرًّا ذَكَرًا مُسْتَوْطِنًا لَا يَظْعَنُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا لِحَاجَةٍ ، وَالصَّحِيحُ انْعِقَادُهَا بِالْمَرْضَى .
وَأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ .

( الرَّابِعُ ) مِنْ الشُّرُوطِ ( الْجَمَاعَةُ ) بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ فَلَا تَصِحُّ بِالْعَدَدِ فُرَادَى ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ فِعْلُهَا كَذَلِكَ ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَقَطْ ، بِخِلَافِ الْعَدَدِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي جَمِيعِهَا كَمَا سَيَأْتِي ، فَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً بِأَرْبَعِينَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَأَتَمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ أَجْزَأَتْهُمْ الْجُمُعَةُ ( وَشَرْطُهَا كَغَيْرِهَا ) مِنْ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَالْعِلْمِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ فِي بَابِ الْجَمَاعَةِ إلَّا فِي نِيَّةِ الْإِمَامَةِ فَتَجِبُ هُنَا عَلَى الْأَصَحِّ لِتَحْصُلَ لَهُ الْجَمَاعَةُ ، ( وَأَنْ تُقَامَ بِأَرْبَعِينَ ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا } .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : قَالَ أَصْحَابُنَا : وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ ، وَالْأَصْلُ الظُّهْرُ ، فَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلَّا بِعَدَدٍ ثَبَتَ فِيهِ تَوْقِيفٌ .
وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهَا بِأَرْبَعِينَ ، وَثَبَتَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَلَمْ تَثْبُتْ صَلَاتُهُ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْهُ وَلَا بِأَرْبَعِينَ وَفِيهِمْ أُمِّيٌّ قَصَّرَ فِي التَّعَلُّمِ لِارْتِبَاطِ صِحَّةِ صَلَاةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، فَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ كَمَا نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ .
وَشَرْطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ( مُكَلَّفًا ) أَيْ بَالِغًا عَاقِلًا ( حُرًّا ) كُلًّا ( ذَكَرًا ) لِأَنَّ أَضْدَادَهُمْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِنَقْصِهِمْ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ فَإِنَّهَا إنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ رَفْعًا بِهِ لَا لِنَقْصِهِ ( مُسْتَوْطِنًا ) بِمَحَلِّهَا ( لَا يَظْعَنُ ) مِنْهُ ( شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا لِحَاجَةٍ ) كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ فَلَا تَنْعَقِدُ بِالْكُفَّارِ وَلَا بِالنِّسَاءِ وَالْخَنَاثَى ، وَغَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَنْ فِيهِمْ رِقٌّ لِنَقْصِهِمْ

وَلَا بِغَيْرِ الْمُسْتَوْطِنِينَ ، كَمَنَ أَقَامَ عَلَى عَزْمِ عَوْدِهِ إلَى وَطَنِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ وَلَوْ طَوِيلَةً كَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالتُّجَّارِ لِعَدَمِ التَّوَطُّنِ ، وَلَا بِالْمُتَوَطَّنِينَ خَارِجَ مَحَلِّ الْجُمُعَةِ وَإِنْ سَمِعُوا النِّدَاءَ لِعَدَمِ الْإِقَامَةِ بِمَحَلِّهَا ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ إحْرَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ لِتَصِحَّ لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ أَوْ لَا ؟ اشْتَرَطَ الْبَغَوِيّ ذَلِكَ وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْقَاضِي ، وَالرَّاجِحُ صِحَّةُ تَقَدُّمِ إحْرَامِهِمْ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْبُلْقِينِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ بَلْ صَوَّبَهُ وَأَفْتَى بِهِ شَيْخِي .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَلَعَلَّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ إنَّهُ الْقِيَاسُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ خَلْفَ الصَّبِيِّ أَوْ الْعَبْدِ أَوْ الْمُسَافِرِ إذَا تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ ، فَإِنْ قِيلَ : تَقَدُّمُ إحْرَامِ الْإِمَامِ ضَرُورِيٌّ فَاغْتُفِرَ فِيهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إمَامَتِهِ فِيهَا ، وَلِلْمَشَقَّةِ عَلَى مَنْ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ فِي تَكْلِيفِهِ مَعْرِفَةَ تَقَدُّمِ إحْرَامِ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ عَلَى إحْرَامِهِ ( وَالصَّحِيحُ ) مِنْ قَوْلَيْنِ ( انْعِقَادُهَا بِالْمَرْضَى ) لِأَنَّهُمْ كَامِلُونَ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ تَخْفِيفٌ .
وَالثَّانِي : لَا كَالْمُسَافِرِينَ ، وَالْخِلَافُ قَوْلَانِ لَا وَجْهَانِ ، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعَبِّرَ بِالْأَظْهَرِ ( وَ ) الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْنِ أَيْضًا ( أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ ) إذَا كَانَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالثَّانِي ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَدِيمِ يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْجُمُعَةِ التَّعَبُّدُ ، فَلَا يُنْتَقَلُ مِنْ الظُّهْرِ إلَيْهَا إلَّا بِيَقِينٍ .
.

وَتَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ مِنْ الْجِنِّ كَمَا قَالَهُ الْقَمُولِيُّ ، لَكِنْ عَنْ النَّصِّ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ يَكْفُرُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ } [ الْأَعْرَافَ ] .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ ادَّعَى رُؤْيَتَهُمْ عَلَى مَا خُلِقُوا عَلَيْهِ ، وَيُحْمَلُ كَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى مَا إذَا تَصَوَّرُوا فِي صُورَةِ بَنِي آدَمَ وَنَحْوِهِمْ ا هـ .
وَهَذَا حَسَنٌ .

وَلَوْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ أَرْبَعُونَ أَخْرَسَ فَهَلْ تَنْعَقِدُ جُمُعَتُهُمْ ؟ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ الْجَزْمُ بِالِانْعِقَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْخُطْبَةِ .
وَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَوَّلِ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَانَ شَرْطًا فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ كَالْوَقْتِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعُوا أَرْكَانَ الْخُطْبَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي .

وَلَوْ انْفَضَّ الْأَرْبَعُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ لَمْ يُحْسَبْ الْمَفْعُولُ فِي غَيْبَتِهِمْ ، وَيَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى إنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ ، وَكَذَا بِنَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ إنْ انْفَضُّوا بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ عَادُوا بَعْدَ طُولِهِ وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَ ) عَلَى هَذَا ( لَوْ انْفَضَّ الْأَرْبَعُونَ ) الْحَاضِرُونَ ( أَوْ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ لَمْ يُحْسَبْ الْمَفْعُولُ ) مِنْ أَرْكَانِهَا ( فِي غَيْبَتِهِمْ ) لِعَدَمِ سَمَاعِهِمْ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمَعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [ الْأَعْرَافَ ] .
قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ أَرْبَعُونَ جَمِيعَ أَرْكَانِ الْخُطْبَتَيْنِ ، وَلَا يَأْتِي هُنَا الْخِلَافُ الْآتِي فِي الِانْفِضَاضِ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصَلٍّ بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَسَامَحَ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُطْبَةِ إسْمَاعُ النَّاسِ ، فَإِذَا انْفَضَّ الْأَرْبَعُونَ بَطَلَ حُكْمُ الْخُطْبَةِ ، وَإِذَا انْفَضَّ بَعْضُهُمْ بَطَلَ حُكْمُ الْعَدَدِ ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْبَعِينَ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ ، وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ الْكَامِلِ أَرْبَعُونَ فَانْفَضَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَضُرَّ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ عَلَى الْمَتْنِ ( وَيَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى ) مِنْهَا ( إنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ ) عُرْفًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ كَمَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ لَوْ سَلَّمَ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ ( وَكَذَا بِنَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ إنْ انْفَضُّوا بَيْنَهُمَا ) وَعَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ لِمَا مَرَّ ( فَإِنْ عَادُوا بَعْدَ طُولِهِ ) فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ( وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ ) فِيهِمَا لِلْخُطْبَةِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) سَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا مُتَوَالِيًا ، وَكَذَا الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُوَالَاةَ لَهَا مَوْقِعٌ فِي اسْتِمَالَةِ النَّفْسِ .
وَالثَّانِي لَا يَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُطْبَةِ هُوَ الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ ، وَمِنْ الصَّلَاةِ إيقَاعُ الْفَرْضِ فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ حَاصِلٌ مَعَ التَّفْرِيقِ ،

وَخَرَجَ بِعَادُوا مَا لَوْ عَادَ بَدَلُهُمْ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ وَإِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ .

وَإِنْ انْفَضُّوا فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ ، وَفِي قَوْلٍ لَا إنْ بَقِيَ اثْنَانِ .

( وَإِنْ انْفَضُّوا ) أَيْ الْأَرْبَعُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ ( فِي الصَّلَاةِ ) بِأَنْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ أَبْطَلُوهَا ( بَطَلَتْ ) أَيْ الْجُمُعَةُ لِفَوَاتِ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ فِي دَوَامِهَا فَيُتِمُّهَا مَنْ بَقِيَ ظُهْرًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْرَمَ الْإِمَامُ وَتَبَطَّأَ الْمَأْمُومُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ بِالْإِحْرَامِ عَقِبَ إحْرَامِ الْإِمَامِ ثُمَّ أَحْرَمُوا ، فَإِنْ تَأَخَّرَ تَحَرُّمُهُمْ عَنْ رُكُوعِهِ فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ رُكُوعِهِ ، فَإِنْ أَدْرَكُوا الرُّكُوعَ مَعَ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ وَإِلَّا فَلَا لِإِدْرَاكِهِمْ الرُّكُوعَ وَالْفَاتِحَةَ مَعَهُ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَسَبَقَهُ فِي الْأَوَّلِ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِيَامِ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ إدْرَاكُهُمْ الرَّكْعَةَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادُ الْجُمُعَةِ وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَابْنُ الْمُقْرِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ : يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطُولَ الْفَصْلُ بَيْنَ إحْرَامِهِ وَإِحْرَامِهِمْ ( وَفِي قَوْلٍ لَا ) تَبْطُلُ ( إنْ بَقِيَ ) اثْنَا عَشَرَ مَعَ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّهُمْ انْفَضُّوا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } الْجُمُعَةَ الْآيَةَ } ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَا تُشْتَرَطُ فِي دَوَامِ الصَّلَاةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ ، وَرَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الْبُخَارِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْخُطْبَةِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْخُطْبَةِ فَلَعَلَّهُمْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ ، وَفِي قَوْلٍ لَا تَبْطُلُ إنْ بَقِيَ ( اثْنَانِ ) مَعَ الْإِمَامِ اكْتِفَاءً بِدَوَامِ مُسَمَّى الْجَمْعِ ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ

إنَّهُ يَكْفِي بَقَاءُ وَاحِدٍ مَعَهُ لِوُجُودِ اسْمِ الْجَمَاعَةِ ، وَفِي رَابِعٍ أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ ، وَفِي خَامِسٍ إنْ حَصَلَ الِانْفِضَاضُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَطَلَتْ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ فَلَا وَيُتِمُّهَا جُمُعَةً وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ وَالْمُرَادُ عَلَى الْأَوَّلِ انْفِضَاضُ مُسَمَّى الْعَدَدِ لَا الَّذِينَ حَضَرُوا الْخُطْبَةَ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَضَرُوا الْخُطْبَةَ ثُمَّ انْفَضُّوا بَعْدَ إحْرَامِ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ لَمْ يَسْمَعُوهَا أَتَمَّ بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّهُمْ إذَا لَحِقُوا وَالْعَدَدُ تَامٌّ صَارَ حُكْمُهُمْ وَاحِدًا ، فَسَقَطَ عَنْهُمْ سَمَاعُ الْخُطْبَةِ ، وَإِنْ انْفَضُّوا قَبْلَ إحْرَامِهِمْ بِهِ اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ بِهِمْ ، فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا ، وَإِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ لِانْتِفَاءِ سَمَاعِهِمْ وَلُحُوقِهِمْ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِمْ فَانْفَضُّوا إلَّا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ فَكَمُلُوا أَرْبَعِينَ بِخُنْثَى ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمْ لَمْ تَصِحَّ جُمُعَتُهُمْ لِلشَّكِّ فِي تَمَامِ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ وَإِلَّا صَحَّتْ ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِانْعِقَادِهَا وَصِحَّتِهَا وَشَكَكْنَا فِي نَقْصِ الْعَدَدِ بِتَقْدِيرِ أُنُوثَتِهِ ، وَالْأَصْلُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ فَلَا نُبْطِلُهَا بِالشَّكِّ ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ هَلْ كَانَ مَسَحَ رَأْسَهُ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ .

وَتَصِحُّ خَلْفَ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُسَافِرِ فِي الْأَظْهَرِ إذَا تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ .
( وَتَصِحُّ ) الْجُمُعَةُ ( خَلْفَ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُسَافِرِ فِي الْأَظْهَرِ ) أَيْ خَلْفَ كُلٍّ مِنْهُمْ ( إذَا تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ ) لِصِحَّتِهَا مِنْهُمْ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ وَالْعَدَدُ قَدْ وُجِدَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَجُمُعَةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ ، وَالِاقْتِدَاءُ بِمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ فِيهَا جَائِزٌ .
وَالثَّانِي لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُكْنٌ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْكَمَالُ كَالْأَرْبَعِينَ بَلْ أَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَنَفِّلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ وَلَا نَقْصَ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْأَظْهَرِ فِي الثَّلَاثَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ طَرِيقَةُ الْقَطْعِ بِالصِّحَّةِ لَا طَرِيقَةُ الْخِلَافِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ عَلَى تَقْدِيرِ إثْبَاتِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ لَا قَوْلَانِ ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ إذَا تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْعَطْفَ إذَا كَانَ بِالْوَاوِ لَا يُفْرَدُ الضَّمِيرُ .
أَمَّا إذَا تَمَّ الْعَدَدُ بِوَاحِدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ فَلَا تَصِحُّ جَزْمًا .

وَلَوْ بَانَ الْإِمَامُ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ فِي الْأَظْهَرِ إنْ تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ ، وَإِلَّا فَلَا .
( وَلَوْ بَانَ الْإِمَامُ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ فِي الْأَظْهَرِ إنْ تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ ) كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَالثَّانِي لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةُ تَقُومُ بِالْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَإِذَا بَانَ الْإِمَامُ مُحْدِثًا بَانَ أَنْ لَا جُمُعَةَ لَهُ وَلَا جَمَاعَةَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَحَكَى فِي الْمَجْمُوعِ طَرِيقَةً قَاطِعَةً بِالْأَوَّلِ وَصَحَّحَهَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ تَمَّ الْعَدَدُ بِهِ ( فَلَا ) تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ جَزْمًا لِأَنَّ الْكَمَالَ شَرْطٌ فِي الْأَرْبَعِينَ كَمَا مَرَّ وَلَوْ بَانَ حَدَثُ الْأَرْبَعِينَ الْمُقْتَدِينَ بِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ لَمْ تَصِحَّ جُمُعَةُ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا ، وَتَصِحُّ جُمُعَةُ الْإِمَامِ فِيهِمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَاهُ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَأَقَرَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْعِلْمَ بِطَهَارَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَانُوا عَبِيدًا أَوْ نِسَاءً لِسُهُولَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِهِمْ .
أَمَّا الْمُتَطَهِّرُ مِنْهُمْ فِي الثَّانِيَةِ فَتَصِحُّ جُمُعَتُهُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالْقَمُولِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ مَعَ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعَدَدُ فِيهَا ، وَلِهَذَا شَرَطْنَاهُ فِي عَكْسِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ بَلْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ ، وَاحْتَمَلَ فِيهِ حَدَثُهُمْ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ ، وَيَصِحُّ إحْرَامُهُ مُنْفَرِدًا فَاغْتُفِرَ لَهُ مَعَ عُذْرِهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ لِلْمُتَطَهِّرِ الْمُؤْتَمِّ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ تَبَعًا لَهُ .

وَمَنْ لَحِقَ الْإِمَامَ الْمُحْدِثَ رَاكِعًا لَمْ تُحْسَبْ رَكْعَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ .
( وَمَنْ لَحِقَ الْإِمَامَ الْمُحْدِثَ ) أَيْ الَّذِي بَانَ حَدَثُهُ ( رَاكِعًا لَمْ تُحْسَبْ رَكْعَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِدْرَاكِ مَا قَبْلَ الرُّكُوعِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الرُّكُوعُ مَحْسُوبًا مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ لِيَتَحَمَّلَ بِهِ عَنْ الْغَيْرِ ، وَالْمُحْدِثُ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ وَإِنْ صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ .
وَالثَّانِي : يُحْسَبُ كَمَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ كُلَّ الرَّكْعَةِ ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا لَمْ يَأْتِ بِالْقِرَاءَةِ ، وَالْإِمَامُ لَا يَتَحَمَّلُ عَنْ الْمَأْمُومِ إذَا كَانَ مُحْدِثًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ كَامِلَةً مَعَ الْإِمَامِ فِي رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ سَهْوًا صَحَّتْ إنْ لَمْ يَكُنْ بِزِيَادَتِهَا كَمُصَلٍّ صَلَاةً كَامِلَةً خَلْفَ مُحْدِثٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَانَ إمَامُهُ كَافِرًا أَوْ امْرَأَةً ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا أَهْلًا لِإِمَامَةِ الْجُمُعَةِ بِحَالٍ .

الْخَامِسُ : خُطْبَتَانِ قَبْلَ الصَّلَاةِ .
( الْخَامِسُ ) مِنْ الشُّرُوطِ ( خُطْبَتَانِ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا } ( 1 ) وَكَوْنُهُمَا ( قَبْلَ الصَّلَاةِ ) بِالْإِجْمَاعِ إلَّا مَنْ شَذَّ مَعَ خَبَرِ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَلَمْ يُصَلِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بَعْدَهُمَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : ثَبَتَتْ صَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خُطْبَتَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعِيدِ فَإِنَّ خُطْبَتَيْهِ مُؤَخَّرَتَانِ لِلِاتِّبَاعِ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تُؤَدَّى جَمَاعَةً فَأُخِّرَتْ لِيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ ، وَلِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَشْرُوطِهِ .

وَأَرْكَانُهُمَا خَمْسَةٌ : حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُمَا مُتَعَيِّنٌ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَرْكَانٌ فِي الْخُطْبَتَيْنِ .

( وَأَرْكَانُهُمَا خَمْسَةٌ ) الْأَوَّلُ ( حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( وَ ) الثَّانِي ( الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَافْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ .
قَالَ الْقَمُولِيُّ : وَفِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشْكَالٌ ، فَإِنَّ الْخُطْبَةَ الْمَرْوِيَّةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَيَبْعُدُ الِاتِّفَاقُ عَلَى فِعْلِ سُنَّةٍ دَائِمًا ، وَقَالَ إنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ ا هـ .
وَيَدُلُّ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقِيَاسُ الْمُتَقَدِّمُ ، وَمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّك عَبْدِي وَرَسُولِي } ( وَلَفْظُهُمَا ) أَيْ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ ( مُتَعَيِّنٌ ) لِلِاتِّبَاعِ ، وَلِأَنَّهُ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَصْرِنَا ، فَلَا يُجْزِئُ الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ وَالْمَدْحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْحَمْدِ بَلْ يُجْزِئُ بِحَمْدِ اللَّهِ ، أَوْ أَحْمَدُ اللَّهَ ، أَوْ لِلَّهِ الْحَمْدُ أَوْ اللَّهُ أَحْمَدُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيقَةِ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْحَاوِي فِي شَرْحِ اللُّبَابِ ، وَصَرَّحَ الْجِيلِيُّ بِإِجْزَاءِ أَنَا حَامِدٌ لِلَّهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ ، وَقَالَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّرْحَيْنِ تُعَيِّنُ لَفْظَ الْحَمْدِ لِلَّهِ بِاللَّامِ .
ا هـ .
وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ اللَّهِ فَلَا يُجْزِئُ الْحَمْدُ

لِلرَّحْمَنِ أَوْ الرَّحِيمِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْغَزَالِيِّ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَهُ مَسْطُورًا وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ كَمَا فِي التَّكْبِيرِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ، بَلْ يُجْزِئُ أُصَلِّي أَوْ نُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ الرَّسُولِ أَوْ النَّبِيِّ أَوْ الْمَاحِي أَوْ الْعَاقِبِ أَوْ الْحَاشِرِ أَوْ النَّاشِرِ أَوْ النَّذِيرِ ، وَلَا يَكْفِي رَحِمَ اللَّهُ مُحَمَّدًا أَوْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : وَلَفْظُهُمَا مُتَعَيِّنٌ إنْ أَرَادَ تَعْيِينَ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ كَمَا قَرَّرْت بِهِ كَلَامَهُ تَبَعًا لِلشَّارِحِ دُونَ لَفْظِ اللَّهِ وَرَسُولِ اللَّهِ ، وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ يَتَعَيَّنُ كَمَا مَرَّ ، وَإِنْ أَرَادَ تَعَيَّنَ الْمَذْكُورُ بِجُمْلَتِهِ ، وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ كَمَا مَرَّ أَيْضًا ، وَمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ لَفْظَ الضَّمِيرِ لَا يَكْفِي هُوَ مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ ، وَجَزَمَ بِهِ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ ( وَ ) الثَّالِثُ ( الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخُطْبَةِ الْوَعْظُ وَالتَّحْذِيرُ ( وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا ) أَيْ الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ الْوَعْظُ وَالْحَمْلُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكْفِي مَا دَلَّ عَلَى الْمَوْعِظَةِ طَوِيلًا كَانَ أَوْ قَصِيرًا كَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَاقِبُوهُ ، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ غُرُورِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا فَقَدْ يَتَوَاصَى بِهِ مُنْكِرُ الْبَعْثِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْحَمْلُ عَلَى الطَّاعَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَالثَّانِي يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْوَصِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : وَلَا يَتَعَيَّنُ

لَفْظُهَا يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ لَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْوَصِيَّةِ ، وَهُوَ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ فَيَكُونُ لَفْظُ التَّقْوَى لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى لَفْظِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ لَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْ اللَّفْظَيْنِ لَا الْوَصِيَّةِ وَلَا التَّقْوَى ، وَهُوَ مَا قَرَّرْت بِهِ كَلَامَهُ تَبَعًا لِلشَّارِحِ ، وَجَزَمَ الْإِسْنَوِيُّ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَفَسَّرَ بِهِ لَفْظَ الْمُصَنِّفِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي لَفْظِ الْوَصِيَّةِ وَلَا يَجِبُ لَفْظُ التَّقْوَى قَطْعًا ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ أَطِيعُوا اللَّهَ ( وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ ) الْأَرْكَانُ الْمَذْكُورَةُ ( أَرْكَانٌ فِي ) كُلٍّ مِنْ ( الْخُطْبَتَيْنِ ) لِاتِّبَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ خُطْبَةٍ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأُخْرَى .

وَالرَّابِعُ قِرَاءَةُ آيَةٍ فِي إحْدَاهُمَا ، وَقِيلَ فِي الْأُولَى ، وَقِيلَ فِيهِمَا ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ .

( وَالرَّابِعُ قِرَاءَةُ آيَةٍ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَعْدًا لَهُمْ أَمْ وَعِيدًا أَمْ حُكْمًا أَمْ قِصَّةً .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا يَبْعُدُ الِاكْتِفَاءُ بِشَطْرِ آيَةٍ طَوِيلَةٍ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخِي اعْتِمَادُهُ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ الْمَشْهُورُ الْجَزْمُ بِاشْتِرَاطِ آيَةٍ ، وَيَعْضُدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ الْبُوَيْطِيِّ وَيَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكْفِي ثُمَّ نَظَرَ أَوْ ثُمَّ عَبَسَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ آيَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفْهِمَةٍ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَيَكْفِي كَوْنُهَا ( فِي إحْدَاهُمَا ) لِأَنَّ الْغَالِبَ الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ دُونَ تَعْيِينٍ ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ يُجْزِئُ أَنْ يَقْرَأَ بَيْنَ قِرَاءَتِهِمَا .
قَالَ وَكَذَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ ذَلِكَ عَنْ النَّصِّ صَرِيحًا وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ الْمَذْهَبُ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُسَنُّ جَعْلُهَا فِي الْأُولَى ( وَقِيلَ ) تَتَعَيَّنُ ( فِي الْأُولَى ) فَلَا تُجْزِئُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْمُخْتَصَرِ لِتَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ بِالْمُخْتَصِّ بِالثَّانِيَةِ ، وَلِأَنَّ الْأُولَى أَحَقُّ بِالتَّطْوِيلِ ( وَقِيلَ ) تَتَعَيَّنُ ( فِيهِمَا ) أَيْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ( وَقِيلَ لَا تَجِبُ ) فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ تُسْتَحَبُّ ، وَسَكَتُوا عَنْ مَحَلِّهِ وَيُقَاسُ بِمَحَلِّ الْوُجُوبِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ " ق " فِي الْأُولَى لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَنْوَاعِ الْمَوَاعِظِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْحَاضِرِينَ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ التَّخْفِيفَ .
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ : فَإِنْ أَبَى قَرَأَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [ الْأَحْزَابَ

] الْآيَةَ ، وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ نَزَلَ وَسَجَدَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كُلْفَةٌ ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ ذَلِكَ طُولَ فَصْلٍ سَجَدَ مَكَانَهُ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَرَكَهُ ، وَلَا تُجْزِئُ آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَرْكَانِ كُلِّهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُطْبَةً .
وَاسْتَشْكَلَ هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ أَتَى بِبَعْضِهَا ضِمْنَ آيَةٍ كَقَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ فَاطِرَ ] لَمْ يَمْتَنِعْ ، وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الْبَعْضِ دُونَ الْقِرَاءَةِ لِئَلَّا يَتَدَاخَلَا ، وَإِنْ قَصْدَهُمَا بِآيَةٍ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ .
عَنْهُمَا بَلْ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَقَطْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ .

وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ تَضْمِينَ شَيْءٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَنَحْوِهِمَا ، وَخَصَّهُ جَمَاعَةٌ فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
وَقَدْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ نَبَاتَةَ وَغَيْرُهُمَا .

وَالْخَامِسُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ دُعَاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَقِيلَ لَا يَجِبُ .
( وَالْخَامِسُ : مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ دُعَاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) بِأُخْرَوِيٍّ لِنَقْلِ الْخَلَفِ لَهُ عَنْ السَّلَفِ وَيَكُونُ ( فِي ) الْخُطْبَةِ ( الثَّانِيَةِ ) لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَلِيقُ بِالْخَوَاتِمِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَعْبِيرُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ لَا يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَاتِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ الْجِنْسُ الشَّامِلُ لَهُنَّ وَبِهِمَا عَبَّرَ فِي الْوَسِيطِ وَفِي التَّنْزِيلِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ ، وَلَوْ خَصَّ بِهِ الْحَاضِرِينَ كَقَوْلِهِ : رَحِمَكُمْ اللَّهُ كَفَى ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَصَّ بِهِ الْغَائِبِينَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَلَمْ أَرَهُ مَسْطُورًا ( وَقِيلَ لَا يَجِبُ ) لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْخُطْبَةِ فَكَذَا فِيهَا كَالتَّسْبِيحِ بَلْ يُسْتَحَبُّ ، وَنَصَّ عَلَى هَذَا فِي الْإِمْلَاءِ ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو حَامِدٍ وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالْأَوَّلِ وَبَعْضُهُمْ بِالثَّانِي فَكَانَ يَنْبَغِي التَّعْبِيرُ بِالْمَذْهَبِ ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَجْمُوعِ وَزِيَادَةِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِهِ مُجَازَفَةٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِالصِّفَاتِ الْكَاذِبَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ بِالصَّلَاحِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
.

وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا عَرَبِيَّةً مُرَتَّبَةَ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَرْكَانِ الْخُطْبَتَيْنِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ شُرُوطِهِمَا وَهِيَ تِسْعَةٌ مُبْتَدِئًا بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَقَالَ ( وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا ) أَيْ الْخُطْبَةِ أَيْ أَرْكَانِهَا ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ الشَّامِلُ لِلْخُطْبَتَيْنِ ( عَرَبِيَّةً ) لِاتِّبَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَلِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَلُّمُهَا وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فَيَكْفِي فِي تَعَلُّمِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَصَوْا وَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ بَلْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا فَائِدَةُ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْعِلْمُ بِالْوَعْظِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، فَقَدْ صَرَّحُوا فِيمَا إذَا سَمِعُوا الْخُطْبَةَ وَلَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَصِحُّ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّمُهَا خَطَبَ بِلُغَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهَا الْقَوْمُ ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ لُغَةً فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا ( مُرَتَّبَةَ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى ) عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ فَيَبْدَأُ بِالْحَمْدِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ ، وَكَذَا أَيْضًا صَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يُصَحِّحْ فِي الْكَبِيرِ شَيْئًا ، وَسَيَأْتِي تَصْحِيحُ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ وَلَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فَيَأْتِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ الدُّعَاءِ حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ .

وَبَعْدَ الزَّوَالِ .
( وَ ) الشَّرْطُ الثَّانِي كَوْنُهَا ( بَعْدَ الزَّوَالِ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : { كَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ } وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ بَعْدَ الزَّوَالِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ هَيْئَةِ الْجُمُعَةِ : وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُتَّصِلًا بِالزَّوَالِ ، وَكَذَا جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ ، وَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُهَا لَقَدَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُبَكِّرِينَ وَإِيقَاعًا لَهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ .

وَالْقِيَامُ فِيهَا إنْ قَدَرَ .
( وَ ) الشَّرْطُ الثَّالِثُ ( الْقِيَامُ فِيهِمَا إنْ قَدَرَ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ خَطَبَ قَاعِدًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا كَالصَّلَاةِ وَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَا أَسْتَطِيعُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ ، وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا فَكَإِمَامٍ بَانَ مُحْدِثًا ، وَتَقَدَّمَ حُكْمُهُ .

وَالْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا .
( وَ ) الشَّرْطُ الرَّابِعُ ( الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ كَمَا فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، فَلَوْ خَطَبَ جَالِسًا لِعَجْزِهِ وَجَبَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ ، وَلَا يَكْفِي الِاضْطِجَاعُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ هُنَا شَرْطَيْنِ وَفِي الصَّلَاةِ رُكْنَيْنِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا الذِّكْرَ وَالْوَعْظَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَامَ وَالْجُلُوسَ لَيْسَا بِجُزْأَيْنِ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا جُمْلَةُ أَعْمَالٍ وَهِيَ كَمَا تَكُونُ أَذْكَارًا تَكُونُ غَيْرَ أَذْكَارٍ .

وَإِسْمَاعُ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ .
( وَ ) الْخَامِسُ ( إسْمَاعُ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ ) أَيْ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِأَرْكَانِهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا عَدَدُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا وَعْظُهُمْ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِسْمَاعُ وَالسَّمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهَا كَمَا مَرَّ كَالْعَامِّيِّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا فَلَا يَكْفِي الْإِسْرَارُ كَالْأَذَانِ وَلَا إسْمَاعُ دُونِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَقَوْلُهُ : كَغَيْرِهِ أَرْبَعِينَ : أَيْ بِالْإِمَامِ ، فَلَوْ كَانُوا صُمًّا أَوْ بَعْضُهُمْ لَمْ تَصِحَّ كَبُعْدِهِمْ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْخَطِيبِ إذَا كَانَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ أَصَمَّ لَمْ يَكْفِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ بَعِيدٌ .
بَلْ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الشَّخْصَ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ وَلَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِالْإِنْصَاتِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْخَطِيبُ مَعْنَى أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ كَمَنْ يَؤُمُّ الْقَوْمَ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ .

وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ ، وَيُسَنُّ الْإِنْصَاتُ .

( وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ ) فِيهَا لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِهِ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا } وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْكَلَامَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ وُجُوبَ السُّكُوتِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعِينَ بَلْ الْحَاضِرُونَ كُلُّهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ ( وَيُسَنُّ ) لِلْقَوْمِ السَّامِعِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُقْبِلُوا عَلَيْهِمْ بِوُجُوهِهِمْ لِأَنَّهُ الْأَدَبُ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَوْجِيهِهِمْ الْقِبْلَةَ ، وَ ( الْإِنْصَاتُ ) لَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [ الْأَعْرَافَ ] ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْخُطْبَةِ ، وَسُمِّيَتْ قُرْآنًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ ، وَيُكْرَهُ لِلْحَاضِرِينَ الْكَلَامُ فِيهَا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَخَبَرِ مُسْلِمٍ { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت } ( 1 ) وَالْقَدِيمُ يَحْرُمُ الْكَلَامُ فِيهَا وَيَجِبُ الْإِنْصَاتُ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ لِلنَّدَبِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْخَطِيبِ قَطْعًا وَالْخِلَافُ فِي كَلَامٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ .
فَأَمَّا إذَا رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ عَقْرَبًا تَدِبُّ عَلَى إنْسَانٍ فَأَنْذَرَهُ أَوْ عَلَّمَ إنْسَانًا شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ ، فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ قَطْعًا بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ .
لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إنْ أَغْنَتْ ، وَلَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَلَا بَعْدَهَا وَلَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَلَا لِلدَّاخِلِ مَا لَمْ يَأْخُذْ لَهُ مَكَانًا وَيَسْتَقِرَّ فِيهِ .

وَلَوْ سَلَّمَ دَاخِلٌ عَلَى مُسْتَمِعٍ لِلْخُطْبَةِ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِنْصَاتَ سُنَّةٌ كَمَا مَرَّ مَعَ أَنَّ السَّلَامَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَكْرُوهٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجِبُ الرَّدُّ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَقَدْ صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ عَدَمَ الْوُجُوبِ ، وَقَالَ الْجُرْجَانِيِّ : إنْ قُلْنَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ كُرِهَ الرَّدُّ ا هـ .
وَلَكِنَّ الْإِشْكَالَ لَا يَدْفَعُ الْمَنْقُولَ ، وَيُسَنُّ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ كَسَائِرِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ قَهْرِيٌّ .

وَيَجِبُ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ كَانَ فِيهَا عِنْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرِ وَجُلُوسِهِ ، وَلَا يُبَاحُ لِغَيْرِ الْخَطِيبِ مِنْ الْحَاضِرِينَ نَافِلَةٌ بَعْدَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ وَجُلُوسِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ لِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَنَقَلَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ الْإِجْمَاعَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلَامِ - حَيْثُ لَا بَأْسَ ، بِهِ وَإِنْ صَعَدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ مَا لَمْ يَبْتَدِئْ الْخُطْبَةَ - وَبَيْنَ الصَّلَاةِ - حَيْثُ تَحْرُمُ حِينَئِذٍ - أَنَّ قَطْعَ الْكَلَامِ هَيِّنٌ مَتَى ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفُوتُهُ بِهَا سَمَاعُ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ وَإِذَا حُرِّمَتْ لَمْ تَنْعَقِدْ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ لَهَا ، وَكَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ الْمَكْرُوهَةِ .
بَلْ أَوْلَى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا هُنَا كَمَا مَرَّ بِخِلَافِهَا ثَمَّ .

وَتُسْتَثْنَى التَّحِيَّةُ لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيُصَلِّيهَا نَدْبًا مُخَفَّفَةً وُجُوبًا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ ، فَقَالَ لَهُ يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا .
ثُمَّ قَالَ : إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } ( 1 ) هَذَا إنْ صَلَّى سُنَّةَ الْجُمُعَةِ وَإِلَّا صَلَّاهَا مُخَفَّفَةً وَحَصَلَتْ التَّحِيَّةُ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ تَحِيَّةٌ كَأَنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَمْ يُصَلِّ شَيْئًا ، فَإِطْلَاقُهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الرَّاتِبَةِ مَعَ قِيَامِ سَبَبِهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَرْضًا لَا يَأْتِي بِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
أَمَّا الدَّاخِلُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ صَلَّاهَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُصَلِّ التَّحِيَّةَ بَلْ يَقِفُ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ وَلَا يَقْعُدُ لِئَلَّا يَكُونَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَلَوْ صَلَّاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ اُسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي كَلَامِ الْخُطْبَةِ بِقَدْرِ مَا يُكْمِلُهَا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَمَا قَالَهُ نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَالْمُرَادُ بِالتَّخْفِيفِ فِيمَا ذُكِرَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لَا الْإِسْرَاعُ قَالَ : وَيَدُلُّ لَهُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَأَرَادَ الْوُضُوءَ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ .

قُلْت : الْأَصَحُّ أَنَّ تَرْتِيبَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْت : الْأَصَحُّ أَنَّ تَرْتِيبَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَعْظُ وَهُوَ حَاصِلٌ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمَبْسُوطِ ، وَجَزَمَ بِهِ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ .

وَالْأَظْهَرُ اشْتِرَاطُ الْمُوَالَاةِ
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَالْأَظْهَرُ اشْتِرَاطُ الْمُوَالَاةِ ) بَيْنَ أَرْكَانِهَا وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ لِلِاتِّبَاعِ وَلِأَنَّ لَهَا أَثَرًا ظَاهِرًا فِي اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ ، وَالْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ شَبِيهَتَانِ بِصَلَاةِ الْجَمْعِ ، وَالثَّانِي لَا تُشْتَرَطُ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْوَعْظُ ، وَالتَّذْكِيرُ يَحْصُلُ مَعَ تَفْرِيقِ الْكَلِمَاتِ .
تَنْبِيهٌ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ سَبَقَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِانْفِضَاضِ فَهِيَ مُكَرَّرَةٌ .

وَطَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَالسَّتْرُ .
( وَ ) الشَّرْطُ السَّابِعُ ( طَهَارَةُ الْحَدَثِ ) الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ ( وَالْخَبَثِ ) غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ ( وَ ) الشَّرْطُ الثَّامِنُ ( السَّتْرُ ) لِلْعَوْرَةِ لِلِاتِّبَاعِ وَكَمَا فِي الصَّلَاةِ فَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتَأْنَفَهَا وَلَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَصُرَ الْفَصْلُ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا تُؤَدَّى بِطَهَارَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ ، وَلَوْ أَحْدَثَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَتَطَهَّرَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَأَمَّا سَامِعُو الْخُطْبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ طَهَارَتُهُمْ وَلَا سَتْرُهُمْ كَمَا نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ : وَأَغْرَبَ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ .
وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ .

وَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْخُطْبَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ قَالَ : لِأَنَّهَا أَذْكَارٌ وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ وَدُعَاءٌ وَقِرَاءَةٌ وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَازٌ بِصُورَتِهِ مُنْصَرِفٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحَقِيقَتِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ تَصْرِفُهُ إلَيْهِ ، وَقِيلَ تَجِبُ النِّيَّةُ وَفَرْضِيَّتُهَا كَمَا فِي الصَّلَاةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فَرْضٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَالسَّتْرُ وَالْمُوَالَاةُ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا الْقَاضِي أَيْ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَصَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَاضِي مَبْنِيٌّ كَمَا قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ رَكْعَتَيْنِ .
.

وَتُسَنُّ عَلَى مِنْبَرٍ

ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مُسْتَحَبَّاتِ الْخُطْبَةِ ، فَقَالَ ( وَتُسَنُّ عَلَى مِنْبَرٍ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّبْرِ ، وَهُوَ الِارْتِفَاعِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ يَمِينُ مُصَلَّى الْإِمَامِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : هَكَذَا وُضِعَ مِنْبَرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ .
فَائِدَةٌ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إلَى جِذْعٍ ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَزَمَهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ فَمَسَحَهُ ، وَفِي أُخْرَى فَسَمِعْنَا لَهُ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ .
وَكَانَ مِنْبَرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ دَرَجٍ غَيْرَ الدَّرَجَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْمُسْتَرَاحَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِيهَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ إنَّ أَبَا بَكْرٍ نَزَلَ عَنْ مَوْقِفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَرَجَةً ، وَعُمَرَ دَرَجَةً أُخْرَى ، وَعُثْمَانَ دَرَجَةً أُخْرَى ، ثُمَّ وَقَفَ عَلِيٌّ عَلَى مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ ، وَالْمُخْتَارُ مُوَافَقَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ .
نَعَمْ إنْ طَالَ الْمِنْبَرُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَعَلَى السَّابِعَةِ : أَيْ لِأَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ زَادَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ الْأَوَّلِ سِتَّ دَرَجٍ ، فَصَارَ عَدَدُ دَرَجِهِ تِسْعَةً .
وَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَقِفُونَ عَلَى الدَّرَجَةِ السَّابِعَةِ ، وَهِيَ الْأُولَى مِنْ الْأَوَّلِ أَيْ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ مِنْ أَسْفَلِهِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ فِعْلَ الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ

بِمَكَّةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ : الْخَطَابَةُ بِمَكَّةَ عَلَى مِنْبَرٍ بِدْعَةٌ ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى الْبَابِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَ الْمِنْبَرَ بِمَكَّةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ .

أَوْ مُرْتَفِعٌ .
وَيُكْرَهُ مِنْبَرٌ كَبِيرٌ يَضِيقُ عَلَى الْمُصَلِّينَ ، وَيُسَنُّ التَّيَامُنُ فِي الْمِنْبَرِ الْوَاسِعِ ( أَوْ ) عَلَى مَوْضِعٍ ( مُرْتَفِعٍ ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ كَمَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ التَّسْوِيَةَ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتَنَدَ إلَى نَحْوِ خَشَبَةٍ كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ فِعْلِ الْمِنْبَرِ .

وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ إذَا صَعِدَ ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ، وَيَجْلِسُ ثُمَّ يُؤَذَّنُ .

( وَيُسَلِّمُ ) عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْحَاضِرِينَ لِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ ، وَ ( عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ) نَدْبًا إذَا انْتَهَى إلَيْهِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلِمُفَارَقَتِهِ إيَّاهُمْ .
وَلَا يُسَنُّ لَهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ ( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ إذَا صَعِدَ ) الْمِنْبَرَ أَوْ نَحْوَهُ أَوْ اسْتَنَدَ إلَى مَا مَرَّ وَانْتَهَى إلَى مَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَوْ اسْتَنَدَ إلَى مَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ ( وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ) لِلِاتِّبَاعِ ، وَلِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيَجِبُ رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالسَّلَامِ فِي بَاقِي الْمَوَاضِعِ ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ إقْبَالُهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَهَا فَإِنْ كَانَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ كَانَ خَارِجًا عَنْ مَقَاصِدِ الْخِطَابِ ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ ثُمَّ اسْتَدْبَرُوهُ لَزِمَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ اسْتَقْبَلُوهُ لَزِمَ تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ لِخَلْقٍ كَثِيرٍ وَتَرْكُهُ لِوَاحِدٍ أَسْهَلُ ( وَيَجْلِسُ ) بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْتَرَاحِ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَعَبِ الصُّعُودِ ( ثُمَّ يُؤَذَّنُ ) بِفَتْحِ الذَّالِ فِي حَالِ جُلُوسِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ .
وَقَالَ الدَّمِيرِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِهَا لِيُوَافِقَ مَا فِي الْمُحَرَّرِ مِنْ كَوْنِ الْأَذَانِ الْمَذْكُورِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ لَا مِنْ جَمَاعَةٍ كَمَا اسْتَحَبَّهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ إذَا كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا جَمَاعَةُ الْمُؤَذِّنِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ أَذَّنُوا جَمَاعَةً كَرِهْت ذَلِكَ ، وَلَا يُفْسِدُ شَيْءٌ مِنْهُ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْأَذَانَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ إلَيْهَا .
وَفِي الْبُخَارِيِّ { كَانَ

الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ أَمَرَهُمْ بِأَذَانٍ آخَرَ عَلَى الزَّوْرَاءِ } ( 1 ) وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا .

وَأَنْ تَكُونَ بَلِيغَةً مَفْهُومَةً قَصِيرَةً .
( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ تَكُونَ ) الْخُطْبَةُ ( بَلِيغَةً ) أَيْ فَصِيحَةً جَزْلَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْتَذَلِ الرَّكِيكِ ( مَفْهُومَةً ) لَا غَرِيبَةً وَحْشِيَّةً ، إذْ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ : أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَكُونُ كَلَامُهُ مُسْتَرْسِلًا مُبِينًا مُعْرِبًا مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ وَلَا تَمْطِيطٍ .
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي : وَتُكْرَهُ الْكَلِمَاتُ الْمُشْتَرَكَةُ وَالْبَعِيدَةُ عَنْ الْأَفْهَامِ وَمَا تُنْكِرُهُ عُقُولُ الْحَاضِرِينَ ( قَصِيرَةً ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ { أَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ } بِضَمِّ الْخَاءِ ، فَتَكُونُ مُتَوَسِّطَةً كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا ، بَيْنَ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا } وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ الْقِصَرَ وَالطُّولَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ ، فَالْمُرَادُ بِإِقْصَارِ الْخُطْبَةِ إقْصَارُهَا عَنْ الصَّلَاةِ كَمَا مَرَّ وَبِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ إطَالَتُهَا عَلَى الْخُطْبَةِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إنَّ إقْصَارَ الْخُطْبَةِ يُشْكِلُ بِقَوْلِهِمْ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى " ق " .

وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا .
( وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا ، وَ ) لَا ( شِمَالًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا ) لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ إلَى فَرَاغِهَا وَلَا يَعْبَثُ بَلْ يَخْشَعُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ، فَلَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَوْ اسْتَدْبَرَهَا الْحَاضِرُونَ أَجْزَأَ ذَلِكَ وَكُرِهَ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَلَا شِمَالًا بِزِيَادَةِ لَا كَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ لِأَنَّهُ إذَا الْتَفَتَ يَمِينًا فَقَطْ أَوْ شِمَالًا فَقَطْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَلَوْ حَذَفَهُمَا لَكَانَ أَعَمَّ وَأَخْصَرَ .

وَيَعْتَمِدُ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا وَنَحْوِهِ .
( وَيَعْتَمِدُ ) نَدْبًا ( عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا وَنَحْوِهِ ) كَقَوْسٍ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا } ، وَحِكْمَتُهُ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ قَامَ بِالسِّلَاحِ ، وَلِهَذَا يُسَنَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى كَعَادَةِ مَنْ يُرِيدُ الْجِهَادَ بِهِ ، وَيُشْغِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى بِحَرْفِ الْمِنْبَرِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سَكَّنَ يَدَيْهِ خَاشِعًا بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُرْسِلَهُمَا .
.

وَيُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ مَا ابْتَدَعَهُ الْخُطَبَاءُ الْجَهَلَةُ مِنْ الْإِشَارَةِ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَمِنْ الِالْتِفَاتِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَفِي دَقِّ الدَّرَجِ فِي صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ بِسَيْفٍ أَوْ بِرِجْلِهِ أَوْ نَحْوِهَا ، وَإِنْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِاسْتِحْبَابِهِ ، وَالشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ يُونُسَ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْخُطْبَةِ وَتَحْرِيكٌ لِهِمَمِ السَّامِعِينَ وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً وَالدُّعَاءُ إذَا انْتَهَى صُعُودُهُ قَبْلَ الْجُلُوسِ لِلْأَذَانِ ، وَرُبَّمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهَا سَاعَةُ الْإِجَابَةِ وَهُوَ جَهْلٌ لِأَنَّهَا بَعْدَ جُلُوسِهِ .
وَأَغْرَبَ الْبَيْضَاوِيُّ ، فَقَالَ : يَقِفُ فِي كُلِّ مِرْقَاةٍ وَقْفَةً خَفِيفَةً يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْمَعُونَةَ وَالتَّشْدِيدَ ، وَمُبَالَغَةَ الْإِسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِهَا ، وَالْمُجَازَفَةِ فِي وَصْفِ السَّلَاطِينَ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ ، وَلَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُجَازَفَةٌ كَمَا مَرَّ ، إذْ يُسَنُّ الدُّعَاءُ بِإِصْلَاحِ وُلَاةِ الْأُمُورِ .

وَيُكْرَهُ الِاحْتِبَاءُ ، وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ ظَهْرَهُ وَسَاقَيْهِ بِثَوْبِهِ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْمَ فَيَمْنَعُهُ الِاسْتِمَاعَ .

وَيَكُونُ جُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا نَحْوَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ .
( وَيَكُونُ جُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ ( نَحْوَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ) اسْتِحْبَابًا ، وَقِيلَ إيجَابًا ، وَهَلْ يَقْرَأُ فِيهَا أَوْ يَذْكُرُ أَوْ يَسْكُتُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ لَكِنْ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا " .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا مُسْتَجَابٌ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَخْتِمَ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ .

وَإِذَا فَرَغَ شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ وَبَادَرَ الْإِمَامُ لِيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِهِ .
( وَإِذَا فَرَغَ ) مِنْ الْخُطْبَةِ ( شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ وَبَادَرَ الْإِمَامُ لِيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِهِ ) مِنْ الْإِقَامَةِ ، كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ تَحْقِيقًا لِلْمُوَالَاةِ وَتَخْفِيفًا عَلَى الْحَاضِرِينَ .

وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى الْجُمُعَةَ ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُنَافِقِينَ جَهْرًا .
( وَيَقْرَأُ ) نَدْبًا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ( فِي ) الرَّكْعَةِ ( الْأُولَى الْجُمُعَةَ ، وَفِي الثَّانِيَةِ ) بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ( الْمُنَافِقِينَ ) بِكَمَالِهِمَا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَلَوْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فِي الْأُولَى قَرَأَهَا فِي الثَّانِيَةِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى تَطْوِيلِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى لِتَأْكِيدِ السُّورَتَيْنِ ، وَلَوْ قَرَأَ بِالْمُنَافِقِينَ فِي الْأُولَى قَرَأَ بِالْجُمُعَةِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَرَوَى أَيْضًا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ - { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } الْأَعْلَى : وَ - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } الْغَاشِيَةُ } .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : كَانَ يَقْرَأُ هَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ .
فَهُمَا سُنَّتَانِ ، وَقِرَاءَةُ بَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ قَدْرِهِ مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى ثَنَاءٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .
وَيُسَنُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْجُمُعَةِ ( جَهْرًا ) بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْكِتَابِ بِلَا تَمْيِيزٍ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَسْبُوقِ الْجَهْرُ فِي ثَانِيَتِهِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ .

وَمِنْ الْبِدَعِ فِي الْخُطْبَةِ ذِكْرُ الشِّعْرِ فِيهَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .
قَالَ الْقَمُولِيُّ : وَمِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ كَتْبُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْأَوْرَاقَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا حَفَائِظَ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالِاتِّعَاظِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَوْقَاتِ ، وَكِتَابَةُ كَلَامٍ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ : كَعَسْلَهُونٍ ، وَقَدْ يَكُونُ دَالًّا عَلَى مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .

فَصْلٌ يُسَنُّ الْغُسْلُ لِحَاضِرِهَا ، وَقِيلَ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَوَقْتُهُ مِنْ الْفَجْرِ ، وَتَقْرِيبُهُ مِنْ ذَهَابِهِ أَفْضَلُ ، فَإِنْ عَجَزَ تَيَمَّمَ فِي الْأَصَحِّ .

( فَصْلٌ ) فِي الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَمَا يُذْكَرُ مَعَهَا ( يُسَنُّ الْغُسْلُ لِحَاضِرِهَا ) أَيْ لِمَنْ يُرِيدُ حُضُورَهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لِحَدِيثِ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } ، وَلِخَبَرِ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ { مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ } ( وَقِيلَ ) يُسَنُّ ( لِكُلِّ أَحَدٍ ) حَضَرَ أَمْ لَا كَالْعِيدِ ، وَيُفَارِقُ الْعِيدُ عَلَى الْأَوَّلِ حَيْثُ لَمْ يُخْتَصَّ بِمَنْ حَضَرَ بِأَنَّ غُسْلَهُ لِلزِّينَةِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ ، وَهَذَا لِلتَّنْظِيفِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْ النَّاسِ ، وَمِثْلُهُ يَأْتِي فِي التَّزْيِينِ .
وَرُوِيَ { غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ : أَيْ مُتَأَكِّدٍ ، وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا } زَادَ النَّسَائِيُّ : هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ الْجُمُعَةُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ ، وَصَرَفَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَنْ الْوُجُوبِ خَبَرُ { مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ قَوْلُهُ : فِيهَا : أَيْ بِالسُّنَّةِ أَخَذَ : أَيْ بِمَا جَوَّزْته مِنْ الْوُضُوءِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ ، وَنِعْمَتْ الْخَصْلَةُ أَوْ الْفَعْلَةُ ، وَالْغُسْلُ مَعَهَا أَفْضَلُ ، وَخَبَرُ { مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُثْمَانَ دَخَلَ وَعُمَرُ يَخْطُبُ ، فَقَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ النِّدَاءِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْت حِينَ سَمِعْت النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْت ثُمَّ جِئْت ، فَقَالَ عُمَرُ : وَالْوُضُوءُ أَيْضًا ، أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } ( وَوَقْتُهُ مِنْ

الْفَجْرِ ) الصَّادِقِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَّقَتْهُ بِالْيَوْمِ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى } الْحَدِيثَ ( 1 ) ، فَلَا يُجْزِئُ قَبْلَهُ .
وَقِيلَ : وَقْتُهُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ كَالْعِيدِ ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ لِقُرْبِ الزَّمَنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْفَجْرِ لَضَاقَ الْوَقْتُ وَتَأَخَّرَ عَنْ التَّبْكِيرِ إلَى الصَّلَاةِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغُسْلَ لَهَا سُنَّةٌ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ ( وَتَقْرِيبِهِ مِنْ ذَهَابِهِ ) إلَى الْجُمُعَةِ ( أَفْضَلُ ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ انْتِفَاءِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ ، وَلَوْ تَعَارَضَ الْغُسْلُ وَالتَّبْكِيرُ فَمُرَاعَاةُ الْغُسْلِ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ ، وَقِيلَ إنْ كَانَ بِجَسَدِهِ رِيحٌ كَرِيهَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلَّا بَكَّرَ ، وَلَا يُبْطِلُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ الْحَدَثُ فَيَتَوَضَّأُ وَلَا الْجَنَابَةُ فَيَغْتَسِلُ ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ بِلَا عُذْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ ( فَإِنْ عَجَزَ ) عَنْ الْمَاءِ بِأَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ عَدِمَهُ أَوْ كَانَ جَرِيحًا فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ( تَيَمَّمَ فِي الْأَصَحِّ ) بِنِيَّةِ الْغُسْلِ بِأَنْ يَنْوِيَ التَّيَمُّمَ عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَةِ كَسَائِرِ الْأَغْسَالِ .
وَالثَّانِي : لَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ التَّنْظِيفُ وَقَطْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يُفِيدُهُ ، وَهَذَا احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ أَثْبَتَهُ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا .

وَمِنْ الْمَسْنُونِ غُسْلُ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ .
( وَمِنْ الْمَسْنُونِ غُسْلُ الْعِيدِ ) الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ ( وَالْكُسُوفِ ) لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ( وَالِاسْتِسْقَاءِ ) لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ كَالْجُمُعَةِ ، وَسَتَأْتِي أَوْقَاتُ هَذِهِ الْأَغْسَالِ فِي أَبْوَابِهَا .

وَلِغَاسِلِ الْمَيِّتِ
( وَ ) الْغُسْلُ ( لِغَاسِلِ الْمَيِّتِ ) سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْغَاسِلُ طَاهِرًا أَمْ لَا كَحَائِضٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْ غُسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إذَا غَسَّلْتُمُوهُ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ ، وَقَالَ : إنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ ، وَقِيسَ بِالْغُسْلِ الْوُضُوءُ ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ حَمَلَهُ : أَيْ أَرَادَ حَمْلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ لِيَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ ، وَقِيلَ يَتَوَضَّأُ مَنْ حَمَلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ .
وَيُسَنُّ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ .

وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا .
( وَ ) غُسْلُ ( الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا ) وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُمَا إنْزَالٌ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْإِغْمَاءِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَفِي مَعْنَاهُ الْجُنُونُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يُقَالُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَلَّ مَنْ جُنَّ إلَّا وَأَنْزَلَ فَإِنْ قُلْت لِمَ لَمْ يَجِبْ كَمَا يَجِبُ الْوُضُوءُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا عَلَامَةَ ثَمَّ عَلَى خُرُوجِ الرِّيحِ ، بِخِلَافِ الْمَنِيِّ فَإِنَّهُ مُشَاهَدٌ ، فَإِنْ تَحَقَّقَ الْإِنْزَالُ وَجَبَ الْغُسْلُ .

وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ ، وَأَغْسَالُ الْحَجِّ ، وَآكَدُهَا غُسْلُ غَاسِلِ الْمَيِّتِ
( وَ ) الْغُسْلُ لِ ( لْكَافِرِ ) بَعْدَ إسْلَامِهِ ( إذَا أَسْلَمَ ) تَعْظِيمًا لِلْإِسْلَامِ .
{ وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ بِهِ لَمَّا أَسْلَمَ ، وَكَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ } رَوَاهُمَا ابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً أَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُسْلِ ، هَذَا إنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ فِي كُفْرِهِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقِيلَ : يَسْقُطُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْغُسْلِ فِي الْكُفْرِ فِي الْأَصَحِّ ( وَأَغْسَالُ الْحَجِّ ) الْآتِي بَيَانُهَا فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَفَادَ التَّعْبِيرُ بِمَنْ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ أَغْسَالٌ أُخَرُ مَسْنُونَةٌ .
مِنْهَا الْغُسْلُ مِنْ الْحِجَامَةِ .
وَمِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْحَمَّامِ عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ ، وَلِلِاعْتِكَافِ ، وَلِكُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَقَيَّدَهُ الْأَذْرَعِيُّ بِمَنْ يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ .
وَلِدُخُولِ الْحَرَمِ ، وَلِحَلْقِ الْعَانَةِ ، وَلِبُلُوغِ الصَّبِيِّ بِالسِّنِّ ، وَلِدُخُولِ الْمَدِينَةِ ، وَعِنْدَ سَيَلَانِ الْوَادِي ، وَلِتَغَيُّرِ رَائِحَةِ الْبَدَنِ ، وَعِنْدَ كُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ مَجَامِعِ الْخَيْرِ .
قَالَ شَيْخُنَا كَالِاجْتِمَاعِ لِلْكُسُوفِ .
وَأَمَّا الْغُسْلُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلَا يُسَنُّ لَهَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَأَفْتَى بِهِ شَيْخِي لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ ( وَآكَدُهَا ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ ( غُسْلُ غَاسِلِ الْمَيِّتِ ) فِي الْجَدِيدِ ، لِأَنَّ الْغُسْلَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ .

ثُمَّ الْجُمُعَةِ ، وَعَكْسُهُ الْقَدِيمُ .
قُلْت : الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ وَرَجَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ ، وَأَحَادِيثُهُ صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَلَيْسَ لِلْجَدِيدِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( ثُمَّ ) غُسْلُ ( الْجُمُعَةِ ) يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ لِأَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَيْضًا ( وَعَكْسُهُ الْقَدِيمُ ) فَقَالَ آكَدُهَا غُسْلُ الْجُمُعَةِ ثُمَّ غُسْلُ غَاسِلِ الْمَيِّتِ .
( قُلْت : الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ ) مِنْ الْجَدِيدِ ، وَصَوَّبَ فِي الرَّوْضَةِ الْجَزْمَ بِهِ ( وَرَجَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ وَأَحَادِيثُهُ ) أَيْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ ( صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَلَيْسَ لِلْجَدِيدِ ) هُنَا ( حَدِيثٌ صَحِيحٌ ) يَدُلُّ لَهُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ السَّكَنِ حَدِيثَ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ } .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِصِحَّتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ طَرِيقًا ، لَكِنْ قَالَ الْبُخَارِيُّ : الْأَشْبَهُ وَقْفُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ أَخْبَارَ الْجُمُعَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ .
وَمِنْ فَوَائِدِ كَوْنِ ذَلِكَ آكَدَ التَّقْدِيمُ لَهُ فِيمَا إذَا أَوْصَى أَوْ وَكَّلَ بِمَاءٍ لِلْأُولَى كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي التَّيَمُّمِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الزَّرْكَشِيُّ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا أَرَادَ الْغُسْلَ لِلْمَسْنُونَاتِ نَوَى أَسْبَابَهَا إلَّا الْغُسْلَ مِنْ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ يَنْوِي الْجَنَابَةَ ، وَكَذَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ .
ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ ا هـ .
وَمَحَلُّ هَذَا إذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَلَّ مَنْ جُنَّ إلَّا وَأَنْزَلَ .
أَمَّا إذَا جُنَّ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَنْوِي السَّبَبَ كَغَيْرِهِ .

التَّبْكِيرُ إلَيْهَا

( وَ ) يُسَنُّ ( التَّبْكِيرُ إلَيْهَا ) لِغَيْرِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذِي عُذْرٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْبُكُورُ لِيَأْخُذُوا مَجَالِسَهُمْ وَيَنْتَظِرُوا الصَّلَاةَ ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ، وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ : أَيْ مِثْلَ غُسْلِهَا - ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمِنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ { إنَّ السَّاعَاتِ سِتٌّ } قَالَ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَا مَرَّ : وَفِي الرَّابِعَةِ بَطَّةً وَالْخَامِسَةِ دَجَاجَةً وَالسَّادِسَةِ بَيْضَةً .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ وَشَرْحِ مُسْلِمٍ الْمُرَادُ بِالسَّاعَاتِ السَّاعَاتُ الْفَلَكِيَّةُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً زَمَانِيَّةً صَيْفًا أَوْ شِتَاءً ، فَمَنْ جَاءَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْهَا : أَيْ مَثَلًا ، وَمَنْ جَاءَ آخِرَهَا يَشْتَرِكَانِ فِي تَحْصِيلِ الْبَدَنَةِ لَكِنَّ بَدَنَةَ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ مِنْ بَدَنَةِ الْآخَرِ ، وَبَدَنَةَ الْمُتَوَسِّطِ مُتَوَسِّطَةٌ .
وَقَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ السَّاعَاتِ الْفَلَكِيَّةِ بَلْ تَرْتِيبُ دَرَجَاتِ السَّابِقِينَ .
قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي : فَكُلٌّ دَاخِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُ كَالْمُقَرِّبِ بَدَنَةً وَبِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَهُ بِدَرَجَةٍ كَالْمُقَرِّبِ بَقَرَةً وَبِدَرَجَتَيْنِ كَالْمُقَرِّبِ كَبْشًا وَبِثَلَاثٍ دَجَاجَةً وَبِأَرْبَعٍ بَيْضَةً ، وَعَلَى هَذَا لَا حَصْرَ لِلسَّاعَاتِ وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ .
أَمَّا الْإِمَامُ فَيُسَنُّ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى وَقْتِ الْجُمُعَةِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخُلَفَائِهِ ، وَكَذَا الْمَعْذُورُ

الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الْبُكُورُ ، وَالسَّاعَاتُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ شَرْعًا وَبِهِ يَتَعَلَّقُ جَوَازُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ لَفْظُ الرَّوَاحِ مَعَ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْخُرُوجِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى أَنَّ الْأَزْهَرِيَّ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي السَّيْرِ أَيَّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، وَيَلْزَمُ الْبَعِيدَ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِتَوَقُّفِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : وَقْتُهَا مِنْ الشَّمْسِ ، وَقِيلَ مِنْ الضُّحَى ، وَقِيلَ : مِنْ الزَّوَالِ ، .

مَاشِيًا ، بِسَكِينَةٍ .

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ إلَيْهَا ( مَاشِيًا ) إنْ قَدَرَ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ لِخَبَرِ { مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَرُوِيَ غَسَّلَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَهُوَ أَرْجَحُ ، وَعَلَيْهِمَا فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : غَسَلَ ثِيَابَهُ وَرَأْسَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الرَّأْسَ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِيهِ الدُّهْنَ وَالْخِطْمِيَّ وَنَحْوَهُمَا ، وَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَوَّلًا ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ .
ثَانِيهَا غَسَّلَ زَوْجَتَهُ بِأَنْ جَامَعَهَا فَأَلْجَأَهَا إلَى الْغُسْلِ وَاغْتَسَلَ هُوَ ، وَلِذَا قَالَ : يُسَنُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِيَأْمَنَ أَنْ يَرَى فِي طَرِيقِهِ مَا يُشْغِلُ قَلْبَهُ .
ثَالِثُهَا غَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ بِأَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ ، وَرُوِيَ بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَهُوَ أَشْهَرُ ، فَعَلَى التَّخْفِيفِ مَعْنَاهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بَاكِرًا ، وَعَلَى التَّشْدِيدِ مَعْنَاهُ أَتَى بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ وَقْتِهَا .
وَابْتَكَرَ : أَيْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ ، وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا وَقَوْلُهُ : مَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ .
قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَالْمُخْتَارُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَرْكَبْ أَفَادَ نَفْيَ تَوَهُّمِ حَمْلِ الْمَشْيِ عَلَى الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا ، وَنَفْيَ احْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ الْمَشْيَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَرْكَبَ فِيهَا وَلَا فِي عِيدٍ وَلَا فِي جِنَازَةٍ وَلَا فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ ذَهَابًا كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إلَّا لِعُذْرٍ فَيَرْكَبُ .
أَمَّا فِي الرُّجُوعِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَكِبَ فِي رُجُوعِهِ مِنْ جِنَازَةِ

أَبِي الدَّحْدَاحِ } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحُوهُ ( بِسَكِينَةٍ ) إذَا لَمْ يَضِقْ بَعْضُ الْوَقْتِ كَمَا قَيَّدَاهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ } ( 1 ) وَهَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِالْجُمُعَةِ بَلْ كُلُّ صَلَاةٍ قَصَدَهَا الْمُصَلِّي كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الْجُمُعَةَ ] فَظَاهِرُهُ أَنَّ السَّعْيَ مَطْلُوبٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ امْضُوا ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُضِيِّ وَالْعَدْوِ ، فَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ الْمُرَادَ بِهِ ، وَالسَّعْيُ إلَيْهَا مَا لَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ وَإِلَى غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ مَكْرُوهٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
أَمَّا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ فَالْأَوْلَى الْإِسْرَاعُ ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : يَجِبُ إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْجُمُعَةَ إلَّا بِهِ ، وَحُكْمُ الرَّاكِبِ فِي ذَلِكَ كَالْمَاشِي فَيُسَيِّرُ الدَّابَّةَ بِسُكُونِ مَا لَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَذْهَبَ فِي طَرِيقٍ طَوِيلٍ إنْ أَمِنَ الْفَوَاتَ وَأَنْ يَرْجِعَ فِي آخِرِ قَصِيرٍ كَمَا فِي الْعِيدِ .

وَأَنْ يَشْتَغِلَ فِي طَرِيقِهِ
( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يَشْتَغِلَ فِي طَرِيقِهِ وَحُضُورِهِ ) قَبْلَ الْخُطْبَةِ ( بِقِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ شَأْنَ الْمُصَلِّي الِاشْتِغَالُ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَلَفْظُ الطَّرِيقِ مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ بَلْ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ الْمُصَنِّفِ وَالرَّافِعِيِّ ، وَالْمُخْتَارُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تِبْيَانِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الطَّرِيقِ جَائِزَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ إذَا لَمْ يَلْتَهِ صَاحِبُهَا فَإِنْ الْتَهَى عَنْهَا كُرِهَتْ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَعَلَّ الْأَحْوَطَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا ، فَقَدْ كَرِهَهَا بَعْضُ السَّلَفِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَوَاضِعِ الزَّحْمَةِ وَالْغَفْلَةِ كَالْأَسْوَاقِ .

( وَلَا يَتَخَطَّى ) رِقَابَ النَّاسِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى رَجُلًا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ ، فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت وَآنَيْت } أَيْ تَأَخَّرْت ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ ( 1 ) وَصَحَّحَاهُ : أَيْ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَقِيلَ يَحْرُمُ ، وَاخْتَارَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي الشَّهَادَاتِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ : مِنْهَا الْإِمَامُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْمِنْبَرَ أَوْ الْمِحْرَابَ إلَّا بِالتَّخَطِّي فَلَا يُكْرَهُ لَهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ ، وَمِنْهَا مَا إذَا وَجَدَ فِي الصُّفُوفِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةً لَمْ يَبْلُغْهَا إلَّا بِتَخَطِّي رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهَا لِتَقْصِيرِ الْقَوْمِ بِإِخْلَاءِ فُرْجَةٍ .
لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إذَا وَجَدَ غَيْرَهَا أَنْ لَا يَتَخَطَّى ، فَإِنْ زَادَ فِي التَّخَطِّي عَلَيْهِمَا وَلَوْ مِنْ صَفٍّ وَاحِدٍ وَرَجَا أَنْ يَتَقَدَّمُوا إلَى الْفُرْجَةِ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ كُرِهَ لِكَثْرَةِ الْأَذَى ، وَمِنْهَا الرَّجُلُ الْمُعَظَّمُ فِي النُّفُوسِ إذَا أَلِفَ مَوْضِعًا لَا يُكْرَهُ لَهُ لِقِصَّةِ عُثْمَانَ الْمَشْهُورَةِ وَتَخَطِّيهِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ قَالَهُ الْقَفَّالُ وَالْمُتَوَلِّي ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ مَحَلَّ هَذَا فِيمَنْ ظَهَرَ صَلَاحُهُ وَوِلَايَتُهُ فَإِنَّ النَّاسَ يُسَرُّونَ بِتَخَطِّيهِ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَظَّمًا فَلَا يَتَخَطَّى وَإِنْ أَلِفَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ ، وَمِنْهَا مَا إذَا سَبَقَ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ أَوْ غَيْرُ الْمُسْتَوْطِنِينَ إلَى الْجَامِعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْكَامِلِينَ إذَا حَضَرُوا التَّخَطِّي لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ إذَا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَهَا مَعَ الْبُعْدِ وَمِنْهَا إذَا جَلَسَ دَاخِلَ الْجَامِعِ عَلَى طَرِيقِ النَّاسِ ، وَمِنْهَا مَا إذَا أَذِنَ لَهُ الْقَوْمُ فِي التَّخَطِّي وَلَا يُكْرَهُ لَهُمْ الْإِذْنُ وَالرِّضَا بِإِدْخَالِهِمْ الضَّرَرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ

الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ : وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ أَحَدًا لِيَجْلِسَ مَكَانَهُ ، وَلَكِنْ يَقُولُ : تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا ، فَإِنْ قَامَ الْجَالِسُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَجْلَسَ غَيْرَهُ فَلَا كَرَاهَةَ فِي جُلُوسِ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا هُوَ فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مَكَان أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِلَّا كُرِهَ إنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } [ الْحَشْرَ ] فَالْمُرَادُ الْإِيثَارُ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَزُولُ بِالْإِذْنِ ، وَمِنْهَا مَا إذَا كَانَ الْجَالِسُونَ عَبِيدًا لَهُ أَوْ أَوْلَادًا ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ عَبْدَهُ لِيَأْخُذَ لَهُ مَوْضِعًا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا حَضَرَ السَّيِّدُ تَأَخَّرَ الْعَبْدُ قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَقْعُدُ لَهُ فِي مَكَان لِيَقُومَ عَنْهُ إذَا جَاءَ هُوَ ، وَلَوْ فُرِشَ لِأَحَدٍ ثَوْبٌ أَوْ نَحْوُهُ فَلِغَيْرِهِ تَنْحِيَتُهُ وَالصَّلَاةُ مَكَانَهُ لَا الْجُلُوسُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ ، وَلَا يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي ضَمَانِهِ .

وَأَنْ يَتَزَيَّنَ بِأَحْسَنِ ثِيَابِهِ ، وَطِيبٍ ، وَإِزَالَةِ الظُّفُرِ وَالرِّيحِ

( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يَتَزَيَّنَ ) حَاضِرُ الْجُمُعَةِ الذَّكَرُ ( بِأَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَطِيبٍ ) لِحَدِيثِ { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إذَا كَانَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ ثُمَّ صَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ ثُمَّ أَنْصَتَ إذَا خَرَجَ إمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، وَقَالَ : إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَأَفْضَلُ ثِيَابِهِ الْبِيضُ لِخَبَرِ { الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحُوهُ .
ثُمَّ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نَسْجِهِ كَالْبُرْدِ لَا مَا صُبِغَ مَنْسُوجًا إذْ يُكْرَهُ لُبْسُهُ كَمَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَلْبَسْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَبِسَ الْبُرْدَ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ لَهُ بُرْدٌ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ } ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا ، وَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَالْعِمَّةِ وَالِارْتِدَاءِ لِلِاتِّبَاعِ وَلِأَنَّهُ مَنْظُورٌ إلَيْهِ ، وَتَرْكُ لُبْسِ السَّوَادِ لَهُ أَوْلَى مِنْ لُبْسِهِ إلَّا إنْ خَشِيَ فِتْنَةً تَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا أَرَادَتْ حُضُورَ الْجُمُعَةِ فَيُكْرَهُ لَهَا التَّطَيُّبُ وَالزِّينَةُ وَفَاخِرُ الثِّيَابِ .
نَعَمْ يُسْتَحَبُّ لَهَا قَطْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ ، وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ فِيمَا ذُكِرَ الْخُنْثَى ( وَإِزَالَةِ الظُّفُرِ ) إنْ طَالَ وَالشَّعْرِ كَذَلِكَ فَيَنْتِفُ إبْطَهُ ، وَيَقُصُّ شَارِبَهُ ، وَيَحْلِقُ عَانَتَهُ ، وَيَقُومُ مَقَامَ الْحَلْقِ وَالْقَصِّ وَالنَّتْفِ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَنْتِفُ عَانَتَهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ عِنْدَ أَمْرِ الزَّوْجِ لَهَا بِهِ فِي الْأَصَحِّ

، فَإِنْ تَفَاحَشَ وَجَبَ قَطْعًا ، وَالْعَانَةُ الشَّعْرُ النَّابِتُ حَوَالَيْ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ ، وَقِيلَ مَا حَوْلَ الدُّبُرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْأَوْلَى حَلْقُ الْجَمِيعِ .
أَمَّا حَلْقُ الرَّأْسِ فَلَا يُنْدَبُ إلَّا فِي نُسُكٍ ، وَفِي الْمَوْلُودِ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ ، وَفِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُتَوَلِّي : وَيَتَزَيَّنُ الذَّكَرُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ إنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَكَذَا لَوْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ وَكَانَ بِرَأْسِهِ زُهُومَةٌ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْحَلْقِ ، وَيُسَنُّ دَفْنُ .
مَا يُزِيلُهُ مِنْ شَعْرٍ وَظُفُرٍ وَدَمٍ ، وَالتَّوْقِيتُ فِي إزَالَةِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ بِالطُّولِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : أُقِّتَ لَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ يُكْرَهُ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى ( وَ ) إزَالَةُ ( الرِّيحِ ) الْكَرِيهَةِ كَالصُّنَانِ لِأَنَّهُ يُتَأَذَّى بِهِ فَيُزَالُ بِالْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَنْ نَظَّفَ ثَوْبَهُ قَلَّ هَمُّهُ ، وَمَنْ طَابَ رِيحُهُ زَادَ عَقْلُهُ ، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ .
ثُمَّ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَخْتَصُّ بِالْجُمُعَةِ بَلْ تُسْتَحَبُّ لِكُلِّ حَاضِرٍ بِجَمْعٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهَا فِي الْجُمُعَةِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا .

قُلْت : وَأَنْ يَقْرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا

( قُلْت وَأَنْ يَقْرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنْ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ } ( 1 ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَنْ قَرَأَهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنْ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ { غُفِرَ لَهُ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَلْفُ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَعُوفِيَ مِنْ الدَّاءِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ } وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى قِرَاءَتِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْلَى مُسَارَعَةً وَأَمْنًا مِنْ الْإِهْمَالِ ، وَقِيلَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَقِيلَ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَفِي الشَّامِلِ الصَّغِيرِ عِنْدَ الرَّوَاحِ إلَى الْجَامِعِ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَأُحِبُّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَهْفِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْجُرْجَانِيِّ ، وَنَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُسَنُّ الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا .
قَالَ : وَقِرَاءَتُهَا نَهَارًا آكَدُ ، وَالْحِكْمَةُ فِي قِرَاءَتِهَا أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَالْجُمُعَةُ مُشَبَّهَةٌ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ وَفِي الْكَهْفِ ذِكْرُ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَفِي الدَّارِمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اقْرَءُوا سُورَةَ هُودٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } ( 2 ) ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ { مَنْ قَرَأَ الدُّخَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ } ( 3 ) وَفِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ ( 4 ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ حَتَّى تَجِبَ الشَّمْسُ } أَيْ تَغِيبَ ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ {

مَنْ قَرَأَهَا يَوْمَ جُمُعَةٍ غَرَبَتْ الشَّمْسُ بِذُنُوبِهِ } .

وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ ، وَالصَّلَاةَ

( وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ ) يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا .
أَمَّا يَوْمَهَا فَلِرَجَاءِ أَنْ يُصَادِفَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ : فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ( 5 ) ، وَسَقَطَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : قَائِمٌ يُصَلِّي ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ انْتِظَارُهَا ، وَبِالْقِيَامِ الْمُلَازَمَةُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَالصَّوَابُ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ } .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ مُسْتَغْرِقَةٌ لِمَا بَيْنَ الْجُلُوسِ وَآخِرِ الصَّلَاةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ فَإِنَّهَا لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِهِ إيَّاهَا { وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ } قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ وَأَمَّا خَبَرُ { يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ } فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ مُنْتَقِلَةٌ تَكُونُ يَوْمًا فِي وَقْتٍ وَيَوْمًا فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا مُسْتَغْرِقَةٌ لِلْوَقْتِ الْمَذْكُورِ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْهُ لِأَنَّهَا لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ كَمَا مَرَّ .
قَالَ ابْنُ يُونُسَ : الطَّرِيقُ فِي إدْرَاكِ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ إذَا قُلْنَا إنَّهَا تَنْتَقِلُ أَنْ يَقُومَ جَمَاعَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُحْيِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَاعَةً مِنْهُ وَيَدْعُو بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ ، وَأَمَّا لَيْلَتُهَا فَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى

عَنْهُ : بَلَغَنِي أَنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ ، وَلِلْقِيَاسِ عَلَى يَوْمِهَا ، وَيُسْتَحَبُّ كَثْرَةُ الصَّدَقَةِ وَفِعْلُ الْخَيْرِ فِي يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا .

( وَ ) يُكْثِرُ ( الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا لِخَبَرِ { إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ } ( 1 ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ .
وَخَبَرِ { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَقْرَبُكُمْ مِنِّي فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُكُمْ صَلَاةً عَلَيَّ فَأَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ } قَالَ الشَّافِعِيُّ : اللَّيْلَةُ الْغَرَّاءُ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَالْيَوْمُ الْأَزْهَرُ يَوْمُهَا ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ : وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ مَرَّةٍ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَمَانِينَ مَرَّةً غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ ثَمَانِينَ سَنَةً .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ قَالَ تَقُولُ : اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَنَبِيِّك وَرَسُولِك النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَتَعْقِدُ وَاحِدَةً } ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النُّعْمَانُ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَائِدَةٌ : قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ : رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ ابْنُ عَمِّك هَلْ خَصَصْته بِشَيْءٍ ؟ قَالَ نَعَمْ سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُحَاسِبَهُ .
قُلْت : بِمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَيَّ صَلَاةً لَمْ يُصَلَّ عَلَيَّ مِثْلُهَا ، فَقُلْت : وَمَا تِلْكَ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كُلَّمَا ذَكَرَك الذَّاكِرُونَ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ

كُلَّمَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ ا هـ .
وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَصِلَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَيَكْفِي الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَوْ تَحَوُّلٍ أَوْ نَحْوِهِ .

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْرُمُ عَلَى ذِي الْجُمُعَةِ التَّشَاغُلُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ فَإِنْ بَاعَ صَحَّ ، وَيُكْرَهُ قَبْلَ الْأَذَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيَحْرُمُ عَلَى ذِي الْجُمُعَةِ ) أَيْ مَنْ تَلْزَمُهُ وَمَنْ يَقْعُدُ مَعَهُ كَمَا سَيَأْتِي ( التَّشَاغُلُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ) مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِيهِ تَشَاغُلٌ عَنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ ( بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ ) حَالَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [ الْجُمُعَةَ ] فَوَرَدَ النَّصُّ فِي الْبَيْعِ وَقِيسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدًا أَمْ لَا ، وَلَوْ تَبَايَعَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا فَرْضُهُ الْجُمُعَةُ دُونَ الْآخَرِ أَثِمَا جَمِيعًا وَإِنْ لَمْ تُفْهِمُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ لِارْتِكَابِ الْأَوَّلِ النَّهْيَ وَإِعَانَةِ الثَّانِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْإِثْمَ خَاصٌّ بِالْأَوَّلِ حُمِلَ عَلَى إثْمِ التَّفْوِيتِ .
أَمَّا إثْمُ الْمُعَاوَنَةِ فَعَلَى الثَّانِي .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ مَا لَوْ احْتَاجَ إلَى مَاءِ طَهَارَتِهِ أَوْ مَا يُوَارِي عَوْرَتَهُ أَوْ مَا يَقُوتُهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّشَاغُلِ إلَى جَوَازِهِ وَهُوَ سَائِرٌ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ ، لَكِنْ يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَعْقُودِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ يُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ إلَى إنْهَاءِ الْأَذَانِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا مَرَّ ( فَإِنْ بَاعَ ) مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ ( صَحَّ ) بَيْعُهُ وَكَذَا سَائِرُ عُقُودِهِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ الْعَقْدِ فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ عَقَدَ لَشَمِلَ مَا قَدَّرْته ( وَيُكْرَهُ ) لِمَنْ ذَكَرَ التَّشَاغُلُ بِمَا ذُكِرَ ( قَبْلَ الْأَذَانِ ) الْمَذْكُورِ ( بَعْدَ الزَّوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ )

لِدُخُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، فَالتَّشَاغُلُ عَنْهُ كَالْإِعْرَاضِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِي بَلَدٍ يُؤَخِّرُونَ فِيهَا كَثِيرًا كَمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى .
أَمَّا قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا كَرَاهَةَ ، وَهَذَا مَعَ نَفْيِ التَّحْرِيمِ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْأَذَانِ الْمَذْكُورِ مَحْمُولٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ وَإِلَّا فَيَحْرُمُ ذَلِكَ .

تَتِمَّةٌ : اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى كَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَبَثِ مَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مُنْتَظِرُهَا لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمَدُ إلَى الصَّلَاةِ } فَإِنْ قِيلَ رَوَى الْبُخَارِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَشَبَّكَ فِي غَيْرِهِ } .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْمُصَلِّي وَقَاصِدِ الصَّلَاةِ ، وَهَذَا كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا فِي اعْتِقَادِهِ .

وَيُسَنُّ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ قَائِلًا : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك .
قَالَ الْمُزَنِيّ : وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْك ، وَأَقْرَبِ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيْك ، وَأَنْجَحِ مَنْ دَعَاكَ وَتَضَرَّعَ وَأَرْبَحِ مَنْ طَلَبَ إلَيْك ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ { إنَّ لَكُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ حَجَّةً وَعُمْرَةً } فَالْحَجَّةُ التَّجْهِيزُ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْعُمْرَةُ انْتِظَارُ الْعَصْرِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ .

فَصْلُ مَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ فَيُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ رَكْعَةً .

( فَصْلٌ ) فِي بَيَانِ مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَمَا لَا تُدْرَكُ بِهِ ، وَجَوَازُ الِاسْتِخْلَافِ وَعَدَمِهِ ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : ( مَنْ أَدْرَكَ ) مَعَ إمَامِ الْجُمُعَةِ ( رُكُوعَ ) الرَّكْعَةِ ( الثَّانِيَةِ ) الْمَحْسُوبُ لِلْإِمَامِ لَا كَالْمُحْدِثِ نَاسِيًا كَمَا مَرَّ وَأَتَمَّ الرَّكْعَةَ مَعَهُ ( أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ ) أَيْ لَمْ تَفُتْهُ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } ( 1 ) وَقَالَ { مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى } رَوَاهُمَا الْحَاكِمُ وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَوْلُهُ : " فَلْيُصَلِّ " هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ( فَيُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ رَكْعَةً ) إنْ اسْتَمَرَّ مَعَهُ إلَى أَنْ سَلَّمَ وَلَوْ فَارَقَهُ فِي التَّشَهُّدِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالسَّلَامِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ ، فَقَدْ قَالَ فِي الْأُمِّ : وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ بَنَى عَلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَأَجْزَأَتْهُ الْجُمُعَةُ ، وَإِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ أَنْ يُدْرِكَ الرَّجُلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ فَيَرْكَعَ مَعَهُ وَيَسْجُدَ ا هـ .
وَأَيْضًا مَا يُدْرِكُهُ الْمَسْبُوقُ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ وَالتَّشَهُّدُ لَيْسَ فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ : وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ إلَى أَنْ سَلَّمَ لِأَجْلِ قَوْلِ الْمَتْنِ فَيُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، وَقَيَّدَ ابْنُ الْمُقْرِي إدْرَاكَ الْجُمُعَةِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ بِقَوْلِهِ : إنْ صَحَّتْ جُمُعَةُ الْإِمَامِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ : لَوْ خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْهَا قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا جُمُعَةَ لِلْمَأْمُومِ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَيْدٍ ، فَقَدْ صَرَّحَ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ ، بَلْ إذَا

أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً وَأَتَى بِأُخْرَى أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا الْإِمَامُ كَمَا أَنَّ حَدَثَهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا لِمَنْ خَلْفَهُ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُحَرَّرِ : مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْمُحَرَّرِ تَشْمَلُ مَا لَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَفَارَقَهُ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ تَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا تَشْمَلُهَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ، وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تُوهِمُ أَنَّ الرُّكُوعَ وَحْدَهُ كَافٍ ، فَيَجُوزُ لِمَنْ أَدْرَكَهُ إخْرَاجُ نَفْسِهِ وَإِتْمَامُهَا مُنْفَرِدًا وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَلِذَلِكَ قُلْت : وَأَتَمَّ الرَّكْعَةَ مَعَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا ، وَيُسَنُّ لِمَنْ صَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ .

وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَهُ فَاتَتْهُ فَيُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِهِ ظُهْرًا أَرْبَعًا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْوِي فِي اقْتِدَائِهِ الْجُمُعَةَ .
( وَإِنْ أَدْرَكَهُ ) أَيْ الْإِمَامَ ( بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ رُكُوعِ إمَامِهِ ( فَاتَتْهُ ) أَيْ الْجُمُعَةُ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ( فَيُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِهِ ) أَيْ الْإِمَامِ ( ظُهْرًا أَرْبَعًا ) مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ نِيَّةٍ لِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ ) أَيْ الْمُدْرِكَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ ( يَنْوِي فِي اقْتِدَائِهِ ) بِالْإِمَامِ ( الْجُمُعَةَ ) وُجُوبًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعِبَارَةُ الْأَنْوَارِ يَنْوِي الْجُمُعَةَ جَوَازًا ، وَقَالَ ابْنُ الْمُقْرِي : نَدْبًا وَالْجَوَازُ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ ، وَالنَّدْبُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ هَكَذَا حَمَلَهُ شَيْخِي ، وَهُوَ حَسَنٌ ، وَالثَّانِي يَنْوِي الظُّهْرَ لِأَنَّهَا الَّتِي يَفْعَلُهَا ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ عَلِمَ حَالَ الْإِمَامِ ، وَإِلَّا بِأَنْ رَآهُ قَائِمًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَمُعْتَدِلٌ هُوَ أَوْ فِي الْقِيَامِ فَيَنْوِي الْجُمُعَةَ جَزْمًا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِخْلَافِ وَشُرُوطُهُ .

وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْأَظْهَرِ .

فَقَالَ : ( وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا ) مِنْ الصَّلَوَاتِ ( بِحَدَثٍ ) عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ( أَوْ غَيْرِهِ ) كَرُعَافٍ وَتَعَاطِي فِعْلٍ مُبْطِلٍ أَوْ بِلَا سَبَبٍ أَيْضًا ( جَازَ ) لَهُ وَلِلْمَأْمُومِينَ قَبْلَ إتْيَانِهِمْ بِرُكْنٍ ( الِاسْتِخْلَافُ فِي الْأَظْهَرِ ) الْجَدِيدِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ بِإِمَامَيْنِ وَهِيَ جَائِزَةٌ ، فَقَدْ صَحَّ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِهِ فَاقْتَدَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ } ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَدْ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ طُعِنَ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاسْتِخْلَافُهُمْ أَوْلَى مِنْ اسْتِخْلَافِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمْ ، فَمَنْ عَيَّنُوهُ لِلِاسْتِخْلَافِ أَوْلَى مِمَّنْ عَيَّنَهُ ، وَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ بِنَفْسِهِ جَازَ ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فِي الْجُمُعَةِ وَهُمْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا فِيهَا وَاحِدًا مِنْهُمْ لِتُدْرَكَ بِهَا الْجُمُعَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِخْلَافُ لِإِدْرَاكِهِمْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً كَالْمَسْبُوقِ فَيُتِمُّونَهَا فُرَادَى جُمُعَةً ، وَلَا يُشْكِلُ بِالِانْفِضَاضِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ بِهِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ لَا لِفَقْدِ الْجَمَاعَةِ ، وَإِذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ وَاحِدًا فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَثِلَ ، وَقِيلَ يَجِبُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّوَاكُلِ .
أَمَّا إذَا فَعَلُوا عَلَى الِانْفِرَادِ رُكْنًا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَهُ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْقَدِيمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَيَمْتَنِعُ فِيهَا ذَلِكَ كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِهِمَا مَعًا ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَسْتَخْلِفُ الْإِمَامُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ لَا امْرَأَةً وَخُنْثَى مُشْكِلًا لِلرِّجَالِ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ

بِمَا سَبَقَ لَهُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ أَتَمَّ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ فُرَادَى إنْ كَانَ الْحَدَثُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ أَوْ فِيهَا لَكِنْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْأُولَى مِنْهَا فَيُتِمُّونَهَا ظُهْرًا ، لِأَنَّ شَرْطَهَا حُصُولُ رَكْعَةٍ فِي جَمَاعَةٍ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ .

وَلَا يَسْتَخْلِفُ لِلْجُمُعَةِ إلَّا مُقْتَدِيًا بِهِ قَبْلَ حَدَثِهِ .
( وَلَا يَسْتَخْلِفُ ) الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ ( لِلْجُمُعَةِ إلَّا مُقْتَدِيًا بِهِ قَبْلَ حَدَثِهِ ) لِأَنَّ فِي اسْتِخْلَافِ غَيْرِ الْمُقْتَدِي ابْتِدَاءَ جُمُعَةٍ بَعْدَ انْعِقَادِ جُمُعَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ ، وَلَا يُرَدُّ الْمَسْبُوقُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَا مُنْشِئٌ .
أَمَّا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِ الْمُقْتَدِي بِهِ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ لِمُوَافَقَتِهِ نَظْمَ صَلَاتِهِمْ لَا فِي الثَّانِيَةِ وَالْأَخِيرَةِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَامِ وَيَحْتَاجُونَ إلَى الْقُعُودِ .
نَعَمْ إنْ جَدَّدُوا نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ جَازَ كَمَا فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُمْ كَأَنْ حَضَرَ جَمَاعَةٌ فِي ثَانِيَةِ مُنْفَرِدٍ أَوْ أَخِيرَتِهِ فَاقْتَدَوْا بِهِ فِيهَا ، ثُمَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فَاسْتَخْلَفَ مُوَافِقًا لَهُمْ جَازَ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَإِطْلَاقُهُمْ الْمَنْعَ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَيَجُوزُ اسْتِخْلَافُ اثْنَيْنِ وَأَكْثَرَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ يُصَلِّي كُلٌّ بِطَائِفَةٍ ، وَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ ، وَلَوْ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْخَلِيفَةِ جَازَ اسْتِخْلَافُ ثَالِثٍ وَهَكَذَا ، وَعَلَى الْجَمِيعِ مُرَاعَاةُ تَرْتِيبِ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَصْلِيِّ .

وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ حَضَرَ الْخُطْبَةَ وَلَا الرَّكْعَةَ الْأُولَى فِي الْأَصَحِّ فِيهِمَا ، ثُمَّ إنْ كَانَ أَدْرَكَ الْأُولَى تَمَّتْ جُمُعَتُهُمْ ، وَإِلَّا فَتَتِمُّ لَهُمْ دُونَهُ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَا يُشْتَرَطُ ) فِي جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْجُمُعَةِ ( كَوْنُهُ ) أَيْ الْمُقْتَدِي ( حَضَرَ الْخُطْبَةَ وَلَا ) أَدْرَكَ ( الرَّكْعَةَ الْأُولَى فِي الْأَصَحِّ فِيهِمَا ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ صَارَ فِي حُكْمِ مَنْ حَضَرَهَا وَسَمِعَهَا ، وَلِهَذَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُ كَمَا تَصِحُّ جُمُعَةُ الْحَاضِرِينَ السَّامِعِينَ وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَوْ اسْتَخْلَفَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ الَّذِي كَانَ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ نَابَ مَنَابَهُ بِاسْتِخْلَافِهِ إيَّاهُ ، وَلَوْ اسْتَمَرَّ الْإِمَامُ لَصَحَّتْ الْقُدْوَةُ فَكَذَا مَنْ نَابَ مَنَابَهُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ الشَّرَائِطُ ، وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمُعَةِ ، وَيَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ حَضَرَ الْخُطْبَةَ بِتَمَامِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَالْبَعْضُ الْفَائِتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَلَى الْمَذْهَبِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ غَيْرُ السَّامِعِ مِنْ أَهْلِهَا إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالسَّمَاعُ هُنَا كَالِاقْتِدَاءِ ، نَعَمْ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ امْتَنَعَ الِاسْتِخْلَافُ فِيهَا لِخُرُوجِ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ الْخُطْبَةَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَنَوَى غَيْرَ الْجُمُعَةِ جَازَ .
تَنْبِيهٌ : الْمَذْكُورُ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ نَقَلَ الْخِلَافَ فِي الثَّانِيَةِ قَوْلَيْنِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : " حَضَرَ الْخُطْبَةَ " سَمَاعُهَا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ ( ثُمَّ ) عَلَى الْأَوَّلِ ( إنْ كَانَ ) الْخَلِيفَةُ فِي الْجُمُعَةِ ( أَدْرَكَ ) الرَّكْعَةَ ( الْأُولَى ) مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ ( تَمَّتْ جُمُعَتُهُمْ ) أَيْ جُمُعَةُ الْخَلِيفَةِ

وَالْمَأْمُومِينَ ، سَوَاءٌ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي أُولَى الْجُمُعَةِ أَمْ ثَانِيَتِهَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ صَارَ بِاسْتِخْلَافِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْأُولَى وَإِنْ اسْتَخْلَفَ فِيهَا كَأَنْ اسْتَخْلَفَهُ فِي اعْتِدَالِهَا ( فَتَتِمُّ لَهُمْ ) الْجُمُعَةُ ( دُونَهُ ) أَيْ غَيْرَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) فِيهِمَا ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهَا مَعَهُ فَيُتِمُّهَا ظُهْرًا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَإِلَّا فَلَا تَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْفَتَى تِلْمِيذُ الْمُقْرِي وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ .
رُكُوعَ الثَّانِيَةِ وَسُجُودَهَا ، لَكِنْ قَالَ الْبَغَوِيّ : يُتِمُّهَا جُمُعَةً لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَتِمُّ لَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فِي جَمَاعَةٍ فَأَشْبَهَ الْمَسْبُوقَ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَأْمُومَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ ، وَالْخَلِيفَةُ إمَامٌ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْمَأْمُومِينَ ، وَالثَّالِثُ : يُتِمُّهَا الْقَوْمُ ظُهْرًا أَيْضًا لَا جُمُعَةً تَبَعًا لِلْإِمَامِ .

وَيُرَاعِي الْمَسْبُوقُ نَظْمَ الْمُسْتَخْلِفِ فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً وَتَشَهَّدَ وَأَشَارَ إلَيْهِمْ لِيُفَارِقُوهُ أَوْ يَنْتَظِرُوا ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ اسْتِئْنَافُ نِيَّةِ الْقُدْوَةِ فِي الْأَصَحِّ .

( وَيُرَاعِي ) الْخَلِيفَةُ ( الْمَسْبُوقُ ) وُجُوبًا ( نَظْمَ ) صَلَاةِ ( الْمُسْتَخْلِفِ ) لِيَجْرِيَ عَلَى نَظْمِهَا فَيَفْعَلَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ الْتَزَمَ تَرْتِيبَ صَلَاتِهِ ( فَإِذَا صَلَّى ) بِهِمْ ( رَكْعَةً ) قَنَتَ لَهُمْ فِيهَا إنْ كَانَتْ ثَانِيَةَ الصُّبْحِ ، وَلَوْ كَانَ هُوَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَيَتْرُكُ الْقُنُوتَ فِي الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ هُوَ يُصَلِّي الصُّبْحَ ، وَ ( تَشَهَّدَ ) جَالِسًا وَسَجَدَ بِهِمْ لِسَهْوِ الْإِمَامِ الْحَاصِلِ قَبْلَ اقْتِدَائِهِ بِهِ وَبَعْدَهُ ( وَأَشَارَ إلَيْهِمْ ) بَعْدَ تَشَهُّدِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ ( لِيُفَارِقُوهُ ) أَيْ لِيَتَخَيَّرَ الْمُقْتَدُونَ بَعْدَ إشَارَتِهِ ، وَغَايَةُ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَهَا أَنْ يُفَارِقُوهُ بِالنِّيَّةِ وَيُسَلِّمُوا ( أَوْ يَنْتَظِرُوا ) سَلَامَهُ بِهِمْ وَهُوَ أَفْضَلُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ : أَيْ إنْ لَمْ يَخْشَوْا خُرُوجَ الْوَقْتِ بِانْتِظَارِهِ ، فَإِنْ خَشَوْهُ وَجَبَتْ الْمُفَارَقَةُ ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّيْمَرِيُّ ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى رَكْعَةٍ أُخْرَى حَيْثُ أَتَمَّهَا جُمُعَةً وَإِلَى ثَلَاثٍ حَيْثُ أَتَمَّهَا ظُهْرًا ، وَقَدْ انْدَفَعَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَا يُفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ مِنْ الْمُصَلِّي لَا سِيَّمَا مَعَ الِاسْتِدْبَارِ وَكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَخَلْفًا وَلَا يَجِبُ التَّشَهُّدُ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى بَقَائِهِ مَعَ إمَامِهِ وَلَا الْقُعُودُ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمَسْبُوقُ نَظْمَ صَلَاةِ إمَامِهِ ، فَفِي جَوَازِ اسْتِخْلَافِهِ قَوْلَانِ صُحِّحَ مِنْهُمَا فِي التَّحْقِيقِ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ فَيُرَاقِبُ الْقَوْمَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ ، فَإِنْ هَمُّوا بِالْقِيَامِ قَامَ وَإِلَّا قَعَدَ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ

عَلَى جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الرَّكَعَاتِ ، وَيَكُونُ مَحَلُّ الْمَنْعِ إذَا اعْتَقَدَ هُوَ شَيْئًا آخَرَ ا هـ .
وَهَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ تَقْلِيدًا فِي الرَّكَعَاتِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ اسْتِخْلَافُهُ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا ابْنُ الْمُقْرِي ، وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ : إنَّهُ أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا ( وَلَا يَلْزَمُهُمْ ) أَيْ الْمُقْتَدِينَ ( اسْتِئْنَافُ نِيَّةِ الْقُدْوَةِ ) بِالْخَلِيفَةِ ( فِي الْأَصَحِّ ) فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا لِتَنْزِيلِ الْخَلِيفَةِ مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ فِي دَوَامِ الْجَمَاعَةِ ، وَلِهَذَا لَا يُرَاعِي نَظْمَ صَلَاةِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ اسْتَمَرَّ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْتَجْ الْقَوْمُ إلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاسْتِخْلَافِ ، وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ صَارُوا مُنْفَرِدِينَ وَلَوْ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ إلَّا إنْ اقْتَدَوْا بِهِ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَهُ لَغْوٌ ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَسْبُوقُونَ أَوْ مَنْ صَلَاتُهُ أَطْوَلُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ لَمْ يَجُزْ إلَّا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ إذْ لَا مَانِعَ فِي غَيْرِهَا بِخِلَافِهَا لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا تَنْشَأُ جُمُعَةٌ بَعْدَ أُخْرَى ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْإِنْشَاءِ مَا يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْمَجَازِيَّ إذْ لَيْسَ فِيهَا إذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ إنْشَاءُ جُمُعَةٍ ، وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يُشْبِهُهُ صُورَةً ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَازِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّحْقِيقِ هُنَاكَ وَكَذَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَقَالَ فِيهِ : اعْتَمِدْهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا فِي الِانْتِظَارِ مِنْ تَصْحِيحِ الْمَنْعِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ صَحَّحَا هُنَا الْمَنْعَ وَعَلَّلَاهُ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ حَصَلَتْ وَهُمْ إذَا أَتَمُّوهَا فُرَادَى نَالُوا فَضْلَهَا إذْ لِلِاقْتِدَاءِ فَوَائِدُ أُخَرُ كَتَحَمُّلِ السَّهْوِ وَتَحَمُّلِ السُّورَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَنَيْلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ

الْكَامِلِ ، وَلَوْ بَادَرَ أَرْبَعُونَ سَمِعُوا أَرْكَانَ الْخُطْبَةِ وَأَحْرَمُوا بِالْجُمُعَةِ انْعَقَدَتْ بِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ .

وَمَنْ زُوحِمَ عَنْ السُّجُودِ فَأَمْكَنَهُ عَلَى إنْسَانٍ فَعَلَ ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ ، وَلَا يُومِئُ بِهِ ثَمَّ

( وَمَنْ زُوحِمَ ) أَيْ مَنَعَهُ الزِّحَامُ ( عَنْ السُّجُودِ ) عَلَى أَرْضٍ أَوْ نَحْوِهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ ( فَأَمْكَنَهُ ) السُّجُودُ مُنَكَّسًا ( عَلَى ) شَيْءٍ مِنْ ( إنْسَانٍ ) أَوْ مَتَاعٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ( فَعَلَ ) ذَلِكَ وُجُوبًا ، لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " إذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ أَحَدُكُمْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا يَحْتَاجُ هُنَا إلَى إذْنِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا يَسِيرٌ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَطْلَبِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ سُجُودٍ يُجْزِئُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُتَخَلِّفًا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَقَدْ مَرَّ حُكْمُهُ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عَبَّرَ فِي التَّنْبِيهِ بِظَهْرِ إنْسَانٍ وَاعْتَرَضَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّحْرِيرِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ حَذَفَ لَفْظَ إنْسَانٍ لَعَمَّ وَقَدْ وَقَعَ هُوَ فِيهِ هُنَا ، فَلَوْ قَالَ عَلَى شَيْءٍ كَمَا قَدَّرْته لَعَمَّ ، وَالْمُزَاحَمَةُ تَجْرِي فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ ، وَذُكِرَتْ هُنَا ؛ لِأَنَّ الزِّحَامَ فِيهَا أَغْلَبُ ، وَلِأَنَّ تَفَارِيعَهَا مُتَشَعِّبَةٌ مُشْكِلَةٌ لِكَوْنِهَا لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةٍ مُنْتَظِمَةٍ أَوْ مُلَفَّقَةٍ عَلَى خِلَافٍ يَأْتِي ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ : لَيْسَ فِي الزَّمَانِ مَنْ يُحِيطُ بِأَطْرَافِهَا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ كَمَا ذُكِرَ ( فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ ) تَمَكُّنَهُ مِنْهُ ( وَلَا يُومِئُ بِهِ ) لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : يُومِئُ أَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ كَالْمَرِيضِ لِمَكَانِ الْعُذْرِ .
وَالثَّالِثُ : يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ وُجُوبَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ قَدْ عَارَضَهُ وُجُوبُ الْمُتَابَعَةِ ، وَمُقْتَضَى الْمَتْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إخْرَاجُ نَفْسِهِ مِنْ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْجُمُعَةِ قَصْدًا مَعَ تَوَقُّعِ إدْرَاكِهَا لَا وِجْهَةَ لَهُ ، كَذَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ ، وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ قَالَ

فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ ، وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْخُرُوجَ وَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا فَهَلْ تَصِحُّ ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ يُحْرِمُ بِالظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ .
أَمَّا الزِّحَامُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ بَلْ يَسْجُدُ مَتَى تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ .
نَعَمْ إنْ كَانَ مَسْبُوقًا لَحِقَهُ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَسَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي ( ثُمَّ ) عَلَى الصَّحِيحِ .

إنْ تَمَكَّنَ قَبْلَ رُكُوعِ إمَامِهِ سَجَدَ ، فَإِنْ رَفَعَ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ قَرَأَ ، أَوْ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ فَالْأَصَحُّ يَرْكَعُ ، وَهُوَ كَمَسْبُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ إمَامُهُ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُسَلِّمْ وَافَقَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ سَلَّمَ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فَفِي قَوْلٍ يُرَاعِي نَظْمَ نَفْسِهِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَرْكَعُ مَعَهُ ، وَيُحْسَبُ رُكُوعُهُ الْأَوَّلُ فِي الْأَصَحِّ فَرَكْعَتُهُ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رُكُوعِ الْأُولَى وَسُجُودِ الثَّانِيَةِ ، وَيُدْرِكُ بِهَا الْجُمُعَةَ فِي الْأَصَحِّ فَلَوْ سَجَدَ عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ عَالِمًا بِأَنَّ وَاجِبَهُ الْمُتَابَعَةُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ نَسِيَ أَوْ جَهِلَ لَمْ يُحْسَبْ سُجُودُهُ الْأَوَّلُ ، فَإِذَا سَجَدَ ثَانِيًا حُسِبَ ، وَالْأَصَحُّ إدْرَاكُ الْجُمُعَةِ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ إذَا كَمُلَتْ السَّجْدَتَانِ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ .

( إنْ تَمَكَّنَ ) مِنْ السُّجُودِ ( قَبْلَ رُكُوعِ إمَامِهِ ) فِي الثَّانِيَةِ ( سَجَدَ ) وُجُوبًا تَدَارُكًا لَهُ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ فَإِنْ رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ ( وَالْإِمَامُ ) بَعْدُ ( قَائِمٌ قَرَأَ ) مَا أَمْكَنَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنًا يَسَعُ الْفَاتِحَةَ فَهُوَ كَمَسْبُوقٍ عَلَى الْأَصَحِّ فَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِهِ الْفَاتِحَةَ رَكَعَ مَعَهُ ، وَلَا يَضُرُّ التَّخَلُّفُ الْمَاضِي لِأَنَّهُ تَخَلُّفٌ بِعُذْرٍ ( أَوْ ) رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ ( وَالْإِمَامُ ) بَعْدُ ( رَاكِعٌ ، فَالْأَصَحُّ يَرْكَعُ ) مَعَهُ ( وَهُوَ كَمَسْبُوقٍ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ ، وَالثَّانِي : لَا يَرْكَعُ مَعَهُ لِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِهِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ بَلْ تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ وَيَسْعَى وَرَاءَ الْإِمَامِ وَهُوَ مُتَخَلِّفٌ بِعُذْرٍ ( فَإِنْ كَانَ إمَامُهُ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ ) فِي الثَّانِيَةِ ( وَلَمْ يُسَلِّمْ وَافَقَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ ) كَالْمَسْبُوقِ ( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً بَعْدَهُ ) لِفَوَاتِهَا كَالْمَسْبُوقِ ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْإِمَامُ ، وَقِيلَ يَشْتَغِلُ بِتَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ ( وَإِنْ كَانَ ) الْإِمَامُ ( سَلَّمَ ) مِنْهَا ( فَاتَتْ الْجُمُعَةُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَيُتِمُّهَا ظُهْرًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ فِي الْحَالِ ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً ( وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ ) فِي ثَانِيَةِ الْجُمُعَةِ ( فَفِي قَوْلٍ يُرَاعِي ) الْمَزْحُومُ ( نَظْمَ ) صَلَاةِ ( نَفْسِهِ ) فَيَسْجُدُ الْآنَ ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَرْكَعُ مَعَهُ ) لِظَاهِرِ خَبَرِ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا } وَلِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ آكَدُ ، وَلِهَذَا يَتْبَعُهُ الْمَسْبُوقُ وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ وَالْقِيَامَ ( وَيُحْسَبُ رُكُوعُهُ الْأَوَّلُ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ وَقْتَ الِاعْتِدَادِ بِالرُّكُوعِ .
وَالثَّانِي لَا يُحْسَبُ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ لِلْمُتَابَعَةِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ( فَرَكْعَتُهُ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رُكُوعِ )

الرَّكْعَةِ ( الْأُولَى وَ ) مِنْ ( سُجُودِ الثَّانِيَةِ ) الَّذِي أَتَى بِهِ فِيهَا ( وَيُدْرِكُ بِهَا الْجُمُعَةَ فِي الْأَصَحِّ ) لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى } وَهَذَا قَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً ، وَالتَّلْفِيقُ لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي الْمَعْذُورِ ، وَالثَّانِي : لَا لِنَقْصِهَا بِالتَّلْفِيقِ ، وَصِفَةُ الْكَمَالِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجُمُعَةِ ( فَلَوْ سَجَدَ عَلَى تَرْتِيبِ ) نَظْمِ صَلَاةِ ( نَفْسِهِ ) عَامِدًا ( عَالِمًا بِأَنَّ وَاجِبَهُ ) أَيْ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ( الْمُتَابَعَةُ ) لِإِمَامِهِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ ( بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ) لِتَلَاعُبِهِ حَيْثُ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ ، فَيَلْزَمُهُ التَّحَرُّمُ بِالْجُمُعَةِ إنْ أَمْكَنَهُ إدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : بَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسَلِّمْ الْإِمَامُ ، إذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ مَثَلًا فَيَعُودُ إلَيْهَا ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَكَلَامُ الرَّوْضَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ اتِّفَاقًا ، وَهَذَا عَلَى خِلَافٍ قَدْ تَقَدَّمَ وَأَنَّ الْأَصَحَّ اللُّزُومُ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَقَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ : إنَّ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ مُسْتَقِيمَةٌ مَمْنُوعٌ ( وَإِنْ نَسِيَ ) ذَلِكَ الْمَعْلُومَ عِنْدَهُ مِنْ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ ( أَوْ جَهِلَ ) ذَلِكَ ( لَمْ يُحْسَبْ سُجُودُهُ الْأَوَّلُ ) وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ عَلَى تَرْتِيبِ نَظْمِ صَلَاةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ صَلَاتُهُ لِعُذْرِهِ ( فَإِذَا سَجَدَ ثَانِيًا ) بَعْدَ أَنْ قَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَهُوَ عَلَى نِسْيَانِهِ أَوْ جَهْلِهِ ( حُسِبَ ) لَهُ وَتَمَّتْ بِهِ رَكْعَتُهُ الْأُولَى لِدُخُولِ وَقْتِهِ وَأَلْغَى مَا قَبْلَهُ ، فَإِنْ زَالَ نِسْيَانُهُ أَوْ جَهْلُهُ قَبْلَ السُّجُودِ الثَّانِي وَجَبَ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا (

وَالْأَصَحُّ إدْرَاكُ الْجُمُعَةِ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ ) الْمُلَفَّقَةِ مِنْ رُكُوعِ الْأُولَى وَسُجُودِ الثَّانِيَةِ ( إذَا كَمُلَتْ السَّجْدَتَانِ ) فِيهَا ( قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ ) وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ نُقْصَانَانِ : نُقْصَانٌ بِالتَّلْفِيقِ ، وَنُقْصَانٌ بِالْقُدْوَةِ الْحُكْمِيَّةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي مَوْضِعِ رَكْعَتِهِ مُتَابَعَةً حِسِّيَّةً بَلْ سَجَدَ مُتَخَلِّفًا عَنْهُ ، لَكِنَّا أَلْحَقْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِالِاقْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَمُلَتَا بَعْدَ سَلَامِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الْجُمُعَةَ بِهَا ، وَالثَّانِي لَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ ، وَبَحَثَ الرَّافِعِيُّ فِيمَا ذُكِرَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْسُبْ سُجُودَهُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ لِكَوْنِ فَرْضِهِ الْمُتَابَعَةَ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْسُبَ وَالْإِمَامُ فِي رُكْنٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ السُّبْكِيُّ وَالْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نَحْسُبْ لَهُ سُجُودَهُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ لِإِمْكَانِ مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُدْرِكُ الرَّكْعَةَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ ، فَلَوْ لَمْ نَحْسُبْهُ لَهُ لَفَاتَتْ الرَّكْعَةُ وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي عَدَمِ الْمُتَابَعَةِ ا هـ .
فَمَا جَرَى عَلَيْهِ فِي الْمَتْنِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ ، وَلَوْ فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ الْأَوَّلِ فَوَجَدَ الْإِمَامَ سَاجِدًا فَتَابَعَهُ فِي سُجُودِهِ حُسِبَ لَهُ ، وَتَكُونُ رَكْعَتُهُ مُلَفَّقَةً .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51